تفسير سورة إبراهيم

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة إِبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿الر﴾ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنا الله أرى (١)، وقال في رواية أبي صالح وعطاء: أنا الله الرَّحمن (٢)، وعلى هذا التفسير
(١) ورد في "تفسير الطبري" ١١/ ٧٩، ١٣/ ٩١ في رواية أبي الضحى عن ابن عباس بنصه، والسمرقندي ٢/ ٨٧ بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ١١٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤، وورد بلا نسبة في "تفسير أبي حيان" ٥/ ١٢١. خلاصة القول في الحروف المقطعة في أوائل السور: تباينت أقوال العلماء في هذه الحروف، ولهم فيها اتِّجاهان: الاتجاه الأول: أنها سر الله في القرآن، وبالتالي هي مما استأثر الله بعلمه، فهي من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي لا ينبغي التكلم فيها، وقد نُسب هذا القول إلى الخلفاء الراشدين وبعض الصحابة رضي الله عنهم بروايات ضعيفة - كما قال ابن عاشور في تفسيره (١/ ٢٠٧) وممن أيّد هذا القول أبو حاتم، وقال: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله -عز وجل-، وإلى هذا مال الشوكاني. انظر: "تفسير الشوكاني" ١/ ٥٠ - ٥١. الاتجاه الثاني: أنها معلومة ولها معاني، ولم ينزلها الله عبثاً، ومن أنصار هذا الرأي الذين أطالوا النقاش حولها الفخر الرازي رحمه الله؛ ذكر إحدى وعشرين قولاً، وناقش معظمها وأيّد وعارض، ثم ترجح له أنها أسماءٌ للسور، وأورد ستة إشكالات على هذا القول، ثم ناقشها وردها جميعاً. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٢/ ٢ - ١٢، وكذلك الطاهر بن عاشور أطال الحديث عنها في تفسيره "التنوير والتحرير" ١/ ٢٠٦ - ٢١٨، وقد سلك سبل السبر والاستقصاء، فحذف المتداخلات، ووحد المتشابهات، ثم خلص إلى واحد وعشرين قولاً، قسمها إلى ثلاث مجموعات، ثم ناقشها وأورد عليها الإشكالات ليخلص إلى ثلاثة أقوال، هي: أنها حروف جاءت لتبكيت المعاندين وتسجيل عجزهم عن المعارضة. أنها أسماءٌ للسور الواردة فيها؛ ألم السجدة، حم السجدة. أنها =
393
قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ مرفوع على خبر الابتداء، المعنى: هذا كتاب أنزلناه (١). وقال صاحب النّظم (٢): ﴿الر﴾ اسم موضوع لجماعة الحروف المعجمة (٣)، فعلى هذا ﴿كِتَابٌ﴾ موضوع في موضع رفع على (٤) خبر الابتداء، كأنه قيل هذه الحروف كتاب أنزلناه، يعني أن الكتاب الذي أنزل مؤلَّف من هذه الحُروف (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ من صفة الكتاب، ومِثلُ هذا من الكلام: زيد رجل أنفذته إليك، وقوله تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ سبب لقوله ﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾، فاللام في ﴿لِتُخْرِجَ﴾ معلق بالإنزال، أي: أنزلنا لهذا.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾ قال ابن عباس: يريد من الشرك إلى الإيمان (٦). قال أبو إسحاق: شبّه الكفرَ بالظلمات لأنه غير
= أقسام أقسم الله بها لتشريف قدر كتابه، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخرجهم من حالة الأمِّية. ثم قال وأرجحها أولها، وهذا القول هو الذي اختاره جماعة من المحققين؛ كالفراء والمبرد وابن تيمية والمزي، وابن كثير؛ الذي ذكر مسوغات ترجيح هذا القول؛ وهو أن ذكر القرآن وتنزله عن رب العالمين يرد كثيراً بعد هذه الحروف المقطعة. كقوله: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾، ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾،.. انظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٠.
(١) وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، كالزجاج، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، والعكبري وغيرهم. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٣، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٤٥، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ١٩٣، و"إملاء ما منّ به الرحمن" ١/ ٦٥.
(٢) هو أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني.
(٣) ذكره ابن عطية في تفسيره ٨/ ١٩٣ بلا نسبة.
(٤) في (ع): (لأنه).
(٥) انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ١٩٣.
(٦) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٣ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٤٣، وذكره الكرماني في "غرائب التفسير" ١/ ٥٧٣ بلا نسبة.
394
بيّن، الإيمان بيّن نيّر، فمُثّل بالنور (١).
وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ الباء متصلة بتخرج، المعنى: لتخرج الناس بإذن ربهم، أي: بما أذِن الله لك في تعليمهم، ويجوز أن يكون ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾: لا (٢) يهتدي مهتد إلا بإذن الله ومشيئته (٣)، هذا كله كلام أبي إسحاق (٤)، والقول الثاني قول ابن عباس؛ لأنَّه قال: يُريد بقضاء ربهم (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ قال ابن الأنباري: إنما لم يدخل حرف العطف في ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾ (٦) لأنه أريد بهذا الصراط: النور المذكور قبله (٧)، فـ (إلى) الثانية (٨)، دخلت على ما دخلت عليه الأولى (٩) في المعنى، وصار كقولك: قصدت إلى زيد العاقل الفاضل، فيستغني عن حرف العطف من أجل أن المذكور بعد (إلى) الثانية ثناء على السابق ووصف له، وإنما تعاد (إلى) لمعنى (١٠) التفخيم والتعظيم، فالنور: هو الإسلام، وصراط العزيز الحميد: ثناء على النور، وهذا معنى قول أبي
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٣ بنصه تقريباً.
(٢) في (ش)، (ع): (لأنه لا يهتدي)، والمثبت أصح لموافقته للمصدر المنقول عنه.
(٣) في (أ)، (د): (ومسببه).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٣ بنصه.
(٥) ورد بلا نسبة في تفسيره "الوجيز" ١/ ٥٧٧، وابن عطية ٨/ ١٩٤.
(٦) أي لم يقل: و ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾.
(٧) على أنه بدل منه، وقد ذهب إلى هذا الزمخشري في أحد قوليه في تفسيره ٢/ ٢٩٢، وابن عطية ٨/ ١٩٤، والعكبري في "الإملاء" ٢/ ٦٥.
(٨) في قوله: ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾.
(٩) في قوله: ﴿إِلَى النُّورِ﴾.
(١٠) في (ش)، (ع): (بمعنى).
395
إسحاق: ثم بيّن ما النور فقال: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (١).
٢ - قوله تعالى: ﴿اللَّهِ﴾ مَنْ رَفع (٢) قطع مِن الأول، وجعل ﴿الَّذِي﴾ الخبر أو جعل ﴿الَّذِي﴾ صفة وأضمر خبرًا (٣)، ومثله في القطع قوله: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ [سبأ: ٣] فيمن رفع (٤) ومثله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١] ثم انقطع قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ [التوبة: ١١٢] عنهم واستؤنف به. ومن خفض (٥) جعله بدلاً من ﴿الْحَمِيدِ﴾ ولم يكن صفة؛ لأن اسم الله صار كالعلم (٦) الذي لا يوصف به نحو: زيد وعمرو بكثرة الاستعمال (٧)، وإن كان يجوز أن يوصف به من حيث المعنى؛ لأن معناه ذو العبادة (٨)، كما بينا في أول الكتاب؛ على
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٣، بنصه.
(٢) هما نافع وابن عامر انظر: "السبعة في القراءآت" لابن مجاهد ص ٣٦٢، و"الحجة للقراء" لأبي علي الفارسي ٥/ ٢٥، و"التبصرة في القراءآت السبع" لمكي ص ٥٥٨.
(٣) انظر: "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٥٤، و"الإملاء" ٢/ ٦٥، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ١٤٦.
(٤) وهما نافع وابن عامر، انظر: "السبعة" ص ٥٢٦، و"الحجة للقراء" ٦/ ٥، "المبسوط في القراءات" ص ٣٠٣، قال أبو علي: وأما الرفع فيجوز أن يكون (عالمُ) خبرَ مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب، ويجوز أن يكون مرفوع بالابتداء وخبره ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾.
(٥) هم: ابن كثير وأبوعمرو وعاصم وحمزة والكسائي. انظر: "السبعة" ص ٣٦٢، و"الحجة للقراء" ٥/ ٢٥، و"التبصرة" ص ٥٥٨.
(٦) في (أ)، (د): (العلم)، والمثبت من (ش)، (ع) وهو أنسب للسياق.
(٧) راجى هذه المسألة في "المقتضب" للمبرد ١/ ٢٦، و"المقرب" لابن عصفور ١/ ٢٢٢، و"همع الهوامع" للسيوطي ٥/ ١٧٨، و"خزانة الأدب" ٢/ ٢٦٨، ٦/ ٣٢٨.
(٨) على قول من قال أن لفظ الجلالة مشتق من أله، ومعناه عبد، وتأله: تعبّد وتنسّك، كما قال رؤبة بن الحجاج ت (١٤٥هـ): =
معنى أن العبادة تجب له، وقد يَغْلُب ما أصله الصفة فيصير بمنزلة العلم، كقول الشاعر (١):
ونابغةُ الجَعْدِيُّ بالرَّمْل بيتُه عليه صَفيحٌ من تُرَابٍ وجَنْدَلِ (٢)
فالأصل النابغة، ولما غلب نُزع عنه الألف واللام كما يُنزع من الأعلام، نحو: زيد وجعفر (٣).
٣ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ﴾ إن شئتَ جعلت ﴿الَّذِينَ﴾ من صفة الكافرين في الآية المتقدمة، وإن شئت استأنفت به وجعلت الخبر قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ ومعنى الاستحباب: طلب محبّة الشيء بالتعرُّض إلفًا (٤)، ودخلت (على) (٥) في قوله: ﴿عَلَى الْآخِرَةِ﴾ لأن معنى يستحبُّون هاهنا: يؤُثرون ويختارون، فكأنَّه قيل: يُؤثرون الحياة
= لله دَرُّ الغانيات المُدَّهِ سبَّحْنَ واسترجَعْن من تألهُّي
"ديوان رؤبة" ص ١٦٥، وانظر: "تفسير ابن عطية" ١/ ٨٩، و"الدر المصون" ١/ ٢٥.
(١) هو مسكين الدارمي، واسمه: ربيعة بن عامر ت (٨٩ هـ).
(٢) انظر "ديوانه" ص ٤٩ برواية:
عليه صفيح من رخام مرصعُ
وورد البيت غير منسوب في "الكتاب" ٣/ ٢٤٤، "واللسان" (نبغ) ٨/ ٤٥٣، برواية:
عليه تراب من صفيح موضع
وورد في "المقتضب" ٣/ ٣٧٣، و"أمالي ابن الشجري" ٢/ ٣٦٠ برواية:
عليه صفيح من تراب منضد
وورد صدره في"الخزانة" ٢/ ٢٦٨، ٦/ ٣٢٨.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ٢٥ - ٢٧ بتصرف واختصار.
(٤) في (ش)، (ع): (لها).
(٥) أي عدَّى الفعل بعلى لأنّه تضمّن معنى الإيثار.
الدنيا على الآخرة (١)، قال ابن عبّاس: يريد ما يُعجَّل لهم من (٢) الدنيا وإن كان حرامًا أخذوه تهاونًا بأمر الآخرة (٣)، واستبعدوها (٤)، مثل قول: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ [الإنسان: ٢٧].
﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ويمنعون الناس عن دين الله وطاعته، ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ ذكرنا معناه بالاستقصاء في سورة آل عمران (٥).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ قال عطاء: يريد في خسران كبير (٦)، وقال الكلبي: يعني في خطأ بعيد عن الحق (٧)، ويقال: طويل.
٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ اللسان يستعمل على معان؛ أحدها: الجارحة (٨)، قال الفراء: لم نسمعه من العرب إلا مُذكَّرًا (٩)، وقال أبو عمرو: اللسان بعينه يذكَّر ويؤنث، فمن
(١) أي أن الفعل لمّا عدي بـ (على) ضُمِّنَ معنى الإيثار. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٨٠، "المفردات" ص ٢١٥، والنهر الماد [(٢/ ١) / ١٨٩]، و"الدر المصون" ٧/ ٦٩، و"عمدة الحفاظ" ١/ ٤١٩.
(٢) في (أ)، (د): (من الله) بزيادة لفظ الجلالة، وقد أدى إلى اضطراب المعنى.
(٣) في (أ)، (د)، (ش): (بأمر الله) والمثبت من (ع)، وهو المناسب للسياق بعده، وموافق للوسيط.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" ١/ ٣٠٤ بنصه تقريباً، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٣٤٥.
(٥) خلاصته: أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشُّبَه التي تُلَبِّسون بها، وتُوهِمون أنها تقدح فيها، وأنها مُعْوَجَّة بتتاقضها.
(٦) لم أهتد إلى مصدره.
(٧) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٤ بنصه.
(٨) في (د): (الخارجة).
(٩) نقله ابن الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث" ١/ ٣٦٤ بنصه، وفي (ش)، (ع): (مذكر).
398
ذكَّره جمعه ألسنة، ومن أنَّثه جمعه ألْسُنًا (١)، واللسان يستعمل بمعنى الثناء، يقال: إن لسان الناس عليه لحسنةٌ وخيرٌ، أي: ثناؤهم (٢)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ﴾ [الشعراء: ٨٤]، وقال ابن الأنباري: العرب تُوقع اللسان على الخطبة، والرسالة والكلمة والكلام، يقولون: له لسانٌ حسنةٌ، يعنون: خطبة وعبارة وكلمة، ويقولون: سبق من زيد لسانٌ عمَّه، يعنون: الكلام (٣)، واللسان: اللغة أيضًا، وهو قول المفسرين (٤)، وأهلِ اللغة (٥) في هذه الآية، قالوا في قوله: ﴿إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ بلغة قومه ليفهموا عنه ويعقلوا، يدل لحى هذا قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾، ويقال: فلان يتكلم بلسان العرب، أي: بلغتهم (٦)، قال أبو بكر: ولهذا المعنى وحد اللسان، وإن أضيف إلى القوم؛ لأنه أريد باللسان اللغة، واللغة تقع على قليل المنطق وكثيره؛ نحو: الحِنطة والذرة والقمح والعسل والشعير وما أشبهها من أسماء (٧) الأجناس التي تقع على القليل والكثير بلفظ
(١) ورد في المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/ ٣٦٤ بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (لسن) ٤/ ٣٢٦٢، بلا نسبة.
(٢) ورد بنصه تقريباً في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٣٦٤، و"المخصص" لابن سيده ١٧/ ١٢.
(٣) لم أقف على مصدره.
(٤) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ١٩١ أ، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٨١، عن قتادة، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٠، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٥ ب، و"الطوسي" ٦/ ٢٧٣، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٥، وابن عطية ٨/ ١٩٩.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (لسن) ٤/ ٣٢٦٢، و"مجمل اللغة" ٣/ ٨٠٧، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٤، و"اللسان" (لسن) ٧/ ٤٠٣٠
(٦) انظر: "الكليات" لأبي البقاء ص ٧٩٨.
(٧) في (أ)، (د): (الأسماء)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الأصح لانسجامه مع السياق.
399
واحد (١)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بلسان سعد (٢) بن بكر بن هوازن؛ وهي من أفصح العرب؛ وهي لغة يفهمها جميع العرب.
وقوله تعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ قال ابن عباس: جعل المشيئة إليه وحده لا شريك له (٣)، قال أبو بكر: رَفَعَ ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ بعد التّبيين بإيثاره الباطل (٤)، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾: باتِّباع الحق.
قال الفراء: وإذا رأيت الفعل منصوبًا وبعده فعل قد نُسِق (٥) عليه فإن كان (٦) يُشاكل (٧) معنى الفعل الذي قبله نَسَقْته (٨) عليه، وإن رأيته غير مشاكل لمعناه استأنفته فرفعته؛ نحو قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٢] فيأبى في موضع رفع لا يجوز
(١) لم أقف على مصدره. وورد مختصراً بلا نسبة في "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٠.
(٢) بنو سعد بن بكر: هم بطن من هوازن بن منصور، من العدنانية، وهم أظآره - ﷺ - عندهم استرضع من حليمة السعدية. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٦٥، و"نهاية الأرب" ص ٢٦٨.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٤، بنصه.
(٤) يعني أن ﴿فَيُضِلُّ﴾ مرفوع على الاستئناف ومقطوع من الأول؛ لأنه لو عطف على قوله ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ لأوهم أن إرسال الرسل لإرادة الإضلال، وهو خلاف المراد من الآية، وجوّز الزجاج النصب على وجه بعيد على أن اللام لام العاقبة؛ لأنه لما آل أمرهم إلى الضلال مع بيان الرسول لهم صار كأنه إنما أُرسل لذلك. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٤، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٤٥، و"البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٥٤، و"الإملاء" ٢/ ٦٦.
(٥) في (د): (سبق)، والنَّسق في اصطلاح النحويين هو: العطف. انظر: "المعجم المفصل في النحو العربي" ٢/ ١١٣.
(٦) (كان) ساقطة من (د).
(٧) المقصود بالمشاكلة: المماثلة. انظر. "اللسان" (شكل) ٤/ ٢٣١٠.
(٨) في (د): (سبقته).
400
إلا ذلك (١)؛ لأنه لا يحسن أن تُبادل (٢) بـ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ﴾: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ فإذا لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف، ومثله قوله: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ (٣) فِي الْأَرْحَامِ﴾ [الحج: ٥] ومن ذلك قولهم: أردت أن أزورك فيمنعُنى المطرُ، بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرنا، ومثله قول الشاعر (٤):
يُريدُ أن يُعْرِبَه فيُعْجمُه (٥)
٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ أي: بالبراهين التي دلت على صحة نبوته مثل اليد والعصا وغيرهما من آيات موسى (٦).
(١) "معاني القرآن" اللفراء ٢/ ٦٨ بنصه تقريباً.
(٢) في (د): (يناول).
(٣) يقول الزجاج رحمه الله: لا يجوز فيها إلا الرفع، ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنُقرَّ في الأرحام؛ لأن الله -عز وجل- لم يخلق الأنام لما يُقرُّ في الأرحام، وإنما خلقهم ليدلَّهم على رشدهم وصلاحهم. "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١٢.
(٤) نسب إلى رؤبة في "الكتاب" ٣/ ٥٢، و"اللسان" (عجم) ٥/ ٢٨٢٦، ونسب إلى الحطيئة في شواهد "المغني" ١/ ٤٧٦، و"الدرر اللوامع" ٦/ ٨٦، وورد غير منسوب في "همع الهوامع" ٥/ ٢٣٥، و"المقتضب" ٢/ ٣٣.
(٥) بيت من رَجَز ضمن خمسة أبيات. انظر المصادر السابقة، وقد جاء به الواحدي شاهداً للمسألة النحوية التي قرَّرها من قبل، وهو قطع الفعل الثاني عن الأول بالاستئناف، وعدم جواز عطفه لما يترتب عليه من التباس المعنى وفساده. والشاهد في البيت: رفع. "فيعجمُه" على القطع، والمعنى: فإذا هو يعجمه، ولا يجوز النصب على العطف لفساد المعنى؛ لأنه لا يريد إعجامه؛ والإعجام: أن يجعله مشكلاً وملتبساً. انظر: "الدرر اللوامع" ٦/ ٨٧.
(٦) وهي تسع آيات، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: ١٠١] وهي: الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدَّم، والعصا، واليد، والسنين، والنقص في الثمرات.
401
وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ أي: بأن أخرج قومك (١)، قال أبو إسحاق: (أنْ) هاهنا يصلح أن تكون المخففة (٢) التي للخبر، ويصلح أن تكون مفسِّرة (٣) بمعنى: أيّ، ولكون المعنى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ أي (٤): أخرج قومك، كأن المعنى: قلنا له: أَخْرِج قومك، ومثل هذا قوله: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦]: (أي امشوا) (٥) والتأويل: قالوا لهم امشوا (٦)، وإن جعلتها المخففة التي هي للخبر كان المعنى: أرسلناه بأن يخرج قومه، إلا أن الجار حذف ووُصِلتْ (أن) بلفظ الأمر للمخاطب، والمعنى معنى الخبر؛ نحو قولك: كتبت أن قُمْ، وأمرته أن يقوم، إلا أنها وصلت بلفظ الأمر الذي كان للمخاطب، وحُكي القولين عن سيبويه (٧).
وقوله تعالى ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ قال ابن عباس: يريد من الشرك إلى الإيمان (٨)، ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾، الأيام: جمع يوم، واليوم
(١) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٥ بنصه. انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٠٠.
(٢) أي المخففة من (أنّ) الثقيلة، وهي التي تقع بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته. انظر: "مغني اللبيب" ص ٤٦.
(٣) هي التي تُسبق بكلام في معنى القول دون حروفه، ولها شروط. انظر: "مغني اللبيب" ص ٤٨ - ٤٩.
(٤) في (ش)، (ع): (أن)، والمثبت هو الصحيح لموافقته للمصدر.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق لما في المصدر.
(٦) ساقطة من: (ع).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٥ بتصرف يسير، وانظر: "الكتاب" لسيبويه ٣/ ١٦٢.
(٨) لم أقف عليه منسوبًا إلى ابن عباس، وأورده الواحدي في وجيزه ١/ ٥٧٨ بلا نسبة، وورد عن ابن عباس تفسير الآية بقوله: من الضلال إلى الهدى. انظر: "تفسير =
402
مقداره من طلوع (١) الشمس إلى غروبها، وكانت الأيام في الأصل: أيْوام واجتمعت الياء والواو، سُبقت إحداهما بالسكون فأدغمت إحداهما في الأخرى وغُلبت الواو (٢)، ويُعبَّر بالأيام عن الوقائع والنِّعم والنقم؛ لأن هذه كلها تقع فيها، ذَكره شَمر، وقال ابن السَّكِّيت: العرب تقول: الأيام في معنى الوقائع، يقال: هو عالم بأيام العرب، يريد: وقائعها (٣).
قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بنِعم الله (٤)، وهو قول مجاهد (٥)، وأبي بن كعب؛ رواه عن النبّي - ﷺ - في قوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ قال: "أيامه: نِعَمُه" (٦).
= الطبري" ١٣/ ١٧٩ بدون نسبة لابن عباس، و"الدر المنثور" ٤/ ١٣٠. وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(١) (طلوع) مكررة في (أ)، وفي (د): (من طلوع إلى طلوع الشمس).
(٢) انظر (يوم) في: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٩٠، و"اللسان" ٨/ ٤٩٧٤، ونقله الفخر الرازي في "تفسيره" ١٩/ ٨٤ وعزاه للواحدي.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (يوم) ٤/ ٣٩٩١ بنصه.
(٤) ورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٥ أ، بلفظه، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٥، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤١، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٣٢، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٣٣، بلفظه، أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤١، بلفظه، والطبري ١٣/ ١٨٣ - ١٨٤، بلفظه من طرق، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٢، و"الطوسي" ٦/ ٢٧٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٥، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٤٦.
(٦) أخرج أحمد ٥/ ١٢٢ بنحوه مرفوعاً وموقوفاً، والنسائي في "التفسير" ١/ ٦١٤ بنحوه، والطبري ١٣/ ١٨٢ - ١٨٤، بنحوه، وأورده المزي في "تحفة الأشراف" ١/ ٢٧، وابن كثير في "تفسيره" ٢/ ٥٤٢، وزاد نسته إلى ابن أبي حاتم، والسيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٣٢، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه =
403
ونحو هذا قال الحسن (١)، وسعيد بن جبير (٢)، وقال مقاتل بن سليمان: بوقائع الله في الأمم السالفة (٣)، قال أبو إسحاق: أي ذكِّرهم بنِعم أيام الله عليهم، وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود (٤)، وقال الفراء: يقول: خوِّفهم بما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، وبالعفو (٥) عن آخرين، وهو في المعنى: خذهم بالشدة واللين (٦).
وقال أهل المعاني: يقول: عظهم بالترغيب (والترهيب، والوعد والوعيد؛ والترغيب) (٧)، والوعد: (أن يذكِّرهم) (٨) بما أنعم الله عليهم، وعلى مَن قبلهم ممن آمنوا بالرسل وصدَّقوه فيما مضى من الأيام، (والترهيب والوعيد: أي ذكِّرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذَّب الرسل
= والبيهقي في شعب الإيمان [لم أقف عليه]، وهذا الحديث له إسنادان؛ إسناد أحمد والطبري، وإسناد النسائي، أما الإسناد الأول: فضعيف؛ لأنه يدور على محمد بن أبان الجعفي، وهو مضَّعف بعلتين: سوء الحفظ، وبدعة الإرجاء مع الدعوة إليها. انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري ١/ ٣٤، و"الضعفاء الصغير" للبخاري ص ٩٨ و"الضعفاء" للنسائي ص ٩١، و"الجرح والتعديل" ٧/ ٢٠٠، و"الكامل في ضعفاء الرجال" ٦/ ٢١٣٩، و"ميزان الاعتدال" ٤/ ٣٧٣، أما الإسناد الثاني: فانفرد به النسائي، ورجاله ثقات، فهو صحيح.
(١) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٢٧٤ بنحوه.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ١٨٤ بنحوه، وورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٢٧٤.
(٣) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩١ أ، بمعناه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٥ ب بنصه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٥ بنصه.
(٥) في (أ)، (د): (بالعقوبة)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٦٨ بنصه.
(٧) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٨) ما بين القوسين ساقط من (د).
404
فيما مضى من الأيام) (١)؛ ليرغبوا في الوعد فيصدِّقوا، ويحْذروا فيتركوا التكذيب (٢)، ومن الأيام التي أريد بها الدُّول من النعيم (٣) قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (٤) [آل عمران: ١٤٠]، والعرب تقول: من ير يومًا (يُرَ به (٥)، معناه: من يرى لنفسه يوم سرور بمصرع غيره، رأى غيرُه مثلَ ذلك اليوم بمصرعه، وكل هذا) (٦) يدل على أنه يُعبَّر باليوم والأيام من حادثات الخير والشر (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ قال ابن عباس: يريد لكل صَبَّارٍ على طاعة الله وعن معاصيه، شكور لأنعم الله (٨)،
(١) ما بين القوسين ساقط من (ش)، (ع).
(٢) لم أقف على من قال به من أهل المعاني، وقد ذكره بعض المفسرين، انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٨٤، و"الخازن" ٣/ ٧٠.
(٣) في (ش)، (ع): (النعم).
(٤) يقول القفال -رحمه الله-: المداولة: نقل الشيء من واحد إلى آخر، ويقال تداولته الأيدي إذا تناقلته. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ٩/ ١٥. فهذه الآية دليل على أن أيام الله تعالى ليست مقصورة على النعم، بل تشمل النقم كذلك، فقد أُديل المسلمون من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأُديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين، فسمَّى إنكسار المسلمين في أُحد أياماً، كما كانت هزيمة قريش في بدر أياماً.
(٥) انظر: كتاب "الأمثال" لأبي عبيد بن سَلاَّم ص ٣٣٤، و"جمهرة الأمثال" للعسكري ٢/ ٢٧٢، و"مجمع الأمثال" للميداني ٣/ ٣١٨.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٧) وقد رجّحه ابن عطية -رحمه الله- فقال: ولفظة الأيام تعم المعنيين؛ لأن التذكير يقع بالوجهن جميعاً ٨/ ٢٠٣.
(٨) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٦٨ بنحوه، وورد بلا نسبة في تفسيره الوسيط، تحقيق سيسي ١/ ٣٠٦، وابن الجوزي ٤/ ٣٤٦.
405
وقال أهل المعاني: أراد لآياتٍ لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من أفعال المؤمنين، والحال لا يخلو من نعمة وشدة، والمؤمن شاكر في أحديهما (١) صابر في الأخرى (٢).
٦ - قوله تعالى: ﴿وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ وقال في سورة البقرة [٤٩] ﴿يُذَبِّحُونَ﴾ بغير واو؛ لأنه تفسير لقوله: ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ فذكر العذاب مجملاً ثم فسَّره بما بعده، ولا تحتاج في تفسيره إلى الواو كما تقول: أتاني القوم؛ زيدٌ وجعفرٌ وعمروٌ، لا تدخل الواو في زيد، لأنك أردت أن تُفسِّر به القوم، ومثل هذا قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩]، والآثام (٣) فيه نيَّة العذاب كثيره وقليله، ثم فسره بغير الواو فقال: ﴿يُضَاعَفْ﴾ وفي هذه السورة أدخل الواو لأن المعنى: أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضًا، فقوله: ﴿وَيُذَبِّحُونَ﴾ جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله، وما في هذه الآية مفسَّر (٤) في سورة البقرة (٥)، وما ذكرنا في معنى طرح الواو وإثباته كله معنى قول الفراء (٦).
(١) في (د): (إحداهما).
(٢) لم أقف على مصدره، وفي هذا المعنى ورد حديث صحيح؛ يقول الرسول - ﷺ -: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" رواه مسلم: الزهد والرقائق/ المؤمن أمره كله خير ٤/ ٢٢٩٥، فقوله: لأن الصبر والشكر من أفعال المؤمنين، أي من خصائصهم، ويؤيده في الحديث قوله: وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
(٣) في (أ)، (د): (الأيام)، والمثبت من (ش)، (ع) هو الأظهر.
(٤) ساقطة من (أ)، (د).
(٥) انظر: "البسيط"، تفسير سورة البقرة: ٤٩.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٦٨، وورد هذا المعنى في "تفسير الطبري" ١٣/ ١٨٥، =
٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ﴾، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ وهذا (١) إخبار عما قال موسى لقومه، ومعنى ﴿تَأَذَّنَ﴾ قال المفسرون: أعْلَم (٢)، قال الفراء: تأذن وأذن بمعنى واحد (٣)، وربما قالت (٤): تفعَّل وأفعل في معنى واحد، وهذا من ذلك (٥) ومثله: توعَّد وأوعد، وهو كثير، وذكرنا الكلام في تأذن في سورة الأعراف (٦).
وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد لئن وحدتموني وأطعتموني لأزيدنكم نعمة (٧) ومعنى شكر النعمة هو الاعتراف بحق المنعم، والاعتراف بحق الله تعالى هو التوحيد والطاعة، فلذلك فسَّره
= و"الثعلبي" ٧/ ١٤٦ أ، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٤٦، و"البيان في الإعراب" ٢/ ٥٥، و"تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٨٥، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٤٩.
(١) أي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ﴾.
(٢) ورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ١٨٥ - ١٨٦، والسمرقندي ٢/ ٢٠١، و"الماوردي" ٣/ ١٢٣، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٦، وابن عطية ٨/ ٢٠٤.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٦٩ بمعناه، ومع أن معناهما واحد، لكن كما يقولون: زيادة المبنى يقتضي زيادة المعنى، وقد أشار إلى هذا الفرق هنا الزمخشري رحمه الله في "تفسيره" ٢/ ٣٩٤، فقال: "ولابد في تفَّعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل وإذ أذن ربكم إيذانًا بليغاً تنتفي عندهالشركوك وتنزاح الشُّبَه".
