ﰡ
إثبات القيامة ونزول الوحي
يقوم الدين الإلهي على إثبات عقائد جوهرية ضرورية: هي التوحيد لله، والبعث أو القيامة، والوحي، والنّبوة أو الرّسالة، أما التوحيد فهو أساس الاعتقاد بالله ربّا واحدا وإلها فردا لا شريك له، وأما البعث أو القيامة فهو عالم الغيب، ومستقبل الدهر، ومجمع الناس ليوم الحساب، وأما الوحي الإلهي فهو همزة الوصل بين الله والعباد لتصحيح مسيرة الإنسان ووضع دستور الحياة للفرد والأمة، وأما النّبوة أو الرسالة، فهي وسيلة التّلقي للوحي الإلهي وإبلاغه للناس، ومجادلتهم، وإقناعهم بأصول العقيدة، ومنهج العبادة، وتصحيح المعاملة، والتزام الأخلاق الكريمة. وفي مطلع سورة النّحل التي تسمى سورة النّعم بسبب ما عدّد الله فيها من نعمه على عباده، وهي مكّية: تصريح وجيز بوقوع القيامة حتما، وتوحيد الله وتقواه، وإنزال الوحي على الرّسل بوساطة الملائكة، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)«١» «٢» [النّحل: ١٦/ ١- ٢].
(٢) بالوحي.
موضوع الآية الأولى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ: إعلان أن الأمر الموعود به، وهو قيام الساعة، متحقّق حادث لا محالة، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد، فهو إله واحد لا شريك له. وموضوع الآية الثانية: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: الإخبار بأن نزول الوحي بوساطة الملائكة، والتّنبيه على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النّبوة عطاء إلهي محض. والمراد من قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا معرفة الحق لذاته، وأما المراد من قوله تعالى: فَاتَّقُونِ فهو معرفة الخير لأجل العمل به.
لقد استعجل الكفار المشركون ما وعدوا به من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة، وفيه وعيد للكفار. وعبّر عن وقوع القيامة بلفظ الماضي أَتى على جهة التأكيد أي للدلالة على التّحقق وثبات الأمر كأنه لوضوحه والثقة به وقع، وصار من الأحداث الماضية. ولم يكن هناك استعجال إلا ثلاثة أمور: اثنان منها للكفار في القيامة والعذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام.
والمعنى: لما لم تقع القيامة بنحو سريع كما أخبر النّبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قومه المشركين، نسبوه إلى الكذب، فأجابهم الله تعالى: قد حصل أمر الله وحكمه، ووجد من الأزل إلى الأبد، وتحقّق بنزول العذاب، إلا أن تنفيذ الأمر بإقامة القيامة
وهذا الخبر يتضمن تهديدا للكفار على كفرهم، وإعلاما لهم بقرب العذاب والهلاك.
فما عليكم أيها الناس إلا أن تؤمنوا بوجود الله ووحدانيته، سبحانه وتعالى عما يشركون، أي تنزه الله، وتعاظم عما ينسبون له من الولد والشّريك، وعبادة الأوثان والأنداد، وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام، فهو وهم خادع وسراب فارغ.
وعليكم أيضا أيها البشر ألا تستعجلوا القيامة، ولا تكذبوا النّبي ووعده ولا تستهزئوا بما قال، فإن نبوّة النّبي ثابتة يقينا، والله تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره، أي بالوحي المأمور به، على من يشاء من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة وهم الأنبياء والرسل، ولا يكون نزول الوحي إلا بأمر الله تعالى، وأنه يحصل بوساطة الملائكة. ومهمة الرّسل إنذار الكفار وإعلامهم بأنه لا إله إلا الله، فهو الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير، فاتّقوا أيها الناس عقاب الله، ومخالفة أمره، وعبادة غيره.
لقد أجابت هاتان الآيتان عن شبهات ثلاث للمشركين: قيام الساعة، ونزول العذاب، والشّرك والشّركاء، والنّبوة والوحي.
براهين قدرة الله تعالى
هناك في الكون المشاهد أدلة قاطعة على صفات الربوبية، فمن اتصف بها ثبتت له صفة الألوهية، ومن خلا منها لم يستحق وصفه بالرب أو الإله، وإننا لأول وهلة أو نظرة متأملة نجد أن من اتصف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة يحق له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهذه هي صفات الرب، عز وجل، بخلاف الشركاء المزعومين
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣ الى ٩]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
«١» «٢» «٣» «٤» »
«٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١» [النّحل: ١٦/ ٣- ٩].
هذه مظاهر الإبداع الإلهي، أبدع الله تعالى العالم العلوي وهو السماوات والعالم السفلي وهو الأرض ومحتوياتها، فذلك تنبيه على قدرة الله تعالى، خلقها الله بالحق، أي بالواجب اللائق، وبالحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، ولا مصحوبة بالخلل والنقص، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا الربوبية سواه.
وأبدع الله تعالى خلق الجنس الإنساني، وكان هناك فارق واضح بين بدء الخلق واكتماله، ليظهر الفرق بينهما بقدرة الله، خلق الله الإنسان من نطفة مهينة ضعيفة، ثم صار خصما واضح الخصومة لربه، فتراه يجادل في توحيد الله وشرعه ويقول:
مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: ٣٦/ ٧٨] نزلت هذه الآية لقول أبي بن خلف،
(٢) شديد الخصومة بالباطل. [.....]
(٣) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٤) ما تتدفئون به من البرد.
(٥) تجمل وتزين.
(٦) وقت الرواج مساء ووقت التسريح صباحا.
(٧) أمتعتكم الثقيلة.
(٨) بمشتقها.
(٩) بفعل مقدر أي وجعلناها زينة.
(١٠) بيان الطريق القويم.
(١١) من السبيل مائل عن الحق.
ومن مظاهر قدرة الله الشاملة وإنعامه على عباده أنه سبحانه خلق لهم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وكان للناس فيها جمال في النظر وزينة حين سروحها إلى المراعي، ووقت رواحها ورجوعها عشاء منها، وهي بأصوافها وأوبارها وجلودها واسطة الدفء أي السخونة، وفيها منافع كثيرة أخرى بالأكل من ألبانها ولحومها، وبعون الإنسان بركوبها ونقل الأحمال على بعضها.
فهي تحمل أثقال الناس، أي أمتعتهم من مكان إلى آخر، حيث توجهوا بحسب اختلاف أغراضهم، ويعجزون عن نقلها وحملها إلى بلد آخر، لا يبلغونه إلا بشق الأنفس، أي بمشقة شديدة وعناء كبير، إن ربكم الذي سخّر لكم هذه الأنعام وذلّلها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث جعل هذه الأنعام لكم مصدر خير كبير ورزق وفير، وأداة نفع وجلب مصلحة.
ومن مظاهر قدرة الله أيضا أنه خلق الخيل «١» والبغال والحمير للركوب عليها والتزيّن والمفاخرة بها، ويتجدد الخلق كذلك، فهو سبحانه يخلق للناس غير هذه الحيوانات ويلهمهم صناعة وسائل نقل كثيرة مما نشاهده من النّعم الحديثة من قطارات وطائرات وسفن وسيارات وغيرها. مما لا يعلم به الإنسان، فإن مخلوقات الله تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أكثر مما يعلم، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان، منها في البر أربع مائة، وبثّها بأعيانها في البحر، وزاد فيه مائتين ليستا في البر.
ولو شاء الله لهدى الناس جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، أي لو شاء لخلق الهداية في قلوب جميع الناس، ولم يضل أحد. ولكن الله سبحانه لم يفعل ذلك لترك الحرية للبشر، يختارون الطريق التي يرونها، فيكون الحساب على هذا الاختيار والعمل بموجبه.
براهين أخرى على قدرة الله تعالى
لم يكتف القرآن الكريم بإيراد بعض الأدلة على قدرة الله تعالى، وإنما من أجل تقرير العقيدة وتمكينها في القلب، أورد الله سبحانه أدلة وبراهين أخرى كثيرة على قدرته الخارقة، لإثبات ألوهيته وربوبيته ووحدانيته، كيلا يبقى عذر لأحد في إنكار وجود الله، وسلطته الشاملة، وتفرده بإمداد النعم، والأفضال على بني الإنسان.
وهذه الآيات: آيات كونية فيها تعداد نعمة الله في المطر والزرع والنبات والثمار، وتبيان منافع الليل والنهار والكواكب والنجوم، وخلق أشياء كثيرة في الأرض اليابسة وفي البحار والمحيطات المائية، وتسخير السفن التي تجري فيها، وإلقاء ثوابت الجبال في الأرض وتفجير الأنهار فيها، وفتح الطرق في أنحائها وإقامة الأمارات والعلامات والنجوم على السير ليلا في آفاقها، قال الله تعالى:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١٦]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النّحل: ١٦/ ١٠- ١٦].
هذه جملة عظيمة من النعم الإلهية تدل على وجود الله ووحدانيته وقدرته وفضله وكرمه، وأول هذه النعم: إنزال المطر من السماء، أي السحاب، يستقي منه الإنسان والحيوان شرابا عذبا سائغا، ويسقي الأرض، فينبت عن هذا السقي الشجر والنبات مطلقا، لرعي الأنعام. ينبت الله بالمطر الزرع وشجر الزيتون والنخيل والعنب، ومن كل الثمار المختلفة اللون والنوع والطعم والمذاق والرائحة، إن في ذلك المذكور من إنزال الماء والإنبات لدلالة واضحة على وحدانية الله، لقوم يتفكرون في تلك الأدلة لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد.
وهناك أدلة أخرى على قدرة الله من الآيات الكونية المشاهدة، وهي تعاقب الليل والنهار للاستراحة والعمل، ودوران الشمس والقمر، للإنارة والنفع، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات، نورا وضياء، أي إن هذه المخلوقات مسخرات مذللات على نحو ينتفع به البشر من السكون في الليل، والمعايش
(٢) خلق.
(٣) جواري فيه. [.....]
(٤) جبالا ثوابت.
(٥) أي خوف أن تضطرب وتميل بكم.
وفي الأرض عجائب، خلق الله فيها للناس أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص، من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات، إن في ذلك المذكور لدلالات على قدرة الله لقوم يتذكرون آلاء الله ونعمه، وأفضاله ومواهبه، فيشكرونه عليها. ومن نعم الله تعالى أيضا تذليله البحر للناس، وتيسيره للركوب فيه، وإباحته الأسماك المختلفة المستخرجة منه، واستخراج الحلي واللآلئ منه للبس والزينة، والاستفادة من المرجان، وعبور الفلك (السفن) فيه جيئة وإيابا، وطلب فضل الله ورزقه بالتجارة فيه، مما يوجب شكر نعمه وإحسانه على الناس بما يسّره لهم في البحار. وفي الأرض نعم كثيرة، أهمها ثلاث:
وهي تثبيت الأرض بالجبال الراسيات، كيلا تضطرب الأرض وتتحرك بأهلها، وإجراء الأنهار على وجه الأرض لتيسير الانتفاع بها، ففيها حياة الإنسان والحيوان والنبات، وإيجاد الطرق والمسالك التي تسهّل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى، ومن بلد إلى غيره.
وفي الأرض أيضا علامات مخصوصة ومعالم طرق تشير إلى المواقع والبلدان، وهي الجبال والهضاب والرياح ونحوها التي يستدل بها المسافرون برا وبحرا، ويهتدي الناس في ظلام الليل بالنجوم. قال ابن عباس: العلامات: معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية بالليل.
وفي الجملة، أثبتت الآيات وجود الله ووحدانيته أولا بأجرام السماوات، وثانيا ببدن الإنسان، وثالثا بعجائب مخلوقات الحيوان، ورابعا بعجائب طبائع النباتات،
الله الخالق العالم
تظل قوى البشر وعلومهم مهما كانت عاجزة ضعيفة محدودة أمام قدرة الله، وعلمه الشامل للسر والعلن، والظاهر والباطن، فالله سبحانه هو المبدع الخالق الموجد للأشياء من العدم دون أن يسبق بشيء موجود، وأما الإنسان فقدرته لا تتجاوز تركيب الأشياء الموجودة والاستفادة من خواص المادة القائمة، والله عز وجل يعلم السر وأخفى الحاضر والمستقبل، ويعلم جميع ما في السماوات والأرض من أحوال الكائنات، وعلم الإنسان مقصور على بعض الظواهر المحيطة به، وعلى ما هو حاضر غير غيبي، وتفرّد الله بالقدرة الخلاقة المطلقة والعلم الذي لا حدود له دليل على ألوهيته، وعلى أن العاجز عن الخلق لا يستحق التأليه ولا العبادة، وهذا ما صرحت به الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
«١» «٢» [النّحل: ١٦/ ١٧- ٢٣].
(٢) أي حقا أو لا محالة.
إن قدرة الله على الخلق والإبداع هي أولى خواص الإله الحق، ودليل وجود الله، والخاصية الثانية هي أن الله يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن.
