تفسير سورة الحجر

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الحجر
مكية وآياتها تسع وتسعون

﴿ آلر تلك ﴾ إشارة إلى آيات السورة ﴿ آيات الكتاب ﴾ الإضافة بمعنى من ﴿ وقرآن مبين ﴾ الكتاب هو السورة أو القرآن وتنكيره للتفخيم أي آيات ما هو جامع لكونه كتابا كاملا وقرآنا يبين الرشد من الغي والحلال من الحرام بيانا عربيا.
﴿ ربما ﴾ قرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء والباقون بتشديدها، ورب حرف جر للتقليل واستعمال ههنا للتكثير مجازا لمناسبة المقابلة وإيذانا بأنهم لو كانوا يودون الإسلام قليلا ولو مرة واحدة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودون كثيرا بل كل ساعة، أو إيذانا بأن ودادهم بلغت من الكثرة لا يمكن التعبير عنه فاكتفى بما يدل على التقليل، وقيل : استعمل ههنا على الحقيقة للتقليل ووجه التقليل أنه يدهشهم أهول القيامة فإن حانت منهم أمة فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا ذلك، وما كافة تكف رب عن العمل فجاز دخولها على الفعل وحقها أن تدخل على الماضي لكن لما كان المترقب في أخبار الله تعالى كالماضي في تحققه دخلت على المضارع حيث قال الله تعالى :﴿ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ﴾ الغيبة في حكاية ودادهم كالغيبة في قولك حلف بالله ليفعلن مكان قولك لأفعلن، أخرج ابن المبارك وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم أنهما تذاكرا في هذه الآية فقال : هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين وبين المشركين في النار فيقول المشركون ما أغنى عنكم ما كنتم تعملون فيغضب الله فيخرجهم بفضل رحمته، وأخرج هناد وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عليهما قال ما يزال الله تعالى يشفع ويدخل الجنة ويشفع ويرحم حتى يقول من كان مسلما فليدخل الجنة وذلك قوله تعالى :﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين٢ ﴾ وأخرج الطبراني في الأوسى بسند صحيح عن جابر بن عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين٢ ﴾ وأخرج الطبراني وابن عاصم والبيهقي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله تعالى من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا : بلى، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار، قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيسمع الله ما قالوا فأمر من كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك من بقى من الكفار في النار، قالوا يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين٢ ﴾ وذكر البغوي هذا الحديث نحو ما ذكر وفي آخره فيأمر لكل من كان من أهل القبلة فيخرجون منها حينئذ ﴿ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ﴾، وأخرج الطبراني عن أبي سعيد الخدري أنه سئل هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شيئا في هذه الآية { ﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين٢ ﴾ ؟ قال :( نعم سمعته يقول يخرج الله من يشاء من المؤمنين من النار بعدما يؤخذ نقمته منهم، فلما أدخلهم الله النار مع المشركين قال المشركون تدعون أنكم أولياء الله في الدنيا فما بالكم معنا في النار ؟ فإذا سمع الله تعالى ذلك منهم أذن في الشفاعة فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون حتى يخرجون بإذن الله، فإذا رأوا المشركون ذلك قالوا : يا ليتنا كنا مثلكم فتدركنا الشفاعة فيسمون الجهنميون من أجل سواد وجوههم، فيقولون : يا ربنا أذهب عنا الاسم فيأمرهم فيغسلون في نهر الحياة فيذهب الاسم عنهم، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في هذه الآية قال : هذا إذا رأوهم يخرجون من النار، وأخرج هناد عن مجاهد في هذه الآية قال إذا خرج من النار من قال لا إله إلا الله.
﴿ ذرهم ﴾ يعني دعهم يا محمد يعني الذين كفروا ﴿ يأكلوا ويتمتعوا ﴾ بدنياهم ﴿ ويلههم ﴾ أي يشغلهم عن الاستعداد للمعاد ﴿ الأمل ﴾ أي توقعهم طول الأعمار ﴿ فسوف يعلمون ﴾ سوء صنيعهم إذا عاينوا العذاب والغرض من هذا الكلام إقناط الرسول صلى الله عليه وسلم عن انقيادهم وإعلامه بأنهم أهل الشقاوة في علم الله تعالى وأن نصحهم بعد ذلك مما لا فائدة فيه، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن إيثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل.
﴿ وما أهلكنا من قرية ﴾ أي أهل قرية ومن زائدة ﴿ إلا ولها كتاب ﴾ أي وقت هلاكها مقدر مكتوب في اللوح المحفوظ ﴿ معلوم ﴾ عند الله تعالى، والجملة صفة لقرية مستثناة من عموم الصفات والأصل أن لا تدخله الواو كما في قوله تعالى :﴿ إلا لها منذرون ﴾ لكن لما شابهت صورتها صورة الحال أدخلت عليها تأكيدا للصوقها بالموصوف وجاز أن يقال الجملة حال من القرية لكونها في حكم الموصوفة كأنه قيل وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم.
﴿ ما تسبق من أمة ﴾ من زائدة ﴿ أجلها ﴾ أي لا تسبق أمة إلى الهلاك أجلها يعني لا يهلك قبل ذلك ﴿ وما يستأخرون ﴾ أي لا يستأخرون الهلاك عند بلوغ الأجل وتذكير ضمير أمة حملا على المعنى.
﴿ وقالوا ﴾ أي الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم تهكما واستهزاءا ﴿ يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ﴾ يعنون أنك تقول قول المجانين حيث تقول أنزل علي الذكر أي القرآن.
﴿ لو ما ﴾ هل لا ﴿ تأتينا بالملائكة ﴾ ليشهدوا لك بالصدق على ما تقول ويعضدوا على الدعوة كقوله تعالى :﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾١ أو للعقاب على تكذيبنا كما أتت الأمم السابقة ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾ في دعوة النبوة.
١ سورة المائدة، الآية: ٦٧..
﴿ ما ننزل الملائكة ﴾ قرأ حفص وحمزة والكسائي ننزل بنونين على صيغة المضارع المتكلم المعروف من التفعيل مسندا إلى الله تعالى والملائكة بالنصب على المفعولية وأبو بكر بالتاء الفوقانية والنون على صيغة الواحد المؤنث المجهول من التفعيل والملائكة بالرفع مسندا إليه والباقون كذلك لكن على صيغة الواحد المؤنث المعروف من التفعل بحذف إحدى التائبين والملائكة مرفوع على الفاعلية ﴿ إلا بالحق ﴾ أي بالعذاب المتحقق عند الله لقوم ﴿ وما كانوا ﴾ يعني الكفار ﴿ إذا ﴾ يعني نزلت الملائكة بالعذاب ﴿ منظرين ﴾ أي مؤخرين يعني لو نزلت الملائكة بالعذاب زال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال.
﴿ إنا نحن نزلنا الذكر ﴾ عن لإنكارهم واستهزائهم ولذلك أكده بوجوه ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ من التحريف والزيادة والنقصان ولا يتطرق إليه الخلل أبدا، وهذا دليل على كونه منزلا من الله دون غيره إذ لو كان من عند غير الله لتطرق إليه الزيادة والنقصان وقدر الأعداء على الطن فيه، ويل للرافضة حيث قالوا قد تطرق الخلل إلى القرآن وقالوا إن عثمان وغيره حرقوه ألقوه منه عشرة أجزاء، وقيل الضمير في له صلى الله عليه وسلم يعني إنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء نظيره قوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾١.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، الآية:﴿إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين﴾ (٤٧٠١)..
﴿ ولقد أرسلنا من قبلك ﴾ رسلا ﴿ في شيع الأولين ﴾ شيع جمع شيعة وهو القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم من شاعه إذا تبعه وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.
﴿ وما يأتيهم ﴾ يعني الشيع حكاية حال ماضية يعني ما آتاهم ﴿ من رسول ﴾ من زائدة لتعميم النفي ﴿ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ﴾ كما يفعل هؤلاء بك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ كذلك ﴾ أي كما سلكنا الاستهزاء والكفر في قلوب الشيع الأولين ﴿ نسلكه ﴾ أي ندخل الاستهزاء ﴿ في قلوب المجرمين ﴾ يعني مشركي مكة، والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في الخيط والرمح في المطعون، وفيه رد للقدرية ودليل على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوب الكفار.
﴿ لا يؤمنون به ﴾ حال من المجرمين ﴿ وقد خلت سنة الأولين ﴾ أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم أو بإهلاك من كذب الرسول منهم.
﴿ ولو فتحنا عليهم ﴾ أي على هؤلاء المقترحين القائلين ﴿ لو ما تأتينا بالملائكة ﴾ ﴿ بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ﴾ أي فظلت الملائكة يصعدون إلى السماء وهم يرونها عيانا، وقال الحسن فظل هؤلاء الكفار يعرجون إلى السماء ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون.