(٤) أي العرب.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٦٩، بتصرف، وانظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٨٥ - ١٨٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٦أ، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٣٩٤، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٠.
(٦) عند قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [١٦٧].
(٧) ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٣ بنحوه، و"الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٦ بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٣، و"الألوسي" ١٣/ ١٩٠.
ابن عباس بهما، ومعني قوله: ﴿لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ أي مما يجب الشكرعليه؛ وهو النعمة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ أي جحدتم حقي وحق نعمتي، ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ تهديد بالعذاب على كفران النعمة.
٨ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ﴾: عن خلقه وعن شكر العباد، و (حَمِيدٌ): مستحق للحمد في أفعاله لأنه مُتفضِّل بفعله أو عادل فيه.
قال ابن عباس: يريد لا يُنْقص كفرُكُم ملكوت الله شيئًا (١) ولا تزيد طاعتُكم لله ملْكًا (٢).
وقال أهل المعاني: هذا بيان أن (٣) الله تعالى يجلُّ (٤) عن لَحَاق المنافع والمضار.
٩ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يعني: من بعد هؤلاء الذين ذكرهم من أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم،
(١) التصويب من: (ع)، وفي باقي النسخ: (شيء) وهو خطأ ظاهر.
(٢) لم أقف عليه، وقد ورد بهذا المعنى حديث قدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانْسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منْكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً..) أخرجه مسلم: البر والصلة/ تحريم الظلم ٤/ ١٩٩٤.
(٣) ساقطة من (ع).
(٤) في جميع النسخ: (يحل) بالحاء، والأظهر أنها بالجيم، ومعنى (يجلُّ عن كذا: يعظم، ومنه: أي عظم قدره). انظر (جل) في "تهذيب اللغة" ١/ ٦٤٠، و"مجمل اللغة" ١/ ١٧٣، و"الصحاح" (جلل) ٤/ ١٦٥٨
﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ فيه وجهان (١) من التفسير؛ أحدهما: أن معناه والذين من بعدهم لا يحصى عددهم ولا يعرف تعيينهم وتحصيلهم إلا الله وحده، وهذا قول ابن عباس لأنه قال: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾: لكثرتهم (٢)، فأما النسابون الذين نسبوا القبائل إلى آدم فإنهم لا يدَّعون إحصاء جيمع الأمم بعد عاد وثمود والإحاطة بمعرفة أجناسها وأنواعها لكنهم ينسبون بعضًا يعرفونه ويمسكون عن نسب بعض، وقوم من المفسرين يحملونه على أن أكثر أهل العلم يبطلون من النسب ما جاوز عدنان، ويقولون أولئك أمم لا يَعرف تعيينهم (٣) غير الله -عز وجل- (٤) ولهذا قال ابن مسعود في هذه الآية: كذب النسَّابون (٥)، وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدًا يعرف
(١) ذكر أن في تفسيرها وجهين، ولم يذكر إلا وجهاً واحداً.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٨، بلفظه، وورد بمعناه بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٣/ ١٨٧، والسمرقندي ٢/ ٢٠١.
(٣) في (د): (هيبتهم).
(٤) ولذلك جاءت الأقوال مضطربة في ذكر الأسماء والأعداد والسنوات فيما بين عدنان وإبراهيم -عليه السلام-. انظر: "تاريخ الطبري" ١/ ٥١٥ - ٥١٧، و"دلائل النبوة" للبيهقي ١/ ١٧٨ - ١٨٠، و"الروض الأنف" ١/ ١١ - ١٢، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص ٣٢٠.
(٥) أخرجه الطبري في "تفسيره" ١٣/ ١٨٧ بنصه من طرق، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥١٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠١، و "الماوردي" ٣/ ١٢٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٧، والزمخشري ٢/ ٣٩٥، و"الفخر الرازي" ١٩/ ٨٨، و"الخازن" ٣/ ٧٢، و"الألوسي" ١٣/ ١٩٢. وورد هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي - ﷺ - في "طبقات ابن سعد" ١/ ٥٦، ولفظه: عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي - ﷺ - كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أُدد، ثم يمسك ويقول: "كذب النسَّابون" قال الله -عز وجل- ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٨]، وأورده ابن عطية في "تفسيره" (٨/ ٢٠٦) وقال: وفي مثل ورد قال رسول - ﷺ -: (كذب النسَّابون من فوق عدنان،=
409
ما وراء عدنان (١). وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يُعرفون (٢).
قال ابن الأنباري: فمن بني على هذه الآثار، قال مَنْ فوق عدنان منقطعة معرفتهم عن قلوب الناس، إلا من كان من الأنبياء الذين نوه الله بأسمائهم، وعلى قول هؤلاء: لا يعرف النسابون أحدًا ممن قال الله تعالى: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ (لأن الله تعالى) (٣) أهلك أممًا من العرب وغيرها فانقطعت أخبارهم وعفت آثارهم وبطلت أنسابهم (٤).
= وأورده القرطبي في "تفسيره" ٩/ ٣٤٤ بصيغة التمريض، قال: وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا سمع النسَّابين ينسبون إلى معد بن عدنان ثم زادوا فقال: (كذب النسَّابون) إن الله يقول: ﴿لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾، وكذلك أورده النسفي في تفسيره [هامش الخازن] (٣/ ٧١) بصيغة التمريض أيضاً، وأورده السيوطي في الجامع الصغير وزاد نسبته إلى ابن عساكر، ورمز له بالصحة، وأورده مرة أخرى ورمز له بالضعف. [كما في فيض القدير ٤/ ٥٥٠، و (٥/ ١٠٩)] وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه ورد عن طريق الكلبي، وهي أوهى الطرق إلى ابن عباس، والأصح أنه موقوف على ابن مسعود، كما قال السهيلي في "الروض الأنف" ١/ ١١، وقد أورده الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" ١/ ١٤٤ وحكم عليه بالوضع.
(١) ورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥١٨ بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" ١٩/ ٣٤٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٣٥، وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ٩٩، و"صديق حسن خان" ٧/ ٨٩.
(٢) ورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥١٨، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٧، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٣٥، وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر. وهذه أوهى الطرق إلى ابن عباس.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (د).
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٨، مختصراً، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٤٨، مختصراً.
410
وقوله تعالى: ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ اختلفوا في تأويل هذه؛ فقال ابن مسعود: عضُّوا عليها غيظًا (١)، والمعنى: سَبُّوا (٢) الرسلَ وأبغضوهم وثقل عليهم مكانهم، وعضُّوا على أصابعهم من شدة الغيظ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء وابن زيد (٣) واختبار ابن قتيبة (٤)، واعتبروا هذا بقوله: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩] وقد مرَّ، وقال الكلبي: أي وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا (٥).
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: كان إذا جاءهم الرسول سكَّتوه وأشاروا بأيديهم إلى أفواه أنفسهم كما تُسَكِّت (٦) أنت غيرَك (٧). وقال
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤١ بنحوه، والطبري في "تفسيره" ١٣/ ١٨٨ بنصه ونحوه من طرق، وورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٦ ب، و"الماوردي" ٣/ ١٢٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٨، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٤٨، و"الفخر الرازي" ١٩/ ٨٩، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٥، و"الخازن" ٣/ ٧٢.
(٢) في (ش)، (ع): (شتموا).
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ١٨٨ - ١٨٩ عن ابن عباس من طريق العوفي (ضعيفة)، وعن ابن زيد، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٦ ب، عن ابن عباس، انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٠٧، عنهما، القرطبي ٩/ ٣٤٥، عنهما، و"الدر المنثور" ٤/ ١٣٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٤) "الغريب" لابن قتيبة ص ٢٣٥.
(٥) ورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٦ب، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٠٨، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٣٨، و"الفخر الرازي" ١٩/ ٨٩، و"الخازن" ٣/ ٧٢.
(٦) في (د): (سكت).
(٧) ورد في "معاني القرآن" اللفراء ٢/ ٦٩ بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٤٨ بنحوه عن أبي صالح عن ابن عباس، وورد منسوباً إلى أبي صالح في: "تفسير =
411
مقاتل: كانوا يأخذون أيدي الرسل فيضعونها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم (١). وذكر الفراء والزجاج وابن الأنباري قولًا آخر وهو أن المعنى: ردوا نِعَمَ الرسل بأفواههم، فالأيدي هاهنا المراد بها النِعم.
قال الفراء: أي ردوا ما لو قبلوه لكان نعمًا من الله -عز وجل- عندهم (٢).
وقال الزجاج: ردوا أيدي (٣) الرسل: أي نِعَم الرسل؛ لأن مجيئهم بالبينات نِعَمٌ (٤).
(وقال أبو بكر: ويجوز أن يكون المعنى: ردوا نعم أنفسهم؛ لأنها نعم) (٥) من الله عليها (٦) رفضوها واطَّرحوها، وجاء رجل (في) على معنى الباء؛ لقيام بعض الصفات مقام بعض (٧)، وتقول: طيِّئ (٨): أدخلك الله في الجنَّة، وأنشد الفراء:
= الماوردي" ٣/ ١٢٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٥، وعلى هذا القول يكون الضميران في (أيديهم) و (أفواههم) عائدين على المكذبين.
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩١ب بنحوه، وعلى هذا القول يكون الضميران في (أيديهم) و (أفواههم) عائدين إلى الرسل. انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٠٨، وقد ضعَّف ابن عطية هذا القول، وقال: وهذا عندي لا وجه له ٨/ ٢٠٨.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٠ بنصه.
(٣) في (أ)، (د)، (ش): (الذي)، والمثبت من (ع)، وهو الموافق لسياق والمصدر.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦ بنصه.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٦) في (د): (عليما).
(٧) انظر: "الأزهية" ص ٢٧١، و"رصف المباني" ص ٤٥٢، و"الجنى الداني في حروف المعاني" ص ٢٥١.
(٨) قبيلة طيِّىء مشهورة، تنسب إلى طيَّئ بن أُدَد، واسمه جُلْهُمة، سُمِّي طيِّئاً لأنه أول من طوى المناهل منازل الطريق من قبائلهم: بنو جَديلة، وبنو رُومان، وبنو =
412
وأرغبُ فيها من لَقِيطٍ ورهْطِهِ ولكنَّني عن سِنْبِس لَسْتُ رَاغبٌ (١)
أراد: أرغب بهذه المرأة عن هؤلاء.
وقال أبو إسحاق: ومعنى في أفواههم: بأفواههم، أي ردوا تلك النِعَم بالنطق بالتكذيب بما جاءت به الرسل كما يقول: جلست في البيت وبالبيت (٢)، وهذا معنى قول مجاهد: ردوا نعمهم بأفواههم (٣).
وقال أبو عبيدة: مجاز هذا مجاز المَثَل، ومعناه: كفوا عما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به، قال: ويقال: ردّ يده في فمه، أي: أمسك ولم يجب (٤)، ويكون المعنى على هذا: لم يجيبوا الرسل إلى ما دعوهم إليه، فعبَّر عن ترك إجابتهم بوضع اليد في الفم؛ وذلك أن الواضع يده في فمه لا يقدر على الكلام.
= جَدْعاء، والثعالب، وبنو تَيْم. انظر: "الاشتقاق" ص ٣٨٠، و"جمهرة أنساب العرب" ص ٣٩٨.
(١) نُسب للفراء في "تهذيب اللغة" "ذرأ" ٢/ ١٢٧٣، وورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٠، و"تفسيرالطبري" ١٣/ ١٨٩، وأبي حيان ٥/ ٤٠٩، و"الدر المصون" ٧/ ٧٣، (سِنْبس): حَيُّ من قبيلة طيئ. "الاشتقاق" ص ٣٩٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦، بتصرف يسير.
(٣) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٢٧٨ بنصه، وورد عنه تفسيرها بقوله: ردوا عليهم قولهم وكذبوهم، كما في تفسيره ص ٤١٠، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٨٩ من طرق، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥١٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠١، و"الماوردي" ٣/ ١٢٥.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٦، بتصرف يسير، وقد نُسب هذا القول إلى الأخفش كذلك لم أجده في معانيه. انظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٦، وأبي حيان ٥/ ٤٠٩، و"الدر المصون" ٧/ ٧٣، و"تفسير الألوسي" ١٣/ ١٩٤، وقد اعترض ابن قتيبة على هذا القول، وقال لم يُسمع أحد من العرب يقول: ردَّ يده في فِيه، إذا أمسك عن =
413
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أي: على زعمكم بالإرسال؛ لأنهم لم (١) يُقرُّوا أنهم أرسلوا.
١٠ - قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ﴾ الآية. هذا استفهام معناه الإنكار أي لا شكَّ في الله، والمعنى في توحيد الله، ثم وُصف بما يدل على وحدانيته؛ وهو قوله: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ﴾ أي: بالرسل والكتب.
= الشيء. انظر: "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٥، وردّ أبو حيان على اعتراضه قائلاً: ومن سمع حجة على من لم يسمع، هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا عن العرب. انظر: "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٠٩، وقد أيّد هذا الرد السمين، وأورده بألفاظ أخرى، أما ابن جرير، فقد أورد قول أبي عبيدة غير منسوب إليه، وضعَّفه من جهة أخرى، فقال: وهذا قول لا وجه له؛ لأن الله عزّ ذِكْره قد أخبر عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ فقد أجابوا بالتكذيب. "تفسيرالطبري" ١٣/ ١٨٩ وقد اعترض أبوحيان على ابن جرير كذلك، فقال: ولا يرد ما قاله الطبري؛ لأن أبا عبيدة يريد أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي؛ الذي يقتضيه مجيىء الرسل بالبينات؛ وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل، والحق إن اعتراض أبي حيان -على ابن جرير- ليس في محله، فطالما أمكن حمل الكلام على ظاهره وعلى الحقيقة، فلا حاجة إلى هذه التأويلات، ففي كتاب "القواعد" للمقّري (٢/ ٤٩٧) يقول في القاعدة (٢٥٦): كل ما له ظاهر فهو مصروف إلى ظاهره، إلا لمعارض راجح، وكل مالا ظاهر له فلا يترجح إلا بمرجح.
ويقول الشنقيطي في تفسيره ٣/ ١٠٠، والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي: حمل نصوص الوحي على ظواهرها، إلا بدليل من كتاب أو سنّة، لذلك فالأرجح من هذه الأقوال في معنى الآية: هو القول الأول؛ وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لكونه على ظاهره ولا يحتاج إلى تأويل، وتؤيده آية آل عمران [١١٩]، وقد رجَّح هذا القول كل من: الطبري ١٣/ ١٨٩، والنحاس في معانيه ٣/ ٥١٩، وابن قتيبة في "غربيه" ١/ ٢٣٥ وأيَّد اختياره بقول الشاعر: (يرُدّون في فِيه عَشْر الحسُود) يقول: يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض أصابعه العشر.
(١) في (أ)، (د): لو، والمثبت من (ش)، (ع).
414
وقال ابن، عباس: ﴿يَدْعُوكُمْ﴾: إلى طاعته (١).
﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ قال أبو عبيدة: (من) زائدة (٢)، وأنكر سيبريه زيادتها في الواجب (٣)، فإن حكمنا بزيادتها (٤) فهو ظاهر، وإن لم
(١) ورد بلا نسبة في تفسيره "الوجيز" ١/ ٥٧٩، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٦.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٦ بنحوه، ومن القائلين بزيادة (من) مطلقاً دون أي شروط أو قيود الأخفش. انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢٧٢، و"إيضاح الشعر" لأبي علي الفارسي ص ٢٥٧، و"المُحْتَسب" ١/ ١٦٤، و"تفسير ابن عطية" ١/ ٣١٤، و"شرح المفصل" ٨/ ١٠.
(٣) مذهب سيبويه وجمهور البصريين أن (من) لا تزاد إلا إذا كان مجرورها نكرة في سياق نفي أو نهي أو استفهام، وأن تكون فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأً؛ مثل: هل من رجل في الدار، ما كلمت من أحد، ما جاءني من أحد، انظر: "الكتاب" ١/ ٣٨، (٢/ ١٣٠، ٣١٥، ٣١٦، و"التعليق على كتاب سيبويه" لأبي علي الفارسي ١/ ٦٧، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٢٥٠، و"الأصول" لابن السراج ١/ ٤١٠، و"البيان في الإعراب" ١/ ٣٢٠.
(٤) مسألة الزيادة في القرآن: اختلف النحويون والمفسرون في القول بزيادة بعض الحروف في التنزيل، من هذه الحروف: (إنْ- أنْ- لا- ما- من- الباء- اللام- الكاف..) والمقصود بأنها زوائد: أي تأتي في بعض الموارد زائدة يمكن الاستغناء عنها، أنها لازمة للزيادة ويمكن الاستغناء عنها في كل حال. وفي المسألة مذهبان: المذهب الأول: إنكار القول بزيادة الحروف في آي التنزيل، نقل الزركشي في "البرهان" ٣/ ٧٢ أن الطرطوسي قال في العمدة: "زعم المبرد وثعلب ألا صلة في القرآن، والدهماء من العلماء والفقهاء والمفسرين على إثبات الصِّلات في القرآن، وقد وُجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره". وممن يرى ذلك ابن السراج، فقد نقل عنه ابن الخباز في التوجيه: أنه ليس في كلام العرب زائد، لأنه تكلُّم بغير فائدة، وما جاء كذلك فمحمول على التوكيد. "البرهان" ٣/ ٧٢، وممن نص على منع الزوائد في القرآن داود الظاهري رحمه الله فقد نقل عنه بعض أصحابه أنه كان يقول: ليس في القرآن صِلة بوجه. "البرهان" ٢/ ١٧٨.
وممن أنكر الصلة في القرآن الرازي، فقدقال في ردّه على أبي عبيدة: أما قوله =
415
........................
= إنها صلة، فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد، والعاقل لا يُجوِّز المصير إليه من غير ضرورة "تفسير الرازي" ١٩/ ٩٤، ويرى ابن مضاء في ردّه على النحاة تحريم دعوى الزيادة، إذ يقول: ومن بني الزيادة في القرآن بلفظ أو معنى على ظنِّ باطل قد تبيَّن بطلانه، فقد قال في القرآن بغير علم، وتوجَّه الوعيد إليه، ومما يدل على أنه حرام؛ الإجماع على أنه لا يزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ، بل هي أحرى؛ لأن المعاني هي المقصود، والألفاظ دلالات عليها ومن أجلها. "الرد على النحاة" ص ٧٤.
المذهب الثاني: تجويز القول بالزوائد في التنزيل، يقول الزركشي في "البرهان" (٣/ ٧٣) ومنهم من جَوَّزه وجعل وجوده كالعدم، وهو أفسد الطرق. وقد بيَّن الزركشي مقصودهم بالزوائد بأنها من جهة الإعراب لا من جهة المعنى، يقول: ومرادهم أن الكلام لا يختل معناه بحذفها، أنه لا فائدة فيه أصلاً، فإن ذلك لا يحُتمل من متكلِّم فضلاً عن كلام الحكيم. "البرهان" ١/ ٣٠٥، وذكر ابن الخشاب أن الأكثرين ذهبوا إلى جواز إطلاق الزوائد في القرآن نظراً إلى أنه نزل بلسان القوم ومتعارفهم وهو كثير؛ لأن الزيادة بإزاء الحذف، هذا للاختصار والتخفيف، وهذا للتوكيد والتوطئة، ومنهم من لا يرى الزيادة في شيء من الكلام. "البرهان" ١/ ٣٠٥، والأكثرون الذين أشار إليهم ابن الخشاب من النحاة ومنهم المبرد الذي زعم الطرطوسي أنه ينكر دعوى الزيادة فقد قال في "المقتضب" ٤/ ١٣٧: وأما الزيادة التي دخولها في الكلام كسقوطها فقدلك: ما جاءني من أحد، وما كلَّمت من أحد، وكقوله تعالى ﴿أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] إنما هو "خير" ولكنَّها توكيد، ومع قول النحاة بالزيادة، فقد تحاشا بعضهم إطلاق لفظ الزيادة في القرآن، واستعاضوا عنها بألفاظ مهذَّبه؛ كالصلة، والتوكيد، والإلغاء.. ونحوها لكن بعضهم وللأسف استخدم عبارات لا تليق بالقرآن: كالحشو واللغو.. ونحوها. انظر: "شرح المفصل" ٨/ ١٢٨، وما بعدها، و"الأشباه والنظائر" (٢/ ١٥٦) وما بعدها، ويبدو أن الخلاف بين الفريقين خلاف صُوْري لا يتجاوز الألفاظ والعبارات، لذلك فالأولى تجنُّب إطلاق لفظ: زائد في القرآن، فضلاً عن (حشو) و (لغو)، وإذا اضطر الإنسان إلى التعبير عن ذلك فليكن بلفظ (صلة) و (توكيد).
416
يُحكم بزيادتها فقال بعضهم هي: للتبعيض (١)، وذُكِر البعضُ هاهنا وأُريد به الجميع توسعًا (٢).
وقال بعضهم: (مِنْ) هاهنا للبدل (٣)، والمعنى: لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب، فدخلت (من) لِتُضمَّن المغفرة معنى البدل من السيئة.
(١) انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٥٧٥، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٩٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٦، وأبو حيان ٥/ ٤٠٩، وابن جزي ٢/ ١٣٨، و"الألوسي" ١٣/ ١٩٦، و"صديق خان" ٧/ ٩٢.
(٢) ذكر المفسرون أقوالاً أخرى في توجيه معنى التبعيض في الآية، انظر: "الكشاف" ٢/ ٣٩٥، و"الرازي" ١٩/ ٩٣ - ٩٤، وأبي حيان ٥/ ٤٠٩، وابن جزي ٢/ ١٣٨.
(٣) انظر: "غرائب التفسير" ١/ ٥٧٥، و"الإملاء" ٢/ ٦٧، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥١، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٧، و"الدر المصون" ٧/ ٧٥، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥١٧، وقد أنكر الفخر الرازي رحمه الله ورود (من) للبدل في اللغة: فقال: وأما قوله أي الواحدي المراد منه إبدال السيئة الحسنة، فليس في اللغة أن كلمة (من) تفيد الإبدال ١٩/ ٩٤، وهذه الدعوى غريبة من الفخر الرازي، فإذا كان هو ممن يذهب كما ذهب غيره إلى عدم القول بأن (مِنْ) تأتي للبدل، فقد قال بذلك غيره، فكان ينبغي أن ينفي صحة القول بها عنده لا أن ينفيها من اللغة. ومن القائلين بها عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٠]: الزمخشري ١/ ١٧٦، وأبو حيان ٢/ ٢٨٨، وابن هشام في "مغنيه" ٤٢٢، والزركشي في "البرهان" ٤/ ٤١٩، بل لقد قال أبوحيان -رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨]: تظافرت أقوال المفسرين على أن (من) بمعنى بدل؛ أي بدل الآخرة، كقوله ﴿لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً﴾ [لزخرف: ٦٠]: أي بدلاً منكم، وقد أيَّد قوله بقول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطَّهيَانِ
أي بدل ماء زمزم، والطَّهيَانُ: عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى يبرد "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤١، وانظر: "الإملاء" ٢/ ٦٧، و"الدر المصون" ٧/ ٧٥، "حاشية الجمل كل على الجلالين" ٢/ ٥١٧.
417
وقوله تعالى: ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ قال ابن عباس: ويمتعكم في الدنيا في النعيم والنضارة (١) إلى الموت (٢).
قال المفسرون: معناه: لا يعاجلكم بالعذاب (٣).
قال صاحب النظم: أي إن لم تجيبوا إلى ما يدعوكم إليه عولجتم بالعذاب عن أجل الموت المسمى لكم (٤).
(١) في (أ)، (د): (والعضارة)، ومطموسة في: (ع)، والمثبت من (ش)، وهو الصحيح لانسجامه مع السياق والمعنى، و (النضارة) مأخوذ من النضرة، ومنه قوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢]، قال الفراء: معناه مشرقة بالنعيم. ٣/ ٢١٢.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ٩٥، و"الألوسي" ١٣/ ١٩٧.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ١٩٠، بنحوه، والسمرقندي ٢/ ٢٠٢ بمعناه، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٧ أبنصه، والماوردي ٣/ ١٢٦ بنحوه، وانظر: "البغوي" ٤/ ٣٣٩، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٠، و"القرطبي" ٩/ ٣٤٧، و"الخازن" ٣/ ٧٢.
(٤) هذا القول يومئ إلى القول بالأجلين الذي يذهب إليه المعتزلة، وقد ذكره الزمخشري صراحة فقال: ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي إلى وقت سماه الله وبين مقداره يبلِّغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ٢/ ٣٩٥، يقول شارح العقيدة الطحاوية عن هذا المبدأ الاعتزالي: "وعند المعتزلة المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله، فكان له أجلان، وهذا باطل (ص ٩٢)، والعدل والإنصاف يقتضي تقييد كلام الإمام ابن أبي العز، فليس كل المعتزلة يقولون بذلك، وقد ذكره الخبير بهم؛ أبو الحسن الأشعري، (رحمه الله) الذي عاش بين ظهرانيهم وتمذهب بمذهبهم أولاً عد حديثه عن الآجال، فقال: اختلفت المعتزلة في ذلك على قولين: فقال أكثر المعتزلة: الأجل هو الوقت الذي في معلوم الله سبحانه أن الإنسان يموت فيه أو يقتل، فإذا قُتل قُتل بأجله وإذا مات مات بأجله، وشذّ قوم من جُهَّالهم فزعموا أن الوقت الذي في معلوم الله سبحانه أن الإنسان لو لم يُقتل لبقي إليه، هو أجله دون الوقت الذي قُتل فيه. "مقالات الإسلاميين" ص ٢٥٦، وقد سمَّى البغدادي -في "أصول الدين" ص ١٤٢ - الذين وافقوا أهل السنّة في هذه المسأله -كأبي الهذيل والجبائي،=
418
١٣ - وباقي الآية وما بعدها إلى قوله: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ ظاهر، ومعنى ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ ذكرناه في قصة شعيب في سورة الأعراف [آية: ٨٨]. ابن الأنباري هاهنا، أن قوله: ﴿لَتَعُودُنَّ﴾ في الظاهر عطف على جواب اليمين، ثم أجاب عن هذا وقال معنى الكلام: لنخرجنَّكم من أرضنا حتى تعودوا في ملتنا، ولكي تعودوا، وإلا تعودوا (١)،
= ومذهب أهل السنّة في هذه المسألة- كما بينّه الطحاوي رحمه الله - هو: وقدَّر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً. يعني أن الله قدَّر آجال الخلائق بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، فمن مات بأي نوع من أسباب الموت قتلاً أو مرضاً أو غرقاً أو حرقاً.. فقد مات بأجله. "شرح الطحاوية" ص ٩٩ - ١٠٠.
أما الرد على القائلين بالأجلين: فقد أشار ابن أبي العز رحمه الله في ردّه إلى أن هذا القول يقتضي تجهيل الله تعالى، الله عما يقولون فقال: وهذا باطل لأنه لا يليق أن يُنسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيى إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب. "شرح العقيدة الطحاوية" ص ١٠٠.
(١) هذان المعنيان لـ (أو) بمعنى (حتى) أو (إلا أن) ذكرهما بعض المفسرين كالطبري ١٣/ ١٩١ - ١٩٢ "الثعلبي" ٧/ ١٤٧ أ، و"البغوي" ٤/ ٣٣٩، وأنكر آخرون أن يُراد بها أيُّ من القولين هنا، وأنها على بابها أي التخيير يقول ابن العربي في رده عليهم: وهو غير مفتقر إلى هذا التقدير، فإن (أو) على بابها من التخيير، خيَّر الكفارُ الرسل بين أن يعودوا في ملَّتهم أو يخرجوا من أرضهم، وهذه سيرة الله في رسله وعباده. "تفسير ابن العربي" ٣/ ١١١٦، ويقول أبو حيان رحمه الله: وتقدير (أو) هنا بمعنى (حتى) أو بمعنى (إلا أن) قول من لم ينعم [أي: يبالغ] النظر في ما بعدها؛ لأنه لا يصح تركيب (حتى) ولا تركيب (إلا أن) مع قوله ﴿لَتَعُودُنَّ﴾ بخلاف لألزمنّك أو تقضيني حقي. "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤١١ وكذلك السمين رحمه الله ذهب مذهب شيخه ونقل كلامه دون نسبته إليه. "الدر المصون" ٧/ ٧٦، ويقول ابن عاشور رحمه الله: و (أو) لأحد الشيئين.. وليست هي (أو) التي بمعنى (إلى) أو بمعنى (إلا) "تفسير ابن عاشور" ١٣/ ٢٠٦، وحَمْلُ (أو) على بابها هو قول جمهور المفسرين، وهو أولى بالترجح ما دام أن المعنى يستقيم؛ ولأن هذا =
419
لقول امرئ القيس (١):
إنما نُحَاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا
المعنى: إلا أن نموت وحتى نموت، فكان يجب على هذا أن تكون (أو تعودوا) (٢)، غير أنه غلب ظاهر الكلام، ونُقل ﴿لَتَعُودُنَّ﴾ عن لفظ الشرط إلى لفظ اليمين، وأُشرك بينه وبين الذي قبله في اللفظ وإن كان مخالفه في المعنى؛ كما قالوا: لو تُرك عبد الله والأسدَ لأكله، فنصبوا الأسد لأنه مخالف الأول، ورفعه بعضُهم بالنَّسق (٣) للتسوية بين اللفظين والمعنيان مختلفان حين أُمن اللبس والإشكال، وقال تعالى: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦]، فعطف يُسْلِمون على تقاتلون تغليبًا للَّفظ (٤)، والآخر على المعنى (٥)، وهذا الذي ذكرنا كله كلامُ أبي بكر، وهو شرح ما ذكره
= هو الأصل، ولا يُصار إلى المعاني الأخرى إلا عند تعذُّر حملها على المعنى الأصلي، أو وجود قرينة صارفه وداعية.
(١) وصدره بتمامه:
فقلتُ لهُ لا تبْك عينُك إنما
"ديوانه" ص ٦٤، وورد في "الكتاب" ٣/ ٤٧، و"الصاحبي في فقه اللغة" ص ١٧١، و"شرح المفصّل" ٧/ ٢٢، و"الدرالمصون" ٩/ ٧١٣، وورد بلا نسبة في "الخصائص" ١/ ٢٦٣، و"رصف المباني" ص ٢١٢، و"شرح الأشموني" ٣/ ٥٢٧، والبيت من قصيدة قالها لعمرو بن قميئة اليشكري حين استصحبه في مسيره إلى قيْصر، والشاهد: قوله (أو نموت) حيث نصب الفعل المضارع لإضمار (أنْ)، و (أو) بمعنى: (إلا).
(٢) أي اللفظة القرآنية لو كان في غير القرآن (أو تعودوا) بدلاً من ﴿لَتَعُودُنَّ﴾.
(٣) أي بالعطف.
