تفسير سورة يس

التفسير المنير
تفسير سورة سورة يس من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

القرآن والرسول والمرسل إليهم
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
الإعراب:
يس إما بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي هذه يس، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، وقرئ بالنصب على معنى: اتل يس، وإما بالفتح كأين وكيف، وقرئ بالكسر مثل: جير لإسكان الياء وكسر ما قبلها. ومنهم من أظهر النون، ومنهم من أدغمها في الواو، فمن أظهرها فلأن حروف الهجاء من حقها أن يوقف عليها، كالعدد، ولذلك لم تعرب، ومن أدغمها أجراها مجرى المتصل، والإظهار أقيس.
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في موضع رفع خبر (إن) وعَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما في موضع رفع خبر بعد خبر (إن) وإما في موضع نصب متعلق ب الْمُرْسَلِينَ.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ منصوب على المصدر، مصدر (نزّل) وهو مضاف إلى الفاعل،
290
ويقرأ بالرفع على تقدير مبتدأ محذوف، تقديره: هو تنزيل، ويقرأ أيضا بالجر على البدل من القرآن.
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قَوْماً: إما نافية، وإما مصدرية في موضع نصب، تقديره: لتنذر قوما إنذارا مثل إنذارنا آباءهم، ممن كانوا في زمان إبراهيم وإسماعيل.
وَآثارَهُمْ هي السنن التي سنّوها، فيه محذوف تقديره: سنكتب ذكر ما قدموا وذكر آثارهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كُلَّ منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَحْصَيْناهُ أي أحصينا كل شيء أحصيناه.
البلاغة:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ في كل منهما تأكيد بأكثر من مؤكد وهو (إن) واللام لأن المخاطب منكر، وهذا التأكيد يسمى إنكاريا.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة تمثيلية، شبه حال الكفار في امتناعهم عن الإيمان بمن غلّت يده إلى عنقه بالقيود، فصار مرفوع الرأس خافض البصر، لا يستطيع فعل شيء ولا الالتفات إلى غيره. وكذلك شبه حالهم بمن وجد بين سدّين لا يستطيع النفاذ والاهتداء لطريقه.
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بينهما طباق.
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ بينهما طباق السلب.
نَحْنُ نُحْيِ جناس ناقص لتغير الحروف.
المفردات اللغوية:
يس تقرأ: يا، س بمد الياء، وإظهار النون الساكنة، أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها، إلخ ما ذكر في الحاشية، والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه، مثل ألا ويا، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الواو: واو القسم، يقسم الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني، أو بذي الحكمة، على أن محمدا رسول من عند الله، لئلا يشك أحد في كونه مرسلا. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء المرسلين إلى قومهم وغيرهم، والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم: لست مرسلا. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي الطريق القويم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل هو الموصل إلى المطلوب، في العقيدة والشريعة، في التوحيد والاستقامة في الأمور.
291
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي إن القرآن تنزيل منزل من العزيز الغالب في ملكه، الرحيم بخلقه. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ اللام متعلق ب تَنْزِيلَ، والمعنى أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون، في زمن الفترة، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. غافِلُونَ أي إن القوم العرب غافلون عن الإيمان والرشد، وعن الشرائع والأحكام.
حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ وجب الحكم بالعذاب على أكثر أهل مكة: وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون بالقرآن.
أَغْلالًا جمع غلّ: وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب. فَهِيَ الأيدي مجموعة.
إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن: وهي مجتمع اللّحيين. مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، غاضون أبصارهم في عدم التفاتهم إلى الحق. وهذا تمثيل، يراد به أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون نفوسهم له. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أمامهم، والمراد: منعناهم عن الإيمان بموانع هي استكبارهم وعتوهم وعنادهم عن قبول الحق والخضوع له. فَأَغْشَيْناهُمْ غطينا أبصارهم. فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار سبيل الهدى، إنهم عموا عن البعث، وعن قبول الشرائع الإلهية. وهذا تمثيل أيضا لسد طريق الإيمان عليهم لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه. والعلم: مجرد معرفة مسبقة لا يمنع الإنسان عقلا وواقعا من الإيمان لأنه غير معروف له.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إنذارك إياهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، بسبب العتو والاستكبار. إِنَّما تُنْذِرُ ينفع إنذارك. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتبع القرآن، وخاف عقاب الله في السر والعلن، وإن لم يره، والغيب: أي قبل معاينة أهواله. وَأَجْرٍ كَرِيمٍ هو الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى نبعثهم بعد الموت. وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. وَآثارَهُمْ أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كل شيء من أعمال العباد وغيرها ضبطناه في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ:
أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال:
292
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
نزول الآية (٨) :
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا لأفعلن، فأنزل الله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إلى قوله: لا يُبْصِرُونَ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.
نزول الآية (١٢) :
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى:
أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا». وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال: شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فأنزل الله تعالى: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم منازلكم، فإنما تكتب آثاركم».
التفسير والبيان:
يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي
293
أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم، ودين قويم، وشرع مستقيم لا عوج فيه.
وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، صادق في نبوته، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى ٤٢/ ٥٢- ٥٣].
وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن.
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ، فَهُمْ غافِلُونَ أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين.
لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم: لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم، مثل قوله تعالى: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر، ويصرون عليه طوال حياتهم.
294
والمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلي، وهو سبق علم الله بنهاياتهم، لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به.
ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم، فقال:
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود، تمنعهم من فعل شيء، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يوجهون أنظارهم نحوه، وهم أيضا كالقائمين بين سدين، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله، كما قال:
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف، فمنعاه من النظر، فهو لا يبصر شيئا، وهؤلاء لا ينتفعون بخير، ولا يهتدون إليه لأنا غطينا أبصارهم عن الحق.
وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي.
ونتيجة لما سبق:
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء، فلا ينفعهم الإنذار، ما داموا غير مستعدين
295
لقبول الحق، والخضوع لنداء الله، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.
أما نفع الإنذار، فهو كما ذكر تعالى:
إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله، أو خشوا الله قبل رؤيته، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم، ورضوان من الله، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك ٦٧/ ١٢].
ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم، فقال:
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى، وبعثهم أحياء من قبورهم، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء، وتركوا من أثر طيب أو خبيث، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها.
وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي-: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».
296
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده».
ثم ذكر تعالى أن كتابة الآثار لا تقتصر على الناس، وإنما تتناول جميع الأشياء، فقال:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي لقد ضبطنا وأحصينا كل شيء من أعمال العباد وغيرهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي سجّل فيه جميع ما يتعلق بالكائنات، كما قال تعالى: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه ٢٠/ ٥٢] وقال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر ٥٤/ ٥٢- ٥٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- القرآن الكريم معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وهو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
٢- الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام.
٣- رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى العرب خاصة وإلى الناس كافة، فلم يبق بعدها عذر لمعتذر.
٤- إن رؤوس الكفر والطغيان والعناد من أهل مكة أو العرب استحقوا الخلود في نار جهنم والعذاب الدائم فيها لأنهم أصروا على الكفر، وأعرضوا عن النظر في آيات الله، والتأمل في مشاهد الكون، وقد علم الله في علمه الأزلي
297
بقاءهم على الكفر، لكنه أمر نبيه بدعوتهم إلى دينه لأنهم لا يعلمون سابق علم الله فيهم، ولتعليمنا المنهج في دعوة الناس قاطبة إلى الإيمان بالله والقرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم والبعث والحساب والجزاء.
٥- لا أمل بعد هذا في إنذارهم ولا نفع فيه بعد أن سدوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة، ولم تتفتح بصائرهم لرؤية الحق والنور الإلهي.
٦- إنما نفع الإنذار لمن استعد للنظر في منهج الحق، ثم آمن بالقرآن كتابا من عند الله، وخشي عذاب الله وناره قبل المعاينة والحدوث، فهذا وأمثاله يغفر الله له ذنبه، ويدخله الجنة.
٧- البعث حق والإيمان به واجب، والله قادر عليه، وسيكون مستند الجزاء ما كتب من أعمال العباد، وما تركوه من آثار صالحة أو سيئة، كما أن الله أحصى كل شيء وضبطه من أمور الكائنات، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد دلّ سبب نزول الآية على أن حسنات البعيدين عن المسجد مثل حسنات القريبين منه، وأنه إن تعذر عليهم الاقتراب من المسجد أو شقّ عليهم، فلا يلزم القرب منه.
قصة أصحاب القرية- أنطاكية
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ٢٧]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
298
الإعراب:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أَصْحابَ: منصوب إما على البدل من قوله:
مَثَلًا أي واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، فالمثل الثاني بدل من الأول، وحذف المضاف، وإما لأنه مفعول ثان ل اضْرِبْ. وإِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ: بدل اشتمال من أصحاب القرية.
وإِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ بدل من إذ الأولى. وإِذْ جاءَهَا: ظرف لقوله جاءَهَا.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ جواب الشرط محذوف، تقديره: أئن ذكرتم، تلقيتم التذكير والإنذار بالكفر والإنكار. وأَ إِنْ: همزة استفهام دخلت على إن الشرطية.
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: أكثر القراء فتحوا الياء من لِيَ إشعارا بفتح الابتداء ب لا أَعْبُدُ ليبتعدوا عن صورة الوقف على الياء لأنهم لو سكنوا لكانت صورة السكون مثل صورة الوقف. أما في قوله: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل ٢٧/ ٢٠] فالياء ساكنة.
بِما غَفَرَ لِي رَبِّي ما: إما بمعنى الذي، وغَفَرَ لِي: صلته، والعائد محذوف
299
تقديره: الذي غفره لي ربي، وحذف تخفيفا، وإما مصدرية، أي بغفران ربي لي، وإما استفهامية، وفيه معنى التعجب من مغفرة الله، تحقيرا لعمله وتعظيما لمغفرة ربه، لكن في هذا الوجه ضعف لأنه لو كانت استفهامية لزم حذف الألف منها، فتصير (بم).
البلاغة:
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً إطناب بتكرار الفعل.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام للتوبيخ.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ مجاز بالحذف، أي لما أعلن إيمانه قتلوه، فقيل له: ادخل الجنة.
أَرْسَلْنا الْمُرْسَلُونَ تَطَيَّرْنا طائِرُكُمْ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي: ومثّل لهم مثلا، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، والمثل الثاني بيان للأول. والمثل: الصفة والحال الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قال القرطبي: هذه القرية: هي أنطاكية في قول جميع المفسرين. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم أصحاب عيسى، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعوة إلى الله. فَكَذَّبُوهُما في الرسالة. فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ قوّينا وأيدنا بثالث، وقرئ: فعززنا بالتخفيف: أي غلبنا وقهرنا.
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها.
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مما تدّعونه أنتم، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء ما تدّعون من ذلك. رَبُّنا يَعْلَمُ جار مجرى القسم، وقد أكدوا الجواب بالقسم وباللام، ردا على زيادة إنكارهم.
الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الواضح للرسالة بالأدلة الواضحة وهي معجزات عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الميت، وليس علينا غير ذلك. تَطَيَّرْنا تشاءمنا بكم، وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، واستقباحهم له ونفورهم عنه. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، واللام لام القسم. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم، شديد.
طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم، وهو الكفر والتكذيب، فهو سبب الشؤم لا نحن.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: أإن وعظناكم وخوفناكم وذكرناكم بالله، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، والمراد بالاستفهام: التوبيخ. مُسْرِفُونَ متجاوزون الحد في الشرك ومخالفة الحق.
300
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى هو حبيب بن موسى النجار، كان قد آمن بالرسل أصحاب عيسى، ومنزله بأقصى البلد أي أبعد مواضعها، قال قتادة: «كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى» أي يشتد عدوا لما سمع بتكذيب القوم للرسل. وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى: أيّ مانع يمنعني من عبادة الذي خلقني، وكذلك أنتم، ما لكم لا تعبدون الله الذي خلقكم؟! وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الموت، فيجازيكم بكفركم.
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفهام بمعنى النفي، أي لن أتخذ من غير الله الهة هي الأصنام، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني. لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي لا تفيدني شيئا من النفع، كائنا ما كان. وَلا يُنْقِذُونِ لا يخلصوني من الضر الذي أرادني الرحمن به. إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت من دونه آلهة. لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، وهذا تعريض بهم. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ آمنت بالذي خلقكم، فاسمعوا إيماني، فرجموه فمات. وهذا تصريح بعد التعريض تشددا في الحق.
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له عند موته: ادخل الجنة، تكريما له بدخولها بعد قتله، كما هي سنة الله في الشهداء. قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ تمنى أن يعلموا بحاله، ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته، فيؤمنوا مثل إيمانه.
المناسبة:
بعد بيان حال مشركي العرب الذين أصروا على الكفر، ضرب الحق تعالى لهم مثلا يشبه حالهم في الإفراط والغلو في الكفر وتكذيب الدعاة إلى الله، وهو حال أهل قرية أنطاكية شمال سورية على ساحل البحر المتوسط الذين كذبوا الرسل فدمرهم الله بصيحة واحدة، فإذا استمر المشركون على عنادهم واستكبارهم، كان إهلاكهم يسيرا كأهل هذه القرية، وتكون قصتهم مع رسل الله، كقصة قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم معه.