﴿ لقالوا إنما سكرت أبصارنا ﴾ أي سددت منا الأبصار بالسحر أي حبست ومنعت النظر من السكر وهو سد النهر كذا في القاموس، يدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف كذا قال ابن عباس، وقال الحسن معنى سكرت بالتشديد سحرت وقال قتادة أخرت، وقال الكلبي عميت قال في القاموس سكرت أبصارنا أي حبست عن النظر وحيرت أو غطيت وغشيت ﴿ بل نحن قوم مسحورون ﴾ قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم بذلك كما قالوه عند رؤية غير ذلك من المعجزات، وفي كلمة إنما وبل دلالة من الكفار على القطع بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.
﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا ﴾ البرج هو النجم الكبير مأخوذ من التبرج أي الظهور يقال تبرجت المرأة إذا ظهرت، وقال عطية هي قصور في السماء، وليس المراد بالآية مصطلح أهل الهيئة والنجوم فإنها مبنية على كون السماوات منطبقة بعضها على بعض بحيث يتحركن كلهن قسرا بحركة الفلك التاسع فلك الأفلاك، وكون حركة فلك الأفلاك على منطقة وقطبين، وحركة الفلك الثامن فلك الثوابت على منطقة وقطبين أخريين، ولزوم الشمس منطقة الفلك الثامن، وحصول التقاطع بين المنطقتين، ورسم خط يحصل به التقاطع بين الأقطاب الأربعة، فيحصل أربعة أقواس كل قوس مشتملة على ثلاثة بروج، وذلك مما يأبى عنه الشرع فإنه يثبت بالشرع حركة الكواكب دون السماوات وبعد ما بين كل سمائين خمسمائة عام وعدد السماوات لا يزيد على سبع. ﴿ وزيناها ﴾ أي البروج بالضياء أو السماء بالشمس والقمر والكواكب ﴿ للناظرين ﴾.
﴿ وحفظناها ﴾ يعني السماء ﴿ من كل شيطان رجيم ﴾ فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس أهلها أو يتصرف في أمرها أو يطلع على أحوالها، قال البغوي قال ابن عباس كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات، ولما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فما منهم من يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث، قال : فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوا القرآن فقالوا هذا والله الذي حدث.
﴿ إلا من استرق السمع ﴾ أي لكن من استرق السمع ﴿ فأتبعه ﴾ أي تبعه ولحقه ﴿ شهاب مبين ﴾ ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار تخرج من الكواكب قال البغوي وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا فيسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالشهب فلا يخطى أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي عن أبي هريرة قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معه مائة كذبة، فيقال : أليس قد قال لنا كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء )١ رواه البخاري ومن طريقه البغوي، وعن عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الملائكة تنزل في العنان وهي السحاب فيذكر الأمر قضى في السماء فيسترق الشياطين السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم )٢ رواه البخاري ومن طريقه البغوي.
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (٣٢١٠)..
٢ سورة النور، الآية: ٤٥..
﴿ والأرض مددناها ﴾ أي بسطناها على السماء ﴿ وألقينا فيها رواسي ﴾ جبالا ثوابت وقد كانت الأرض تميد إلى أن أرساها بالجبال ﴿ وأنبتنا فيها ﴾ أي في الأرض أو في الجبال بل في كليهما ﴿ من كل شيء موزون ﴾ أي مقدر بمقدار معين يقتضيه الحكمة، أو مستحسن متناسب من قولهم كلام موزون، أو له وزن في أبواب النعم أو ما يوزن من الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل، وفي الجبال كالياقوت والزبرجد والفيروز وغيرها.
﴿ وجعلنا لكم فيها ﴾ أي في الأرض والجبال ﴿ معايش ﴾ جمع معيشة يعني ما تعيشون بها في الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس والأدوية ﴿ ومن لستم له برازقين ﴾ عطف على معايش أي جعلنا لكم من لستم له برازقين من الدواب والأنعام فمن ههنا بمعنى ما كما في قوله تعالى :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ﴾١ وقيل : يريد الله تعالى به العيال والخدم والمماليك والأنعام والدواب التي يظنون أنهم يرزقونها ظنا باطلا والله يرزقكم وإياهم وأورد كلمة من تغليبا للعقلاء على غيرهم، وقيل من في محل الجر عطفا على الضمير المجرور في لكم وفذلكة الآية الاستدلال بتلك الأشياء على وجود الصانع وكمال قدرته وتناهي حكمته وتفرده بالألوهية ووجوب الوجود والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه ويشكروه ولا يكفروه.
١ سورة الأنبياء، الآية: ٣٠..
﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ﴾ أي من شيء خلقناه إلا نحن قادرون على إيجاد أضعاف ما وجد منه من جنسه وتكوينها فضرب الخزائن مثلا لاقتداره، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج في إخراجها إلى كلفة واجتهاد، وشبه إيجاده في الخارج بإنزاله من الخزائن وإخراجه منه فقال ﴿ وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾ مقدر في الأزل إيجاده معلوم عند الله مقداره، قلت ولعل المراد بالخزائن الأعيان الثابتة في علم الله تعالى وبإنزاله إيجاده في الخارج الظلي بوجود ظلي، قال البغوي وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام وعن آبائهما أنه قال في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر وهو تأويل قوله تعالى ﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ﴾ قلت : لعل مراد الإمام عليه السلام عالم المثال فإنها بمنزلة الخيال للعالم الكبير ومحل الخيال للإنسان الدماغ ومحل الخيال للعالم الكبير العرش، وقيل أراد بالخزائن المطر وهو خزينة لكل شيء قال الله تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء ﴾١ ويقال لا ينزل من السماء قطرة إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله كذا قال البغوي.
١ أخرجه الشافعي في مسنده الجزء الأول / الباب السادس عشر في الدعاء (٥٠٢) ورواه الطبراني وفيه رجل متروك. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الأذكار، باب: ما يقال إذا هاجت الريح (١٧١٢٦)..
﴿ وأرسلنا الرياح لواقح ﴾ أي حوامل تحمل السحاب الماطرة جمع لامحة يقال ناقة لاقحة إذا حملت الولد، ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقح يعني بيع ما في بطن الناقة من الولد جمع ملقوح، وجاز أن يكون لواقح جمع لقوح وهي ناقة ذات لبن، قال البيضاوي : شبه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم، وقال ابن مسعود يرسل الله الريح فيحمل الماء فيجري به السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر، وقال أبو عبيدة أراد باللواقح ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح الأشجار أي تجعلها حاملة للثمار، وقال عبيد بن عمير يبعث الريح المبشرة فيقم الأرض قما ثم المثيرة فتثير سحابا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فيلقح الشجر، وقال أبو بكر بن عياش لا يقطر قطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه فالصبا تهجه والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وفي الخبر أن اللقح الرياح الجنوب، وفي بعض الآثار ما هبت ريح الجنوب إلا وانبعث عنبا عذقة، وأما الريح العقيم فإنها تأتي بالعذاب ولا تلقح، وروى البغوي من طريق الشافعي والطبراني عن ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثى النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال :( اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا )١
قال ابن عباس في كتاب الله ( أرسلنا عليهم ريحا صرصرا )٢ ﴿ أرسلنا عليهم الريح العقيم ﴾٣ وقال :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح ﴾٤ ﴿ يرسل الرياح مبشرات ﴾٥ ﴿ فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه ﴾ أي جعلنا المطر لكم سقيا يقال اسقي فلان فلانا إذا جعل له سقيا وسقاه أي أعطاه ماء يشرب ويقول العرب سقيت الرجل ماء أو لبنا إذا كان يسقيه فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته يقول أسقيته ﴿ وما أنتم له بخازنين ﴾ يعني ليس المطر في خزائنكم بل هو في خزائننا نفي عنهم ما أثبت لنفسه، أو المعنى ما أنتم له بحافظين في العيون والآبار ونحو ذلك، وذلك أيضا يدل على تدبير الحكيم كما يدل عليه حركة الريح في بعض الأوقات من بعض الجهات وفي بعضها من بعض آخر من الجهات على وجه ينتفع به الناس فإن طبيعة الماء يقتضي الغور فوقوفه دون حد لا بد له من سبب مقتضى لذلك.
١ سورة القمر، الآية: ١٩..
٢ سورة الذاريات، الآية: ٤١.
٣ سورة الحجر، الآية: ٢٢..
٤ سورة الروم، الآية: ٤٦..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحجر (٣١٢٢) وأخرجه النسائي في كتاب: الإمامة، باب: المنفرد خلف الصف (٨٦٥) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: الخشوع في الصلاة (١٠٤٦)..
﴿ وإنا لنحن نحيي ﴾ القلوب بالمعرفة والأجسام بتعليق النفوس الحيوانية أو النباتية أو نحو ذلك ﴿ ونميت ﴾ بإزالتها وتكرير الضمير في إنا لنحن للدلالة على الحصر ﴿ ونحن الوارثون ﴾ لا يبقى حي سوانا، استعير الوارث للباقي بعد فناء غيره استعارة من وارث الميت لأنه يبقى بعد فنائه.
﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين٢٤ ﴾ أي لا يخفى علينا شيء من أحوالكم بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يد ل على قدرته دليل على علمه، قال البغوي قال ابن عباس أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياء، وقال الشعبي الأولين والآخرين وقال عكرمة المستقدمون من خلقه الله وخرج من أصلاب الآباء والمستأخرون من لم يخلق ولم يخرج بعد، وقال مجاهد المستقدمون الأمم السابقة والمستاخروت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن المستقدمون في الطاعة والخير والمستأخرون المبطؤن عنها، وقيل : المستقدمون في الصفوف في الصلاة والمستأخرون فيها، أخرج ابن مردويه عن داود بن صالح أنه سأل سهل بن حنيف الأنصاري عن هذه الآية أأنزلت في سبيل الله ؟قال : لا ولكنها في صفوف الصلاة، وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس ( أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظروا إليها وتأخر بعض حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فنزلت هذه الآية )١ وقال الأوزاعي أراد المصلين في أول الوقت والمؤخرين إلى آخره، وقال مقاتل أراد المستقدمين في صف القتال والمستأخرين فيه، وقال ابن عيينة أراد من أسلم ومن لم يسلم
١ قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي.
انظر فيض القدير (٩٠٣٦)..

﴿ وإن ربك هو يحشرهم ﴾ لا محالة للجزاء على ما عملوا من عمل عن جابر قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من مات على شيء بعثه الله تعالى عليه ) رواه أحمد والحاكم و البغوي، وتوسيط الضمير للدلالة على أنه هو القادر والمتولي لحشرهم لا غير وتصدير الجملة بأن لتحقيق الوعد والتنبيه على أن ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكمة كما صرح به قوله ﴿ إنه حكيم ﴾ ظاهر الحكمة متقن في أفعاله ﴿ عليم ﴾ وسع علمه كل شيء.
﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ يعني جنس البشر بأن خلق آباهم آدم عليه السلام وسمي إنسانا لظهوره، وإدراك البصر إياه، ولمؤانسة بعضهم ببعض، وقيل من النسيان لأنه عهد إليه فنسي ﴿ من صلصال ﴾ أي طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت إذا نقر، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو الطين الحر الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرك تقعقع، وقال مجاهد هو الطين المنتن وقال هو من صل اللحم وأصل إذا أنتن ﴿ من حمإ ﴾ طين تغير وأسود من طول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي كائن من حمإ ﴿ مسنون ﴾ مصور من سنة الوجه كان في الأول ترابا فعجن بالماء فصار طينا فمكث فصار حمأ فخلص فصار سلالة فصور فصار مسنونا فيبس فصار صلصالا، وقال مجاهد وقتادة المنتن المتغير من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل بينهما كان منتنا ويسمى سنينا، وقال أبو عبيدة هو المصبوب فهو كالجواهر المذابة تصب في القوالب من السن وهو الصب تقول العرب سننت الماء أي صببته كأنه أفرغ من الحمار فصور منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ثم غير ذلك طورا بعد طور حتى سواه ونفخ فيه من روحه.
﴿ والجان ﴾ أريد به الجنس كما في الإنسان لأن تشعب الجنس إذا كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها، وقال : الجان أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، وقال قتادة هو إبليس، ويقال الجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين وفي الجن مسلمون وما سطون ويحييون ويموتون وليس من الشياطين مسلم ويموتون إذا مات إبليس، وذكر وهب : من الجن من يولد لهم ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿ خلقناه من قبل ﴾ أي قبل خلق آدم عليه السلام ﴿ من نار السموم ﴾ الحر الشديد النافد في المسام، قال البغوي السموم ريح حارة تدخل مسام الإنسان وتقتله، ويقال السموم بالنهار والحرور بالليل وعن الكلبي عن أبي صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت فالهدة التي يسمعون خرق ذلك الحجاب وقيل : نار السموم لهب النار، وقيل من نار السموم أي من نار جهنم، وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار فأما الملائكة خلقوا من النور.
﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق ﴾ في المستقبل من الزمان ﴿ بشرا من صلصال من حمإ مسنون ﴾
﴿ فإذا سويته ﴾ عدلت صورته ﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، والروح نوعان نوع منها علوي وهو خلق من خلق الله تعالى مجرد من المادة يرى بنظر الكشف مقامه فوق العرش لكونه ألطف منه وذلك هو الروح العلوي وذلك يرى بنظر الكشف خمسة بعضها فوق بعض القلب والروح والسر والخفي والأخفى وهي كلها من لطائف عالم الأمر، ونوع منها سفلي وهو بخار لطيف ينبعث من العناصر الأربعة التي يتركب منها الجسم الإنساني ويسمى ذلك بالنفس وقد جعل الله تعالى الروح السفلي المسمى بالنفس مرآة للأرواح العلوية فكما أن الشمس مع كونها على السماء تمتلئ في المرآة عند المحاذات أي يحصل في المرآة نورها وحرارتها حتى يظهر آثارها في المرآة من الأضاءة والإحراق كذلك الأرواح العلوية مع كونها على أوج تجردها تمتلئ في النفس حتى يظهر فيها آثارها وذلك البرزات الحاصلة في النفوس هي الأرواح الجزئية لكل فرد من الأفراد، ثم الروح السفلي مع ما تحملها من العلويات تتعلق أولا بالمضغة القلبية وتفيض عليه القوة الحيوانية والمعارف الإنسانية المكتسبة من الأرواح العلوية ثم تسرى حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن وسميت ذلك بالنفخ لمشابهته بنفخ الريح في الشيء المجوف، وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه تشريفا لكونه مخلوقا بأمره من غير مادة، أو لاستعداده قبول التجليات الرحمانية ما لا يستعد له روح غير الإنسان والإنسان وإن كان الغالب منه عنصر الطين ولأجل ذلك أضيف خلقته إلى الطين لكنه جامع للأسطقسات العشر خمسة من عالم الخلق العناصر الأربعة والبخار المنبعث منها المسمى بالنفس والروح السفلي وخمسة من عالم الأمر المذكورة فهو لأجل ذلك الجامعية صار مستحقا للخلافة أهلا لنور المعرفة ونار العشق والمحبة المقتضية للمعية الغير المتكيفة المحكية بقوله صلى الله عليه وسلم :( المرء مع من أحب )١ ومهبطا للتجليات الذاتية والصفاتية والظلالية ولأجل ذلك المعية وقبول التجليات اقتضت الحكمة الإلهية لقوله تعالى :﴿ فقعوا له ساجدين ﴾ أمر من وقع يقع واللام ههنا بمعنى إلى يعني قعوا إلى آدم ساجدين لله تعالى، جعل الله تعالى آدم قبلة للملائكة كما جعل الكعبة قبلة للناس فكما أن الكعبة إنما صارت مسجودة إليها لأجل تجل لله تعالى فيها مختصة بها كذلك آدم عليه السلام.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: علامة حب الله عز وجل (٦١٦٨) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (٢٦٤٠)..
﴿ فسجد الملائكة ﴾ إما تحقيقا بإدراك المعية المذكورة أو تقليدا أو امتثالا لأمر العليم الحكيم ﴿ كلهم أجمعون ﴾ أكد الله سبحانه بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص، وذكر عن المبرد أنه قال أكد بالكل للإحاطة وبأجمعين للدلالة على أنهم سجدوا مجتمعين دفعة واحدة وهذا ليس بشيء فإنه لو كان كذلك لكان الثاني حالا منصوبا لا تأكيدا مرفوع.
﴿ إلا إبليس ﴾ فإنه لأجل عدم البصيرة لم يدرك المعية المذكورة ولم يستدل بأن قول الحكيم لا يخلو من الحكمة، قيل : الاستثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من الملائكة :﴿ كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾١ فعلى هذا يتصل به قوله تعالى :﴿ أبى أن يكون من الساجدين ﴾ أي ولكن إبليس أبى، وقيل : الاستثناء متصل وهو كان من الملائكة من صنف منها يسمون بالجن فعلى هذا أبى كلام مستأنف كان جواب سائل قال هلا سجد.
١ سورة الكهف، الآية: ٥٠..
﴿ قال ﴾ الله سبحانه ﴿ يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ﴾ أي شيء عرض لك في أن لا تكون مع الساجدين إلى آدم مع وجوبه عليك بحكم الحاكم على الإطلاق وظهور فضل آدم واستحقاقه بإخبار العليم الصادق الخلاق
﴿ قال ﴾ إبليس كلما غباوته ﴿ لم أكن لأسجد ﴾ اللام لتأكيد النفي أي لا يصلح لي وينافي حالي أن أسجد ﴿ لبشر ﴾ جسماني كثيف ﴿ خلقته من صلصال من حمإ مسنون ﴾ وهي أخشن العناصر وخلقتني من نار وهي ألطفها وأشرفها، وقد ذكرنا ما يناسب هذا المقام في تفسيره سورة الأعراف.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ فاخرج ﴾ يعني إن عصيتني فأخرج ﴿ منها ﴾ أي من السماء أو لجنة أو من زمرة الملائكة ﴿ فإنك رجيم٣٤ ﴾ مردود طريد من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة، أو إنك ترجم بالشهب إن تقربت السماء وهو وعيد متضمن للجواب عن شبهته وتعريضه على الله تعالى بأنه لا ينبغي أن يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، والجواب أن الفضل والخير كله بيد الله وفي امتثال أمره فإذا عصى حرم من الخير واستحق الطرد.
