تفسير سورة الزمر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره :﴿ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ : أي هذا كتابٌ عزيزٌ نَزَلَ من ربِّ عزيز على عبدٍ عزيز بلسان مَلَكٍ عزيز في شأنِ أَمةٍ عزيزة بأمرٍ عزيز. وفي ورود الرسولِ به من الحبيب الأول نزهةٌ لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياحٌ عند قراءة فصولها.
وكتابُ موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتابُ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلبِ المصطفى صلوات الله عليه. . . وفَصْلٌ بين من يكون كتابُ ربِّه مكتوباُ في ألواحه، وبين من يكون خطابُ ربِّه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى :﴿ بَلْ هُوَ آيَاتُ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٩ ].
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ : أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِقٌّ في إنزاله. والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع، وتكون بالنَّفْس والقلب والروح ؛ فالتي بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقِّي عن طلب الاختصاص.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقْرِبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾.
الدين الخالص ما تكون جملته لله ؛ فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره ؛ إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لَمَا صحَّ أَنْ يكونَ في العَالَم مُخْلِصٌ.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ. . . ﴾ أي الذين عبدوا الأصنام قالوا :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾، ولم يقولوا هذا من قِبَلِ الله ولا بأمره ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فَرَدَّ اللَّهُ عليهم. وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القُرَبِ بنشاطِ نَفْسِه من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله مِنْ عقودٍ ثم لا يَفِي بها. . فكل ذلك اتباعُ هوًى، قال تعالى :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [ الحديد : ٢٧ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾.
لا تَهديهم اليومَ لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه. والإشارة فيه إلى تهديد مَنْ يتعرَّض لغير مقامه، ويدَّعي شيئاً ليس بصادقٍ فيه، فاللَّهُ لا يهديه قط إلا ما فيه سَدادُه ورُشْدُه. وعقوبتُه أَنْ يَحْرِمَه ذلك الشيءَ الذي تصدَّى له بدعواه قبل تَحققِه بوجوده وذَوْقِه.
﴿ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ : خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم حيث قالوا : المسيحُ ابن اللَّهِ، وعُزَيْرُ وَلَدُ اللَّهِ ؛ فقال : لو أراد أن يتَّخِذَ وَلَداً للتبنِّي والكرامة لاخْتَارَ من الملائكة الذين هم مُنْزَّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخَلْقِ.
ثم أخبر عن تَقَدُّسِه عن ذلك فقال :﴿ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ تنزيهاً له على اتخاذ الأولاد. . . لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبنِّي لِتَقَدُّسِه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد، ؛ إذا لو كان ذلك فيكف كان يكون حُكْمُه ؟ كقوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ ﴾ : أي خَلَقَهما وهو مُحِقٌّ في خلقهما.
﴿ يُكَوِّرُ الَّليْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكّوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّليْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ : يُدْخِلُ الليلَ على النهارِ، ويدخل النهارَ على الليل في الزيادة والنقصان، وسَخَّرَ الشمسَ والقمرَ. وقد مضى فيما تقدم اختلافُ أحوالِ العبد في القبض والبسط، والجَمْع والفَرْق، والأخذ والرد، والصحو والسُّكْرِ، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالي الشَّكِّ والجَحْدِ ونهار الوصل، وليالي الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها.
﴿ أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ :" العزيز " المتعزِّز على المحبين، " الغفار " للمذنبين.
قوله جل ذكره :﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾.
﴿ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ] يعني آدم وحواء.
﴿ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ﴾ أي خلق لكم، ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ فمن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المواشي اثنين.
﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ ﴾ : أي يصورِّكم، ويُرَكِّب أحوالكم.
﴿ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ﴾ : ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة. ذَكَّرَهم نسبتهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم.
ويقال بَيَّنَ آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خِلْقَتِك - من قطرتين - أمشاجاً متشاكلةَ الأجزاء، مختلفة الصُّوَرِ في الأعضاء، سَخَّرَ بعضَها مَحَالَّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة. . . وغير ذلك من أحوال القلوب، وسَخَّرَ بعضها مَحَالَّ للحواش كالسمع والبصر والشَّمِّ وغيرها.
ويقال هذه كلها نِعَمٌ أنعم اللهُ بها علينا فَذَكَّرَنا بها - والنفوسُ مجبولةٌ، وكذلك القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسن إليها - استجلاباً لمحبتنا له.