التفسير والبيان:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ أي واضرب مثلا في الغلو والعناد والكفر يا محمد لقومك الذين كذبوك بأهل قرية أنطاكية، حين
301
أرسل الله إليهم ثلاثة رسل من أصحاب عيسى عليه السلام الحواريين فكذبوهم، كما كذبك قومك عنادا، وأصر الفريقان على التكذيب.
والقرية: أنطاكية في رأي جميع المفسرين، والمرسلون: أصحاب عيسى أرسلهم مقررين لشريعته، في رأي ابن عباس وكثير من المفسرين.
ثم بيّن عدد الرسل فقال:
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ، فَقالُوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أي حين أرسلنا إليهم رسولين، أرسلهما عيسى عليه السلام بأمر الله تعالى، فبادروا إلى تكذيبهما في الرسالة، فأيدناهما وقويناهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا مرسلون إليكم من ربكم الذي خلقكم بأن تعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة الأصنام.
وكان الرسولان الأولان يوحنا وبولص، والرسول الثالث شمعون وقيل: إنه بولص.
فتمسكوا كغيرهم من الأمم بشبهة البشرية، كما حكى تعالى:
قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ أي قال أصحاب القرية للرسل الثلاثة: أنتم مثلنا بشر تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق، فمن أين لكم وجود مزية تختصون بها علينا، وتدّعون الرسالة؟ والله الرحمن لم ينزل إليكم رسالة ولا كتابا مما تدّعون، ويدّعيه غيركم من الرسل وأتباعهم، وما أنتم فيما تدّعون الرسالة إلا كاذبون.
وقولهم: ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ دليل على اعترافهم بوجود الله، لكنهم ينكرون الرسالة، ويعبدون الأصنام وسائل إلى الله تعالى.
وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله:
302
ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦] أي تعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [إبراهيم ١٤/ ١٠].
فأجابهم الرسل:
قالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:
الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه، لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزّنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار؟ كقوله تعالى:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً، يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٥٢].
ثم ذكر الرسل مهمتهم:
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، ولا يجب علينا إلا تبليغ الرسالة بنحو واضح، فإذا استجبتم كانت لكم سعادة الدارين، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم.
فعند ذلك هددهم أهل القرية:
قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ أي قال لهم أهل القرية: إنا تشاءمنا بكم، ولم نر خيرا في عيشنا على وجوهكم، فقد فرقتمونا وأوقعتم الخلاف فيما بيننا، ولئن لم تتركوا هذه الدعوة، وتعرضوا عن هذه المقالة، لنرجمنكم بالحجارة، وليصيبنكم منا عذاب مؤلم أو عقوبة شديدة. وقوله: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بيان للرجم، يعني: ولا يكون الرجم رجما قليلا بحجر أو حجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت، وهو عذاب أليم. ويرى
303
بعضهم أن الواو بمعنى (أو) والمراد: إما أن نقتلكم أو نسجنكم ونعذبكم في السجون.
فأجابهم الرسل:
قالُوا: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي قالت لهم رسلهم: شؤمكم مردود عليكم، وهو معكم ومنكم، فسبب الشؤم هو تكذيبكم وكفركم، لا نحن، أمن أجل تذكيركم وأمرنا إياكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم، وتوعدتمونا وهددتمونا؟ بل الحق أنكم قوم جاوزتم الحد في مخالفة الحق، وأسرفتم في الضلال، وتماديتم في الغي والعناد.
وهذا الموقف مشابه لموقف قوم فرعون: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا: لَنا هذِهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ١٣١] ومماثل لموقف قوم صالح: قالُوا: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، قالَ: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [النمل ٢٧/ ٤٧].
ثم أيدهم الله بنصير:
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى، قالَ: يا قَوْمِ، اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي وجاء رجل من أبعد أطراف المدينة يسرع المشي لما سمع بخبر الرسل، وهو حبيب النجار، فقال ناصحا قومه:
يا قوم، اتبعوا رسل الله الذين أتوكم لإنقاذكم من الضلال، وهم مخلصون لكم في دعوتهم، فلا يطلبون أجرا ماليا على إبلاغ الرسالة، وهم على منهج الحق والهداية فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.
وأبان أنه يحب لهم ما يحب لنفسه:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أي وما يمنعني من
304
إخلاص العبادة للذي خلقني، وإليه المرجع والمآل يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وفي هذا ترغيب بعبادة الله وترهيب من عقابه، ثم أكد سلامة منهجه وتقريعهم على عبادة الأصنام، فقال تعالى:
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، وَلا يُنْقِذُونِ؟ هذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، يراد به: لن أتخذ من دون الله آلهة، فأعبدها وأترك عبادة من يستحق العبادة، وهو الذي فطرني وخلقني، فإنه إن أرادني الرحمن بسوء لم تنفعني شفاعة هذه الأصنام التي تعبدونها، ولا تخلصني من ورطة السوء، فإنها لا تملك من الأمر شيئا إذ إنها لا تملك دفع الضرر ولا منعه، ولا جلب النفع، ولا تنقذ أحدا مما هو فيه.
إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إن اتخذت هذه الأصنام آلهة من دون الله، فإني في الحقيقة والواقع في خطأ واضح، وجهل فاضح، وانحراف عن الحق.
وهذا تعريض بهم، ثم صرح بإيمانه تصريحا لا شك فيه مخاطبا الرسل:
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي إني صدقت بربكم الذي أرسلكم، فاشهدوا لي بذلك عنده.
روي عن ابن عباس وكعب ووهب رضي الله عنهم: أنه لما قال ذلك، وثبوا عليه وثبة رجل واحد، فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة:
جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى مات رحمه الله.
وكان من حبّه لهدايتهم:
قِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي،
305
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
أي قال الله تكريما له بعد قتله: ادخل الجنة، لاستشهادك في سبيل إعلان الحق، فدخلها وهو يرزق فيها، فلما عاين نعيمها قال: يا ليت قومي يعلمون بمآلي وحسن حالي وحميد عاقبتي، فيؤمنوا مثل إيماني، فيصيروا إلى مثل ما أنا فيه من نعيم، وليتهم يعلمون بما أنعم الله عليّ من مغفرة لذنوبي، وبما جعلني في زمرة المكرمين المقربين الشهداء الذين منحهم ربهم الثواب الجزيل والفضل العميم. وهذا شأن المؤمن المخلص يحب الخير للناس جميعا، قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشّا.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لم يترك الله سبحانه في قرآنه سبيلا لدعوة الناس إلى الإيمان الصحيح، سواء بالأدلة والبراهين، أو بإعمال الفكر والعقل، أو بالتأمل والمشاهدة، أو بضرب الأمثال، أو بذكر القصص للعظة والعبرة.
والمراد من بيان قصة أصحاب القرية: توضيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإنذار المشركين من قومه، حتى لا يحل بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل.
٢- يكون الرسول عادة من جنس المرسل إليهم، حتى لا يبادروا إلى الإعراض بحجة المغايرة والمخالفة، فتكون شبهة الكافرين ببشرية الرسل في غير محلها، وإنما الباعث عليها الاعتزاز بالنفس والاستعلاء والاستكبار فيما يبدو.
٣- يؤكد الرسل عادة صدقهم بالمعجزات، وأما رسل عيسى فقد ذكروا للقوم معجزاته، وأقسموا بالله أنهم رسل الله الذين بعثهم عيسى بأمر ربه، وإن كذبوهم، لم يجدوا سبيلا إلا التصريح بمهمتهم بالتحديد، وهي إبلاغ الرسالة، والاعلام الواضح في أن الله واحد لا شريك له.
306
٤- لا يجد المرسل إليهم في العادة ذريعة بعد دحض حجتهم إلا ادّعاء التشاؤم بالرسل. قال مقاتل في أصحاب القرية: حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فقالوا: هذا بشؤمكم. ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين.
٥- ثم إذا ضاق الأمر بهم يلجأون عادة إلى التهديد والوعيد إما بالطرد والإبعاد من البلد، وإما بالقتل أو الرجم بالحجارة. قال الفراء في قوله:
لَنَرْجُمَنَّكُمْ: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم.
وأما قوله تعالى: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فهو إما القتل أي الرجم بالحجارة المتقدم، وإما التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب.
٦- إن الشؤم الحقيقي من أهل القرية وهو الشرك والكفر وتكذيب الرسل، وليس هو من شؤم المرسلين، ولا بسبب تذكيرهم ووعظهم، وإنما بسبب إسرافهم في الكفر، وتجاوزهم الحدّ، والمشرك يجاوز الحدّ.
٧- لا يعدم الحق في كل زمان أنصارا له، وإن كانوا قلة، وكان أهل الباطل كثرة، فقد قيض الله مؤمنا من أهل القرية جاء يعدو مسرعا لما سمع بخبر الرسل، وناقش قومه، ورغبهم وأرهبهم، ودعاهم إلى توحيد الله واتباع الرسل، وترك عبادة الأصنام، فإن الرسل على حق وهدى، لا يطلبون مالا على تبليغ الرسالة، وهذا دليل إخلاصهم وعدم اتهامهم بمأرب دنيوي، والخالق هو الأحق بالعبادة، وهو الذي إليه المرجع والمآب، فيحاسب الخلائق على ما قدموا من خير أو شر.
أما الأصنام فلا تجلب نفعا ولا تدفع ضررا، ولا تنقذ أحدا مما ألمّ به من البلاء، فمن عبدها بعدئذ فهو في خسران ظاهر.
307
٨- ثم صرح مؤمن القرية مخاطبا الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم، فليشهدوا له بالإيمان.
٩- لقد كان جزاؤه المرتقب من القوم بسبب تصلبه في الدين، وتشدده في إظهار الحق: القتل أو الموت الزؤام. وأما جزاؤه من الله فهو التكريم في جنان الخلد.
١٠- بالرغم من هذا الإيذاء والتعذيب أحبّ هذا المؤمن، كشأن كل مؤمن، أن يبادر قومه إلى الإيمان بمثل ما آمن به، ليحظوا بما حظي به من النعيم والنجاة. قال ابن عباس: نصح قومه حيّا وميتا.
وقال ابن أبي ليلى: سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصدّيقون. وقد ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
١١- قال القرطبي: وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام «١».
(١) تفسير القرطبي: ١٥/ ٢٠
308

[الجزء الثالث والعشرون]

[تتمة سورة يس]
تتمة قصة أصحاب القرية- تعذيب مكذبي الرسل-
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
الإعراب:
وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما: إما زائدة وإما اسم معطوف على جُنْدٍ.
يا حَسْرَةً نداء مشابه للمضاف، مثل: يا خيرا من زيد، ويا سائرا إلى الشام، ونداء مثل هذه الأشياء التي لا تعقل: تنبيه للمخاطبين، كأنه يقول لهم: تحسّروا على هذا، وادعوا الحسرة، وقولوا لها: احضري فهذا وقتك.
كَمْ أَهْلَكْنا.. كَمْ: اسم للعدد في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في موضع نصب على البدل من كَمْ. وكَمْ وما بعدها من الجملة في موضع نصب ب يَرَوْا. وأَنَّهُمْ مفعول مقدر، أي حكمنا أو قضينا أنهم لا يرجعون.
وَإِنْ كُلٌّ.. لَمَّا إِنْ مخففة من الثقيلة، ولما خففت بطل عملها لنقصها عن مشابهة الفعل، فارتفع ما بعدها بالابتداء. ولَمَّا جَمِيعٌ: خبره، وما: زائدة، وتقديره: لجميع، وأدخلت اللام في خبرها، لتفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما». ومن قرأ لَمَّا جَمِيعٌ بالتشديد، فمعناه «إلا» و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كل إلا جميع، فيكون كُلٌّ مرفوعا بالابتداء، وجَمِيعٌ خبره. ومُحْضَرُونَ خبر ثان.
5
البلاغة:
في الآيات المتقدمة من مطلع السورة إلى هنا يوجد فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، الذي يزيد في روعة البيان القرآني، ويؤثر في سمع التالي والمستمع.
المفردات اللغوية:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي لم ننزل على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له.
مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ الجند: العسكر، والمراد هنا الملائكة لإهلاكهم وللانتقام منهم. وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ملائكة لإهلاك أحد، لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند، وهذا للدلالة على أن إنزال الجنود من عظائم الأمور، وهو تحقير لشأنهم، وتصغير لأمرهم، فهم ليسوا أهلا لأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا أن صاح بهم جبريل، فأهلكهم. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ساكتون هامدون ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالرماد الخامد، فالخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا الموت.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، والعباد: هؤلاء ونحوهم ممن كذب الرسل، فأهلكوا، ونداء الحسرة مجاز، أي هذا أوانك فاحضري. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا سبب الحسرة وهو الاستهزاء المؤدي إلى إهلاكهم.