﴿ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين٣٥ ﴾ فإنه منتدى الطرد واللعنة وبعد ذلك وقت الجزاء المترتب على تلك اللعنة والإبعاد، أو لأنه بعد ذلك يعذب بما ينسى اللعن معه فيصية كالزائد، وقيل : إنما حد اللعنة به لأنه أبعد غاية يضربها الناس، قال البغوي قيل إن أهل السماء يلعنون إبليس كما يلعنه أهل الأرض فهو ملعون في السماء والأرض، قلت : بل يلعنه خالق السماوات والأرض حيث قال :﴿ وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين٧٨ ﴾١
١ سورة ص، الآية: ٧٨..
﴿ قال ﴾ إبليس ﴿ رب فأنظرني ﴾ أي إن أخرجتني ولعنتني فأنظرني أي أمهلني ولا تمتني ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ أراد أن يجد فرصة الإغواء والنجاة عن الموت إذ لا موت بعد البعث فأجابه الله في الأول زيادة في بلائه وشقائه لا إكراما له ولم يجبه في الثاني﴿ قال فإنك من المنظرين٣٧ ﴾
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ قال ﴾ إبليس ﴿ رب فأنظرني ﴾ أي إن أخرجتني ولعنتني فأنظرني أي أمهلني ولا تمتني ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ أراد أن يجد فرصة الإغواء والنجاة عن الموت إذ لا موت بعد البعث فأجابه الله في الأول زيادة في بلائه وشقائه لا إكراما له ولم يجبه في الثاني﴿ قال فإنك من المنظرين٣٧ ﴾
﴿ إلى يوم الوقت المعلوم٣٨ ﴾ عند الله تعالى أي الوقت الذي يموت فيه الخلائق وهو النفخة الأولى، يقال : إن مدة موت إبليس أربعين سنة وهو ما بين النفخين
﴿ قال ربي بما أغويتني ﴾ الباء للقسم وما مصدرية أي بإغوائك وإضلالك إياي قسمي ﴿ لأزينن لهم في الأرض ﴾ أي في الدنيا التي هي دار الغرور أزين لهم المعاصي، وقيل الباء للسببية، أي لأزين لهم بسبب إغوائك إياي ﴿ ولأغوينهم أجمعين ﴾ أي لأحملنهم على الغواية.
﴿ إلا عبادك منهم المخلصين٤٠ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام على صيغة الفاعل في جميع القرآن يعني أخلصوا دينهم بالتوحيد والطاعة لك ونفوسهم لإتباع مرضاتك والباقون بفتح اللام يعني الذين أخلصتهم لنفسك عن طاعة غيرك وطهرتهم من الشوائب فهديتهم واصطفيتهم فلا يعمل فيهم كيدي.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ هذا ﴾ أي الإخلاص ﴿ صراط علي ﴾ أي طريق للوصول إلي من غير ضلال ﴿ مستقيم ﴾ لا اعوجاج فيه أصلا، قال الحسن صراط الحق مستقيم، وقال مجاهد الحق يرجع على الله وعليه طريقه ولا يعرج على شيء، وقال الأخفش يعني علي الدلالة على الصراط المستقيم، وجاز أن يكون هذا إشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلص من إغوائه، والمعنى أن تخليص المخلصين طريق علي أي حق علي أن أراعيه مستقيم فلا انحراف عنه، وقال الكسائي هذا الكلام على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علي أي لا تفلت مني كما قال الله تعالى :﴿ إن ربك لبالمرصاد١٤ ﴾١ فعلى هذا هذا إشارة إلى ما اتخذ إبليس طريق لنفسه أي طريق الإغواء، وقرأ ابن سيرين ويعقوب وقتادة علي بالرفع والتنوين من العلو والمعنى أن هذا يعني الإخلاص طريق رفيع من أن ينال مستقيم لا يمال.
١ سورة الفجر، الآية: ١٤..
﴿ إن عبادي ﴾ الظاهر أن الإضافة للاستغراق بدليل الاستثناء فيشتمل المؤمن والكافر ﴿ ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ﴾ يعني سلطانك بتسليط الله تعالى ليس إلا على الغاوين وأما المؤمنون فلا سلطان لك عليهم فهو تصديق لإبليس فيما استثناه فهذه الآية نظير قوله تعالى :﴿ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا ﴾ وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه )١ والمقصود بيان عصمة المخلصين وانقطاع مخالب الشر عنهم، ومن ههنا يندفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقل من الباقي لإفضائه إلى تناقض الاستثنائين، وجاز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى من اتبعك من الغاوين ليدخلنهم جهنم حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه ويكون الكلام لتكذيب الشيطان فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده فإن منتهى ما يقدر عليه الشيطان التحريض كما قال :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾٢ وجاز أن تكون الإضافة في عبادي للعهد والمعنى أن عبادي المخلصين ليس لك عليهم سلطان والاستثناء حينئذ منقطع البتة.
أي موعد الغاوين أو المتبعين ( أجمعين ) تأكيد للضمير أو حال والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير المضاف ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل
١ سورة النحل، الآية: ١٠٠..
٢ سورة إبراهيم، الآية: ٢٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٤:﴿ لها سبعة أبواب ﴾ أخرج هنا وابن المبارك وأحمد الثلاثة في الزهد وابن جرير وابن أبي الدنيا في صفة النار والبيهقي عن علي بن أبي طالب قال : أبواب جهنم هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وفرج بين أصابعه يعني باب فوق باب سبعة أبواب فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس ثم السابع، وذكره البغوي أثر علي نحوه وقال : إن الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض، وأخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن جريج في هذه الآية قال : أولها يعني أبواب جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم السفر ثم الجحيم ثم الهاوية ﴿ لكل باب منهم ﴾ أي من الغوين ﴿ جزء مقسوم ﴾ أي لكل دركة قوم يسكنوها، ومنهم حال من جزء أو من المستكن في لكل باب لا في مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم على موصوفة، قرأ أبو بكر جز بالتشديد بلا همز، قال : البغوي قال الضحاك في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون وفي الخامسة المجوس وفي السادسة أهل الشرك وفي السابعة المنافقون قال الله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾١ وقال البغوي روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال : على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) قال القرطبي الباب الأول جهنم وهو أهون عذابا من غيره وهو مختص بعصاة هذه الأمة وسمي بذلك الاسم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء فيأكل لحومهم والهاوية وهي أبعدها قعرا، وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( للنار باب لا يدخله إلا من شفى غيظه بسخط الله ) وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لجهنم سبعة أبواب أشدها غما وكربا وحزنا وأنتنها للزناة الذين ركبوا الزنى بعد العلم ) وأخرج البيهقي عن الخليل بن مرة مرسلا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة وقال : الحواميم سبعة وأبواب جهنم سبع، جهنم وحطمى ولظى وسقر والسعير والهاوية والجحيم، قال : يجيء حم السجدة منها يوم القيامة يقف على باب من هذه الأبواب فيقول : اللهم لا يدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني ).
وأخرج الثعلبي أن سلمان الفارسي لما سمع قوله
﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ فر ثلاثة أيام هاربا من الخوف لا يعقل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : يا رسول الله نزلت هذه الآية ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ الآية فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى ﴿ إن المتقين في جنات وعيون ﴾
١ سورة النساء، الآية: ١٤٥..

﴿ لها سبعة أبواب ﴾ أخرج هنا وابن المبارك وأحمد الثلاثة في الزهد وابن جرير وابن أبي الدنيا في صفة النار والبيهقي عن علي بن أبي طالب قال : أبواب جهنم هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وفرج بين أصابعه يعني باب فوق باب سبعة أبواب فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس ثم السابع، وذكره البغوي أثر علي نحوه وقال : إن الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض، وأخرج ابن جرير وابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن جريج في هذه الآية قال : أولها يعني أبواب جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم السفر ثم الجحيم ثم الهاوية ﴿ لكل باب منهم ﴾ أي من الغوين ﴿ جزء مقسوم ﴾ أي لكل دركة قوم يسكنوها، ومنهم حال من جزء أو من المستكن في لكل باب لا في مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم على موصوفة، قرأ أبو بكر جز بالتشديد بلا همز، قال : البغوي قال الضحاك في الدركة الأولى أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون وفي الخامسة المجوس وفي السادسة أهل الشرك وفي السابعة المنافقون قال الله تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾١ وقال البغوي روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال : على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) قال القرطبي الباب الأول جهنم وهو أهون عذابا من غيره وهو مختص بعصاة هذه الأمة وسمي بذلك الاسم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء فيأكل لحومهم والهاوية وهي أبعدها قعرا، وأخرج البزار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( للنار باب لا يدخله إلا من شفى غيظه بسخط الله ) وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لجهنم سبعة أبواب أشدها غما وكربا وحزنا وأنتنها للزناة الذين ركبوا الزنى بعد العلم ) وأخرج البيهقي عن الخليل بن مرة مرسلا ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة وقال : الحواميم سبعة وأبواب جهنم سبع، جهنم وحطمى ولظى وسقر والسعير والهاوية والجحيم، قال : يجيء حم السجدة منها يوم القيامة يقف على باب من هذه الأبواب فيقول : اللهم لا يدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني ).