﴿ ذَالِكُمْ اللَّهُ رَبِّكُمْ. . . ﴾ أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربُّكم. أي : أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صَوَّرتُكم فأحسنت صُورَكم، وأنا الذين أسبَغْتُ عليكم إنعامي، وخصصتكم بجميل إكرامي، وأغرقتكم في بحار أفضالي، وعرفتكم استحقاق جمالي وجلالي، وهديتكم إلى توحيدي، وألزمتكم رعايةَ حدودي. . . فما لكم لا تَنْقَطِعون بالكلية إليَّ ؟ ولا ترجون ما وَعَدْتُكم لديَّ ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليَّ ؟
قوله جل ذكره :﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾.
إنْ أعرضتم وأَبَيْتُم، وفي جحودكم تماديتم. . . فَمَا نَفْتَقِرُ إليكم ؛ إذا نحن أغنياء عنكم، ولكنّي لا أرضى لكم أن تبقوا عني !
يا مسكين. . . أنت إنْ لم تكن لي فأنا عنكَ غنيٌّ، وأنا إن لم أكنْ لك فمن تكون أنت ؟ ومَنْ يكون لك ؟ مَنْ الذي يُحْسِنُ إليك ؟ مَنْ الذي ينظر إليك ؟ من الذي يرحمك ؟ من الذي ينثر الترابَ على جراحِك ؟ من الذي يهتم بشأنك ؟ بمن تسلو إذا بَقِيتَ عنِّي ؟ مَنْ الذي يبيعك رغيفاً بمثاقيل ذهب ؟ !.
عَبْدي. . . أنا لا أرضى ألا تكونَ لي وأنت ترضى بألا تكون لي ! يا قليلَ الوفاء، يا كثيرَ التجنِّي !
إن أطَعْتَنِي شَكَرْتُك، وإن ذكَرْتَنِي ذكرتُك، وإن خَطَوتَ لأَجْلي خطوةً ملأتُ السماواتِ والأرضين من شكرك :
لو عَلِمْنا أنَّ الزيارةَ حقٌّ لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لترضى
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً ﴾.
إذا مَسَّه ضُرٌّ خَشَعَ وخَضَع، وإلى قُرْبه فزع، وتملَّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضُرَه، وكفاه أمرَه، وأصلح شغْلَه نَسِيَ ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أنداداً، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويُشْرِكَ بمعبوده. هذه صِفَتُه. . . فَسُحْقاً له وبُعْداً، ولِسَوف يَلْقى عذاباً وخِزْياً.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّليْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِهِ. . . ﴾.
" قانتاً " : القنوتُ هو القيامُ، وقيل طول القيام. والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعةِ أوقاتَ الليل والنهار ؛ أي في جميع الأوقات.
والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت ؟ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذِكْرُه ؟ أي ليس كذلك.
ويقال القنوتَ القيامُ بآداب الخدمة ظاهراً وباطناً من غير فتور ولا تقصير.
" يَحْذَرُ " العذابَ الموعودَ في الآخرة، " ويرجو " الثوابَ الموعودَ. وأراد بالحَذَرِ الخوف.
﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتّذَكَّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾ : أي هل يستويان ؟ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل ! ﴿ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ﴾ : العِلْمُ في وصف المخلوق على ضربين : مجلوبٌ مُكْتَسَبٌ للعبد، وموهوبٌ مِنْ قِبَل الربِّ. ويقال مصنوع وموضوع. ويقال علمُ برهانٍ وعلمُ بيان ؛ فالعلومُ الدينية كلُّهَا برهانية إلاَّ ما يحصل بشرط الإلهام.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
أطيعوه واحذروا مخالفةَ أمره. ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ﴾ بأداء الطاعات، ( والإحسان هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان ).
﴿ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ﴾ : أي لا تَتَعَلَّلوا بأذى الأعداء ؛ إِنْ نَبَأ بِكُم منزلٌ فَتَعَلُّلُكم بمعاداة قوم ومَنْعِهِم إياكم -لا يُسْمَع، فأرضُ اللَّهِ واسعةٌ، فاخْرُجُوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتُكم.
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بَغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. والصبر حَبْسُ النَّفْس على ما تكرهه. ويقال هو تجرُّعُ كاسات التقدير من غير استكراهٍ ولا تعبيس.
