تفسير سورة الكهف

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

اوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري وهو انما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات وبترك الرسوم والعادات الراسخة في نفوس اصحاب الجهالات وبالركون الى العزلة والخمول والخلوات والانقطاع عن رسوم اصحاب التخمينات والتقليدات والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات. وفقنا الله وإياكم بسلوك طريق التوحيد ورزقنا الوصول الى منزل التجريد والتفريد وجعلنا من زمرة اهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد انه سبحانه قريب مجيب حميد مجيد
[سورة الكهف]
فاتحة سورة الكهف
لا يخفى على المحققين المحمديين المتحققين بمقام المعرفة والتوحيد بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم المسترشدين من القرآن المجيد المنزل عليه المفصل لمرتبته صلّى الله عليه وسلّم الموضح لشأنه في المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المبين لعروجه الى معارج العنايات الإلهية وسلوكه في مسالك توحيده على الاستقامة والاعتدال بلا عوج وانحراف ان من وفق من عند الله على سلوك طريق التوحيد من ارباب العناية قد ظهر عليه ولاح دونه استقامة القرآن المنزل على العدالة والقسط الإلهي وبراءته عن العوج والانحراف وكذا اعتدال اخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقابلته ومطابقته إياه في الاستقامة والاستواء إذ هو منزل من عنده سبحانه بمقتضى استعداده صلّى الله عليه وسلّم على وفق مرتبته الجامعة لجميع مراتب الأنبياء والرسل الهادين المهديين إذ هي مبدأ جميع المراتب ومنتهاها ايضا لذلك كمل ببعثته وإرساله صلّى الله عليه وسلّم امر الدين وختم بإقامته صلّى الله عليه وسلم باب الرسالة والتشريع وقد سد بانزال القرآن عليه باب التنزيل والتبيين مطلقا لذلك قد وجبت له صلّى الله عليه وسلّم ولجميع من آمن له واقتفى اثره مواظبة حمد الله والاقامة بأداء شكره على انعام هذه النعمة الجليلة التي هي نعمة القرآن الفارق بين ارباب اليقين والعرفان وبين اصحاب الزيغ والطغيان لذلك اخبر سبحانه بالحمد على نفسه تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا لامته فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بذاته باعتبار اتصافه بعموم أوصاف الكمال لعبده الذي قد انتخبه واصطفاه من بين عباده بمقتضى الكرم والإفضال الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرسال هذا العبد رسولا إليهم هاديا لهم الى درجات الكمال الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسّلام الى زلال الوصال
[الآيات]
الْحَمْدُ المشتمل المتضمن على عموم الاثنية والتوصيف بالأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة مطلقا حقيق لائق لِلَّهِ اى للذات المستجمع لجميع أوصاف الكمال المستحق لعموم المحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا الجميل الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ المستجمع لجميع مراتب الكمال المستظل بظل الألوهية المستحق لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه بالأصالة يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الجامع لجميع أوصاف الكمال اجمالا وتفصيلا المشتمل على عموم الاحكام والأخلاق المتعلقة لها المترتبة عليها في النشأة الاولى والأخرى مع كونه محتويا على عموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب من الرموز والإشارات المتعلقة بالتوحيد الذاتي المسقط لعرق الإضافات والكثرات مطلقا وَبين لهم فيه طريق التوحيد الذاتي على الوجه الأعدل الأبلغ الأتم الأقوم بحيث لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وانحرافا في تبيينه
بل قد جعله قَيِّماً مستقيما معتدلا بين طرفي
الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا وانما أنزله على عبده وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لِيُنْذِرَ هو صلّى الله عليه وسلّم بانذاراته الكافرين الذين كفروا بالله وجحدوا في توحيده وعملوا السيئات المبعدة لهم عن طريق النجاة بَأْساً شَدِيداً وعذابا أليما عظيما صادرا مِنْ لَدُنْهُ اى من عند الله العزيز المنتقم بطشا لهم وانتقاما منهم وَيُبَشِّرَ ايضا بتبشيراته الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مرتبة التوحيد الصادرة عنهم بمقتضى يقينهم وعرفانهم أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً حَسَناً هو التحقق بشرف اللقاء والفوز بمطالعة جمال الله والاستغراق عند وجهه الكريم
ماكِثِينَ فِيهِ اى في الأجر الحسن دائمين أَبَداً مؤبدا مخلدا بلا تبديل وتغيير مزيدين المحبة واللذة والشوق والارادة متعطشين الى زلال التفريد بلا رواء أصلا كما اخبر سبحانه عن حال أولئك الوالهين بقوله إلا طال شوق الأبرار الى لقائي
وَيُنْذِرَ ايضا أشد إنذار بأسوء عذاب ووبال الَّذِينَ قالُوا من فرط إسرافهم في الشرك والجحود وهم اليهود والنصارى قد اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المنزه عن الأهل والولد وَلَداً حيث قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله
مع انه ما لَهُمْ بِهِ بالله وباتخاذه ولدا مِنْ عِلْمٍ يقين او ظن متعلق منهم به وبمعناه وبما يترتب عليه من النقص المنافى لوجوب وجوده إذ اتخاذه انما هو للاخلاف او المظاهرة والتزين وكلاهما محالان على الله لا يليقان بجنابه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَلا لِآبائِهِمْ يعنى وان ادعوا اثبات الولد لله تقليدا للاباء والاسلاف فليس لهم ايضا علم بنقصه وعدم لياقته بجناب الحق المنزه المقدس في ذاته عن امارات النقصان وعلامات الإمكان مطلقا وبالجملة قد كَبُرَتْ اى جلت وعظمت في الكفر والجحود وسوء الأدب مع الله كَلِمَةً اى مقالتهم هذه مع انها تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا علم وتأمل بل إِنْ يَقُولُونَ وما يقصدون بقولهم هذا إِلَّا كَذِباً مينا وافتراء يفترونه على الله وينسبونه الى كتابهم ظلما وزورا وبعد ما كان حالهم في الافتراء والمراء على هذا المنوال وشدة غيظهم وشكيمتهم مع الله على هذا المثال
فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل بمجرد محبتك إياهم وبميلك الى ايمانهم وبرجائك وتحننك الى متابعتهم وبيعتهم معك باخِعٌ نَفْسَكَ اى قاتلها ومهلكها عَلى آثارِهِمْ بعد ما انصرفوا عنك وذهبوا من عندك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا اى انهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا بِهذَا الْحَدِيثِ اى القرآن أَسَفاً يعنى أهلكت نفسك بكثرة التأسف والتحزن على ذهابهم وانصرافهم عنك وعدم ايمانهم وانقيادهم بك وان حداك وبعثك الى ايمانهم واتباعهم غناؤهم ورئاستهم وترفههم وجاههم وثروتهم وسيادتهم بين الناس فاعلم انها لا اعتداد لها ولا اعتبار لما يترتب عليها
إِنَّا ما قد جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأصول الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن وما يتفرع عليها ويتخذ منها من انواع اللذات والشهوات الجسمانية الوهمية وما أظهرناها الا زِينَةً لَها وزخرفة عليها لِنَبْلُوَهُمْ ونختبرهم اى ارباب التكاليف والتدابير المجبولين على فطرة المعرفة والتوحيد أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأتم رشدا وعقلا في الاعراض عنها وعدم الالتفات إليها والاجتناب عن لذاتها الوهمية التي هي دائرة على التقضي والانصرام وشهواتها المورثة لانواع الحزن والآلام وأمانيها المستلزمة لأصناف الجرائم والآثام مع ان الضروري منها في نفس الأمر ما هو الاكن حجرة ولبس خرقة وسد جوعة وباقيها حطام ليس لها دوام مورث لاسقام وآلام
وَمتى علمت ان ما على
الأرض ليس الا زينة وزخرفة ستفنى وتفوت عن قريب بل هي زائلة حين ثقاتها فانية وقت وجودها وبقائها فاعلم يقينا إِنَّا بشدة حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا لَجاعِلُونَ مصيرون مبدلون جميع ما عَلَيْها من الزخارف والذخائر صَعِيداً ترابا مرتفعة أملس جُرُزاً خالية منقطعة عن النبات بحيث لا تنبت أصلا أعجبت واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيدا جرزا لذلك
أَمْ حَسِبْتَ وشككت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ اى قصتهم وشانهم والكهف هو الغار الواسع في الجبل وَالرَّقِيمِ هو اسم الجبل الذي فيه الغار او اسم الوادي الذي فيه الكهف او اسم قريتهم او كلبهم او لوح رصاصى او حجري قد رقم فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف او اصحاب الرقيم هم قوم آخرون على اختلاف الأقوال والروايات وبالجملة قد كانُوا مِنْ آياتِنا الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا عَجَباً اى آية يتعجب منها الناس ويستبعدون وقوعها مع انه لا شك في وقوعها إذ قد بلغت من التواتر حدا لا يتوهم فيها الكذب قطعا إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة سهل يسير ولو رفعت ايها المعتبر المتأمل الالف والعادة عن البين وطرحت تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين لكان ظهور كل ذرة من ذرائر العالم في التعجب والاستبعاد وكمال الغرابة والبداعة مثل هذا بل اغرب واعجب من هذا فلك ان تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشانك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر حسك وفهمك وتكل ادراكاتك وآلاتك وبالجملة قد تحيرت وصرت مستغرقا في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك. أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور
اذكر يا أكمل الرسل قصة اصحاب الكهف وقت إِذْ أَوَى اى التجأ ورجع الْفِتْيَةُ الخمسة او السبعة او الثمانية من اشراف الروم ورؤسائهم حين دعاهم ملكهم دقيانوس الى الشرك وهم موحدون في أنفسهم فأبوا منه وهربوا إِلَى الْكَهْفِ ملتجئين إلينا فَقالُوا مناجين مستغيثين من الله رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم ووفقنا بشرف توحيدك وتقديسك آتِنا بفضلك وجودك مِنْ لَدُنْكَ لا بسبب أعمالنا ومقتضياتها رَحْمَةً تنجينا عن يد عدونا وعذابه وعن وبال ما دعانا اليه من الكفر والعصيان وَهَيِّئْ لَنا اسباب معاشنا حين كنا فارين من العدو ملتجئين إليك مستعيذين بكنفك وجوارك ووفق علينا مِنْ أَمْرِنا الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم رَشَداً وهداية توصلنا الى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوف وخطر فاستجبنا لهم وأجبنا مناجاتهم وأعطينا حاجاتهم وبعد ما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين إلينا
فَضَرَبْنا وختمنا عَلَى آذانِهِمْ حين كانوا راقدين فِي الْكَهْفِ حجابا غليظا يمنعهم سماع الأصوات مطلقا وأنمناهم على هذا الوجه سِنِينَ عَدَداً بلا طعام ولا شراب وبلا شيء من اسباب المعاش وبالجملة هم احياء في صور الأموات منقطعين عن لوازم الحياة الصورية مطلقا سوى ان أنفاسهم تجئ وتذهب
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم من منامهم بعث الموتى للحشر لِنَعْلَمَ اى نجرب ونميز أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين بعد ما اختلفوا في مدة لبثهم أَحْصى اى اضبط واحفظ لِما لَبِثُوا من المدة أَمَداً يعنى أيهم احفظ ضبطا لمدة رقودهم في الكهف فكلا الفريقين اى اليهود والنصارى لا يعلمان مدة لبثهم حقا مطابقا للواقع
بل نَحْنُ نَقُصُّ من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل نَبَأَهُمْ اى خبر مدة لبثهم ملتبسا بِالْحَقِّ الثابت الصحيح المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ اى شبان من ارباب الفتوة والمروة وفقوا من عند الله
بالعقل الكامل والرشد التام الى ان آمَنُوا وأذعنوا بِرَبِّهِمْ اى بوحدة مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم الى دلائل توحيده وَزِدْناهُمْ من لدنا بعد ما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُدىً وزيادة رشد تفضلا وامتنانا