وأخرج الثعلبي أن سلمان الفارسي لما سمع قوله
﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ فر ثلاثة أيام هاربا من الخوف لا يعقل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : يا رسول الله نزلت هذه الآية ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ الآية فوالذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى ﴿ إن المتقين في جنات وعيون ﴾
١ سورة النساء، الآية: ١٤٥..
﴿ إن المتقين ﴾ الذين لم يتبعوا الشيطان في الشرك ﴿ في جنات وعيون ﴾ لكل واحد منهم جنة وعين أو لكل واحد عدة منها، قرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص عيون بضم العين حيث وقع والباقون بكسرها.
﴿ ادخلوها ﴾ على إرادة القول يعني يقال لهم ادخلوا الجنات والعيون ﴿ بسلام ﴾ أي سالمين أو مسلما عليكم ﴿ آمنين ﴾ من الموت والآفات والخروج
﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ أي حقد كان في الدنيا أو الماضي ههنا بمعنى المستقبل عبر به تنبيها على تحقق وقوعها، أخرج سعيد بن منصور وأبو نعيم في الفتن وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن علي قال : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، قلت : وذلك حين وقع الشر والفتنة بينهم حتى قتل عثمان في حرب الدار وطلحة والزبير يوم الجمل، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد الكريم بن رشيد قال ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ النيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من غل فصاروا إخوانا، أو المراد بالآية نزع التحاسد من صدور أهل الجنة على درجات الجنة ومراتب القرب ﴿ إخوانا ﴾ حال من ضمير في جنت أو من فاعل ادخلوها أو من الضمير في آمنين أو من الضمير المضاف إليه والعامل ههنا معنى الإضافة وكذا قوله :﴿ على سرر متقابلين ﴾ ويجوز أن يكونا صفتين لإخوان أو حالين من ضمير لأنه بمعنى متصافين وأن يكون متقابلين حالا من المستقر في على سرر، أخرج هناد عن مجاهد في هذه الآية قال : لا يرى بعضهم قفا بعض، قال البغوي وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا ود أن يلقي أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان، وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين نزلت في أبي بكر وعمر ﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ قيل : وأي غل ؟ قال : غل الجاهلية إن بني تميم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبو بكر الخاصرة فجعل علي يسخن يده فيكمد بها خاصرة أبي بكر فنزلت هذه الآية، قلت : على هذه الرواية قوله ونزعنا حال من الضمير المستكن في جنات بتقدير قد نزعنا في الدنيا الإسلام ما كان في صدورهم في الجاهلية من غل.
﴿ لا يمسهم فيها ﴾ أي في الحنة ﴿ نصب ﴾ أي نصب، استئناف أو حال بعد حال من الضمير في متقابلين ﴿ وما هم منها ﴾ أي من الجنة ﴿ بمخرجين٤٨ ﴾ فإن تمام لفحة بالخلود.
أخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه يضحكون قال : أتضحكون وبين أيديكم النار ؟ فنزل جبريل وقال : يا محمد يقول لك ربك لم تقنط عبادي من رحمتي ﴿ وما هم منها ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ الغفور الرحيم ﴾.
﴿ وأن عذابي هو العذاب الأليم٥٠ ﴾ وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة قال : ألا أراكم تضحكون ؟ ثم أدبر ثم رجع القهقرى فقال :( إني خرجت حتى إذا كنت عند الحجر جاء جبريل فقال يا محمد إن الله يقول لم تقنط عبادي نبئ عبادي ) الآية وفي نسق الكلام من هذه الآية فذلكة لما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له وفي ذكر المغفرة دليل على أن المراد بالمتقين من يتقي الشرك لا من يتقي الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، قال البغوي قال قتادة بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :( لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لتخرج نفسه ) وروى الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في الجنة أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة )١ وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة وأمسك عنده تسعة وتسعون رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل ما عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار )٢ وفي توصيف ذاته من بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح بجانب الوعد على الوعيد وتأكيد له، روى أحمد ومسلم عن سلمان وأحمد وابن ماجة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ :( إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة منها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض وأخر تسعا وتسعين فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة )٣.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: خلق الله مائة رحمة (٣٥٤٢)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الرجاء مع الخوف (٦٤٦٩)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (٢٧٥٢)..
﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم٥١ ﴾ في عطف هذه الجملة على نبئ عبادي الآية تحقيق للوعد والوعيد في الدنيا أيضا كما حققهما في الآخرة فيما سبق، والضيف اسم يطلق على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث والمراد ههنا الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى لبشارة إبراهيم بالولد وإهلاك قوم لوط.
﴿ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ﴾ أي نسلم أو سلمنا سلاما ﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ إنا منكم وجلون ﴾ خائفون لأنهم دخلوا بغير إذن أو بغير وقت أو لأنهم لم يأكلوا طعامه، والوجل اضطراب النفس بتوقع المكروه
﴿ قالوا لا توجل إنا ﴾ رسل ربك ﴿ نبشرك ﴾ استئناف في مقام التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يخاف منه قرأ حمزة بالتخفيف وفتح النون من المجرد والباقون من التفعيل ﴿ بغلام ﴾ يعني إسحاق عليه السلام لقوله تعالى :﴿ فبشرناها بإسحاق ﴾١ ﴿ عليم ﴾ ذي علم بالغ إذا كبر فتعجب إبراهيم لأجل كبره وكبر امرأته و﴿ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر ﴾
١ سورة هود، الآية: ٧١..
﴿ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر ﴾ أي مع مس الكبر إياي والاستفهام للإنكار أن يبشر في مثل هذه الحالة وكذلك قوله ﴿ فبم تبشرون ﴾ أي فبأي أعجوبة تبشروني فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء، قرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية ونافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة لإبقاء نون الوقاية المكسورة على الياء والباقون بفتح النون وتخفيفها
﴿ قالوا ﴾ أي الملائكة ﴿ بشرناك بالحق ﴾ أي بالصدق أو باليقين أو بطريقة هي حق وهو قول الله عز وجل وأمره الذي لا راد لقضائه ﴿ فلا تكن من القانطين ﴾ أي من الآيسين وذلك لأنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر، وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك ﴿ قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ﴾.
﴿ قال ومن يقنط ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي و يعقوب ههنا وفي الروم ﴿ يقنطون ﴾ وفي الزمر ﴿ لا تقنطوا ﴾ بكسر النون في الثلاثة والباقون بفتحها ﴿ من رحمة ربه إلا الضالون ﴾ أي المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله وكمال علمه وقدرته فإن القنوط من رحمة الله كبيرة كالأمن من مكره.
﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ فما خطبكم ﴾ أي شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ﴿ أيها المرسلون ﴾ لعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عددا والبشارة لا يحتاج إلى العدد، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا ومريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعف الحال لإزالة الوجل ولو كان تمام المقصود لابتدؤا بها.
﴿ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين٥٨ ﴾ أي مشركين يعني قوم لوط.
﴿ إلا آل لوط ﴾ أي أتباعه وأهل دينه إن كان استثناء من قوم كان منقطعا إذ القوم مقيد بالإجرام وإن كان استثناء من الضمير في مجرمين كان متصلا والقوم والإرسال شاملين للمجرمين، والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم أجرموا كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين وننجي آل لوط يدل عليه قوله ﴿ إنا لمنجوهم ﴾ مما يعذب به غيرهم من القوم، خفف همزة والكسائي وشدده الباقون ﴿ أجمعين ﴾ جملة مستأنفة على تقدير اتصال الاستثناء وجار مجرى خبر لكن على تقدير الانفصال وعلى هذا جاز أن يكون قوله إلا ﴿ امرأته ﴾
﴿ امرأته ﴾ استثناء من آل لوط أومن الضمير المنصوب في منجوهم وعلى تقدير اتصال الاستثناء لا يكون الاستثناء إلا من الضمير لاختلاف الحكمين أي ﴿ قدرنا ﴾ أي قضينا، قرأ أبو بكر هنا وفي سورة النمل بتخفيف الدال والباقون بتشديدها ﴿ إنها لمن الغابرين٦٠ ﴾ الباقين في العذاب مع الكفار، علق قدر مع أن التعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز أن يكون قدر جار مجرى، قلنا : لأن التقدير بمعنى القضاء قول وهو في الأصل جعل الشيء على مقدار غيره وإسناد الملائكة التقدير إلى أنفسهم مع أنه فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص به تعالى أو لأنهم كانوا رسلا فكلامهم على وجه السفارة مستندا إليه تعالى.