ويقال هو التهدُّفُ لسهام البلاء.
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴾.
مضى القولُ في معنى الإخلاص. وفي الخبر : إن الله يقول :" الإخلاص سِرٌّ بين الله وعَبْدِه ".
ويقال الإخلاصُ لا يُفْسِدُه الشيطان ولا يطَّلِعُ عليه المَلَكَان.
﴿ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ ﴾ ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ في وقتي وفي شرعي. والإسلامُ الانقيادُ لله بكل وجه.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ : أخاف أصنافَ العذابِ التي تحصل في ذلك اليوم.
قوله جل ذكره :﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾.
هذا غاية الزجر والتهديد، ثم بيَّنَ أن ذلك غاية الخسران، وهو الخزي والهوان. والخاسِرُ – على الحقيقة - مَنْ خَسِرَ دنياه بمتابعة الهوى، وخَسِرَ عُقُباه بارتكابه ما الربُّ عنه نَهَى، وخَسِرَ مولاه فلم يستح منه فيما رأى.
قوله جل ذكره :﴿ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾.
أحاط بهم سُرَادقُها ؛ فهم لا يخرجون منها، ولا يَفْتُرُون عنها. كما أنهم اليومَ في جهنم عقائدِهم ؛ يستديم حجابُهم، ولا ينقطع عنهم عقابهم.
﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. . . ﴾ إِنْ خِفْتَ اليومَ كُفِيتَ خوفَ ذلك اليوم وإِلاَّ فبين يديك عقبة كَؤُود.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ البُشْرَى ﴾.
طاغوت كلّ إنسانٍ نَفْسُه ؛ وإنما يجتنبُ الطاغوتَ مَنْ خالف هواه، وعانَقَ رضا مولاه. وعبادةُ النَّفْس بموافقة الهوى -وقليلٌ مَنْ لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النَّفْسِ.
﴿ وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ ﴾ : أي رجعوا إليه في كل شيء.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾.
﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ﴾ يقتضي أن يكون الاستماع لكل شيء، ولكن الاتباع يكون للأحسن. " أحسنه " : وفيه قولان ؛ أحدهما أن يكون بمعنى الحَسَن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال مَلِكٌ أَعِزُّ أي عزيز. والثاني : الأحسن على المبالغة، والحَسَنُ ما كان مأذوناً فيه في صفة الخَلْقُ ويعْلَمُ ذلك بشهادة العلم، والأحسن هو الأَوْلَى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصاً له. ويقال مَنْ عَرَفَ الله لا يسمع إلا بالله.
ويقال إن للعبد دواعيَ من باطنه هي هواجسُ النفس ووساوسُ الشيطانِ وخوَاطرُ المَلَكِ وخطابُ الحقِّ يُلْقَى في الرَّوْعِ ؛ فوساوسُ الشيطان تدعو إلى المعاصي، وهواجسُ النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النَّفْس وأَنَّ لها في شيءٍ نصيباً، وخواطرُ المَلَكِ تدعو إلى الطاعاتِ والقُرَبِ، وخطابُ الحقِّ في حقائق التوحيد.
﴿ أُوْلَئِكَ الِّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وأُوْلَئِك هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ :-أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة.
قوله جل ذكره :﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾.
الذين حَقَّتْ عليهم كلمةُ العذابِ فريقان : فريقٌ حقت عليهم كلمةٌ بعذابهم في النار، وفريقٌ حقت عليهم كلمةُ العذابِ بالحجاب اليومَ، فهم اليومَ لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان - وإن كانوا من أهل الإيمان.
قوله جل ذكره :﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾.
وَعَدَ المطيعين بالجنَّةِ - ولا محالةَ لا يُخْلِف، وَوَعَدَ التائبين بالمغفرة - ولا محالةَ يغفر لهم، وَوَعَدَ المريدين بالوجود والوصول - وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالةَ مُصْدِقٌ وَعْدَه.
قوله جل ذكره :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ :
أخبر أنه يُنْزِلُ من السماءِ المطرَ فيُخْرِجُ به الزرعَ فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيماً. . . والإشارةُ من هذا إلى الإنسان، يكون طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم.
ويقال إن الزَّرْعَ ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤْخَذُ منه الحَبُّ، فالحبُّ هو المقصود منه. كذلك الإنسان ما لم يحصلْ من نَفْسه وصولٌ لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ.