(٤) لأن المعنى مشترك بين الأمرين؛ أي يكون هذا، أو يكون هذا، كانه قيل: يكنْ قتال أو إسلام. انظر: "الكتاب" ٣/ ٤٧، و"المقتضب" ٢/ ٢٧، و"الدر المصون" ٩/ ٧١٣.
(٥) أي الوجه الآخر للرفع، رفعه على الاستئناف، كأنه قال: تقاتلونهم أو هم =
420
الفراء في هذه الآيهَ (١).
١٤ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ قال صاحب النظم: أشار بقوله ﴿ذَلِكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ﴾ دون ما قبله لأنه قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ وخَوْفُهم لا يكون سببًا لإهلاك الظالمين، وإنما يمون سببًا لإسكانهم (٢) الأرض، وهذا يدل على أن (ذلك) يجوز أن يكون إشارة إلى شيء دون شيء مما تقدمه، كقوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] إشارة إلى إباحة تزويج الأمة، وقد ذكر قبله أحكامًا سوى هذا، وهو قوله: ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥] ثم قال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ﴾ وهو في الظاهر كأنه متصل بهذه القصة، وهو بالمعنى متصل بالقصة التي قبل هذا، وهو قوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا﴾ إلى قوله ﴿مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾.
والمقام هاهنا مصدر كالقيام، يقال: قام قِيَامًا ومُقَامًا (٣).
ومعنى: ﴿خَافَ مَقَامِي﴾ قال ابن عباس: خاف مُقامه بين يَدَيَّ (٤).
وقال الكلبي: مقامه بين يَدَي رب العالمين يوم القيامة (٥)، وهذا قول
= يسلمون. انظر: "الكتاب" ٣/ ٤٧، و"شرح المفصل" ٧/ ٢٣، و "الدر المصون" ٩/ ٧١٣.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٠ - ٧١.
(٢) في (أ)، (د): (لأسكنانهم) والمثبت من (ش)، (ع).
(٣) انظر (قوم) في "المحيط في اللغة" ص ١١٥٢، و"المحكم" لابن سيده ٦/ ٣٦٤، و"المفرادات" للراغب ص ٦٩٠، و"عمدة الحفاظ" ٣/ ٤١٨، و"القاموس المحيط" ص ١٤٨٧.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١١ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٠.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١١ بنصه.
421
أكثر المفسرين (١).
وعلى هذا، هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول (٢)؛ كما تقول: ندمت على ضربك (٣)، وسُرِرْتُ (٤) برؤيتك (٥)، ومنه: في ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ (٦) [ص: ٢٤]، و ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ (٧) [فصلت: ٤٩].
قال الفراء: وإن شئت قلت: ذلك لمن خاف مقامي عليه ومراقبتي (٨)، كقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾
(١) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧١، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٢، والثعلبي ٧/ ١٤٧ ب، و"الماوردي" ٣/ ١٢٦، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٨، و"الخازن" ٣/ ٧٣.
(٢) انظر هذه المسألة في "شرح جمل الزجاجي" لابن هشام ص ٢٠١، و"شرح ابن عقيل" ٣/ ١٠٣، و"شرح الأشموني" ٢/ ٥٥٤.
(٣) وتقديره: ندمت على ضربي إيَّاك. انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب.
(٤) في (أ)، (د): (سرت) والمثبت من (ش)، (ع).
(٥) وتقديره: سررت برؤيتي إياك. انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب.
(٦) وسياقها ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ والتقدير: لقد ظلمك بسؤاله إيَّاك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. انظر: "البيان في الإعراب" ٢/ ٣١٤، و"الفريد في الإعراب" ٤/ ١٦٠.
(٧) وسياقها: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾، والتقدير: لا يسأم الإنسان من دعائه الله بالخير، فحذف الفاعل والمفعول الأول، والباء من المفعول الثاني، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني. انظر: "البيان في الإعراب" ٢/ ٣٤٢، و"الفريد في الإعراب" ٤/ ٢٣٣.
(٨) هذا القول الذي نسبه إلى الفراء، لم أجده في معاني القرآن للفراء، إنما المذكور هو قول الجمهور حيث قال معناه: ذلك لمن خاف مقامه بين يديّ. "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧١، ولعل الواحدي نقله من كتب الفراء الآخرى، ويؤيده أن بعض المفسرين نسبوا معنى هذا القول إلى الفراء، إلا أن يكونوا نقلوه عن الواحدي =
422
[الرعد: ٣٣]. وعلى هذا الوجه: المصدر مضاف إلى الفاعل، وفي قوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، الوجهان (١).
وقوله تعالى: ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾، الوعيد: اسم من أوعد إيعادًا (٢)، أي: تهدد، معناه: الخبر عن العقاب على الإجرام، قال ابن عباس: خاف مما أوعدت من العذاب (٣).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ ذكرنا معنى الاستفتاح عند قوله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ﴾ [البقرة: ٨٩]، وللاستفتاح هاهنا معنيان، أحدهما: طلب الفتح بالنصرة (٤)، والثاني: طلبه بالقضاء (٥)، وكلا المعنيين ذكره المفسرون.
= وهو احتمال قوي. انظر: "الدر المصون" ٧/ ٧٨، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥١٨، و"تفسير الألوسي" ١٣/ ٢٠٠.
(١) فإذا قُدِّر إضافته إلى فاعله، كان تقديره: خاف قيام ربه عليه، وإذا قُدِّر إضافته إلى مفعوله كان تقديره: خاف قيامه بين يدي ربه انظر: "تفسير أبي حيان" ٨/ ١٩٦، و"الدر المصون" ١٠/ ١٧٧.
(٢) قال ابن السكيت: قال الفراء: يقال وعدْته خيراً ووعدْته شرّاً بإسقاط الألف، فإذا أسقطوا الخير والشرَّ، قالوا في الخير: وعدْتُه، وفي الشرَّ: أوعدْتُه، وفي الخير: الوعْدُ والعِدةُ، وفي الشر: الإيعادُ والوعيدُ، وإذا قالوا: أوعدته بالشر أو بكذا، أثبتوا الألف مع الباء كقولك: أوعدته بالضرب. "إصلاح المنطق" ص ٢٢٦.
وانظر: "تهذيب اللغة" (وعد) ٤/ ٣٩١٥، و"المحكم" ٢/ ٢٣٦، و"تهذيب إصلاح المنطق" ص ٥١٨، و"اللسان" ٨/ ٤٨٧٢، و"عمدة الحفاظ" ٤/ ٣٧٢.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١١ بنصه، وانظر: "الرازي" ١٩/ ١٠١.
(٤) بمعنى الاستنصار: أي طلبوا النصرة من الله.
(٥) بمعنى الاستقضاء: أي تحاكموا إلى الله وسألوه القضاء بينهم مأخوذ من الفُتاحة؛ وهي الحكومة. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٠١.
423
قال ابن عباس: يعني استنصروا (١).
وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسلُ استنصروا الله، ودعوا على قومهم بالعذاب لمّا يئسوا من إيمانهم (٢)، كما قال نوح: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ﴾ [نوح: ٢٦]، وقول موسى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ الآية. [يونس: ٨٨]، وقال لوط: ﴿انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٠]، وهذا المعنى اختيار أبي إسحاق؛ قال: سألوا الله أن يفتح عليهم، أي (٣) ينصرهم، وكل نصر فهو فتح (٤).
وقال ابن زيد استَقْضَوا (٥)، وهو قول مقاتل؛ قال: يعني الأمم؛ وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبنا، شكًّا منهم في صدقهم (٦)، كقوله: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٩].
(١) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٢ أ، بلفظه، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٧ب، بلفظه، و"الماوردي" ٣/ ١٢٧ بنحوه، و"الطوسي" ٦/ ٢٨٢ بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥١، وابن كثير ٢/ ٥٧٨.
(٢) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٣٤ بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤١ بنحوه عن قتادة، والطبري ١٣/ ١٩٣ بنحوه من عدة طرق عنهما، وورد بنحوه في: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣، عن قتادة، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب، عنهما، و"الطوسي" ٦/ ٢٨٢ عنهما، أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٣٧ وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عنهما.
(٣) في (أ)، (د): (أن) والمثبت من (ش)، (ع).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦ بنصه.
(٥) لم أقف على هذا القول منسوباً إليه، والذي نسب إليه، قال: استفتاحهم بالبلاء، أخرجه الطبري/ شاكر ١٦/ ٥٤٥، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٧، و"الطوسي" ٦/ ٢٨٢، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥١، وابن كثير ٢/ ٥٧٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٢ أ، بتصرف، وانظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣.
424
وقوله تعالى: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ﴾، وذكرنا معنى الجبار في قوله: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢]، ومعنى الجبّار هاهنا: المتكبر عن طاعة الله وعبادف، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: ١٤]، قال أبو عبيد عن الأحمر (١) يقال فيه: جَبَرِيَّةٌ، وجَبَرُوُّةٌ، وجَبَرُوت، وجُبُّورَةٌ (٢).
وحكى الزجاج: الجَبْرِيَّة، والجِبِريَّة، بكسر الجيم والباء، والتَّجْبَارُ، والجِبْرياء، فهي تسع لغات في مصدر (٣)، وفي حديث امرأة حضرت النَّبي - ﷺ - فأمرها بأمر فأبت (٤) عليه فقال: "دَعُوها فإنها جبَّارة" (٥) أي: مستكبرة (٦).
(١) علي بن المبارك الأحمر النحوي صاحبُ الكسائي، كان مؤدبَ الأمين، وهو أحد من اشتهر بالتقدم في النحو واتساع الحفظ، قال ثعلب: كان يحفظ أربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد وأبيات الغريب، جرت بينه وبين سيبويه مناظرة لما قدم بغداد فغلبه، توفي سنة (١٩٤ هـ)، وقيل غير ذلك. انظر: "الأنساب" للسمعاني ١/ ١٤٥، و"نزهة الألباء" ص ٨٠، و"إنباه الرواة" ٢/ ٣١٣.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (جبر) ١/ ٥٣٢، بزيادة مصدر خامس هو (جَبُّورَةٌ).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦، وقد أورد المصادر التسعة كلها. وتتبعت هذه المصادر في عدة مراجع فوجدتها قد بلغت ثمانية عشر مصدراً، كلها بمعنى الكِبْر. انظر (جبر) في "المحكم" ٧/ ٢٨٣، و"اللسان" ١/ ٥٣٥، و"التاج" ٦/ ١٥٨ - ١٥٩.
(٤) في (أ)، (د): (فنابت)، وهو تصحيف، والمثبت من: (ش)، (ع).
(٥) أخرجه ابن أبي الدنيا في "التواضع" ص ٢٤٧ بنصه عن أنس، والبزار [كشف الأستار] ٤/ ٢٢٢ وضعفه، والنسائي في عمل اليوم والليلة، ص ٣٧٥، وأبو يعلى في "مسنده" ٦/ ٣٤، والطبراني في الأوسط [مجمع البحرين] ١/ ١٦١، وأبو نعيم في "الحلية" ٦/ ٢٩١، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١/ ٩٩، وقال: وفيه يحيى الحماني، ضعفه أحمد ورماه بالكذب، فهذا الحديث ضعيف كما نص البزار على ضعفه، وأشار الإمام أحمد إلى ضعفه.
(٦) انظر: "النهاية في غريب الحديث" ١/ ٢٣٦.
425
وقال الليث (١): قلب جبار ذو كبْر، لا يقبل موعظة (٢).
وقوله تعالى: ﴿عَنِيدٍ﴾ واختلف أهل اللغة في اشتقاق العنيد؛ فقال النضر بن شُمَيْل: العُنُود: الخلاف والتباعد والتَّرك (٣)، يقال: أشدّ ما عَنَدْت من قومك، أي: باعدت (٤) عنهم، قال أكثر أهل اللغة: وأصله من العنْدُ (٥)، وهو الناحية، يقال: فلان يمشي عَنْدًا، أي ناحية (٦)، ومنه:
إنِّي كَبيرٌ لا أُطِيقُ العُنَّدا (٧)
(١) الليث هو ابن المظفّر كما سماه الأزهري وقيل: ابن نصر كما في "البلغة" وقيل: ابن رافع، بن سيَّار الخرساني، اللغوي النحوي صاحب الخليل، أخذ عنه: النّحو واللغة وأملى عليه ترتيب كتاب العين، ويقال إن الخَلَل الذي وقع فيه كان من جهته، كان بارعاً في الأدب بصيراً بالشعر والغريب والنحو. انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٤٧، و"إنباه الرواة" ٣/ ٤٢، و"إشارة التعيين" ص ٢٧٧، و"البلغة" ص ٤٧٤، و"البغية" ٢/ ٢٧٠.
(٢) لم أقف على مصدره، ونقله الفخر الرازي عنه ١٩/ ١٠٢.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) ٣/ ٢٥٨٩ بنصه، وانظر (عند) في "اللسان" ٥/ ٣١٢٤، و"التاج" ٨/ ٤٢٥.
(٤) في (ش)، (ع): (تباعدت).
(٥) (عند) مثلث الأول مختلف المعنى؛ فالعَنْدُ والعُنُودُ: الميل عن الشيء، وعِنْدَ: ظرفٌ معلوم المعنى، وقد يفتح عينه ويُضم، والعُندُ: جمع عَنُود، وهي الناقة ترعى وحدها، والسحابةُ الكثيرةُ المطر. انظر: "إكمال المثلث بتثليث الكلام" ٢/ ٤٥٣، و"الدرر المبثثة في الغرر المثلثة" ص ١٥٢.
(٦) انظر: (عند) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٦٦٥، و"مقاييس اللغة" ٤/ ١٥٣، و"مجمل اللغة" ٣/ ٦٣١، و"الصحاح" ٢/ ٥١٢ "اللسان" ٥/ ٣١٢٤، و"القاموس" ص ٣٠٢، و"التاج" ٥/ ١٣١.
(٧) صدره: =
426
فمعني عَانَد وعَنَدَ: أخذ في ناحية معرضًا.
قال أبو حاتم عن الأصمعي: عَنَدَ فلان عن الطريق، يَعْنِدُ عُنُودًا إذا تباعد (١)، وروى شمر عن أبي عدنان (٢) عنه (٣): عَانَد فلانٌ فلانًا إذا جَانَبَه، ودمٌ عَانِد: يسيل جَانِبًا (٤)، ونحو ذلك قال الكسائي فيما رَوى عنه أبو عبيد: عَنَدَت الطعنةُ، إذا سال دمُها بعيدًا من صاحبها، وهي طنعةٌ عانِدةٌ، وعَنَدَ (٥) الدمُ: إذا سال في جانب (٦)، والعَنُود من الإبل: التي لا يخالطها
= ورد بلا نسبة في "المقتضب" ١/ ٢١٨، و"الجمهرة" ٢/ ٦٦٦، الصحاح (عند) ٢/ ٥١٣، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٤٢٢، و"مغني اللبيب" ص ٨٩٤، وورد برواية: (إذا نزلتُ..) في "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٧، و"الاقتضاب" ص ٤١٥، و"شرح أدب الكاتب" للجواليقي ص٢٤٥، و"الخزانة" ١١/ ٣٢٣، وورد برواية: (ذا رَحَلْتُ..) في "المحكم" ٢/ ١٥، و"اللسان" ٥/ ٣١٢٤، و"التاج" ٥/ ١٣٠، وورد برواية: (إذا رَجِلْتُ..) في "أدب الكاتب" ص ٤٩١، وورد برواية: (إذا ركبتم). في "مقاييس اللغة" ٤/ ١٥٣، معنى البيت: كان الشاعر قد كبر، والرجل إذا كبر عاد كالصبي؛ والصبيان يخافون بالليل، فهو يقول: اجعلاني وسطكما فإني لا أطيق أن أكون في الجانب.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" "عند" ٣/ ٢٥٨٩.
(٢) أبو عدنان، عبد الرحمن بن عبد الأعلى السُّلمي، كان عالمًا باللغة، وراوية لأبي البيداء الريَّاحي، بصريّ شاعر، صنَّف في اللغة وغريب الحديث كتباً، منها: كتاب (القوس) و (غريب الحديث). انظر: "الفهرست" ص ٧٢، و"إنباه الرواة" ٤/ ١٤٨، و"البغية" ٢/ ٨٠.
(٣) الضمير عائد على الأصمعي.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) ٣/ ٢٥٨٨ بنصه.
(٥) في جميع النسخ: (عندم)، والعَنْدَم: دمُ الأخوين، والمثبت من المصدر المنقول عنه.
(٦) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) ٣/ ٢٥٨٨، بتصرف يسير، وأنظر (عند) في "اللسان" ٥/ ٣١٢٥، و"التاج" ٥/ ١٣١.
427
إنما هو في ناحية أبدًا (١)، وعلى هذا المعنى كلُّ كلامِ أكثرِ المفسرين في تفسير العَنيد؛ قال قتادة: العنيد: المعرض عن طاعة الله (٢)، وهو قول ابن عباس ومجاهد: هو المجانب للحق (٣).
وقال إبراهيم: الناكب عن الحق (٤).
وقال ابن زيد: المخالف للحق (٥).
وقال أبو إسحاق: الذي يعدل عن القصد (٦).
وقال قوم من أهل اللغة: أصله من: عَنَدَ الحُبَارَى فرخَه، إذا عارضه بالطيران أول ما ينهض كأنه يعلمه الطيران (٧)، ومنه المَثَلُ: كلُّ شيء يحب
(١) نُسب هذا القول إلى الليث في "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٩، و"عمدة الحفاظ" ٣/ ١٥٦، وانظر: (عند) في "التهذيب" ٣/ ٢٥٨٨، و"مقاييس اللغة" ٤/ ١٥٣، و"المحكم" ٢/ ١٤، و"اللسان" ٥/ ٣١٢٤، و"التاج" ٥/ ١٣٠.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ١٩٤ بنحوه، وورد في "تهذيب اللغة" (عند) ٣/ ٢٥٨٨ بنصه، و"اللسان" (عند) ٥/ ٣١٢٤ بنصه، وفي معظم المصادر أنه فسرها بقوله: الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٤١، الطبري ١٣/ ١٩٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢١، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب.
(٣) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٣٤ بنحوه، وأخرجه الطبري ١٣/ ١٩٣ بنحوه، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣ بنحوه، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب بنحوه، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢١ بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٤٩.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ١٩٣ بنصه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب بنصه، وانظر: "الدر المنثور" ٤/ ١٣٧، و"تفسير صديق خان" ٧/ ٩٧.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٧ ب بنصه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦ بنصه.
(٧) ورد في "تهذيب اللغة" (عند) ٣/ ٢٥٨٨ بنصه، وانظر (عند) في "اللسان" ١٥/ ٣١٢٤، و"التاج" ٥/ ١٣٠.
428
ولده حتى الحُبَارى (١)، وُيحب عَنَدَه، أي اعتراضه، فالمعاند: المعارض لك بالخلاف (٢).
قال ابن الأعرابي: أَعْنَدَ الرجل، إذا عارض إنسانًا بالخلاف، وأعْنَدَ، إذا عارض بالاتفاق (٣)، وعاند البعير خطامه أي: عارضه (٤)، والعَنُود من الإبل، التي تُعاند الإبل فتعارضه (٥)، وقال قوم من أهل اللغة: معنى عَنَدَ، إذا أبى قبولَ الشيء مع العلم به تكبرًا عنه وبغيًا وطغيانًا (٦)، ومعنى ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾: فاز الرسل بالنصرة، وخاب كل من كفر؛ لأنه لم يظفر بما تمنَّى.
١٦ - قوله تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ [قال ابن عباس والمفسرون: يريد أمامه جهنم] (٧) بين يديه (٨)، ووراء يكون لخلف وقُدَّام، وإنما معناه ما
(١) انظر: "مجمع الأمثال" ٢/ ١٤٦، و"المستقصى في الأمثال" للزمخشري ٢/ ٢٢٧، يضرب هذا المثل في الموق [أي الحمق] يقول: هي على مُوقها تُحب ولدها وتعلمه الطيران.
(٢) انظر: (عند) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥٨٨، و"المحكم" ٢/ ١٥، و"التاج" ٥/ ١٣٠.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" "عند" ٣/ ٢٥٨٨، بنصه.
(٤) المصدر السابق بنصه.
(٥) المصدر السابق بنصه منسوباً للقيسي.
(٦) المصدر السابق بنحوه منسوباً لليث، وانظر: "عند" في "اللسان" ٥/ ٣١٢٤، و"التاج" ٥/ ١٣٠.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع).
(٨) ورد في تفسيره "الوسيط" ١/ ٣١٢ بنصه عن ابن عباس، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥١ بنحوه عن ابن عباس، وانظر: "الطبري" ١٣/ ١٩٥، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، و"الماوردي" ٣/ ١٢٧.
429
توارى عنك؛ أي: ما اسْتَتَر عنك (١) فعلى هذا إنما قيل (من ورائه) لما بين يديه؛ لاستتاره عنه، فصار كما يكون خلفه لمّا كان لا يراه. وذهب قوم إلى أن الوراء من الأضداد؛ يكون الخلف والقُدَّام (٢)، وهو قول أبي عبيدة (٣)، وابن السِّكِّيت (٤)، وأبي الهيثم (٥).
قال أهل المعاني: وإنما جاز ذلك (٦) لأنه ما من مكان إلا ويصح أن يكون خلفًا وقدامًا، ولمّا (٧) كان ما هو خلف يجوز أن يصير قدامًا، جاز أن يقع الوراء على القُدَّام (٨)، ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾
(١) ورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٦ بنصه.
(٢) انظر: "ثلاثة كتب في الأضداد" للأصمعي ص٢٠، والسجستاني ص ٨٢، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٦٨، و"تأويل مشكل القرآن" ص ١٨٩، و"جمهرة اللغة" ١/ ٢٣٦، وقد أنكر الزجاج والنحاس أن تكون وراء من الأضداد، ورجحا أن تكون بمعنى الاستتار، وهو ما ذهب إليه ثعلب؛ فقد سئل لم قيل الوراء للأمام، فقال: الوراء اسم لما توارى عن عينك، سواءً أكان أمامك أم خلفك.
"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٢، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٢، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٤٣.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٢٣٧ بنحوه.
(٤) "الأضداد" لابن السكيت "ثلاثة كتب في الأضداد" ص ١٧٥، وانظر (ورى) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٧٩.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (ورى) ٤/ ٣٨٧٩ بنحوه، وأبو الهيثم هو: الرازي، تقدمت ترجمته.
(٦) أي كون (وراء) ميت الأضداد.
(٧) في (أ)، (د): (إنما)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٨) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٥٧ بنحوه، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠٥ بنحوه، وانظر: "الأضداد" للجسستاني "ثلاث كتب في الأضداد" ص ٨٢، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٦٨.
430
[الكهف: ٧٩]، أي: أمامهم (١)، ويقال: الموت من (٢) وراء الإنسان، أي: أمامه، وذكر ابن الأنباري وجهًا ثالثًا؛ وهو: أن وراء هاهنا بمعنى بعد (٣)، والكناية فيه تعود إلى اليأس الذي دلَّ عليه قوله: ﴿وَخَابَ﴾ كأنه قال: من بعد يأسه (٤) جهنم، كقول النابغة:
ولَيْسَ وَرَاء اللهِ للمَرْءِ مَذْهَبُ (٥)
أي: وليس بعد الله مذهب.
وقال مقاتل: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ يعني بَعْده (٦)، وهذا على معنى أن جهنم تلحقه، وأن عاقبته تصير إليها؛ كما يقال: وراءك برد شديد؛ أي:
(١) انظر المصادر السابقة.
(٢) (من) ساقطة من (ش)، (ع).
(٣) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٢، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٣، وورد بلا نسبة في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧، و"تهذيب اللغة" (ورى) ٤/ ٣٨٧٨، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٠، وقد انتصر ابن عطية لهذا المعنى في رده على الطبري وغيره ممن فسَّروا (ورائه) بـ (أمامه)، وذكر أن (وراء) هاهنا على بابها؛ أي: ما يأتي بعد في الزمان. انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢١٧.
(٤) في (أ): (بانيه)، وفي (د): (بابنيه)، وفي (ش)، (ع): (ناسه)، والتصويب من "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٢.
(٥) صدره:
حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً
"ديوان النابغة" الذبياني ص ٢٧، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧، "الأضداد" لابن الأنباري ص ٧٠، و"تهذيب اللغة" (ورى) ٤/ ٣٨٧٩، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٠، و"الألوسي" ١٣/ ٣٠١، وهذا البيت من قصيدة قالها يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر ويمدحه.
(٦) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٢ أ، وعبارته: من بعدهم؛ يعني من بعد موته، وانظر: "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، بنصه، ونقلها عنه.
431
أنه يأتيك ويبلغك، وأنا من وراء هذا الأمر، أي: أصل إليه طالبًا، ومنه قول لبيد:
أَلَيْسَ وَرَائِي إنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتي لُزُومُ العَصَا تُحْنَى عليها الأصَابعُ (١)
جعل الشيب وزمانه وراءه، على معنى أنه يأتيه (٢) ويلحقه. وبقي شيء من الكلام في وراء سنذكره عند قوله: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ [الكهف: ٧٩]، إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ الصديد في اللغة: ماء الجرح المختلط بالدم والقيح (٣)، يقال: أصَدَّ الجرح.
قال ابن عباس: يريد صديد القيح والدم الذي يخرج من فروج الزُناة (٤)، وهو قول القرظي (٥)، والربيع (٦).
(١) "شرح ديوان لبيد" ص ١٧٠، وورد في: "الأضداد" للسجستاني [ثلاثة كتب في الأضداد] ص ٨٣)]، و"الأضداد" لابن الأنباري ص ٦٩، و"تهذيب اللغة" (ورى) ٤/ ٣٨٧٨، و"الأغاني" ١٤/ ٩٩، و"اللسان" (وري) ١/ ٤٨٢٣، وفي جميع النسخ: (وراء) بحذف الياء والمثبت هو الصواب، والتصويب من الديوان وجميع المصادر السابقة.
(٢) في (أ)، (د): (ثابتة)، والمثبت من (ش)، (ع).
(٣) انظر: "مجاز القرآن" ص ٣٣٨، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٦، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧، و"نزهة القلوب" ص ٢٩٧، (صدّ) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٨٥، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٨٢، و"مجمل اللغة" ٢/ ٥٣٢، و"اللسان" ٤/ ٢٤١٠ (صدد).
(٤) ورد بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨أ، وتفسيره "الوسيط" ١/ ٣١٢ بنصه.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٣، و"الخازن" ٣/ ٧٣، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥١٩، و"تفسير الألوسي" ١٣/ ٢٠٢، و"صديق خان" ٧/ ٩٨.
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، بنحوه، وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٢، و"الألوسي" ١٣/ ٢٠٢.
432
وقال قتادة والكلبي: هو ما يخرج من جلد الكافر ولحمه (١)، وتلخيص قوله: ﴿مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾: من مائع سائل هو صديد، وقال أبو علي: تقديره: من ماء ذي صديد، قال: وهذا خلاف قوله. ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (٢) [الإنسان: ٢١].
١٧ - قوله تعالى: ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ قال: جَرعَ الماء واجْترعَه جَرعًا واجْتراعًا، فإذا تابع الجَرْع مرة بعد أُخرى كالمتكاره، قيل: تَجَرَّعه (٣)، فمعنى التَّجَرُّع: تناوْل المشروب جَرْعة جَرْعة على استمرار، وهو معنى قول ابن عباس: يريد بالكُرْه (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ ذكرنا معنى (كاد) عند قوله: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ [البقرة: ٢٠] ويقال: ساغ الشراب في الحلق، يَسُوْغُ سَوْغًا، وأساغه الله (٥).
وأنشد الفراء (٦):
(١) أخرجه عن قتادة: عبد الرزاق ٢/ ٣٤١ بنحوه، والطبري ١٣/ ١٩٥ بنحوه من طريقين، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أبنصه عن قتادة، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٢، عن قتادة، وابن كثير ٢/ ٥٧٨، عن قتادة.
(٢) لم أقف على مصدره.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (جرع) ١/ ٥٨٥ بنصه تقريباً، وانظر (جرع) في "المحيط في اللغة" ١/ ٢٥٠، و"التاج" ١١/ ٦١ - ٦٢.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٤، بلفظه.
(٥) انظر: (سوغ) في "جمهرة اللغة" ٢/ ٨٤٦، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٩٧، و"مجمل اللغة" ٢/ ٤٧٨، و"مقاييس اللغة" ٣/ ١١٦، و"الصحاح" ٤/ ١٣٢٢، العباب الزاخر: [غ/ ص ٤٨]، و"اللسان" ٤/ ٢١٥٢.
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢٠، بلا نسبة.
433
وساغَ ليَ الشَّرَابُ وكُنْتُ قَبْلًا أكادُ أغَصُّ بالماءِ الحَمِيم (١)
قال المفسرون في هذه الآية: يتحسَّاه ويشربه بالجَرع لا بمرة واحدة لمرارته (٢)، وقالوا (يكاد) صلة؛ المعنى: ولا يسيغه (٣)، كقوله: ﴿لَمْ يَكَدْ
(١) نُسب لعبد الله بن يعرب (جاهلي) في "شرح التصريح على التوضيح" ٢/ ٥٠، و"الدرر اللوامع" ٣/ ١١٢ وفيه: (الفرات) بدل (الحميم) ولا فرق؛ لأن الفرات هو الماء العذب، وكذا الحميم؛ لأنها من الأضداد. [انظر: "الأضداد" لابن الأنباري ١٣٨]، ونُسب ليزيد بن الصَّعِق (جاهلي) في "خزانة الأدب" ١/ ٤٢٦، ٤٢٩، ٦/ ٥٠٥، ٥١٠، وعجزه:
أغص بنقطة الماء الحميم
وورد بلا نسبة في "شرح المفصل" ٤/ ٨٨، و"أوضح المسالك" ص ١٤٩، و"شرح ابن عقيل" ٣/ ٧٣، و"تذكرة النحاة" ص ٥٢٧، و"شرح الأشموني" ٢/ ٥٠٣، و"همع الهوامع" ٣/ ١٩٤، والمعنى: يقول لم يكن يهنأ لي طعام ولا يلذ لي شراب، بسبب ما كان لي من الثأر عند هؤلاء، فلما غزوتهم وأطفأت لهيب صدري بالغلبة عليهم ساغ شرابي ولذَّت حياتي.
(٢) ورد بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ أ، وتفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤١، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥١، و"الخازن" ٣/ ٧٣.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣، و"البغوي" ٤/ ٣٤١، والزمخشري ٢/ ٢٩٧، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٣، والبيضاوي ٣/ ١٥٨، وذهب آخرون كالفراء والطبري إلى أنها ليست صلة؛ لأن العرب تستعمل (لا يكاد) فيما قد فُعِل وفيما لم يُفْعل، وذكروا هذه الآية مثالاً على ما فُعل، فقالوا: معنى {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي: يسيغه، واستشهدوا على ما لم يُفعل بقوله ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ أي: لم يرها. "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧١، تفسيرالطبري ١٣/ ١٩٥، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٣، وابن جزي ٢/ ١٣٩، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥١٩، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٤٤.