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أي أهل مكة القائلون للنبي: لست مرسلا، والاستفهام للتقرير، أي اعلموا. كَمْ خبرية بمعنى كثيرا، والمعنى: إنا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ كثيرا. مِنَ الْقُرُونِ الأمم: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم بعد هلاكهم، وضمير أَنَّهُمْ عائد للمهلكين، وضمير إِلَيْهِمْ عائد للمكذبين، أفلا يعتبرون بذلك؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ إِنْ: نافية بمعنى ما، ولَمَّا بمعنى إلّا، ويصح جعل «إن» مخففة من الثقيلة، ولما: بالتخفيف، واللام فارقة، وما: مزيدة. جَمِيعٌ مجموعون في الموقف بعد بعثهم. لَدَيْنا عندنا مُحْضَرُونَ للحساب.
المناسبة:
هذه الآيات تتمة قصة أصحاب القرية، أبان الله تعالى فيها حال المكذبين رسلهم، وأوضح سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي، ثم ما يتعرضون له من
6
العذاب الأخروي. وذكرت هنا في بدء الجزء، لأن عد الأجزاء مراعى فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي.
التفسير والبيان:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي لم ننزل على قوم المؤمن حبيب النجار من بعد قتلهم له، لدعوتهم إلى الإيمان بالله، جندا من الملائكة، وما كنا بحاجة إلى هذا الإنزال، بل كان الأمر أيسر علينا من ذلك، وقد سبق قضاؤنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند.
وهذا لتحقير شأنهم، فإن إنزال الملائكة لعظائم الأمور، وهؤلاء لا يحتاجون لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحده، كما قال تعالى:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ما كان إهلاكهم إلا بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، فأهلكهم، فإذا هم أموات لا حراك بهم.
وقوله: إِنْ كانَتْ أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، وقوله:
واحِدَةً تأكيد لكون الأمر هينا عند الله، وقوله: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ فيه إشارة إلى سرعة الهلاك.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا هؤلاء الذين كذبتم الرسل تحسروا حسرة أليمة، واندموا على ما فعلتم، بسبب أنه ما جاء رسول يدعو إلى التوحيد والحق والخير إلا استهزئ به وكذّب وجحد ما أرسل به من الحق. فقوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أي هذا وقت الحسرة على مكذبي الرسل، وتنكير حَسْرَةً للتكثير. وسبب التحسر عليهم: أنهم لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية. ولا متحسر أصلا في الحقيقة، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة، حيث ظهرت الندامة عند مواجهة العذاب ومعاينته. وقيل: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل.
7
ثم أنذر الله تعالى الأجيال الحاضرة والمستقبلة فقال:
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لما يزعم الدّهرية الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.. [الجاثية ٤٥/ ٢٤].
ثم أعلمهم أيضا بوجود الحساب والعقاب في الآخرة بعد عذاب الدنيا، فقال تعالى:
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلّها خيرها وشرها، وهذا كقوله عز وجل: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود ١١/ ١١١].
وهذا دليل على أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب، وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، كما قال القائل:
ولو أنّا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيّ
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن تكذيب الرسل ما جاؤوا به من الحق يستدعي مزيد الألم والندامة والحسرة.
٢- لا رجعة لأحد إلى الدنيا بعد الموت أو الإهلاك.
٣- إن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الدائم.
8
أدلة القدرة الإلهية على البعث وغيره
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٤٤]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
الإعراب:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أَحْيَيْناها خبر للأرض، والجملة خبر لآية أو صفة لها.
9
وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما: إما اسم موصول في موضع جر بالعطف على ثَمَرِهِ.
وعَمِلَتْهُ: الصلة، والهاء: العائد، وإما أنها نافية في قراءة «عملت» بغير هاء، والوجه الأول أوجه، لاحتياج «عملت» لتقدير مفعول إذا كانت «ما» نافية. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الْقَمَرَ إما مرفوع بالابتداء، وقَدَّرْناهُ الخبر، وإما منصوب بتقدير فعل دل عليه.
قَدَّرْناهُ أي قدرنا القمر قدرناه. ومَنازِلَ أي قدرناه ذا منازل، فحذف المضاف، أو قدرنا له منازل، فحذف حرف الجر من المفعول الأول.
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ.. الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير عادَ وهو العامل فيه وكَالْعُرْجُونِ: وزنه فعلول نحو زنبور وقرقور، وليس على وزن فعلون لأنه ليس في كلام العرب.
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع رفع فاعل: يَنْبَغِي.
وقرئ سابِقُ النَّهارِ بالجر بالإضافة، وسابق النهار، لأن التقدير: سابق النهار، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ آيَةٌ مبتدأ، وخبره إما لَهُمْ وإما أَنَّا حَمَلْنا.
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ صَرِيخَ: مبني مع لا على الفتح، ويجوز فيه الرفع مع التنوين، لتكرار «لا» مرة ثانية.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا رَحْمَةً: منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي إلا برحمة، أو مفعول لأجله.
البلاغة:
وَآيَةٌ لَهُمُ التنكير للتعظيم، أي آية عظيمة دالة على قدرة الله على البعث وغيره.
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بين الموت والإحياء طباق.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ بين الليل والنهار طباق أيضا، وفي قوله نَسْلَخُ استعارة تصريحية، صرح فيها بلفظ المشبه به، حيث شبه إظهار ضوء النهار من ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، واستعار كلمة «السلخ» للإزالة والإخراج.
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ تشبيه مرسل مجمل لأنه لم يذكر فيه وجه الشبه، وهو مشتمل على ثلاثة أوضاع: الدقة، والانحناء، والصفرة.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها.. قدم الفاعل على الفعل لتقوية النفي، وللدلالة على أن الشمس مسخرة بأمر الله، لا تسير في مدارها إلا بإرادة الله.
10
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فيه تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، حيث عبر عن الشمس والقمر والنجوم بضمير جمع المذكر في قوله يَسْبَحُونَ بدل: يسبح، لأن السباحة من صفات العقلاء.
يَأْكُلُونَ والْعُيُونِ ويَعْلَمُونَ ومُظْلِمُونَ ويَسْبَحُونَ والْمَشْحُونِ ويَرْكَبُونَ سجع لطيف غير متكلف، وكذا في قوله الْعَلِيمِ والْقَدِيمِ.
المفردات اللغوية:
وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على البعث. الْمَيْتَةُ التي لا نبات فيها، وتقرأ بتخفيف الياء أو بالتشديد، والأول أشيع لسلسها على اللسان. أَحْيَيْناها بالماء فصارت حية بالنبات.
وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا المراد جنس الحب كالحنطة. فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدم الصلة (الجار والمجرور) على الفعل للدلالة على أن معظم ما يؤكل ويعاش به هو الحب. جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار مثمرة كالنخيل والأعناب. وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ فتّحنا وشققنا فيها شيئا من العيون.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثَمَرِهِ يقرأ بفتحتين وضمتين، أي ثمر المذكور من النخيل وغيره.
وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قيل: ما: نافية أي لم تعمل الأيدي الثمر بل العامل له هو الله، والأصح:
أنها اسم موصول عطف على الثمر، والمراد: ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما. أَفَلا يَشْكُرُونَ أنعم الله تعالى عليهم وهو أمر بالشكر، من طريق إنكار تركه. سُبْحانَ تنزيها لله عما لا يليق به. الْأَزْواجَ كُلَّها الأنواع والأصناف المختلفة. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أي وخلق الأزواج من أنفسهم، وهم الذكور والإناث من بني آدم.
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصناف المخلوقات العجيبة في البرّ والبحر، والسماء والأرض، مما لم يطلعهم الله عليه، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ أي وعلامة دالة لهم على القدرة العظيمة وتوحيد الله ووجوب ألوهيته.
نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نفصل منه النهار ونزيله عنه، والسلخ: إذهاب الضوء، ومجيء الظلمة.
فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها آية مستقلة أخرى، تطلع وتسير لحد معين ينتهي إليه جريانها ودورها. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي ذلك الجري تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، الْعَلِيمِ المحيط علمه بكل معلوم.
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي جعلنا له منازل، والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافات التي يقطعها القمر في يوم وليلة، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها، فإذا صار في آخرها وهو حينئذ دقيق قوس، عاد إلى أولها. ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما،
11
وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما. والمنازل معروفة: وهي الشّرطان، البطين، الثّريّا، الدّبران، الهقعة، الهنعة، الذّراع المبسوطة، النّثرة، الطّرف، الجبهة، الزّبرة، الصّرفة، العوّاء، السّماك الأعزل، الغفر، الزّبانى، الإكليل، القلب، الشّولة، النّعائم، البلدّة، سعد الذّابح، سعد بلع، سعد السّعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخّر، الرّشاء وهو بطن الحوت.
حَتَّى عادَ في آخر منازله في رأي العين. كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ كالشمراخ المعوج، لأنه إذا عتق يرق ويتقوس ويصفر. والْقَدِيمِ العتيق.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها لا يصح لها ويسهل. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره، فتجتمع معه في الليل، لأن لكل واحد منهما مدارا منفردا، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، وإن كانت في نظر العين تسبق الشمس القمر في كل شهر مرة.
والخلاصة: أن حرف النفي لَا للدلالة على أنها مسخرة، لا يتيسر لها إلا ما أريد بها.
وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي لا يأتي قبل انقضائه، ولا يسبقه، ولكن يأتي عقبه، ويجيء كل واحد منهما في وقته، ولا يسبق صاحبه. وَكُلٌّ التنوين عوض عن المضاف إليه، أي وكل من الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم. فِي فَلَكٍ هو المدار الذي يدور فيه الكوكب، سمي به لاستدارته كفلكة المغزل. يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بسهولة، وقد نزّلوا منزلة العقلاء.
وَآيَةٌ لَهُمُ علامة دالة على قدرتنا. أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ وقرئ: ذرياتهم أي أولادهم ومن يهمهم حمله الذين يبعثونهم للتجارة، وأصل الذرية: صغار الأولاد، ثم استعملت في الصغار والكبار، وتطلق على الواحد والجمع، وقيل: المراد آباؤهم الأقدمون الذين في أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما امتن الله عليهم بذكر الذرية دونهم، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، وأدخل في التعجيب من قدرته، في حمل أصولهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ السفينة المملوءة، قيل: إنها سفينة نوح عليه السلام.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي أوجدنا بتعليمهم صناعة السفن الصغار والكبار والزوارق، مثل سفينة نوح عليه السلام، وقيل: المراد الإبل، فإنها سفائن البر. ما يَرْكَبُونَ فيه، ولعل ذلك إشارة إلى المركبات والقطارات والطائرات المستحدثة. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إن نرد أغرقناهم مع إيجاد السفن. فَلا صَرِيخَ لَهُمْ لا مغيث. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي لا أحد ينقذهم وينجيهم إلا بإنقاذنا لرحمة وتمتيع إياهم بلذاتهم إلى انقضاء آجالهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما يدل على الحشر بإحضار جميع الأمم إليه يوم القيامة
12
للحساب والجزاء، ذكر ما يدل على إمكان البعث بإنبات النبات من الأرض الجدباء بالمطر، وإيجاد البساتين وتفجير الأنهار، لتوفير سبل المعاش بها، مما يستدعي شكرهم على تلك النعم.
وبعد بيان أحوال الأرض التي هي المكان الكلي، ذكر أربع آيات دالة على قدرته العظيمة من أحوال الأزمنة، وهي تعاقب الليل والنهار، ودوران الشمس، ومسير القمر في منازله، وتخصيص مدار مستقل لكل من الشمس والقمر.
ثم أردف ذلك بدليل آخر دال على القدرة المقترنة بالرحمة وهو تنقل الأولاد والأجيال في السفن العابرة مياه البحار.
التفسير والبيان:
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي ومن العلامات الدالة على وجود الله وقدرته على البعث وإحياء الموتى: إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها، بإنزال الماء عليها، وجعلها تموج وتهتز بالنبات المختلف الألوان والأشكال، وإخراج الحب الذي هو رزق للعباد ولأنعامهم، وهو معظم ما يؤكل، وأكثر ما تقوم به الحياة والمعاش. وكما نحيي الأرض الميتة نحيي الموتى.
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي وأوجدنا في الأرض التي أحييناها بساتين مشجرة من نخيل وأعناب وغيرها، وجعلنا فيها أنهارا موزعة في أماكن مختلفة، يحتاجون إليها. وخصص النخيل والأعناب بالذكر من بين سائر الفواكه، لأن ألذ المطعوم الحلاوة، وهي فيها أتم، ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة خلافا لغيرهما، ولأنهما أعم نفعا.
13
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ، أَفَلا يَشْكُرُونَ أي إن القصد من إنشاء الحب والجنات أن يأكل المخلوقون من ثمر المذكور من النخيل والأعناب، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من تلك الغراس والزروع أو الحبوب والثمار، كالعصير والدبس ونحوهما، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بقدرتهم وقوتهم، فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! وهذا أمر بالشكر من طريق إنكار تركه.