ويقال إن كَوْنَ المؤمنِ بقوة عقله يوجِبُ استفادةً له بعلمه إلى أَنْ يبدوَ منه كمالٌ يُمكِّنُ من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا :
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه بأَنواره أنوارَ تلك الكواكب
قوله جل ذكره :﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ :
جوابُ هذا الخطابِ محذوفٌ. . . أي أَفمن شرح اللَّهُ صَدْرَه للإسلام كمن ليس كذلك ؟
لمَّا نزلت هذه الآيةُ سُئِلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عن الشرح المذكور فيها، فقال :" ذلك نورٌ يُقْذَفُ في القلب " فقيل : وهل لذلك أَمارة ؟ قال :" نعم ؛ التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله ".
والنورُ الذي مِنْ قِبَلِهِ - سبحانه - نورُ اللّوائح بنجوم العلم، ثم نورُ اللوامع ببيان الفَهْم، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نورُ المكاشفة بتَجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد. . . وعند ذلك فلا وَجْدَ ولا فقد، ولا قُرْب ولا بُعْدَ. . . كلاّ بل هو الله الواحد القهار.
﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكِّرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ : أي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطرُ التعريف فبقيت عَلَى نَكْرَةِ الجَحْد. . . أُولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة.
قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
﴿ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ لأنه غير مخلوق.
﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً ﴾ في الإعجاز والبلاغة.
﴿ مَّثَانِيَ ﴾ : يثني فيها الحكم ولا يُمَلُّ بتكرار القراءة، وَيشتمل عَلَى نوعين : الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد.
﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ إذا سمعوا آيات الوعيد.
﴿ ثُمَّ تَلٍينَ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ إذا سمعوا آيات الوعد.
ويقال : تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأُنْس، ويقال بالتجلَّي والاستتار.
قوله جل ذكره :﴿ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ : أي فَمنْ يتقي بوجهه سوءَ العذاب كَمَنْ ليس كذلك ؟ وقيل إنَّ الكافرَ يَلْقَى النارَ أَوَّلَ ما يلقاها بوجهه ؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً. فأمَّا المؤمِن فيُوقَى ذلك ؛ وإنما يُلَقَّى النضرة والسرور والكرامة ؛ فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشِرٌ.
قوله جل ذكره :﴿ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ :
أَشدُّ العذابِ ما يكون بغتةً، كما أَنَّ أتمَّ السرور ما يكون فلتةً. ومن الهجران والفراق ما يكون بغتةً غير متوقع، وهو أنكى للفؤاد وأشدُّ وأوجعُ تأثيراً في القلب، وفي معناه قلنا :
فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ وأَصبحتَ يوماً والزمانُ تَقَلَّبَا
وأتمُّ السرورِ وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة، قال قائلهم :
بينما خاطر المُنى بالتلاقي سابح في فؤاده وفؤادي
جَمَع اللَّهُ بيننا فالتقينا هكذا صُدْفةً بلا ميعادِ
قوله جل ذكره :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ : أي أوضحنا لهم الآيات، ووقفناهم على حقائق الأشياء.
﴿ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ : فلا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفِه.
قوله جل ذكره :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
مَثَّلَ الكافرَ ومعبوديه بعبدٍ اشترك فيه متنازعون.
﴿ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ﴾ : فالصنم يدعي فيه قومٌ وقومٌ آخرون ؛ فهذا يقول : أنا صَنَعْتُه، وذلك يقول : أنا استعملْتُه، وثلاث يقول : أنا عَبَدْتُه.
أمّا المؤمن فهو خالِصٌ لله عزَّ وجل، يشبه " عبداً سَلَماً لرجل " أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف.
ويقال :﴿ رَّجُلاً فِيهَ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ﴾ تتجاذبه أشغال الدُّنيا، شُغْلُ الوَلدِ وشغل العيال، وغيرُ ذلك من الأشغالِ المختلفةِ والخواطرِ المُشَتِّتَةِ.
أمَّا المؤمِن فهو خالصٌ لله ليس لأحدٍ فيه نصيب ؛ ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شيء، ولا للرضوان معه شُغْل، إذْ ليس له طاعات يُدِلُّ بها، وعَلَى الجملة فهو خالص لله، قال تعالى لموسى :﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ [ طه : ٤١ ] أي أبقيتُكَ لي حتى لا تصلح لغيره.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ : الثناءُ له، وهو مُسْتَحِقٌّ لصفات الجلال.