وأما الأصنام وأمثالها من المخلوقات، فلها ثلاثة أوصاف، هي أنها لا تستطيع خلق شيء، بل هي مخلوقة، وهي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا، أما الإله فهو الحي الدائم الذي لا يطرأ عليه موت أصلا، وتلك الأصنام لا تدري متى يبعث عبدتها من القبور، ومتى تقوم الساعة، فكيف يرتجى منها نفع أو تستطيع منع ضرر ما؟! وإذا كانت الأصنام وجميع المخلوقات لا تستحق التأليه لفقدها خواص الألوهية،
وختم الله هذه الآيات التي تسفّه عقول المشركين وتوبّخهم على شركهم بتهديد ووعيد على أعمالهم، فقال الله: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي حقا إن ربك القدير العليم يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وغيرهم وما يعلنون، ويعلم إصرارهم على كفرهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، إنه سبحانه يمقت ويجازي المستكبرين عن التوحيد، بل وكل مستكبر، إنه يعاقبهم ويجازيهم على أعمالهم، وقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وعيد عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه. جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن مسعود: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر.»
صفات المستكبرين
إن كل من يتنكر لعبادة الله جل جلاله، ويعرض عنها هو ممن اتصف بالاستكبار والغرور، والحماقة والجهل، وشأن المستكبرين البعد عن دائرة الحق والخروج عن دواعي المنطق والعقل، والاسترسال في الغواية والأهواء، ومصادمة الحقائق، ولو تأمل المستكبرون من كفّار مكة وأمثالهم حقيقة القرآن، وترفعوا عن
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [النّحل: ١٦/ ٢٤- ٢٩].
تذكر هذه الآيات شبهات الذين لا يؤمنون بالآخرة، وينكرون النبوة، وهم مكذبون مستكبرون، والشبهة الأولى الخطيرة هي طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين، أي أباطيل وترّهات القدماء. فإذا قيل لهؤلاء المتكبرين المكذبين الكافرين بالآخرة، وهم كفار مكة وأمثالهم: أي شيء أنزل ربكم؟ قالوا معرضين عن الجواب: لم ينزل شيئا، إنما هذا الكلام المتلو علينا أكاذيب وخرافات المتقدمين.
والسائل هو من بعض المشركين كالنضر بن الحارث وأمثاله من أعداء القرآن. إنهم بوصفهم القرآن بالأساطير يؤول أمرهم ويصير قولهم لتحمّل أوزارهم وآثامهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وتحمل أوزار الذين يتّبعونهم جهلا بغير علم، فلا يعلمون.
(٢) آثامهم.
(٣) الدعائم.
(٤) يذلهم بالعذاب.
(٥) تخاصمون وتعادون الأنبياء فيهم.
(٦) الذل والهوان.
(٧) العذاب.
(٨) أظهروا الاستسلام.
(٩) مأواهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس حديثا نصه: «أيما داع دعا إلى ضلالة، فاتّبع، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى، فاتّبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء».
وهناك شبه بين الكفار القدامى والكفار الجدد في عصر النبوة، فلقد مكروا جميعا لدين الله ورسله، واحتالوا لإطفاء نور الله، فأهلكهم الله تعالى في الدنيا، بتدمير مبانيهم من قواعدها، وإسقاط السقوف عليهم من فوقهم، وإبطال كيدهم، وإحباط أعمالهم، وإطباق العذاب عليهم من كل جانب، من حيث لا يحسون بمجيئه ولا يتوقعون حدوثه، قال ابن عباس: الإشارة ب الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى نمرود الذي بنى الصرح ليصعد به إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه، وطوّله في السماء فرسخين- على ما حكى النقاش- بعث الله عليه ريحا فهدمه، وخر سقفه عليه وعلى أتباعه، وهذا أيضا يشمل جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت به عقوبة من الله تعالى.
هذا عذابهم في الدنيا، ولهم عذاب آخر وهو أنه يوم القيامة يخزيهم، ويظهر فضائحهم، ويذلّهم إذلالا دائما، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى تقريعا لهم وتوبيخا:
أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي أين شركائي في زعمكم، أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني وكنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب.
قال العلماء المقرّون بالتوحيد لله: إن الذل والفضيحة والعذاب محيط اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله، وأشركوا به ما لا يضرهم ولا ينفعهم. وهؤلاء
صفات المتقين وجزاؤهم
بعد أن ذكر الله تعالى صفات المكذبين بالقرآن، المستكبرين عن آياته، ذكر للمقارنة والموازنة صفات المؤمنين الذين يصدقون بالوحي الإلهي، وبالجزاء المرتقب في الدنيا والآخرة، بالإسعاد في الحياة، والظفر بمنازل الخيرات ودرجات السعادة في جنان عدن، والأشياء تتميز بأضدادها، فإذا كان جزاء المتكبرين عن عبادة الله والتصديق بما أنزل على رسله هو نيران جهنم، فإن جزاء المتقين الممتثلين أوامر الله هو نعيم الجنان، فيظهر الفرق جليا بين الفريقين، ويتميز المحسنون من الأشرار، وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
[النّحل: ١٦/ ٣٠- ٣٢].
وإذا قيل لأهل التقوى والإيمان بالله ورسوله والمحسنين أعمالهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أنزل الله في الوحي على نبينا خيرا، من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا، ونعيم في الآخرة، بدخول الجنة، ودار الآخرة خير من دار الدنيا، ونعمت الدار دار المتقين الذين أطاعوا الله واجتنبوا نواهيه.
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطى بحسناته في الدنيا، فإذا لقي الله عز وجل يوم القيامة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».
والسائل للمتقين: هم الوافدون من المشركين على المسلمين في أيام المواسم والأسواق، فكان الرجل يأتي مكة، فيسأل المشركين عن محمد وأمره، فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه، فيقولون: أنزل خيرا.
ثم وصف الله دار المتقين بأنها جنات عدن، أي إقامة، تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار، ونعيمها دائم ميسّر غير ممنوع، وللمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات، كما قال الله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف: ٤٣/ ٧١] وهذا جزاء التقوى والمتقين، ومثل ذلك الجزاء الطيب، يجزى الله كل من آمن به واتقاه، وتجنّب الكفر والمعاصي، وأحسن عمله، وهذا حث على ملازمة التقوى، وإغراء للمتقين بالاستزادة من أعمال الخير.
وقوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال الله تعالى في الكفرة: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي بالكفر والشرك والضلال. و (الطيب) : هو الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزّمر: ٣٩/ ٧٣].
وقوله سبحانه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعبير عن قانون العدل، حيث جعل الله الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ولا يتعارض هذا مع
الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة».
فهذا تعبير عن مقتضى الرحمة التي هي فوق العدل، ومن الرحمة أن يوفق الله العبد إلى أعمال برّة.
والقصد من الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة، وإنما دخول الجنة بمحض فضل الله وإحسانه وتعميم رحمته.
لقد كان مشركو مكة في أشد حالات العناد ومقاومة دعوة الرسول، والتحدي لأمره، دون مبالاة بعذاب إلهي، أو عقاب خطير، وكأنهم لم يتعظوا بأحداث الأقوام الغابرة الذين أنزل الله بهم ألوانا من عذاب الاستئصال، للعبرة والعظة، وحاولوا تعطيل إرادتهم ودورهم في اختيار الإيمان، ونسبوا الشرك لإرادة الله، وهو مجرد وهم وافتراء، ونسبة للأمور لغير مصدرها الصحيح، وهذه آيات كريمة تصور مواقف المشركين وتماديهم في الباطل:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
«١» [النّحل: ١٦/ ٣٣- ٣٥].
هدد الله تعالى بهذه الآيات المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا، ومضمون التهديد: ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم، أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا، كإرسال الصواعق أو الزلازل، أو قيام الساعة، وما يتعرضون له من الأهوال. وهذا وعيد شديد، يقصد به حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل نزول العذاب. وهذا الموقف المعاند له شبيه بفعل أسلافهم من الأمم، الذين عوقبوا بحق، وليس ظلما بوضع العقاب في غير موضعه، ولكنهم هم الذين
لقد أصابهم جزاء عملهم في الدنيا والآخرة، ونزل بهم العقاب، وأحاط بهم العذاب، جزاء بما كانوا به يستهزئون، بالسخرية من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله تعالى. فقوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فيه محذوف، يدل عليه الظاهر من الكلام، تقديره: جزاء بما كانوا يكسبون أو يستهزئون.
والآية تتضمن شبهة أخرى لمنكري النبوة الذين طالبوا بإنزال ملك من السماء، يشهد على صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد شبهة الزعم بأن القرآن أساطير الأولين. ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة لمنكري النبوة، تصور جدلا من الكفار، وذلك أن أكثرهم كانوا يعتقدون وجود الله تعالى، وأنه خالقهم ورازقهم، ولكنهم زعموا أن شركهم بإرادة الله، فقالوا: يا محمد، نحن من الله بمرأى في عبادتنا الأوثان، واتخاذها زلفى تقرب إلى الله، ولو كره الله فعلنا لغيّره منذ مدة، إما بإهلاكنا، وإما بهدايتنا، ولو شاء الله الإيمان لآمنا، فكل من الإيمان والكفر من الله، ولا فائدة في مجيء الرسول، ويكون القول بالنبوة باطلا، ومقصودهم بهذا الطعن بالنبوة.
وهذا الزعم أعلنه المشركون حينما لزمتهم الحجج الدامغة، وأفلسوا عن إيراد الجواب المعقول، وأضافوا قائلين: لو شاء الله ما حرّمنا بعض المواشي، كالبحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما حرّموه، فيكون قولهم شاملا أمرين: أنهم لو شاء الله ما عبدوا هم ولا آباؤهم غير الله، ولا حرموا شيئا حال كونه من دون الله، والمراد ما حرموا شيئا مستقلين بتحريمه.
ثم جاء الرد القاطع من الله على هذا الموقف الذي لا يتفق مع العقل والحقيقة في شيء، ومضمون الرد: هو أن الله تعالى ينهى عن الكفر ولا يرضاه لعباده، وقد
إن التذرع بمشيئة الله لتسويغ الشرك والانحراف والعصيان شيء باطل، وعلم الله بوقوع الكفر وإرادته في وقوعه من إنسان شيء آخر لا صلة له بأصل الاختيار، فإن كل إنسان مسئول عما يفعل ويختار، وهو يجهل مراد الله، فكان عليه التزام أوامر الشريعة واجتناب نواهيها، ولا يصح له الادعاء بأن الكفر والضلال داخل في مراد الله وعلمه.
مهمة الرسل في الأمم
تعدد إرسال الرسل في الأمم المختلفة، لمهمة مشتركة جوهرية، هي الدعوة إلى عبادة الله، وترك عبادة الأوثان، والإيمان بالبعث واليوم الآخر، وقد جاهد الأنبياء والرسل في إثبات هذه الأصول والمعتقدات، وبيان الأمور المختلف فيها، وتقرير الإرادة الإلهية النافذة التي توجد كل شيء بأمر الله وكلمته التكوينية، وهي: كُنْ فَيَكُونُ.
فآمن جماعة بهذه العقائد وضل آخرون، فخسروا الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
أبانت هذه الآيات عموم بعثة الرسل لكل الأمم، فكانت سنة الله في خلقه إرسال الرسل إليهم، وتضمنت رسالاتهم الدعوة لعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام، والبشر والكواكب، والشيطان وغيرها. فمن الأقوام من آمن وهداهم الله إلى الحق، ووفّقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، وضلّوا الطريق، فعاقبهم الله تعالى. أما من هداه الله، فإنه نظر ببصيرته وسار في طريق الخير، وأما من حقت عليه الضلالة، وهي المؤدية إلى النار حتما أو إلى عذاب الله في الدنيا، فإنه أعرض عن الحق وكفر واختار طريق الشر.
ثم أحال الله في توجيه علم الفريقين على الطلب في الأرض، فاسألوا أيها البشر عمن خالف الرسل، وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم، وانظروا كيف كان مصير المكذّبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم.
ثم آنس الله تعالى رسوله وواساه عما يقابل من جحود قومه، فقال له: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: إن حرصك على هداية قومك لا ينفع، فإنها أمور محتومة، ولا يفيدهم حرصك إذا كان الله قد
(٢) ثبتت.
(٣) أوكدها.
ثم رد الله تعالى على شبهة خطيرة لمنكري النبوة، وهي إنكار البعث والحشر والنشر والحساب، فلقد أقسم المشركون كفار قريش واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي إنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به، لأن الميت يفنى ويزول. ذكر أن رجلا من المسلمين جاور رجلا من المشركين، فقال في حديثه: «لا والذي أرجوه بعد الموت» فقال له الكافر: «أو تبعث بعد الموت؟» قال: «نعم» فأقسم الكافر مجتهدا في يمينه أن الله لا يبعث أحدا بعد الموت، فنزلت الاية بسبب ذلك. وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ معناه بغاية جهدهم.
ردّ الله تعالى عليهم بقوله: بَلى فأوجب بذلك البعث، وقرر وقوعه ثم أكده بمصدرين مؤكدين بقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي بلى، سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل، ووقعوا في الكفر، وأكثر الناس في هذه الآية: هم الكفار المكذبون بالبعث. والبعث من القبور مما يجوّزه العقل، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النّبيين.