434
يَرَاهَا} [النو: ٤٠] أي: لم يرها، قال ابن عباس: لا يُجِيْزُه (١).
وقال أهل المعاني: معنى ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾: بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقوم؛ أي: قمت بعد إبطاء، قال تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] يعني: فعلوا بعد إبطاء؛ لتعذر وجودها، فعلى هذا (كاد) ليس بصلة.
وقوله: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ جاز أن تكون صلة؛ لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمة (٢) على عدم الرؤية، فوضح (٣) بذلك أنّ ﴿يَكَدْ﴾ مزيد للتوكيد، والدليل على الإساغة قوله: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ [الحج: ٢٠] ولا يكون الضمير (٤) إلا بعد الإساغة، وأيضًا فإن قوله: ﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ يدل على أنهم أساغوا منه (٥) الشيء بعد الشيء، فكيف أن يصح أن يقال بعده: لا يُسيغه، البتة.
فإن قيل: فكيف وجه ما قاله المفسرون؟
قيل: يُحْمل على وجهين؛ أحدهما: ذكره ابن الأنباري وهو أن
(١) ورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٤٨ ب، بلفظه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٢، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥١، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥١٩.
(٢) بسبب الظلمات الثلاث؛ ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وهو ما أشارت إليه الآية. [النور: ٤٠].
(٣) في جميع النسخ (فوضع) بالعين، وهو تصحيف، والصواب بالحاء.
(٤) أي الكناية في يسيغه تعود على الكافر، ولو لم تحصل له الإساغة لقال: (لا يكاد يُساغ) ونحوها.
(٥) في جميع النسخ (أساغوه منه) جَمع بين الضميرين، فأصبحت العبارة مضطربة، وتستقيم العبارة بأحد الأمرين: إما أن تحذف الهاء فتصير (أساغوا منه الشيء بعد الشيء) أو تحذف (منه) وتصير العبارة (أساغوه؛ الشيء بعد الشئ). وكأن التصويب قد جرى في نسخة (ع) بطمس (الهاء) بألف غير واضحة.
435
المعنى: ولا يُسيغ جمْعه؛ كأنه يَجْرع البعض، ولم يُسغ الجميع لمرارته، فوقع الجحدُ بعد إثباتِ التَّجرعِ؛ على معنى إساغة الكل.
الوجه الثاني: أن معنى الإساغة في اللغة: إجراء الشراب في الحلق على تَقَبُّل النَّفْس واستطابة المشروب (١)، والكافر يتجرع ذلك الشراب علي كراهته ولا يُسيغه أي: لا يستطيعه ولا يشربه شُربًا بمرة واحدة، فعلى ما ذكرنا من الوجهين يصح أن تكون (يكاد) صلة على ما ذكره المفسرون، وقول من لم يجعل (يكاد) صلةً أمثل.
وقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ ذكر أهل المعاني في ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾ وجهين؛ أحدهما: أن هذا من باب حذف المضاف؛ على معنى: ويأتيه هَمُّ الموت وألمُه وكربُه (٢)؛ لأنه يستحيل أن يأتيه الموت؛
(١) لم يذكر المؤلف أهم خصائص الإساغة؛ وهو السهولة والاستمرارية، يقول ابن فارس في "مقاييس اللغة" ٣/ ١١٦: السين، والواو والغين أجل يدل على سهولة الشيء واستمراره في الحلق خاصة، ثم يحمل على ذلك. اهـ. كأنه ذكر لازم السهولة والاستمرارية، وهو تقبل النفس واستطابة المشروب. وانظر العباب الزاخر [غ/ ص ٤٩].
(٢) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣ بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٣ بنصه، وفي هذا التفسير نظر؛ لأن همّ الموت إنما كان عذابًا لأهل الدنيا لخشيتهم من المصير المجهول، أما أهل الآخرة من الكفار فإن الموت لم يكن هماً لهم، بل هو راحة يتمنونه، كما قال تعالى: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾ [الزخرف: ٧٧] لذلك فالأولى تفسيره بقول ابن عباس (، قال: أي أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم؛ ليس مها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: ٣٦]، انظر: "ابن كثير" ٢/ ٥٧٩، و"الدر المنثور" ٤/ ١٣٩ وعزاه إلى ابن أي حاتم. والغريب عدم إيراده لهذا القول عن ابن عباس كما التزم، وهو قريب من الوجه الثاني الذي أورده عن أهل المعاني.
436
عين الموت ثم لا يموت، وقد قال الله: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾.
والمعنى: أن الله تعالى حبس نفس الكافر في جسده على اجتماع آلام الموت وأفانِينِه (١) عليه ليصل إليه الألم، ومع ذلك لم يفارقه الروح فيستريح، الوجه الثاني: أنه أراد بالموت هاهنا: موت الضُّر والبلاء؛ كما يقال: فلان ميت مما لحقه، ومات فلان موتات بما أباح (٢) عليه من البلية؛ يعني: إنه كالميت وإن كان فيه روح، كما ورد في الحديث: "إن الفقر مكتوب عند الله الموت الأعظم" (٣) وقد قال الشاعر (٤):
ليس مَنْ مَاتَ فاسْتَرَاحَ بمَيتٍ إنَّما الميتُ ميتُ الأحْيَاءِ
إنَّما الميتُ مَنْ يَعيشُ كَئِيبًا كاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّخَاءِ (٥)
فجعله ميتًا، وهذا قول أبي بكر، وهو معنى قول الأخفش؛ يعنىِ: البلايا التي تصيب الكافر في النار (٦).
(١) ضُرُوبه وأنواعه. المحيط في اللغة (فن) ١٠/ ٣١٥.
(٢) البَوْحُ: ظهور الشيء، وباحَ الشيء: ظهر، وأباح الشيء: أطلقه "اللسان" (بوح) ١/ ٣٨٤.
(٣) لم أجده بلفظه ولا بمعناه فيما تيسر لي من المراجع.
(٤) هو عدي بن الرَّعْلاء الغساني (شاعر جاهلي).
(٥) ورد البيتان معاً في "الأصمعيات" ص ١٥٢، و"معجم الشعراء" ص ٧٧، شرح شواهد "المغني" ١/ ٤٠٥، وورد البيت الأول فقط في "البيان والتبيان" ١/ ١٢٤، و"الحيوان" للجاحظ ٦/ ١٣٥، و"العقد الفريد" ٥/ ٤٧٦، و"الاشتقاق" ص ٥١، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٢٤، و"شرح المفصل" ١٠/ ٦٩، و"الخزانة" ٦/ ٥٣٠، ورواية "معجم الشعراء" (الرخاء) بالخاء، وفي باقي المصادر (الرجاء) بالجيم، ولا يختلف المعنى، (كاسفاً): سيئاً حاله، وقد ورد اليتان في شأن من تدعه الحرب سليماً معافى في ثياب من الذل والخزي، فحياته ليس إلا موتًا.
(٦) ليس في معانيه، وقد ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ ب بنصه، وانظر: "تفسير =
437
وقوله تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ قال ابن عباس: يريد من كل شعرة في جسده (١).
وقال الثوري: من كل عِرْق (٢)، وهذا قول أكثر المفسرين: جعلوا المكان من جسده (٣)، وروى عن ابن عباس في قوله من كل مكان: أي من كل جهة؛ من عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته، ومن قدامه وخلفه (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد أمامه يوم القيامة (٥).
= ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٢، وأبي حيان ٥/ ٤١٣، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٤٤، و"الألوسي" ١٣/ ٢٠٣، و"صديق خان" ٧/ ٩٩، وقد أنكر أبوحيان والألوسي هذا القول؛ بحجة أن سياق الكلام عن أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها. وهذا غير مسَّلم لهما؛ لأن ما يلقاه الكافر في نار جهنم من أنواع العذاب هي من البلايا والآلام التي تصيبه، لكن لا على سبيل الابتلاء والامتحان؛ لأن ذلك زمنه الدنيا وقد ولَّى.
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" ١/ ٢١٤ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٣.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٤، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٣.
(٣) ورد بنحوه في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٢، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٦، "تفسير الطبري" ١٣/ ١٩٦، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٣، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣، والثعلبي ٧/ ١٤٨ ب، والماوردي ٣/ ١٢٨.
(٤) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٢ بنحوه من طريق الكلبي ضعيفة، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٨ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٥٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٢، و"الألوسي" ١٣/ ٢٠٢.
(٥) ورد بنحوه غير منسوب في: "الطبري" ١٣/ ١٩٦، والثعلبي ٧/ ١٤٨ ب، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٣، و"المشكل" لمكي ١/ ٤٤٦، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٢، و"القرطبي" ٩/ ٣٥٢، و"الخازن" ٣/ ٧٤.
438
وقال الكلبي: يقول من بعد الصديد عذاب غليظ (١)، وهذا اختيار أبي إسحاق وأبي بكر؛ قال أبو إسحاق: أي ومن بعد ذلك (٢)، وقال أبو بكر: ومن بعد هذا العذاب المذكور عذاب غليظ (٣)، ومعنى غِلَظِ العذاب: اتصال الآلام وكثرتها؛ كالشيء الغليظ الذي كثر أجزاؤه وتكاثف، كما قلنا في: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧]
١٨ - قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية. اختلفوا في الرفع للمثل، فقال الزجاج: هو مرفوع على معنى: وفيما يتلى عليكم (٤)، وهذا مذهب سيبويه (٥). وقال الفراء: التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتمادًا على ذكره بعد المضاف إليه، وذلك أن العرب تقدِّم المضاف إليه لأنه أعرف (٦)، ثم يأتي بالذي يخبر به عنه معه
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٤ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٥/ ٣٥٤ بنصه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧ بنصه.
(٣) لم أقف على مصدره، وقد بين ابن الأنباري في هذا القول أن الضمير في ورائه يعود على العذاب المتقدم، وقد ورد هذا القول بلا نسبة في: "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ١٨٠، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ١/ ٤٤٦، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٢٠، و"البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٥٦، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٤، وأبي حيان ٥/ ٤١٣، و"الدر المصون" ٧/ ٨١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧ بنصه، والتقدير - كما بيّنه: وفيما يتلى عليكم مثلُ الذين كفروا بربهم، أو مثلُ الذين كفروا بربهم فيما يتلى عليكم.
(٥) "الكتاب" ١/ ١٤٣، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٨٠ - ١٨١، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ١/ ٤٤٧، "تفسير أبي حيان" ٥/ ٤١٤، و"الدر المصون" ٧/ ٨١.
(٦) لأن المضاف غالباً ما يكون نكرة، وتكون غامضةً ومبهمةً، فيزيل المضاف إليه الغموض ويوضحه.
439
كهذه الآية، ألا ترى أنه قدَّم (الذين) ثم ذكر بعده الأعمال مضافة إلى الكناية عن الذين؛ كقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧] أي: خَلْقَ كُلِّ شيء، ومثله قوله: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠] المعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودَّة (١)، وفي هذا أقوال ووجوه ذكرناها مستقصاة في قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [آية: ٣٥] في سورة الرعد.
وقوله تعالى: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ قال الليث: الرَّمادُ دُقاق الفحم من حراقةِ النار، وصار الرَّمادُ رمادًا إذا صار هباءًا أدق ما يكون (٢)، ورمَّد اللحمَ، إذا ألقاه في الرماد (٣)، ومنه المثل: شَوى أَخُوك حتى إذا أنْضَجَ رَمَّدَ (٤).
وقوله تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ قال ابن السِّكِّيت: عصفت الريح وأعصفت، فهي ريح عاصف ومُعْصِفة إذا اشتدت (٥)، وقال الزجاج في باب الوفاق: عَصَفَت الرِّيحُ عُصُوْفًا وأعْصَفت إعصافًا، إذا اشتد هبوبها (٦)،
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٢، مختصراً، ووردت في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٨ ب بنحوه، والظاهر أنه نقلها عن الثعلبي وبسطها.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (رمد) ٢/ ١٤٦٦ بنصه.
(٣) انظر: "جمهرة اللغة" ٢/ ٦٣٩.
(٤) ورد في "جمهرة اللغة" ٢/ ٦٣٩، و"الأمثال" لابن سلاَّم ٦٦، و"مجمل اللغة" ١/ ٣٩٨، و"المحيط في اللغة" (رمد) ٩/ ٣٠٨، و"مجمع الأمثال" ١/ ٣٦٠، و"اللسان" ٣/ ١٧٢٦، وُيروى هذا المثل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويضرب للرجل يصنع المعروف ثم يفسده بالمنِّ والأذى، ويضرب أيضاً للذي يبتدئ بالإحسان ثم يعود عليه بالإفساد.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (عصف) ٣/ ٢٤٦٣ بنصه.
(٦) "فعلت وأفعلت" ص ٦٥ بنصه.
440
قال الفراء: جعل العُصوْفَ تابعًا لليوم في إعرابه (١)، وإنما العُصُوف للرياح، وذلك جائز على وجهين: أحديهما (٢): أن العُصُوْفَ وإنْ للرِّيح فإن اليوم قد يُوصَفُ به؛ لأن الريح تكون فيه، فجائز أن يقول: يومٌ عاصفٌ (٣)؛ كما يقال: يومٌ باردٌ، ويومٌ حارٌ، والبرد والحر فيهما (٤)، وقال أبو عبيدة: العرب تفعل ذلك في الظرف، وأنشد لجرير:
لَقَد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلان في السُّرَى ونِمْتِ وما لَيْلُ الْمَطِيِّ بنائِم (٥)
فوصف الليل بالنوم لَمّا كان فيه، ومثله: يوم ماطر، وليلة ماطرة (٦)، وقال أبو حاتم: هذا من كلام العرب، قال الله تعالى: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾ [سبأ: ٣٣] أضاف إليهما وهما لا يمكران (٧)، وقال: {وَالنَّهَارِ
(١) في جميع النسخ: (إغوائه)، والتصويب من المصدر.
(٢) في (د): (إحداهما).
(٣) والتقدير: في يوم عاصفٍ ريحُه، ثم حذف "ريحه" للعلم به وجُعلت الصفة لليوم.
انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي ١/ ٤٤٧، و"البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٥٧، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٥.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٣ بتصرف، وانظرت الطبري ١٣/ ١٩٧، و"تهذيب اللغة" (عصف) ٣/ ٢٤٦٣.
(٥) "ديوان جرير" ص ٤٥٤، وهو من قصيدة قالها يجيب بها الفرزدق. وورد في: "الكتاب" ١/ ٣٩، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٩، و"الكامل" للمبرد ١/ ١٣٥، ٢١٩، و"الخزانة" ١/ ٤٦٥، وورد غير منسوب في: "المقتضب" ٣/ ١٠٥، ٤/ ٣٣١، و"الكامل" ٢/ ١٣٥٦، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٥٣، ٢/ ٢٩.
(أم غيلان) هي بنت جرير، (المطي) جمع مطيّة؛ وهي الراحلة التي يمتطى ظهرها [أي تركب]، (السُّرى) سير الليل.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٩، بتصرف يسير.
(٧) لم أقف على مصدره، ومعنى الآية: بل مَكْرُكُم بنا في الليل والنهار. انظر: "الكامل" للمبرد ١/ ١٣٥، و"معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٥٤، و"تفسير ابن الجوزي" ٦/ ٤٥٧.
441
مُبْصِرًا} (١) [يونس: ٦٧] ومنه قول جرير:
وأعْوَرَ من نَبْهان أمّا نَهارُهُ فأعْمَى وأمّا لَيْلُهُ فبصِيرُ (٢)
قال الفراء: والوجه الآخر (٣) أن يريد: في يومٍ عاصفِ الريح، فَيَحذِف الريح؛ لأنها قد ذُكرت (٤) في أول الكلام، كما قال (٥):
إذا جاء يومٌ مُظلِمُ الشمسِ كاسفُ (٦)
يريد كاسف الشمس؛ فحذفه لأنه قَدَّم ذكره، ومضى مثل هذا في قوله: ﴿بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ [يونس: ٢٢] قال الزجاج وغيره: تأويله أن كل ما تقرَّب به الذين كفروا إلى الله فمُحْبَطٌ (٧)؛ غير منتفع
(١) أي مضيئاً تبصرون فيه، وإنما أضاف الإبصار إليه؛ لأنه ظرف يُفعل فيه غيره. انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٤٦.
(٢) "ديوان جرير" ص ٢٠٣.
(٣) أي من كلام الفراء في جَعْل العُصُوف تابعاً لليوم في إعرابه، وقد فصل بين الوجهين بإقحام كلام أبي عبيدة وأبي حاتم لتوضيح الوجه الأول، ولما طال الفصل أعاد نسبة الكلام إلى الفراء.
(٤) في (أ)، (د)، (ع): (ذكر)، والمثبت من ش وهو الأنسب للسياق.
(٥) في جميع المصادر بدون نسبة، وذكر شاكر محقق تفسير الطبري ١٣/ ١٩٧ أن البيت لمسكين الدارمي لكن الرواية التي أوردها في ٧/ ٥٢٠ ليس فيها الشاهد، وهي:
إذا جاء يومٌ مظلمُ اللون كاسفُ
(٦) وصدره:
ويَضْحَكُ عِرْفان الدُّروعِ جُلُودُنا
ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٤، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٤، و"الخزانة" ٥/ ٨٩، وورد عَجُزُه في "تهذيب اللغة" (عصف) ٣/ ٢٤٦٣، و"تفسيرالطبري" ١٣/ ١٩٧، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٣، و"العباب الزاخر" [ف/ ص ٤٣٩]، و"اللسان" (عصف) ٥/ ٢٩٧٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٧ بنصه.
442
به (١)؛ لأنهم أشركوا فيها غير الله؛ كالرماد الذي ذرَّته الريح وصار هباءً لا ينتفع به، وذلك قوله: ﴿لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا﴾ أي: في الدنيا، ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾: في الآخرة، قال ابن عباس: يريد لا يجدون ثواب ما عملوا (٢).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ قال ابن عباس: يريد الخسران الكبير (٣)، وعلى هذا يعني بالضلال: ضلالَ أعمالهم وهلاكَها وذهابها، وإذا ذهبت أعمالُهم ذهابَ الرمادِ في عُصوف الريح، فقد كَبُرَ خسرانُهم، ومعنى ﴿الْبَعِيدُ﴾ هاهنا: الذي لا يُرْجَى عَوْده، فهو بعيد من العود؛ لذهابه على الوجه الذي ذُكر، وقال الكلبي (٤): الخطاء الطويل (٥)، فعلى هذا المراد بالضلال هاهنا ضلال الكفار كقوله: ﴿ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ١٦٧] أي بعيد من الهدى والرجوع عنه.
١٩ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ الآية. معنى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ هاهنا التنبيه (٦) على خَلْق السموات والأرض، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿خَالِقَ السَّمَاوَاتِ﴾ على فاعل (٧) فمن قرأ:
(١) (به) ساقط من (أ)، (د).
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٥ بنصه، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٢٩، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٤.
(٣) ورد غير منسوب في "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٤، و"الخازن" ٣/ ٧٤.
(٤) "الكلبي" ساقط من (د).
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لأن الرؤية علمية وليست بصرية. انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٣، وابن عطية ٨/ ٢٢٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٤.
(٧) انظر: "السبعة" ص ٣٦٢، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٤، و"الحجة في القراءات" ٢٠٣، و"علل القراءات" ١/ ٢٨٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ٢٨، و"حجة القراءات" ٣٧٦، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٢٥، و"التبصرة" ٥٥٨.
443
﴿خَلَقَ﴾ (١) أخبر بلفظ الماضي على فَعَل؛ لأن ذلك أمرٌ ماض، ومن قرأ: ﴿خَالِقُ﴾ قال هو كقوله: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ﴾ [فاطر: ١]، وقوله تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ [الأنعام: ٩٦] وكل هذا مما قد فُصِّل ومَضى، ومعنى قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ ذكرنا الكلام فيه عند قوله: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ في سورة يونس [آية: ٥].
وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ قال ابن عباس والكلبي: يريد أُمِيْتُكم يا معشر الكفار وأخلق قومًا غيركم خيرًا منكم وأطوع، وهو خطاب لأهل مكة (٢).
وقال أهل المعاني: دلّ بقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (على قدرته على الإهلاك والإذهاب؛ لأنه إذا قَدر على خلق السموات والأرض) (٣) قدر على إذهابهم بالهلاك؛ لأن من قدر على الإيجاد قدر على الإفناء (٤)، وأما الجديد، فمصدره الجِدَّة، ويقال: أجَدَّ ثوبًا واسْتَجدَّه، إذا اتخذه جديدًا (٥) وأصله من قولهم: قُطع عنه العمل في ابتداء أمره، وقال المازني في قوله (٦):
(١) هم ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم. انظر المصادر السابقة.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦ بنصه عن ابن عباس، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٥، والفخر الرازي ١٩/ ١٠٦، فيهما عن ابن عباس، ولم أقف عليه منسوبًا للكلبي.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).
(٤) ورد في "تفسير الطوسي" ٦/ ٢٨٧ بنحوه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٢٩٨، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٦، وأبي السعود ٥/ ٤١.
(٥) انظر: (جد) في "العين" ٧/ ٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٥٥٥، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٣٩٢، و"اللسان" (جدد) ١/ ٥٦٢.
(٦) البيت للنابغة الذبياني.
444
أرَسْمًا جَدِيدًا من سُعادَ تَجَنَّبُ (١)
أراد بالجديد المقطوع الأثر لدروسه (٢)، وفي ذكر الجديد في الآية دليل على أنه (٣) ذلك الخلق الذي يأتي بهم جديدًا هم أفضل من الأول وأطوع لله، كما قال المفسرون (٤)؛ لأنهم لو كانوا كالأول في العصيان لم يكن فائدة في إذهابهم والإتيان بغيرهم.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ قال ابن عباس: يريد لا يعز عليه شيء يريده (٥).
قال الكسائي: ليس يعز على الله أن يميتكم ويأتي بغيركم (٦).
وقال أهل المعاني: أي: لا يمتنع على مَنْ قَدَر على خَلْق السموات
(١) وعجزه:
عفَتْ روضةُ الأجداد منها فَيثْقُبُ
"ديوان النابغة الذبياني" ص ١٤٣، وورد في "معجم البلدان" ٥/ ٤٣١، "التاج" (ثقب) ١/ ٣٣٨. (الرسم): هو الأثر، (عفت): محت، (يثقب) أي الريح تخرقه فتعفوا آيه؛ أي تمحو آثاره، وقيل: (يثقُبُ) اسم موضع بالبادية، والبيت من قصيدة قالها يصف حوادث الدهر وصروفه في أهله، يقول: ما بالك تحاذر المرور بديار سعاد بعد أن خرّقتها الريح وعفت آثارها.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) هكذا في جميع النسخ: (أنه)، والأظهر: (أن).
(٤) ورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٤، والثعلبي ٧/ ١٤٩ ب، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٤، و"الخازن" ٣/ ٧٤، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥٢٥.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦ بنصه.
(٦) لم أقف عليه منسوباً إلى الكسائي، وأورده المؤلف بنصه ونسبه للكلبي في "الوسيط" ١/ ٣١٦.
والأرض أن يذهبكم ويأتي بخلق سِواكم (١)، ومضى الكلام في معنى العزيز، ومعناه هاهنا: الممتنع بقوته.
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ برز معناه في اللغة: ظهر بعد الخفاء، ومنه يقال للمكان الواسع البَرازُ؛ لظهوره (٢)، وقيل في قوله: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾ [الكهف: ٤٧] أي: ظاهرة بلا جبل ولا تل يستر ما وراءه (٣)، وامرأة بَرْزَةٌ، إذا كانت تظهر للناس (٤)، وقد جاء برز بمعنى أبْرَزَ في قول لبيد:
النّاطِقُ المَبْروزُ والمختُومُ (٥)
(١) لم أقف عليه في كتب المعاني المتوفرة، وورد نحوه في: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٩٩، و"الطوسي" ٦/ ٢٨٧، وابن عطية ٨/ ٢٢٣، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٥، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٦، و"الخازن" ٣/ ٧٥، وابن كثير ٢/ ٥٨٠.
(٢) انظر: (برز) في "العين" ٧/ ٣٦٤، و"تهذيب اللغة" ١/ ٣١٠، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢١٨، و"اللسان" ١/ ٢٥٥، و"التاج" ٨/ ٩.
(٣) انظر: "برز" في "التهذيب" ١/ ٣١٠، و"اللسان" ١/ ٢٥٥، و"التاج" ٨/ ٩.
(٤) المصادر السابقة نفسها.
(٥) وصدره:
أو مُذْهَبٌ جَدَدٌ على ألواحهن
"شرح ديوان لبيد" ص ١١٩، وورد في (برز) في "العين" ٧/ ٣٦٤، و "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٠، و"مقاييس اللغة" ١/ ٢١٨، و"اللسان" ١/ ٢٥٥، و"التاج" ٨/ ٩، ورواية غير الديوان: (ألوحة)، (مُذْهب) اللوح عليه ذهب، (الجدد) جمع جُدَّة، وهي الطرائق، (الناطق) الكتاب، (المبرز) الظاهر، وقيل: المكتوب والمنشور، (المختوم) غير الظاهر، وقيل: الذي لم ينشر. قال أبو الحسن: هو لوح ضمت إليه ألواح من جوانبه، كانوا يضعون عليه الكتب تعظيماً للملك، لا تمسه إلا يد الملك، يأخذ ما شاء ويترك ما شاء.
446
قال ابن هانىء (١): يقال: بَرزته برزًا، بمعنى (٢) أبْرزْتُه برْزًا (٣)، ويقال: قد بَرَزَ فلان على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل؛ إذا سبق أحدها قيل قد بَرَّز عليها (٤)، كأنه خرج من غمارها فظهر.
قال ابن عباس في قوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ يريد: في البعث يوم القيامة (٥).
قال المفسرون: خرجوا من قبورهم (٦) وورد هذا بلفظ المضي وإن كان معناه الاستقبال، لتحقق كونه (٧) كما ذكرنا في قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [الأعراف: ٥٠]، ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٤٤]؛ لأنه أصدَق وقوعَه؛ كأنه قد وقع وأتى، ومعنى ﴿اللَّهُ﴾ اللام هاهنا لام أجل، وتأويله:
(١) عبد الله بن محمد بن هانىء، أبو عبد الرحمن النحويّ النيسابوري، صاحب الأخفش، كان عارفاً بعلم الأدب، بصيراً بالنحوّ، له كتاب كبير في نوادر العرب وغرائب ألفاظها، وفي المعاني والأمثال، توفي سنة ٢٣٦ هـ. انظر: مقدمة "تهذيب اللغة" ١/ ٤٤، و"إنباه الرواة" ٢/ ١٣١، و"البغية" ٢/ ٦١.
(٢) في (أ)، (د): (برز المعنى)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الإنسب للسياق.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (برز) ١/ ٣١٠ وعبارته، قال ابن هانئ: أبرزتُ الكتاب: أخرجته، فهو مَبْروز.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (برز) ١/ ٣١٠ بنحوه.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦ بنحوه.
(٦) ورد في "تفسيرالطبري" ١٣/ ١٩٩ بنحوه، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٨٢ بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٤، بنصه، و"الثعلبي" ٧/ ١٤٩ ب، بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٢/ ٣٤٣، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٦، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٧، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٥، و"الخازن" ٣/ ٧٥.
(٧) انظر: "الزمخشري" ٢/ ٢٩٨، و"الرازي" ١٩/ ١٠٧، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٦.
447
لأجل أمر الله إيّاهم بالبروز (١).
وقال أبو إسحاق: أي جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع (٢)، ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ وهم الأتباع، ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ قال ابن عباس: يريد الأتباع لأكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله (٣)، ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ﴾ أي: في الدنيا ﴿لَكُمْ تَبَعًا﴾، قال الفراء وأبو عبيدة وجميع أهل العربية: التَّبَعُ جمع تابع مثل: خادم وخَدَم، وغائب وغَيَب، ونافر ونفَر، وحارس وحَرَس، وراصد ورَصَد (٤).
قال الزجاج: وجائز أن يكون مَصْدرًا سُمَّي به، أي: كنا ذوي تبع (٥).
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: فهل أنتم دافعون عنا من عذاب الله) (٦)، ﴿قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ يريدون أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى ما كانوا عليه من الضلال، ولو هداهم الله لدعوهم إلى الهدى، هذا
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنصه.
(٣) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٩، مختصراً، ولم أجده في معاني القرآن للفراء، ، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤٩ ب.
وانظر: "المحكم" (تبع) ٢/ ٤٢، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٢٩٨، وابن الجوزي" ٤/ ٣٥٦، والفخر الرازي ١٩/ ١٠٨، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٧، و"اللسان" (تبع) ١/ ٤١٦، و"الدر المصون" ٧/ ٨٥، و"التاج" (تبع) ١١/ ٣٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنصه، وانظرت "الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٧.
(٦) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦ بنصه غير منسوب، وما بين القوسين ساقط من (د).
448
قال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم (١).
وقوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا﴾ إلى آخره، قال الزجاج: ﴿سَوَاءٌ﴾ ابتداء، و ﴿أَجَزِعْنَا﴾ في موضع الخبر (٢)، والكلام في هذا قد سبق في قولى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، وذكرنا معنى المحيص في قوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء: ١٢١].
٢٢ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ الآية. قال المفسرون: إذا استقر أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار، اجتمع أهل النار باللائمة على إبليس لعنه الله، فيقوم فيما بينهم خطيبًا ويقول ما أخبر الله تعالى بقوله: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ﴾ الآية. (٣) قال أبو إسحاق: ذكر الله أمر
(١) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٠٩ بنصه، وورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٦، وتفسيره "الوجيز" ١/ ٥٨١، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ١٥٨/ ٣ بنصه
(٣) ورد في "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٢ ب بنحوه، وأخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٠ - ٢٠١ بنحوه عن الشعبي والحسن والقرظي، وورد في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنحوه، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٤ بنحوه عن الحسن، و"الماوردي" ٣/ ١٣٠، مختصراً عن الحسن، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٠ أ، بنحوه عن مقاتل، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٤١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن، وأخرجه الطبري ١٣/ ٢٠١، مرفوعاً بمعناه عن عقبة بن عامر (ضمن حديث الثمفاعة مختصراً، وأخرجه الطبراني في "الكبير" ١٧/ ٣٢٠، من طريق عقبة بن عامر بمعناه وأورده الهيثمي في "المجمع" ١٠/ ٣٧٦، وقال: وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٤٠، وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد، ولم أجده وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر بسند ضعيف عن عقبة، وحكم عليه شاكر في تحقيق الطبري بالضعف، وقال: وهذا خبر ضعيف الإسناد لا يقوم. وعلى هذا فدعوى قيام إبليس خطيباً في أهل النار على منبر من نار لا تصح لكونها موقوفة على الحسن والشعبي والقرظي، ولا يقبل قولهم المجرد في مثل هذه القضية الغيبية، والطريق الموصول الذي فيه إشارة لهذه الدعوى - ضعيفٌ لا تقوم به الحجة، فالله أعلم بكيفية هذا الحوار والنقاش بين إبليس وأهل النار.