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ :
نَعَاه - موسى عليه السلام - ونَعَى المسلمين إليهم فَفزِعُوا بأجمعهم من مآثمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومَنْ لم يَتفرَّغْ من مآثمِ نفسه وأنواع همومه، فليس له من هذا الحديث شمّة، فإذا فرغ قلْبُه من حديث نَفْسِه، وعن الكون بجملته فحينئذٍ يجد الخيرَ من ربِّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم :
كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ ولم أدرِ أني بعد موتي أكتب
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:قوله جل ذكره :﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ :
نَعَاه - موسى عليه السلام - ونَعَى المسلمين إليهم فَفزِعُوا بأجمعهم من مآثمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومَنْ لم يَتفرَّغْ من مآثمِ نفسه وأنواع همومه، فليس له من هذا الحديث شمّة، فإذا فرغ قلْبُه من حديث نَفْسِه، وعن الكون بجملته فحينئذٍ يجد الخيرَ من ربِّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم :
كتابي إليكم بعد موتي بليلةٍ ولم أدرِ أني بعد موتي أكتب

قوله جل ذكره :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾.
الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يَبْلُغْها، وادَّعى وجودَ أشياء لم يَذُقْ شيئاً منها، قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةُ ﴾ [ الزمر : ٦٠ ].
ويقال : لا بل هؤلاء هم الكفار، وأمَّا المُدَّعِي الذي لم يَبْلُغْ ما يَدَّعِيه فليس يكذب على ربِّه إنما يكذب على نَفْسه ؛ حيث ادَّعى لها أحولاً لم يَذُقُّها ولم يَجِدْها، فأمَّا غيرُ المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقِّ - سبحانه - ما يتقدَّسُ ويتعالى عنه.
قوله جل ذكره :﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص، وفي أحواله من حيث الصدق، وفي أسراره من حيث الحقيقة.
﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمحْسِنِينَ ﴾ :" الإحسانُ - كما جاء في الخبر- أن تعبد الله كأنك تراه ". فَمَنْ كانت -اليومَ- مشاهدتُه على الدوام كانت رؤيته غداً على الدوام، ومَنْ لا فلا.
قوله جل ذكره :﴿ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
منْ لا يكون مؤمنَاً فليس من أهل هذه الجملة. ومَنْ كان معه إيمان : فإذا كُفِّرَ عنه أسوأَ ما عَمِلَه فأسوَأُ أعمالِه كبائرُه ؛ فإنْ غُفِرَتْ يَجْزِهِم بأحسن أعمالهم. وأحْسَنُ أعمالِ المؤمنِ الإيمانُ والمعرفة، فإن كان الإيمانُ مؤقتاَ كان ثوابُها مؤقتاً، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابُه على الدوام. ثم أحسنُ الأعمال عليها أحسنُ الثوابِ، وأحسنُ الثوابِ الرؤيةُ فيجب أن تكون على الدوام -وهذا استدلالٌ قوي.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾.
استفهام والمراد منه التقرير ؛ فاللَّهُ كافٍ عَبْدَه اليومَ في عرفانه بتصحيح إيمانه ومَنْع الشِّرْكِ عنه، وغداً في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايتهُ تامة وسلاَمته عامة.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾.
قَرَّرَ عليهم عُلُوَّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرُّوا بذلك، ثم طالَبَهم بِذكْرِ صفاتِ الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبُعَدِ عن الحياة والعِلْم والقدرةِ والتمكُّنِ من الخَلْقِ، فيقول : كيف أشركتم به هذه الأشياء ؟ وهلاَّ استحيَيْتُم من إطلاق أمثال ذلك في صفته ؟
قُلْ -يا محمد- حَسْبِيَ الله، عليه يتوكل المتوكلون ؛ كافِيَّ اللَّهُ المتفرِّدُ بالجلالِ، القادرُ على ما يشاء، المتَفَضِّلُ عليَّ بما يشاء.
قوله جل جلاله :﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾.
سوف ينكشف رِبْحُنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جوابَ لكم، ونُعَذِّبُكُم فلا شفيعَ لكم، ونُدَمِّرُ عليكم فلا صريخَ لكم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:قوله جل جلاله :﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾.