وحكمة الله في البعث والمعاد هي ليبين الله للناس الحق الذي يختلفون فيه، ويقيم العدل المطلق، فيميز بين الخبيث والطيب، والعاصي والطائع، وقوله سبحانه:
لِيُبَيِّنَ متعلق بقوله: بَلى أي بلى يبعث ليبين، وليعلم الكافرون الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم وادعائهم أنه لا يبعث الله من يموت.
حال مؤمني مكة في بدء الدعوة
(المهاجرون إلى الحبشة) كان الصراع شديدا وعنيفا في مكة المكرمة في بدء الدعوة الإسلامية، بين كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، وبين مؤمني مكة المعارضين لهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة، إيثارا للسلامة، وبعدا عن الأذى والاضطهاد، فالكفار أنكروا البعث والقيامة، والمؤمنون آمنوا بكل ما جاء به الإسلام، وصبروا على إيذاء المشركين، وضحوا بأنفسهم وأموالهم وديارهم من أجل إعلاء كلمة الله. وقد أشاد القرآن بهم في الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
«١» «٢» «٣» [النّحل: ١٦/ ٤١- ٤٤].
(٢) الحسنة: عامة في كل أمر مستحسن يناله ابن آدم، ويشمل النصر على العدو، وفتح البلاد وتحقيق الآمال.
(٣) كتب الشرائع.
ومما لا شك فيه أن هؤلاء النخبة العالية من السابقين إلى الإسلام، لهم فضل كبير ومنزلة عظيمة، لمبادرتهم إلى الإيمان بدعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم في مبدأ الأمر، حيث قل الأتباع، وكثر الأعداء، واستبد الأقوياء بالضعفاء، وألجؤوهم إلى الفرار بدينهم، والهجرة من أوطانهم، انتصارا لمبدأ التوحيد، وإعلاء لكلمة الله، لذا استحقوا الخلود في تاريخ الأمة، وهو المراد بكلمة الحسنة عند بعض المفسرين، فهي لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.
وكان جزاء هؤلاء المهاجرين عند ربهم إنزالهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب، فتكون الحسنة التي أنعم الله بها عليهم: هي المنزلة الطيبة، والمسكن المرضي، والموطن الأصلح وهو المدينة، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد:
هي الرزق الطيب، قال ابن كثير: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا، فإن من ترك شيئا لله، عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ. أي:
وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطاهم الله في الدنيا، لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى، ولو علم الكفار أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين المهاجرين، في أيديهم، الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم.
لقد استحق هؤلاء المهاجرون هذه المنزلة العالية لأنهم صبروا على أذى قومهم، وعلى مفارقة الوطن المحبوب، وهو حرم الله مكة، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في
وكان من بين هؤلاء المهاجرين إلى الحبشة أشراف المسلمين: عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول، وأبو سلمة ابن عبد الأسود، في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صدّيق وصدّيقة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم رد الله تعالى على شبهة كفار قريش في بشرية الرسل، حيث استبعدوا أن يكون البشر رسولا من الله تعالى، فأعلمهم الله مخاطبا رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنه لم يرسل إلى الأمم إلا رجالا أوحى إليهم، ولم يرسل ملكا ولا غير ذلك. وقل لهم يا محمد:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أسألوا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، فإنهم يخبرون بأن الرسل من البشر.
لقد أرسل الله الرسل بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوتهم، وبالكتب المشتملة على التشريع الرباني، وهي الزّبر، أي الكتب، وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد، أنزلنا إليك القرآن، لتبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأنبياء والأمم الماضية التي أبيدت لتكذيبها الرسل، ومن أجل أن يتفكروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ، فيهتدون ويفوزون بالنجاة في الدارين.
وهذه حقيقة تشريعية وواقعية، فإن من آمن برسل الله الكرام، وبالكتب الإلهية المنزلة، وعمل بما أنزل الله، حظي بسعادة الدنيا والآخرة، وتلك هي النعمة العظمى والغاية الكبرى للإنسان العاقل.
لا يتعجل الله سبحانه عادة بعقاب الكفار على كفرهم وظلمهم، وإنما يعطيهم الفرصة الكافية للنظر والتأمل، ومراجعة الحساب، وامتثال أوامر الله، فينذرهم مرة، ويحذرهم تارة، ويذكّرهم بمصير الظلمة العتاة الذين سبقوهم، وكل ذلك من أجل الحرص على صلاحهم وهدايتهم وتمكينهم من العودة القريبة لجادة الاستقامة وسلوك الطريق الأقوم، وهذا المنهج تقرره الآيات الكريمة التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
«٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [النّحل: ١٦/ ٤٥- ٥٠].
هذه آية تهديد لأهل مكة، في قول الأكثرين، ومعناها: أفأمن الكفار العصاة الذي يعملون السيئات ويمكرون بالناس في دعائهم إلى الضلال، ويسيئون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويحاولون صد الناس عن الإيمان بدعوته، وهم أهل مكة، هل أمنوا أحد أمور أربعة؟
- أن يخسف الله بهم الأرض، كما فعل بقارون.
- أو أن يعجل الله لهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به، كما صنع بقوم لوط.
(٢) أسفارهم.
(٣) فائتين من عذاب الله بالهرب.
(٤) أي مع تخوف وتوقع للبلايا، أو تنقص في الأموال والأنفس والثمرات.
(٥) جسم له ظل.
(٦) تنتقل من جانب لآخر.
(٧) منقادة لحكم الله.
(٨) أي صاغرون منقادون. [.....]
- أو يأخذهم على جهة التخوف: وهو التنقص في الأموال والأنفس والثمرات، فإن الله تعالى لم يعجل بعذابهم، ولم يعاجلهم بالعقوبة لأنه رؤف رحيم بعباده، فترك لهم فرصة يتمكنون من تلافي التقصير، واستدراك الأخطاء، والعدول عن الضلال.
جاء في الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وهذه الإنذارات تتطلب التذكير بقدرة الله الشاملة والخارقة، لذا جاء التذكير بإبداع المخلوقات السماوية والأرضية، وهي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من شيء له ظل، من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، تتميل ظلاله «١» من جانب إلى جانب، ذات اليمين وهو المشرق، وذات الشمال وهو المغرب، بكرة وعشيا، أي في الغداة أول النهار، وفي المساء آخر النهار، وتلك الظلال ساجدة لأمر الله وحده، والسجود: الانقياد والاستسلام، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله، لأن الظلال تتحول من جهة المشرق إلى جهة المغرب، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية، وبعبارة أخرى: أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال، متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أي عن جانبي كل واحد منها وشقّيه، ترجع الظلال من جانب إلى جانب، منقادة لله، غير ممتنعة عليه، فيما سخرها له من التفيؤ، كما أن الأجرام المادية في أنفسها صاغرة منقادة لأفعال الله، لا تمتنع.
وهذا في الجمادات، ثم ذكر الله سجود الأحياء، فلله يسجد كل ما في السموات
والمراد بالفوقية: علو الرتبة والشرف، والقدرة والهيمنة.
إن المقصود من هذه الآيات: هو أنه على أهل مكة الماكرين بالنبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كل شيء له في السماوات والأرض، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.
وإن تبدل أحوال الكائنات وتغير أوضاعها من زيادة ونمو ونقص، وارتفاع وانخفاض، واتساع وضيق، دليل على أن الله الذي كونها على هذا النحو، أراد بذلك التذكير بالمتصرّف فيها، والمبدّل لأحوالها، وليكون ذلك لخير الإنسان وتمتعه بأوصاف الكمال والجمال الإلهي، لأن ثبات الشيء على حال واحدة مملّ وممجوج، وفي التغير حركة مسلّية وتذكير بقيمة الوقت وحقائق الأشياء.
النهي عن تعدد الآلهة
الدعوة إلى توحيد الله، والنهي عن الشرك والإشراك بالله هو جوهر الدعوات التي جاء بها النبيون في مراحل التاريخ المتعاقبة لأن الشرك باطل ومناف للواقع، وهو وكر الخرافات والأوهام والأباطيل، ويتنافى مع كرامة الإنسان وعزته وصلته
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٥٥]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
«١» «٢» [النّحل: ١٦/ ٥١- ٥٥].
هذه الآيات نهي صريح قاطع من الله تبارك وتعالى عن الإشراك به، وتقرير واجب لمبدأ توحيد الله، والالتزام بمقتضياته من عبادته وحده، وشكره على نعمه وأفضاله. ومعناها: لا تتخذوا إلهين اثنين، وكلمة اثْنَيْنِ تأكيد للتنفير من التعدد، أي لا تتخذوا لي شريكا، ولا تعبدوا سواي، فمن عبد مع الله إلها غيره، فقد أشرك به، إنما الله إله واحد، ومعبود واحد، فإياه فارهبوا أيها البشر، وخافوا عقابه بالإشراك وعبادة سواه. ويكون المبدأ الأصيل في الدين: هو أن لا إله إلا الله، وأن العبادة لا يستحقها غيره.
ولما كان الإله الحق واحدا، والواجب لذاته في العبادة واحدا، كان كل ما سواه من الأشياء مما يعقل وما لا يعقل، حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده، فلله جميع ما في السموات «٣» والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهو خالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وهم عبيده ومملوكوه، وله الدين واصبا، أي له الطاعة والانقياد والملك والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار، وبعد أن عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم
(٢) أي تضجون بالدعاء.
(٣) السموات هنا: كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي.
ومفاد الآية: أن على العاقل ألا يخاف ولا يتقي أحدا إلا الله، وألا يشكر أحدا بحق إلا الله تعالى، لأن جميع النعم من الله عز وجل.
وإذا تعرض الناس لسوء أو ضرر في النفس من مرض أو خوف أو مشقة ونحو ذلك، فإلى الله يلجأون ويضجون بالدعاء والسؤال لتفريج الكرب وإزالة الهم، للعلم بأنه لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى.
فإذا كشف الله الضر، وزال الخوف، وتحققت السلامة والنعمة، وانقسم الناس فريقين، فريق منهم بقي على الإيمان والشكر لله، وفريق نسي النعمة، فأشرك بالله غيره في العبادة. وهذا الفريق هم المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالا من شفاء المرضى وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله مثلا من أمراضهم، عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وهذا مثار عجب واستغراب، فهم في الشدة يضرعون إلى الله، وفي الرخاء ينسون جانب الله سبحانه.
ويصير أمر هؤلاء المشركين الوقوع في الكفر والضلال، وإن لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، والأظهر أن الكفر هنا كفر النعمة، لذا استحقوا الوعيد والتهديد، فقال الله لهم: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي اعملوا بما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدنيا، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم، وما ينزل بكم من العذاب، وتدركون حينئذ سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر المراد به التهديد كثير في آيات القرآن
والغاية من الآيات: الإقرار الدائم بوحدانية الله، لأنه هو الخالق ومالك السماوات والأرض، فيستوجب العبادة لله وحده، والشكر له وحده، لأنه ما من نعمة على المخلوق إلا والله هو المنعم المتفضل بها، وما من محنة إلا والله هو المفرج للكرب منها، فهو الرؤوف الرحيم بعبده.
عقيدة المشركين في الأصنام والملائكة والبنات
إذا ساء الاعتقاد بالشيء ساء التصرف، وإذا حسن الاعتقاد حسن التصرف، ودليل هذا القانون أن المشركين الوثنيين الذين يعبدون الأصنام والأوثان لا تستند عقيدتهم فيها إلى منطق أو رأي مقبول، وكل ما يستندون إليه هو تقليد الآباء، فهانت أنفسهم وتصرفوا تصرفات بدائية عجيبة لا يدركون فيها سوء فعلهم وانتفاء النفع من أعمالهم، أما المؤمنون الذين آمنوا بالإله الخالق المنعم، فتراهم يفعلون الأفعال بما ينبئ عن حسن التّصرف، ويتّفق مع المنطق والحكمة والواقع، وقد أورد القرآن دليل الشقّ الأول من هذا القانون في الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
«١»
هذه الآيات تبين فضائح العرب المشركين، وأعمالهم السيئة التي لا يقرها المنطق السوي، لعلهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم، وهنا ألوان ثلاثة من أقوالهم وتصرفاتهم القبيحة:
أولا- أنهم من غير حجة ولا برهان صحيح مقبول يجعلون للأصنام، أي للجمادات نصيبا من رزق الله، حيث يذبحون لأصنامهم، ويهدون إليها الهدايا، ويقسمون لها من الغلات والنتاج، فهم لا يدركون أن الأصنام لا تضر ولا تنفع، وهم بهذا أجهل الجاهلين، مما اقتضى الإنكار عليهم لمصلحتهم في آيات قرآنية كثيرة، منها ما ذكر هنا، ومنها قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣). [الأنعام: ٦/ ١٣٦].