449
إبليس وما يقوله في القيامة تحذيرًا من إضلاله وإغوائه (١).
وقوله تعالى: ﴿لَمَّا قُضِيَ الْأَمْر﴾ قال ابن عباس: يريد حين قضى الله بين العباد؛ فصار أهل الجنّة إلى منازلهم وكرامتهم، وأمَرَ بأهل جهنّم إلى العذاب (٢)، وقال الضحاك: فُرغ من الأمر (٣)، وهو معنى قول ابن عباس.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ قال مقاتل: يعني كون هذا اليوم فَصَدَقكم (٤) وعْده، ووعدتكم أنه غير كائن فأخلفتكم (٥)، وقال أبو إسحاق: أي وعد من أطاعه الجنّة ووعد من عصاه النار، ووعدتكم خلاف ذلك (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَعْدَ الْحَقِّ﴾ هو من باب إضافة الشيء إلى نَعْته كقوله: ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ [ق: ٩] ومسجد الجامع، على قول الكوفيين، والمعنى:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنصه.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٧١ بنحوه، وورد بنحوه غير منسوب في "الغريب" لابن قتيبة ٢٣٦، و "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٠، والسمرقندي ٢/ ٢٠٤، والثعلبي ٧/ ١٥٠ أ، وابن عطية ٨/ ٢٢٦، والفخر الرازي ١٩/ ١١٠.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في (د): (فصدَّكم).
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٢ ب، بتصرف يسير.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنصه.
450
وعدكم الوعدَ الحقَ (١)، وعلى مذهب البصريين يكون التقدير: وعْدَ اليومِ الحقِ، أو الأمر الحق (٢)، أو يكون التقدير: وعدكم الحق ثم ذكر المصدر تأكيدًا وفيه إضمار؛ لأن تلخيصه: وعدكم وعد الحق فصدقكم، وحُذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد والوفاء به، ولأنه ذكر في
(١) الكوفيون يجوِّزون إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، وحجتهم أن ذلك ورد كثيرًا في كتاب الله وكلام العرب، وقد قرّر هذه المسألة الفراء في عدة أماكن من معانيه، كما في قولى تعالى: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ [يوسف: ١٠٩] فأضيفت الدار إلى الآخرة وهي الآخرة، وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥]، والحق هو اليقين. انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٣٠، ٢/ ٥٥، ٣/ ٧٦، راجع هذه المسألة في "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٤٧، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٩، و"الإنصاف" ص ٣٥٢، و"البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٥٢٥، ٣٨٥، ٤٥، و"البسيط شرح جمل الزجاجي" ٢/ ١٠٨٦، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٠، و"همع الهوامع" ٤/ ٢٧٦.
(٢) ذهب البصريون إلى منع إضافة الموصوف إلى صفته؛ بحجة أن الإضافة إنما يراد بها التعريف والتخصيص، والشيء لا يتعرف بنفسه؛ لأنه لوكان فيه تعريف لكان مستغنياً عن الإضافة، وإن لم يكن فيه تعريف كان بإضافته إلى اسمه أبعد من التعريف، وتأولوا شواهد الكوفيين وأزالوا ما يوهم إضافة الموصوف إلى صفته، بحمله على حذف المضاف إليه وإقامة صفته مقامه، وعليه فتقدير قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ أي: حق الأمرِ اليقين، وقوله: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ﴾ تقديره: ولدارُ الساعةِ الآخرةِ. انظر الأصول في النحو ٢/ ٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٤٧، و"الإيضاح العضدي" (٢٨٣)، و"الخصائص" ٣/ ٢٤، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٩، ٣٥٥، ٤٩٠، و"الإنصاف" ص ٣٥٢، و"البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٥٢٥، ٣٨٥، ٤٥، و"شرح المفصل" ٣/ ١٠، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٣٥٣، و"الدر المصون" ٤/ ٦٠٠، ويترجح في هذه المسألة قول الكوفيين؛ لصراحة أدلتهم التي ذكروها ولم تفتقر إلى التأويل الذي ذهب إليه البصريون؛ وما لا يحتاج إلى تأويل أولى بما يحتاج إلى تأويل.
451
وعد الشيطان الإخلافُ، فدل ذلك على الصدق في وعد الله.
وقوله تعالى: ﴿وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ الوعد يقتضي مفعولًا ثانياً، وحُذف هاهنا للعلم به والتقدير: ووعدتكم أن لا جنّة ولا نار ولا حشر ولا حساب فأخلفتكم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ قال ابن عباس: يريد من حجة أحتج بها عليكم، أي: بما أظهرت لكم حجة (١)، ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ هذا من الاستثناء المنقطع؛ أي: لكن دعوتكم ﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ (٢) قال: يريد فصدقتموني وقبلتم مقالتي، وقال أبو إسحاق: أي أغويتكم وأضللتكم فاتبعتموني (٣)، ﴿فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ حيث أجبتموني وطاوعتموني من غير سلطان ولا برهان، قال أهل المعاني: ولَوْم النفس يصح على الإساءة كما يصح حمدها على الإحسان (٤)، كما قال (٥):
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٧١، بمعناه، وورد بمعناه غير مشوب في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٠ أ، والبغوي ٤/ ٣٤٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٥٧، و"تفسير القرطبي" ١٩/ ٣٥٦، وابن كثير ٢/ ٥٨١.
(٢) هذا ما ذهب إليه معظم المفسرين؛ أن الاستثناء منقطع؛ لأن الدعاء ليس من جنس السلطان. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٠، والثعلبي ٧/ ١٥٠ أ، و"البغوي" ٤/ ٣٤٥، وابن عطية ٢٢٧/ ٨، وابن الجوزي ٤/ ٣٥٧، والفخر الرازي ١٩/ ١١١، و"الإملاء" ٢/ ٨٦، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٧، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٦، وأبي حيان ٥/ ٤١٨، و "الدر المصون" ٧/ ٨٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٨ بنصه.
(٤) لم أقف على هذا القول في كتب المعاني ولا كتب اللغة، وهي قضية بدهية ظاهرة لا خلاف حولها، ولا أدري ما وجه الغرابة في لوم النفس على الإساءة حتى يستشهد على ذلك بالبيت.
(٥) القائل هو الحارث بن خالد المخزومي، أحد شعراء قريش المعدودين الغزليين. "الأغاني" ٣/ ٣٠٨.
452
صَحِبْتُك إذ عَيْنِي عليها غِشَاوةٌ فلما انْجَلَتْ قطَّعْتُ نَفْسِي ألُومُها (١)
وقوله تعالى: ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد بمغيثكم ولا منقذكم (٢) وهو قول الجميع (٣).
وقال ابن الأعرابي: المصارخ (٤) المُسْتَغيث، والمُصْرِخُ المُغِيثُ (٥)، يقال: صرخ فلان، إذا استغثاث وقال: واغوْثاه، وأصرختُه: أغثته، وقال الفراء: أصرخْتُ الرجل، إذا أغثته إصْراخًا، وقد صَرَخَ الصَّارخ يَصْرَخُ، ويَصْرُخُ لغة قليلة، صَرْخًا وصُرَاخًا (٦).
(١) ورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣١، و"العقد الفريد" ١/ ٣٠٣، و"الأغاني" ٣/ ٣١٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ١٩١، و"اللسان" (غشا) ٦/ ٣٢٦١، و"الدر المصون" ١/ ١١٥، ورواية المجاز والدر: (تبعْتُك) بدل (صَحِبْتُك).
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١١٤ بنصه، و"تنوير المقباس" ص ٢٧١ بنصه.
(٣) ورد بلفظه في: "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٩، و"غريب القرآن وتفسيره" لليزيدي ١٩٧، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٠، و"جهرة اللغة" ١/ ٥٨٦، و"تهذيب اللغة" (صرخ) ٤/ ١٩٩٩، و"تفسير المشكل" لمكي ص ٢١٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٥، و"تذكرة الأريب في تفسير الغريب" ص ٢٧٩، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٤١٩، و"عمدة الحفاظ" ٢/ ٣٨٢.
(٤) هكذا في جميع النسخ، ولم أقف على هذا التصريف في المصادر اللغوية التي رجعت إليها والذي ذكره المصدر ومصادر اللغة (الصَّارخ) فلعله من تصحيف النساخ. انظر (صرخ) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٩٩، و"المحيط" ٤/ ١٤٥، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٣٤٨، و"الصحاح" ١/ ٤٢٦، و"اللسان" ٤/ ٢٤٢٦، و"التاج" ٤/ ٢٨٧.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (صرخ) ٢/ ١٩٩٩ بنصه ونسبه الأزهري لأبي الهيثم.
(٦) لم أقف عليه، والظاهر أنه من كتابه "المصادر" المفقود.
453
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ﴾ القراءة الصحيحة فتح الياء (١) وهو الأصل (٢).
قال الزجاج: وذلك أن [ياء] (٣) الإضافة إذا لم يكن قبلها ساكن حُرِّكتْ إلى الفتح؛ نحو غلاميَ، وذلك أن الاسم المضمر لمّا كان علي حرف واحد وقد منع الإعراب، حرِّك بأخف الحركات (٤)، ويجوز إسكانها (٥)، لثقل (٦) الياء التي قبلها كسرة (٧)، وإذا كان قبل الياء ساكن حرَّكت إلى الفتح لا غير (٨)، لأن أصلها أن تحرك ولا ساكن قبلها، فإذا
(١) هي قراءة الجمهور ماعدا حمزة، ولو وصفها بقراءة الأكثرين لكان أحسن؛ لأن وصفه لها بالصحة يوهم تبنِّيه لدعوى بعض النحويين في تضعيف قراءة حمزة، مع أنه رد عليهم في آخر المسألة. انظر: "السبعة" ص ٣٦٢، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٥، و"الحجة في القراءات" ص ٢٠٣، و"علل القراءات" ١/ ٢٨٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ٢٨، و"المبسوط في القراءات" ص ٢١٧، و"حجة القراءات" ص ٣٧٧، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٢٦، و"تلخيص العبارات" ص ١٠٨، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧١٠، و"الإتحاف" ص ٢٧٢.
(٢) تخصيصه قراءة الجمهور دون حمزة بهذا الوصف غير جيد أيضاً؛ لأنه يشعر بالتقليل من شأن قراءة حمزة وهي قراءة سبعية لا فرق بينها وبين القراءات الأخرى، ولأن الأصل في القراءة الرواية وليس القياس، فهي سنة متبعة وليس قواعد نحوية مقنَّنَه، ويقصد بالأصل: أي عند النحويين كما صرّح بذلك الأزهري في "شرح التصريح على التوضيح" ٢/ ٦٠.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر ليستقيم الكلام.
(٤) وهي الفتحة.
(٥) أي الياء.
(٦) في جميع النسخ (لنقل)، والتصويب من المصدر.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٩، نقله بتصرف يسير.
(٨) وهذه حجتهم النحوية في رد قراءة حمزة؛ حيث قالوا إن أصل (مصرخيّ) مصرخين جمع مصرخ، أضيف لياء اليكلم فصارت (بمُصْرِخِيني) وحذفت النون للإضافة =
454
كان قبلها ساكن صارت حركتُها لازمةً لالتقاء الساكنين؛ نحو: ﴿هُدَايَ﴾ [طه: ١٢٣]، و ﴿وَمَحْيَاىَ﴾ [الأنعام: ١٦٢]، و ﴿عَصَايَ﴾ [طه: ١٨] ونحو هذا قال الفراء (١)، وقراءة حمزة ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ بكسر الياء (٢) وهو (٣) قراءة الأعمش (٤) ويحيى بن وثاب (٥).
= فاجتمعت ياء الجمع -وهي ساكنة- وياء الإضافة، فلو سكناها لاجتمع ساكنان بمصرخِيْيْ فتعين الفتح، فلما اجتمع مِثْلان: الأول ساكن، والثاني متحرك وجب الإدغام، فصارت ياءً مفتوحة مشددةً
انظر: "إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٥، و"حجة القراءات" ص ٣٧٧، و"مشكل إعراب القرآن" لمكي ١/ ٤٤٨، و"الإملاء" ٢/ ٦٨و"سراج القارىء" ص ٢٦٥.
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٥.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٦٢، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٥، و"علل القراءات" ١/ ٢٨٨، و"الحجة للقراء" ٥/ ٢٨، و"حجة القراءات" ص ٣٧٧، و"الكشف عن وجوه القراءات" ٢/ ٢٦، و"تلخيص العبارات" ص ١٠٨، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧٠٩، و"الإتحاف" ص ٢٧٢.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي أن تكون (وهي) لأن الضمير يعود على القراءة، وهي مؤنثة.
(٤) انظر: "علل القراءات" ١/ ٢٨٩، و"الحجة للقراء" ٥/ ٢٩، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧١٠، و"إبراز المعاني" ٣/ ٢٩٣، و"سراج القارىء" ص ٢٦٥، و"النشر" ٢/ ٢٩٩، و"الإتحاف" ص ٢٧٢.
(٥) انظر: "الحجة للقراء" ٥/ ٢٩، و"إبراز المعاني" ٣/ ٢٩٣، و"سراج القارىء" ٢٦٥، و"النشر" ٢/ ٢٩٩، ويحيى بن وثاب هو: الإمام القدوة المقرىء، شيخ القراء بالكوفة في زمانه، تابعي ثقة حدّث عن ابن عباس وأبي هريرة، أخذ القراءة عن علقمة ومسروق، وأخذ عنه الأعمش، كان حسن الصوت بالقراءة، مات (١٠٣ هـ).
انظر: "غاية النهاية" ٢/ ٣٨٠، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٣٨٠، و"تقريب التهذيب" ٥٩٨ ص (٧٦٦٤).
455
قال الفراء: ولعلها من وهْم القُرَّاء (١) فإنه قلَّ من سَلم منهم من الوهْم، ولعله ظن أن الباءَ (٢) في ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ خافضةٌ للحرف كله، والياء من المتكلم خارجةٌ من ذلك، ومما يرى أنهم أوهموا فيه: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١١٥] ظنُّوا والله أعلم أن الجزم في الهاء، والهاءُ في موضع نصب، وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه، قال: وسمعت بعض العرب (٣) ينشد:
قلت (٤) لَهَا هَل لَكِ يَا تَا فيِّ قالَتْ لنا ما أنتَ بالمَرْضِيّ (٥)
(١) هذه اللفظة من أخف الألفاظ انتقاداً لهذه القراءة السبعية!! وكذلك الأسلوب؛ حيث عزا الخطأ فيما يظن أنه خطأ إلى القُراء لا القراءة، بخلاف بقية المنتقدين للقراءة خاصة البصرييين حيث بالغوا في انتقاد القراءة ووصفوها بأقذع الصفات؛ كالمنكرة، والرديئة، والمرذولة، والضعيفة، والمكروهة، وا الشاذة، وأنها لحن.. انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٩٩، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٩، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٨٣، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٠٠، و"الإملاء" ٢/ ٦٨، و"إبراز المعاني" ٣/ ٢٩٤، و"حاشية ياسين على شرح التصريح" ٢/ ٦٠.
(٢) في (ش)، (ع): (الياء) والمثبت موافق للمصدر.
(٣) هو الأغلب العجلي، تأتي ترجمته في المفحة التالية، وكلمة (العرب) ساقطة من (د).
(٤) في المصدر (قال) وهو الموافق لرواية جميع المصادر التي وقفت عليها ما عدا "علل القراءات" ١/ ٢٨٨.
(٥) ورد البيت منسوباً للأغلب في "حاشية ياسين على شرح التصريح" ٢/ ٦٠، و"الخزانة" ٤/ ٤٣٣، وورد غير منسوب في: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٦، و"الحجة في القراءات" ٢٠٣، و"المحتسب" ٢/ ٤٩ [صدره]، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٥٩، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٤١٩، (يا) حرف نداء، (تا) منادى؛ وهو اسم إشارة يشار به إلى المؤنث، (فيِّ) ضمير نصب متكلم أُشبعت كسرته فنشأ عنها ياء نحو منزلي من منزل والمعنى: أن رجلاً قال لامرأة تقدم ذكرها يا هذة المرأة، هل لك رغبة فيَّ؟ قالت له: لست بالمرضي فيكون لي رغبة فيك.
456
فخفض الياء من (فيِّ) فإن يك ذلك صحيحًا، فهو مما يلتقي من الساكنين فيُخفض الآخِرُ منهما، وإن كان له أصل في الفتح، ألا ترى أنهم يقولون: لي أره منذ (١) اليوم، والرفع في الذال هي (٢) الوجه (٣)، والخفض جائز، فكذلك الياء من مصرخيّ خفضت ولها أصل في النصب، انتهى كلامه، (٤). وقال أبو إسحاق: هذه القراءة عند جميع النحويين ردية مرذولة لا وجه لها إلا وُجَيْه (٥) ضعيف! وهو ما أجازه الفراء من الكسر على أصل التقاء الساكنين، وأنشد:
قالَ لَهَا هَل لكِ يا تا فيِّ قالَتْ له ما أنْتَ بالمَرْضِي
وهذا الشعر مما لا يُلتفت إليه، فليس يُعرف قائل هذا الشعر من العرب (٦)،
(١) في المصدر المنقول عنه (مُذُ).
(٢) الأولى (هو) لأنه يعود على مذكر، وكذلك هو في المصدر.
(٣) لأنها مبنية على الضم. [اللمع في العربية ص ١٣١]، وقد اعترض السمين على الفراء في استشهاده على المسألة بهذا المثال لاختلافهما؛ حيث لم يتوال الكسر في المثال بخلاف القراءة المستشهد لها "الدر المصون" ٧/ ٩٤.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٥، نقل طويل تصرف فيه.
(٥) هكذا وردت مصغرة في جميع النسخ مع أنها في المصدر مكبرة (وجه) فلعل لذلك دلالة إن كان من فعل الواحدي لا النُسَّاخ، وهو المبالغة في تضعيف هذا الوجه الذي يُحتج به للقراءة من جهة النحو.
(٦) بلى قد عُرف قائله، هو الأغلب العجلي، ولم يكن نكرة بل هو علَم في عدة ميادين: فقد عدّه ابن الأثير وابن حجر في الصحابة، ومن شهداء الإسلام في نهاوند. انظر: "أسد الغابة" ١/ ١٢٦، و"الإصابة" ١/ ٢٢٥ وعدّه ابن قتيبة أرجزَ الرُجّاز، لأنه أول من شبّه الرجز بالقصيد وأطاله، وقبله بيتان أو ثلاثة انظر: "الشعر والشعراء" ص ٤٠٧، بل لقد بلغ من شهرته أن ينتسب إليه السثمهورون، يقول العجاج: إني أنا الأغلب أضْحَى قد نُشر. المصدر السابق، وأكد أبو شامة نسبة =
457
ولا هو مما يحتج به (١) في كتاب الله (٢).
قال أبو علي: زعم قطرب أن هذا لغة في بني يربوع (٣)؛ يزيدون على ياء (الإضافة ياء) (٤) وأنشد:
ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِىّ (٥) قال لَهَا هل لكِ يا تا فيِّ
قال: ووجه ذلك من القياس أن الياء ليست تخْلُو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما، وكالكاف في: أكبر منك (٦)، وهذا لك، فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة (٧) في قولك: هذا الشيء لَهُو، وضَرَبَهُو، ولحق الكاف أيضًا الزيادة (٨) في قول من قال: أعْطيْتُكاه وأعطيْتُكِيه، فيما حكاه سيبويه (٩) وهما أختا الياء، وكما لحقت
= البيت للعجلي بأنه رأه في كتابه انظر: "إبراز المعاني" ٣/ ٢٩٥، فواعجباً من دعوى الزجاج في استجهال هذا العَلَم.
(١) بلى هو مما يحتج به لتعضيد ثبوت قراءة متواترة تعرضت للإنكار.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥٩، نقله بتصرف.
(٣) هم أبناء يربوع بن حنظلة بن مالك، من العدنانية، وبنوه: رياح، وثعلبة، والحارث، وعمرو، وصُبَير، كانوا يُسمَّون الأحمال وبنوه: كُليب، وغُدَانة، والعَنبر سُمُّوا العقداء؛ لأنهم تعاقدوا على أخيهم رياح، وصار الأحمال مع بني رياح. انظر: "الاشتقاق" ص ٢٢١، و"جمهرة أنساب العرب" ص ٢٢٨، ٤٦٧، و"نهاية الأرب" ص ٣٩٨.
(٤) ففي هذه اللغة ينطقون (فيَّ) هكذا (فِيِيّ) "المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧١٠، وما بين القوسين ساقط من (د).
(٥) في جميع النسخ (بالمرضي) والتصويب من المصدر.
(٦) في (أ)، (د): (أكرمتك)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر.
(٧) وهي الواو.
(٨) وهي الألف والياء.
(٩) "الكتاب" ٤/ ٢٠٠، وأمثلته مختلفة؛ فقد مثَل للمؤنث بـ: أُعْطِيكيها وأُعْطيكيه، وللمذكر بـ: أُعْطيكَاهُ وأُعْطيكَاها.
458
التاء الزيادة في نحو ما أنشد (١):
رَمَيْتِيهِ فأصمَيْتِ وما أخْطَاتِ الرَّمْيَه (٢)
كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ، فقالوا: (فِيِّي) ثم حذفت الياءُ الزائدة على الياء (٣) كما حذفت من الهاء في قوله (٤):
وما لَهُ من مَجْدٍ تَلِيد (٥)
وكما حذفت الزيادة من الكاف، في قول من قال: أَعْطيْتُكه
(١) لم أقف على قائله، ونسبه عبد السلام هارون في فهرسته "للخزانة" ١٢/ ٢٨٠ للوليد بن يزيد (ت ١٢٦ هـ).
(٢) ورد في "الحجة للقراء" ٤/ ٤١٦، ٥/ ٣٠، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٤٩، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٦٠، و"إبراز المعاني" ٣/ ٢٩٧، و"الدر المصون" ٧/ ٩٣، و"الخزانة" ٥/ ٢٦٨، برواية (فأقصدتِ) بدل (فأصميْت) ولا يختلف المعنى؛ لأن معنى الكلمتين واحد، هو: القتل، والشاهد: زيادة الياء في (رميتيه) والأصل (رميته) دون ياء؛ كما قيل (أقصدت) بدون ياء.
(٣) في (ش)، (ع): (التاء)، والمثبت منسجم مع السياق وموافق للمصدر.
(٤) القائل هو الأعشى (جاهلي) أدرك الإسلام ولم يسلم، مات سنة (٧ هـ).
(٥) والبيت بتمامه:
وماله من مجد تليد ولا له من الريح حظٌّ لا الجنُوبُ ولا الصَّبَا
"ديوانه" ص ١٧٥، وروايته:
وما عنْده مجدٌ تليدٌ ولا لَهُ من الريح فضلٌ لا الجنُوبُ ولا الصَّبَا
وورد في "الكتاب" ١/ ٣٠، و"شرح شواهد الإيضاح" ٤٥٨، وورد بلا نسبة في "المقتضب" ١/ ٣٨، و"سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٣٠، و"الإنصاف" ص ٤٠٧، والشاهد في قوله: (وماله) حيث اختلس ضمة الهاء اختلاساً ولم يشبعها حتى تنشأ عنها واو، لذلك فإن رواية الديوان ليس فيها الشاهد؛ لأن الهاء في (عنده) مشبعة غير مختلسة. "الانتصاف بهامش الإنصاف" ٢/ ٥١٦.
459
وأَعطيتُكِه (١)، كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختيها (٢) وأُقرَّت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة، فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرة (٣)، فإذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه (٤) وإن كان غيرها أفشى منها، وعضَّده من القياس ما ذَكَرْنا، لم (٥) يجز لقائل أن يقول: إن القراءة بذلك لحن؛ لاستقامة (٦) ذلك في السماع والقياس (٧)، وما كان كذلك لا يكون لحنًا (٨).
قوله تعالى: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ ما هاهنا بمعنى المصدر؛ أي: كفرت بإشراككم إيَّاي (٩) مع الله في الطاعة (١٠)، قال
(١) في جميع النسخ (أعطيتكيه)، والمثبت مصوب من المصدر وبه يستقيم الكلام.
(٢) أي الزيادة في الهاء والكاف في الأمثلة السابقة.
(٣) توضيح ذلك: أن اللفظة على لغة بني يربوع (مصرِخِيِّيِ) فحذفت الياءُ الثانية فأصبحت (مصرِخِيِّ).
(٤) أي لغة بني يربوع.
(٥) في (د): (مالم).
(٦) هكذا في جميع النسخ، وفي المصدر (لاستفاضة) وهو أصوب لأن الاستفاضة من عوارض الرواية.
(٧) الأصل في القراءة الرواية والسماع لا القياس؛ لأن القراءة سنة متَّبعة فإذا ثبتت الرواية، لم تفتقر إلى قياس ولم يردها قياس، يقول أبو عمرو الداني -رحمه الله-: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها. "النشر" ١/ ١٠.
(٨) "الحجة للقراء" ٥/ ٢٩، وهو نقل طويل من قوله: قال أبو علي، تصرّف فيه بالتقديم والتأخير والاختصار.
(٩) في (أ)، (د): (آياتي)، والمثبت من (ش)، (ع).
(١٠) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٧، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١١٥، و"تفسير =
460
الزجاج: إني كفرت بشرككم أيُّها التُّباع إيّاي بالله (١) وهذا معنى قول ابن عباس: يريد: إني (٢) جحدت بما كنتم تطيعوني في الدينا؛ وتلخيصه: جحدت أن أكون شريكًا لله فيما أشركتموني (٣)، وقال الفراء: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ﴾ هذا من قول إبليس؛ يعني: كفرت بالله الذي أشركتموني به، أي: كفرت به من قبلكم فجعل (ما) في مذهب ما يؤدى عن الاسم (٤)، وعلى هذا القول (ما) بمعنى (مَنْ) والقول هو الأول.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين (٥)، قال المفسرون: هم الذين وضعوا العبادة والطاعة في غير موضعها (٦).
٢٣ - قوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ ذكرنا معنى التحية عند قوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ [النساء: ٨٦] قال ابن عباس: يريد أن الله يُحيِّهم بالسلام من عنده، وبعضهم يُحَيِّ بعضا بالسلام (٧) وعلى هذا
= القرطبي" ٩/ ٣٥٨، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ١٦١.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٠، نقله بنصه.
(٢) في جميع النسخ (إن) والصواب ما أثبته، وبه يستقيم الكلام.
(٣) لم أقف عليه. وورد تلخيصه بنصه في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٠ أ، و"الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٩، و"الوجيز" ١/ ٥٨١.
(٤) "معاني القرآن" للفراء٢/ ٧٦ بنصه تقريباً.
(٥) ورد قوله بنصه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣١٩، و"الوجيز" ١/ ٥٨١، و"تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٧.
(٦) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٠ ب، بنصه.
(٧) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ١١، لكنه جعل التحية من الملائكة لا من الله، وفي "تنوير المقباس" ص ٢٧١، قال: يسلم بعضهم على بعض إذا تلاقوا، =
قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ مصدر مضاف، فإن جعلته مضافًا إلى الفاعل فهو تحية بعضهم بعضًا، وإن جعلته مضافًا إلى المفعول فهو تحية الله إيّاهم والملائكة، وقد ذكر ابن عباس الوجهين.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ أي: بيّن الله شِبْهًا، ثم فسَّر ذلك المثل، فقال: ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ قال ابن عباس: يريد لا إله إلا الله (١)، وهو قول عامة المفسرين (٢).
وقوله تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء:
= وخلاصة القول في التحية أنها ثلاثة أنواع: تحية الله لهم، وتحية الملائكة لهم، وتحية بعضهم لبعض، ومن جعلها نوعين فقد جعل تحية الملائكة ضمن تحية الله؛ أي أن الملائكة ينقلون إليهم تحية الله.
انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٥٥، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٠ب، و"الماوردي" ٣/ ١٣١، و"البغوي" ٤/ ٣٤٦، و"الثعلبي" ٤/ ١١، و"الخازن" ٣/ ٧٦، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٥٥، و"صديق خان" ٦/ ٢٣.
(١) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٣ بنصه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ١/ ٢٧٣ (٢٠٦) بنصه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٦ بنصه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٥١، وابن عطية ٨/ ٢٣٢، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٨، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٢٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٥٩، وابن كثير ٢/ ٥٨٢، و"الدر المنثور" ٤/ ١٤٢، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) ورد بنصه في "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٣ أ، والسمرقندي ٢/ ٢٠٥، هود الهوارى ٢/ ٣٢٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٠ ب، و"تفسير المشكل" لمكي ٢١٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٦، و"تذكرة الأريب في تفسير الغريب" ٢٧٩، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٨٢.
462
يريد النخلة (١)، وهو قول أكثر أهل التأويل (٢)، وأراد: كشجرة طيبة
(١) أخرج الطبري ١٣/ ٢٠٦، بلفظه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٦، وانظر: "تفسير الخازن" ٣/ ٧٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٤٤ وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي هاشم وابن مردويه من طرق، وورد عن ابن عباس بأنها شجرة في الجنّة. انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥١ أ، و"البغوي" ٤/ ٣٤٦، وابن عطية ٨/ ٢٣٤، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦١، و"الخازن" ٣/ ٧٧، وورد عنه كذلك: أنها المؤمن. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٤، و"الأسماء والصفات" للبيهقي ١/ ٢٧٣ (٢٠٧)، و"تفسير الخازن" ٣/ ٧٧، وابن كثير ٢/ ٥٨٢، و"الدر المنثور" ٤/ ١٤٢، وزاد نسبته لابن أبي حاتم. ولاخلاف بين هذه الأقوال؛ لأن المقصود بالمثل المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبّه بها، كما في صحيح البخاري (٢٢٠٩)، كتاب: البيوع، بيع الجُمَّار وأكله: عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول - ﷺ -: "من الشجر شجرةٌ كالرجلِ المؤمن"، فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أحدثهم، قال: هي النخلة، وفي رواية له: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم.. " (٦١) كتاب العلم، قول المحدث حدثنا، وأما كونها شجرة في الجنة غير معينة فلأن النخلة من أشرف الأشجار، فهي أولى من ينطبق عليها الصفات المذكورة في الآية. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٠٤ - ٢٠٥، وابن عطية ٨/ ٢٣٤، "الأمثال" لابن القيم ص ٢٣٢.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٢، بلفظه عن أنس، والطبري ١٣/ ٢٠٤ - ٢٠٦، بلفظه من عدة روايات عن أنس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد، وورد بلفظه في: "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٦، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٥، وهود الهواري ٢/ ٣٢٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٠ ب، و"الماوردي" ٣/ ١٢٣، و"تفسير المشكل" ص ٢١٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٤٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والرامهرمزي.
463
الثمرة، فاستغنى عن ذكرها بدلالة الكلام عليها، ﴿أَصْلُهَا﴾ أي: أجل هذه الشجرة الطيبة ﴿ثَابِتٌ﴾، ﴿وَفَرْعُهَا﴾: أعلاها، قال: ﴿فِي السَّمَاءِ﴾.