سوف ينكشف رِبْحُنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جوابَ لكم، ونُعَذِّبُكُم فلا شفيعَ لكم، ونُدَمِّرُ عليكم فلا صريخَ لكم.

قوله جل ذكره :﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾.
مَنْ أحسن فإحسانهُ إلى نَفْسه اكتَسبَه ومَنْ أساء فبلاؤه على نفسه جَلَبَه - والحقُّ غنيٌّ عن التجمُّلِ بطاعةِ مَنْ أقبل والتنقُّصِ بِزَلَّةِ مَنْ أعرض.
قوله جل ذكره :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
يقبض الأرواح حين موتها، والتي لم تَمُتْ من النفوس في حال نومها، فإذا نامت فيقبض أرواحها. وقبضُ الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح، ويخلق بَدَلَ الاستشعارِ والعِلْمِ الغفلَة والغيبةَ في مَحَالِّ الإِحساس والإدراك. ثم إذا قَبضَ الأرواحَ عند الموت خَلَقَ في الأجزاء الموتَ بَدَلَ الحياة، والموتُ ينافي الإحساسَ والعلمَ. وإذا ردَّ الأرواح بعد النوم إلى الأجسادِ خَلَقَ الإدراكَ في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظاً، وقَبْضُ اللَّهِ الأرواحَ في حال النوم وردت به الأخبار، وذلك على مراتب ؛ فإنَّ روحاً تُقْبَضُ على الطهارة تُرْفَعُ إلى العرش وتسجد لله تعالى، وتكون لها تعريفات، ومعها مخاطبات " والله أعلم ".
قوله جل ذكره :﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ﴾.
أي أنهم - وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاءَ بِحُكْمِهِمْ لا بتعريفٍ من قِبَلِ الله أو إخبار- فإِنَّ اللَّهَ تعالى لا يقبل الشفاعةَ من أحدٍ إِلاَّ إذا أَذِنَ بها، وإِنَّ الذي يقولونهْ إنما هو افتراءٌ على الله.
قوله جل ذكره :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾.
اشمأزَّت قلوبُ الذين جحدوا ولم تسكن نفوسُهم إلى التوحيد، وإذا ذُكِرَ الذين مِنْ دونه استأنسوا إلى سماعه.
عَلَّمَه - صلى الله عليه وسلم – كيف يثني عليه - سبحانه.
وتشتمل الآيةُ على الإشارة إلى بيان ما ينبغي من التنَصُّل والتذلُّلِ، وابتغاءِ العَفْو والتفضُّلِ، وتحقيق الالتجاء بِحُسْنِ التوكل. ثم أخبر عن أحوالهم في الآخرة فقال :
﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
لافتدوا به. . ولكن لا يُقْبَلُ منهم، واليومَ لو تصدَّقوا بمثقال ذرة لَقُبْلَ منهم. كما أنهم لو بَكَوْا في الآخرة بالدماء لا يُرْحَمُ بكاؤهم، ولكنهم بدمعة واحدةٍ -اليومَ- يُمْحَى الكثيرُ من دواوينهم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لِمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾.
في سماع هذه الآية حَسَراتٌ لأصحاب الانتباه.
وفي بعض الأخبار أن قوماً من المسلمين من أصحاب الذنوب يُؤْمَرُ بهم إلى النار فإذا وافوها يقول لهم مالِكٌ : مَنْ أنتم ؟ إن الذين جاؤوا قَبْلَكُمْ من أهل النار وجوهُهم كانت مُسْوَدَّةً، وعيونُهم كانت مُزْرَقَّة. . . وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون : ونحن لم نتوقع أن نلقاك، وإنما انتظرنا شيئاً آخر ! قال تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾.
حاق بهم وبال استهزائهم وجزاء مكرهم.
قوله جل ذكره :﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.
في حال الضُّرِّ يتبرَّؤون من الاستحقاق والحوْلِ والقوة، فإذا كَشَفَ عنهم البلاَءَ وقعوا في مغاليطهم، وقالوا : إنما أوتينا هذا باستحقاقٍ مِنَّا، قال تعالى :﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾ ولكنهم لم يعلموا، ثم اخبر أن الذين مِنْ قَبْلِهم مثلَ هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤمُ ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضاً مِثْلُ ما أصاب أولئك.