وَاثبتناهم في جادة الهداية والتوفيق بان رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ محبة الايمان والعرفان اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم الى الشرك والكفر على رؤس الملأ وهم بعد ما سمعوا منه دعوته قاموا من مجلسه منكرين فَقالُوا بلا مبالاة له ولسطوته وشوكته رَبُّنا اى الذي أظهرنا من كتم العدم وأوجدنا في فضاء الوجود ألا وهو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى هو مربى العلويات والسفليات والغيوب والشهادات والظاهر والباطن قد أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركة مشير ومظاهرة ظهير ووزير وهو المستحق للالوهية والربوبية لَنْ نَدْعُوَا ولن نعبد مِنْ دُونِهِ سبحانه إِلهاً باطلا إذ لا مستحق للعبادة الا هو والله لئن دعونا وعبدنا الها سواه لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً اى قولا باطلا بعيدا عن الحق والتحقيق بمراحل وصرنا حينئذ مغمورين في الشرك والكفر وانواع الضلال والطغيان عصمنا الله منها
ثم قالوا على سبيل التعريض والتسفيه هؤُلاءِ الضالون من منهج الرشد ومسلك السداد قَوْمُنَا اتَّخَذُوا من شدة غوايتهم وضلالهم مِنْ دُونِهِ سبحانه آلِهَةً باطلة اى أصناما وأوثانا يعبدونها كعبادة الله لَوْلا وهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ اى بحجة واضحة وبينة لائحة معجزة صادقة باهرة صادرة من قبلهم دالة على لياقتهم الألوهية والربوبية فان لم يأتوا فما هم الا مفترون على الله بإثبات الشريك له فَمَنْ أَظْلَمُ واطغى وأضل واغوى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية باتخاذ الشريك سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة كَذِباً مخالفا للواقع غير مطابق له بلا مستند عقلي او نقلي بل ظلما وزورا وبعد ما قد جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى قال بعض الفتية لبعضهم قد وجب اليوم علينا الاعتزال منهم
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ايها الموحدون وهجرتموهم وَكذا ما يَعْبُدُونَ اى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان التي هم يعتقدونها آلهة شركاء مع الله يعبدونها كعبادته وما تعبدون أنتم حينئذ إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة وتخلصون العبادة له سبحانه بلا خوف منهم ودهشة من مكرهم ومكائدهم وان فعلتم هكذا لكان اولى وأليق بحالكم وبالجملة اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم فاعتزلوا منهم واخرجوا من أظهرهم فارين فَأْوُوا وانصرفوا إِلَى الْكَهْفِ المعهود ملتجئين الى ربكم من خوف عدوكم متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم وان انصرفتم ورجعتم كذلك يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ بعد ما اخلصتم العمل إياه وفررتم نحوه موائد إحسانه ويبسط عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ وجوده ما تعيشون به وتبقون بسببه ان تعلق مشيته سبحانه لإبقائكم وَبعد ما التجأتم الى الله وتوكلتم عليه مفوضين أموركم كلها اليه يُهَيِّئْ لَكُمْ البتة ويسهل عليكم مِنْ أَمْرِكُمْ الذي اخترتم لرضاء الله ورعاية جانبه مِرفَقاً اى ما ترتفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية بدل ما فوتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية
وَمن كمال رفق الله إياهم ورأفته معهم تَرَى الشَّمْسَ ايها الرائي إِذا طَلَعَتْ من مشرقها في مدة الصيف حين ازدياد حرارتها تَتَزاوَرُ اى تتقلب وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ اى جانب يمين الغار لئلا تؤذيهم بشعاعها وحرارتها وَإِذا غَرَبَتْ
اى زالت ومالت عن الاستواء نحو المغرب تَقْرِضُهُمْ وتقطعهم وتنصرف عنهم ذاتَ الشِّمالِ اى جانب يسار الغار لحفظهم وحضانتهم عن حرها وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ اى والحال انه هم في متسع الغار ووسطه لا في زواياه بحيث لو لم يكن رعاية الله وحفظه إياهم وصرف شعاع الشمس عنهم لكانت متشعشعة عليهم الى وقت الغروب ذلِكَ اى نشر الرحمة وتهيئة الرفق والرأفة وصرف أذى الشمس وكذا صرف جميع المؤذيات عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قبوله سبحانه إياهم ورضاه عنهم لكونهم مهتدين الى زلال توحيده موفقين من عنده مبتغين لرضاه متوكلين عليه في جميع الأمور راضين بقضائه في كل الأحوال مخلصين له في عموم الأعمال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وأراد هدايته في سابق علمه وقضائه ومضى عليه حكمه ورضاؤه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الموفق على الهداية والفوز بالفلاح المقصور عليها وان لم يصدر ولم يسبق منه الأعمال الصالحة تفضلا من الله إياه وامتنانا له من لدنه وَمَنْ يُضْلِلْ الله وتعلق مشيته بضلاله في سابق قضائه فهو الضال المقصور على الضلالة وان صدرت عنه الأعمال الصالحة لا يتبدل ضلالها أصلا وبعد ما أراد الحق ضلاله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا يتولى امره بالشفاعة لينقذه من الضلال الفطري ويخرجه عن الوبال الجبلي مُرْشِداً يهديه ويرشده الى طريق الرشد ومنهج السداد
وَمن كمال لطف الله إياهم ووفور رأفته معهم لو رأيتهم ايها الرائي في مضاجعهم ومراقدهم تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متيقظين لانفتاح عيونهم وورود أنفاسهم وعدم نتنهم وانفساخهم وَهُمْ في أنفسهم رُقُودٌ نائمون مستريحون وَنُقَلِّبُهُمْ عناية منا إياهم وقت احتياجهم الى التقلب ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ كي لا تؤثر الأرض باضلاعهم وجوانبهم وَكَلْبُهُمْ هو كلب قد مروا عليه حين اوائهم ورجوعهم نحو الغار معتزلين فلحقهم فطردوه مرارا فلم يطرد فانطقه الله تعالى فقال انا أحب اولياء الله وأحباءه دعوني اقتفى اثركم فتركوه فتبعهم وقيل هو كلب راع قد مضوا عليه فأطعمهم وحكوا عليه حالهم فتبعهم وتبعه كلبه وقراءة من قرأ وكالبهم يؤيد هذا باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ اى بالباب او العتبة او الفناء وبالجملة لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ايها الرائي ورأيت هيئة رقودهم في تلك الغار المهيب لَوَلَّيْتَ اى استدبرت ورجعت قهقرى هربا وهولا مِنْهُمْ فِراراً من هيبتهم وهيئتهم وَلَمُلِئْتَ واملأت صدرك مِنْهُمْ رُعْباً خوفا ومهابة من رقودهم منفتحة العيون عظيمة الأجسام في غار مهيب في خلال جبال عوال طوال بعيد عن العمران
وَكما ارقدناهم وأنمناهم على هذا الوجه العجيب والطرز الغريب كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم لِيَتَسائَلُوا ويتقاولوا بَيْنَهُمْ حتى يستشعروا عن مدة رقودهم ولبثهم في الغار ليطلعوا على كمال قدرة الله ووفور جوده ورحمته عليهم ليزدادوا ايمانا يقينا واطمئنانا واعتمادا ووثوقا على كرم الله وفضله وغاية لطفه وبعد ما قاموا من هجعتهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ راقدين في هذا الغار قالُوا على سبيل الظن والتخمين إذ النائم لاطلاع له على مدة نومه لَبِثْنا يَوْماً تاما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم قد دخلوا الغار غدوة وانتبهوا في الظهيرة فظنوا انهم في يومهم او الذي بعده ثم لما شاهدوا طول اظفارهم واشعارهم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إذ هو قائم حاضر في كل حال بلا تبدل واختلال ونحن قد كنا نائمين لا شعور لنا بمدة رقودنا ايضا ولا يهم لنا تعيينها بل أهم أمورنا الآن الطعام إذ نحن جيعان فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ نحو المدينة مصحوبا بِوَرِقِكُمْ اى بعينكم ونقدكم المضروبة المسكوكة والورق في اللغة الفضة سواء كانت مضروبة أم لا والمراد هنا المضروبة هذِهِ
اشارة الى ما في يد القائل من النقد إِلَى الْمَدِينَةِ وهي طرسوس التي فروا منها من دقيانوس فَلْيَنْظُرْ الذاهب المرسل منا وليتأمل أَيُّها اى اى طبيخة طباخ أَزْكى أنظف وألذ طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ حتى نطعم ونحن جيعان وَلْيَتَلَطَّفْ الذاهب مع اهل السوق وليجامل معهم في المعاملة وَليخرج منها سريعا حتى لا يُشْعِرَنَّ ولا يطلعن القاصد بِكُمْ اى بحالكم ومكانكم أَحَداً من اهل البلد
إِنَّهُمْ بعد اطلاعهم وشعورهم إِنْ يَظْهَرُوا ويغلبوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ويقتلوكم بضرب الأحجار البتة أَوْ يُعِيدُوكُمْ ويرجعوكم مرتدين فِي مِلَّتِهِمْ التي قد كنتم عليها قبل انكشافكم بالتوحيد وَلَنْ تُفْلِحُوا ولن تفوزوا بالفلاح والصلاح إِذاً اى حين عودكم وارتدادكم إليها أَبَداً اى لا يرجى فلاحكم بعد ارتدادكم أصلا ثم لما أرسلوا واحدا منهم الى البلدة فدخل على السوق ودار حول الطباخين واختار طبيخة زكية واخرج الدرهم ليشتري الطعام وكان عليه اسم دقيانوس فاتهموه بانه وجد كنزا فذهبوا به الى الملك وكان الملك نصرانيا موحدا فقص عليه القصة عن آخرها فقال بعض الحضار ان أبانا قد أخبرونا ان فتية قد فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء فانطلق الملك وجميع اهل المدينة مؤمنهم وكافرهم فابصروهم وكلموا معهم ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك من شر الجن والانس ثم رجعوا الى مضاجعهم وباتوا فماتوا فدفنهم الملك وبنى عليهم مسجدا
وَكما أنمناهم نوما طويلا شبيها بالموت ورحمناهم حيث نقلبهم من جانب الى جانب وحفظناهم من حر الشمس وانواع المؤذيات وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر ليزدادوا ثقة وبصيرة على الله كَذلِكَ أَعْثَرْنا واطلعنا عَلَيْهِمْ وعلى من شاهد حالهم وسمع قصتهم من المؤمنين لِيَعْلَمُوا ويتيقنوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء حَقٌّ ثابت لائق له ان ينجزه بلا خلفه وَيتيقنوا خصوصا أَنَّ السَّاعَةَ اى الموعودة التي قد وعدها الحق بألسنة جميع الأنبياء ورسله آتية لا رَيْبَ فِيها وارتفع نزاع الناس فيها ببعثة هؤلاء الفتية بعد ثلاثمائة وتسع سنين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ المتعلق بدينهم في الحشر والمعاد الجسماني إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة وبعثهم بعدها قادر على احياء جميع الموتى من قبورهم واعادة الروح الى أجسامهم إذ أمثال هذا أسهل يسير في جنب قدرة الله وارادته وبعد ما بعثناهم من مراقدهم واطلعنا الناس عليهم فمضوا وتكلموا معهم وحكوا ما حكوا واخبر القوم لهم بمدة رقودهم واستودعوا مع القوم ورجعوا نحو المراقد وباتوا فماتوا وانقرضوا فاختلف الناس في أمرهم وشأنهم فقال المسلمون هم منا لأنهم موحدون وقال الكافرون لا بل هم منا إذ هم أولاد الكفار وبالجملة فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً قال المسلمون نحن نبنى عليهم مسجدا وقال الكافرون نحن نبنى عليهم كنيسة وكلا الفريقين ليسوا عالمين لا بكفرهم ولا بايمانهم بل رَبُّهُمْ الذي رباهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة أَعْلَمُ بِهِمْ وبحالهم فأمرهم موكول الى الله مفوض اليه سبحانه ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ بالقوة والحجة وهم الموحدون المسلمون لَنَتَّخِذَنَّ ولنبنين عَلَيْهِمْ مَسْجِداً نتوجه فيه لله ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة فاتخذوا مسجدا وجعلوه مرجعا يرجع نحوه الأقاصي والأداني ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم ذكر سبحانه أقوالهم أولا
ثم بين ما هو اولى وأحق وأوفق للواقع فقال سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ اى مصيرهم اربعة كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ
اى مصيرهم ستة كَلْبُهُمْ كلا القولين الاول قول اليهود والثاني قول النصارى قد صدر عنهم رَجْماً ورميا بِالْغَيْبِ إذ لا مستند لهم لا من التواريخ ولا من اقوال الرسل والكتب وَيَقُولُونَ هم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ اى مصيرهم ثمانية كَلْبُهُمْ والواو وان كان مقحما أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به ليدل على صدقه ومطابقته للواقع ومثله في القرآن كثير منه قوله تعالى وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم وغير ذلك وهي مثل الواو في قولهم جاءني زيد ومعه ثوب هذا قول المؤمنين قد أخذوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو من جبرائيل عليه السّلام وجبرائيل من الله العزيز العليم فان شكوا فيه ايضا ونسبوه الى الرمي والتخمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إذ لا يعزب عن علمه شيء من أحوالهم من أول أمرهم الى آخره إذ علمه سبحانه بعموم معلوماته حضورى لا يعزب عن حضوره شيء أصلا وهم ما يَعْلَمُهُمْ عن أحوالهم إِلَّا قَلِيلٌ بالاخبار والتواريخ وأكثرها غير مطابق للواقع ولما كان قولهم وعلمهم راجعا الى الرجم والرمي بلا مستند فَلا تُمارِ ولا تجادل يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في حق الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً اى جدالا خفيفا مقتصرا على ما قد أوحينا إليك لا متعمقا غليظا بان تجهلهم وتسفههم وتضحك أنت من قولهم وتنسبهم الى الخرافة والخرق وَلا تَسْتَفْتِ ايضا ولا تسأل فِيهِمْ اى في حق الفتية وشأنهم مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب أَحَداً ايدا يعنى لا تستفت أنت يا أكمل الرسل أحدا منهم عن قصتهم وشأنهم بعد ما قد ظهر عندك أمرهم بالوحي والإلهام الإلهي إذ استفتاؤك بعد الوحى اما سؤال تعنت وامتحان فهو لا يليق برتبة النبوة والرسالة بعيد بمراحل عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة البنوة واما سؤال استعلام واسترشاد فهم قاصرون عاجزون عنها مع انه لا معنى للسؤال بعد الوحى ثم لما امر اليهود للقريش ان يسألوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سؤال تعنت وامتحان عن الروح وذي القرنين واصحاب الكهف فسألوا فقال صلّى الله عليه وسلم ائتوني غدا أخبركم عنها قاله هكذا بلا استثناء وتعليق بمشية الله تعالى تبركا اى لم يقل ان شاء الله فانسد عليه صلّى الله عليه وسلّم باب الوحى بضعة عشر يوما فشق الأمر عليه صلّى الله عليه وسلم وكذبته القريش فتحزن حزنا شديدا فنهاه سبحانه نهيا مؤكدا وأدبه تأديبا بليغا لئلا يترك الاستثناء في مطلق الأمور أصلا
فقال وَلا تَقُولَنَّ أنت يا أكمل الرسل البتة لِشَيْءٍ قد عزمت عليه وأردت ان تفعله إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً على سبيل البت والمبالغة
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اى الا ان تذكر وتجئ بالاستثناء بعد عزمك بقولك ان شاء الله وَبالجملة اذْكُرْ رَبَّكَ يا أكمل الرسل إِذا نَسِيتَ وتركت ذكر الاستثناء والتعليق على مشية الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالاصدار بعد ما تذكرت نسيانك تلافيا لما نسيت وتداركا لما تركت ولو بعد حين بل سنة فقل ان شاء الله متذكرا الأمر الذي قد تركت التعليق فيه قضاء لما فات وَقُلْ بعد ما قد كشفنا عليك جوابهم هذا شكرا له وابتهاجا عليه وطلبا للمزيد منه سبحانه عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي وأرجو من فضله وجوده ان يرشدني ويدلني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً اى لأمر هو اقرب دلالة من امر اصحاب الكهف وقصتهم الى الهداية والرشد وأوضح إيصالا الى مسلك الصواب والسداد تأييدا لنبوتي وتشييدا لرسالتي وقد هداه وأرشده بأعظم من ذلك كالاخبار عن بعض الغيوب وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم
وامارات الساعة وأشراطها وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثين في العالمين الجاريين في النشأتين
وَكما اختلف اهل الكتاب في عدد الفتية اختلفوا ايضا في مدة لبثهم في النار راقدين نائمين قال بعضهم قد لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالسنة الشمسية على ما هو المشهور وَبعضهم قد ازْدَادُوا عليها تِسْعاً من تلك السنة ايضا وان كان المراد بالسنة الاولى شمسية والثانية قمرية كان كلا القولين واحدا موافقا لان التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون الزيادة في ثلاث مائة تسع سنين قمرية
قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما لم يوجد شيء يوثق به ويعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان اللَّهُ المطلع لجميع السرائر والخفايا أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا اى بمدة لبثهم في كهفهم راقدين إذ لَهُ سبحانه لا لغيره من مظاهره واظلاله غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات والسفليات اطلاعا حضوريا شهوديا بحيث لا يجرى في مبصراته ومسموعاته سبحانه من كمال انكشافه وانجلائه عنده ان يقال له أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ كما يجرى في مبصراتنا ومسموعاتنا لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء بل عموم المغيبات والمحسوسات في جنب حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوت أصلا. ثم قال سبحانه ما لَهُمْ اى لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ اى من دون الله المراقب مِنْ وَلِيٍّ يتوليهم ويلي أمورهم إذ هو سبحانه مستقل بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة احد ومعاونته وَلا يُشْرِكُ بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه فِي حُكْمِهِ السابق في قضائه اجمالا واللاحق في قدره تفصيلا أَحَداً من مظاهره ومصنوعاته بل له الإيجاد والاعدام والأحياء والاماتة والتخليق والترزيق وجميع ما ظهر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية وكذا جميع ما حدث من الحوادث الجارية الكائنة في الأنفس والآفاق كلها مستندة اليه تعالى أولا وبالذات بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة الى اولى الأحلام السخيفة وذوى الحجب الكثيفة المنافية لرؤية الحق وانجلائه في المظاهر كلها واما ارباب الوصول والشهود وهم الذين قد رتقوا حجب الخيالات وسدل الأوهام والعادات فلا يرون في الوجود سواه ولا اله عندهم في الشهود الا هو لذلك لم يسندوا شيأ من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية الا له سبحانه إذ ليس وراء الله عندهم مرمى ومنتهى
وَإذا كان مفاتيح جميع المغيبات ومقاليد عموم العلوم والإدراكات وكذا جميع ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلها مستندة اليه سبحانه اصالة ناشئة من لدنه حقيقة اتْلُ يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمنين ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ على الوجه الذي انزل إليك بلا تبديل ولا تحريف إذ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ولا متصرف في كلامه سواه ولا تسمع قول المشركين ائت بقرآن غير هذا او بدله إذ لا يسع لاحد ان يبدله ويحرفه وَان هممت أنت الى تبديله من تلقاء نفسك لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ سبحانه مُلْتَحَداً ملاذا وملجأ تلتجئ اليه عند نزول عذاب الله وحلول غضبه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه ثم لما طلب صناديد القريش من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه مثل ابن أم مكتوم وابى ذر وسائر فقراء أصحابه لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم ليصاحبوه صلّى الله عليه وسلّم ويجالسوا معه فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إنجاح ما أرادوا حيث امر صلّى الله عليه وسلّم بالفقراء ان لا يحضروا
معهم في مجلسه رد الله سبحانه على رسوله ردا بليغا ونهاه عنه نهيا شديدا حيث قال سبحانه مؤدبا له صلّى الله عليه وسلّم بل مقرعا عليه
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ اى ان التمست القريش منك ابعاد الفقراء وبالغوا في طردهم وذبهم عن صحبتك لا تجبهم أنت ولا تنجح مطلوبهم بل اصبر ووطن نفسك المائلة الى غناهم وصفاء زيهم ولباسهم مَعَ الفقراء الَّذِينَ شأنهم انهم يَدْعُونَ ويعبدون رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ اى طرفي النهار وما بينهما يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميل عنهم الى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم وَلا تَعْدُ اى لا تمل ولا تصرف عَيْناكَ عَنْهُمْ لرثاثة حالهم وخلق ثيابهم الى الأغنياء وزيهم البهي حال كونك تُرِيدُ وتقصد زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا بالالتفات إليهم والميل الى مصاحبتهم ومجالستهم والركون الى جاههم وثروتهم وَلا تُطِعْ ولا تتفق معهم في طرد الفقراء والاعراض عنهم بمجرد ميلك الى ايمان أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته ولا تلتفت التفات متحنن متشوق الى مَنْ قد أَغْفَلْنا قَلْبَهُ وختمنا عليه بالإعراض عَنْ ذِكْرِنا ختما لا يرتفع عنه أصلا وَلذا قد صار من العتو والعناد الى ان اتَّبَعَ هَواهُ واتخذه الها واجتنب عن مولاه ونبذه وراءه وَبالجملة قد كانَ أَمْرُهُ وشأنه في هذا الاتباع والاتخاذ فُرُطاً ميلا وتقدما نحو الباطل افراطا وتفريطا اعراضا عن الحق ونبذا له وراءه ظهريا
وَقُلِ على سبيل الإرشاد والتبليغ بلا مراعاة ومداهنة الْحَقُّ الصريح الثابت ما قد نزل ونشأ مِنْ رَبِّكُمْ الذي قد انشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح أحوالكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلغ جميع ما اوحى إليك إياهم بلا تبديل ولا تغيير إذ ما عليك الا البلاغ والتبليغ فَمَنْ شاءَ منهم الفوز والفلاح فَلْيُؤْمِنْ بالله وكتبه ورسله حسب ما بلغت وَمَنْ شاءَ منهم الوبال والنكال في الدارين فَلْيَكْفُرْ واعلم انه سبحانه لا يبالى بكفرهم ولا بايمانهم إذ هو منزه بذاته عن ايمان عباده وكفرهم. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه إِنَّا من مقام عدلنا وقهرنا سيما على من اعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا أَعْتَدْنا وهيأنا سيما لِلظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضيات حدودنا وأحكامنا الموضوعة فيما بينهم لإصلاحهم ناراً ذات التهاب ومهيب واشتعال عال بحيث قد أَحاطَ اى احتوى واشتمل بِهِمْ سُرادِقُها اى لهبها التي هي كالفسطاط في الاحاطة والشمول والفسطاط البيت المتخذ من الشعر وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة المفرطة يُغاثُوا ويجابوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ في اللون وهو الحديد المذاب وفي الحرارة الى حيث يَشْوِي الْوُجُوهَ ويحرقها وقت تقريبه الى الفم للشرب وبالجملة بِئْسَ الشَّرابُ شراب المهل وَساءَتْ جهنم وأوديتها المملوة بنيران الحرمان والخذلان مُرْتَفَقاً منزلا ومسكنا يسكنون فيها ابدا مخلدا
ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد بمقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه هذا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتنا وبكمالات اوصافنا وأسمائنا وصدقوا إرسال الرسل وإنزال الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادرة منا على مقتضى الأزمان والأدوار وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في الكتب والسنة الرسل واجتنبوا ايضا عما نهيناهم عنها فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم الحسنة وإخلاصهم فيها إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وأخلص نية وأتم قصدا
وأكمل عزيمة