٢٥ - ﴿تُؤْتِي﴾ أي هذه الشجرة، ﴿أُكُلَهَا﴾: ثمرها وما يؤكل منها، ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ الحين: وقت من الزمان قلَّ أو كثُر، طال أو قَصُر (١)، واختلفوا في المراد بالحين هاهنا؛ فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد ستة أشهر (٢)، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والحسن قالوا: ما بين صرامها (٣) إلى حملها ستة أشهر (٤).
وقال مجاهد وابن زيد: كل سنة (٥)، وهو قول ابن عباس في رواية
(١) انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ١٢٥، و"اللسان" (حين) ٢/ ١٠٧٣، و"عمدة الحفاظ"١/ ٥٤٩.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٨ بنصه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وورد بنصه في: "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٧، والسمرقندي ٢/ ٢٠٦، و"الثعلبي" ٧/ ١٥١ ب، انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٣٥٩، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٢٠.
(٣) الصِّرام بكسر الصاد وفتحها: أوان نُضج الثمرة وجَنْيها. انظر: "اللسان" (صرم) ٤/ ٢٤٣٨، و"متن اللغة" ٣/ ٤٤٩.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٨ بنصه عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وأخرج ١٣/ ٢٠٩، عن قتادة والحسن قالا: ما بين الستة الأشهر والسبعة.
وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥١ ب بنصه عنهم، و"الماوردي" ٣/ ١٣٢ بمعناه عن الحسن، و"الطوسي" ٦/ ٢٩١ بنحوه عن سعيد والحسن.
وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٧ بنحوه عنهم.
(٥) "تفسير مجاهد" ١/ ٣٣٤، بلفظه، أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٩ بنصه عنهما، وورد بنصه في: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥١ أ، عنهما، و"الماوردي" ٣/ ١٣٢ عن مجاهد، و"الطوسي" ٦/ ٢٩١ عنهما.
464
عكرمة؛ قال: هو ما (بين العام إلى العام) (١) المقبل (٢)، وقال في رواية أبي ظَبيان (٣): كل حين: كل غدوة وعشية (٤)، وهو قول الربيع بن أنس (٥).
وقال سعيد بن المُسيَّب: كل حين يعني: شهرين؛ لأن مدة إطعام النخلة شهران (٦)، قال أهل التأويل وأهل المعاني: شبَّه الله تعالى الإيمان
(١) ما بين القوسين ساقط من: (ش)، (ع).
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٩ - ٢١٠ بنصه عن عكرمة صحيحة، وأورده في "الدر المنثور" ٤/ ١٤٤ عن عكرمة، والظاهر تلقَّاه عه. وورد لهذا الطريق في "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٠٦، لكنه قال: الحين: ما بين الثمرتين؛ يعني سنة. وورد تفسير الحين بـ (سنة) عن ابن عباس من طريق عطاء بن السائب صحيحة في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢١٠.
(٣) في جميع النسخ: (ابن) والصحيح أبي ظبيان كما في تفسيرالطبري وكتب التراجم.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٧ بنصه بعدة روايات من هذه الطريق، وورد بنصه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٨، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٦، والثعلبي ٧/ ١٥١ ب، والماوردي ٣/ ١٣٣، والطوسي ٦/ ٢٩١.
(٥) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٩ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥١ ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٧، وابن عطية ٨/ ٢٣٦.
(٦) أخرجه الطبري ١٣/ ٢١٠ بنحوه، وورد بنحوه في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٦، والشعبي ٧/ ١٥١ ب، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٧، وابن عطية ٨/ ٢٣٦، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٩، والفخر الرازي ١٩/ ١٢٠، و"الدرا لمنثور" ٤/ ١٤٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، هذه الأقوال التي وردت في تفسير (الحين) تندرج تحت قاعدة اختلاف التنوع، ولا تناقض بينها لأمرين: الأول: أن (الحين) يحتمل كل هذه المعانى في اللغة؛ إذ يطلق على الوقت القليل والكثير.
الثاني: أن كل مفسر نظر في تفسيره مق زاوية تختلف عن الآخر: فمر فسره بـ (سنة) أشار إلى أن النخلة لا تحمل في السنة إلا مرة واحدة، ومن فسره بـ (ستة أشهر) أشار إلى ما بين حملها وصرامها، ومن فسره بـ (شهرين) أشار إلى مدة الجني في =
465
بالنخلة لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في مَنْبِتها، وشبَّه ارتفاع (عمله إلى السماء بارتفاع) (١) فروع النخلة، وشبَّه ما يكسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت وزمان، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات [السنّة] (٢) كلها؛ من الرطب والتمر وما يجري مجراهما مما لا يعدم ولا ينقطع وجوده (٣).
وقال الزجاج: جعل الله مَثل المؤمن في نُطْقه بتوحيده (٤)، والإيمان بنبيّه واتّباع شريعته الشجرة الطيبة؛ فجعل نفع الإقامة على توحيده كنفع الشجرة التي لا ينقطع نفعُها وثمرها (٥)، وقال آخرون: إنما مَثَّلَ الله سبحانه الإيمان بالشجرة؛ لأن الشجرة لا تستحق أن تسمّى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة
= النخل، ومن فسره بـ (الغدوة والعشية) أشار إلى أن ثمرتها تؤكل دائماً؛ صيفاً وشتاءً، وقد رجح الطبري قول من فسره بـ (الغدوة والعشية)؛ وذلك لكون الآية ضُربت مثلاً لعمل المؤمن وإخلاصه ورفع عمله إلى الله، وهذا إنما يكون في كل يوم وليلة لا كل شهر أو سنة. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢١٠، وابن عطية ٨/ ٢٣٧، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٥٩، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٠.
(١) ما بين القوسين ساقط من: (ش)، (ع).
(٢) ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق، كما في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢١، و"الوجيز" ١/ ٥٨٢.
(٣) لم أقف عليه في كتب المعاني المطبوعة، وورد هذا المعنى مختصراً وبعبارات متقاربة في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢١٠، والسمرقندي ٢/ ٢٠٦، و"الماوردي" ٣/ ١٣١، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٦ - ٣٤٧، وابن عطية ٨/ ٢٣٣، وابن الجوزي ٤/ ٣٥٩، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦١، وابن كثير ٢/ ٥٨٢.
(٤) في (ش)، (ع): (توحيده)، بدون باء
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٠، ونقله بنصه.
466
أشياء: تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان (١).
قال ابن الأنباري: وكان غير مستنكر تشبيه الكلمة بالشجرة وهي من غير جنسها، كما لا يُستَنكر تشبيه الناس بالأسد والأقمار والبحار، وجنس الإنسان يخالف هذه الأجناس، ومعروف من كلامهم: عبد الله الشمسَ طالعة، وزيدٌ القمرَ منيرًا، وعمرو الأسدَ عاديًا (٢)، وبكر البحر زاخرًا (٣).
وقال أبو إسحاق في قوله: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهب إلى أن الحين اسم كالوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها، طالت أم قصُرت، والمعنى في ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: أنها يُنتفع بها في كل وقت، لا ينقطع نفعها البتة، قال: والدليل على أن الحين بمنزلة الوقت قول النابغة في صفة الحيَّة والملدوغ:
تَنَاذَرَها (٤) الرَّاقُون من سُوء سَمِّها تُطَلِّقُه حِينًا وحِينًا تُراجِعُ (٥)
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، بتصرف يسير، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٧، والبقاعي ٤/ ١٨٥، و"حاشية الصاوي على الجلالين" ٢/ ٢٨٤، و"تفسير الألوسي" ١٣/ ٢١٦، وصديق خان ٧/ ١١٠.
(٢) في (أ)، (د): (عارياً)، والمثبت من: (ش)، (ع) وهو الصحيح المتفق مع المعنى، والظاهر أن الدال تصحفت إلى راء.
(٣) الزَّخَرُ: من خصائص البحر، يقال: زَخَرَ يزْخَرُ زَخْراً وزُخوراً، إذا جاش ماؤه وارتفعت أمواجه. انظر (زخر) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥١٩، و"المحيط في اللغة" ٤/ ٢٧٥.
(٤) في جميع النسخ (تبادرها) بالباء والدال من المبادرة، وهو تصحيف؛ إذ لا معنى للمبادرة هنا، ويؤيده أن رواية الديوان وجميع المصادر (تناذرها) من الإنذار؛ وهو التخويف، أي خوف بعضهم بعضا بأن تلك الأفعى من خبثها لا تجيب راقياً.
(٥) البيت للنابغة الذبياني، و"ديوانه" ص ٥٤، وورد في "المعاني الكبير" ٢/ ٦٦٣، =
467
قال: المعنى أن السمَّ يخفُّ ألمه وقتًا ويعود وقتًا (١)، فعلى هذا، الاختيار: أن يكون المعنى ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾: أي: كل وقت في جميع السنة، وهو قول الضحاك، قال: كل ساعة، ليلاً ونهارًا، شتاءً وصيفًا، تُؤكل في جميع الأوقات، كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها (٢)، وقد قال ابن عباس: يريد ستة أشهر طلعٌ رَخْصٌ (٣) وستة أشهر رُطبٌ رَطيبٌ (٤)، فبين أن الانتفاع بالنخلة دائم في جميع السنة.
وقوله تعالى: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٥)، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾: لكي يتعظوا.
= و"الكامل" للمبرد ٣/ ١٣٠، و"جمهرة اللغة" ٢/ ٩٢٢، و"تهذيب اللغة" (حان) ١/ ٧١٤، "الإيضاح العضدي" ١/ ٢٠٣، و"الصحاح" (نذر) ٢/ ٨٢٦، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٩، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٢، و"المخصص" ٩/ ٦٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٠، و "اللسان" (حين) ٢/ ١٠٧٤، و"الخزانة" ٢/ ٤٥٩، (تطلَّقه): أي تفارقه وتخفى الأوجاع أحياناً، وتارة تشتد عليه، وهكذا حال اللديغ، ورواية الديوان والكامل والخزانة:
تطلِّقُه طوراً وطوراً تراجع
ولا فرق في المعنى؛ لأن الطور كالحين، لكن لا شاهد على هذه الرواية.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦١ بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (حان) ١/ ٧١٤ بنصه.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٠٨ بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٨ بنحوه، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥١ ب بنصه. وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٠.
(٣) الرَّخْص: الشيء الناعم اللين. انظر: "المحيط في اللغة" (رخص) ٤/ ٢٤٥.
(٤) أورده الواحدي بنصه غير منسوب في "الوجيز" ١/ ٥٨٢.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢١ بنصه.
468
٢٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ يعني: الشرك بالله في قول الجميع (١)، ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد الثوم (٢)، وروى مقاتل عن الضحاك عنه (٣) قال: هي الكُشُوث (٤)، وقال
(١) ورد بلفظه في "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٣ أ، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٦، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٦، وهود الهواري ٢/ ٣٢٧، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، و"تفسير المشكل" ص ٢١٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٨، والزمخشري ٢/ ٣٠١.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢١، بلفظه، وانظر: "غرائب التفسير" ص ٥٧٩، و "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦١، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٢، و"الخازن" ٣/ ٧٧، وورد عن ابن عباس أنه فسرها بقوله: هذا مثل ضربه الله، ولم تخلق هذه الشجرة على وجه الأرض. أخرجه الطبري ١٣/ ٢١١، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، و"الماوردي" ٣/ ١٣٤، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٠، و"القرطبي" ٩/ ٣٦٢، و"الدر المنثور" ٤/ ١٤٥، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، و "تفسير الألوسي" ١٣/ ٢١٥.
(٣) أي ابن عباس.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢١، بلفظه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٠، و"الخازن" ٣/ ٧٧، و"الألوسي" ١٣/ ٢١٥ الكُشُوث: بالفتح وبالضم، وبالفتح أفصح، ويروى مقصوراً وممدوداً؛ الكَشوثى والكَشوثاء، قال الليث: الكَشوث نبات مجتث لا أجل له، وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك وغيره، ويجعل في النبيذ، وفي معجم متن اللغة، قال الشهابي: هو جنس نباتات طفيلية مضرّة، سُوقها صفر وشُقر، خيطية طوال تتف على حاضنتها وتنشب فيه زوائد ماصة تمص نسغه، لا ورق لها، ويسمى في مصر والشام: الهالوك، يقول الشاعر:
هو الكشوث فلا أصلٌ ولا ورقٌ ولا نسيمٌ ولا ظلٌ ولا ثمرٌ
انظر (كشث) في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣١٤٦، و"المحيط في اللغة" ٦/ ١٦١، و"الصحاح" ١/ ٢٩٠، و"اللسان" ٧/ ٣٨٣٠٨، و"التاج"، و"متن اللغة" ٥/ ٦٨.
469
أنس بن مالك: هي الحنظل (١)، فكما أنها أخبث الأشجار، فكذلك الشرك أخبث الكلمات، وكما أنه لا ينتفع بها كذلك الشرك لا ينتفع صاحبه.
وقوله تعالى: ﴿اجْتُثَّتْ﴾ قال ابن عباس: اقتلعت (٢)، وقال السدّىِ: انتزعت (٣)، وقال الضحاك: استؤصلت (٤)، وقال الزجاج: ومعني ﴿اجْتُثَّتْ﴾ في اللغة: أخذت جُثَّتُها بكمالها (٥).
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٢، بلفظه عن أنس، والطبري/ شاكر ١٦/ ٥٨٣، بلفظه عن أنس من عدة طرق، وورد بلفظه في "الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٦، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٢٧، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٤، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦١، و"الخازن" ٣/ ٧٧، و"الدر المنثور" ١٣/ ١٤٦ وعزاه إلى ابن مردويه والحنظل: معروف؛ وهو نبات مُرّ الجنى، واحدته حنظلة، ويسمى: الشَّرْيُ. انظر: "اللسان" (حنظل) ٢/ ١٠٢٥، و"متن اللغة" ٢/ ١٨٠. هذه عدة أقوال في تعيين الشجرة الخبيثة، والأرجح أنها شجرة غير معينة، ومن عيَّنها فهو على سبيل التمثيل، وضابطها الخبث؛ وقد يكون خبثها: لرائحتها، أو للونها، أو لهيئتها، أو لطعمها، أو لمضارها، أو.. انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٨/ ٢٣٨، والفخر الرازي ١٩/ ١٢١.
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٢، بلفظه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، بلفظ: اقتطعت، وورد بلا نسبة في: تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٢، والسمرقندي ٢/ ٢٠٦، والبغوي ٤/ ٣٤٩، "تفسير غريب القرآن" لابن الملقن ص ١٩٦، و"الدر المصون" ٧/ ١٠٠.
(٣) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، بلفظه، وورد بلفظه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٢.
(٤) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، بلفظه، وورد بلفظه غير منسوب في "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٠، و"غريب اليزيدي" ص ١٩٧، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٧، و"تفسير المشكل" ص ٢١٤، و"غرائب التفسير" ١/ ٥٧٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦١ بنصه، وانظر (جثث) في "تهذيب اللغة" ١/ ٥٣٨، و"المحيط في اللغة" ٦/ ٣٩٨، و"اللسان" ١/ ٥٤٣، و"عمدة الحفاظ" ١/ ٣٥٣.
470
وهذا قول المُؤَرِّج قال: أخذت جثتها وهي نفسها (١).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يريد ليس لها أصل تام، فهي فوق الأرض لم ترسخ فيها، ولم تضرب فيها بعرق، كذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا ثبات ولا شيء (٢).
وقوله تعالى: ﴿مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ قال المفسرون: أي من أصل في الأرض (٣)، والقرار مصدر سُمّي به المُسْتَقَر، وهذه الأشجار التي ذُكرت في (٤) تفسير الشجرة الخبيثة ليس لها مستقر في الأرض يبقى على الأرض فنفى أن يكون لها قرار لمّا كانت تتقلَّع بأدنى شيء، والكَشوث لا قرار له في الأرض بتّة، قال الزجاج: المعنى أن ذكر الله بالتوحيد يبقى أبدًا، ويبقى نفعُه أبدًا، وأن الكفر والضلال لا ثبوت له (٥).
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٢ ب، بلفظه، وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٢، وصديق خان ٧/ ١١١.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢١٣ بنحوه من طريق ابن أبي طلحة صحيحة، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٢ بنحوه، وانظر: "تفسير صديق خان" ٧/ ١١٢، وورد هذا المعنى غير منسوب في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦١، والفخر الرازي ١٩/ ١٢١.
(٣) ورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢١٣ بنصه، والسمرقندي ٢/ ٢٠٦، بلفظه، والماوردي ٣/ ١٣٥، بلفظه، وانظر:"غرائب التفسير" ١/ ٥٧٩، و"تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٩، وابن الجوزي ٤/ ٣٦١، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٢، وصديق خان ٧/ ١١١.
(٤) في جميع النسخ وردت (و) قبل (في)، وهي رائدة جعلت السياق مضطرباً، لذلك حذفت.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦١ بنصه.
471
٢٧ - قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين صدّقوا محمدًا - ﷺ - يثبتهم بالقول الثابت وهو لا إله إلا الله (١)، وهذا دليل على أنه أراد بالكلمة الطيبة كلمة الإخلاص؛ لأنه بعدما شبهها بالشجرة الطيبة التي لها أصل ثابت، سمّاها القول الثابت.
وقوله تعالى: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال المفسرون: يثبتهم بلا إله إلا الله في الحياة الدنيا على الحق والتمسك بالعُرَى (٢)، وإذا ثبتهم بها في الدنيا ثبتهم في الآخرة.
ومعنى ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: قال ابن عباس: يريد في القبر (٣)، وهذا قول عامة المفسرين؛ قالوا: إن هذه الآية وردت في فتنة القبر وسؤال الملكين، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، وتثبيته إياه بها على الحق (٤).
(١) انظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٢ بنحوه، وورد بنصه بلا نسبة في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٢.
(٢) ورد في "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٧ بنحوه، وأخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٢، والطبري ١٣/ ٢١٧ بنحوه عن ابن طاوس عن أبيه، وورد بنحوه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٠، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٦، والثعلبي ٧/ ١٥٢ ب، والماوردي ٣/ ١٣٥، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٤٩، وابن عطية ٨/ ٢٣٩، وابن الجوزي ٤/ ٣٦١، والخازن ٣/ ٧٨.
(٣) أخرج النسائي في تفسيره ١/ ٦٢٠ بنحوه من طريق سعيد بن جبير صحيحة، وانظر: "تفسير صديق خان" ٧/ ١١٣.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٢ بنحوه عن قتادة، والطبري١٣/ ٢١٦ - ٢١٧ بنحوه عن ابن مسعود والمسيب بن رافع والربيع وقتادة ومجاهد، وورد بنحوه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٠، عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٣ ب، عن ابن عباس، والماوردي ٣/ ١٣٣، وانظر: "تفسير =
472
وروى ذلك البراء بن عازب مرفوعًا، أن النبيّ - ﷺ - قال في قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ قال: "حين يقال من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّ محمد - ﷺ -" (١)، والباء في: ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ من صلة التثبيت، على ما بيّنا، ويجوز أن تكون من صلة آمنوا، علر، معنى: الذين آمنوا بلا إله إلا الله يثبتهم على الحق في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال ابن عباس: من دام على الشهادة في الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقِّنه إيّاها (٢)، وإنما فسّر الآخرة هاهنا بالقبر؛ لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا وصار (٣) مجزيًا بالحسنات والسيئات فدخل في أحكام الآخرة، قاله أبو بكر بن الأنباري، وقد أشار إلى هذا المعنى أبو إسحاق؛ فقال: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ لأن هذا بعد وفاته (٤)؛ يريد هذا السؤال.
وقوله تعالى: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ يعني: لا يُلقِّن (٥) المشركين
= البغوي" ٤/ ٣٤٩، وابن عطية ٨/ ٢٣٩، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٦١، وابن جزي ٢/ ١٤١.
(١) أخرجه بنحوه عن البراء بن عازب: ابن أبي شيبة في مصنفه: الجنائز/ القبر ٣/ ٥٦، والبخاري (٤٦٩٩) كتاب: التفسير، باب: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾، مسلم (٢٨٦٦) كتاب: الجنة ونعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار، أبو داود (٤٧٥٠) كتاب: السنة، والنسائي في "تفسيره" ١/ ٦١٩، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢١٤.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٢٢.
(٣) ساقطة من (أ)، (د).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٢ بنصه.
(٥) أي لا يوفق، كما في تفسيرالطبري ١٣/ ٢١٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٤.
473
[و] (١) الكافرين، حتى إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري، قال الفراء: يُضلهم عن هذه الكلمة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ أي من تثبيت المؤمن وتلقينه الصواب وإضلاله الكافر، قال الفراء: أي لا يُنْكَر له قدرة ولا يُسأل عما يفعل (٣).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ قال ابن عباس: يريد كفار قريش (٤)، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد، والضحاك (٥)، وقتادة قال: هم مشركو مكة، أنعم الله عليهم بالنبيّ - ﷺ -
(١) زيادة يقتضيها السياق، كما في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٤.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٧ ولفظه: أي عن قول لا إله إلا الله.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٧ بنصه، لكن فيه (لا تنكروا) بالنهي، وما ذكره الواحدي بالخبر هو الصواب المناسب للسياق؛ فالسياق ليس في الأمر والنهي بل هو خبر، ولعله وقع تصحيف في نُسخ المصدر.
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٣ ولفظه: فقال: قريش أو قال: أهل مكة، والبخاري: التفسير/ إبراهيم ٤/ ١٧٣٥ ولفظه: هم كفار أهل مكة، والنسائي في تفسيره ١/ ٦٢٣، ولفظه: هم أهل مكة، والطبري ٧/ ٤٥٤ بألفاظهم بعدة روايات، وقد أخرجوه كلهم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء صحيحة، وورد في "معاني القرآن" اللنحاس ٣/ ٥٣٢، ولفظه: هم قادة قريش يوم بدر، والطوسي ٦/ ٢٩٤ بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"٤/ ١٥٦، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل لم أجده. وهذه العبارات التي وردت عن ابن عباس لا تنافي بينها؛ لأنها وصف لشيء واحد ببعض صفاته.
(٥) "تفسير مجاهد" ص ٣٣٥ بنصه، وأخرجه الطبري ١٣/ ٢٢٢ بنصه وبنحوه عنهم من طرق، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٦ بنحوه عن سعيد ومجاهد، والطوسي ٦/ ٢٩٤ بنصه عنهم.
فكفروا به ودعوا قومهم إلى الكفر (١)، وذلك قوله: ﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ﴾ يعني: الذين اتبعوهم.
﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾: الهلاك، يقال رجل بائر، وقوم بُور (٢)، ومنه قوله
تعالي: ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: ١٢]، هذا قول جميع أهل اللغة (٣)، وأراد بـ ﴿دَارَ الْبَوَارِ﴾: جهنّم، ألا ترى أنه فسّرها فقال:
٢٩ - ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ أي: المقر، وهو مصدرٌ سُمي به.
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ قال ابن عباس: يريد من الحجارة والخشب وغير ذلك (٤)، ﴿لِيُضِلُّوا﴾: الناس عن دين الله، وقرأ الكوفيون بفتح الياء (٥) والمعنى: أنهم لم ينتفعوا بما اتخذوا من الأنداد،
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٢ عن قتادة، ولفظه: قال هم قادة المشركين يوم بدر، والطبري ١٣/ ٢٢٢ بنحوه من طريقين، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٦ بنحوه، والطوسي ٦/ ٢٩٤ بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٥٧ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وفي نسخة (ش)، (ع) زيادة (به) بعد كلمة الكفر، والكلام مستقيم بدونها.
(٢) البور: مصدر بار الشيء يبور بَوْراً: إذا هلك، والرجل بُور: أي هالك، الواحد والجمع فيه سواء، ويقال شيءٌ بائرٌ وبَأرٌ وبَوْرٌ وبُوْرٌ: أي فاسد. انظر: "الجمهرة" ١/ ٣٣٠، و"تهذيب اللغة" (بار) ١/ ٢٥٤، و"المحيط في اللغة" (بور) ١٠/ ٢٧٠.
(٣) انظر بالإضافة إلى المصادر السابقة: "غريب اليزيدي" ص ١٩٧، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٧، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٢، و"تفسير المشكل" ص ٢١٤، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٠٢، و"الدر المصون" ٧/ ١٠٣.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٦ بنصه.
(٥) لقد أخطأ الواحدي -رحمه الله- في ذلك، فالذين قرأوا بالفتح هم: ابن كثير وأبو عمرو ويونس -أحد رواة يعقوب- وهؤلاء ليسوا كوفيين. انظر: "التيسير" ص ١٣٤، =
ولم يتخذوها (١) إلا ليزيغوا عن الطريق المستقيم الذي نُصبت الأدلة عليه، وهذه لام العاقبة (٢)، وقد ذكرنا معناها في مواضع.
ثم أوعدهم بالعذاب فقال: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار﴾ قال ابن عباس في هذه الآية: لو صار الكافر مريضًا سقيمًا، لا ينام ليلاً ولا نهارًا، جائعًا لا يجد ما يأكل ويشرب، لكان هذا كله نعيمًا عندما يصير إليه من شدة العذاب، ولو كان المؤمن في الدنيا في أنعم عيشة لكان بؤسًا عندما يصير إليه من نعيم الآخرة (٣).
٣١ - وقوله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ قال الفراء: جُزمت ﴿يُقِيمُوا﴾ بتأويل الجزاء، ومعناه معنى أمرة كقولك: قل لعبد الله يذهب عنا، يريد: قل له: اذهب عنا، فجُزم بنية الجواب وتأويله الأمر، ومثل هذا قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا﴾ [الجاثيه: ١٤]، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣]، هذا كلامه (٤) ومعنى هذا أن (٥) قوله: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ معناه معنى الأمر؛ أي: قل لهم يقيموا الصلاة، إلا أنه أُجري على
= و"الموضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧١١، النشر ٢/ ٢٩٩، و"الإتحاف" ص ٢٧٢، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٤.
(١) في (أ)، (د): (يتخذوا) والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصحيح لانسجامه مع السياق.
(٢) يقول الفخر الرازي: هي لام العاقبة؛ لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٢٣.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٦ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٣.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٧، بتصرف يسير.
(٥) وردت (أن) قبل هذا في جميع النسخ، وهي زائدة أدت إلى اضطراب السياق، ولعلها من الناسخ، لذلك حذفت.
476
ظاهر اللفظ كأنه جواب قوله: ﴿قُلْ﴾، وزاد ابن الأنباري لهذا بيانًا فقال: هذا على معنى: قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة، فصُرف عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر، وجُعل كالجواب للشرط المقدَّر من الأمر، وهو أمر في الحقيقة (١).
ومعنى قول أبي بكر: جُعل (كالجواب للشرط المقدّر) (٢)، هو أن إلأمر معه شرط مقدّرة كقول القائل: أطع الله يدخلك الجنة، معناه: إن أطعته يدخلك الجنة، لذلك التقدير في هذه الآية: إن يقل لهم يقيموا، هذا ظاهر الكلام، وهو في المعنى أمر على ما بينّا.
وقال أبو إسحاق قوله: ﴿يُقِيمُوا﴾ مجزوم بمعنى اللام؛ كأنه ليقيموا إلا أنها أسقطت؛ لأن الأمر قد دل على الغائب بقُل، يقول: قل لزيد ليضْرب عمرًا، وإن شئت قلت: قل لزيد يضرب عمرًا، ولا يجوز: يضربْ زيدٌ عمرًا، بالجزم حتى يقول: لِيضربْ؛ لأن لام الغائب ليس هاهنا منها عوض إذا حذفتها، وذكر وجهًا ثالثًا؛ وهو أن يكون المعنى: قل لعبادي الذين آمنوا [أقيموا الصلاة] (٣) يقيموا الصلاة؛ لأنهم إذا آمنوا وصدّقوا
(١) لم أقف على مصدره، وأورده ابن الجوزي في "تفسيره" ٤/ ٣٦٣ بنحوه، وهذا القول قال به المازني كما في "إعراب القرآن" للنحاس ١٨٤، والمبرد في "المقتضب" ٢/ ٨٤.
وقد رجحه أبو البركات الأنباري في "البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٥٩، بينما ضعَّفه: العكبري في "الإملاء" ٢/ ٦٩، وأبو حيان ٥/ ٤٢٦، وابن هشام في "المغني" ص ٢٩٩.
(٢) ما بين القوسين من (ش)، وساقط من (أ)، (د)، (ع).
(٣) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وهي ثابتة في الأصل، والظاهر أنها ساقطة؛ لأن المعنى مضطرب بدونها.
477
فإن (١) تصديقهم بقبولهم (٢) أمر الله (٣)، فعلى هذا قوله ﴿يُقِيمُوا﴾ جواب أمر محذوف.
وقوله تعالى: ﴿يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ قال أبو عبيدة: البيع هاهنا: الفداء، والخلال: المخالَّة (٤)، قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء، ولا مخالَّة ولا قرابة، إنما هي أعمال يثاب بها قوم ويعاقب عليها آخرون (٥)، ومثل هذه الآية قوله: ﴿يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ﴾ في سورة البقرة [٢٥٤]، وقد مرّ.
وجميع أهل المعاني قالوا في الخلال هاهنا إنه: المُخالَّة (٦)، وأنشدوا قول امرئ القيس:
(١) في جميع النسخ (بأن) والمثبت مصَّوب من المصدر.
(٢) في جميع النسخ: (بقلوبهم)، وهو تصحيف، والمثبت هو الصحيح وموافق للمصدر.
(٣) معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٢ بنصه.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٤١، ولفظه قال: ﴿لَا بَيْعٌ فِيهِ﴾ مجازه: مبايعة فدية، ﴿وَلَا خِلَالٌ﴾: أي مُخالة خليل. الخُلّة: مُخالَّة الخليلين، وهي مصدر؛ يقال: خاللتُه مخالَّةً وخُلَّةً وخلالًا، وجمعها: خِلال، وهي الحُبُّ والمودةُ، وهي أخص من الصداقة.
انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ١٠٧، و"المحيط في اللغة" (خل) ٤/ ١٧٥، و"اللسان" (خلل) ٢/ ١٢٥٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١/ ١٩٣ ب، بمعناه، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٧ بنصه.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٤١، بلفظه، و"معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٠، بمعناه، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٣، بلفظه، وورد بلفظه في "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٩٨، و"الغريب" لابن قتيبة ١/ ٢٣٧، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٤، و"تفسير المشكل" ص ٢١٤.
478
ولسْتُ بمَقْلِيِّ (١) الخِلالِ ولاقَالَي (٢)
قال أبو علي: ويجوز أن يكون جمع خُلَّة مثل: بُرْمَة وبِرام (٣)، وعُلْبة وعِلاب (٤)، قال ابن الأنباري: ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧] فأثبت الخُلَّة للمتقين؛ لأن لذلك اليوم أحوالًا ومواطن مختلفةً، ففي بعضها يشتغل كل خليل عن خُلَّةِ خليله (٥)، يدل (٦) على ذلك قوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ١٠]، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس: ٣٤]، وفي بعضها يتعاطف أولياء الله بالمُخالَّة التي كانت بينهم.