قوله جل ذكره :﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
أو لم يَرَوْ كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق : فَمِنْ مُوَسَّعِ عليه رِزقُه. ومِنْ مُضَيَّقٍ عليه، وليس لواحدٍ منهم شيءٌ مِمَّا خُصَّ به من التقليل أو التكثير.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾.
التسمية " بيا عبادي " مَدْحٌ، والوصفُ بأنهم " أسرفوا " ذَمٌ. فلمَّا قال :﴿ يَا عِبَادِيَ ﴾ طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رؤوسَهم، ونكَّسَ العُصَاةُ رؤوسَهم وقالوا : مَنْ نحن. . . حتى يقول لنا هذا ؟ !
فقال تعالى :﴿ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ ﴾ فانقلب الحالُ ؛ فهؤلاء الذين نكَّسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذِلَّتُهُم، والذين رفعوا رؤوسَهم أطرقوا وزالت صَوْلَتُهم.
ثم أزال الأُعجوبةَ عن القسمة بما قَوي رجاءَهم بقوله :﴿ عَلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ يعني إنْ أَسْرَفْتَ فعلى نَفْسِكَ أسرفت.
﴿ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ﴾ : بعد ما قطعْتَ اختلافَك إلى بابنا فلا ترفَعْ قلبك عَنَّا.
﴿ إِنَّ اللَّهِ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾ الألف واللام في " الذنوب " للاستغراق والعموم، والذنوب جمع ذنب، وجاءت " جميعاً " للتأكيد ؛ فكأنه قال : أَغْفِرُ ولا أترك، أعفوا ولا أُبْقِي.
ويقال إنْ كانت لكم جِناية كثيرة عميمة فلي بشأنكم عناية قديمة.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾.
الإنابة الرجوع بالكلية. وقيل الرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائبَ يرجع من خوف العقوبة، وصاحْبُ الإنابة يرجع استحياءً لِكَرَمِه.
﴿ وَأَسْلِمُواْ لَهُ ﴾ : وأخلِصوا في طاعتكم، والإسلامُ - الذي هو بعد الإنابة - أَنْ يعلمَ أَنّ نجاتَه بفَضْلِه لا بإنابته ؛ فبفضله يصل إلى إنابته. . . لا بإنابته يصل إلى فضله.
﴿ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ﴾ قبل الفراق. ويقال هو أن يفوتَه وقتُ الرجوعِ بشهود الناس ثم لا يَنْصَرِفُ عن ذلك.
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
يقال هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سَلَفَ من تقصيرهم، ويَرَوْن ما وُفِّقَ إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.
أو يقول : لو أنَّ الله هداني لكُنْتُ كذا، ويقول آخر : لو أنَّ لي كَرَّةً فأكون كذا، فيقول الحقُّ -سبحانه :
﴿ بَلىَ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرينَ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٧:أو يقول : لو أنَّ الله هداني لكُنْتُ كذا، ويقول آخر : لو أنَّ لي كَرَّةً فأكون كذا، فيقول الحقُّ -سبحانه :
﴿ بَلىَ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرينَ ﴾.

فَذُقْ من العذب ما على جُرْمِك استوجَبْتَ.
قوله جل ذكره :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾.
هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً ولم يَصْدُقُوا فيها، وأظهروا المحبةَ لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحاً بذلك ! وأنشدوا :
ولمَّا ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت كَذَبْتَني فما لي أرى الأعضاءَ منك كواسيا ؟ !
فما الحُبُّ حتى تنزف العين بالبكا وتخرس حتى لا تجيب المناديا
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيُنَجِي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
كما وَقَاهم -اليومَ- عن المخالفات، حماهم -غداً- من العقوبات، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين ؛ اليومَ عصمة، وغداً نعمة. اليومَ عناية وغداً حماية وكفاية.
قوله جلّ ذكره :﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ﴾.
تدخل أكسابُ العباد في هذه الجملة، ولا يَدْخُل كلامُه فيه ؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته.
قوله جل ذكره :﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
﴿ مَقَالِيدُ ﴾ أي مفاتيح، والمرادُ منه أنه قادر على جميع المقدورات، فما يريد أَنْ يُوجِدَه أَوْجَدَه.
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾.