أُولئِكَ السعداء المحسنون المخلصون لَهُمْ في النشأة الاخرى جَنَّاتُ عَدْنٍ اى متنزهات اقامة وخلود من مراتب العلم والعين والحق ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية والنفسات الرحمانية المترشحة من رشحات رشاشات بحر الذات الازلية الابدية ومع ذلك يُحَلَّوْنَ ويزينون فِيها مِنْ أَساوِرَ وخلاخل متخذة مِنْ ذَهَبٍ جزاء ما قد هذبوا أخلاقهم وجوارحهم بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الاولى وَيَلْبَسُونَ فيها ثِياباً خُضْراً مصنوعة مِنْ سُنْدُسٍ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ هو ما غلظ منه جزاء ما اتصفوا في النشأة الاولى بزي التقوى ولباس الصلاح ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ والسرر متمكنين عليها جزاء ما قد حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات وبالجملة نِعْمَ الثَّوابُ ونعم الجزاء جزاء اهل الجنة وثوابهم وَحَسُنَتْ المتنزهات الثلاث مُرْتَفَقاً لهم يرتفقون وينتفعون فيها مع اهل الكشف والشهود بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر ومآل أمرهما وشأنهما فقال وَاضْرِبْ لَهُمْ يا أكمل الرسل مَثَلًا مبينا موضحا وهو ان رَجُلَيْنِ من بنى إسرائيل كانا أخوين أحدهما مؤمن موحد والآخر كافر مشرك مات أبوهما وورثا منه أموالا عظاما فاقتسما فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل واشترى الكافر مكاسب ومزارع وكثر ماله الى ان جَعَلْنا لِأَحَدِهِما اى للكافر ابتلاء له واختبارا جَنَّتَيْنِ بستانين مملوين مِنْ أَعْنابٍ وكروم وَحَفَفْناهُما اى احطنا كلا منهما بِنَخْلٍ لتزيدا حسنا وبهاء وَجَعَلْنا بَيْنَهُما اى بين الجنتين زَرْعاً مزرعة ومحرثة للحبوب والأقوات من الحنطة والشعير وغيرهما
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ قد تمتا وكملتا الى ان آتَتْ واثمرت كل منهما أُكُلَها وثمرتها كاملة وافرة في كل سنة وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً اى لم تنقص من ثمرتهما وحاصلهما شيأ من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين فان ثمرها يتوفر في عام وينقص في اخرى وَمع ذلك قد فَجَّرْنا وأجرينا خِلالَهُما اى في اوساط الجنتين المذكورتين نَهَراً ليدوم سقيهما
وَمع تينك الجنتين واثمارهما قد كانَ لَهُ ثَمَرٌ اى اموال عظام وامتعة كثيرة من انواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك فَقالَ الأخ الكافر يوما على سبيل البطر والمباهاة لِصاحِبِهِ اى للأخ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ ويخاطبه مفتخرا مباهيا بعرض الأموال والزخارف عليه ويشنعه ويعيره ضمنا ويقرعه تقريعا خفيا الى ان قال بطرا أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وبالأموال تقتنص عموم الأماني والآمال وتنال بجميع اللذائذ والشهوات وَأَعَزُّ نَفَراً أبناء وعشائر واحشاما وخدمة يظاهرون ويعاونون على لدى الحاجة ويصاحبون معى في الحضر والسفر
وَمن شدة بطره وخيلائه دَخَلَ يوما جَنَّتَهُ التي ذكر وصفها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بعرضها على عذاب الله وانواع عقابه بكفره بالله وجحوده بأوصافه وأسمائه وبطره بحطام الدنيا وإعجابه على نفسه اتكالا على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وانصاره قالَ من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته ما أَظُنُّ بل ما اشكّ وأوهم أَنْ تَبِيدَ اى تنهدم وتنعدم هذِهِ الجنة أَبَداً بل هي على هذا القرار والنضارة والنزاهة دائما
وَايضا ما أَظُنُّ واعتقد السَّاعَةَ
الموعودة التي اخبر بها اصحاب الدعاوى من الأنبياء والرسل قائِمَةً آتية كائنة البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها وَلَئِنْ رُدِدْتُ يعنى ان فرض وقدر قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبعثت من قبري على الوجه الذي ادعوا ورددت إِلى رَبِّي للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها لَأَجِدَنَّ البتة جنة في العقبى خَيْراً مِنْها اى من هذه الجنة الدنياوية فأخذها واختارها يومئذ مُنْقَلَباً مرجعا ومنزلا كما أخذت هذه في الدنيا وانما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف وبالجملة انى حقيق حرى بذلك في الدنيا والآخرة ايضا ان فرض وجودها ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وعلى كمال قدرته وقوته وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلقت ارادته
قالَ لَهُ صاحِبُهُ اى المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ على سبيل العظة والتذكير وانواع التسفيه والتعيير أَكَفَرْتَ وأنكرت ايها المفسد الطاغي بِالَّذِي خَلَقَكَ اى بالخالق الذي قد قدر أولا مادتك مِنْ تُرابٍ خسيس مرذول الى ان قد صارت من كثرة التبدلات والتغيرات عليها نطفة مهينة ثُمَّ قدرها ثانيا مِنْ نُطْفَةٍ دنية يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع لخروجها من مجرى البول ثُمَّ سَوَّاكَ منها وعدلك شخصا سويا سالما ورباك بأنواع اللطف والكرم الى ان صرت رَجُلًا رشيدا عاقلا بالغا كافلا للأمور والوقائع كافيا لإحداث الغرائب والبدائع وافيا في جميع المضار والمنافع ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الاخرى وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المعتقدات الاخروية التي هي علة ايجادك ومصلحة إظهارك ووجودك فاستكبرت أنت جهلا واستنكرت الى ان قد كفرت عنادا ومكابرة فستعرف حالك فيها ايها الطاغي الباغي المستحق لانواع العذاب والعقاب
لكِنَّا اى لكن انا لا اكفر ولا أنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا وقدر مادتي من التراب الأدنى الأرذل ثم من المنى الاخبث الأنزل ثم عدلنى وسوانى رجلا رشيدا كاملا في العقل والرشد لأعرف ذاته فاعبده واشكر نعمه وأؤدي حقوق كرمه على وأتوجه نحوه وأتضرع اليه واصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم المعتقدات التي قد وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى فكيف أنكره واكفر نعمه وانسى حقوق لطفه وكرمه إذ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ورب جميع من في حيطة الوجود من الاظلال والعكوس وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية وَبالجملة لا أُشْرِكُ بِرَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم أَحَداً سواه إذ لا شيء في الوجود الا هو
وَلَوْلا وهلا وقت إِذْ دَخَلْتَ ايها المدبر الغافل جَنَّتَكَ التي افتخرت بها قُلْتَ بدل قولك ما أظن ان تبيد ما شاءَ اللَّهُ اى ما شاء وأراد دوامها وثباتها يتأبد وما لم يشأ لم يتأبد إذ لا قُوَّةَ ولا قدرة للتأبيد والتخريب إِلَّا بِاللَّهِ اصالة وحقيقة وأنت ايها الكافر المفرط المسرف المنكر إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فعيرتنى وعرضت على أولادك وضياعك وزخارفك بطرا وبوحا مع انى اكثر منك ايمانا وعرفانا وثقة على الله واتكالا عليه
فَعَسى رَبِّي وأرجو من كمال فضله وجوده أَنْ يُؤْتِيَنِ ويعطيني في الدنيا والعقبى جنة خَيْراً ى أزيد حسنا وبهاء ونضارة وصفاء مِنْ جَنَّتِكَ التي أنت تتفوق وتتفضل بها على إذ هو القادر على كل ما أراد وشاء وَايضا عسى ان يُرْسِلَ
بغتة عَلَيْها اى على جنتك هذه حُسْباناً اى صواعق نازلة ليلا مِنَ السَّماءِ فحرقتها وخربتها واستأصلتها فَتُصْبِحَ أنت وترى صَعِيداً ترابا زَلَقاً ملساء لا تثبت فيها قدم ولا تنبت فيها نبات
أَوْ يُصْبِحَ ويصير ماؤُها الجاري في خلالها غَوْراً غائرا عميقا بحيث لا يمكن سقيها منه أصلا لبعد غوره وعمقه فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أنت ولن تقدر لَهُ طَلَباً بالحفر والحيل وانواع التدابير وقد اعطى سبحانه من فضله وسعة جوده الأخ المؤمن ما أمله تفضلا عليه وامتنانا
وَأرسل على بستان الأخ الكافر صواعق نازلة من السماء كثيرة الى حيث أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وعمت جميع ما فيها من الثمار فلم يبق الانتفاع بها أصلا وبالجملة قد غار ماؤها وذهب رواؤها واضمحلت نضارتها ولم يبق صفاؤها فَأَصْبَحَ الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا وبطنا تلهفا وتحزنا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وفي انشائها وتعميرها من الأموال العظام وَالحال انه هِيَ اى الجنة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها اى عروشها قد سقطت على الأرض والكروم عليها محرقا جميعها وَيَقُولُ الكافر حينئذ بعد ما أفاق عن سكر الغرور والغفلة وتفطن على منشأ تلك الصدمة والصولة الإلهية نادما متحسرا متمنيا يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً تعنتا واستكبارا حتى لا يلحق على ما لحقني من البوار والخسار
وَبالجملة لَمْ تَكُنْ لَهُ حينئذ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ حسب مباهاته ومفاخرته بالأعوان والأنصار من بأس الله واخذه بل لا ناصر له مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا مغيث له سواه وبالجملة ان استنصر منه سبحانه واستغفر له نادما عما صدر عنه من الجرءة والجرائم فقد نصره سبحانه وعفا عنه وان عظمت زلته وَما كانَ ايضا بنفسه على مقتضى استبداده وثروته مُنْتَصِراً مخلصا منجيا نفسه عن أمثال هذه النكبات
بل هُنالِكَ وفي أمثال تلك الحالة والواقعة الْوَلايَةُ والنصرة والغلبة والاستعلاء والاستيلاء والعظمة والكبرياء والتعزز والاستغناء ليست الا لِلَّهِ الْحَقِّ الثابت القيوم المطلق الحقيق بالحقية والقيومية الجدير بالبسطة والديمومية ابدا ولذلك هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى ألوهيته وربوبيته خَيْرٌ ثَواباً في النشأة الاخرى لأوليائه وهو أكرم عطاء لأحبائه وامنائه فيها وَخَيْرٌ عُقْباً لانتقام أعدائه انتصارا لأوليائه
وَاضْرِبْ لَهُمْ اى اذكر يا أكمل الرسل للمائلين الى الدنيا ومزخرفاتها ومستلذاتها الفانية الغير القارة المستتبعة المستعقبة لانواع الآثام والعصيان المستلزمة المستجلبة لغضب الله وسخطه ومثل لهم مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا وانقضائها وفنائها سريعا كَماءٍ اى مثلها مثل ماء قد أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إظهارا لكمال قدرتنا وعجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا فَاخْتَلَطَ بِهِ اى بالماء الاجزاء الارضية بحيث تكاثف وغلظ بسببها فنبت منه نَباتُ الْأَرْضِ وصار في كمال الطراوة والنضارة والحسن والبهاء الى حيث تعجب منها ابصار اولى الألباب والاعتبار ثم يبس من حر الشمس وبرد الهواء فَأَصْبَحَ هَشِيماً وصار مهشوما متفرق الأوراق متفتت الاجزاء بحيث تَذْرُوهُ اى تثيره وتطيره الرِّياحُ كيف تشاء وَكانَ اللَّهُ العزيز الغالب عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته مُقْتَدِراً كاملا بحيث لا ينتهى قدرته لدى المراد بل له التصرف فيه الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله ومتى سمعت وعلمت حال حيوة الدنيا ومآل أمرها وعاقبتها وانكشفت بعدم ثباتها وقرارها
فاعلم ان معظم ما يتفرع عليها الْمالُ وَالْبَنُونَ إذ هما زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية حاصلان منها عارضان عليها ومتى لم يكن للمعروض دوام وبقاء فللعارض بالطريق الاولى وَالْباقِياتُ التي
تبقى معك في أولاك وأخراك الأعمال الصَّالِحاتُ المقربة لك الى الله المقبولة عنده المترتبة عليها النجاة من العذاب والنيل الى الفوز والفلاح وهي خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً اجرا وجزاء حسنا من اللذات الروحانية الموعودة لأرباب القبول والقلوب وَخَيْرٌ أَمَلًا اى عاقبة ومآلا إذ بها ينال المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الموعودة لأرباب العناية والقبول من اصحاب القلوب الصافية المؤملين في عموم أوقاتهم وحالاتهم شرف لقاء الله والفوز بمطالعة وجهه الكريم
وَاذكر يا أكمل الرسل للناس الناسين عهود الله ومواثيقه الوثيقة يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ونحركها بالقدرة الكاملة والسطوة الهائلة الغالبة تحريكا شديدا بحيث نفتت اجزاءها ونحلل تراكيبها ونشتتها الى ان صارت دكاء وَتَرَى ايها المعتبر الرائي يومئذ الْأَرْضَ المملوة بالجبال الرواسي الحاجبة عما وراءها بارِزَةً ظاهرة ملساء مسوى بحيث لا ارتفاع لبعض اجزائها على بعض مظهرة لما فيها من الدفائن والخزائن والأموات المقبورة فيها وَبعد ظهورهم منها وبروزهم عليها قد حَشَرْناهُمْ وجمعناهم بأجمعهم حفاة عراة نحو الموقف والموعد المعد للعرض والجزاء فَلَمْ نُغادِرْ يومئذ ولم نترك مِنْهُمْ أَحَداً لا نسوقه الى المحشر