ثم توعدهم الله تعالى على أفعالهم هذه وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم لهم أنهم سيسألون عن افترائهم الباطل، وسيجازون عليه أتم الجزاء في نار جهنم، كما جاء في آية أخرى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: ١٥/ ٩٢- ٩٣].
ثانيا- من قبائح قول الكفار أنهم يقولون: «الملائكة بنات الله» وعبدوها مع الله سبحانه، أي تنزه عن الولد والشريك، كما جاء في آية أخرى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ٤٣/ ١٩]. فأخطؤوا خطأ كبيرا إذ نسبوا إليه تعالى
(٢) يستخفي.
(٣) أي هوان وذل وبلاء.
[النجم: ٥٣/ ٢١- ٢٢]. أي جائرة. وقوله تعالى:
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي إنهم يختارون لأنفسهم البنين، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى.
ثالثا- ومن قبيح أفعال المشركين أنه إذا بشر أحدهم بولادة الأنثى، ظل وجهه مسودّا، أي كئيبا عابسا من الهم، وهو كظيم، أي ساكت من شدة الحزن والهم.
يتوارى من القوم، أي يكره أن يراه الناس، من سوء ما بشّر به وهو الأنثى، وهو متردد بين أمرين: أيمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وكراهة فقر، لأنها لا تغزو كالولد الفتى، أم يدفنها في التراب وهي حيّة، وذلك هو الدس في التراب أو الوأد المعروف المذكور في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) [التكوير: ٨١/ ٨- ٩]. ألا بئس ما قالوا، وما قسموا وما نسبوا لله تعالى، فإن رزق جميع الأولاد والمخلوقات على الله تعالى. والتبشير في أصل اللغة: هو الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، سواء في حال السرور أو في حال الحزن، وعرفا يستعمل في الخبر السار.
هذه هي الألوان الثلاثة من سوء أفعال المشركين وحكمهم: وهي عبادة الأصنام والتقرب إليها بالذبائح، ونسبة البنات إلى الله، والتبرم والتسخط بولادة الأنثى، وهي نماذج من عقيدة الشرك التي تؤدي بأصحابها إلى مثل هذه القبائح والأحكام الجائرة التي تتنافى مع أصول الحضارة الإنسانية، وتدلّ على انحدار الفكر، وضعف العقل، وفساد الرأي. لذا جاء الإسلام بشرعه يهدم هذه الأفكار، ليقيم بذلك حضارة صحيحة تقوم على التوجه نحو الله وحده لا شريك له، وتحترم الإنسان أيا كان، ذكرا أم أنثى.
على الرغم من انحطاط مستوى الشرك والمشركين، يوازن الله تعالى بين ما هم عليه من أوصاف السوء والشّبه القبيح، وبين ما عليه الرب ذاته من الوصف الأعلى والكمال المستقر المتنزه عن أي شريك أو شبيه أو ولد، ومع هذه المقارنة، يحلم الله على الظلمة من الناس، الذين يكفرون به فلا يعجل بإنزال العقاب عليهم، وإنما يؤخرهم لأجل آخر معين في علمه وتقديره، وحينئذ يأتي العذاب الشديد بعد الإمهال وفوات الأوان من غير استفادة من الفرص الفائتة، وهذا ما وصفته هذه الآيات الكريمة:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [النّحل: ١٦/ ٦٠- ٦٢].
تصف هذه الآيات مواقف المشركين في الجملة، فهم بعدم تصديقهم بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب وجنة ونار، لهم مثل السوء، والصفة التي لا أسوأ منها في القبح، فضلا عن نسبتهم البنات لله تعالى، وكراهة الإناث ووأدهن خشية الفقر أو الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشح البالغ. ولله تعالى الصفة العليا والكمال المطلق، فهو الإله الواحد المنزه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، والبرّ الرؤوف الرحيم، وهو سبحانه العزيز، أي القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة السديدة، ووضع الأمور فيما يناسبها.
(٢) أي: الجنة.
(٣) حقا أو لا محالة.
(٤) أي: متروكون في النار، مقدّمون إليها.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.
فإذا حان أجل العقاب والهلاك والعذاب، وذلك بحسب مقتضى الحكمة، فلا يستأخرون ساعة، ولا يتقدمون قبله، حتى يستوفوا أعمارهم.
روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر».
ثم يؤكد الله تعالى سوء فعل المشركين حين ينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله. ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدنيا، وفي الآخرة، وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا: إن كان محمد صادقا في البعث، فلنا الجنة بما نحن عليه، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي حقّا أن لهم النار التي تحرقهم، وأنهم متروكون فيها، أو معجل بها إليهم، وهم في العذاب باقون.
ومعنى الآية بإيجاز: يجعلون لله المكروه، ويدّعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة،
إن مثل هذا التفكير هو شأن المغرورين الحمقى الذين نجدهم في كل زمان ومكان، إنهم مقصرون في طاعة الله تعالى، متجاوزون للحد في معاصي الله، ثم يتأملون أنهم في الجنان، وأنهم ناجون غير محاسبين، وهذه صفة الأبله والأحمق الذي لا يدرك ما يقول.
وعيد المكذبين للرسل
لم يهمل الله أمة من الأمم في بيان طريق إسعادها واستقامتها، فأرسل لهم الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين، ومرشدين إلى الحق والطريق الأقوم، ولكن الأمم في الغالب كذبوا الرسل وعادوا منهج الإصلاح، وصبر الأنبياء في تبيان مهامهم وإيضاح وحي ربهم وكتبه، وردّ الشبهات التي يوردونها، ومجادلتهم بالحسنى وإقناعهم بالكلمة الطيبة، ولم يختلف منهج رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الخطة، وكان له أسوة بمن سبقه، قال الله تعالى مبينا موقف الأمم من الرسل وتبليغ الرسل وحي الله تعالى:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
[النّحل: ١٦/ ٦٣- ٦٤].
هذه الآية لضرب المثل بالأمم الماضية، تتضمن الوعيد والتهديد لهم ولمن سار على منوالهم، وهي أيضا تأنيس للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعقد المقارنة أو الموازنة بين موقف قومه ومواقف الأمم السابقة، فلا داعي لإيقاع نفسه في دائرة الهموم والأحزان بسبب صدود قومه عن رسالته، وجهالتهم وعنادهم.
والعبرة من حكاية هذا الواقع للأمم الماضية تأنيس النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يحزن على تكذيب قومه له، فله أسوة بالمرسلين من قبله، وعليه أن يترك المشركين الذين كذبوا الرسل في غيّهم وضلالهم، فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.
ولكن العدل الإلهي والرحمة الربانية اقتضيا ألا يكون هلاك وعقاب في الدنيا إلا بعد بيان الحجة وإقامة البرهان على الاعتقاد الحق والإيمان الصحيح، فقال الله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.. أي: إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات، فيعرفوا الحق من الباطل، والقرآن العظيم هو كلمة الفصل، والقرار الحاسم بين الناس فيما يتنازعون فيه، وهو هدى للقلوب الحائرة، والرحمة الشاملة لقوم يصدقون به، ويتمسكون بتعاليمه وشرائعه، ويلتزمون منهجه في الحياة والآداب والأخلاق، ولا يحيدون عن توجيهاته، والعمل في فلكه ومقاصده وغاياته، كما قال الله تعالى في آية أخرى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
[الإسراء: ١٧/ ٩- ١٠].
إن مجيء الرسل وإكمال مهمتهم برسولنا وما أنزل الله معهم من الكتاب والحكمة، والشريعة والمنهج، كان الكلمة الفاصلة، والقرار الحاسم في قسمة الناس إلى فريقين: الفريق الأول الذين كذبوا الرسل، لتأثرهم بوساوس الشياطين وإغواءاتهم، وهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة.
والفريق الثاني الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وأحسنوا العمل، واستقاموا على أمر الله ومنهاجه، وهؤلاء هم أهل السعادة والطمأنينة، في الدنيا براحة النفس، وفي الآخرة بالخلود الأبدي في جنات النعيم. جعلنا الله من هذا الفريق، وهدى الذين أعرضوا عن هداية الله إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم. وهذا يدل على أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان، والشيطان دائما يعاند ويستغل ناحية المادة في الإنسان.
ألوان النعم الإلهية
في سورة النحل سورة النّعم عدّد الله تعالى ألوانا من النّعم العظيمة من أجل خير الإنسان وانتفاعه بثمرات الكون، وتضمن هذا التعداد الإرشاد لبيان مظاهر قدرة الله سبحانه، وإثبات وجوده وتوحيده، لأن خلق النّعم وسائر الأفعال الصادرة عن الإنسان إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام وطواغيت الأوثان والمعبودات من دون الله، فهي مخلوقة لا خالقة، وعاجزة غير قادرة على شيء من الإبداع والخلق، قال الله تعالى مبينا هذه البراهين على ألوهيته:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٩]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
هذه طائفة جليلة من النعم الإلهية لإثبات أمر الربوبية:
وأولها نعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وفي غاية الظهور، لا يخالف فيها عاقل، فالله سبحانه أنزل المطر من السماء، ليكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت الأرض هامدة غبراء غير منبتة، فهي كالميت، فتصبح كالحي بالمطر منبتة مخضرة مهتزة رابية، وهذا واضح ظاهر، لذا ختمت الآية بقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي إن الأمر لا يحتاج إلى تفكر، ولا نظر قلب، أو تأمل، وإنما يحتاج الإنسان المنبّه إلى أن يسمع القول فقط.
والنعمة الثانية: هي خلق الأنعام، وهي أصناف أربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، ففيها عبرة وعظة دالة على قدرة الله تعالى، ورحمته، ولطفه بعباده، حيث سخر للبشر هذه الأنعام، يستقون من ألبانها الخالصة من الشوائب، والسائغة الشرب في الحلق، دون غصص، وهي غذاء كامل، لذيذ الطعم، سهل الهضم، خلقها الله، أي الألبان مميزة، غير مختلطة بما جاورها من فرث (زبل يملأ الكرش والأمعاء) ودم محيط بها. كما أن في الأنعام فوائد أخرى كثيرة حيث يستفاد من
(٢) أي بطون الأنعام، فالضمير عائد على الجنس، وعلى المذكور، والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز. [.....]
(٣) الفرث: خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء.
(٤) خمرا ثم حرمت بالمدينة.
(٥) أوكارا.
(٦) مما يبني الناس من الخلايا.
(٧) مذلّلة مسهلة.
والنعمة الثالثة: هي ثمرات النخيل (التمور) والأعناب التي تؤكل طازجة، ويتخذ منها الدبس والخل، والنبيذ (الخشاف). أما المسكر منه فحرام، فيما استقر عليه التشريع القرآني، في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: ٥/ ٩٠].
فقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أصبح منسوخا بآية المائدة المذكورة، وصار جميع ما يسكر حراما، قليله وكثيره، ويحد شاربه، وختمت الآية بما يدعو للتأمل والتفكر وهو قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة على عظمة الإله الخالق، لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات، حيث يحتاج الإنسان إلى وعي وإدراك لعظمة فعل الله، من تحويل الأكل المهضوم إلى لبن سائغ الشراب، وإلى ظهور ثمرة النخيل والعنب من التراب والماء؟!! والنعمة الرابعة: هي نعمة غذاء العسل وشرابه، فالله سبحانه ألهم النحل وركّز في غريزتها وطبعها كيفية بناء الخلايا العجيبة، ذات الأشكال السداسية الهندسية البديعة والمتناسقة، في كهوف الجبال، وأحضان الشجر، وعرائش البيوت والكروم، ثم قيامها بامتصاص رحيق الأزهار والثمار العديدة التي تتجاوز مليون زهرة لصنع كيلو عسل مثلا، وبعد قيامها بهذه العملية تسلك الطريق التي ألهمها الله في صنع العسل، وطلب الثمار المناسبة، والعودة بسلام في طرق تختارها ولا تخطئها لتصل إلى الخلايا، وهي تسير ذللا، أي مطيعة منقادة لما يسّرت له. والعسل شراب مختلف الألوان، فمنه الأبيض والأحمر والزهر والأصفر، وفيه شفاء للناس من كثير من
أحوال الناس الدالة على قدرة الله
أقام الحق سبحانه وتعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته ووحدانيته، منها نعمة المطر، وتسخير الحيوان، وإيجاد الزروع والثمار، وخلق النحل لصنع العسل، كما تقدم، ومنها عجائب أحوال الناس من الإيجاد بعد العدم، والشيخوخة والهرم، والإماتة بعد الإحياء، والبعث بعد الموت، والتفاضل في الأرزاق، وشح الناس في إخراج الزكاة للفقراء والمحتاجين، وخلق الزوجات من جنس الأزواج، وإنجاب الذرية والأولاد والأحفاد، ورزق الطيبات، وجحود نعم الله والإيمان بالباطل. قال الله تعالى واصفا هذه العجائب من أحوال الناس:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
«١» «٢» «٣» [النّحل: ١٦/ ٧٠- ٧٢].