(١) في جميع النسخ (بمُلْقِي) وهو تصحيف، والتصويب من الديوان وجميع المصادر.
(٢) وصدره:
صرفْتُ الهوى عنهُنّ من خشية الرّدى
"ديوان امرئ القيس" ص ١٢٦، وورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٣، و"شرح ديوان الحماسة" ٣/ ٣٢١، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٥ ب، وابن عطية ٨/ ٢٤٥، و"اللسان" (خلل) ٢/ ١٢٥٢، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٢٧، و"الدر المصون" ٧/ ١٠٨، (المقْلي) المُبْغَض، اسم مفعول، و (القالي): المُبْغِض، اسم فاعل، يريد أنه لم ينصرف عن الحسان لأنه أبغضهنّ، ولا لأنهنّ أبغضْنه، ولكن خشية الفضيحة والعار، فهو متيَّم بحبهنَّ ولكنه صرف هذا الحب عنهنّ خشية الهلاك، ولم ينصرف عنهنّ لسوءٍ في طباعه.
(٣) البُرْمة: قِدْر من حجارة، ويجمع بُرْم وبُرَم وبِرام. انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٣٢٩، "المحيط في اللغة" (برم) ١٠/ ٢٤٢.
(٤) "الحجة للقراء" ٢/ ٣٥٥، بتصرف. العُلْبة: وعاء من جلدِ جنب البعير يُسوى على هيئة القصْعة المدورة، كأنها نُحتت نحتاً أو خُرطت خرْطاً، يُحْتلب فط، وتُجمع عُلبًا وعِلابًا. انظر: "جمهرة اللغة" ١/ ٣٦٦، و"تهذيب اللغة" (علب) ٣/ ٢٥٤٢.
(٥) أقف على مصدره، وورد بنحوه غير منسوب في "تفسير صديق خان" ٧/ ١١٧.
(٦) ساقط من (د).
479
٣٣ - قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ قال ابن عباس: يريد ليُعرف النهار من الليل، والليل من النهار (١).
قال الزجاج: معناه دآئبين (٢) في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفْتُران (٣)، ومعنى الدؤوب في اللغة: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه، دأب يَدْأَبُ دأْبًا ودُؤُوبًا (٤) وقد ذكرنا هذا في قوله: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ [يوسف: ٤٧]
وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ قال ابن عباس: يريد لتبتغوا بالنهار من فضله وتقوموا بطاعته وفرائضه، واليل لتسكنوا فيه، وجعل ذلك راحة لكم (٥).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ قال أبو علي: المفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئًا أو مسؤولًا أو نحو ذلك، ومثله قوله: ﴿يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: ٦١] أي: شيئًا، فحذف المفعول، وكذلك قوله: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦] قال: ويجوز في قياس قول أبي الحسن (٦) أن يكون الجار والمجرور في موضع
(١) لم أقف عليه، والذي ذكره الطبري والثعلبي وغيرهما عن ابن عباس قولاً آخر؛ هو قوله: دؤوبهما في طاعة الله. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٥، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٥ ب، والبغوي ٣/ ٣٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٥٨.
(٢) في جميع النسخ: (آيتين)، والمثبت هو الصواب وموافق للمصدر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٣ بنصه تقريباً.
(٤) انظر: (دأب) في "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٢٧، و"المحيط في اللغة" ٩/ ٣٧٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣٢١، و"الصحاح" ١/ ١٢٣.
(٥) انظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٧، مختصراً.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٠٠، ورد القول مجملاً ففصَّله أبو علي.
480
نصب، وتكون (من) زيادة في الإيجاب كما تكون زيادة في غير الإيجاب (١)، وقال ابن الأنباري: تقدير الآية: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ وما لم تسألوه؛ لأنا لم نسأله شمسًا ولا قمرًا ولا كثيراً من نِعمه التي ابتدأنا بالإحسان إلينا بها، فاكتُفِي بالسؤال عن غير (٢) المسؤول؛ كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ (٣) [النحل: ٨١]، قال: ويجوز أن يكون المعنى: وآتاكم من كل ما تتمنُّون تشْتهون وتُؤثرون (٤)، قال الكسائى: العرب تقول إذا أتيت فلانًا أعطاك سُؤلك، وصرت منه إلى ما سألت، لا يعنون السؤال بعينه، ولكنهم يريدون ما يشتهي وَيتمنّى وُيؤثر، هذا كلامه (٥)، وأما مفعول الإيتاء فهو على ما ذكره أبو علي (٦).
(١) لم أقف على قوله، وانظر التعليق على القول بالزيادة في القرآن، عند آية [١٠]، من سورة إبراهيم.
(٢) يبدو لي أن (غير) زائدة، وقد أن إلى اضطراب المعنى؛ لأنه إنما اكتفى في الجواب عن المسؤول وإن أعطاهم غير ما سألوا، يؤيده ما استشهد به من القرآن وكلام العرب، حيث اكتفى بما سألوا وإن أعطاهم أكثر مما سألوا. والله أعلم.
(٣) والتقدير: "وسرابيل تقيكم البرد" فاكتفي بأحدهما لدلالته على الآخر. انظر: "الفريد في الإعراب" ٣/ ١٦٨.
(٤) "إيضاح الوقف والابتداء" ٢/ ٧٤٢، وعبارته مختلفة، قال: سألت أبا العباس عن هذا فقال لي: من أضاف أي (كل) إلى (ما) أراد: "وآتاكم من كل ما سألتموه لو سألتموه"، ومن نَوّن أي كلٍّ أراد: "آتاكم من كلٍّ لم تسألوه"، وذلك أنا لم نسأل الله شمساً ولا قمراً ولا كثيراً من نعمه. وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٨ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٥، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٥٧، وصديق خان ٧/ ١١٩.
(٥) لم أجده، وورد نحوه غير منسوب في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٣.
(٦) أي محذوف، وتقديره: من كل مسؤول شيئاً أو مسؤولاً.
481
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم الله عليه، يُنْعِم إنعامًا ونِعْمَةً، أقيم الاسم مُقَام الإنعام؛ كقولك: أنفقت عليه إنفاقًا ونفقةً، بمعنى واحد (١) ولذلك لم يجمع؛ لأنه في مذهب المصدر، ومعنى قوله: ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾: لا يأتوا على جميعها بالعَدِّ لكثرتها، بيانه قوله: ﴿وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: ٢٨] أي أحاط علمه باستيفاء عدد كل شيء.
وقال الكلبي: لا تحفظوها (٢)، وقال أبو العالية: لا تطيقون عدّها (٣)، والقولان قد فُسّر بهما (٤) قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠] قال الفراء: علم أن لن تحفظوا مواقيت الليل (٥)، وقال غيره: معناه: علم أن لن تطيقوه (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ قال ابن عباس: يريد: أبا جهل ظلوم لنفسه كفّار بنعمة ربه (٧)، وقال أبو إسحاق: هذا اسم للجنس، فقصد به الكافر خاصة؛ كما قال: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (نعم) ٤/ ٣٦١٥ بنصه.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٨، بلفظه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٨.
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٨ بنصه، وورد بنصه بلا نسبة في: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٧.
(٤) في (ش)، (ع): (فسرتها)، وفي (د): (فسرهما).
(٥) "معاني القرآن " للفراء ٣/ ٢٠٠ بنصه.
(٦) أخرجه الطبري ٢٩/ ١٤٠، بلفظه عن الحسن وسعيد وسفيان، وورد بلفظه في "تفسير المشكل" ص ٣٦٢، و"تفسير الماوردي" ٦/ ١٣٢، عن الحسن.
(٧) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٢٩ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٧، والخازن ٣/ ٨٠.
482
خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} فالإنسان غير المؤمن ظلوم كَفَّار (١)، قال المفسرون: ظلوم: كافرٌ شاكرٌ غيرَ من أنعم عليه، واضعٌ الشكر غير موضعه، ﴿كَفَّارٌ﴾: جحود لنعم الله (٢).
٣٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ تفسير هذا قد سبق في سورة البقرة (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ قال الكفراء: أهل الحجاز تقول: جَنبَنِي يَجْنُبُنِي خفيفة، وأهل نجد تقول: أجْنبَنِي شرَّه وجَنَّبَنِي شرَّه (٤)، ونحو هذا قال الكسائي (٥)، وقال الزجاج: أجْنَبْتُه كذا وكذا: جعلته ناحية منه وجانبًا، وكذلك جَنَّبْتُه وجَنَبْتُه (٦)، وأنشد أبو عبيدة لأُميّة بن الأَسْكَر:
وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقًا عَلَيْه وتَجْنُبُه قلائِصنا الصِّعَابَا (٧)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٤ بنصه
(٢) ورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٧ بنصه تقريباً، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٦ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٤، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٥.
(٣) آية: ١٢٦.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٨ بنصه تقريباً.
(٥) لم أقف على مصدره.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٤، بتصرف يسير.
(٧) ورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٢، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٢٨، والثعلبي ٧/ ١٥٦ ب، وورد في "الأغاني" ٢١/ ١٤، و"الخزانة" ٦/ ١٩، برواية:
تُمَسَّح مَهدَه شفقاً عليه وتَجْنُبُه أباعِرها الصِّعابا
(قلائص) جمع قَلُوص، قال أبو منصور: القَلُوص: الفتَّيةُ من النُّوق، بمنزلة الفتاة من النساء، وربما سموَّا الناقة الطويلة القوائم قَلُوصاً. انظر (قلص) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٣٢، و"الصحاح" ٣/ ١٠٥٤.
قال أبو إسحاق: ومعنى الدعاء من إبراهيم أن يُجَنَّبَ عبادة الأصنام، وهو غير عابد لها، على معنى: ثبِّتْنِي على اجتناب عبادتها؛ كما قال: ﴿وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨]، أي: ثبِّتْنا على الإسلام (١).
وقال غيره من أهل المعاني قوله: ﴿وَبَنِيَّ﴾ دعاء لمن أذن الله في أن يدعو له؛ فكأنه قال: وبنيَّ الذين أذنت لي في الدعاء لهم؛ لأن دعاء الأنبياء مستجاب، وقد كان من نسله من عبد الصنم (٢)، أو خص بهذه الدعوة أبناءه من صُلْبِه (٣).
والصَّنم: الصورة التي تُعْبَد، وجمعه أصنام (٤).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ قال أبو إسحاق وغيره: أي ضَلُّوا بسببها؛ لأن الأصنام لا تعقل ولا تفعل شيئًا؛ كما يقول: قد افْتَنَتْنِي هذه الدار؛ أي: أحْبَبْتُها واسْتَحْسَنْتُها وافْتُتِنْتُ بسببها (٥)، فلما ضل الناس بسببها صارت كأنها أضلتهم، فنُسِب الفعل إليها.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٤ بنصه.
(٢) وعلى هذا القول يكون دعاؤه من العام المخصوص. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٣ و"الدر المنثور" ١/ ٢٥٢.
(٣) لم أقف عليه في الكتب المطبوعة. وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٤، وابن عطية ٨/ ٢٥٠، والزمخشري ٢/ ٢٠٤.
(٤) الصَّنم معروف، وهو أخص من الوثن، والفرق بينهما؛ أن الصنم هو ما نحت على هيئة البشر، والوثن ما كان منحوتاً على غير هيئة البشر.
انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٥١، والفخر الرازي ١٩/ ١٣٣، والألوسي ١٣/ ٢٣٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٤ بنصه تقريباً.
484
وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي﴾ قال ابن عباس: يريد على ديني بالتوحيد لك والمعرفة بك (١).
وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ قال ابن الأنباري: يريد من المُتديِّنين بميني المتمسِّكين بحبلي؛ كما قال (٢):
إذا حاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُورًا فإني لَسْتُ منكَ ولَسْتَ مِنّي (٣)
أراد: ولستَ من المتمسِّكين بِحَبْلي (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [قال السّدي: معناه ومن عصاني ثم تاب (٥)، ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾] (٦) له إن تاب وإن آمن، لا أنه يقول: أن من كفر فإن الله يغفر له، وقال مقاتل: ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم (٧)، وشرح أبو بكر هذا فقال: معناه: فمن
(١) ورد بنحوه مختصرًا غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٠، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٥، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٦٨، و"الألوسي" ١٣/ ٢٣٥.
(٢) البيت لنابغة الذبياني.
(٣) "ديوان النابغة" ص ١٣٨، وورد في "الكتاب" ٤/ ١٨٦، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٢٥٢، و"الخازن" ٣/ ٨١، و"الدر المصون" (٢/ ٥٢٦) قال النابغة: هذه القصيدة ردًّا على عُيينة بن حصن الفزاري الذي دعاه قومه إلى مقاطعة بني أسد وتقض حلفهم لما قتلوا رجلين من بني عبس رداً على قتلهم نضلة الأسدي، فأبى عليه النابغة وتوعده بالمقاطعة إن حاول الإساعة إلى بني أسد. والمراد بالفجور: نقض الحلف.
(٤) لم أقف على مصدره، وورد بنصه غير منسوب في "تفسير الخازن" ٣/ ٨١.
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٦ ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٥، والفخر الرازي ١٩/ ١٣٤، والخازن ٣/ ٨١، والألوسي ١٣/ ٢٣٥، وصديق خان ٧/ ١٢٣.
(٦) ما ببن المعقوفين ساقط من (د).
(٧) مقاتل هنا هو ابن حيان، وقد وردت هذه العبارة بنصها منسوبة إليه في: "تفسير =
485
عصاني فخالف في بعض الشرائع، وعقْدُ التوحيد معه فإنك غفور رحيم، إن شئت تغفر له غفرت إذ كان مسلمًا (١)، وذكر وجهين آخرين، أحدهمما. أن هذا كان قبل أن يُعلِّمه الله أنه لا يغفر (٢) الشرك، كما استغفر لأبويه (٣)، وهو يُقَدِّر أن ذلك غيرُ محظور، فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما (٤). والآخر: ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم، يعني: أنك قادر على أن تغفر له وترحمه؛ بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام وتهديه إلى الصواب (٥).
= الثعلبي" ٧/ ١٥٦ ب، والبغوي ٤/ ٣٥٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٥، والخازن ٣/ ٨١، والألوسي ١٣/ ٢٣٥، وصديق خان ٧/ ١٢٣، وفي تفسير مقاتل بن سليمان ١/ ١٩٤ أ، قال: ومن عصاني فكفر فإنك غفور رحيم.
(١) وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة. انظر كتاب "التوحيد" لابن خزيمة ٢/ ٦٥٨، و"شرح العقيدة الطحاوية" ص ٣٦٣ - ٣٦٤.
(٢) في جميع النسخ (لا يغفرك) بزيادة الكاف، وقد أن إلى اضطراب المعنى، لذلك حذفت كما في "تفسير الخازن" ٣/ ٨٢.
(٣) هذا من باب التوسع في الكلام؛ لأن الآيات التي تحدثت عن استغفار إبراهيم عليه السلام ذكرت استغفاره لأبيه وحده. وانظر الكلام حول أُمّه عند آية (٤١) من هذه السورة.
(٤) هذا إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٣].
(٥) لم أقف على مصدره، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٥، مختصرًا، والخازن ٣/ ٨٢ بنصه. يتحصل بذلك أربعة أقوال في تأويل الآية، والأرجح: قول مقاتل، لصراحته وخلوه من التكلف، ويؤيده قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ١١٦] وهو ما رجحه الفخر الرازي دون الإشارة إلى أنه قول مقاتل، كذلك ضعف الأقوال الأخرى في تأويل الآية. انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٣ - ١٣٥.
486
٣٧ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ قال الفراء: ولم يأت منهم بشىء (١) يقع عليه الفعل، وهو حائز أن يقول: قد أصبنا من بنى فلان، وقتلنا من بني فلان، وإن لم يقل رجالاً؛ لأن (من) تؤدّي عن بعض القوم؛ كقولك: قد أصبنا من الطعام وشربنا من الماء، ومثله: ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ (٢) [الأعراف: ٥٠] قال أبو بكر: ويجوز أن يقال: إن (من) دخلت لتوكيد الكلام، والتقدير: ربنا إني أسكنت ذريتي (٣) كما قال ذو الرُّمّة:
تَبَسَّمْن عن نَوْرِ الأقَاحيِّ في الضُّحَى وفَتَّرْنَ من أبْصَارِ مضْرُوجةٍ نُجْلِ (٤)
(١) في (أ)، (د): (شيء) بدون الباء، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو موافق للمصدر.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٨ بنصه.
(٣) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٠ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٦، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١١٢، و"صديق خان" ٧/ ١٢٤.
(٤) رواية الديوان كما في "شرح ديوان ذي الرمة" ١/ ٤٦٦:
وتَبْسِمُ عن نَوْرِ الأقاحيِّ أقْفَرَتْ بوَعساءِ مَعْروفٍ تُغامُ وتُطْلَقُ
وليس في رواية الديوان شاهد، والشاهد في رواية المؤلف: (من) والتأويل: وفترن أبصار، بإسقاط (من) لأنها جاءت للتوكيد. وورد البيت في مادة (ضرج) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٠٧، و"اللسان" ٥/ ٢٥٧١، و"التاج" ٣/ ٤٢٢، وفي هذه المصادر اختلافان عن ما ذكره الواحدي هما: (الثرى) بدل (الضحى)، و (عن) بدل (من). وورد البيت في "الأساس" ٢/ ٤٦، باختلافين أيضاً (غُرّ) بدل (نَوْر)، و (الثرى) بدل (الضحى)، (النَّور) الزَّهرُ، (الأقاحيِّ) نبتٌ طيبُ الريح، زهره أبيضُ حَسَنٌ، فشبّه بياض أسنانها به، (مَضْروجة): الضَّرْج: الشَّق، قال أَبو عبيد: عينٌ مضْروجة: أي واسعةُ الشَّقِّ نجْلاء، والنْجلُ: سعة العين مع حُسْن. انظر (ضرج) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢١٠٧، و"اللسان" ٥/ ٢٥٧٠، و"التاج" ٣/ ٤٢١، و"المحيط في اللغة" (نجل) ٧/ ١٠٨.
487
وعلى ما ذكر الفراء (من) دخلت للتبعيض، والتأويل: إني أسكنت بعض ذريتي، وذلك أنه أنزل إسماعيل بعض ذرية إبراهيم، يدل على هذا قول ابن عباس في هذه الآية ﴿إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ يريد: إسماعيل (١)، ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ قال: يريد وادي مكة، ومكة كلها واد، والكلام في الوادي قد ذكرنا عند قوله: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ [الرعد: ١٧] والقول الأول: اختيار أبي علي، قال: معناه إني أسكنت من ذريتي ناسًا، فحذف المفعول لدلالة الإسكان عليه (٢).
وقوله تعالى: ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ قيل معناه: عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حتى رفعته أيام الطوفان؛ لأن إسكان الخليلِ إسماعيلَ مكة كان قبل بنائهما البيت، وقيل: عند بيتك المحرم الذي قد مضى في سابق علمك أنه يحدث في هذا الوادي (٣).
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ قال ابن عباس: يريد ليعبدوك (٤).
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾، أبو عبيد عن الأصمعي قال: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا، إذا سقط من عُلو إلى سفْل (٥)، وقال ابن الأعرابي: هَوَت
(١) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٣٠، من طريق سعيد بن جبير صحيحة، مع زيادة وأُمّه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٥/ ٤٧.
(٢) لم أقف على مصدره. وهو قول الفراء.
(٣) ورد بنصه في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٣٣، والثعلبي ٧/ ١٥٧ أ، انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٥٣، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٦، والخازن ٣/ ٨٣.
(٤) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٢، بلفظه.
(٥) ورد في "تهذيب اللغة" (هوى) ٤/ ٣٨١٣ بنصه، و"الصحاح" (هوى) ٦/ ٢٥٣٨ بنصه تقريباً.
488
العُقابُ (١) نَهْوِي هَوِيُّا بالفتح، إذا انقضّت (٢) على صيد أو غيره (٣)، وقال الفراء في هذه الآية: ﴿تَهْوِي إِلَيْهِم﴾ تريدهم؛ كما تقول: رأيت فلانًا يَهْوِي نحوك (٤)، معناه: تنحط إليهم وتنحدر وتنزل (٥)، يقال هوى الحجر من رأس الجبل يهوي، إذا انحدر وانصب (٦)، هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف.
فأما قول المفسرين؛ فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد تحِنّ (٧) إليهم زيارة بيتك (٨)، وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم إنما هو لحج البيت لا لأعيانهم، وفي هذا دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت، ودعاءٌ لسكان مكة (٩) من ذريته؛ لأنهم يرتفقون (١٠) بمن يأتي مكة لزيارة
(١) طير معروف، وهو من العِتاق؛ أي الجوارح، ويقع العُقاب على الذكر والأنثى. انظر: "اللسان" (عقب) ٥/ ٣٠٢٨.
(٢) (أ)، (د): (نفضت) من غير ألف وبالفاء، والمثبت من (ش)، (ع).
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (هوى) ٤/ ٣٨١٣ بنصه تقريبًا.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٨ بنصه.
(٥) هذا معنى الآية لا معنى القول، وهو قول ابن الأنباري كما في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٨، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٧، والخازن ٣/ ٨٣.
(٦) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٧ بنصه.
(٧) في (د): (نحو).
(٨) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٧، و"الخازن" ٣/ ٨٣، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٣.
(٩) في (د): (مكان).
(١٠) هكذا في جميع النسخ، وفي "تفسير الخازن" ٣/ ٨٣ (بأنهم ينتفعون)، وقد نقل المقطع من الواحدي، ويستقيم المعنى بالعبارتين، فعلى عبارة المخطوط (يرتفقون) مأخوذة من الرفق، بمعنى أن القلوب تحن إليهم بسبب ارتفاقهم بالزوَّار والحجاج لبيت الله العتيق، وعلى عبارة الخازن (ينتفعون) من الانتفاع؛ فهم ينتفعون ممن يقدم مكة حاجًّا أو زائراً.
489
البيت (١)، وقال قتادة في قوله: ﴿تَهْوِي إِلَيْهِم﴾: تنزع إليهم (٢)، وقال أبو إسحاق: أي: اجعل أفئدة جماعة من الناس تنزع إليهم (٣)، وهذا معنى قول مجاهد: لو قال: أفئدة الناس؛ لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند (٤)، وقال سعيد بن جبير: لو قال: أفئدة الناس؛ لحجت إليه اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: ﴿أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ﴾ فهم المسلمون (٥)، وقال ابن عباس في قوله: ﴿أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ﴾: يريد من المؤمنين من ذريته ومن غير ذريته.
وقوله تعالى: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ذكرنا تفسيره في سورة البقرة عند قوله: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٢٦].
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ قال: يريد كي يوحدوك ويعظموك.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ قال ابن عباس: وُلِدَ إسماعيلُ لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين
(١) انظر: "تفسير الخازن" ٣/ ٨٣، نقله بتصرف بزيادة وحذف، من بداية قول الأصمعي دون نسبتة للواحدي.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٣ بنصه، والطبري ١٣/ ٢٣٤ بنصه من طرق، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦١، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٥ بنصه.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة ٣/ ٤٣٠، والطبري ١٣/ ٢٣٤ من طرق، وليس فيهما ذكر الترك والهند، وورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٩ مثلهما، والثعلبي ٧/ ١٥٨ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٧، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٣، و"الخازن" ٣/ ٨٣، كلهم بنصه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦١، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٥) ورد في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٩ دون ذكر المجوس، والثعلبي ٧/ ١٥٨ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٧ بنصه، و"الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٧ بنصه.
سنة (١)، ووُلد له إسحاقُ وهو ابن مائة واثنتى (٢) عشرة سنة (٣).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ ذكره على النعت ولم يذكره على الفعل؛ لأن النعت ألزم وأكثر من الفعل، كأنه قال: رب اجعلني من عادتي إقامة الصلاة، ولو قال: اجعلني أقيم الصلاة، لم يكن فيه من المبالغة ما في المقيم، وذكرنا استقصاء هذا الفصل فيقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ الآية [الإسراء: ٢٩].
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ قال الزجاج: أي: واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة (٤)، وهذا كما ذكرنا في قوله: ﴿إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، وقوله: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ قال ابن عباس: يريد عبادتي (٥)،
(١) ساقطة من (د).
(٢) في جميع النسخ: (اثني)، وهو خطأ نحوي ظاهر.
(٣) ورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٥٨ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٧، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٥)، والخازن ٣/ ٨٣، والبقاعي ٤/ ١٩٢، و"الألوسي" ١٣/ ٢٤٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٥ بنصه. وانظر: "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٧.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٣، بلفظه، وانظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٣٩، وورد بنحوه بلا نسبة في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٣٥، والثعلبي ٧/ ١٥٨ ب، والبغوي ٤/ ٣٥٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٥، والألوسي ١٣/ ٢٤٣. صحيح أن الدعاء يرد بمعنى العبادة في القرآن والسنة، لكن لا دليل هنا بتخصيصه بالعبادة، بل هو الدعاء بالمعنى المعروف؛ أي الطلب والقصد، والسياق والسباق يؤيده، كما أن قول ابن عباس ورد بلا سند، وأغلب الظن أنه من الطرق الضعيفة، وقد فسرت الآية بالدعاء المعروف، في: "تفسير السمرقندي" =
وهذا كقوله - ﷺ -: "الدُّعاءُ مخُّ العبادة" (١).
٤١ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ قال أبو إسحاق: كان هذا الدعاء من إبراهيم لوالديه قبل أن يتبين له أن أباه عَدُوُّ للهِ (٢)، وقد ذكرنا ذلك في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ الآية. [التوبة: ١١٤] ولعل الأمّ كانت مسلمة، يدل على ذلك أنه ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أُمِّه (٣)، وقال ابن الأنباري: استغفر لأبويه
= ٢/ ٢٠٩، هود الهواري ٢/ ٣٣٤، و"الطوسي" ٦/ ٣٠٢، وابن عطية ٨/ ٢٥٦، وابن كثير ٢/ ٥٦١.
(١) أخرجه الترمذي (٣٣٧١) كتاب: الدعوات، باب: جاء في فضل الدعاء ٥/ ٤٥٦ بنصه عن أنس، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لَهيعَة، وأورده التبريزي في "المشكاة" ٢/ ٦٩٣، وابن حجر في "الفتح" ١١/ ٩٧، والمناوي في "فيض القدير" ٣/ ٥٤٠ ورمز له بالضعف، والهندي في "الكنز" ٢/ ٦٢، والعجلوني في "كشف الخفاء" ١/ ٤٨٥، وكلهم عزاه للترمذي، والحديث ضعيف بسبب انفراد ابن لهيعة بروايته كما ذكره الترمذي -رحمه الله-، وقد ضُعّف لسوء حفظه، ذكره البخاري والدارقطني والنسائي في الضعفاء. انظر "الضعفاء" لكل من النسائي ص ١٤٥، والدارقطني ص ٢٦٥ والبخاري ص ٦٥، و"تقريب التهذيب" ص ٣١٩ (٣٥٦٣)، و"الجرح والتعديل" ٥/ ١٤٥، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ١٨٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٥ بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٨. وهذا القول هو الراجح؛ لموافقته لآية التوبة ١١٤، وبعده عن التكلُّف كما في الأقوال التالية وقد صححه ابن جزي في "تفسيره" ٢/ ١٤٢، واختاره ابن كثير ٢/ ٥٩٥، ورجحه صديق خان في "تفسيره" ٧/ ١٢٩.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٨، والرازي ١٩/ ١٤٠، والخارن ٣/ ٨٤، والألوسي ١٣/ ٢٤٣، إسلام أمِّ إبراهيم روي عن الحسن -رحمه الله-[كما ذكر الألوسي] وليس هناك دليل ثابت علي إسلامها، لكن لمّا خصر والده بالاستغفار في جميع =
وهما حيّان طمعًا في أن يُهْدَيا إلى الإسلام ويَسْعَدا بالدين (١)، وقال غيره: استغفر لهما بشرط الإيمان (٢)، يدل عليه ما قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: من لقيك مؤمنًا مصدقًا فتجاوز عنه (٣)، وهو معنى قوله: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء (٤).
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد المشركين أهل مكة (٥)، وكان سفيان بن عيينة إذا قرأ هذه الآية قال: هذا تعزية للمظلوم، ووعيد للظالم (٦).
= الآيات الواردة بهذا الخصوص [التوبة: ١١٤، مريم: ٤٧، الشعراء: ٨٦، الممتحنة: ٤] ماعدا هذه الآية مع أن حقها مقدم على حق الوالد فيه إشارة على أنها كانت مسلمة والله أعلم.
(١) لم أقف على مصدره، وورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٣ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٦٩، وورد بلا نسبة في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٩، والزمخشري ٢/ ٣٨٢، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧١.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٨، و"الزمخشري" ٢/ ٣٠٦، و"ابن جزي" ٢/ ١٤٢، و"صديق خان" ٧/ ١٢٩، وقد ضَعّف الزمخشري هذا القول، وحجته أنه يأباه قول الله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤] لأنه لو شرط الإسلام لكان استغفاراً صحيحاً لا مقال فيه، فكيف يُستثنى الاستغفار الصحيح من جملة ما يؤتسى فيه بإبراهيم؟!!
(٣) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٣ بنصه.
(٤) ورد بلفظه في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٥، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٧، و"تفسير الماوردي" ٣/ ١٣٩، وانظر: "غرائب التفسير" ١/ ٥٨٢ ذكره واستغربه، و"تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٠٧، وابن الجوزي ٤/ ٣٦٩. وهو قول ضعيف فيه تكلُّف وبُعْد عن الظاهر.
(٥) لم أقف عليه، والتعميم أولى من التخصيص.
(٦) انظر: "الكشاف" ٢/ ٣٠٦، والرازي ١٩/ ١٤١، والخازن ٣/ ٨٤، والألوسي ١٣/ ٢٤٤.
وقوله تعالى: ﴿لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ قال شمر: يقال: شخص الرجلُ بصرَه، [وشخص البصرُ نفسُه، إذا سما وطَمَح وشَصا (١)، كلُّ ذلك مِثْلُ الشُّخُوصِ (٢).
وقال ابن السِّكِّيت: شَخَصَ بصرُهُ] (٣)، إذا فتح عينيه لا يَطْرِفُ (٤).
قال الفراء: أي لا يغتمض من هول ما يرى في ذلك اليوم (٥).
وقال ابن عباس: يريد يوم القيامة تشخص فيه أبصار الخلائق إلى الهواء، يريد: أنهم لعجائب ما يرون، ولشدة الحَيْرةِ والدووة لا يغْتَمضون (٦).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ قال أبو إسحاق: منصوب على الحال، المعنى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه أبصارُهُم مهطعين، فعلى ما ذكره الألف واللام في: ﴿الْأَبْصَارُ﴾ يدل على الكناية؛ لأن التأويل بأبصارهم على ما ذَكر، وأما تفسير الإهطاع (٧) فقال أبو عبيدة: هو
(١) انظر: "اللسان" (طمح) ٥/ ٢٧٠٢، (شصا) ٤/ ٢٢٥٩.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (شخص) ٢/ ١٨٤٠ نقله بنصه.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٤) "إصلاح المنطق" ص ٢٦٣ بنصه، وورد في "تهذيب اللغة" (شخص) ٢/ ١٨٤٠ بنصه، والطَّرْفُ: تحريك الجُفُونِ في النظر؛ يقال شخص بصرُه فما يَطْرِفُ. انظر: "المحيط في اللغة" (طرف) ٩/ ١٦٠.