وقوله مِنْ ثَمَرِهِ عائد إلى ما ذكر قبل ذلك، وقال الرازي: المشهور أنه عائد إلى الله. وقوله: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ يشمل في رأي الرازي الزراعة والتجارة.
ولما أمرهم تعالى بالشكر، وشكر الله بالعبادة، نبّه إلى أنهم لم يقتنعوا بالترك، بل عبدوا غيره، وأتوا بالشرك، فقال:
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي تنزيها عن الشريك لله الذي خلق الأنواع والأصناف كلها من مختلف الألوان والطعوم والأشكال، من الزروع والثمار والنبات، وخلق من النفوس الذكور والإناث، وخلق مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال تعالى:
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٨] وقال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٩].
والخلاصة: أن خالق هذا الخلق العظيم من إنسان وحيوان ونبات وخالق أشياء لا نعلمها منزه عن الشريك والنظير، قادر على كل شيء، وفي الآية الأمر بالتنزيه عما لا يليق بالله تعالى، كالأمر بالشكر في الآية المتقدمة.
وبعد الاستدلال على إمكان البعث والحشر بأحوال الأرض المكانية، ذكر تعالى أدلة أربعة من أحوال الأزمنة، فقال:
14
١- وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي ومن أدلة قدرته تعالى العظيمة: خلق الليل والنهار، وتعاقب الليل والنهار دائبين، فينزع النهار من الليل فيأتي بالضوء وتذهب الظلمة، وينزع الليل من النهار، فيصبح الخلق في ظلمة ويذهب الضوء، وهكذا يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف ٧/ ٥٤] نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق، فتشرق الشمس على نصف الكرة الأرضية، وتغيب عن النصف الآخر، وفي كل من الظلمة والنور نفع وخير، ففي الظلام ترك العمل وسكون النفس والراحة من العناء، وفي النور متعة ولذة وحركة وعمل من أجل كسب الرزق.
وقوله فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام، وإذا للمفاجاة، أي فهم داخلون في الظلمة مفاجأة وبغتة، لا يد لهم بعدئذ، ولا بد من الدخول فيه.
٢- وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي وآية مستقلة دالة على قدرته تعالى: دوران الشمس في فلكها إلى نهاية مدارها، وذلك الدوران تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء، المحيط علمه بكل شيء. وهناك قولان للمفسرين في تفسير المستقر: الأول- أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي وجميع المخلوقات تحت العرش. والثاني- أن المراد مستقرها الزماني وهو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة «١».
وقد أثبت علماء الفلك أنه زيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم بسبب دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة، للشمس حركتان أخريان:
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٥٧١ وما بعدها.
15
دورة حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا، ودورة مع توابعها من الكواكب السيارة حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتي ميل في الثانية. والمستقر في رأي العلماء في الحالة الأولى: هو المحور الثابت، وفي الثانية: هو مركز النظام النجومي بأسره.
٣- وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أي جعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر، وهي ثمانية وعشرون منزلا ذكرناها، ينزل كل ليلة في واحد منها بمعدل ١٣ درجة في اليوم، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما، فإذا صار القمر في آخرها دق وصغر واصفر وتقوس، وعاد إلى أولها، حتى صار كالعرجون القديم:
وهو الغصن الذي عليه طلع النخلة، وهو أصفر عريض يعوجّ، ويقطع منه الشماريخ، يبقى على النخل يابسا.
ويستدل بمنازل القمر على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٨٩] وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥] وقال تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء ١٧/ ١٢]. والشمس تطلع كل يوم، وتغرب في آخره، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار، ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار. وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء مقتبسا من الشمس، حتى يتكامل في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم- عرجون النخل.
16
وعلماء الفلك قسموا النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر. وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء (أي الأمطار)، ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة ومنها الشمس.
٤- لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي لا يصح ولا يسهل لكل من الشمس والقمر أن يدرك أحدهما الآخر، لأن لكل منهما مدارا مستقلا، لا يجتمع مع الآخر فيه، ولأن الشمس تسير مقدار درجة في اليوم، والقمر يسير مقدار (١٣) درجة في اليوم.
ولا تسبق آية الليل وهي القمر آية النهار وهي الشمس، لأن لكل منهما مجالا وسلطانا، فسلطان الشمس ومجالها بالنهار، وسلطان القمر بالليل.
وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء، كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار لها نصف قطره (٩٣) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (٢٤) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة.
وهذا دليل على أن الله جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
وبعد بيان الدليل المكاني وهو الأرض والأدلة الزمنية الأربعة المتقدمة، أتى تعالى بدليل آخر على قدرته، وهو تسيير الإنسان في البحر كما يسير في البر، كما قال تعالى: وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء ١٧/ ٧٠] وقال هنا:
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي ومن دلائل قدرته ورحمته تبارك وتعالى: تسخيره البحر ليحمل السفن، وركوب الذرية، أي الأولاد في السفن المملوءة بالبضائع التي ينقلونها من بلد إلى آخر، لتوفير القوت
17
والمعاش، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان ٣١/ ٣١].
وقيل: الذرية: آباؤهم الذين حملوا في سفينة نوح عليه السلام، وهي السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات التي أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، حفاظا على أصول المخلوقات. والمعنى: أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ أي وخلقنا للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبون عليها، لكن قال الرازي: الضمير في مِثْلِهِ عائد إلى الفلك، على قول الأكثرين، فيكون هذا كقوله تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص ٣٨/ ٥٨] وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم، وليس المراد الإبل.
ويؤيد هذا قوله تعالى هنا: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ. ولو كان المراد الإبل، لكان قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ فاصلا بين متصلين.
ويحتمل أن يعود الضمير إلى معلوم غير مذكور تقديره: من مثل ما ذكرنا من المخلوقات، مثل قوله تعالى هنا: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ «١» وعلى هذا، الآية تشمل كل وسائل النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات. ونظير الآية قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٨].
ودليل رحمته ولطفه تعالى حفظ الركاب في تلك الوسائط، فقال: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي وإن نرد إغراقهم في الماء مع حمولاتهم، فلا مغيث لهم يغيثهم مما هم فيه، أو ينجيهم من الغرق، ولا هم ينقذون مما أصابهم.
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ٨١، تفسير الألوسي: ٢٣/ ٢٧
18
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ إِلَّا هنا: استثناء منقطع، تقديره: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونحفظكم من الغرق، ونسلمكم إلى أجل مسمى، ونمتعكم بالحياة الدنيا إلى وقت معلوم عند الله عز وجل، وهو الموت.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته على البعث وإحياء الموتى وغير ذلك: إحياء الأرض الهامدة بالنبات الأخضر، وإخراج الحب منه، الذي هو قوام الحياة وأساس القوت والمعاش.
٢- ومن الأدلة أيضا خلق بساتين في الأرض من نخيل وأعناب، وتفجير الينابيع في البساتين للأكل من ثمر ماء العيون، أو من ثمر المذكور وهو ثمر الجنات والنخيل، ومن الذي عملته أيدي الناس من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما اتخذوا من الحبوب كالخبر وأنواع الحلويات.
وخصص النخيل والأعناب بالذكر، لأنهما أعلى الثمار، كما تقدم.
٣- تستوجب هذه النعم شكر الخالق المنعم المتفضل، وشكره بعبادته، والإذعان لسلطانه وإرادته.
٤- يجب تنزيه الخالق عما لا يليق به، والبعد عن صنيع الكفار الذين عبدوا غير الله، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته.
٥- إن آثار قدرة الله ومظاهرها في العالم كثيرة، منها خلق النباتات والثمار المختلفة والألوان والطعوم والأشكال والأحجام صغرا وكبرا. ومنها خلق الأولاد
19
والأزواج أي ذكورا وإناثا، ومنها خلق أصناف أخرى لا يعلمها البشر في البر والبحر والسماء والأرض.
وإذا كان الله قد انفرد بالخلق، فلا ينبغي أن يشرك به.
٦- ومن العلامات الدالة أيضا على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته:
تعاقب الليل والنهار وما يتبعهما من ظلمة وضوء لتحقيق مصالح العباد، وضبط السنين والحساب، وجريان الشمس لمستقرّ لها هو محورها أو نهاية سيرها يوم القيامة، وتقدير القمر ذا منازل هي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، فإذا صار في آخرها، عاد إلى أوّلها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة، ثم يستتر، ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج، لكل برج منزلان وثلث.
ومنها جعل مدار مستقل وسلطان منفرد لكل من الشمس والقمر والأرض، فلا يدخل أحدها على الآخر، وإنما كل من الشمس والقمر والنجوم يجري في فلك خاص به.
٧- ومن دلائل قدرة الله ورحمته: حمل ذرية القرون الماضية والحاضرة والمقبلة في السفن المملوءة بالسلع والأمتعة، وخلق وسائط أخرى للركوب مماثلة للسفن وهي الإبل سفائن البراري، ووسائل النقل الحديثة في البر والجو من سيارات وقطارات وطائرات ومناطيد (أو مطاود) ونحوها.
والله قادر على إغراق ركاب السفن في البحار، فيصبحون دون مغيث ولا مجير ولا منقذ مما ألم بهم، ولكن رحمته تعالى اقتضت إبقاءهم وإنقاذهم ليتمتعوا بمتاع الحياة الدنيوية إلى آجالهم المرسومة، وأعمارهم المحدودة، والتمتع إلى حين هو الموت.
20
وقد عجّل الله عذاب الأمم السالفة، وأخّر عذاب أمة محمد ص، وإن كذبوه، إلى يوم القيامة، تكريما لهذا الرسول ص.
موقف الكفار من تقوى الله وآيات الله والشفقة على خلق الله
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
البلاغة:
قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بين الكفر والإيمان طباق.
أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ استفهام أريد به التهكم.
المفردات اللغوية:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ للكفار اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ احذروا ما هو قدّامكم من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وما ستواجهون من عذاب الآخرة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين لرحمة الله. وجواب إذا محذوف تقديره: أعرضوا، دل عليه الآية التي بعدها.
إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي ما تأتيهم من آية من آيات القرآن إلا أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إليها وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي قال فقراء الصحابة أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي تصدقوا على الفقراء من الأموال التي رزقكم الله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا استهزاء بهم، وتهكما بقولهم.
أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ في زعمكم ومعتقدكم، وقولكم: إن الرزاق هو الله، فكأنهم حاولوا إلزام المسلمين قائلين: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا إلا في ضلال واضح، حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله. ويجوز أن يكون هذا جوابا لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.
21
وهذا غلط منهم، ومكابرة ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضا لحكمة يعلمها، وأمر الغني أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض عليه من الصدقة، ليعلم الطائع من العاصي علم بيان وانكشاف، وإقامة حجة وبرهان.
المناسبة:
بعد بيان الآيات الدالة يقينا وقطعا على وجود الله وتوحيده وقدرته التامة، أخبر الله تعالى أن الكفار مع هذا الدليل القاطع يعرضون عن آيات ربهم، ولا يعترفون بها، وشأن العاقل الاقتناع بها، ولكن هؤلاء لا يتقون الله، ولا يحذرون بأن يصيبهم مثل هلاك الأمم الغابرة، ولا يفكرون في آيات الله، وليس في قلوبهم رحمة أو شفقة على عباد الله، فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة، وليسوا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم الماضية، ولا بما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة، فيقول:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وإذا قيل لهؤلاء المعرضين عن آيات الله، المكذبين بها: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب من قبلكم من الأمم، مما هو قدّامكم، من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا، وخافوا ما أنتم مقدمون عليه بعد الهلاك من عذاب الآخرة، إذا أصررتم على الكفر حتى الموت، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك، ويحميكم من عذابه، ويغفر لكم.
وإذا قيل لهم ذلك أعرضوا عنه، وإذا قيل لهم: اتقوا لا يتقون.
وليس إعراضهم مقتصرا على ذلك، بل هم عن كل آية معرضون، كما قال تعالى:
22
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ أي وما تجيء هؤلاء المشركين آية من آيات الله على التوحيد وصدق الرسل إلا شأنهم الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها، وترك التأمل بها، وعدم الانتفاع بها، لتعطيل طاقة الفكر والنظر المرشد إلى الإيمان وتصديق الرسول ص.
وفضلا عن سوء الاعتقاد بالله ورسوله ص، تركوا الشفقة على خلق الله، كما قال تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟ أي وإذا طلب منهم الصدقة، وأمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج، أجابوا المؤمنين استهزاء بهم، وتهكما بقولهم: هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم: لو شاء الله لأغناهم، ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم.
وكان هذا الاحتجاج باطلا، لأن الله تعالى إذا ملّك عبدا مالا، ثم أوجب عليه فيه حقا، فكأنه انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم، ولكن كذبوا في الاحتجاج بذلك.
وقوله: مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ترغيب في الإنفاق، فإن الله رزقكم، فإذا أنفقتم فهو يخلف لكم الرزق ثانيا كما رزقكم أولا، وهو أيضا ذم على البخل الذي هو في غاية القبح، فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير، وفي هذا ذم لهم على ترك الشفقة على خلق الله.