بعد جمعهم واجتماعهم في المحشر جميعارِضُوا عَلى رَبِّكَ
يا أكمل الرسل عرض العسكر على السلطان الصوري فًّا
صافين على الاستواء بحيث لا يحجب احد أحدا بل كل واحد واحد بمرائى ومشاهد بلا سترة وحجاب ثم يقال لهم من قبل الحق على سبيل السطوة والاستيلاء واظهار الهيبة القاهرة والسلطنة الغالبةقَدْ جِئْتُمُونا
اليوم حفاة وعراةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
كذلك اى في بدء وجودكم وظهوركم لْ
قد كنتم عَمْتُمْ
وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
اى انا لن نقدر على انجاز ما وعدناكم بالسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء بل قد كذبتم الرسل وانكرتم الوعد والموعود جميعا فالآن قد ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه
وَبعد ما عرضوا صافين على الوجه المذكور وُضِعَ الْكِتابُ المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم من بدء فطرتهم الى انقراضهم من النشأة الاولى المعدة لكسب الزاد للنشأة الاخرى بين يدي الله على رؤس الاشهاد فَتَرَى ايها الرائي الْمُجْرِمِينَ حينئذ مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا فِيهِ اى في الكتاب قبل القراءة عليهم وَبعد ما قرئ عليهم وسمعوا جميع ما صدر عنهم كائنة مكتوبة فيه على التفصيل الذي صدر عنهم بلا فوت شيء يَقُولُونَ متحسرين متمنين الموت مناجين في نفوسهم منادين يا وَيْلَتَنا وهلكتنا ادركينا فهذا وقت حلولك ونزولك مالِ هذَا الْكِتابِ العجيب الشان الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا بحيث لا يُغادِرُ ولا يترك فضيحة صَغِيرَةً صادرة منا وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها فصلها وعدها بلا فوت خصلة منها. روى عن ابن مسعود رضى الله عنه الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة وَبالجملة قد وَجَدُوا عموم ما عَمِلُوا من الخير والشر والحميدة والذميمة حاضِراً فيه ثابتا مكتوبا على وجهها بلا نقصان شيء منها ولا زيادة عليها وَكيف لا يكون كذلك إذ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ يا أكمل الرسل أَحَداً من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور وانواع عموم الفتن والغفلات واصناف الشرك والكفر والضلالات إبليس عليه اللعنة كرر سبحانه في كتابه قصة استكباره واستنكاره مرارا وأورده تكرارا تذكيرا للمتعظين المتيقظين وتنبيها على الغافلين المغرورين ليكونوا على ذكر منه ومن غوائله
وتسويلاته ليتيسر لهم الحذر عن وساوس أعوانه وانصاره الذين هم جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الامارة المكارة الامكانية المستولية على القوى الوجوبية الروحانية
فقال وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اى اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إذ قلنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد افحامنا والزامنا إياهم بما الزمناهم اسْجُدُوا تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار تكريما وتعظيما لِآدَمَ النائب المستخلف عنا بعد ما ظهر عندكم وعليكم فضله وشرفه واستحقاقه ورجحانه لأمر الخلافة فَسَجَدُوا بعد ما سمعوا متذللين امتثالا للأمر الوجوبي إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد ابى واستكبر ولم يسجد له بل قد علل بأنواع العلل العاطلة وجادل بأصناف المجادلات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته وفطنته على ما سمعت غير مرة وانما امتنع وابى لأنه قد كانَ مِنَ الْجِنِّ في اصل خلقته فلحق بالملائكة لحكمة سابقة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ حسب خلقته الاصلية وجبلته الفطرية أَفَتَتَّخِذُونَهُ وتأخذونه ايها المغرورون بتغريراته والمائلون الى تلبيساته وتزويراته سيما بعد ظهور هذه العداوة الظاهرة وَتتخذون ايضا ذُرِّيَّتَهُ المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم وقواكم اللاتي هي أعدى أعاديكم يترددون بين جنوبكم ويحومون حول قلوبكم أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي حيث تفوضون أموركم إليهم ليوالوا لكم وَالحال انه هُمْ أصلهم وفرعهم لَكُمْ عَدُوٌّ قديم مستمر وبالجملة بِئْسَ الشيطان وذريته وايضا بئس ولايتهما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا بَدَلًا عنا وعن ولايتنا إياهم. عن يحيى بن معاذ رضى الله عنه لا يكون من اولياء الله ولا يبلغ مقام الولاية من نظر الى شيء دونه واعتمد على سواه ولم يميز بين معاديه ومواليه ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره انتهى فكيف تتخذون ايها الحمقى المسرفون إبليس وذريته أولياء من دوني
مع انى ما أَشْهَدْتُهُمْ واحضرتهم اى إبليس وجنوده خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى وقت خلقهما وايجادهما ليعاونوا ويظاهروا على حتى تتخذوهم اولياء غيرى شركاء معى سيما في استحقاق العبادة وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ايضا اى لا احضر بعضهم عند خلق بعض منهم وَبالجملة انا مستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود ولذلك ما كُنْتُ في خلق الأشياء وإيجادها وإظهارها محتاجا الى المعين والظهير أصلا فكيف قد كنت مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الضالين عن ساحة عز الحضور عَضُداً أعوانا وأنصارا اعتضد وانتصر بهم حتى تشاركوهم أنتم بي سيما في استحقاق العبادة والإطاعة بل ترجحونهم على بالمحبة والولاية
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَقُولُ الله على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين نادُوا وادعوا ايها المنهمكون في الغي والضلال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انهم شفعاؤكم اليوم لذلك قد عبدتم لهم مثل عبادتي بل احسن منها حتى ينقذوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي فَدَعَوْهُمْ حينئذ صارخين مستغيثين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ولم يجيبوا عنهم إذ هم حينئذ مشغولون بحالهم عنهم مأخوذون بوبالهم وَمع ذلك قد جَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين العابدين ومعبوديهم مَوْبِقاً مهلكا عظيما واديا هائلا غائرا عميقا من اودية جهنم مملوة بالنار بحيث لا يمكن وصولهم أصلا
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ يعنى بعد ما عرضوا وحوسبوا وسيقوا نحو جهنم ليعذب فيها كل بمقتضى ما كسب من المعاصي والآثام الموجبة للاخذ والانتقام فَظَنُّوا بل تيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ملاصقوها وداخلوها البتة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً معدلا ومنصرفا سواها لينصرفوا
اليه مع ان الموكلين يسوقونهم ويدخلونهم فيها زجرا وقهرا
وَكيف يجدون مصرفا سواها ومن اين يتأتى لهم الانصراف اليوم إذ هم قد فوتوا على أنفسهم المنصرف وسبب الانصراف في النشأة الاولى مع انا لَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المرشد الى الهداية الصارف عن مطلق الضلال والغواية لِلنَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى من كل شيء مثلا موضحا ينبههم الى الهدى ويجنبهم عن الغفلة والهوى فلم يتنبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطل بالحق معارضين وجادلوا مع اهل الحق معاندين مكابرين وَبالجملة كانَ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا اى جداله ومكابرته اكثر من جدال سائر المخلوقات وان كان رشده وإيمانه ايضا اكثر منها.
ثم قال سبحانه وَما مَنَعَ النَّاسَ عن قبول الايمان وما صرفهم عن أَنْ يُؤْمِنُوا يوقنوا ويصدقوا بالمعتقدات الدينية سيما إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى النبي الهادي المؤيد بالكتاب المعجز المرشد وَما صرفهم ايضا عن ان يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ويتوبوا نحوه عن ظهر القلب عقيب كل معصية صادرة عنهم نادمين عنها بلا إصرار وإدمان ليسقط عنهم الأخذ والانتقام الأخروي إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وتحيط بهم سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وما جرى عليهم من الإهلاك والاستئصال بغتة أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا اى أنواعا وأصنافا منه مترادفة متوالية كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك فيهلكهم على سبيل التدريج
وَبالجملة ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية وَمُنْذِرِينَ عن انواع العذاب والعقاب والنكبات والبليات المورثة لانواع الخذلان والخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران وبالجملة ما نرسلهم الا إصلاحا لأحوال الأنام وإرشادا لهم الى سبل السّلام وحثا لهم الى سلوك طريق التوحيد المنجى عن ظلمات الشكوك والأوهام وَمع ذلك يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله مع رسل الله ويخاصمون معهم متشبثين بِالْباطِلِ الزائغ الزائل لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ ويزلقوا بتمويهاتهم وأباطيلهم الْحَقَّ الحقيق الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره وَكذلك قد اتَّخَذُوا وأخذوا آياتِي الدالة على عظمة ذاتى ووفور حكمتى وكمال قدرتي وقوتي وَكذا عموم ما أُنْذِرُوا اى قد اتخذوا جميع ما اشتملت عليه الآيات من الإنذارات والتخويفات وانواع الوعيدات هُزُواً اى موضع استهزاء وسخرية ومحل هزل وضحك لذلك قد نسبوها الى ما لا يليق بشأنها من الشعر والسحر والأساطير الكاذبة وغير ذلك من الهذيانات الباطلة والأباطيل الزائغة افتراء ومراء
وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا بالنسبة اليه سبحانه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ليتعظ بها ويصلح بسببها فَأَعْرَضَ عَنْها وانصرف عن سماعها فكيف عن قبولها وامتثالها استنكارا واستكبارا وَمع ذلك قد نَسِيَ ما قَدَّمَتْ اقترفت وكسبت يَداهُ من الجرائم والآثام وانواع الكفر والشرك والطغيان ولو اتعظوا بها وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهم عناية من الله إياهم وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر إِنَّا بمقتضى قهرنا وسخطنا عليهم قد جَعَلْنا طبعنا وختمنا عَلى قُلُوبِهِمْ التي هي وعاء التذكر والقبول أَكِنَّةً حجبا غليظة كثيفة مانعة عن أَنْ يَفْقَهُوهُ اى القرآن ويفهموا معانيه ومقاصده فكيف غوامض رموزه وإشاراته وَقد طبعنا ايضا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن الاستماع والإصغاء اليه فكيف عن فهمه والعمل به والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وَ
من غلظ غشاوتهم وشدد ضممهم وقساوتهم إِنْ تَدْعُهُمْ يا أكمل الرسل إِلَى الْهُدى وترشدهم الى الفوز بالفلاح والنجاح فَلَنْ يَهْتَدُوا ولن يفوزوا إِذاً أَبَداً في حال من الأحوال وحين من الأحيان لقساوة قلوبهم وصمم صماخهم بختمنا وطبعنا إذ لا يبدل قولنا ولا يعارض فعلنا الا باذن منا وتوفيق من لدنا
وَان كان تكذيبهم الرسل والكتب وإصرارهم على الشرك والجحود يستدعى نزول العذاب عليهم فجاءة لاستحقاقهم بحلوله الا انه يمهلهم رَبُّكَ الْغَفُورُ المبالغ في ستر ذنوب عباده وعفو عيوبهم يا أكمل الرسل إذ هو سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ الواسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهون بقبح صنيعهم ويتأملون في وخامة عواقبهم فينصرفون عماهم عليه نادمين إذ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ سبحانه بِما كَسَبُوا وبشؤم عموم ما اقترفوا من الجرائم والآثام لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ على الفور حسب عدله وقهره لكن قد امهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زمانا لا دواما رجاء ان يتوبوا ويرجعوا نحوه تائبين آئبين بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ولهلاكهم وقت لا يسع فيه التلافي ولا ينفع التوبة والندم قط الا وهو يوم الحشر والجزاء وقيل يوم بدر بحيث لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ اى من دون ذلك الموعد مَوْئِلًا منجى ومخلصا بل يعذبون ويهلكون فيه حتما جزما بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلا
وَبالجملة تِلْكَ الْقُرى التي في مرآك اطلالها وآثار منازلهم ومزارعهم قد أَهْلَكْناهُمْ واستأصلنا أهلها لَمَّا ظَلَمُوا وحين خرجوا واستنكفوا عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم فأخذناهم واستأصلناهم كذلك وَمن سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا متى أردنا إهلاك اهل قرية من المستوجبين للمقت والهلاك قد جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ ولهلاكهم وإهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا وحينا محفوظا متى وصلوا اليه وحصلوا دونه هلكوا فيه حتما مقضيا إذ لا مرد لقضائنا المبرم ولا معقب لحكمنا المحكم
وَاذكر يا أكمل الرسل قصة أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقصة إعجابه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط ودخوله ملك مصر خطبة عجيبة بليغة الى حيث قد رقت القلوب وذرفت العيون فقيل له حينئذ من في الأرض اعلم منك يا نبي الله قال لا فعتب عليه سبحانه لإعجابه فقال سبحانه ان لنا عبدا في مجمع البحرين هو اعلم منك فقال موسى عليه السّلام دلني عليه يا ربي لأخدمه وأتعلم منه واستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة فقال له سبحانه خذ حوتا مملوحا ليكون لك زادا واطلبه فحيث فقدت الحوت وجدته ثمة فأخذ ومضى على الوجه المأمور اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ وهو يوشع بن نون وكان خادمه لا أَبْرَحُ ولا استريح واقعد من السفر حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ اى ملتقى بحرى فارس والروم وأجد عنده عبدا قد دلني الله عليه أَوْ أَمْضِيَ وأسير حُقُباً زمانا طويلا ومدة مديدة ان لم أجده هناك حتى أجده واستفيد منه فرمى الحوت المشوى المملوح في مكتل وحمله يوشع فذهبا واوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما اى بين البحرين نَسِيا عند المجمع حُوتَهُما يعنى قد نسى موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه ونسى يوشع ايضا ان يذكر لموسى ما رأى من امر الحوت وحياته ووقوعه في الماء وذلك انه قد عزم يوشع على التوضئ عند المجمع وكان على شاطئ البحر صخرة فتمكن يوشع عليها للتوضؤ فانتضح الماء على مكتله فترشح على الحوت فوثب من المكتل فرمى نفسه في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً اى صار الماء كالطاق يسرى الحوت تحته
بسهولة فتعجب يوشع من حياتها ووثبتها في الماء وسلوكها فيه كسائر الحيتان فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد الى الظهر فنسي يوشع ذكر ما رأى لموسى
فَلَمَّا جاوَزا من الصخرة يوما وليلة عييا وجاعا قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا اى الذي سرنا بعد ما جاوزنا من الصخرة نَصَباً عناء وتعبا ما كنا قبل ذلك كذلك
قالَ يوشع متذكرا متعجبا أَرَأَيْتَ يا سيدي وقت إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ورقدت عندها للاستراحة وانا أهم لا توضأ وأتمكن عليها للتوضؤ فانتضح الماء الى المكتل فوثب الحوت نحو البحر فاتخذ سبيله سربا فَإِنِّي بعد تيقظك من منامك نَسِيتُ الْحُوتَ وقصته مع كمال غرابتها وندرتها وكونها خارقة للعادة وَبالجملة ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اى اذكر قصته البديعة عندك وَكيف اتَّخَذَ سَبِيلَهُ حين رمى نفسه فِي الْبَحْرِ عَجَباً على وجه يتعجب من جريه الرائي ولما سمع موسى من يوشع ما سمع من فقد الحوت على هذا الوجه سر وفرح
قالَ على سبيل الفرح والسرور ذلِكَ الأمر الذي قد وقع ما كُنَّا نَبْغِ ونطلب من سفرنا هذا إذ هو علامة وجدان المطلوب وامارة حصول الارب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما على الفور فأخذا يقصان قَصَصاً لازالة شدة السفر فمضيا الى ان وصلا الصخرة المعهودة
فَوَجَدا عندها عَبْداً كاملا في العبودية والعرفان إذ هو مِنْ خلص عِبادِنا وخيارهم لأنا من وفور جودنا وانعامنا عليه قد آتَيْناهُ وأعطيناه رَحْمَةً كشفا وشهودا تاما موهوبا له مِنْ عِنْدِنا تفضلا وإحسانا بلا عمل له في مقابلتها يقتضى ذلك وَمع ذلك قد عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا بلا وسائل الكسب والتعلم والطلب والاستفادة بل بمجرد توفيقنا وفضلنا إياه امتنانا له وإحسانا عِلْماً متعلقا بالغيوب حيث اخبر ويخبر بما وقع وسيقع
فلما وصلا اليه وتشرفا بشرف حضوره وصحبته قالَ لَهُ مُوسى على وجه الاستجازة والاسترشاد وحسن الأدب هَلْ أَتَّبِعُكَ ايها المؤيد الكامل المتحقق بمراتب اليقين بتمامها الواصل الى بحر الوحدة الخائض في لججها عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وتفيد لي مِمَّا عُلِّمْتَ وألهمت من سرائر المغيبات سوابقها ولواحقها رُشْداً ترشدني نحوها مقدار استعدادي وقدر قابليتي وطاقتي قال يا موسى كفى بالتورية علما وببني إسرائيل شغلا قال موسى في جوابه ان الله قد أمرني بالاستفادة والاسترشاد منك فلا تمنعني وبعد ما قد ألح موسى واقترح
قالَ إِنَّكَ يا موسى مع كمال حذاقتك في ظواهر العلوم المتعلقة بوضع القواعد الدينية ونصب المعالم الشرعية وانتصاف الظالم من المظلوم وانتقامه لأجله الى غير ذلك من الأمور المتعلقة بسياسة البلد وتدبير المدن والمنزل لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تقدر مَعِيَ صَبْراً بل لا بد لك متى اطلعت على امر وشيء يخالف الشرعية والوضع المخصوص الذي أنت جئت به من عند ربك ونزلت التورية على مقتضاه لزم عليك ان تمنعه وتعترض عليه بمقتضى نبوتك ورسالتك على سبيل الوجوب والذي انا عليه من العلوم المتعلقة بالسرائر والغيوب قد يخالف أصلك وقواعدك فلن تستطيع حينئذ معى صبرا
ثم اعتذر وبسط العذر معللا حيث قال وَكَيْفَ تَصْبِرُ أنت يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً اطلاعا على سره ومآله ومع ذلك لم ينزل عليك وحى من عند ربك متعلق بأمثاله
قالَ موسى ملحا عليه مقترحا مبالغا سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلقت ارادته بصبري صابِراً على عموم ما قد جئت به من المغيبات الخارقة للعادات التي لم افز بسرائرها وهي مخالفة لظواهر الشرائع والاحكام وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً اى في امر من الأمور
وشيء من الأشياء وبعد ما اضطره موسى على القبول
قالَ له الخضر عليه السّلام على سبيل التوصية والتوطئة فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي بعد ما بالغت فَلا تَسْئَلْنِي يعنى عليك ان لا تفاتحنى بالسؤال عَنْ شَيْءٍ قد أنكرته منى ووجدته مخالفا لظاهر الشرع حَتَّى أُحْدِثَ وأبين لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا واضحا كاشفا عن إشكالك ودغدغتك بلا سبق سؤال منك
ثم لما تعاهدا على هذا فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر لطلب السفينة فمرا على سفينة فاستحملا من أهلها فقبلوا ان يحملوهما فقربوها الى الساحل فحملوهما بلا نول حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ على شاطئ البحر فجرت فلما بلغت اللجة خَرَقَها الخضر عليه السّلام بان أخذ فأسا فقلع منها لوحا او لوحين فلما رأى موسى منه ما رأى أخذ يشد خرقها بثيابه قالَ له حينئذ على سبيل نهى المنكر أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ بخرقها أَهْلَها وساكنيها إذ من خرقها قد يدخل الماء فيها فيغرقها وأهلها والله لَقَدْ جِئْتَ بفعلك هذا شَيْئاً إِمْراً اى منكرا عظيما هو قصد إهلاك جماعة بلا موجب شرعي
قالَ له الحضر على سبيل التذكير والتشنيع أَلَمْ أَقُلْ لك يا موسى من أول الأمر إِنَّكَ باعتبارك بظواهر العلوم
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ موسى معتذرا متذكرا لعهده لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اى نسياني وغفلتي عن وصيتك وعهدي معك وَلا تُرْهِقْنِي اى لا تغشني ولا تحجبني مِنْ أَمْرِي الذي قد بعثني على متابعتك وهو الاطلاع على سرائر الأمور ومغيباتها عُسْراً اى لا تحجبني عن مطلوبي بالمؤاخذة على النسيان عسرا يلجئنى الى ترك متابعتك فيفوت غرضي منك ومطلوبي من متابعتك وبعد ما قد ألح موسى واقترح معتذرا قبل الحضر عليه السّلام عذره بالضرورة
ثم لما نزلا من السفينة فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً صبيا صبيحا لم يبلغ الحلم يلعب مع الصبيان فَقَتَلَهُ الخضر عليه السّلام على الفور بلا صدور ذنب منه وجريمة حيث أخذ رأسه وضربه الى الجدار حتى مات فاشتد الأمر على موسى فامتلأ من الغيظ ولم يقدر على كظمها وهضمها قالَ موبخا مقرعا أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً معصومة برية عن جميع الآثام بِغَيْرِ إهلاك نَفْسٍ صدر منه قصدا ليكون قتله قصاصا عنه شرعا مع انه لا ولاية لك حينئذ على قتله وان صدر عنه القتل عمدا والله لَقَدْ جِئْتَ باتيانك هذا شَيْئاً نُكْراً منكرا مكروها في غاية النكارة والكراهة إذ قتل النفس من أعظم الكبائر سيما النفس المعصومة المنزهة عن عموم المعاصي سيما لم تكن لك ولاية قتله شرعا بلا جريمة أصلا وبعد ما سمع الخضر منه إنكاره
قالَ له على وجه التشدد والغلظة أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تطيق ابدا مَعِيَ صَبْراً إذ لا مناسبة بيني وبينك ولا موافقة لعلمي مع علمك فخلني على حالي ولا تشوشنى وانصرف عنى وامض حيث شئت فقد بلغت الطاقة ثم لما رأى منه موسى ما رأى من الغيظ والغلظة والحرارة المفرطة أخذ بالرفق والمداراة واظهار المسكنة والاستحياء
حيث قالَ معتذرا مستحييا لا تحرمني عن صحبتك بما صدر عنى من نقض العهد وسوء الأدب ولا تودعنى يا سيدي عن صحبتك زجرا وقهرا وبالجملة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ولا تجعلني رفيقك وصاحبك لأنك قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي ومن قبلي عُذْراً فلا اعتذر لك بعد هذا بل أفارق ان وقع عنى ما يشوشك. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انه قال رحم الله أخي موسى قد استحى فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لا بصر اعجب الأعاجيب
وبعد ما تقاولا في امر الغلام ما تقاولا فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي انطاكية اوايلة اسْتَطْعَما أَهْلَها من شدة جوعهما واحتياجهما الى الطعام فَأَبَوْا وامتنعوا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
ويطعموهما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ اى يميل ويشرف أَنْ يَنْقَضَّ اى يسقط وينهدم فَأَقامَهُ الخضر عليه السّلام وعدله وسواه بالعموم او اسقطه واحكم بنيانه وبناه جديدا ثم لما رأى موسى منه امرا مستغربا مستبدعا وهو انهما على جناح السفر ولم يكن بهما شغل وغرض متعلق بتعمير الجدار وإقامته قالَ على سبيل التعريض لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأخذت جعلا واكتسبت للتقوت والتزود بعد ما أبوا عن الضيافة
ثم لما سمع الخضر من موسى ما سمع قالَ هذا اى سؤالك وتعريضك فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ويوجب مفارقتي عنك لكن لا أفارقك في الحال بل سَأُنَبِّئُكَ وأخبرك بِتَأْوِيلِ ما اى الأمور التي قد أنكرت عليها واعترضت مفتتحا مستعجلا بحيث لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً حتى أحدثك وابينك سرائرها
مع انى أوصيتك ببيانها لك أولا ثم فصلها فقال أَمَّا السَّفِينَةُ التي قد خرقتها بالهام الله إياي والقائه على قلبي فَكانَتْ لِمَساكِينَ وضعفاء لا مكسب لهم سواها يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ بها ويعيشون من نولها فَأَرَدْتُ باذن الله ووحيه أَنْ أَعِيبَها واجعلها ذات عيب وَقد كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ ظالم مستمر عليه وهو يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة غير معيبة غَصْباً ظلما وزورا بلا فدية فجعلتها ذات عيب حتى تبقى لهم وذلك باذن الله عناية منه سبحانه لضعفاء عباده ورعاية لحالهم في مصلحتهم
وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قد قتلته على الفور فهو غلام قد جبله الحق على الكفر والعصيان وانواع الشرك والطغيان فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ موحدين فَخَشِينا عليهما من سوء فعاله وقبح حاله وخصاله أَنْ يُرْهِقَهُما ان يغشيهما وينطيهما طُغْياناً وَكُفْراً من غاية حبهما له وتحننهما إياه
فَأَرَدْنا واحببنا بقتله وهلاكه أَنْ يُبْدِلَهُما ويهب لهما بدله رَبُّهُما الذي رباهما بنعمة التوحيد والايمان وكرامة العصمة والعفاف ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً يعنى طاهرا مطهرا عن خبائث الكفر والآثام متصفا بحلية الايمان والإسلام وَأَقْرَبَ رُحْماً مرحمة وعطفا وبرا على الوالدين ولطفا. قيل قد ولدت لهما جارية بدل الغلام فتزوجها نبي من أنبياء الله فولدت نبيا قد هدى الله به امة من الأمم
وَأَمَّا الْجِدارُ الذي قد أردت إقامته وقصدت تعميره بالهام الله إياي ووحيه فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ولم يبلغا الحلم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما مدفون مخزون من ذهب وفضة قد دفن لهما أبوهما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً موحدا مسلما متوجها نحو الحق دائما فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى من كمال لطفه وعطفه لليتيمين ورعايته للأب الصالح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ويدخلا رشدهما ويخرجا عن يتمهما إذ لا يتم بعد البلوغ ويصيرا ذوى رأى رزين وفكر متين وَيَسْتَخْرِجا بعد ذلك كَنزَهُما وانما أمرني الله سبحانه بإقامة الجدار واحكام المخزن رَحْمَةً عطفا ومرحمة ناشئة مِنْ رَبِّكَ يا موسى شاملة عليهما تتميما لتربيتهما وتقويتهما وَبالجملة ما فَعَلْتُهُ انا وما أنكرت أنت عليه وما اعترضت وتعرضت فيه وبه يا موسى ليس صادرا عَنْ أَمْرِي ورأيى ناشئا عن تدبير عقلي وفكرى بل مما الهمنى الله به وجرأني عليه وأمرني بفعله فانا مأمور بل مجبور والمأمور معذور ذلِكَ المذكور على التفصيل تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أنت ولم تطق عَلَيْهِ صَبْراً حتى ظهر لك سره ومما جرى بينهما صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما يتفطن العارف اللبيب والطالب الأديب ان شرط الاستفادة والاسترشاد ومناط الاستكمال وطلب الرشد هو ان يميت المريد المسترشد نفسه عن المرشد الكامل المكمل بالموت الإرادي بحيث لا يتأتى منه المعارضة والمقابلة أصلا فكيف
الممانعة والمماراة وان جزم ان فعل مرشده خارج عن مقتضى العقل والشرع على زعمه بل حمل عموم أفعاله على المحمل الأحسن الأصوب وسكت عن مطلق المراء والمجادلة إذ المريد بعد ما فوض أموره كلها الى مرشده واتخذه وكيلا واخذه ضمينا وكفيلا فقد فنى فيه وبقي ببقائه فلم يبق له التصرف أصلا بمقتضيات قواه وجوارحه ومداركه. هب لنا ربنا من لدنك رحمة تنجينا بها من تسويلات نفوسنا.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل اى اليهود المردودون والنصارى المنحوسون المطرودون سؤال اقتراح وامتحان مثل سؤال اصحاب الكهف والروح عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وأطواره وكيفية سيره وطوافه حول العالم قُلْ سَأَتْلُوا واقرأ واذكر ان شاء الله عَلَيْكُمْ مِنْهُ اى من ذي القرنين وقصته ذِكْراً قد أخبرني به سبحانه بالوحي في كتابه المعجز. وذو القرنين هو الإسكندر الأكبر الرومي بن فيلقوس الرومي سمى بذي القرنين لأنه طاف قرني الدنيا اى المشرق والمغرب قد اختلف في ولايته ونبوته
اخبر عنه سبحانه بقوله إِنَّا من مقام عظيم جودنا وفضلنا قد مَكَّنَّا وقدرنا لَهُ فِي الْأَرْضِ تمكنا تاما وقدرة كاملة وَذلك انا قد آتَيْناهُ أعطيناه تأييدا له وتعضيدا إياه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً موصلا له الى مبتغاه وجميع ما أمله يعنى قد وفقناه على اسباب الوصول الى كل مطلوب قصده وأراد الوصول اليه
فَأَتْبَعَ سَبَباً متى ارتكب امرا لوثوقه واتكاله علينا وبانجاحنا إياه الى مبتغاه
ثم لما أراد ان يسير نحو المشرق فاتبع سببه وسار حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ اى موضعا تغيب فيه يعنى بلغ نهاية العمارة من جانب المغرب وَجَدَها اى الشمس تَغْرُبُ وتغيب فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ اى ذات حمأة وهي الطين والماء وقرئ حامية اى حارة ويجوز ان يكون عينا ذات حمأة وحرارة وبالجملة غروبها في رأى العين على عين صفتها هذه والا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض فكيف بجزء منها إذ نسبة كرة الأرض الى عظم جرم الشمس عند اهل الرصد كنسبة جزء من مائة وست وستين جزأ على التقريب فكيف تغيب وتستتر هي بجزء منها وَوَجَدَ عِنْدَها اى عند العين الموصوفة قَوْماً كفارا نافيا للصانع الحكيم لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من انواع الحيوانات المائية فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفارا خيرناه في أمرهم عناية منا إياه بان قُلْنا له وألهمنا عليه مناديا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ اى تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم بحيث لا يبقى منهم احد وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ وتصنع فِيهِمْ حُسْناً شرعا ودينا كما في سائر المؤمنين
ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم وفوض أمرهم اليه قالَ على مقتضى العدل والإنصاف الذي قد جبله الحق عليه ادعوهم أولا الى الايمان والقن عليهم كلمة التوحيد والعرفان أَمَّا مَنْ ظَلَمَ وتولى وابى وأصر على ما عليه من الكفر والهوى فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ او نقتله حدا بعد عرض الإسلام ولم يقبل في دار الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في يوم الجزاء فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً شديدا مجهولا غير متعارف بين اهل الدنيا شدته وفظاعته
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ منهم وَعَمِلَ على مقتضى الايمان عملا صالِحاً فنصلح حاله ونراعيه في الدنيا فَلَهُ في يوم الجزاء ووقت العطاء جَزاءً الْحُسْنى والمثوبة العظمى والدرجة العليا والمقام الأسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا الذي قد أمرناه بالتخيير في امر أولئك الهالكين في تيه الغواية يُسْراً سهلا معتدلا بين افراط القتل والاستئصال وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة
ثُمَّ بعد ما قد وضع الشرع بالأمر الإلهي بين اهل المغرب
أَتْبَعَ سَبَباً آخر يوصله الى المشرق وسار
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وموضع شروقه وإضاءته على العالم قد وَجَدَها تَطْلُعُ وتستضئ أولا عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً يعنى لم تجعل لهم حائلا كثيفا وحجابا غليظا ليكون ساترا لهم حر الشمس وقت طلوعها من الجبل والشجر وغيرهما بل كلهم غرل عراة لا لباس لهم أصلا بل هم يحفرون الأرض ويتخذون سردابا وأخاديد يدل الايتية لان ارضهم لا تمسك البناء
كَذلِكَ اى وهم ايضا كفار مثل اهل المغرب وهم أشد الناس في الحروب وأشجعهم في المعارك واجرأهم على القتال والاقتحام في الوغاء ولهم آلات واسلحة عجيبة وعدد بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعددهم وأيضا هم اكثر الناس عددا وَمع كثرة عددهم ووفور مكرهم وخديعتهم قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً يعنى أعلمنا اسكندر وبمن عنده من الجنود والخدمة علما بحال أعدائهم وبدفع مكرهم وحيلهم وجرأناهم على المقابلة والمقاتلة مع قلتهم وكثرة عدوهم فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم وبعد ما قد غلب عليهم وضع بينهم ايضا شعائر الشرع ومعالم الدين كما وضع لأهل المغرب
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً آخر وسار على الأرض بين المشرق والمغرب
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ اى بين الجبلين اللذين سد بينهما ذو القرنين سدا منيعا حصينا وهما جبلا إرمينية وآذربيجان وقيل جبلان في أواخر الشمال في منقطع ارض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج وَجَدَ مِنْ دُونِهِما وعندهما قَوْماً أعجميا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ ويفهمون قَوْلًا لغة من اللغات المتداولة
قالُوا بلسان الواسطة والترجمان يا ذَا الْقَرْنَيْنِ نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج الى اعانتك واغاثتك لتنقذنا من أيادي الظلمة إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما علمان للقبيلتين من الترك مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذه بأنواع الفسادات قيل قد كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون اخضر رطبا الا أكلوه ولا يابسا الا حملوه وقيل كانوا يأكلون الناس ايضا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نوزع حتى يبلغ مبلغا وافيا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بسلطنتك وسطوتك بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا منيعا محكما بحيث لا يمكنهم الخروج علينا فنأمن من شرورهم بجاهك يا مولانا
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ اى ما خصنى وما جعلني ربي بفضله وجوده مكينا فيه من المال والملك خير مما تجمعون أنتم بتوزيعكم وتحريجكم واكثر منه ولا حاجة لنا الى أموالكم بل الى اعانتكم وسعيكم أجراء فَأَعِينُونِي في وضع هذا السد بِقُوَّةٍ عملة وصناع يأخذون منى الأجر ويعملون أَجْعَلْ بفضل الله وسعة رحمته وجوده بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً سدا حاجزا حصينا منيعا وثيقا بحيث لا يقبل التخريب الى انقراض الدنيا ان تعلق به مشيئته سبحانه
وبالجملة آتُونِي واحضروا عندي أولا زُبَرَ الْحَدِيدِ اى قطعها الكبيرة فأتوا بها فأمرهم بحفر الأرض الى ان وصل الماء فوضع الأساس من الصخر والنحاس المذاب حتى وصل الى وجه الأرض أمرهم بتنضيد قطع الحديد بأن وضعوا بين كل قطعتي الحديد فحما وحطبا وأمرهم برفعه هكذا حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ اى بين جانبي الجبلين وصار ما بينهما مساويا للطرفين في الرفعة أمرهم بوضع المنافخ العظام من كلا طرفي السد ثم قالَ لهم انْفُخُوا فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً اى جعل المنفوخ فيه مثل النار في اللون والحرارة فأحرق الفحم والحطب وذابت واتصلت الزبر وبقيت فرج صغار يعنى لم يصل الى حد الملامسة والتسوية ثم قالَ آتُونِي شيئا مايعا مذابا أُفْرِغْ عَلَيْهِ ليصير ملسا مسوى لا فرج فيها ولا يرى اوصالها أصلا وبالجملة أتونى
قِطْراً نحاسا مذابا فأتوه فصب عليه فاستوى فصار أملس لا فرج لها أصلا
فَمَا اسْطاعُوا وما قدر يأجوج ومأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ ويصعدوا عليه ويعلوا لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا ايضا ان يحفروا لَهُ نَقْباً لعمقه وغلظ تحصنه
ثم لما انسد واستوى على الوجه الذي قصد قالَ ذو القرنين مسترجعا الى الله شاكرا لنعمه هذا اى إتمام هذا السد المحكم على الوجه الأسد الأحكم رَحْمَةٌ نازلة على مِنْ رَبِّي إذ لولا توفيقه واقداره لما صدر عنى وبقدرتي أمثال هذا فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقرب قيام الساعة وظهر اماراتها وأشراطها ومن جملة اماراتها خروج يأجوج من ورائه جَعَلَهُ سبحانه هذا السد الرفيع المنيع دَكَّاءَ اى مدكوكا مسوى مفتتا اجزاؤه بحيث لم يبق له ارتفاع أصلا وهم حينئذ يخرجون على الناس وَبالجملة قد كانَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة واستواء ظهر الأرض وكونها دكاء بحيث لا عوج لها ولا امتا حَقًّا ثابتا محققا لا شبهة فيه ولا في إتيانه ووقوعه.