إن تغير العالم وما نشاهده من أحداث وتقلبات كونية وإنسانية لدليل واضح على قدرة الله وألوهيته، وهذا مشهد آخر في الإنسان ذاته، بعد مشهد المطر والنبات والحيوان، يدل على عظمة الله وقدرته وتوحيده، وللإنسان أحوال عجيبة:
(٢) أي فهم في الرزق مستوون.
(٣) أولاد أولاد.
والحال الثانية للإنسان بعد تفاوت الأعمار: هي التفاوت في الأرزاق، فالله تعالى لحكمة جليلة ومصلحة للإنسان نفسه جعل الناس متفاوتين في الأرزاق، فمنهم الغني والفقير والمتوسط، وهذا التفاوت اختبار الأغنياء، وقيامهم بواجب التكافل والتعاون ومساعدة الفقراء، ولكن مع الأسف يحرص الناس على الشح والبخل، فما الذين فضلوا بالرزق وهم السادة الملاك بجاعلي رزقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين أتباعهم، وإذا لم يرضوا بالمساواة، مع غيرهم، وهم أمثالهم في الإنسانية، فكيف يسوون بين الخالق والمخلوق، وبين الخالق وهذه الأصنام التي يجعلونها شركاء مع الله؟! إنهم بهذا يتنكرون للحقائق، ويجحدون النعم الإلهية، فكيف يليق بعقولهم أن يشركوا بالله بعبادة الأصنام، ويجحدون نعم الله عليهم؟! فمن أثبت شريكا لله، نسب إليه بعض النعم والخيرات، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى؟! والحال الثالثة للإنسان: وجود التزاوج بين الذكر والأنثى، جاعلا الله الزوجات من جنس الأزواج، لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف، وقضاء المصالح،
ولكن العجب من الإنسان حيث يصدق بعضهم بالباطل، وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر، وأنها تشفع عنده، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كبعض المواشي حرام عليهم، حلال للأصنام، وبعض المستخبثات كالميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح على الأصنام حلال لهم، وهذا يقتضي التوبيخ على تلك الأحكام الباطلة، وهم في هذا كله يجحدون نعم الله الجليلة، وينسبونها إلى غير خالقها من صنم أو وثن، ويسترون نعم الله عليهم، فهم كفرة نعمة وكفرة دين.
مثلان حسّيان للأصنام والأوثان
كانت حملة القرآن الكريم على الأصنام والأوثان عنيفة شديدة، لأنها لا تتفق مع كرامة الإنسان، ولا تنسجم مع العقل السوي، وينبغي تصفيتها من معجم البشرية، والاتجاه نحو عبادة ما ينفع ويمنع الضر، وهو الله الإله الواحد الذي لا شريك له ولا ندّ ولا نظير، لذا استحق الكفار الوثنيون التوبيخ والتأنيب على عبادة الأصنام، كما أنزل الله تعالى في كتابه في الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
هذه آيات تقريع للكفار وتوبيخ، وإظهار لفساد نظرهم، وتركيز على مورد الحياة، ورزق الناس، وعلى ما يتوجه سعيهم إليه، واهتمامهم به، فهذه الأصنام لا تملك توفير الرزق لعبدتها، فلا تستطيع إنزال المطر ولا إنبات النّعمة، وعبدة الأوثان يعبدون مع الأسف أشياء من دون الله، لا تملك إنزال رزق من السموات، ولا إخراجه من الأرض، ولا تستطيع فعل شيء، فآية: وَلا يَسْتَطِيعُونَ نفي الملك وتحصيل الملك، ومن لا يملك شيئا وهي الأصنام، ليس في استطاعتها تحصيل الملك، أي: إنها لا تملك شيئا ولا تستطيع تمليك شيء.
والنتيجة لذلك أنكم أيها الوثنيون، لا تجعلوا لله أندادا وأشباها وأمثالا، ولا تشبّهوه بخلقه، فمعنى قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لا تمثّلوا لله الأمثال. وإن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم أيها البشر الوثنيون بجهلكم تشركون به غيره.
وبعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك، ذكر مثلين حسيين للأصنام:
الأول- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً.. المثال هنا عبد بهذه الصفة مملوك لسيّده، لا يقدر على شيء من المال، ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخّر بإرادة سيده، مدبّر، وفي مقابل هذا العبد: رجل موسّع عليه في المال، فهو يتصرف فيه بإرادته، وينفق منه سرا وعلانية، والعبد العاجز: هو مثل الصنم العاجز، والرجل الميسور صاحب المال مثل الإله القادر، وبما أنه لا يستطيع أن يسوّي أحد بين الشخصين:
العبد والحر، ولا يجهل الفرق بينهما، إلا كل غبي، فكيف يسوّى بين الإله القادر
(٢) عبء وعيال.
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أي الحمد التام الكامل لله، والثناء الشامل لله، والشكر الجزيل لله المنعم، ولكن أكثر أولئك الكفار الذين يعبدون الأصنام لا يعلمون الحق فيتبعوه، ولا يعرفون المنعم الحقيقي، فيخصونه بالتقديس والعبادة.
والمثل الثاني- وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ.. هذا مثل آخر يؤكد الأول وهو أن الله تعالى ضرب مثلا لنفسه وللوثن وغيره من الآلهة المعبودة مثل رجلين:
أحدهما- أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء، ولا يقدر على شيء متعلق بنفسه أو بغيره، وهو عالة على مولاه الذي يعوله، أينما يوجهه لا يحقق خيرا مطلقا، لعدم فهمه ما يقال له، ولا إفهام غيره.
والثاني- رجل كامل المواهب والحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالعدل، ويسير على منهج الحق والطريق القويم والدين الصحيح، هل يستوي هذان الرجلان؟
الأول- عديم النفع، وهو كالصنّم لا يسمع ولا ينطق، والثاني- كامل النفع، وهو كالإله الواحد الذي يدعو إلى الخير، ويأمر بالعدل، ويلتزم العدل، وينفع الآخرين، ويمنع الشر والضرر عنهم. وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة، فلا تساوي أصلا بين الله تعالى، وبين ما يزعمون أنه شريك له سبحانه.
الله العالم بالغيب والخالق
إن من أهم الخصائص الإلهية علم الغيب وخلق الإنسان والحيوان والطير، فمن كان متصفا بهاتين الصفتين، كان هو الإله الحق، ومن فقد إحدى هاتين الصفتين أو كليهما، انعدم وصفه بالألوهية، والواقع أن كل من عدا الله تعالى من المخلوقات
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
[النّحل: ١٦/ ٧٧- ٧٩].
يتحدث الله تعالى في هذه الآيات عن نفسه حديثا مفحما لكل من عبد غير الله تعالى، ويقرر الله في ذلك قرارا حسيما لا مجال لإنكاره، وهو أن لله وحده غيب السموات والأرض، وهذا التعبير يفيد الحصر، فالغيب لله وحده، يملكه ويعلمه، وليس لأحد سواه، ولا قدرة أصلا لأحد على المغيبات، إلا أن يطلعه الله تعالى على شيء مما يشاء، وهذا إخبار بكمال علم الله تعالى. أردفه بإخبار آخر وهو القدرة الشاملة، وفي ذلك إقامة الحجة على الكفار، فالله سبحانه هو الذي يأمر بالقيامة فتوجد، وما أمر القيامة وهي وقت الساعة التي تقوم بها القيامة، في الإيجاد والإقامة في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كُنْ.
وتشبه في السرعة بالنسبة للبشر أنها كلمح البصر، أي كطرف العين أو هي أقرب من ذلك، إن الله تام القدرة على كل شيء، ومن قدرته: إقامة الساعة في أسرع من
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والإبهام».
ومن مظاهر قدرته: الخلق والإبداع، فالله أخرج الناس من بطون أمهاتهم، لا يعلمون شيئا، وخلق لهم طرق العلم وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد، لمعرفة أحوال البيئة التي يعيش فيها، وجعل الله العقل للإنسان مفتاح الفهم وتمييز الخير من الشر، والنفع من الضرر، والله أمدكم أيها الناس بهذه النعم لتشكروا نعم الله عليكم، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله، ولتتمكنوا من عبادة ربكم، وتطيعوه فيما أمركم، وليس الشكر مجرد تردد التعبير باللسان، وإنما امتثال لحكم الله وأمره.
وأقام الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته، وهو خلق الطيور مسخرات بين السماء والأرض، والطير علّم الإنسان اختراع الطائرة، فلننظر كيف جعل الله الطير يطير بجناحيه في جو السماء، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عز وجل، فإنه لولا تمكين الله الطيور من التحليق والارتفاع في الجو والنزول إلى الأرض، وخلق الهواء الحامل للطيور والطائرات، لولا ذلك لما أمكن الطيران، فإنه سبحانه وتعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة، كما يفعل السّباح في الماء، وأوجد له الذيل ليساعده على الهبوط، بحركات يستفيد بها من الهواء في الارتفاع، والتخلص من ثقل الهواء بحركات أخرى من أجل الهبوط، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا.
ولنذكر أن أول طيار جرّب الطيران هو العربي المسلم عباس بن فرناس، لكنه لم يتنبه لفائدة الذيل، فعند هبوطه تكسرت رجلاه. إن الله هو الممسك للطيور في الجو بواسطة الهواء، وهو الملهم للطيور وغيرها كيفية الهبوط، من دون ضرر ولا أذى، إن في ذلك وهو خلق جناحي الطير، وتسخير الهواء في الجملة، والإلهام الرباني،
نعمة السكن واللباس والظل
تفضل الله على عباده بنعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، منها نعمة المطر والنبات والحيوان، ومنها نعمة الخلق والإيجاد من العدم، وتزويد الإنسان بطرق المعرفة والعلم والإدراك، ومنها نعمة الطيران، كما تقدم. ومنها نعمة الإيواء في المساكن، والتستر بالألبسة المصنوعة من الأصواف والأوبار والأشعار ونحوها، ونعمة التظلّل بالظلال من الحر والبرد والاستفادة من كهوف الجبال، وكل هذه النعم تستدعي الوفاء بحق المنعم بها، وشكرها، ولكن أكثر الناس يجحدون نعمة الله، وهذا ما وصفه القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [النّحل: ١٦/ ٨٠- ٨٣].
(٢) يوم ترحالكم.
(٣) متاعا للبيوت كالفرش. [.....]
(٤) تنتفعون به في المعايش والتجارات.
(٥) أشياء للاستظلال كالشجر.
(٦) مواضع تستكنون فيها.
(٧) ثيابا.
(٨) دروعا للوقاية في الحروب.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً.. قال الأعرابي: نعم، ثم قرأ عليه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ.. قال: نعم، ثم قرأ عليه كل ذلك، وهو يقول: نعم، حتى بلغ: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولّى الأعرابي، فأنزل الله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ
هذه الآيات تعداد لنعمة الله على الناس في البيوت وغيرها.
فذكر أولا، بيوت التمدن، وهي الصالحة للإقامة الطويلة، وهي أكثر بيوت الإنسان، فالله يسّر للناس طريق الإيواء في هذه البيوت والسكن فيها وإليها، ثم ذكر الله تعالى البيوت المتنقلة: بيوت النقلة والرحلة للأعراب الرّحّل، وهي بيوت الأدم (الجلود) وبيوت الشعر، وبيوت الصوف، لأن هذه من الجلود، لكونها ثابتة فيها، وهي خفيفة الحمل والنقل من مكان لآخر يوم الظعن (السفر) ويوم الإقامة، وهي الخيام والقباب المعروفة، يخفّ حملها في الأسفار، فقوله تعالى: تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفافا. وجعل الله سبحانه للناس من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، ما يتخذ أثاثا للبيوت، والأثاث: متاع البيت، ويتخذ وسيلة للتمتع والانتفاع به في الغطاء والفراش، لمدة من الزمان في علم الله، فقوله تعالى: وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يريد به: وقتا غير معين، وهو بحسب كل إنسان، إما بموته وإما بفقد تلك الأشياء.
ثم عدّد الله تعالى نعما أخرى على الناس: وهي أنه جعل لكم أيها الناس من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس، وشدة عصف الرياح، وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها، تأمنون فيها من العدو والحر والبرد، وجعل لكم سرابيل، أي ثيابا من القطن والكتان
فإن أعرض الناس بعد هذا البيان وتعداد النعم، فليس عليك أيها النبي شيء من المسؤولية والحرج، ولست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم، إنما عليك فقط تبليغ رسالتك بوضوح، وتبيان أصول دعوتك، ومقاصد الدين، وأسرار التشريع، وسبب هذا الإعراض، هو التنكر للجميل والمعروف، فهم يعرفون أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعم عليهم، وهو المتفضل بها عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم، ويعبدون معه غيره، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره، وأكثرهم الكافرون كفر نعمة وعقيدة، أي الجاحدون المعاندون، وأقلهم المؤمنون الصادقون.