ومع هذا كله، عابوا الآمرين لهم بالإنفاق واتهموهم بالضلال، فقالوا تتمة لكلامهم:
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ما أنتم في أمركم لنا بالإنفاق إلا في خطأ واضح، وانحراف عن جادة الهدى والرشاد.
23
وقوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا.. يفيد الحصر. وهذا فهم خطأ من المشركين، لأن حكمة الله اقتضت تفاوت الناس في الرزق، فهو يقبض الرزق عمن يشاء، ويبسطه لمن يشاء، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٧] فقد أغنى قوما، وأفقر آخرين، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل ٩٢/ ٥- ١٠].
وقال ابن جرير عن قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين، وردوا عليهم، فقال لهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن كثير: وفي هذا نظر، والله أعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمور ثلاثة هي:
أولا- إن المشركين قوم تمادوا في الغي والضلال والعناد والكبر، ولم يتأملوا في أحداث الماضي، ووقائع الزمان، وأحوال الأمم التي أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم، ولم ينظروا في مستقبل الحياة الآخرة، فتراهم إذا قيل لهم: اتقوا الله، لا يتقون.
ثانيا- وهم أيضا شأنهم وديدنهم الإعراض عن آيات الله، والتكذيب لها، وعدم الانتفاع بها، لتركهم النظر المؤدي إلى الإيمان بالله وتصديق الرسول ص.
ثالثا- كما أنهم أخلّوا بتعظيم الخالق، حرموا العطف والشفقة على الإنسانية، وانعدمت عندهم عاطفة الرحمة بالمخلوقات، إذ قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، فبخلوا وتهكموا، وهو شأن البخلاء في كل عصر.
24
إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٤]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
الإعراب:
يَخِصِّمُونَ الأصل: يختصمون بوزن «يفتعلون» فحذف حركة التاء، ولم ينقلها إلى الخاء، وأبدل من التاء صادا، وأدغم الصادين ببعضهما، وكسر الخاء لسكونها وسكون الصاد الأولى، لأن الأصل في التقاء الساكنين الكسر. وقرئ يَخِصِّمُونَ بفتح الياء والخاء، بنقل تتمة التاء إلى الخاء، وقرئ أيضا يَخِصِّمُونَ بكسر الياء والخاء، وقد كسر الياء اتباعا لكسرة الخاء، والكسر للاتباع كثير في كلامهم، مثل قسيّ وعصي وخفي. وقرئ «يخصمون» كيضربون، أي يخصم بعضهم بعضا.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل فَإِذا هُمْ إذا هنا ظرفية للمفاجاة.
يا وَيْلَنا إما منادى مضاف، فويل: هو المنادي، ونا: هو المضاف إليه، ونداء الويل كنداء الحسرة في قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ. وإما أن يكون المنادي محذوفا، ووَيْلَنا منصوب على المصدر، كأنهم قالوا: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضيفت حذفت اللام الثانية.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر، وما مصدرية أو موصولة محذوفة العائد.
25
البلاغة:
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا استعارة، شبه حال موتهم بحال نومهم، أي من بعثنا من موتنا.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فيه إيجاز بالحذف، أي تقول لهم الملائكة ذلك، أي وعدكم به الرحمن.
المفردات اللغوية:
مَتى هذَا الْوَعْدُ متى يتحقق ويجيء ما وعدتمونا به وهو وعد البعث ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي نفخة إسرافيل الأولى في الصور، وهي التي يموت بها أهل الأرض جميعا تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة فجأة في غفلة عنها، وهم يتخاصمون في معاملاتهم ومتاجرهم وأكلهم وشربهم وغير ذلك.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أن يوصوا في شيء من أمورهم بما لهم وما عليهم وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون الرجوع من أسواقهم وأشغالهم إلى منازلهم، بل يموتون فيها وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ فيه النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة فَإِذا هُمْ المقبورون مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون بسرعة، أو يسرعون.
قالُوا أي الكفار منهم يا وَيْلَنا يا هلاكنا، والويل: مصدر لا فعل له من لفظه وهو الهلاك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ من أخرجنا من موتنا، لأنهم بسبب ما رأوا من الهول، وما داهمهم من الفزع، ظنوا أنهم كانوا نياما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث الذي وعد به الرحمن وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي وصدق فيه الأنبياء المرسلون، والمعنى: رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم كانوا في الموت وبعثوا، وأقروا بصدق الرسل يوم لا ينفع التصديق أو الإقرار.
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت الفعلة إلا النفخة الأخيرة التي نفخها إسرافيل في الصور، فإذا هم مجموعون عندنا بسرعة بمجرد تلك الصيحة للحساب والجزاء والعقاب. قال البيضاوي: وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسباب المألوفة في الدنيا. وتنكير صَيْحَةً للتكثير.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك، تصويرا للموعود، وتمكينا له في النفوس.
26
المناسبة:
بعد بيان إعراض الكفار عن التقوى، وامتناعهم من الإنفاق، أبان الله تعالى سبب ذلك وهو إنكارهم للبعث، واستعجالهم له، استهزاء به، ثم أوضح أنه حق لا مرية فيه، وأنه سيأتيهم الموت بغتة، وهم في غفلة عنه، وأن البعث أمر سهل على الله لا يحتاج إلا إلى نفخة واحدة في الصور.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون استعجالا للبعث استهزاء وسخرية وتهكما بالمؤمنين: متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به، وتهددونا به، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون؟! والخطاب للرسول ص والمؤمنين الذين دعوهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، فأجابهم الله تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي ما ينتظرون للعذاب والقيامة إلا نفخة واحدة في الصور، هي نفخة الفزع التي يموت بها جميع أهل الأرض فجأة، وهم يختصمون فيما بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا أي وهم متشاغلون في شؤون الحياة من معاملة وحديث وطعام وشراب وغير ذلك، كما قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف ٧/ ٩٥] وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف ٤٣/ ٦٦].
وقوله جل وعز: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى في الصور، كما قال عكرمة، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عمر قال: لينفخنّ في الصور،
27
والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ، وَهُمْ يَخِصِّمُونَ.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، والرجل يليط «١» حوضه، فلا يسقي منه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (نعجته)، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه (فمه)، فلا يطعمها».
ثم أبان تعالى سرعة حدوث الموت العام أو الصيحة، فقال:
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم، ولا يتمكنون من الرجوع إلى منازلهم التي كانوا خارجين عنها.
ثم أخبر الله تعالى عن نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور من القبور، فقال:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور من القبور، فإذا جميع المخلوقين يخرجون من القبور، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج ٧٠/ ٤٣].
ثم ذكر ما يطرأ عليهم بعد البعث من الأهوال والمخاوف فقال تعالى:
قالُوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي قال المبعوثون: يا هلاكنا من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وهي قبورهم التي كانوا يعتقدون في دار
(١) يليط حوضه، وفي رواية: «يلوط حوضه» أي يطينه.
28
الدنيا أنهم لا يبعثون منها، وظنوا لما شاهدوا من الأهوال وما استبد بهم من الفزع، أنهم كانوا نياما.
وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي هذا ما وعد به الله وصدق في الإخبار عنه الأنبياء المرسلون، فهم رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم بعثوا من الموت، وأقروا بصدق الرسل، يوم لا ينفع التصديق. فهذا الكلام من قول الكفار، وهو رأي عبد الرحمن بن زيد، واختاره الشوكاني وغيره.
واختار ابن جرير وابن كثير أن هذا جواب الملائكة أو جواب المؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٠- ٢١].
ثم أوضح الله تعالى سرعة البعث، فقال:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، فإذا هم أحياء مجموعون لدينا بسرعة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤] وقال عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل ١٦/ ٧٧].
وأردف بعدئذ ما يكون في ذلك من القضاء العادل، فقال تعالى:
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ، ولا توفون إلا ما عملتم من خير أو شر.
29
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كان الرد الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصّعق.
٢- من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
٣- ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور، فهما نفختان، لا ثلاث، بدليل هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
وروى المبارك بن فضالة عن الحسن البصري قال: قال رسول الله ص: «بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حيّ، والأخرى يحيي الله بها كلّ ميت».
٤- يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال، فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم، مفضلين عذاب القبر، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
٥- النفخة الثانية أيضا وهي نفخة البعث والنشور سريعة جدا، فإذا حدثت تجمّع الناس جميعا وحضروا مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر ٥٤/ ٨].
٦- الحساب حق وعدل، والجزاء قائم على العدل المطلق، فلا ينقص من
30
ثواب العمل أي شيء مهما قل، ولا يجزى الناس إلا على وفق ما عملوا من خير أو شر.
جزاء المحسنين
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
الإعراب:
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أَصْحابَ: اسم إِنَّ، وخبرها: إما فِي شُغُلٍ وإما فاكِهُونَ. وفِي شُغُلٍ: متعلق ب فاكِهُونَ ويجوز أن يكونا خبرين. ولا يجوز جعل فَالْيَوْمَ خبرا، لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث. وفَالْيَوْمَ منصوب على الظرف، وعامله فِي شُغُلٍ وتقديره: إن أصحاب الجنة كائنون في شغل اليوم.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ هُمْ: مبتدأ، وَأَزْواجُهُمْ:
عطف عليه، ومُتَّكِؤُنَ: خبر المبتدأ، وفِي ظِلالٍ: متعلق ب مُتَّكِؤُنَ.
وعَلَى الْأَرائِكِ. صفة ل ظِلالٍ ويجوز جعل: فِي ظِلالٍ وعَلَى الْأَرائِكِ ومُتَّكِؤُنَ أخبارا متعددة لمبتدأ واحد.
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ فاكِهَةٌ: مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، وفِيها: معمول الخبر، وهو لَهُمْ ويجوز جعل كل من لَهُمْ وفِيها خبرين للمبتدأ الذي هو فاكِهَةٌ، ويجوز أيضا جعل لَهُمْ وصفا ل فاكِهَةٌ فلما تقدم صار في موضع نصب على الحال، ويجوز أيضا جعل فِيها صفة ل فاكِهَةٌ فلما تقدم عليها صار في موضع نصب على الحال.
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما: إما اسم موصول بمعنى الذي: مبتدأ وَلَهُمْ خبره، وصلته: يَدَّعُونَ، والعائد محذوف، وإما نكرة موصوفة، وصفتها يَدَّعُونَ وإما مصدرية، فتكون مع يَدَّعُونَ في تأويل المصدر. ويدعون أي يتمنون ويشتهون، وأصله (يدتعيون) بوزن يفتعلون فأبدل من التاء دالا، ونقلت حركة الياء إلى ما قبلها، فسكنت الياء، والواو بعدها ساكنة، فاجتمع ساكنان، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
31
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ سَلامٌ: بدل مما يدعون، مرفوع على البدل من ما أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة. وقَوْلًا: مصدر مؤكد لقوله تعالى:
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قال الزمخشري: والأوجه أن ينتصب على الاختصاص. ويصح جعل سَلامٌ وصفا ل ما إذا جعلتها نكرة موصوفة، أي ولهم شيء يدعونه سلام، ويصح جعله خبرا ل ما.
المفردات اللغوية:
فِي شُغُلٍ الشغل: الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه، إما لمسرة أو لمساءة. والمراد به هنا: أنهم مشغولون بما هم فيه من اللذات، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يشتغلون بذلك عن الاهتمام بأمر أهل النار. وهو شغل متعة، لا شغل تعب، لأن الجنة لا نصب فيها. فاكِهُونَ متنعمون متلذذون. فِي ظِلالٍ جمع ظل، وهو ما لا تصيبه الشمس. الْأَرائِكِ جمع أريكة: وهو السرير المزيّن في قبة أو بيت، أو الفراش، فالأرائك:
الأسرّة التي في الحجال. يَدَّعُونَ أي يتمنون ويشتهون.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حدوث البعث لا شك فيه، وما يكون في يوم القيامة من الجزاء العادل، بيّن هنا ما أعده للمحسنين، ثم أعقبه في الآيات التالية بما أعده للمسيئين، ترغيبا في العمل الصالح، وترهيبا من سوء الأعمال.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة فيقول:
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أي إن المؤمنين الصالحين إذا نزلوا في روضات الجنات يوم القيامة، كانوا في شغل عن غيرهم، بما يتمتعون به من اللذات، والنعيم المقيم، والفوز العظيم، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فهم في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وهم متنعمون متلذذون معجبون بالنعيم.
32
وليس التمتع وحدهم وإنما هم في أنس وسرور مع أزواجهم، فقال تعالى:
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ أي إنهم وحلائلهم في الجنة في ظلال الأشجار التي لا تصيبها الشمس، لأنه لا شمس فيها، وهم فيها متكئون على السرر المستورة بالخيام والحجال (المظلة الساترة). والأرائك كما بينا: الأسرّة التي في الحجال. وهذه المتعة في الظلال، وعلى الأسرّة والفرش الوثيرة الناعمة هي حلم الإنسان وغاية ما يطمح إليه.