أي متى يكون لكم طَمَعٌ في أن أعبدَ غيره. . . وبتوحيده ربَّاني، وبتفريده غَذَاني، وبِشَرَابِ حُبِّه سَقَاني ؟ !.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
لَئِنْ لاحظْتَ غيري، وأثْبَتَّ معي في الإبداع سِوَايَ أحْبَطْتَ عَمَلكَ، وأبطلْتَ سعَيكَ، بل اللَّهُ - يا محمد- فاعْبُدْ، وكُنْ من جملة عبادي الشاكرين.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
ما عرفوه حَقَّ معرفته، وما وصفوه حقَّ وصفه، وما عظّموه حَقَّ تعظيمه ؛ فَمَن اتصف بتمثيل، أو جَنَحَ إلى تعطيل حَادَ عن السُّنَّةِ المُثْلَى وانحرف عن الطريقة الحسنى. وصفوا الحقَّ بالأعضاء، وتَوَهَّموا في نَعْتِه الأجزاء، فما قدروه حَقَّ قَدْرِه ؛ فالَخَلْقُ في قبضة قدرته، والسماوات مطويات بيمينه، ويمينهُ قُدْرَتُه. ولأنه أقسم أن يُفْنِيَ السماواتِ ويطويَها فها قادر على ذلك.
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴾ تنزيهاً له عما أشركوا في وصفه.
قوله جل ذكره :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾.
في النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تُحْشَرُون، والنفختان متجانستان ؛ ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح ؛ وفي الأخرى حياة النفوس، لِيُعْلَمَ أن النفخةَ لا تعمل شيئاً لعينها، وإنما الجبَّارُ بقدرته يخلق ما يشاء.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾
نور يخلقه في القيامة فتشرق به، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم، ويستضيء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم.
ويقال اليوم إشراق، وغدا إشراق، اليوم إشراق القلب بحضوره، وغدا إشراق الأرض بنور ربها. ويقال غدا أنوار التولي للمؤمنين، واليوم أنوار التجلي للعارفين.
قوله جل ذكره :﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾.
إن كان خيراً فَخَيرٌ، وإن كان غير خَيْر فغيرُ خير.
قوله جل ذكره :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
الكفار يُسَاقُون إلى النار عنفاً، والمؤمنون يُسَاقون إلى الجنة لُطْفاً ؛ فالسَّوَقُ يجمع الجنسين. . . ولكن شتان بين سَوْقٍ وسَوْق !
فإذا جاء الكفارُ قابلهم خَزَنَةُ النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب ؛ فلا تكريمَ ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال. . . بل خِزْيٌ وهونٌ، ومن كل جنسٍ من العذاب ألوان.
قوله جل ذكره :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾.
سَوّقٌ ولكن بغير تعبٍ ولا نَصَبٍ، سَوْقٌ ولكن برَوْحٍ وطَرَبٍ.
" زمراً " جماعاتٍ، وهؤلاء هم عوامُّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء :﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلى الرَّحْمَانِ وَفْداً ﴾ [ مريم : ٨٥ ] وفوقهم مَنْ قال فيهم :﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾
[ ق : ٣١ ] وفَرْقٌ بين مَنْ يُسَاقُ إلى الجنة، وبين مَنْ تُقَرَّبُ منه الجنة. . . هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون.
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. . . ﴾ وإذا وافوا الجنة تكون الأبوابُ مُفَتَّحَةً لئلا يصيبهم نَصَبُ الانتظار.
ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يُسَاق، ولعلَّ هؤلاء لا رغبةَ لهم في الجنة بكثير ؛ فَلهُم معه في الطريق قُولُ ﴿ طِبْتُمْ ﴾ ؛ أي أنهم يُساقون إلى الجنة بلطف دون عنف.
قوله جل ذكره :﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾.
صَدَقَنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المِنَّة.
﴿ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ ﴾ أي أرضَ الجنة ؛ نتبوأ منها حيث نشاء. وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قومُ " الغُرَف " أقوام آخرون.
قوله جل ذكره :﴿ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
يُسَبِّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات. . . هذا هو عملُ الملائكة الذين من حول العرش.
وقُضِيَ بين أهل الجنة وأهل النار بالحقِّ، لهؤلاء دَرَكات ولأولئك درجات. . . إلى غير ذلك من فنون الحالات. وُقضِيَ بين الملائكة أيضاً في مقاماتهم على ما أراده الحقُّ في عباداتهم.
Icon