ثم قال سبحانه وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يعنى بعد ما قد جعلنا الأرض مبسوطا مدكوكا حسب قهرنا وجلالنا وجعلنا السد الأسد السديد الرفيع المنيع مسوى قد أخرجنا يأجوج ومأجوج باقدارنا إياهم بالخروج وتركنا حينئذ بعض الناس يموج ويزدحم ويدخل من صولتهم واستيلائهم بعضا آخر مضطربين مضطرين يعنى بعض الناس يهرب منهم ويزدحم في اماكن البعض الآخر فيضيق عليهم الأمكنة والأطعمة فاضطرب الكل من تلك التموج والازدحام وَهم في تلك الاضطراب والتشتت من استيلاء أولئك الظلمة القهارين القتالين نُفِخَ فِي الصُّورِ للحشر والجمع الى المحشر والمجمع وقامت الطامة الكبرى فَجَمَعْناهُمْ حينئذ اى جميع الخلائق للعرض والحساب جَمْعاً مجتمعين في الحشر
وَبعد جمعنا إياهم قد عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ اى يوم الحشر لِلْكافِرِينَ المعرضين المكذبين للرسل والكتب المنكرين ليوم العرض والجزاء عَرْضاً على سبيل الإلزام والتبكيت سيما للقوم
الَّذِينَ قد كانَتْ أَعْيُنُهُمْ في النشأة الاولى فِي غِطاءٍ وغشاوة كثيفة عَنْ ذِكْرِي اى عن آياتي الدالة على ذكرى المؤدية الى التفكر والتدبر في آلائي ونعمائي المؤدية الى ملاحظة ذاتى المنتهية الى المكاشفة والمشاهدة للموفقين المؤيدين من عندي المنجذبين الى وَهم قد كانُوا ايضا لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون سَمْعاً اى إصغاء والتفاتا الى استماع كلمة الحق لتعطيلهم وكفرانهم حسب خباثة فطرتهم وطينتهم نعمة الحق الموهوبة لهم لاستماع كلمة الحق وإصغاء دلائل التوحيد عن مقتضاها.
ثم قال سبحانه على سبيل التقريع والتوبيخ أَللكفرة المشركين المتخذين آلهة سوى الله من مصنوعاته ومخلوقاته فَحَسِبَ وظن القوم الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بسبب أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي
واعتقدوهم مثل عزير وعيسى وعموم الأوثان والأصنام مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ آلهة سواي يعبدونهم كعبادتهم إياي أنا لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم في يوم الجزاء كلا وحاشا وكيف لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم إِنَّا من كمال قهرنا وغضبنا على من أشرك بنا غيرنا واثبت آلها سوانا قد أَعْتَدْنا وهيئنا جَهَنَّمَ البعد والخذلان المملوة الممتلئة بنيران الحرمان لِلْكافِرِينَ المعرضين عن مقتضيات آياتنا وكتبنا ورسلنا نُزُلًا ومنزلا معدا ينزلون فيها يوم الجزاء نزول المؤمنين في جنة الوصال ومقر الآمال
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين أربابا من دون الله من مصنوعاته يعبدونهم مثل عبادته وينكرون توحيده ويكذبون كتبه ورسله المبينين لأحوال النشأتين عنادا ومكابرة هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
نخبركم ونرشدكم ايها المنهمكون في الخسران والطغيان بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا اى العاملين الذين خسروا من جهة أعمالهم مع انهم قد زعموا الربح فيها
وهم الَّذِينَ ضَلَّ اى قد ضاع سَعْيُهُمْ الذي قد سعوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بإتيان الأعمال الصالحة والانفاق وبناء بقاع الخير وغير ذلك كالرهابنة والقسيسين وكذا عموم اهل العجب والرياء أية امة كانت وَهُمْ في النشأة الاولى يَحْسَبُونَ ويظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ينفعهم عند الله ويتوقعون المثوبة العظمى والدرجة العليا لأجلها مع انهم هم قد خسروا خسرانا مبينا لفقدهم ما هو مبنى للأعمال ومناط العبادات والأحوال الا وهو الايمان بتوحيد الله والتصديق بكتبه ورسله
أُولئِكَ البعداء الأشقياء المجبولون على الكفر والشقاق هم الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على توحيده وتصديق رسله وكتبه وَلِقائِهِ الموعود لعباده عند انجلاء حجبهم وارتفاع استارهم فَحَبِطَتْ اى قد ضاعت واضمحلت وضلت في النشأة الاخرى عنهم أَعْمالُهُمْ التي جاءوا بها في النشأة الاولى لطلب الربح والنفع فَلا نُقِيمُ ولا نضع لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال وتنقيدها وَزْناً مقدارا ينتفع ويعتد بها لانحباطها وسقوطها عن درجة الاعتبار لدى الملك الجبار
بل ذلِكَ الأمر والشان المترتب على الكفر والشرك هذا وهكذا وبالجملة جَزاؤُهُمْ ونفعهم العائد لهم لأجل أعمالهم هذه في يوم الجزاء جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخسران وما ذلك الا بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على وحدة ذاتى وعظمة صفاتي واستقلالى في شئوني وأفعالي وعموم تطوراتى وَكذلك قد اتخذوا عموم رُسُلِي المؤيدين بآياتى المبعوثين على تبيين دلائل توحيدي بين عبادي هُزُواً محل استهزاء يستهزؤن بهما وينكرون عليهما عتوا وعنادا.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الذات والصفات والأفعال وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى التوحيد الذاتي الملايمة المناسبة لشعائره ومناسكه كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ وهو وسط الجنة المشرف على أطرافها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم إذا سئلتم الله فاسئلوا الفردوس فانه وسط الجنة وهي بستان الغيب ومهبط الفتوحات الغيبية الا وهي أعلى مراتب ارباب التوحيد وأسناها وعند ذلك انتهى السير والسلوك وبعد ذلك السلوك فيه لا به واليه نُزُلًا ومنزلا ينزلون اليه ويتمكنون فيه
خالِدِينَ فِيها ولكمال صفائها ونضارتها ودوام لذاتها الروحانية لا يَبْغُونَ ولا يطلبون بالطبع والارادة عَنْها حِوَلًا اى انتقالا وتحولا لكونها مقر فطرتهم الاصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية إذ فوق عرش الرّحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها ثم لما طعنت اليهود في القرآن وأرادوا ان يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض حيث قالوا أنتم تقرءون في كتابكم تارة ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وتارة تقرءون وما أوتيتم من العلم الا قليلا وما هي الا تناقض صريح
امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقوله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلا ما يسقط شبهتهم ان أنصفوا نحن لا ندعى ان من اوتى الحكمة فقد اوتى بجميع معلومات الله وعلومه وكيف ندعى هذا وهو محال في غاية الاستحالة والامتناع إذ لَوْ كانَ الْبَحْرُ اى جنس البحر وهو عبارة عن جميع كرة الماء مِداداً اى ما يمد به القلم للرقم والكتابة لِكَلِماتِ رَبِّي وثبتها وكتبها لَنَفِدَ الْبَحْرُ البتة وانتهى لتناهيه وكونه محدودا قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لكونها غير محدودة وغير متناهية وَكيف لا لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ
اى بمثل جنس البحر بأضعاف أمثاله وآلافه مَدَداً لنفد وتناهى البتة إذ لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي وان فرض أضعافا وآلافا
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت لهم كثرة كلمات الله الغير المحصورة كلاما خاليا عن وصمة التفوق والتفضل المفضى الى الرعونة ناشئا عن محض الحكمة والفطنة إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قابل للعلوم والإدراكات مثلكم بمقتضى البشرية لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة غاية ما في الأمر انه يُوحى إِلَيَّ ويفاض على افاضة علم وعين وحق أَنَّما إِلهُكُمْ ومعبودكم ومظهركم إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك ولا نظير ولا وزير بل هو مستقل في الوجود والإيجاد والإظهار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالا ارادة واختيارا وليس امتيازى عنكم الا بهذا فَمَنْ كانَ منكم يَرْجُوا رجاء مؤمل بصير لِقاءَ رَبِّهِ مكاشفة ومشاهدة فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً قالعا لأصل انانيته وعرق هويته قامعا لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته مزيلا لذمائم أخلاقه وأطواره وَمع ذلك لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من خلقه يعنى لا يقصد من عمله وعبادته الرياء والسمعة والعجب والنخوة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء وقال تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فانا منه برئ وهو للذي عمله لأجله وبالجملة يعمل على وجه يسقط الكثرة والاثنينية لا على وجه يزيدها ويكثرها بل العامل العارف لا يطلب بعمله الجزاء ايضا بل انما يعمل امتثالا لأمره سبحانه وطلبا لمرضاته ولا يخطر بباله شيء سواه جعلنا الله ممن حققه الحق بمقام التوحيد وامنه عن توهم الرياء والتقليد وحفظه من كل شيطان مريد
خاتمة سورة الكهف
عليك ايها الموحد القاصد المتحقق في مقام التمكن من التوحيد قررك الله في مقعد صدقك ويقينك في مقر ثبتك وتمكينك ان تحفظ أعمالك التي قد جئت بها متقربا للوصول الى محل القبول عن مداخل الرياء والسمعة والعجب وانواع الرعونات إذ هي كلها شباك الشيطان وعقاله يقيد بها خواص عباد الله ويلهيهم بها عماهم عليه من الرضا والتسليم ويوقعهم في فتنة عظيمة ومعصية كبيرة مستلزمة للشرك بالله العياذ بالله من غوائل الشيطان وتسويلاته وتخلصها لمحض وجهه الكريم فلك ان تلازم العزلة وتداوم الخلوة حتى لا يلحقك من الخلطة أمثال هذه الأمراض العضال وايضا لك ان تجلى خاطرك وتصفى ضميرك عن عموم هواجسك المتعلقة بأمور معاشك بين بنى نوعك فان اكثر عروض هذه الأمراض انما يحصل من الأماني واخطار اللذات الوهمية من الجاه والثروة والتفوق على الأقران وغير ذلك وان شئت ان يسهل عليك الأمر فاشغل جوارحك لكسب ضروريات معاشك في بعض الأحيان واقنع باقل المعيشة وسد الرمق واحذر عن فضول العيش فان اكثر فحول الرجال قد استرق بفضول الأماني والآمال وبالجملة نعم القرين العزلة والفرار عن تغيرات الدنيا الغدار الغرار الخداع المكار والخمول في زوايا الكهوف والاغوار والفرار عن اختلاط اصحاب الخسار والبوار فاعتبروا يا اولى الأبصار ووفقنا بفضلك وجودك بما تحب عنا وترضى
Icon