والمتعة ليست روحية وإنما هي مادية، فقال تعالى:
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ، وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي تقدم لهم الفواكه من جميع أنواعها، ولهم غير ذلك كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ.
وقوله: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ولم يقل «يأكلون» إشارة إلى اختيارهم وملكهم وقدرتهم.
والنعمة الأسمى من كل ما يجدون: سلام الله عليهم، فقال تعالى:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي إن ما يتمنونه هو تحية الله لهم بالسلام أي الأمان من كل مكروه، يقول لهم: سلام عليكم يا أهل الجنة، كما قال تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ: سَلامٌ [الأحزاب ٣٣/ ٤٤] أو بوساطة الملائكة، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد ١٣/ ٢٣- ٢٤] والمعنى أن الله يسلم عليهم بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم.
33
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- إن أصحاب الجنة يتمتعون فيها متعة مادية وليست روحية فقط، فهم في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي في النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم.
٢- يتمتع أهل الجنة بنعيمها هم وأزواجهم، تحت ستور تظللهم، وعلى الأرائك (أي السّرر في الحجال، كالناموسيات) متكئون.
٣- لهم أنواع من الفاكهة لا تعد ولا تحصى، ولهم كل ما يتمنون ويشتهون، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.
٤- ولهم أكمل الأشياء وآخرها الذي لا شيء فوقه وهو السلام من الله الرب الرحيم، إما بوساطة الملائكة، أو بغير وساطة، مبالغة في تعظيمهم، وذلك أقصى ما يتمنونه.
جزاء المجرمين
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٨]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
34
الإعراب:
أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ألم أعهد إليكم بألا تعبدوا، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به.
البلاغة:
أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.. وَأَنِ اعْبُدُونِي بينهما طباق السلب، أحدهما سلب والآخر إيجاب.
أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أَفَلا يَعْقِلُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ.
فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ بين المضي والرجوع طباق.
المفردات اللغوية:
وَامْتازُوا تميزوا وانفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم، أي ويقال للمجرمين: اعتزلوا في الآخرة عن الصالحين. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أوصي وآمر على لسان رسلي، والعهد: الوصية، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة. أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ألا تطيعوه، والمراد: عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، مما زين به الشيطان وأمر به. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. وَأَنِ اعْبُدُونِي وحدوني وأطيعوني، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان، وبعبادتي. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي طريق معتدل قويم، وهو دين الإسلام.
جِبِلًّا خلقا وجمعا عظيما، جمع جبيل كقديم، وقرئ بضم الباء. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عداوة الشيطان وإضلاله لكم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا على ألسنة الرسل. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وقاسوا حرها بسبب كفركم بالله في الدنيا، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعها من الكلام، والمراد أفواه الكفار. وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ وغيرها، بأن يخلق الله فيها القدرة على الكلام. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي يقترفون، فكل عضو ينطق بما صدر منه، قال البيضاوي: أي بظهور آثار المعاصي عليها، ودلالتها على أفعالها، أو بإنطاق الله تعالى إياها. لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي أعميناهم، والطمس: إزالة
35
الأثر بالمحو. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ليمصوا فيه. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي فكيف يبصرون الطريق والحق حينئذ؟ أي لا يبصرون.
لَمَسَخْناهُمْ أي لو شئنا تغيير صورتهم إلى صورة أخرى قبيحة. عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم، بحيث يجمدون فيه، وقرئ: مكاناتهم جمع مكانة، بمعنى مكان، أي في منازلهم. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا. وَلا يَرْجِعُونَ أي ولا رجوعا، أي لم يقدروا على ذهاب ولا عودة.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ ومن نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نغير خلقه ونقلبه فيه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة، فيصبح بعد قوته وشبابه ضعيفا هرما.
أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ والبعث، فيؤمنوا.
المناسبة:
بعد بيان حال المحسنين في الآخرة، أعقبه تعالى ببيان حال المجرمين في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يميزون عن المؤمنين، ويصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بسبب كفرهم واتباع وساوس الشيطان، وفي الدنيا لم يعاجلهم بالعقوبة رحمة منه، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم، أو يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير، وأعطاهم الفرصة الكافية من العمر في الدنيا ليتمكنوا من النظر والاهتداء، قبل أن يضعفوا ويعجزوا عن البحث والإدراك، وذلك تحذير واضح لهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن حال الكفار يوم القيامة بتمييزهم عن المؤمنين في موقفهم، فيقول:
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي يقال للمجرمين الكافرين في الآخرة:
تميزوا في موقفكم عن المؤمنين، كما قال تعالى في آية أخرى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس ١٠/ ٢٨] وقال سبحانه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم ٣٠/ ١٤] يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم ٣٠/ ٤٣] أي يصيرون صدعين فرقتين.
36
أو المراد: يمتاز المجرمون بعضهم عن بعض، فاليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة، والماديون والملحدون فرقة، وهكذا.
ثم أبان الله تعالى سبب تمييزهم عن غيرهم، موبخا ومقرعا لهم على كفرهم، فقال:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ألم أوصكم وآمركم وأتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم ألا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتي ومخالفة أمري، فإن الشيطان ظاهر العداوة لكم، بدءا من أبيكم آدم عليه السلام.
وبعد النهي عن عبادة غير الله أمر تعالى بعبادته، فقال:
وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي وأن وحّدوني وأطيعوني فيما أمرتكم به، ونهيتكم عنه، وهذا المأمور به والمنهي عنه هو الطريق المعتدل القويم، وهو دين الإسلام.
ثم أخبر الله تعالى عن مساعي الشيطان في إضلال السابقين، فقال:
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟ أي لقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا، وزين لهم فعل السيئات، وصدهم عن طاعة الله وتوحيده، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم، وتبتعدوا عن مثل ضلالات السابقين، حتى لا تعذبوا مثلهم.
ثم بيّن الله تعالى مآل أهل الضلال قائلا لهم يوم القيامة تقريعا وتوبيخا:
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا وحذرتكم منها على ألسنة الرسل فكذبتموهم، وقد برزت لهم لإرهابهم.
37
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ادخلوها وذوقوا حرها اليوم، بسبب كفركم بالله في الدنيا، وتكذيبكم بها، وطاعتكم للشيطان، وعبادتكم للأوثان.
وفي هذا الكلام إشارة إلى شدة ندامتهم وحسرتهم من وجوه ثلاثة «١» :
١- قوله تعالى: اصْلَوْهَا وهو أمر تنكيل وإهانة، كقوله تعالى لفرعون: ذُقْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩].
٢- قوله تعالى: الْيَوْمَ الذي يدل على أن العذاب حاضر، وأن لذاتهم قد مضت، وبقي العذاب اليوم.
٣- قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الذي ينبئ عن الكفر بنعمة عظيمة، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام، كما قال بعضهم:
أليس بكاف لذي نعمة... حياء المسيء من المحسن
ثم أبان الله تعالى مدى مواجهتهم بالجرم الذي ارتكبوه دون أن يستطيعوا إنكاره، فقال:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي في هذا اليوم الرهيب، يختم الله على أفواه الكافرين والمنافقين ختما لا يقدرون معه على الكلام، ويستنطق جوارحهم بما عملت، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما اقترفت، ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي، صارت شهودا عليهم.
وجعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي، كما قال تعالى: وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس ٣٦/ ٣٥] وقال سبحانه:
وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] أي ولا تلقوا بأنفسكم،
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ١٠١ [.....]
38
والشاهد على العمل ينبغي أن يكون غيره، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود، لتعذر إضافة الأفعال إليها.
روى مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ص قال: «يقول العبد يوم القيامة: لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل».
ثم أوضح الله تعالى بعض مظاهر قدرته عليهم من إذهاب البصر والمسخ وسلب الحركة، فقال:
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ؟ أي ولو نريد لأذهبنا أعينهم وأعميناهم، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى، فلو بادروا إلى الطريق المألوفة لهم ليسلكونها، لم يستطيعوا، وكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم؟
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا، وَلا يَرْجِعُونَ أي لو شئنا لبدّلنا خلقهم، وحولنا صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير، وهم في أمكنتهم ومواضعهم التي هم فيها يرتكبون السيئات، فلا يتمكنون من الذهاب والمضي أمامهم، ولا الرجوع وراءهم، بل يلزمون حالا واحدا، لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ثم حذرهم من تفويت فرصة الشباب والعمر، فقال تعالى:
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ، أَفَلا يَعْقِلُونَ؟ أي ومن نطل عمره، نرده إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم كلما تقدمت بهم السن، ضعفوا وعجزوا عن العمل؟ وأننا أعطيناهم الفرصة
39
الكافية من العمر للبحث والنظر والتفكير الصحيح، فإذا طالت أعمارهم بعدئذ أكثر من ذلك، فلن يفيدهم طول العمر شيئا. وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة المواتية للبحث والنظر.
والآية مثل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم ٣٠/ ٥٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- إن سياسة العزل للمجرمين ستطبق في الآخرة بنحو تام وشامل، فيميز المجرمون عن المؤمنين، تحقيرا لهم، وإعدادا لسوقهم إلى نار جهنم، وذلك حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، فيقال لهم: اخرجوا من جملتهم.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
٢- يعاتب الكفار سلفا في الدنيا قبل أن يعاقبوا في الآخرة، فيقال لهم من جهة الحق: ألم أوصكم وأبلّغكم على ألسنة الرسل ألا تطيعوا الشيطان في معصيتي، وأن توحدوني وتعبدوني، فإن عبادتي دين قويم.
٣- يؤكد تعالى تحذيره من الشيطان قائلا: لقد أغوى الشيطان بوساوسه خلقا كثيرا، أفلا تعتبرون بالآخرين، وألا تعقلون عداوته، وتعلموا أن الواجب طاعة الله تعالى.
٤- وتقول خزنة جهنم للكفار: هذه جهنم التي وعدتم، فكذبتم بها.
روي عن أبي هريرة أن رسول الله ص قال: «إذا كان يوم القيامة، جمع الله الإنس
40
والجن والأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق، فأحاط بهم، ثم ينادي مناد: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فحينئذ تجثو الأمم على ركبها، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
[الحج ٢٢/ ٢]، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى، وَما هُمْ بِسُكارى، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الحج ٢٢/ ٢] ».
٥- إن أعضاء الإنسان التي كانت أعوانا في حق نفسه، صارت عليه شهودا في حق ربّه. والسبب في التعبير بكلام الأيدي وشهادة الأرجل أن اليد مباشرة للعمل، فتحتاج إلى شهادة غيرها.
ومن وقائع الشهادة يوم القيامة أن المشركين قالوا كما حكى القرآن عنهم:
وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣] فيختم الله على أفواههم، حتى تنطق جوارحهم.
٦- لو شاء الله لأعمى الكفار عن الهدى، فلا يبصرون طريقا إلى منازلهم ولا غيرها، ولكنه لم يفعل رحمة بهم، وليتمكنوا من النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له.
٧- ولو شاء الله لبدل خلقة الكفار إلى ما هو أقبح منها جزاء على كفرهم، ولجعلهم حجرا أو جمادا أو بهيمة، كالقردة والخنازير، وحينئذ لا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم، كما أن الجماد لا يتقدم ولا يتأخر، ولكنه تعالى أيضا لم يفعل، لرحمته الواسعة.
٨- لا حاجة لإطالة أعمار الناس أكثر مما قدر تعالى لهم، لأنه كلما طال العمر ازداد الإنسان ضعفا. والمقصود بالآية وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ.. الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار، ولهذا قال تعالى في ختام الآية: أَفَلا يَعْقِلُونَ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم
41
صيرورتهم إلى سن الشيبة، ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها، ولا انتقال عنها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة. ثم أفلا يعقلون أن من فعل هذا بهم قادر على بعثهم مرة أخرى؟!
إثبات وجود الله ووحدانيته وبيان خواص الرسالة
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
الإعراب:
فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقرئ: ركوبهم وركوبتهم، وهما ما يركب، كالحلوب والحلوبة. حذف التاء من الأول، كقولهم: امرأة صبور وشكور، وكلاهما بمعنى مفعول.
البلاغة:
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ بين الجملتين ما يسمى بالمقابلة، قابل بين الإنذار والإعذار، وبين المؤمنين والكفار.
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً استعارة تمثيلية، شبه قيامه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرا بيديه، ويتقنه بذاته، واستعار لفظ العمل للخلق.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ بعد قوله: فَمِنْها رَكُوبُهُمْ عام بعد خاص، لتعظيم النعمة.
42
أَفَلا يَشْكُرُونَ استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.
يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ بينهما طباق.
وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تشبيه بليغ، أي كالجند في الخدمة والدفاع.
المفردات اللغوية:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ رد لقول المشركين في مكة: إن محمدا شاعر، وما أتى به من القرآن شعر، أي ما علمناه الشعر، بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى، لأنه غير موزون ولا مقفّى، والشعر: كلام موزون مقفّى. فالضمير في عَلَّمْناهُ للنبي ص. وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه، ولا يسهل عليه لو طلبه. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما القرآن إلا عظة أو موعظة وإرشاد من الله. وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي وكتاب سماوي مظهر للأحكام والشرائع وغيرها، يتلى في أثناء العبادة.
لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول ص مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا ما يخاطب به فهما، أو حيّ القلب، مستنير البصيرة. وَيَحِقَّ الْقَوْلُ يجب العذاب ويثبت. عَلَى الْكافِرِينَ الذين يصيرون إلى الكفر، وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به. أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، والاستفهام للتقرير، والواو الداخلة على لَمْ للعطف. أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ للناس. مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا إحداثه وعملناه وأبدعناه بلا شريك ولا معين أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم، وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملكون، ضابطون قاهرون، يتصرفون بها كيف شاؤوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت منهم، ولم يقدروا على ضبطها. وَذَلَّلْناها لَهُمْ سخرناها لهم، وجعلناها منقادة لهم. فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ كأصوافها وأوبارها وأشعارها. وَمَشارِبُ من لبنها، جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر. أَفَلا يَشْكُرُونَ المنعم بها عليهم فيؤمنوا، إذ لولا خلقه لها وتذليله إياها لما حصّلوا هذه المنافع المهمة.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من الأصنام ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولا فائدة منها. لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم في وقت الأزمات والشدائد.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أي لا تستطيع آلهتهم مناصرتهم في شيء ما، وقد نزلوا منزلة العقلاء.
وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي وهم لآلهتهم من الأصنام جنود يذودون عنهم، ثم هم محضرون في النار معهم. فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يهمّك قولهم في الله بالإلحاد والشرك، وفيك بالتكذيب، قائلين
43
لك: لست مرسلا. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ نعلم السر والجهر، فنجازيهم عليه، وهو تعليل النهي على الاستئناف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أصلين من أصول الدين الثلاثة، وهما الوحدانية في قوله: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ والبعث أو الحشر في قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ.. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة في الآيتين الأوليين:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ... الآية.
ثم إنه تعالى أعاد الكلام على الوحدانية وأقام الأدلة الدالة عليها في بقية هذه الآيات.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تبارك وتعالى صفة الشعر عن القرآن، وخاصية الشاعرية عن الرسول ص، فيقول:
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ أي ليس النبي شاعرا، وما يصح له الشعر، ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه، فليس هو في طبعه، ولا يحبه، وقد جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب، وإنما علمه الله قرآنا هو أسمى من الشعر، ونوع آخر غير الشعر.
والشعر: كلام عربي له وزن خاص، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية، ولا بد في القصيدة من وحدة القافية، أي الحرف الأخير من كل بيت. ويعتمد الشعر على الخيال الخصب، والتصوير الرائع، والعاطفة المشبوبة، ولا يتبع الشاعر فيه ما يمليه العقل والمنطق، ولا يتحرى الصدق والدقة في إرسال أوصاف المديح والهجاء والرثاء والغزل وغير ذلك، ويبالغ الشاعر في التصوير والوصف، وما همّه إلا انتزاع الإعجاب من السامعين بقوله، لذا وصف
44
تعالى الشعراء بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ [الشعراء ٢٦/ ٢٢٥- ٢٢٦] وقال العرب: أعذب الشعر أكذبه قال أبو حيان: والشعر: إنما هو كلام موزون مقفّى، يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام وغير ذلك، مما يتورع المتدين عن إنشاده، فضلا عن إنشائه «١».
أما القرآن الكريم فخبره صدق، وكلامه عظة واقعية، ومنهجه التشريع الذي يسعد البشر، وقصده الترغيب في فضائل الأعمال وغرر الخصال والأخلاق، والترهيب من الانحراف والرذيلة، وتقرير أحكام العبادة الصحيحة والمعاملة الرشيدة.
فالآية دلت على نفي كون القرآن شعرا في قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، ونفي كون النبي شاعرا في قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لَهُ وإنما علّمه الله القرآن الذي يمتاز بخاصيّة معينة تختلف عن الشعر المعروف وعن النثر المألوف.
وهي رد قاطع على قول العرب أهل مكة: إن القرآن شعر أو سحر أو من عمل الكهان، وإن محمدا شاعر، قاصدين بذلك إبطال صفة الوحي به من عند الله، وتكذيب خاصيّة الرسالة.
وأما ما ورد على لسان الرسول ص من أقوال موزونة، فهو مجرد سليقة اتفاقية من غير تكلف ولا صنعة ولا قصد، مثل قوله يوم حنين وهو راكب البغلة البيضاء يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
(١) البحر المحيط: ٧/ ٣٤٥
45
وقوله ص حينما نكبت أصبعه في غار:
إن أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
بل إن الخليل بن أحمد الفراهيدي ما عدّ المشطور من الرجز شعرا.
ولكنه ص كان يتمثل أحيانا ببعض الأشعار لشعراء العرب، مثل تمثله ببيت طرفة بن العبد في معلّقته المشهورة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقد صح فيما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنه كان يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا، فقال ص: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي».
وروى ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن: «أنه ص كان يتمثل بهذا البيت هكذا:
كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء
والرواية: كفى الشيب والإسلام للمرء.
ناهيا، فقال أبو بكر: أشهد إنك رسول الله، ما علمك الشعر، وما ينبغي لك»
.
وثبت في الصحيح أنه ص تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ولكن تبعا لقول أصحابه الذين كانوا يرتجزون، وهم يحفرون ويقولون:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
46
وثبّت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع ص صوته بقوله: أبينا، ويمدّها.
وعدم تعليمه الشعر، لأن الله إنما علّمه القرآن العظيم الذى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤٢].
والقرآن ليس بشعر ولا تخيلات، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، وإنما هو دستور للحياة الإسلامية، ومواعظ وإرشادات، كما قال تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار، وموعظة من المواعظ، وكتاب سماوي واضح ظاهر جلي لمن تأمله وتدبره، يتلى في المعابد، ويسترشد في كل شؤون الحياة.
لذا قال تعالى محدّدا مهمة القرآن ومهمة رسول الله ص:
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] ولكن إنما ينتفع بنذارته من هو حيّ القلب، مستنير البصيرة، ولكي تثبت به وتجب كلمة العذاب على الكافرين، الممتنعين من الإيمان به، وهذا في مقابلة صفة المؤمنين وهم أحياء القلوب، أما الكافرون فهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أشبه بالأموات في الحقيقة، لعدم تأثرهم بعظات القرآن، وانعدام يقظتهم لاتباع الحق والهدى.
والخلاصة: أن الآية دالة على أن القرآن رحمة للمؤمنين، وحجة على الكافرين.
ثم أعاد تعالى الكلام في الوحدانية وأتى ببعض أدلتها، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي أو لم
47
يشاهد هؤلاء المشركون بالله عبدة الأصنام وغيرهم أن الله خلق لهم هذه الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) التي سخرها لهم، وأوجدها من أجلهم من غير وساطة ولا شريك، وجعلهم مالكين لها، يقهرونها ويضبطونها ويتصرفون بها كيف شاؤوا، وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم، مستوحشة نافرة منهم، فلا يستفيدون منها، فترى الولد الصغير يقود البعير الكبير، بل ولو كان القطار مائة بعير أو أكثر.
ثم أبان الله تعالى منافعها الملموسة، فقال:
وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي وجعلناها لهم مسخّرة مذللة منقادة لهم، لا تمتنع مما يريدون منها، حتى الذبح، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، ومنها ما يأكلون من لحمها.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟ أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، وهي لهم مشارب أي يشربون من ألبانها، أفلا يشكرون خالق ذلك ومسخره وموجد هذه النعم لهم، بعبادته وطاعته، وترك الإشراك به غيره.
وهذا حثّ صريح على شكر الخالق المنعم بعبادته وطاعته، وهو أبسط ما يوجبه الوفاء، وتقدير المعروف والإحسان.
ولكن الكفار تنكروا لهذا الواجب، وكفروا بأنعم الله، واستمروا في ضلالهم وتركوا عبادة الله، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة، فقال تعالى:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي واتخذ هؤلاء المشركون
48
الأصنام ونحوها آلهة يعبدونها من دون الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.
ولكنها في الواقع لا تقدر على شيء، ولا تحقق فائدة لعبادها، لذا قال تعالى مبينا خيبة أملهم:
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأذل وأحقر، بل لا تقدر على نصرة أنفسها، ولا على الانتقام ممن أساء إليها، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، لذا كان الثابت بطلان ما رجوه منها، وأمّلوه من نفعها.
والكفار المشركون جند طائعون للأصنام، يغضبون لها في الدنيا، وهي لا تستطيع نصرهم، ولا تقدم لهم خيرا، ولا تدفع عنهم شرا، إنما هي أصنام.
وقوله: مُحْضَرُونَ أي يخدمونهم، ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم، وليس للآلهة استطاعة على شيء، ولا قدرة على النصر. أو إنهم يوم القيامة محضرون لعذابهم، لأنهم يجعلونهم وقودا للنار.
ثم سلّى الله رسوله عما يلقاه من أذى المشركين، فقال:
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أي فلا يهمنك تكذيبهم لك وكفرهم بالله، وأذاهم، وجفاؤهم، وقولهم: هؤلاء آلهتنا، وأنها شركاء لله في المعبودية، أو قولهم لرسول الله ص: أنت شاعر، أو ساحر، أو كاهن ونحو ذلك.
فإنا نحن نعلم جميع ما هم فيه، نعلم سرهم وجهرهم، ونعلم ما يسرون لك من العداوة، وإنا مجازوهم بذلك، ومعاقبوهم عليه.
49
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ليس القرآن شعرا، ولا محمّد ص شاعرا، فلا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا به، كسر وزنه، وإنما كان همّه فقط الإفادة من المعاني.
٢- إن إصابة النبي ص الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله تعالى:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران ٣/ ٩٢] وقوله: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصف ٦١/ ١٣] وقوله: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ ٣٤/ ١٣] وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف ١٨/ ٢٩] إلى غير ذلك من الآيات.
٣- روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر، فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ.
٤- ما ينبغي ولا يصح للنبي ص أن يقول الشعر، وذلك من أعلام النبوة، ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول ص، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم يقصد به إلى الشعر، ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا.
٥- إن الذي يتلوه النبي ص على الناس هو ذكر من الأذكار، وعظة من المواعظ، وقرآن بيّن واضح مشتمل على الآداب والأخلاق، والحكم والأحكام، والتشريع المحقق لسعادة البشر.
50
٦- إن الغرض من إنزال القرآن إنذار من كان حيّ القلب، مستنير البصيرة، وإيجاب الحجة بالقرآن على الكفرة.
٧- من أدلة وجود الله ووحدانيته: خلق الإنسان والحيوان والنبات، فإنه سبحانه خلق كل ذلك، وأبدعه، وعمله من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة.
ومن فضله ونعمته على الناس تذليل الأنعام لهم، وتسخيرها لمنافعهم في الركوب، وأكل اللحوم وشرب الحليب والألبان، وصنع الأسمان، حتى إن الصبي يقود الجمل العظيم ويضربه ويوجهه كيف شاء، وهو له طائع. وهذا كله وغيره يوجب شكر الخالق المنعم وهو الله على نعمه، بعبادته وطاعته وإخلاص ذلك له.
٨- بالرغم من وجود الآيات الدالة على قدرة الله، اتخذ الكفار المشركون من دون الله آلهة، لا قدرة لها على فعل، طمعا في نصرتها وأملا في مساعدتها لهم إن نزل بهم عذاب.
والحقيقة أن تلك الآلهة المزعومة لا تستطيع نصر عابديها، ولا جلب الخير لهم، ولا دفع الشر والضر عنهم، ومع ذلك فإن الكفار جند طائعون لهذه الآلهة، يمنعون عنهم ويدفعون عنهم، ويغضبون لهم في الدنيا، فهم لها بمنزلة الجند والحرس، وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين يوم القيامة، محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وفي الخبر:
إنه يمثّل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله، فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون. وهذا المعنى
ثبت في صحيح مسلم وكذا في جامع الترمذي عن أبي هريرة أن النبي ص قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطّلع عليهم رب العالمين، فيقول: ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد،
51
فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون».
٩- سلا الله عز وجل نبيه ص، فقال له: لا يحزنك قولهم: شاعر، ساحر، روي أن القائل عقبة بن أبي معيط، فنفى الله ذلك عن رسوله.
١٠- إن الله تعالى عليم مطلع على ما يسرّ الكافرون ويظهرون من القول والعمل، فيجازيهم بذلك يوم القيامة.
إثبات البعث
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
الإعراب:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب، والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكر الإنسان ويعلم.
البلاغة:
خَصِيمٌ مُبِينٌ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة.
52
أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ استعارة تمثيلية، شبه سرعة إنجازه الأشياء بأمر المطاع من غير امتناع ولا تأخير.
مَلَكُوتُ صيغة مبالغة من الملك، أي الملك الواسع التام كالجبروت والرحموت للمبالغة.
