تفسير سورة عبس

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة عبس من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴾ الخ، إنما أتى بضمائر الغيبة، تلطفاً به صلى الله عليه وسلم واجلالاً له، لما في المشافهة بتاء الخطاب، ما لايخفى من الشدة والصعوبة، وهذا نظير تقديم العفو على العتاب في قوله:﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾[التوبة: ٤٣]﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ ﴾[الانفال: ٦٨] الخ، وناهيك بذلك محبة وشرفاً، ومن ذلك قول عائشة: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، فسيئات المحبوب حسنات، قال أبو الحسن الشاذلي: واجعل سيئاتنا سيئات من أحببت. قوله: (كلح) بالتخفيف من باب خضع، ووجه فاعل. قوله: ﴿ أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ ﴾ تنازعه كل من عبس وتولى، أعمل الأول على مذهب الكوفيين، والثاني على مذهب البصريين، واضمر في المهمل وحذف. قوله: (عبد الله) أي ابن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، اشتهر بأم أبيه أم مكتوم، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي، أسلم قديماً بمكة، وكان ابن خالة خديجة بنت خويلد، واستخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته، قتل شهيداً بالقادسية، قال أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء. قوله: (فقطعه عما هو مشغول به) ما واقعة على القول بدليل قوله: (من يرجو إسلامه من أشراف قريش) ففيه اطلاق ما على العاقل، وهو مذهب سيبويه. قوله: (الذي هو حريص على إسلامهم) نعت لأشراف قريش، وكان المناسب التعبير بالذين. قوله: (فناداه) أي وكرر ذلك، قوله: (مما علمك الله) أي وهو القرآن والإسلام، وإيضاح ما قاله المفسر: أن الأعمى جاءه وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء ان يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم، فيتأيد بهم الإسلام، ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله تعالى، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك وهو لا يعلم، فتشاغل النبي صلى الله عليه وسلم بالقوم، فكره رسول الله قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنما اتبعه العميا والعبيد والسفلة، فعبس وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنزل الله هذه الآيات. إن قلت: إن ابن أم مكتوم أعطاه الله من السمع ما يغني عن البصر، فهو وإن لم ير القوم، لكنه لشدة سمعه، كان يسمع مخاطبة النبي معهم، وحينئذ فيكون اقدامه على قطع كلام رسول الله إيذاء له فيكون معصية، فكيف يعاتب عليه صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يقول المفسر (ولم يدر الأعمى) الخ، أجيب: أن عدم علمه، لعله من أجل دهشته بقدومه على رسول الله، ولا شك أن جلاله صلى الله عليه وسلم وجماله يدهش العقول، ولا سيما بالمحب المشتاق الراغب في التعليم، وعتابه صلى الله عليه وسلم بالنظر لما علمه الله من طردهم عن رحمته، لا بالنظر الظاهر شرعه، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يفعل مكروهاً، ولا خلاف الأولى، إذ الأهم مقدم على المهم، وإنما ذلك من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: (ويبسط له رداءه) أي ويقول له: هل من حاجة؟قوله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، و ﴿ مَا ﴾ استفهامية مبتدأ، وجملة ﴿ يُدْرِيكَ ﴾ خبره، والكاف مفعول أول، وجملة قوله: ﴿ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴾ سادة مسد المفعول الثاني. قوله: (أي يتطهر من الذنوب) أي لا من الشرك، لأنه أسلم قديماً بمكة. قوله: ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ ﴾ عطف على ﴿ يَزَّكَّىٰ ﴾.
قوله: ﴿ فَتَنفَعَهُ ﴾ بالرفع عطف على ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ ﴾.
قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ ﴾ أي عما عندك من الإيمان والقرآن والعلوم. قوله: ﴿ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴾ الجار والمجرور متعلق بتصدى، قدم عليه رعاية للفاصلة، وأصل ﴿ تَصَدَّىٰ ﴾ تصدد، أبدلت الدال الثانية حرف علة. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (تقبل) أي بالإصغاء إلى كلامه. قوله: ﴿ وَمَا عَلَيْكَ ﴾ الخ ﴿ مَا ﴾ نافية، و ﴿ عَلَيْكَ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، وقوله: ﴿ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ ﴾ متعلق بالمبتدأ المحذوف، والتقدير ليس عليك بأس في عدم تزكيته.