﴿ فلما جاء آل لوط المرسلين٦١ ﴾
﴿ قال ﴾ لهم لوط ﴿ إنكم قوم منكرون ﴾ أي ينكركم نفسي إذ ليس عليكم زي السفر ولستم من أهل القرية فأخاف أن يصل إلي منكم مكروه
﴿ قالوا ﴾ أي الملائكة ﴿ بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ﴾ يعني ما جئنا بما تنكرنا من أجله بل جئناك بما يسرك ويشفي لك في أعدائك وهو العذاب الذي تعد بها قومك فيمترون بها
﴿ وأتيناك بالحق ﴾ باليقين من عذابهم أو بالعذاب المحقق في علم الله تعالى ﴿ وإنا لصادقون ﴾ فيما أخبرناك
﴿ فأسر بأهلك ﴾ اذهب بهم في الليل قرأ نافع وابن كثير فأسر بهمزة الوصل من السرى ومعناهما واحد ﴿ بقطع من الليل ﴾ أي طائفة منها وقيل في آخرها ﴿ واتبع أدبرهم ﴾ يعني كن على أثرهم حتى تسرع بهم وتطلع على أحوالهم ﴿ ولا يلتفت منكم أحد ﴾ أي لا ينظر ورائه فيرى ما لا يطيقه، أو لئلا يروا ما نزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم فيصيبهم ما أصابهم، أو لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه العذاب، وقيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة أو جعل النفي على الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التوافي والتوقف لأن من يلتفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة ﴿ وامضوا حيث تؤمرون٦٥ ﴾ يعني إلى حيث أمر الله تعالى قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الشام وقال مقاتل يعني زغر وقيل أردن
﴿ وقضينا إليه ﴾ أي أوحينا إلى لوط مقضيا ولذلك عدي بإلي ﴿ ذلك الأمر ﴾ مبهم يفسره ﴿ أن دابر هؤلاء ﴾ يعني أصلهم ﴿ مقطوع ﴾ ومحل أن النصب على البدل منه وفيه تفخيم لذلك الأمر، والمعنى أنهم يستأصلون عن آخرهم لا يبقى منهم أحد ﴿ مصبحين ﴾ أي داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع، وجمعه حملا على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء.
﴿ وجاء أهل المدينة ﴾ سدوم ﴿ يستبشرون ﴾ بأضياف لوط يبشر بعضهم بعضا طمعا في الفاحشة بهم فإنهم كانوا في صورة غلمان حسان الوجوه.
﴿ قال ﴾ لهم لوط ﴿ إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ﴾ فإن تفضيح الضيف تفضيحا للمضيف
﴿ واتقوا الله ﴾ في ارتكاب الفاحشة ﴿ ولا تخزون ﴾ قرأ يعقوب لا تفضحوني ولا تخزوني بالياء والباقون بحذفها أي لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهو الحياء
﴿ قالوا أولم ننهك ﴾ معطوف على محذوف تقديره أنترك هؤلاء ولم ننهك والاستفهام للإنكار وهو من الإثبات نفي وبالعكس يعني لا نتركهم وقد نهيناك ﴿ عن العالمين٧٠ ﴾ أي عن أن تجير منهم أحدا وتحول بيننا وبينهم فإنهم كانوا يقطعون السبيل ويعترضون كل واحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم عندك فإنا نركب منهم الفاحشة
﴿ قال ﴾ لهم لوط عليه السلام ﴿ هؤلاء بناتي ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها وقد مر وجوه تأويله في سورة هود عليه السلام ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ قضاء الشهوة أو فاعلين ما أقول لكم فأنكحوهن،
قال الله تعالى :
﴿ لعمرك ﴾ يا محمد وحياتك قسمي وهو لعة في العمر يختص به القسم لا يثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على الألسنة، قال البغوي روى عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : ما خلق الله نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد إلا بحياته ﴿ إنهم ﴾ يعني كفار قريش ﴿ لفي سكراتهم ﴾ أي غوايتهم وشدة انهماكهم في قضاء الشهوات وعدم تميزهم بين الخطأ والصواب الذي يشار به إليهم ﴿ يعمهون ﴾ يتحبرون فكيف يسمعون نصحك والجملة معترضة في قصة لوط، وقيل : هذا من كلام الملائكة أضياف لوط خاطبوا لو بقولهم لعمرك يا لوط إنهم يعني قومك لفي سكرتهم يهمعون.
﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ يعني الصيحة الهائلة المهلكة، قيل صيحة جبرئيل ﴿ مشرقين ﴾ أي داخلين في وقت شرق الشمس وإضاءتها فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا
﴿ فجعلنا عليها ﴾ أي عالي المرتبة أو عالي قرارهم ﴿ سافلها ﴾ رفعها جبرئيل إلى السماء ثم قلبها ﴿ وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ﴾ أي من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل وقد سبق مزيد بيان هذه القصة في سورة هود، والفاء في قوله فجعلنا تدل على تقدم الصيحة على قلب الأرض وأمطار الحجارة والله أعلم.
﴿ إن في ذلك ﴾ الحديث ﴿ لآيات للمتوسمين ﴾ قال ابن عباس للناظرين، وقال مجاهد للمتفرسين، وقال قتادة للمعتبرين، وقال مقاتل للمتفكرين، قلت : الوسم التأثير والسمة الأثر يعني الناظرين في ظواهر الأشياء وسماتها حتى يفترسوا بواطنها بسمات ظواهرها
﴿ وإنها ﴾ أي مدينة لوط ﴿ لبسبيل مقيم ﴾ أي بطريق ثابت واضح يسلكه الناس ويرون آثارها فالمقيم ما لم يندرس آثارها
﴿ إن في ذلك ﴾ البيان ﴿ لآية للمؤمنين ﴾ بالله ورسوله المعتقدين بأن هذا البيان من الله تعالى
﴿ وإن ﴾ أي بأنه ﴿ كان أصحاب الأيكة ﴾ أي الأشجار المتكاثفة وهم قوم شعيب كانوا يسكنون غيظة وكانت عامة شجرهم الدوم وهو المقل ﴿ لظالمين٧٨ ﴾ اللام للتأكيد ظلموا أنفسهم وعرضوها للنار حيث كفروا بالله وكذبوا شعيبا
﴿ فانتقمنا منهم ﴾ وذلك أن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام ثم بعث الله سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح فأمطر الله عليهم منها نارا فأحرقتهم وذلك عذاب يوم الظلة ﴿ وإنهما ﴾ يعني سدوم قرية قوم لوط والأيكة، وقيل الأيكة ومدين فإنه كان مبعوثا إليها وكان ذكر إحداهما منبها على الأخرى ﴿ لبإمام مبين ﴾ أي بطريق واضح أفلا يعتبر بهما أهل مكة والإمام اسم لما يؤتم به فسمى به اللوح ومطمر البناء والطريق لأنها مما يؤتم بها.
﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر ﴾ يعني ثمود، والحجر واد بين المدينة والشام ﴿ المرسلين ﴾ يعني صالحا عليه السلام وجميع المرسلين الذين شهد برسالتهم صالح.
﴿ وآتيناهم آياتنا ﴾ يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزاته كالناقة وولدها وسقياها ودرها ﴿ فكانوا عنها معرضين ﴾
﴿ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ٨٢ ﴾ من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها أو آمنين من عذاب الله لفرط غفلتهم وحسبانهم أن الجبال تحميهم منه
﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ صيحة العذاب ﴿ مصبحين٨٣ ﴾ أي حال كونهم داخلين في الصباح.
﴿ فما أغنى عنهم ﴾ أي لم يدفع عنه العذاب ﴿ ما كانوا يكسبون٨٤ ﴾ من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد، وقد ذكرنا في تفسير سورة التوبة في قصة غزوة تبوك أنه صلى الله عليه وسلم مر لحجر فقال :( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) وتقنع بردائه وهو على الرحل وأسرع حتى أجاز الوادي.
﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ﴾ أي خلقا متلبسا بالحق كي يكون دليلا على وجو د الصانع وصفاته وحجة على المنكرين مزيلا لعذرهم، أو المعنى متلبسا بالحق لا يلايم استمرار الفساد ودوام الشر فاقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وإزالة فسادهم من الأرض ﴿ وإن الساعة لآتية ﴾ فينتقم الله ممن أشرك بالله وكذب رسله ﴿ فاصفح الصفح الجميل٨٥ ﴾ أي أعرض عنهم ولا تعجل للانتقام منهم
﴿ إن ربك هو الخلاق ﴾ الذي خلقك وخلق أعدائك وبيده الأمر كله ﴿ العليم ﴾ بالمحسن والمسيء فيجازي كلا منهما على حسب عمله، أو هو العليم بحالك وحالهم فهو حقيق بأن تكل إليه أمرك، أو هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم والأصلح اليوم الصفح.
﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني ﴾ جمع مثناة اسم الظرف أو مثنية اسم الفاعل صفة للآيات أو السور، قال البغوي قال عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم هي فاتحة الكتاب سبع آيات وهو قول قتادة وعطاء والحسن وسعيد بن جبير وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم )١ وفي وجه التسمية بالمثاني أقوال : قال ابن عباس عليه السلام والحسن وقتادة لأنها تثنى في الصلاة فيقرأ في كل ركعة، وقيل : لأنها مقسومة بين الله وبين العبد بنصفين نصفها ثناء ونصفها دعاء، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين )٢ الحديث وقد مر في تفسير سورة الفاتحة، وقال الحسين بن الفضل سميت مثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة كل مرة معها سبعون ألفا من الملائكة، وقال مجاهد سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها وادخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم، وقال أبو زيد البلخي سميت مثاني لأنها تثنى أي تصرف أهل الشر عن الفسق من قولهم ثنيت عناني، وقيل : لأنها تثني على الله رضي الله عنه بصفاته العظام، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سبعا يعني سبع سور من المثاني للبيان فالمثاني إما من التثنية باعتبار تكرر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه قال : وهي السبع الطوال أو لها البقرة وآخرها الأنفال مع التوبة فإنهما في حكم سورة واحدة ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله، وقيل سابعها التوبة وحدها وقيل يونس، قال ابن عباس إنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخير والشر والعبر ثنيت فيها يعني تكررت، وقيل إنها من الثناء باعتبار أن مثني عليه بالبلاغة والإعجاز ومثنى على الله بما هو أهله من أسمائه وصفاته، روى محمد بن نصر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراآت إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ) وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوتي النبي صلى الله عليه وسلم السبع الطوال وأعطى موسى عليه السلام ستا فلما ألقى الألواح رفعت تنثان وبقيت أربع، وقيل المراد بالسبع الحواميم السبع، روى البغوي بسنده عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المائين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضلني ربي بالمفصل ) وقال طاووس المراد بالمثاني القرآن كله بدليل قوله تعالى :( الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني )٣ سمى القرآن مثاني لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه فعلى هذا من للتبعيض والمراد بالسبع السور السبع، وقيل : المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن ومن المثاني القرآن كله فعلى هذا قوله تعالى :﴿ والقرآن العظيم ﴾ من قبيل عطف أحد الوصفين على الآخر وعلى التأويلات السابقة من قبيل عطف الكل على البعض أو العام على الخاص.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، الآية:{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (٤٧٠٤)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (٣٩٥)..
٣ سورة الزمر، الآية: ٢٣..
﴿ لا تمدن ﴾ يا محمد ﴿ عينيك ﴾ أي لا ترفع بصرك طمعا ﴿ إلى ما متعنا به ﴾ من أمتعة الدنيا ﴿ أزواجا ﴾ أصنافا ﴿ منهم ﴾ أي من الكفار فإنهم مستحقرة بالإضافة إلى ما أوتيته من القرآن. روى إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من أوتي القرآن فرأى أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا، وقال البغوي روي أن سفيان بن عيينة تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم :( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )١ أي لم يستغن به روى الحديث البخاري عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن سعد وأبو داود عن أبي لبابة عن عبد المنذر والحاكم عن ابن عباس وعائشة، وروى البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تغبطن فاجرا بنعمة إن له عند الله قاتلا لا يموت ) ورواه البغوي بلفظ ( لا تغبطن فاجرا بنعمة فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته إن له عند الله قاتلا لا يموت ) فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه أبا داود الأعور فقال : يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت قال عبد الله بن مريم النار، وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه والبغوي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله :( أنظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ) ﴿ ولا تحزن عليهم ﴾٢ أي على الكفار بأنهم لم يؤمنوا أو المعنى لا تفتم على ما فاتك من مشاركتهم الدنيا ﴿ واخفض جناحك للمؤمنين٨٨ ﴾ أي لين جانبك لهم وأرفق بهم وأرحمهم
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: ﴿وأسروا قولكم أو اجهروا به﴾ (٧٥٢٧)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق (٢٩٦٣)..
﴿ وقل إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أنا النذير المبين ﴾ أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم أن لم تؤمنوا.
﴿ كما أنزلنا ﴾ أي مثل الذي أنزلنا من العذاب فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه ﴿ على المقتسمين ﴾ قال البغوي حكي عن ابن عباس أنه قال : هم اليهود والنصارى
﴿ الذين جعلوا القرآن عضين٩١ ﴾ أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أرأيت قول الله تعالى كما أنزلنا على المقتسمين قال : اليهود والنصارى قال : ما عضين ؟ قال : آمنوا ببعض وكفروا ببعض ) جمع عضة كعدة الفرقة والقطعة كذا في القاموس أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء فاليهود والنصارى اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجعلوه أجزاء صدقوا بعضه وقالوا هذا حق موافق للتوراة والإنجيل وكذبوا بعضه وقالوا هذا باطل مخالف لهما، وقيل : كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي، وقال مجاهد هم اليهود والنصارى وأريد بالقرآن ما يقرؤن من كتبهم قسمت اليهود والنصارى كتابهم فعرفوه وتركوه، وقيل المقتسمون قوم اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر وقال بعضهم كهانة وقال بعضهم أساطير الأولين، وقيل : الاقتسام هو أنهم فرقوا القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا شاعر ساحر كاهن، وقال مقاتل : كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد ابن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب مكة وطرقها وقعدوا على أنقابها يقولون لمن جاء من الحاج لا تغيروا بهذا الخارج الذي يدعي النبوة منا يقول طائفة منهم أنه مجنون وطائفة أنه كاهن وطائفة أنه ساحر والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما فإذا سئل عنه قال صدق أولئك يعني المقتسمين، والعذاب النازل بالمقتسمين إن كان المراد بهم اليهود فقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وغيرهم وإن كان المراد بهم قريش فما نزل بهم يوم بدر حيث قتلوا أجمعين، وقيل : المراد بالمقتسمين الذين تقساموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام، وقيل عضين جمع عضة أصلها عضرمة ذهبت هاؤها كما نقصوا من الشفة وأصلها شفيهة بدليل التصغير على شفهية والمراد بالعضهة الكذب والبهتان في القاموس العضة الكذب ومنه في حديث البيعة ولا يعضه بعضنا بعضا أي لا يرميه بالعضهة وهي البهتان والكذب، وفي حديث آخر ( إياكم والعضة ) قال الزمخشري أصلها فعلة من العضهة وهو البهت فحذفت لأمه كما حذفت من السنة والشفة كذا في النهاية للجزري، وقيل : العضة السحر في القاموس العضون السحر جمع عضهة بالهاء وإنما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله العاضهة والمستعضهة أي الساحرة والمستسحرة كذا في النهاية، وجاز أن يكون كما أنزلنا متعلقا بقوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك ﴾ فإنه بمعنى أنزلنا إليك والمعنى أنزلنا إليك سبعا من المثاني إنزالا كما أنزلنا التوراة والإنجيل على المقتسمين يعني اليهود والنصارى فهو صفة لمصدر محذوف وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿ لا تمدن ﴾ إلى آخره اعتراضا وعلى ما ذكرنا الموصول أعني قوله ﴿ الذين جعلوا القرآن عضين٩١ ﴾ صفة للمقتسمين، وإن كان المراد بالمقتسمين المقتسمين على تبييت صالح عليه السلام فالموصول مبتدأ خبره.
﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين٩٢ ﴾
﴿ عما كانوا يعملون ﴾ من الكفر والمعاصي والتقسيم ونسبة القرآن إلى الكذب أو السحر ومجازيهم عليه، قال البغوي قال محمد بن إسماعيل البخاري قال : عدة من أهل العلم يعني عن قول لا إله إلا الله أخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : عن قول لا إله إلا الله، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تزول قدما عبد عن الصراط حتى يسئل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن عمله ما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه )١ وأخرج الترمذي وابن مردويه مثله عن ابن مسعود وأخرج الطبراني والأصبهاني في الترغيب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضا فإن خيانة الرجل في علمه أشد في خيانته ماله وإن الله سائلكم عنه ) وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد يخطو خطوة إلا ويسأل الله عنها ما أراد بها ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أم قوما فليتق الله وليعلم أنه ضامن مسؤول لما ضمن فإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من خلفه وما كان من نقص فهو عليه ) وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن معاذ بن جبل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا معاذ إن المؤمن سئل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ) وأخرج البيهقي وابن أبي الدنيا عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد يخطب إلا الله سائله منها ماذا أراد بها ) مرسل جيد الإسناد وأخرج ابن أبي حاتم عن الأنفع بن عبد الله الكلاعي قال : إن لجهنم سبع قناطير والصراط عليهن فيحبس الخلائق على القنطرة الأولى فيقول : قفوهم إنهم مسئولون فيحاسبون على الصلاة ويسألون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا إذا بلغوا الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال : والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى تقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعني فاقطعه، وأخرج ابن ماجه عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تبارك وتعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول ما منعك إذا أرأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن حجته قال يا رب رجوتك وفرقت من الناس )٢ وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته قال : الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )٣ وفي الباب عن أنس عند ابن حبان وأبي نعيم وعنه عند الطبراني وأخرج الطبراني في الكبير عن المقدام سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه رأيته يحملها وهو يتبعونه فيسأل عنهم ويسألون عنه ) وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من أمير يأمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة ) وفي باب السؤال أحاديث كثيرة جدا.