المفردات اللغوية:
أَوَلَمْ يَرَ أو لم يعلم. الْإِنْسانُ أي إنسان، ويشمل من كان سبب النزول، وهو العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف. أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أنا خلقناه من أضعف الأشياء، والنطفة: الذرة من مادة الحياة وهي المني. فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الخصيم: الشديد الخصومة لنا، المبالغ في الجدل إلى أقصى الغاية، والمبين: البيّن في نفي البعث.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي أورد في شأننا قصة غريبة هي في غرابتها كالمثل، إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة، ونفى القدرة على إحياء الموتى، مقارنا ذلك بما عجز عنه، وقائسا قدرة الله على قدرة العبد. وَنَسِيَ خَلْقَهُ نسي خلقنا إياه، من المني، وهو أغرب من مثله. قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ الرميم: البالية أي ما بلي من العظام، ولم يقل: رميمة لأنه اسم لا صفة،
روي أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف أو أبي بن خلف «١» أخذ عظما رميما، ففتته، وقال للنبي ص: أترى يحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فقال ص: «نعم، ويدخلك النار»
وفيه دليل على أن العظم ذو حياة، فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.
قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فإن قدرته كما كانت، لامتناع التغير فيه، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي وهو بكل مخلوق عليم جملة وتفصيلا، قبل خلقه وبعد خلقه، يعلم تفاصيل المخلوقات وأجزاء الأشخاص المتفتتة، ومواقعها وطريق تمييزها، وضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً أي أن الله يسرّ لكم الانتفاع بالحطب، تحرقونه للطبخ والدفء، وقد كان أخضر رطبا، أو أن هناك شجرا يسمى المرخ، وشجرا آخر يسمى العفار، إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر، انقدحت منهما النار، وهما أخضران، وفي أمثال العرب: «في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعفار»، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ
(١) قال أبو حيان: أقوال أصحها أنه أبي بن خلف، رواه ابن وهب عن مالك (البحر المحيط ٧٠/ ٣٤٨) ثم أضاف قائلا: ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول، لأن السورة والآية مكية بإجماع، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة.
53
تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر، بعد أن كان أخضر. وهذا دالّ على القدرة على البعث، فإنه تعالى جمع فيه بين الماء والنار والخشب، فلا الماء يطفئ النار، ولا النار تحرق الخشب. وإبراز الشيء من ضدّه: وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر أبدع شيء، وهو دالّ على قدرة الله تعالى.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي إن من قدر على خلق السموات والأرض، وهما في غاية العظم، يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير ضعيف بَلى أي هو قادر على ذلك، وبلى كلمة جواب كنعم، تأتي بعد كلام منفي، وكان الجواب من الله للدلالة على أنه لا جواب سواه. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الْعَلِيمُ الواسع العلم بكل شيء، فهو كثير المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ شأنه في الإيجاد. إِذا أَرادَ شَيْئاً خلق شيء. أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي فهو يكون، أي يحدث، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده من غير تأخر وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، قطعا للشبهة في قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ.. أي تنزيه عما ضربوا له من المثل، وتعجيب مما قالوا فيه، مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملك التام والقدرة، كالرحموت والرهبوت والجبروت، زيدت الواو والتاء للمبالغة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردون في الآخرة.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ص بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟
قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى آخر السورة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسّدّي نحوه، وسمّوا الإنسان أبي بن خلف. وهذا هو الأصح كما قال أبو حيان، لما رواه ابن وهب عن مالك.
وبناء عليه،
قال المفسّرون: إن أبي بن خلف الجمحي جاء إلى
54
رسول الله ص بعظم حائل، ففتته بين يديه، وقال: يا محمد، يبعث الله هذا بعد ما أرمّ؟ فقال: نعم، يبعث الله هذا، ويميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت هذه الآيات.
وعلى أي حال، يقول علماء أصول الفقه: إن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة ٥٨/ ١] نزلت في امرأة واحدة، وأراد الكل في الحكم، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر، فهذه الآية ردّ عليه، فتكون الآية عامة.
المناسبة:
بعد بيان الأدلة الدّالة على قدرة الله عزّ وجلّ، ووجوب طاعته وعبادته، وبطلان الشرك به، ذكر تعالى شبهة منكري البعث، وأجاب عنها بأجوبة ثلاثة: هي أن الإعادة مثل البدء بل أهون، وقدرة الله على إيجاد النار من الشجر الأخضر، وخلق ما هو أعظم من الإنسان، وهو خلق السموات والأرض، وفي النهاية: فورية تكوين الأشياء بقول: كُنْ فَيَكُونُ.
التفسير والبيان:
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من نطفة (مني) من ماء مهين، هي أضعف الأشياء، ثم جعلناه بشرا سويّا، ثم تراه يفاجئنا بأنه ناطق مجادل بيّن جريء في جدله، فقوله خَصِيمٌ ناطق، ومُبِينٌ إشارة إلى قوة عقله.
والمراد: أو لم يستدلّ من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء ضعيف حقير، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ
55
مَعْلُومٍ
[المرسلات ٧٧/ ٢٠- ٢٢]، وقال سبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان ٧٦/ ٢] أي من نطفة من أخلاط متفرقة.
فشأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة، لا أن يطغى ويتجبر، وينكر البعث والإعادة.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ أي وذكر أمرا عجيبا كالمثل في الغرابة على استبعاد إعادة الله ذي القدرة العظيمة للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية، قائسا قدرة الله على قدرة العبد، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر.
فأجابه الله تعالى بقوله:
قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي قل أيها الرسول لهذا المشرك المنكر البعث: يحيي الله تلك العظام البالية الذي أبدع خلقها وأوجدها في المرة الأولى من غير شيء من العدم ولم يكن شيئا مذكورا، وهو لا تخفى عليه خافية من الأشياء، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الأرض، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان، ولو في أعماق الأرض أو البحر أو أجواف الإنسان أو الحيوان أو اختلط بالتراب والنبات. وقد قال العلماء: إن الذرّة لا تفنى، وتقرر نظرية (لافوازيه) المعروفة: أنه لا يوجد شيء من العدم، والموجود لا ينعدم.
ودليل ثان هو:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أي وهو الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر يانع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، ومن قدر على ذلك، فهو قادر على
56
ما يريد، لا يمنعه شيء، فهذا التحوّل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة، يدل على إمكان إعادة الرطوبة إلى ما كان يابسا باليا. والمشاهد أن شجر السّنط يوقد به النار وهو أخضر.
وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيأخذ عودين أخضرين منهما، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد تماما. ومثل ذلك احتكاك السّحب المولّد لشرارة البرق.
ودليل ثالث أعجب مما سبق:
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي إن من خلق السّموات السّبع بما فيها من الكواكب السّيارة والثّوابت، والأرضين السّبع بما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار، وهي أعظم من خلق الإنسان، إن من خلق ذلك قادر على خلق مثل البشر وإعادة الأجسام، وهي أصغر وأضعف من السّموات والأرض، بلى هو قادر على ذلك، وهو الكثير الخلق، الواسع العلم، فقوله الْخَلَّاقُ إشارة إلى كمال القدرة، وقوله الْعَلِيمُ إشارة إلى شمول العلم.
والخلاصة: أن خلق الأشياء العظيمة برهان قاطع على خلق ما دونها، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧]، وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف ٤٦/ ٣٣].
وتأكيدا للبيان ونتيجة لما سبق، قال تعالى:
57
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي إنما شأنه سبحانه في إيجاد الأشياء وإرادتها أن يقول للشيء: كُنْ فإذا هو كائن فورا، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.
ومقتضى ثبوت القدرة التامة لله تعالى: تنزيهه عما وصفوه به، فقال:
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تنزّه الله عما لا يليق به من السوء أو النقص، فهو الذي له ملكية الأشياء كلها، وله القدرة الكاملة على التّصرف فيها كما يريد، وبيده مفاتح كلّ شيء، وإليه لا إلى غيره مرجع العباد بعد البعث في الدار الآخرة، فيجازي كل إنسان بما عمل، فليعبده الناس جميعا وليوحّدوه ويطيعوه، تحقيقا لمصلحتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- عجبا لأمر الإنسان، سواء العاص بن وائل السّهمي، أو أبيّ بن خلف الجمحي (وهو الأصح) أو أمية بن خلف أو غيرهم، كيف خلقه الله من يسير الماء، وأضعف الأشياء، ثم يصبح مخاصما ربّه، مجادلا في الخصومة، مبيّنا للحجة، أي أنه صار بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. قال أبو حيان:
قبّح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة، أفضى به مهانة أصله أن يخاصم الباري تعالى، ويقول: من يحيي الميت بعد ما رمّ مع علمه أنه منشأ من موات.
٢- لقد نسي هذا الإنسان الضعيف المخلوق أن الله أنشأه من نطفة، ثم جعله إنسانا حيّا سويا، فهذا دليل حاضر من نفسه على إمكان البعث، وقد احتج الله عزّ وجلّ على منكري البعث بالنشأة الأولى، فكيف يقول الإنسان: من يحيي هذه العظام البالية؟!
58
والجواب: أنّ النّشأة الثانية مثل النّشأة الأولى، فمن قدر على النّشأة الأولى قدر على النّشأة الثانية، وأن الله عالم بكلّ الأشياء، سواء الأجسام العظام أو الذّرات الصغار.
٣- في قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ دليل على أن في العظام حياة، وأنها تنجس بالموت، وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي:
لا حياة فيها.
٤- من أدلة وحدانيته تعالى وكمال قدرته على إحياء الموتى: ما يشاهده الناس من إخراج المحروق اليابس من العود الندي الطري، فإن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضدّ النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فيدلّ ذلك على أنه تعالى هو القادر على إخراج الضدّ من الضدّ، وهو على كلّ شيء قدير.
٥- إنّ الذي خلق السموات والأرض التي هي أعظم من خلق الناس قادر على أن يبعثهم مرة أخرى.
٦- إذا أراد الله خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة، وإنما أمره نافذ فورا، ولا يتوقف على شيء آخر.
٧- إن الله تعالى نزّه نفسه عن العجز والشرك، لتعليم الناس، وإبراز الحقيقة، فبيده مفاتح كلّ شيء، ومردّ الناس ومصيرهم بعد مماتهم إليه تعالى، ليحاسب كلّ امرئ على ما قدم في دنياه من خير أو شرّ.
59

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الصافات
مكيّة، وهي مائة واثنتان وثمانون آية.
تسميتها:
سميت سورة الصافات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالصّافات وهم الملائكة الأطهار الذين يصطفّون في السماء كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث:
١- وجود الشبه بين أول هذه السورة وآخر يس السورة المتقدمة في بيان قدرته تعالى الشاملة لكل شيء في السموات والأرض، ومنه المعاد وإحياء الموتى، لأن الله تعالى كما في يس هو المنشئ السريع الإنجاز للأشياء، ولأنه كما في مطلع هذه السورة واحد لا شريك له، لأن سرعة الإنجاز لا تتهيأ إلا إذا كان الخالق الموجد واحدا.
٢- هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون الماضية، المشار إليهم وإلى إهلاكهم في سورة يس المتقدمة في قوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [٣١].
60
٣- توضح هذه السورة ما أجمل في السورة السابقة من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السّور المكية في بيان أصول الاعتقاد: وهي التوحيد، والوحي والنبوة، وإثبات البعث والجزاء.
وقد تحدثت عن مغيبات ثلاثة: هي الملائكة، والجنّ، والبعث والجزاء في الآخرة، فابتدأت بالكلام عن الملائكة الصّافات قوائمها أو أجنحتها في السماء استعدادا لتنفيذ أمر الله، والزّاجرات السّحاب لتصريفه كيفما يشاء الله، والذين أقسم الله بهم للدلالة على التوحيد وخلق السموات والأرض، وتزيينها بالكواكب.
ثم أشارت إلى الجنّ ومطاردتهم بالشّهب الثاقبة المرصودة لهذا الغرض، للرّدّ على المشركين الجاهليين الذين زعموا وجود نسب وقرابة بين الله تعالى وبين الجنّ، وأبانت موقف المشركين من البعث وإنكاره وأحوالهم في الدنيا والآخرة، وردت عليهم ردّا قاطعا حاسما بأنهم محشورون في زجرة صيحة واحدة وهم داخرون أذلة صاغرون وأنهم لا يفتنون إلا ذوي العقول الضعيفة، وتوبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وتنزيه الله عن ذلك.
وأبانت هذه السورة أيضا سوء أحوال الكافرين في القيامة، وذكرتهم بالحوار الذي دار بينهم وبين المؤمنين في الدنيا، ثم حسمت الأمر ببيان مآل كل من الفريقين، حيث يخلد المؤمنون في الجنة التي وصف نعيمها، ويخلد الكافرون في النار التي وصف جحيمها، للعبرة والعظة وبيان العاقبة.
وناسب هذا الاستعراض التذكير الموجز بقصص بعض الأنبياء السابقين،
61
Icon