قوله: ﴿ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ ﴾ أي يسرع ويمشي في طلب الخير. قوله: (وهو الأعمى) تفسير لمن. قوله: (أي تتشاغل) أي بدعاء قرش إلى الإسلام، وهذا الشغل وإن كان واجباً عليه، إلا أنه عوتب نظراً للحقيقة كما علمت. قوله: (لا تفعل مثل ذلك) روي أنه ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني، قوله: ﴿ ذَكَرَهُ ﴾ أي التذكرة، وذكر الضمير لأن التذكرة بمعنى التذكر والوعظ. قوله: ﴿ فَي صُحُفٍ ﴾ أي مثبتة في صحف مع الملائكة، منقولة من اللوح المحفوظ، قال المفسرون: إن القرآن أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، أملاه جبريل على ملائكة السماء الدنيا فكتبوه كله، وبقيت تلك الصحيفة عندهم، فصار جبريل ينزل منها بالآية والآيتين على النبي عليه الصلاة والسلام، حتى استكمل انزال القرآن في ثلاث وعشرين سنة. قوله: (وما قبله اعتراض) أي بين الخبرين. قوله: ﴿ سَفَرَةٍ ﴾ جمع سافر، وكاتب وزناً ومعنى. قوله: ﴿ كِرَامٍ ﴾ أي مكرمين معظمين عند الله. قوله: (لعن الكافر) أي طرد عن رحمة الله، وفيه إشارة إلى أن المراد بالإنسان الكافر، لا كل إنسان، قوله: ﴿ مَآ أَكْفَرَهُ ﴾ تعجب من إفراط كفره، مع كثرة احسان الله عليه، وفي الآية اشكال من وجهين، الأول: إن قوله: ﴿ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ ﴾ يوهم الدعاء وهو إنما يكون من العاجز، فكيف يليق ذلك بالقادر على كل شيء؟ الثاني: أن التعجب استعظام أمر خفي سببه، وهذا المعنى محال على الله تعالى، إذ هو العالم بالأشياء اجمالاً وتفصيلاً. أجيب: بأن هذا الكلام جار على أسلوب العرب، لبيان استحقاقه لأعظم العقاب، حيث أتى بأعظم القبائح كقولهم: إذ تعجبوا من شيء قاتله الله ما اخبثه. وأجيب أيضاً: بأن الأول ليس دعاء، بل هو اخبار من الله بأنه طرده عن رحمته، والثاني أنه ليس تعجباً، بل استفهام توبيخ، وعليه درج المفسر، فهما تقريران. قوله: (أي ما حمله على الكفر) أي أي شيء دعاه إليه. قوله: (استفهام تقرير) أي وتحقير لحقارة النطفة التي هي أصله، ولذا قال بعضهم: ما لابن آدم والفخر، أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو بينهما حامل للعذرة. قوله: (ثم بينه) أي الشيء المخلوق هو منه. قوله: ﴿ فَقَدَّرَهُ ﴾ أي قدر أطواره، وهو تفصيل لما أجمل في قوله: ﴿ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ ﴾.
قوله: ﴿ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ ﴾ منصوب على الاشتغال بفعل يفسره المذكور، ولم يقل ثم سبيله بالإضافة إلى ضميره، اشعاراً بأنه سبيل عام. قوله: (أي طريق خروجه من بطن أمه) قال بعضهم: إن رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجليه من تحت، فهو في بطن أمه على الانتصاب، فإذا جاء وقت خروجه، انقلب بإلهام من الله تعالى. قوله: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ ﴾ الخ، عد الإمانة من النعم، باعتبار أنها وصلة في الجملة للحياة الأبدية والنعيم الدائم. قوله: ﴿ فَأَقْبَرَهُ ﴾ أي أمر بقبره، يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، وأقبره إذ أمر غيره به، فالقابر هي الدافن باليد، والمقبر هو الله تعالى لأمر به. قوله: (جعله في قبر يستره) أي ولم يجعل ممن يلقى للطيور والسباع اكراماً له. قوله: ﴿ ثُمَّ إِذَا شَآءَ ﴾ مفعول المشيئة محذوف، والتقدير: إذا شاء انشاره أنشره. قوله: (حقاً) أي فتكون متعلقة بما بعدها أي حقاً، لم يفعل ما أمره به ربه، وحينئذ فلا يحسن الوقف على كلا، ويصح أن تكون حرف ردع وزجر للإنسان، عما هو عليه من التكبر والتجبر، قوله: ﴿ لَمَّا يَقْضِ ﴾ بيان لسبب الردع والزجر. قوله: ﴿ لَمَّا يَقْضِ ﴾ أي لم يفعل الإنسان من أول مدة تكليفه إلى حين اقباره ما فرضه الله عليه. قوله: ﴿ مَآ أَمَرَهُ ﴾ (به ربه) أشار بذلك إلى أن ﴿ مَآ ﴾ موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، والضمير عائد على الإنسان المتقدم ذكره وهو الكافر.