الشهادة على الأمم من أنفسهم يوم القيامة
كل جان أو مخطئ في الغالب لا يجرأ على الاعتراف بذنبه، سواء في قضاء الدنيا أو في قضاء الآخرة، ويحتاج الأمر حال الإنكار إلى إثبات بالشهود، لأنه لا يصدر الحكم القضائي عادة من غير أدلة كافية في الإثبات كالإقرار والشهادة والقرائن واليمين. ويحتاج الأمر لبيان جنايات العصاة يوم القيامة، فيبعث الله الشهود من الأمم نفسها أو من غيرها، وفي هذه الآيات التالية إثبات الجرم من الأمم ذاتها بشهادة الشهود، قال الله تعالى واصفا ذلك وردود الفعل من المشركين والكفرة:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
«١» «٢» «٣» [النّحل: ١٦/ ٨٤- ٨٩].
هذه آية وعيد للكفار يوم القيامة، مفادها: اذكر أيها النبي يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم، بالكفر أو الإيمان، والشهيد: الشاهد، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى، إما بالإيمان، وإما بالكفر والعصيان، ثم إذا شهد عليهم نبيهم لا يسمح لهم بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأنه لا حجة لهم، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار، ولأن أحكام الله عادلة عدلا مطلقا، ولا يطلب منهم العتاب، لأنه: لا فائدة في العتاب، مع سخط الله وغضبه، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه رجع إلى صالح العمل، والآخرة دار جزاء، لا دار تكليف وعمل، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا.
وأما ردود الفعل من الكفار الظلمة بعد صدور الأحكام، فهي الإحباط واليأس والحيرة لأنهم إذا رأوا العذاب وعاينوا العقاب، فلا ينجو منهم أحد، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة، ولا هم ينظرون، أي لا يمهل عقابهم، ولا يؤخر عنهم، بل يؤخذون بسرعة من موقف الحساب وتوزيع الصحف التي يعلن فيها قرارهم النهائي.
(٢) يمهلون.
(٣) الاستسلام لحكم الله.
كذبتم، لم نأمركم بعبادتنا، أو إنكم لكاذبون، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا، فمن كان من المعبودين من البشر تكلم بلسانه، وما كان من الجمادات تكلم بقدرة الله، بتكذيب المشركين في وصفهم بأنهم آلهة وشركاء لله.
ثم قال تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلم العابد المشرك والمعبود، وأقروا لله بالربوبية، وبالبراءة عن الشركاء والأنداد، وذلّوا واستسلموا لله جميعا، وغاب وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله، وأنها أنصارهم وشفعاؤهم، أي:
إنه حل بهم عذاب الله، وباشروا نقمته.
ثم فسّر الله نوع العذاب، فأخبر أن الذين كفروا ومنعوا غيرهم من الدخول في الدين، وسلوك سبيل الله، زادهم الله عذابا فوق العذاب العام لجميع الكفار، عقوبة على إفسادهم وصدّهم الناس عن دين الله وشرعه وعبادته.
وهذه إشارة واضحة إلى أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال، ضوعف عذابه، واشتد عقابه، كما أن من دعا إلى دين الله الحق، ضوعف ثوابه، وعظم قدره عند الله تعالى.
وتدلنا الآية أيضا على تفاوت الكفار في العذاب، كما يتفاوت المؤمنون في درجات الجنان، وكما جاء في قول الله تعالى: قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٧/ ٣٨]. روي في ذلك عن ابن مسعود أن الله تعالى سلّط عليهم عقارب وحيّات لها أنياب كالنخل الطوال. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن لجهنم
وإما عملا بالاجتهاد أو القياس، وإما ببيان القواعد الكلية والمبادئ والمقاصد العامة، وأصول التشريع، فكان القرآن بهذه الأصول والقواعد تبيانا لكل شيء.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي: «إني أوتيت القرآن ومثله معه».
والواقع أن عموم القرآن وشموله لكل نواحي الدين والدنيا والقيادة والعبادة، وأنظمة الحياة الاقتصادية، والسياسية، والحربية، والاجتماعية، إنما جاء من طريق جعله دستور الحياة الإسلامية الصالح لكل زمان ومكان، والدستور عادة يكون بوضع الأصول والمبادئ العامة والأنظمة الكلية في الجملة، وبأسلوب مرن.
أجمع آية للخير والشر
امتاز التشريع القرآني ببيان الإيجابيات والسلبيات، وإيضاح المحاسن وأصناف الخير، والتحذير من المساوئ وألوان الشر، وكان منهجه ليس مجرد وضع قوانين جامدة، وإنما التنصيص على قواعد العدل، مع قرنها بالإحسان، وبناء الحياة بقواعد المعروف، والتنبيه إلى معاول الهدم بمقاومة المنكر والبغي، والعدل والإحسان يحتاج احترامهما إلى الوفاء بالعهد، وتحريم الخيانة والغدر، ومنع نقض الأيمان والعهود، قال الله سبحانه مبينا هذه الأصول:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) إتقان العمل.
(٣) الذنوب القبيحة.
(٤) الظلم والتجبر على الناس.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: أجمع آية في كتاب الله آية في سورة النحل، وتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وروى ابن جرير الطبري عن بريدة، في بيان سبب نزول آية: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ.. قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروى ابن جرير أيضا: أن الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان من أسلم، يبايع على الإسلام، فقال الله تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ.. الآية، فلا تحملنكم قلة جند محمد وأصحابه، وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان في المسلمين قلة، وفي المشركين كثرة.
وروى ابن أبي حاتم في سبب نزول: وَلا تَكُونُوا قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة، تجمع الشعر والليف. فنزلت هذه الآية: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً.
ومعنى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ العدل: هو فعل كل مفروض، من عقائد وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم، والإنصاف وإعطاء الحق.
والإحسان: فعل كل مندوب إليه، أي فهو زائد على العدل، كالرحمة التي هي
(٢) إبرام وإحكام.
(٣) جمع نكث، وهو ما ينكث بمعنى منكوث وهو المنقوص.
(٤) أي مكرا وخديعة.
(٥) أي أكثر عددا وأقوى.
(٦) يختبركم للوفاء بالعهد.
وينهى عن ثلاثة أيضا: الفحشاء: أي الشيء المحرم كالزنى والسرقة وشرب المسكرات، وأكل أموال الناس بالباطل. وينهى عن المنكر: وهو ما قبحه الشرع والعقل الرشيد كالقتل، والأذى، واحتقار الناس. وينهي عن البغي: وهو ظلم الناس، والاعتداء عليهم. فالمأمورات الثلاثة: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.
والمنهيات الثلاثة: الفحشاء والمنكر والبغي. وكلها تجاوز حدود الشرع والعقل الرشيد. وتأكيدا للأمر والنهي، قال تعالى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي يأمركم بالخير، وينهاكم عن الشر لتتعظوا وتتذكروا، وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى.
ثم خصص الله بالذكر بعض المأمورات: وهو الوفاء بالعهد والميثاق، والحفاظ على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كل ما يجب الوفاء به، من التزام أحكام الإسلام، والوعود، وتنفيذ العقود والمشاركات والالتزامات. وأكد الله أمره بالوفاء بالعهد بالتحذير من نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله، إن الله يعلم ويطلع على كل ما نفعله في العهود، من البرّ بها أو نقضها، أو محاولة تعديلها والالتفات على بنودها بالحيل.
ولا تكونوا أيها المؤمنون المعاهدون في إبرام الحلف أو العهد أو نقضه كالمرأة
حرية الإنسان واختياره
الشرع والعقل يقضيان بأن الإنسان حر الاختيار في الطاعة والمعصية، وفي سلوك سبل الخير أو السير في طريق الشر، ويختبر الله عباده بالأوامر والنواهي، ليذهب كل إنسان إلى ما يسّر له، والتيسير من الله عمل بمقتضى حق الملك، ولا يسأل عما يفعل، ولو شاء الله، لكان الناس كلهم في طريق واحدة، إما في هدى وإما في ضلالة، ولكنه تعالى شاء أن يترك حرية الاختيار للناس، وليظهر أثر الاختيار، في انقسام الناس فريقين: فريق الطاعة وأهل السعادة وفريق المعصية وأهل الشقاوة، قال الله تعالى:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٣ الى ٩٦]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
«١»
هذه الآيات الكريمة تقرر الحد الفاصل في القضية الكبرى: وهي حرية الاختيار للإنسان، التي على أساسها يكون الحساب والجزاء، والثواب والعقاب، فالله قادر على أن يجعل الناس على ملة واحدة أو دين واحد بمقتضى الفطرة والخلق، فقوله تعالى: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ معناه يخلق ذلك في القلوب، خلافا لقول المعتزلة، كما ذكر ابن عطية في تفسيره. ورتب الله تعالى على حرية الاختيار التوعّد في آخر الآية، بسؤال كل أحد يوم القيامة عن عمله، وهذا سؤال توبيخ وحساب، وليس ثمّ سؤال تفهّم، وهو المنفي في آيات.
ويقتضي الاختيار: أن يسلك الإنسان بموجب هداية الله وعقله مسلك أهل الصلاح والاستقامة في المعاملات والعلاقات الاجتماعية، فلا يصح الانحراف والخداع والمكر، لذا نهى الله عن اتخاذ الأيمان وسيلة خداع، ونهى عن نقض العهود والأيمان: أيمان البيعة على الإسلام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا اتخذت الأيمان وسيلة مكر وخديعة، فتزلّ قدم في الضلال بعد ثبوتها على جادة الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى بأيمان حانثة، مشتملة على الصدّ عن سبيل الله، ومن انحرف أو زلّ، ذاق السوء، أي تحمل العذاب السيئ الأليم، وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب الصدّ عن سبيل الله، وله العقاب الشديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانخراط في سلك الأشقياء الضالين.
والمقصود من الآية: إن نقضتم العهد أيها الناس، وقعتم في مفاسد ثلاثة: ترك الاستقامة، وتحمل شقاء الدنيا وعذابها، وعقاب الآخرة وجزائها.
ووجه الخيرية واضح، فإن ما عندكم من متاع ونعيم دنيوي عرضة للنفاد والزوال، وإن طال الأمد، وما عند الله من ثواب ونعيم في الجنة ومواهب الآخرة باق خالد، لا انقطاع له ولا نفاد، وإنما هو دائم لا يحول ولا يزول، أي إن الدنيا فانية، والآخرة باقية دائمة.
والله بفضله وعدله يجزي بالخير والثواب الطيب الذين صبروا على أذى المشركين، وأعداء العقيدة، وعلى القيام بواجبات الإسلام وأحكام الشريعة، التي توجب الوفاء بالعهد وتنفيذ العقد، وكذلك بالصبر عن الشهوات، وعلى مكاره الطاعة، يجازيهم الله بأحسن أعمالهم، والتجاوز عن سيئاتهم، وهذا هو الثواب العظيم، وهو الوعد الحسن بغفران الذنوب، ومحو الخطايا، وهذه الآية إشارة إلى الصبر عن شهوة كسب المال بالوجوه المنكرة أو المحرمة، من الرّشاوى، وأخذ الأموال على ترك الواجبات، وفعل القبائح والمحظورات، فإن كل عاقل ينفر من الحرام، ولا يتقبل العفيف الشريف تلويث مكاسبه بالمحرمات والشبهات.
لا تفرقة في أصول التشريع الإسلامي وإعطاء فرص العمل بين الرجال والنساء، فللمرأة أن تنافس الرجل وتسبقه في ميدان القربات إلى الله تعالى، والمبادرة إلى العمل الصالح والقول الفاضل، وكم شهد التاريخ الإسلامي مواقف، مشاهد مشرفة وسبّاقة للمرأة، تميزت بالوعي والحكمة، وإدراك آفاق المستقبل، واستطاعت بها المرأة أن تثبت جدارتها، وتفوّقها أحيانا على الرجال في النواحي الاجتماعية، فاستحقت بهذا بطاقة سامية من الحب والتقدير، والوفاء والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مبينا مبدأ تساوي النّساء والرجال، في مجالات العمل البنّاء الطيب:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
[النّحل: ١٦/ ٩٧].
العمل الصالح: يشمل جميع أعمال الطاعة والخير والإحسان، وهو في ميزان الثواب والحسنات والجزاء الأخروي لا ثمرة له ولا قيمة من دون تقييده بالإيمان، أي التصديق بالله وملائكته وشرائعه المنزلة على أنبيائه ورسله وكتبه، وباليوم الآخر المنتظر للحساب والجزاء، وبالقدر خيره وشره، فإذا لم يقترن العمل الصالح بالإيمان بأركانه المذكورة، لم يحقق الأثر الخالد والمنزلة الحسنة في عالم الآخرة.
وهذه الآية وعد صريح من الله تعالى بالحسنى والمنزلة الكريمة في الآخرة لمن عمل صالحا، سواء أكان ذكرا أم أنثى، والعمل الصالح: هو المطابق لكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، بأداء الفرائض، والمندوبات، وفعل الخير، وكان قلب العامل مؤمنا بالله ورسوله.
ويكون الجزاء لمن آمن وعمل صالحا في الدنيا هو الحياة الطيبة: وهي التي تشمل
ودليل شمول الحياة الطيبة لكل هذا:
الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه».
وروى الإمام أحمد أيضا ومسلم عن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».