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وما في معناها من الأحاديث وبين قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان٣٩ ﴾٤ قال ابن عباس وجه الجمع أنه لا يسأل هل علمتم به لأنه أعلم به منهم ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا، أخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عنه واعتمد عليه قطرب وقال : السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقوله تعالى :﴿ لا يسأل عن ذنبه ﴾ يعني استعلاما وقوله ﴿ لنسألنهم أجمعين ﴾ يعني توبيخا وتقريعا، وقال عكرمة عن ابن عباس في جمع الآيتين إن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون٣٥ ﴾٥ وفي موضع آخر :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون٣١ ﴾٦ كذا أخرج الحاكم
١ وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٥٦٤)..
٢ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب: قوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ (٤٠١٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: قول الله تعالى:﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (٧١٣٨)..
٤ سورة الرحمن، الآية: ٣٩..
٥ سورة المرسلات، الآية: ٣٥..
٦ سورة الزمر، الآية: ٣١..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين٩٢ ﴾
﴿ عما كانوا يعملون ﴾ من الكفر والمعاصي والتقسيم ونسبة القرآن إلى الكذب أو السحر ومجازيهم عليه، قال البغوي قال محمد بن إسماعيل البخاري قال : عدة من أهل العلم يعني عن قول لا إله إلا الله أخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : عن قول لا إله إلا الله، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تزول قدما عبد عن الصراط حتى يسئل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن عمله ما عمل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه )١ وأخرج الترمذي وابن مردويه مثله عن ابن مسعود وأخرج الطبراني والأصبهاني في الترغيب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تناصحوا في العلم ولا يكتم بعضكم بعضا فإن خيانة الرجل في علمه أشد في خيانته ماله وإن الله سائلكم عنه ) وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد يخطو خطوة إلا ويسأل الله عنها ما أراد بها ) وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أم قوما فليتق الله وليعلم أنه ضامن مسؤول لما ضمن فإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من خلفه وما كان من نقص فهو عليه ) وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن معاذ بن جبل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم :( يا معاذ إن المؤمن سئل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ) وأخرج البيهقي وابن أبي الدنيا عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد يخطب إلا الله سائله منها ماذا أراد بها ) مرسل جيد الإسناد وأخرج ابن أبي حاتم عن الأنفع بن عبد الله الكلاعي قال : إن لجهنم سبع قناطير والصراط عليهن فيحبس الخلائق على القنطرة الأولى فيقول : قفوهم إنهم مسئولون فيحاسبون على الصلاة ويسألون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا إذا بلغوا الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال : والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى تقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعني فاقطعه، وأخرج ابن ماجه عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله تبارك وتعالى ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول ما منعك إذا أرأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن حجته قال يا رب رجوتك وفرقت من الناس )٢ وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته قال : الإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )٣ وفي الباب عن أنس عند ابن حبان وأبي نعيم وعنه عند الطبراني وأخرج الطبراني في الكبير عن المقدام سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه رأيته يحملها وهو يتبعونه فيسأل عنهم ويسألون عنه ) وأخرج أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من أمير يأمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة ) وفي باب السؤال أحاديث كثيرة جدا.
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وما في معناها من الأحاديث وبين قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان٣٩ ﴾٤ قال ابن عباس وجه الجمع أنه لا يسأل هل علمتم به لأنه أعلم به منهم ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا، أخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عنه واعتمد عليه قطرب وقال : السؤال ضربان سؤال استعلام وسؤال توبيخ فقوله تعالى :﴿ لا يسأل عن ذنبه ﴾ يعني استعلاما وقوله ﴿ لنسألنهم أجمعين ﴾ يعني توبيخا وتقريعا، وقال عكرمة عن ابن عباس في جمع الآيتين إن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها نظيره قوله تعالى :﴿ هذا يوم لا ينطقون٣٥ ﴾٥ وفي موضع آخر :﴿ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون٣١ ﴾٦ كذا أخرج الحاكم
١ وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٥٦٤)..
٢ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب: قوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ (٤٠١٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأحكام، باب: قول الله تعالى:﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ (٧١٣٨)..
٤ سورة الرحمن، الآية: ٣٩..
٥ سورة المرسلات، الآية: ٣٥..
٦ سورة الزمر، الآية: ٣١..

﴿ فاصدع بما تؤمر ﴾ قال ابن عباس أي أظهر أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بإظهار الدعوة، روى عن عبد الله بن عبيدة قال كان مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه، ويروى عن ابن عباس أمضه قال الضحاك أعلم وقال الأخفش افرق بالقرآن بين الحق والباطل وقال سيبويه اقض بما تؤمر وأصل الصدع الإبانة والفصل والتميز ﴿ وأعرض عن المشركين ﴾ لا تلتفت إليهم قيل : نسخة آية القتال.
﴿ إنا كفيناك المستهزئين٩٥ ﴾ بقمعهم وإهلاكهم، قال البغوي يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فاصدع بأمر الله ولا يخلف أحدا غير الله فإن الله تعالى كافيك ممن عاداك كما كفاك المستهزئين وهم خمسة نفر من رؤساء قريش الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم والعاص بن وائل السهمي والأسود ابن المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعمه بصره وأثكله بولده والأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة والحارث بن قيس بن الطلالة، فأتى جبرئيل محمدا صلى الله عليه وسلم والمستهزؤن يطوفون بالبيت فقام جبرئيل وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال : جبرئيل يا محمد كيف تجد هذا ؟ قال : بئس عبد الله قال قد كفيت وأومأ إلى ساق الوليد فمر برجل من خزاعة ينال بريش نباله وعليه برد يماني وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن ينزعها وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض فمات ومر به العاص بن وائل فقال جبرئيل كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله فأشار جبرئيل إلى أخمص رجليه وقال : قد كفيت فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شبرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله فقال لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئا وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه. ومر به الأسود بن المطلب فقال جبرئيل عليه السلام كيف تجد هذا ؟ قال : عبد سوء فأشار بيده إلى عينيه وقال قد كفيت فعمى، قال ابن عباس رضي الله عنهما رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عيناه فضرب برأسه الجدار حتى هلك، وفي رواية الكلبي أتاه جبرئيل وهو في أصل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه فقال غلامه لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتى مات وهو يقول قتلني رب محمد. ومر به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل كيف تجد هذا ؟ قال : بئس عبد الله على أنه ابن خالي فقال : قد كفيت وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات جنبا وفي رواية الكلبي أنه خرج من أهله فأصابه السموم فأسود حتى صار حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب حتى مات وهو يقول قتلني رب محمد. ومر به الحارث بن قيس فقال جبرئيل كيف تجد هذا ؟ قال : عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيت فأمتخط قيحا فقتله وقال ابن عباس أنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتى أنفد بطنه فمات فذلك قوله رضي الله عنه :﴿ إنا كفيناك المستهزئين٩٥ ﴾ بك وبالقرآن، وأخرج الطبراني وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة والعاص بن الوائل وعدي بن القيس والأسود بن يغوث والأسود ابن المطلب يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به، فقال جبرئيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخده فأصاب عرقا فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فأمتخط قيحا فمات وإلى رأس الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشواك حتى مات، وإلى عيني السود بن عبد المطلب فعمي، وأخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على أناس فجعلوا يغمزون في قفاه هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرئيل فغمر جبرئيل فوقع مثل الطفر في أجسادهم فصارت قروحا حتى نتنوا فلم يستطع أحد أن يدنو منهم فأنزل الله تعالى :﴿ إنا كفيناك المستهزئين٩٥ ﴾
﴿ الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ﴾ عاقبة أمرهم.
﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك ﴾ أي يمتلئ صدرك بالغيظ فلا تستطيع إنفاذه ﴿ بما يقولون ﴾ من الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء
﴿ فسبح بحمد ربك ﴾ فافرغ إلى الله بالتسبيح والتحميد يشغلك التسبيح والتحميد عن الغيظ ويكفيك الله ويكشف عنك الغم ويذهب عنك الغيظ ويشف صدرك، أو فنزهه عما يقولون حامدا الله على ما هداك إلى الحق قال ابن عباس فصل بأمر ربك ﴿ وكن من الساجدين ﴾ من المتواضعين وقال الضحاك يعني قل سبحان الله وبحمده وكن من المصلين، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع الصلاة١
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل (١٣١٧)..
﴿ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين٩٩ ﴾ أي الموت الموقن به فإنه متيقن لحوقه كل مخلوق حي، والمعنى ما دمت حيا ولا تخل بالعبادة كما في قول عيسى :﴿ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ﴾١ روى البغوي بسنده وغيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )٢ وعن عمر قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا عليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( انظروا إلى هذا الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذ وأنه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها وشربت بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترونه )٣.
تمت تفسير سورة الحجر في السادس والعشرين من الربيع الثاني من السنة الثانية بعد المائتين وألف ويتلوه تفسير سورة النحل إن شاء الله تعالى، تمت سنة ١٢٠٢ ه.
١ سورة مريم، الآية: ٣١..
٢ رواه أبو نعيم في الحيلة مرسلا. انظر كنز العمال (٦٣٧٥)..
٣ رواه البيهقي في شعب الإيمان والديلمي والحاكم. انظر كنز العمال (٣٧٤٩٥)..
Icon