قوله: ﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ ﴾ الخ بيان لتعداد النعم المتعلقة بحياته في الدنيا، إثر بيان النعم المتعلقة بإيجاده. قوله: (من السحاب) أي بعد نزوله من السماء. قوله: ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً ﴾ (بالنبات) أي الذي هو أضعف الأشياء، قوله: ﴿ وَعِنَباً ﴾ عطف على ﴿ حَبّاً ﴾.
قوله: (هو القت الرطب) أي علف الدواب الرطب، وسمي قضباً لأنه يقضب، أي يقطع مرة بعد أخرى. قوله: ﴿ غُلْباً ﴾ جمع أغلب وغلباء، كأحمر وحمراء. قوله: (كثيرة الأشجار) أي فإسناد الغلب لها مجاز، إذ هو وصف للأشجار. قوله: ﴿ وَفَاكِهَةً ﴾ إما عطف على ﴿ عِنَباً ﴾ من عطف العام على الخاص، أو على ﴿ حَدَآئِقَ ﴾ فهو عطف خاص على عام. قوله: ﴿ وَأَبّاً ﴾ إما من أبه إذا أمه وقصده، لأنه يقصد المرعى، وأب لكذا إذا تهيأ له، لأنه متهيئ للرعي. قوله: (ما ترعاه البهائم) أي رطباً أو يابساً، فهو أعم من القضب. قوله: (وقيل التبن) أي وعليه فالمغايرة بينه وبين القضب ظاهرة. قوله: (متعة أو تمتيعاً) أشار بذلك إلى أن ﴿ مَّتَاعاً ﴾ يصح أن يكون مفعولاً لأجله، أو مفعولاً مطلقاً، عامله محذوف تقديره: فعل ذلك متاعاً، أو متعتكم تمتيعاً. قوله: (تقدم فيها أيضاً) أي وهو تفسير النعم بأنها البقر والإبل والغنم، وتقدم لنا أنه خصها لشرفها.
قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ ﴾ شروع في بيان أحوال معادهم، إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، والصاخة الداهية التي تضخ آذان الخلائق، أي تصمها لشدة وقعها، وصفت بذلك مجازاً، لأن الناس يصخون منها. قوله: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾ الخ، أي وسبب هروبه، إما حذراً من مطالبتهم له بحقوقهم، فالأخ يقول: لم تواسني بمالك، والأبوان يقولون: قصرت في برنا، والصاحبة تقول: لم توفني حقي، والبنون يقولون: ما علمتنا وما أرشدتنا، أو لما يتبين له من عجزهم وعدم نفعهم له، أو لكثرة شغل الإنسان بنفسه فيدهش من غيره، وكل واقع. قوله: (بدل إذا) أي بدل كل أو بعض، والعائد محذوف أي يفره منه. قوله: ﴿ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ ﴾ جملة مستأنفة لبيان سبب الفرار. قوله: (أي اشتغل) الخ، بيان لجواب إذا المحذوفة.
قوله: ﴿ وُجُوهٌ ﴾ مبتدأ سوغ الابتداء به وقوعه في معرض التفصيل، و ﴿ مُّسْفِرَةٌ ﴾ خبره، و ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ متعلق به، وهذا بيان لمآل الخلائق، وانقسامهم إلى اشقياء وسعداء، بعد وقوعهم في الداهية العظيمة. قوله: (مضيئة) إما من قيام الليل، أو من آثار الوضوء، أو من طول ما اغبرت في سبيل الله، وكل صحيح. قوله: (فرحة) أي بما رأته من كرامة الله ورضوانه. قوله: (ظلمة وسواد) هذا قول ابن عباس، وقيل: القترة والغبرة معناهما واحد وهو الغبار، لكن القترة ما ارتفع منه إلى السماء، والغبرة ما انحط إلى الأرض. قوله: ﴿ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ ﴾ جمع كافر وفاجر، وهو الكاذب المفتري على الله تعالى، فجمع الله إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الكفر إلى الفجور.
Icon