وحكى الطبري عن أبي صالح أنه قال: نزلت هذه الآية بسبب قوم من أهل الملل تفاخروا، وقال كل منهم: ملّتي أفضل، فعرّفهم الله في هذه أفضل الملل.
وأما جزاء من آمن وعمل صالحا في الآخرة: فهو الأجر والثواب بأحسن ما كانوا يعملون، أي بقدر أحسن ما كانوا يعملون، وهذا وعد بنعيم الجنة، وهو أحسن جزاء لمن أحسن العمل في الدنيا، وهو حسبما يفعل بالصابرين.
ويكون قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً كما ذكر الألوسي رحمه الله إشارة إلى درء المفاسد، وقوله سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إشارة إلى جلب المصالح. فتكون ثمرة العمل الصالح من الرجل والمرأة على السواء، هي
تعظيم القرآن والغاية من تنزيله
ليس هناك في الدنيا أعظم ولا أشرف ولا أقدس من القرآن الكريم، لأنه كلام رب العالمين، ودستور البشرية، وطريق النجاة والسعادة في الآخرة والدنيا، لذا وجب على المسلم والمسلمة تعظيم القرآن، فلا يتلو أحد منه شيئا، قبل الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وعليه أن يتقبل كل ما أنزله الله فيه، سواء قصد به التشريع لفترة زمنية معينة، أم أريد به الاستمرار والديمومة، والغاية منه تثبيت المؤمنين على الإيمان، وهدايتهم للطريق المستقيم، وتبشير من أطاع بالجنة، وإنذار من عصى بالنار، وليست الهداية الإلهية والتوفيق لمن لا يؤمن بآياته، قال الله تعالى مبينا هذه الأصول:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
«١» «٢» «٣»
(٢) تسلط.
(٣) جبريل عليه السلام.
تبين الآيات مبدأ تعظيم القرآن، فإذا أخذت في قراءة القرآن، أيها النبي وكل مؤمن، فاستعذ بالله، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم، الملعون المطرود من رحمة الله، حتى لا تلتبس عليك القراءة أو التلاوة، ولتتدبر معاني القرآن، والتعوذ مندوب إليه بالإجماع، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة. علما بأن جنس الشيطان ليس له قوة ولا حجة، ولا تسلط على المصدّقين بلقاء الله، والمتوكلين عليه المفوضين أمورهم إليه. إنما تسلط الشيطان بالغواية والإضلال على الذين يطيعونه، ويتخذونه وليا ناصرا لهم من دون الله، والذين هم أشركوا بالله غيره في العبادة والطاعة. وفي الآيات رد على شبهتين لمنكري النبوة، المتأثرين بوساوس الشيطان:
الشبهة الأولى- أن الله تعالى إذا نسخ لفظ آية بلفظ آخر أو بدّل معناها وإن بقي لفظها، والله أعلم بما ينزله من القرآن، قالوا: لو كان من عند الله لم يتبدل، وإنما هو من افتراء محمد، فهو يعدل عن الخطأ إلى الصواب، فأخبر الله أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك، وأنهم لا يعلمون هذا، ولا يدركون ما في التبديل من حكمة ومصلحة للناس.
نزلت هذه الآية حين قال المشركون كفار مكة: إن محمدا، عليه الصلاة والسلام، سخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وينهاهم عنه غدا، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يقوله من تلقاء نفسه، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.
والشبهة الثانية- أن الله أقسم على أنه يعلم علما تاما ما يفتريه المشركون على محمد، فهم يقولون جهلا وافتراء: إنما يعلّم هذا القرآن بشر آدمي، وليس وحيا من عند الله، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان، لا يعرف العربية، غلام لبعض القرشيين، وكان بيّاعا عند الصفا، كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يمرّ عليه، ويكلمه بعض الشيء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش، يقال له بلعام، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكلمه ويعلّمه الإسلام ويرومه عليه، فقالت قريش:
هذا يعلّم محمدا من جهة الأعاجم، فنزلت الآية بسببه. والأعجمي: هو الذي لا يتكلم بالعربية.
فرد الله عليهم افتراءهم، وأبان كذبهم بأن لسان الذين يميلون إليه ويشيرون إليه أعجمي لا عربي، والقرآن كلام عربي واضح البيان، فكيف يتعلم محمد القرآن من شخص عاجز عن البيان، لا يحسن التعبير العربي؟! وهذا كذب حسي مشاهد، وافتراء مفضوح.
لقد قطع الذين لا يؤمنون بآيات الله صلتهم بربهم الذي خلقهم، فحرموا من هداية الله وتوفيقه في الدنيا، وعرّضوا أنفسهم للعذاب الشديد في الآخرة، ودأبوا على الافتراء والكذب، حتى اشتهروا بصفة الكذابين، وهناك فئة أخرى أسوأ منهم وهم المرتدون عن الإسلام، وتاركو الإيمان، فاستحقوا غضب الله وعذابه، وحجبوا قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم عن نور الهداية الربانية، وكانوا حقا هم الخاسرين. قال الله سبحانه مبينا أوصاف هاتين الفئتين:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
«١» «٢» [النّحل: ١٦/ ١٠٤- ١٠٩].
الكلام في هذه الآيات عن فئتين: فئة المفترين الكاذبين، وفئة المرتدين عن الإسلام.
أما المفترون فهم المشركون المعروفون بأنهم الذين لا يؤمنون بآيات الله، ولا يصدقون بما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء لا يهديهم الله، ولا يوفقهم للحق والإيمان بالله وبما أنزل على رسله، لفقد استعدادهم لذلك، ولاقترافهم السيئات والمنكرات، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع، وهم الكاذبون المفترون، وليس
(٢) حقا أو لا محالة.
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إذ الصفة بالشيء أبلغ من الخبر به، لأن الصفة تقتضي الدوام أكثر مما يقتضيه الخبر، فبدأ الله في هذه الآية بالخبر، وهو افتراء الكذب في قوله: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ وإنما: حاصرة أبدا، ثم أكده بالصفة وهي ثبوت صفة الكذب للمشركين وملازمتها لهم.
وأما المؤمن فشأنه الصدق والبعد عن الكذب، وتأكد هذا تاريخيا، فحينما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أجابه بأنه صدوق، وكان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل:
فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
وأما الفئة الثانية في الآيات فهم المرتدّون، وهم الذين كفروا بعد الإيمان، وهؤلاء عليهم غضب من الله ولعنته وطردهم من رحمة الله، ولهم عذاب شديد في الآخرة، لعلمهم بالإيمان، ثم عدولهم عنه، ولأنهم استحبوا وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على الردة، ولم يثبتوا على الإيمان والدين الحق، فتسبّبوا في حجب قلوبهم عن هداية الله، والطبع أو الختم على أفئدتهم وصرفها عن طريق الهدى، بحيث لا ينفذ إليها نور الله، ووصفوا بصفة دائمة بأنهم الغافلون غفلة تامة بعيدة عما يراد بهم من سوء المصير، وكانوا من الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم. وما أسوأ مصير الإنسان إذا انسدّت طرق الحواس لديه، فصارت لا تنفع في شيء، ولا اعتبار لديه ولا تأمّل، وكانوا حقا في الآخرة هم الخاسرين خسارة مطلقة.
والخلاصة: لقد حكم الله على المرتدين بستة أحكام: أنهم استوجبوا غضب الله، واستحقوا العذاب الأليم، واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، لأنهم قوم
واستثنى الله بعض المتظاهرين بالكفر، وهم الذين كفروا بألسنتهم ووافقوا المشركين على مرادهم بالإكراه بسبب الضرب والأذى، ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان بالله ورسوله، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه المشركون، فنال من النبي في ظاهر لسانه.
فقد أخذ المشركون بلالا وخبّابا وعمارا بن ياسر، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حدثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت: أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال: لا، فأنزل الله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
ونفى بعض المفسرين كابن عطية نزول الآية في شأن عمار قائلا:
فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب: فمن شرح بالكفر صدرا، فتح الله عليهم باب التوبة في آخر الآية.
ثواب المهاجرين الصابرين
اقتضت رحمة الله وفضله أن يفتح باب التوبة لبعض المؤمنين الذين جاملوا الكفار المشركين في مكة، ووافقوهم على مرادهم، وإظهار الكفر، والاعتصام بالإيمان في حقيقة الأمر وباطن القلب، وهؤلاء كانوا مستضعفين بمكة، وشأن الضعيف المعذب عادة المجاملة في القول، والإقرار بما يرضي الظلمة، غير أن المعوّل على ما في القلب من إيمان ورضا واطمئنان، قال الله تعالى مبينا فضله على هذه الفئة:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)«١» [النحل: ١٦/ ١١٠- ١١١].
بعد أن أبان القرآن الكريم في الآيات السابقة الجزاء المستحق للمشركين المفترين الكاذبين، وللمرتدين عن الإسلام، فتح باب التوبة والأمل أمام فئة المعذّبين المستضعفين بمكة، من بعد ما فتنهم المشركون أو الشيطان، فوافقوا عتاة الشرك الظلمة، فيما أرادوا منهم من النطق بالكفر، والرجوع عن الإسلام ثم تمكنوا من الخلاص، بالهجرة إلى المدينة المنورة، تاركين بلادهم وأهليهم، ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا في الله حق جهاده في صف الإيمان، ضد جند الكفر وأعوان الشيطان، وصبروا على الأذى والبأس والشدة في المعارك، فأخبر الله تعالى أنه من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة، لغفور لهم، رحيم بهم يوم المعاد. والله دائما يقبل توبة التائبين، ويعفو عن المقصرين، ويرحم المسترحمين والضعفاء الأذلين. ويكون المقصد من الآية: أن من يفتن في دينه، فيتكلم بكلمة الكفر مكرها أو مضطهدا، وصدره غير منشرح للكفر، إذا صلح عمله، وجاهد في سبيل الله، وصبر على المكاره، فالله غفور له، رحيم به. وعبر الله تعالى عن هذه الفئة بكلمة: (ثم) لبيان بعد مرتبة هؤلاء الذين فتنوا في دينهم، وجاهدوا وصبروا، عن مرتبة المفتونين في الدين، ولم يصبروا، ولم يجاهدوا.
ثم نبّه الله على ما يتعرض له كل إنسان مؤمن أو كافر يوم القيامة من محاولة الدفاع عن نفسه، والجدال: وهو الاعتذار عن أموره وأقواله وأفعاله، إنه اليوم الذي تأتي فيه كل نفس تجادل عن نفسها أو ذاتها، كل يقول: نفسي نفسي، كما جاء في آية
وسبب نزول آية المغفرة للمفتونين: هو ما روى ابن سعد في (الطبقات) عن عمر ابن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذّب، حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب، حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة: أن عياشا رضي الله عنه (وكان أخا أبي جهل من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن سلمة الثقفي، فتنهم المشركون، وعذّبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا، ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا، وجاهدوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
تدلنا السيرة المشرفة لهؤلاء على أن الصمود في وجه الظلم والظلمة الذين يفتنون الناس عن دينهم، والتمسك بجوهر العقيدة في مواقف المحنة، هو واجب المؤمن والمؤمنة، فلا تخور عزيمته، ولا يرتد عن دينه، مهما كانت الصعاب.
عاقبة الكفر بالنعم
يحذّر الله تعالى عباده دائما من إهمال شكر النعمة الإلهية، وينذرهم بما قد يتعرضون له من عاقبة وخيمة، بسبب جحود النعم وإنكار فضل الله تعالى، وضرب الله لنا المثل بمكة المكرمة قبل مجيء الإسلام، حيث كانت آمنة مطمئنة، فلا يغزوها
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
[النحل: ١٦/ ١١٢- ١١٣].
هذا مثل صريح ضربه الله عبرة للأمم والبلاد، والجماعات.
والقرية المضروب بها المثل: هي مكّة، كانت بهذه الصفة التي ذكر الله، آمنة من غارات الأعداء، مطمئنة مستقرة ليس فيها مخاوف ولا مشكلات أمنية أو اقتصادية، يأتيها رزقها رغدا، أي هنيئا سهلا واسعا، من سائر البلاد، فكفر أهلها بنعم الله، وجحدوا بها، فعمّهم الله بالجوع والخوف، وبدّلوا بأمنهم خوفا، وبغناهم جوعا وفقرا، وبسرورهم ألما وحزنا، وذاقوا مرارة العيش بعد السعة، بسبب أفعالهم المنكرة، وعبادتهم الأوثان، وتنكرهم للقرآن والشرع والهداية. ومن أتم النعم الإلهية عليهم: أنه جاءهم رسول كريم من جنسهم، عربي قرشي هاشمي، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم، مبلّغ عن ربه، بأنه يعبدوه ويطيعوه، ويشكروه على النعمة، فجاءهم العذاب بسبب ظلمهم.
لقد أصابتهم السنون أي المحل والقحط، وتعرضوا للخوف، وهاجمتهم سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بسبب الكفر والتكذيب، جزاء لسوء صنيعهم وظلمهم.
والراجح عند الرازي وابن عطية أنه قصد بذلك قرية غير معينة، جعلت مثلا، فغير مكة مثلها، فهو عبرة لكل قرية، وجاء الكلام على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة.
والهدف من هذا المثل الذي أرشدت إليه الآية: هو وجوب الإيمان بالله وبالرسل، والتوجّه نحو عبادة الله وحده، وشكره على نعمة وآلائه الكثيرة، والمعرفة الثابتة بأن العذاب الإلهي لاحق بكل من كفر بالله وعصاه، وجحد نعمه الله عليه.
وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم، أي بالكفر والعصيان، إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية، في حق الله تعالى.
والعذاب الإلهي من جنس العمل، سواء في الدنيا، أو في الآخرة، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة، بدّلوا بنقيضها، وهو محقها وسلبها، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية.
ونوع هذا العذاب يختلف بحسب تحديد المراد بالقرية التي جعلت مثلا، فإن كان المراد بها مكة، فالعذاب: هو الجوع والقتل ببدر، والعيش بقلق بسبب ظهور الإسلام وقوته، واستعداد المسلمين لشن الهجوم على مكة وأهلها. وإن كان المراد بالقرية أي قرية أو مدينة قديمة غير معينة، فالعذاب هو الدمار والاستئصال وتخريب العمران وغير ذلك، كمدينة شعيب وقرى قوم لوط.
وأكثر المفسرين على أن المراد بهذه القرية: مكة وأهلها، فإنها كانت آمنة من الحروب، مطمئنة برغد الحياة، فجحدت نعم الله، وأعظمها بعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم
المأكول الحلال والحرام
أحل الله تعالى لنا الطيبات النافعة، وحرم علينا الخبائث الضارة، فكان تشريع الإسلام متفقا مع الصحة والاعتدال، دون تعسف ولا إرهاق وإعنات، وكانت دائرة الحلال في الإسلام أوسع بكثير من دائرة الحرام، فلم يحرم الله علينا شيئا إلا لما فيه ضرر في الصحة والجسد والدين، ولا يجوز لإنسان أن يحلل أو يحرم شيئا برأيه ومزاعمه، كما كان عرب الجاهلية يفعلون. وكان تحريم بعض الأشياء على بني إسرائيل بسبب ظلمهم وبغيهم، قال الله تعالى مبينا الحلال والحرام من الأطعمة وجعله من أصول العبادة والشريعة والعقيدة:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٩]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النحل:
١٦/ ١١٤- ١١٩].
(٢) ألجئ إلى التناول منه.
(٣) غير طالب للمحرم للذة.
(٤) ولا متجاوز ما يسد الرمق.
(٥) بجهل وحماقة.
وحصر الله تعالى بكلمة إِنَّما المفيدة للحصر المحرمات وقت نزول الآية بالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والمذبوح على غير اسم الله، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك، لكن من اضطر أو أكره أي دعته الضرورة وألجأته، من غير بغي ولا عدوان أي غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، ولا متجاوز حدود الله فيها، فلا مانع من تناول هذه المحرمات، ويرخص له أكلها، ويرفع عنه الإثم حال الضرورة، فيغفر الله فعله، ويرحمه فلا يعاقبه على مثل ذلك.
ثم رد الله على المشركين الذين حرموا البحائر والسوائب ونحوها من كل ما حرّموا، وأحلوا ما في بطون بعض الأنعام وإن كان ميتة، فنهى الله المؤمنين عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم، فلا يجوز لكم أيها المشركون أن تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة، من دون اتباع شرع الله، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب من غير دليل ولا حجة، وذلك لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا، من غير إنزال شيء فيه، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه المحض، دون دليل أو وحي من الله، كان من الكاذبين على الله سبحانه. وهناك
ثم أخبر الله تعالى بما حرم على اليهود، فلقد حرمنا على اليهود ما قصصناه عليك في سورة الأنعام، وهو ذوات الأظفار كالأوز والبط، وشحوم الدواب ما عدا السّنام، والمجاور للأمعاء (الحوايا) والمختلط بالعظام، وما كان التحريم بظلم من الله، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه، وذلك الظلم: هو عصيان أوامر الله، ومعاداة الرسل ومعاندتهم، وتجاوز حدودهم، فعوقبوا بما حرمه الله عليهم، كما جاء في آية أخرى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ٤/ ١٦٠]. أي إن التحريم كان صراحة بسبب الظلم والبغي، عقوبة وتشديدا، ووضعا للعقوبة في موضعها.
وعلى الرغم من كون التحريم على اليهود، بسبب ظلم ارتكبوه، فإن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنع من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، فإن ربك غفار ستار، رحيم بالذين افتروا عليه التحريم والتحليل، وعملوا السوء وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي بسبب الجهالة، أي تعدي الطور، وركوب الرأس، ويخرج من الجهالة المتعمد، ثم تابوا وأنابوا إلى الله، وأصلحوا الأعمال على وفق مراد الله ورسوله، فإن الله يغفر الذنب للتائب، ويرحمه في الآخرة والدنيا، أي إن المغفرة والرحمة مرتبطان بالتوبة والإنابة والندم على الأفعال، وإصلاح الأعمال.
إن مضمون الرسالات الإلهية الاعتقادية والأخلاقية هو واحد غير مختلف، فإن جميع الأنبياء والرسل دعوا إلى عبادة الله وحده دون إشراك، وإلى نبذ الوثنية وعبادة الأصنام.
وإلى الأخلاق الكريمة كالصدق والإحسان والوفاء بالعهد، وكان إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه السلام شديد الدعوة إلى هذه الأصول المشتركة، فجاء القرآن يلزم نبينا صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملته والاقتداء به، لاتصافه بصفات تسع هي ما يأتي في هذه الآيات:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٤]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [النحل: ١٦/ ١٢٠- ١٢٤].
لما كشف الله فعل اليهود وتحكّمهم في شرعهم، بذكر ما حرّم عليهم، أراد أن يبين بعدهم عن شرع إبراهيم والافتخار به، وأن يصف حال إبراهيم، ليبين الفرق بين حاله وحالهم وحال قريش أيضا.
وصف الله تعالى في هذه الآيات إبراهيم إمام الحنفاء وأب الأنبياء بتسع صفات وهي:
١- أنه كان أمة، أي رجلا جامعا للخير والصفات الحميدة ومعلما الخير، كالناس الكثير.
(٢) مطيعا.
(٣) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
(٤) حذف النون من ((لم يك)) لكثرة الاستعمال، كحذف الياء من: لا أبال ولا أدر.
(٥) اختاره للنبوة.
(٦) شريعته وهي التوحيد.
(٧) فرض تعظيمه.
٣- وكان حنيفا، أي مائلا عن الشرك والباطل، وداعيا للتوحيد ومؤمنا به.
٤- ولم يكن من المشركين، بل كان من الموحدين في الصغر والكبر.
٥- وكان شاكرا لأنعم الله عليه، أي جميع نعم الله عليه، قليلها وكثيرها.
٦- اجتباه ربه، أي اختاره واصطفاه للنبوة.
٧- وهداه الله إلى صراط مستقيم، أي وفقه في الدعوة إلى الله إلى طريق قويم.
٨- وآتاه الله في الدنيا حسنة، أي حببّه إلى جميع الخلق، فكل أهل الأديان يقرون به، ويعظمونه، سواء المسلمون واليهود والنصارى. فالحسنة: لسان الصدق وإمامته بجميع الخلق.
٩- وإنه في الآخرة في زمرة الصالحين، تحقيقا لدعائه: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣).
وبعد تعداد هذه الصفات التسع لإبراهيم الخليل، عليه السلام، أمر الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباعه، لكماله وصحة توحيده وطريقته، وبعده عن الشرك، وكونه لم يكن من المشركين، واتباع ملة إبراهيم إنما هو في أصول الدعوة، أي الدعوة إلى توحيد الله، وفضائل الأخلاق والأعمال، والوحي إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملة إبراهيم: من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ومن حسنات إبراهيم: تعظيمه يوم الجمعة واختياره للعبادة، كما اختاره نبينا عليه الصلاة والسلام، لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، وتمت فيه النعمة على العباد.
أما تعظيم اليهود السبت واختيارهم إياه فلأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا
وكان باقي الآية وعيدا لهم، فالله يفصل بين الفريقين من اليهود فيما اختلفوا فيه في شأن اتباع موسى وعيسى، ويجازي كل فريق بما يستحق من ثواب وعقاب. وظل اليهود متمسكين بتعظيم السبت، حتى بعث الله عيسى عليه السلام، فحولهم إلى يوم الأحد، كما تحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة. ثم عدلوا عن تحويل عيسى، وعادوا إلى ما كانوا عليه.
وهناك اختلاف آخر بيّن اليهود، غير الاختلاف المذكور في الآية، ذكره نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الحديث، حيث قال فيما رواه الشافعي والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد».
يظهر من إبراز هذه الاختلافات مراد واضح لله عز وجل وهو أن تتحد الأمم والشعوب، والجماعات والأفراد على عقيدة واحدة وعبادة واحدة، وأخلاق ومعاملات واحدة، وعادات ومناهج واحدة، وحينئذ يعم الخير، ويسود السلام، وتنتهي المنازعات إلى يوم القيامة.
النجاح المحقّق والدائم في الأعمال يتوقف على الأسلوب الناجح والمنهج المعقول، والخطة السليمة، وبما أن غرس العقيدة في القلب ليس أمرا سهلا، فيحتاج ذلك إلى حكمة في الخطاب، وإثارة العاطفة، وإقناع العقل، وتنبيه الفكر، وإذا استخدمت هذه الوسائل، ولم تحقق الهدف المطلوب، كان الموقف من المخاطبين متسما بالعناد وركوب الرأس، والتأثر بالأهواء والمصالح أو لعوامل أخرى كالتبعة إلى سيد أو قائد، والمهم التزام الأسلوب الحسن، كما قال الله تعالى في الدّعوة إلى دين الله تعالى:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٨]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
«١» [النحل: ١٦/ ١٢٥- ١٢٨].
اشتملت الآيات على بيان أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وعلى العدالة والمماثلة في العقاب، وعلى الصبر في المحن والمصائب.
وسبب نزول الآية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ... فيما
روى الحاكم والبيهقي والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثّل به، فقال، لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف، بخواتيم سورة النحل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ...
أي من الانتقام والأخذ بالثأر لحمزة.
فهذه الآية نزلت في شأن التمثيل بالحمزة رضي الله عنه في يوم أحد. وقيل لهرم ابن حبان حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية في المال، ولا مال لي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الآيات.
والمعنى: ادع أيها النبي الناس إلى دين الله وشريعة ربك، وهي الإسلام، بالحكمة: أي بالقول المحكم، والموعظة الحسنة، أي بالعبرة والتوجيه والكلمة المؤثرة في القلوب، والتلطف بالإنسان، بإحلاله وتنشيطه، ليحذر الناس بأس الله تعالى، ويحققوا لأنفسهم النجاح، وجادلهم بالتي هي أحسن، أي وحاججهم محاجة تتصف بالحسن، والإقناع، وبالرفق واللين، ولطف الخطاب، والصفح عن المسيء، وقابل الإساءة بالإحسان، واقصد من الجدال الوصول إلى الحق، دون رفع الصوت أو السبّ أو التعيير أو التهكّم والاستهزاء، كما قال الله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: ٢٩/ ٤٦].
ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالمجاملة في القول: وهي أنه سبحانه علم الشقي والسعيد من الناس، ومن حاد أو انحرف عن سبيل الله والحق، وهو مجازيهم على ضلالهم واهتدائهم حين لقاء ربهم، فله وحده الجزاء والحساب، لا لأحد من البشر ولو كان نبيا.
والعقاب ينبغي أن يكون بالمثل، فإن عاقبتم أحدا من الناس على إساءته أو جرمه، فعاقبوه بمثل فعله، فذلك هو موجب العدل، ولئن صبرتم على الأذى وصفحتم عن المسيء، فالصبر والعفو خير للصابرين أو العافين من الانتقام، لأن انتقام الله أشد، وعقابه أعظم. فهذه الآية كما تقدم بإجماع المفسرين مدنية نزلت في
اصبر أيها النبي على ما أصابك من أذى في سبيل الدعوة، وما صبرك إلا بعون الله وتوفيقه ومشيئته، ولا تجزع أو لا تحزن على إعراض المشركين والمخالفين المعادين، فإن الله قدّر ذلك، ولا تحزن على قتلى أحد، فترك الحزن مما يستعان به على الصبر، ولا تكن في غم وضيق صدر من مكرهم وتدبيرهم الكيد لك، ومحاولتهم إلحاق السوء والأذى بك، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك.
إن الله مع المتقين الذين تركوا المحارم، واجتنبوا المعاصي، إنه تعالى معهم بالنصر والعون والتأييد، والله مع المحسنين أعمالهم برعاية الفرائض والمندوبات في فعل الخير، والقيام بالطاعة، وأداء الحقوق، وفعل الواجبات. والصبر: من التقوى والإحسان. إن هذه المعية لله مع المتقين والمحسنين معية خاصة، يراد بها الإعانة والتأييد والهداية.