(٥) لم أجد قوله في معانيه، وورد منسوباً إليه في "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٦، و"تفسير الشوكانى" ٣/ ١٦٤، وصديق خان ٧/ ١٣٠.
(٦) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٤ بنصه، وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٦، وورد نحوه بلا نسبة في "تفسير الرازي" ١٩/ ١٤١، والخازن ٣/ ٨٤، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٦٤، وصديق خان ٧/ ١٣٠.
(٧) في جميع النسخ (الانقطاع) وهو تصحيف ظاهر.
494
الإسراع (١)، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع، إذا أسرع (٢)، وهو اختيار الزجاج؛ قال: مهطعين: مسرعين، وأنشد (٣):
بِدِجْلةَ أَهْلُهَا ولَقَد أراهُمْ (٤) بِدِجْلةَ مُهْطِعِينَ إلى السّمَاعِ (٥)
قال: أي مسرعين (٦)، وأنشد أبو عبيدة:
بمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنّ زِمَامَه في رأسِ جِذْعٍ من أَوالَ مُشَذَّبِ (٧)
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٢٤ ولفظه: (مسرعين).
(٢) ورد بنصه في "تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٨، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٩ أ.
(٣) البيت ليزيد بن مُفزغ الحميري ت (٦٩ هـ).
(٤) في جميع النسخ (رآهم)، والمثبت موافق للديوان وجميع المصادر.
(٥) "ديوانه" ص ١٦٧، وورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٣، و"الوقف والابتداء" لابن الأنباري ١/ ٦٧، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٥٩، وفيها (دارُهم) بدل (أهلها)، وورد غير منسوب في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦، و"تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٨، و"الفريد في إعراب القرآن" ٣/ ١٧٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٦، و"اللسان" (هطع) ٨/ ٤٦٧٤، و"الدر المصون" ٧/ ١٢٠، و"عمدة الحفاظ" ٤/ ٢٩٤، والمعنى: أي أنهم مقبلون برؤوسهم إلى سماع الداعي.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦ بنصه.
(٧) ورد بلا نسبة في "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٢، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٥٩، وأبي حيان
٥/ ٤٢٩، و"الدر المصون" ٧/ ١٢٠، وورد فيها عِنَانَهُ (بدل) زمامه، وورد منسوباً
لأُنيف بن جَبَلة في "اللسان" (أول) ١/ ١٧٥ وليس فيه الشاهد، برواية:
أمّا إذا استقبلته فكأنّه للعين جِذعٌ من أَوال مُشذَّبُ
(السُّرحُ): السرعة، يقال ناقةٌ سُرُحٌ ومُنْسرحةٌ في سيرها: أي سريعة، (أَول): بفتح أوله، قرية بالبحرين، وقيل جزيرة، فإن كانت قرية فهي من قرى السِّيف، ويشهد له قول ابن مقبل:
عَمَد الحُداةُ بها لغارضِ قِريةٍ وكأنها سُفُنٌ بِسيْفِ أَوالِ
(الشَّذبُ) القُشورُ، وجذعٌ مُشَذَّبٌ: أي مقشّر؛ إذا قَشَرْت ما عليه من الشوك، =
495
قال أبو عبيدة: أهطع وهطع إذا أسرع مقبلًا خائفًا، لا يكون إلا مع خوف (١)، وقال أحمد بن يحيىَّ: المُهطِعُ الذي ينظر في ذُلٍّ وخشوعٍ (٢)، وقال ابن جريج: المهطع الساكت المنطلق إلى الهُتافِ إذا هتف هاتفٌ (٣) وقال الليث: يقال للرجل إذا أقرَّ وذلَّ قد أهطع (٤)، وأنشد:
ونِمْرُ بن سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهطِعُ (٥)
فهذه أربعة أقوال لأهل اللغة في تفسير هذا الحرف، وأما قول
= والمِشْذَبُ: المِنْجَلُ الذي يُشْذَّبُ به.
انظر: "معجم ما استعجم" ١/ ٢٠٨، و"اللسان" (شذب) ٤/ ٢٢١٩، و"التاج" (سرح) ٤/ ٨٥.
(١) ليس في مجازه، وورد في "جمهرة اللغة" ٢/ ٩١٧ بنصه تقريباً، و"تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٩ بنصه، وهو مصدره.
(٢) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٤١، و"الدر المصون" ٧/ ١٢٠، و"عمدة الحفاظ" ٤/ ٢٩٤، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٦٤، وصديق خان ٧/ ١٣١، وورد في "تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٨ بنصه منسوباً لأبي الفضل المنذري، وأغلب الظن أنه يرويها عن ثعلب؛ لأن كثيراً من روايات ثعلب يرويها الأزهري عن طريق شيخه أبي الفضل المنذري. انظر مثلاً روايته لقنع عنه، في "تهذيب اللغة" (قنع) ٣/ ٣٠٦١.
(٣) ورد بنصه غير منسوب في "اللسان" (هطع) ٨/ ٤٦٧٤.
(٤) ورد في "تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٨بنصه.
(٥) وصدره:
تَعبَّدنِي نِمْرُ بنُ سعدٍ وقد أُرى
ورد البيت منسوباً إلى تُبَّع في "الإتقان" ٢/ ١٠١، وورد بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (هطع) ٤/ ٣٧٦٨ و"الصحاح" (عبد) ٢/ ٥٠٣، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٩ أ، و"الماوردي" ٣/ ١٤٠، و"الأساس" ٢/ ٥٤٨، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧٣، و"اللسان" (عبد) ٥/ ٢٧٧٩.
496
المفسرين: فقال سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة: مسرعين (١)، وقال سعيد عن قتادة: منطلقين عامدين إلى الداعي (٢)، وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قولى: ﴿مُهْطِعِينَ﴾ ما الإهطاع؟ قال: النظر (٣)، وفي ذلك يقول الشاعر (٤):
إذا دَعَانَا فأهْطَعْنا لدَعْوته داعٍ سميعٌ فَلَفُّونَا وسَاقُوْنا (٥)
وهذا قول مجاهد والضحاك والكلبي والعوفي عن ابن عباس قالوا: ناظرين مديمي النظر من غير أن يطرفوا (٦)، ونحو ذلك قال أبو الضحى؛
(١) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٣، بلفظه عن قتادة، والطبري ١٣/ ٢٣٧ بلفظه عن قتادة، وبمعناه عن سعيد، وورد بلفظه في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٨، عن قتادة. "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٠، عن قتادة، والماوردي ٣/ ١٤٠، عنهم، و"الطوسي" ٦/ ٣٠٣ عنهم، وأورده اليوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٣، وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن قتادة.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٣٧ بنصه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٨ ب بنصه.
(٣) ورد في "الوقف والابتداء" لابن الأنباري ١/ ٨٧، وانظر: "الدر المنثور" ٤/ ١٦٣.
(٤) هو عمران بن حطان من رؤوس الخوارج (ت ٨٤ هـ).
(٥) ورد في "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري ١/ ٨٨، و"تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٥٩، وأبي حيان ٥/ ٤٢٩، وورد بلا نسبة في "الدر المصون" ٧/ ١١٩، و"الدر المنثور" ٤/ ١٦٣، (لَفَّ): بمعنى جمع. انظر: "اللسان" (لفف) ٧/ ٤٠٥٤.
(٦) "تفسير مجاهد" ص ٣٣٦ مختصراً، ولفظه: مديمي النَّظَر، أخرج الطبري ١٣/ ٢٣٧ مختصراً وبنحوه عنهم ماعدا الكلبي، وورد في: "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٨ مختصراً، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٠ مختصراً، والثعلبي ٧/ ١٥٩ أ، عن مجاهد قال: مديمي النظر، وعن ابن عباس والضحاك قال: شدة النظر من غير أن يطرفوا، وعن الكلبي قال: ناظرين، و"الماوردي" ٣/ ١٤٠ بنحوه عن ابن عباس والضحاك، وورد في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٣، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم عن مجاهد.
497
قال: الإهطاع من التَّحْمِيج (١) الذي زدتُم (٢) النظر ولا يَطْرِف (٣).
وهذه الأقوال توافق ما حكينا من أهل اللغة، والجامع لهذه الأقوال قول من قال الإهطاع: إسراعٌ مع إدامة نظر (٤).
وقوله تعالى: ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ قال ابن السكَيت: أقنع رأسه إذا رفعه (٥)، قال النضر: أقنع فلانٌ رأسه، وهو أن يرفع بصره ووجهه إلى السماء، قال: والمقنع: الرافع رأسه إلى السماء (٦)، وقال أحمد بن يحييَّ: الإقناع: رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع (٧).
ومنه ما روي عن النبيّ - ﷺ - أنه قال: "تُقْنِع يديك في الدعاء". أي: ترفعهما (٨).
(١) في جميع النسخ (التجميح)، وهو تصحيف، والصحيح المثبت، وهو موافق للطبري، يقال: حَمَّجَ تحميجاً، أي نظر بخوف، وتحميج التعيين: غؤُورُهما. انظر: "المحيط في اللغة" (حمج) ٢/ ٤١٨.
(٢) في (أ): (ررتم)، وفي (ش): (زُتم)، والمثبت من (د)، (ع).
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٣٧ بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٨، بمعناه، انظر: "تفسير ابن عطية" ٨/ ٢٦٠.
(٤) وهو قول أبي عبيدة، نسبه إليه النحاس في معانيه ٣/ ٥٣٨، ولفظه بعد أن ذكر قولين قال: قال أبو عبيدة: وقد يكون الوجهان جميعاً، يعني: الإسراع مع إدامة النظر. اهـ. ولم أجده في مجازه، والذي فيه: مهطعين: أي مسرعين ١/ ٣٤٢، وكذلك نسبه إليه ابن عطية ٨/ ٢٦٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٦، وأخطأ المحقق بنسبته إلى أبي عبيد.
(٥) "إصلاح المنطق" ص ٢٣٨ بنصه، وانظر: "تهذيب اللغة" (قنع) ٣/ ٣٠٦٠ بنصه.
(٦) "تهذيب اللغة" (قنع) ٣/ ٣٠٦١، نقله بنصه.
(٧) "تهذيب اللغة" (قنع) ٣/ ٣٠٦٠، نقله بنصه.
(٨) لم أقف على هذا اللفظ، وورد بنحوه من طريقين، ونصه: قال رسول الله - ﷺ -: "الصلاة مثنى مثنى، تشهَّدُ في ركعتين، وتخَشَّعُ وتَضَرَّعُ وتَمَسْكن ثم تُقْنِعُ يديك، =
498
وقال أبو إِسحاق: المقنع الرافع (١)، وأنشد للشمَّاخ:
يُبَاكرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ نَوَاجِذُهُنَّ كالحدأِ الوَقِيعِ (٢)
أراد بأفواه مرفوعات إلى العِضَاة، يصف إبلًا ترعى الشجرَ، شبَّه أنيابها بالفؤوس المحدُودة، والحِدأُ: الفؤوس بالكسر، وعند الكوفيين الحَدَأُ بالفتح جمع حَدَأة، فهما لغتان (٣)، ونحو ما قال أهل اللغة قال
= يقول: ترفعهما.. " أخرجه أحمد ١/ ٢١١، والترمذي: (٣٨٥) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التَّخشُّع في الصلاة، كلاهما من طريق الليث بن سعد عن الفضل ابن العباس عن النبيّ - ﷺ -، وأخرجه أبو داود (١٢٩٥) كتاب: الصلاة، باب: صلاة النهار، والبيهقي في السنن: الصلاة/ صلاة الليل والنهار مثنى ٢/ ٤٨٨ كلاهما من طريق شعبة عن المطلب عن النبي - ﷺ -، قال الترمذي: سمعت البخاري يقول: رواية الليث بن سعد أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضع، ثم ذكرها. انظر: "علل الترمذي" ١/ ٢٥٨ - ٢٥٩ وقد حسّن إسناد الليث أبو حاتم في "علل الحديث" لابن أبي حاتم ١/ ١٣٢، وقال صاحب "تحفة الأحوذي" ٢/ ٣٢٨ قال ابن حجر: إسناده حسن. والصحيح أن الحديث ضعيف كما أشار صاحب التحفة نفسه لأن مداره على عبد الله بن نافع، وهو مجهول، وقال البخاري: لم يصح حديثه. انظر: "التاريخ الكبير" ٥/ ٢١٣.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦، بلفظه.
(٢) "ديوان الشمّاخ" ص ٢٢٠، وورد في "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٣، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٣٨، و"معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦ "تهذيب اللغة" (حدا) ١/ ٧٥٥، و"تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٥٩أ، والطوسي ٦/ ٣٠٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٧، و"اللسان" (قنع) ٦/ ٣٧٥٦، وفي رواية الديوان والزجاج والثعلبي: (يُبَادرْنَ) بدل (يباكرن)، (يباكرن) يبادرن ويعاجلن، (العضاه) هي شجر الشوك؛ واحدها عِضَة وعِضَهَة وعِضَاهَة، (المُقْنَعات) جمع مقْنَع، والمحضع من الإبل: الذي يرفع رأسه خِلْقةً (النواجذ) الأضراس، (الوقيع): المحدَّدة والمرقَّقة بالمِيْقَعة، أي المطرقة. انظر: "المحيط في اللغة" (عضة) ١/ ١٠٩، و"اللسان" (قنع) ٦/ ٣٧٥٤.
(٣) انظر: "إصلاح المنطق" ١٤٩، و"المنتخب من غريب كلام العرب" ١/ ٣٣٣، =
499
المفسرون في الإقناع، قالوا: ﴿مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾: رافعي رؤوسهم، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد (١)، قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر؛ فهي شاخصة والطَرْفُ: تحريك الجفون في النظر، يقال: شخص بصره فما يَطْرِف (٣)، والطرْفُ: اسم جامع للبصر لا يُثنَى ولا يُجمع (٤).
وتأويل قوله: ﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أي: نظرهم إلى شيء واحد، فكأن ذلك الشيء الذي ينظرون إليه قد ذهب بنظرهم نحوه؛ فليسوا ينظرون إلى غيره، هذا معنى قولنا: لا يرجع إليهم نظرهم.
= و"جمهرة اللغة" ٢/ ١١٠٧، و"تهذيب اللغة" (حدا) ١/ ٧٥٤، و"المحكم" لابن سيده (حدأ) ٣/ ٣١١، و"العباب الزاخر" أ/ ص ٤٠.
(١) "تفسير مجاهد" ص ٣٣٦ بنصه، أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٣ بنحوه عن قتادة، والطبري ١٣/ ٢٣٨ - ٢٣٩ بنصه عن الضحاك وابن عباس من طريق العوفي ضعيفة، وبنحوه عن مجاهد وقتادة وابن زيد.
وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٣٨ بنحوه عن مجاهد وقتادة، و"الماوردي" ٣/ ١٤١ بنصه عن ابن عباس ومجاهد.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٣٩ بنصه، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٥٩ أبنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٩، وابن عطية ٨/ ٢٦٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٧، والخازن ٣/ ٨٥.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (طرف) ٣/ ٢١٨٠ بنصه، وهو قول الليث، وانظر: "المحيط في اللغة" (طرف) ٩/ ١٦٠.
(٤) المصدر السابق بنصه.
500
وقوله تعالى: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد خرجت القلوب من مواضعها فصارت في الحناجر (١)، ونحو هذا قال قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم (٢)، فعلى هذا، الأفئدة: أريد بها مواضع القلوب، وذهب قوم من أهل اللغة إلى الفرق بين القلب والفؤاد؛ فقال الليث: القلب مضغةٌ من الفؤاد معلَّقة بالنيَّاط (٣).
وقال النبيّ - ﷺ -: "أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ قلوبًا وألينُ أفئدة" (٤)،
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٥ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧١، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧٤.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٤٣، بمعناه، والطبري ١٣/ ٢٤١ بنصه، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٧/ ١٥٩ ب بنصه، والماوردي ٢/ ٣٤٣ بنحوه، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٤، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٣) ورد في "تهذيب اللغة" (قلب) ٣/ ٣٠٢٦ بنصه. والنياط: عِرقٌ غليظٌ معلق بالقلب. انظر: "المحيط في اللغة" (نوط) ٩/ ٢٢٠.
(٤) أخرجه بنحوه عن أبي هريرة أحمد ٢/ ٢٣٥، ٢٥٢، ٦٦٧، ٢٧٧، ٣٨٠، البخاري (٣٤٨٨) المغازي/ قدوم الأشعريين، البخاري في "التاريخ الكبير" ١/ ١٥٩، ومسلم (٥٢): الإيمان/ تفاضل أهل الإيمان ورجحان أهل اليمن فيه ١/ ٧٢، والبيهقي في السنن: الصلاة/ ما يستدل به على ترجيح قول أهل الحجاز وعملهم ١/ ٣٨٦، وورد في "تهذيب اللغة" (قلب) ٣/ ٣٠٢٦ بنصه، و"مشكاة المصابيح" المناقب، ذكر اليمن والشام ٣/ ١٧٦٥، و"كنز العمال" ١٢/ ٤٧ كلاهما عزاه للصحيحين، وُيُرَدّ على الواحدي في استدلاله بالحديث على أن القلب أخص من الفؤاد - لوصف الحديث القلوب بالرقة والأفئدة باللين أن كل الروايات التي وقفت عليها والتي جمعت بين القلوب والأفئدة إنما وصفت القلوب باللين والأفئدة بالرقة أي عكس ما ذكر ولم يوصف القلب بالرقة إلا في روايتين لأحمد ورواية للبخاري في تاريخه، وهذه الروايات ذكرت القلب وحده، فلا شاهد فيها، بل ذهب النووي إلى عكس قول الواحدي؛ فجعل الفؤاد أخص من القلب، فقال: وقيل الفؤاد غير القلب، وهو عن القلب وفي باطن القلب وقيل غشاء القلب. انظر: "صحيح =
501
فوصف القلوب بالرقّة والأفئدة باللين، وكأن القلب أخصُّ منا لفؤاد، ولذلك قالوا: أصبت حبة قلبه (١)، والهواء: ما بين السماء والأرض (٢)، والعرب تسمّي كل خالٍ هواء (٣)، يقولون: بيت هواء، إذا كان خاليًا قفْرًا لا شيء فيه، والمعنى في الآية: أن قلوبهم ارتفعت إلى حناجرهم من فزع ذلك اليوم وهوله، وبقي موضعها هواء لا شيء فيه كهواء ما بين السماء والأرض، ولهذا المعنى قالوا للجبان: مُجوَّفٌ هواء، أي أنه لا قلب له، ومنه قول حسان:
فأنْتَ مُجوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ (٤)
= مسلم بشرح النووي ٢/ ٣٤، ولعل سبب مخالفة رواية الواحدي لروايات كتب السنة التي ذُكِرت، أنه قد اعتمد في نقل هذا الحديث والتعليق عليه على كتاب "تهذيب اللغة"؛ وكتب اللغة ليست دقيقة في نقل الأحاديث كالكتب المتخصصة.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (قلب) ٣/ ٣٠٢٦ بنصه.
(٢) انظر: (هوى) في "الصحاح" ٦/ ٢٥٣٧، و"اللسان" ٨/ ٤٧٢٦.
(٣) ورد بنحوه في: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٤١، و"الثعلبي" ٧/ ١٥٩ ب.
(٤) وصدره:
ألا أبلغ أبا سفيان عني
"ديوان حسان" ص ٩، وورد في: "مجاز القرآن" ١/ ٣٤٤، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٤١، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٤١، و"تهذيب اللغة" (جاف) ١/ ٥٢٢، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٩ ب، والماوردي ٣/ ١٤١، والزمخشري ٢/ ٣٠٧، وابن الجوزي ٤/ ٣٧١، وابن عطية ٨/ ٢٦٢، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٧، والبقاعي ٤/ ١٩٤، و"العباب الزاخر" ف/ ٧٧. (المُجوَّف) الجبان الذي لا قَلْب له، كأنه خالي الجوفِ من الفؤاد، (النَّخْبُ) الضعف، يقال رجلٌ نخِبُ الفؤاد ومَنْخُوبٌ: أي جبان. انظر: "المحيط في اللغة" (نخب) ٤/ ٣٦١، و"اللسان" (جوف) ٢/ ٧٢٨. وفي هذا البيت يصف حسّان أبا سفيان بالجبن والضعف، وأغلب الظن أنه كان قبل أن يسلم رضي الله عنهما.
502
وقال زهير يصف ناقة:
كأنّ الرَّحْلَ منها فَوقَ صَعْلٍ من الظِّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَواءُ (١)
أي لا قلب في صدره فهو خال، وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: أن قلوبهم عما ذهلوا من الفزع خلت عن العقول، وهو معنى قول ابن عباس في رواية العوفي، وبه قال مجاهد، ومُرَّة، وابن زيد، واختاره الأخفش؛ فقال في قوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ أي جَوْفٌ لا عقول لها ولا خير فيها (٢)، وعلى هذا القول، المراد بالأفئدة: القلوب، وهو الصحيح في اللغة (٣)، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦] يعني القلب، وقال امرؤ القيس:
رَمَتْني بسَهْمٍ أصابَ الفُؤادَ غداةَ الرَّحِيل فلم أشهر
يعني أصاب قلبي، الأزهري: ولم أرهم يفرقون بينهما (٤)، ويحتاج
(١) "شرح ديوان زهير" ص ٦٣، وورد البيت في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦، مع اختلاف يسير في كلمتين: (الظلماء) و (جؤجؤها)، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٤٠، و"تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٩ ب، والزمخشري (٢/ ٣٠٧ (عجزه))، وابن عطية ٨/ ٢٦٢، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٨، وأبي حيان ٥/ ٤٣٠، و"الدر المصون " ٧/ ١٢٣. (الرحْل) ما يوضع على ظهر البعير للركوب عليه، (الصَّعْل) الدقيقُ الحُنُق الصغيرُ الرأس، (الظلمان) جمع ظليم وهو ذَكَر النَّعام، (جؤجؤه) صدره، (هواء) لا مخَّ فيه، وقال الأصمعي: جؤجؤه هواء: أي أنه مُنْتَخَبُ العقل [أي جبان] وإنما أراد أنه لا عقل له، وكذلك الظَّليمُ هو أبداً كأنه مجنون.
(٢) لم أجده في معانيه، وورد في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥٩ ب بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٥٩.
(٣) وهذا القول هو الذي رجحه الطبري ١٣/ ٢٤١، وأيَّده ببيت حَسَّان السابق.
(٤) لم أجده في "تهذيب اللغة"، وكلامه هذا يتناقض مع استشهاده بحديث: (أتاكم أهل اليمن)؛ حيث فرق بين القلب والفؤاد، إلا أن يكون هذا من كلام الواحدي =
503
في هذا التفسير إلى تقدير المضاف، كأن المعنى: وأفئدتهم ذات هواء؛ أي خالية.
٤٤ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ هذا عطف على قوله: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا﴾ لأنه قد تمَّ وصف الكفار وحالهم عند البعث في القيامة، ثم عاد إلى خطاب النبيّ - ﷺ - وأمره بالإنذار فقال: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ قال ابن عباس: يعني أهل مكة (١)، قال: ولو أن أهل مكة اتبعوا النبي - ﷺ - ما اختلف عليه اثنان، قال: ويقال لو آمن الوليد بن المغيرة ما تخلَّف عن رسول الله - ﷺ - أحد.
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ (يوم) مفعول به، والعامل فيه أنذرهم؛ كما يقول: خوّفه العقاب وخوّفه الهلاك، ولا يكون على الظرف؛ لأنه لم يؤمر بالإنذار في ذلك اليوم (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَيَقُولُ﴾ عطف ﴿يَأْتِيهِمُ﴾؛ يعني: فيقولون في ذلك اليوم، ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قال ابن عباس: يريد أشركوا (٣)، ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ استمْهَلوا مدةً يسيرة لكي يجيبوا الدعوة ويتبعوا الرسل، قال ابن عباس: يريدون الرجعة إلى الدنيا، وهذا معنى وليس
= الواحدي، وكلمة الأزهري صفة للقلب لا أنها علم، وهو محتمل.
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٥ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٢، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٧٨، والأولى حمل الآية على العموم، لعدم وجود مخصص.
(٢) انظر: "البيان في غريب الإعراب" ٢/ ٦١، و"الإملاء" ٢/ ٧٠، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧٤.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٧٤، بلفظه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٠، والبغوي ٤/ ٣٥٨، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٢.
504
بتفسير، وذلك أنهم لما استَمهَلوا للإجابة صار كأنهم قالوا: أرجعنا إلى الدنيا أيامًا؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، وإنما كُلِّفوا الإجابة في دار [الدنيا فيجابون عن هذا الاستمهال، ويقال لهم: ﴿أَوَلَمْ يكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ] (١) زَوَالٍ﴾ قال مجاهد: أي من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة (٢)؛ أي لا تبعثون.
قال ابن عباس: يريد حلفتم في الدنيا أنكم لا تبعثون (٣)، وهو قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨].
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ قال المفسرون: يعني الأممَ الكافرة قبلهم؛ قومَ نوح وعاد وثمود، ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية (٤)، وهذا احتجاج عليهم؛ يقول: كان ينبغي أن ينزجروا ويرتدعوا اعتبارًا بمساكنهم، بعد ما تبيّن لكم كيف فعلنا بهم، ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ قال ابن عباس: يريد الأمثال التي في القرآن (٥).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع).
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٤٢ بنصه، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٤٢ بنصه، والطوسي ٦/ ٣٠٥.
وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٩٦، والألوسي ١٣/ ٢٤٨.
(٣) ورد بنصه غير منسوب في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٢.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٤٣ بنحوه عن قتادة، وبمعناه عن ابن زيد، وورد في السمرقندي ٢/ ٢١٠ بنحوه، والثعلبي ٧/ ١٤٩ ب بنصه، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٦٠، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٢، والفخر الرازي ١٩/ ١٤٣.
(٥) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٢ بنصه.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ [يعني مكرهم بالنبيّ - ﷺ - وما همُّوا به من قتله أو نفيه (١). ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ (٢) أي قد عرف الله مكرهم، وهو عالم به لا يخفى عليه ما فعلوا، فهو يجازيهم عيه، وقال أبو علي: وعند الله جزاءُ مكرِهم فحذف المضافَ كما حُذف من قوله: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الشورى: ٢٢] أي: جزاؤه.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ (إن) هاهنا يعني بها: ما، واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد، ومن سبيلها نصبُ الفعل المستقبل، والنحويون يسمونها لام الجحود (٣)، ومثله قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُم﴾، و ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ﴾ [آل عمران: ١٧٩] والجبال هاهنا مَثلٌ لأمر النبيّ - ﷺ - وأمرِ دين الإسلام وأعلامِه ودلالتِه، على معنى أن ثبوته كثبوت الجبال الراسية؛ لأن أدته تعالى قد وعد نبيه - ﷺ - إظهار دينه على كل الأديان، ويدل على صحة هذا المعنى قوله بعدُ: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ أي (٤): فقد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم ومعنى الآية:
(١) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١١، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٤، والفخر الرازي ١٩/ ١٤٤، والخازن ٣/ ٨٥.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ش)، (ع).
(٣) هي لام زائدة بعد كون منفي -كان يكون- فينُصبُ المضارعُ بعدها بـ (أنْ) المضمرة، وهي حرف مبني على الكسر لا محل له من الإعراب، ويسميها سيبويه (لأم النفي) ولها عدة شروط.
انظر: "المغني" ص ٢٧٨، و"الشامل" ص ١٩٦، و"معجم القواعد العربية" للدقر ص ٤٠٠.
(٤) ساقطة من (ش)، (ع)، وهي ثابتة في المصدرة "الحجة للقراء" ٥/ ٣٣.
506
وما كان مكرهم ليزول منه ما هو مثلُ الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته (١)، هذا الذي ذكرنا معنى قول الحسن: كان مكرُهم أوهنَ وأضعفَ من أن تزول منه الجبال (٢)، قال: و (إن) هاهنا بمعنى (ما) (٣)؛كقوله: ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (٤) [الأنبياء: ١٧] وقول: ﴿فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ (٥) [الأحقاف: ٢٦]، وهو كثير، وهذا القول اختيار أبي إسحاق (٦) وأبي بكر وأبي علي (٧).
قال أبو علي: وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا، في تعظيم الشيء وتفخيمه (٨)، قال ابن مُقبل:
إذا مِتُّ عن ذِكرِ القوافي فَلَنْ تَرَى لها شَاعِرًا مِثلي أطَبَّ وأَشْعَرَا
وأكثرَ بَيْتًا شَاعِرًا ضُرِبَتْ به بُطُون جِبَالِ الشِّعْرِ حتَّى تَيَسَّرا (٩)
(١) نقل طويل من "الحجة للقراء" ٥/ ٣١ - ٣٣ من قوله: قال أبو علي، تصرف فيه بالاختصار والتوضيح، والتقديم والتأخير.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٤٧ بنحوه، وورد في "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٤٣ بنصه تقريباً، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٦٠، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٤، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٥، وعزاه إلى ابن الأنباري.
(٣) لم يقل الحسن -رحمه الله- هذا بلفظه، إنما ذكر الأمثلة التي دلت على معنى ذلك. انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٤٧.
(٤) أي: ما كنا فاعلين. (المصدر السابق).
(٥) أي: ما مكناكم فيه. (المصدر السابق).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٦، وهو اختيار الطبري ١٣/ ٢٤٧، وقد صوّبه وأيدّه بعدة أمور، انظرها.
(٧) "الحجة للقراء" ٥/ ٣١.
(٨) "الحجة للقراء" ٥/ ٣٣ بنصه.
(٩) "ديوان ابن مقبل" ص ١٣٦ وفيه: (لها تالياً) بدل (لها شاعراً)، (مارداً) بدل =
507
فاستعار للشعر جبالاً؛ يريد امتناعه على من أراده. هذا الذي ذكرنا معنى قراءة العامة (١)، وقرأ الكسائي: (لَتزولُ) بفتح اللام الأولى وضم الثانية (٢)، وعلى هذه القراءة معنى قوله: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ يعني الأمم الكافرة من قبل؛ وهم الذين ذُكروا في قوله: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو معنى قول ابن عباس: يريد ما مكر نمرود بإبراهيم، يجوز أن يعني أيضًا مكر الكفار بالنبيّ - ﷺ - كما ذكرنا، ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ معنى (إنْ) على هذه القراءة المخففة من الثقيلة، قاله أبو علي (٣).
وقال أبو بكر: (إنْ) مع اللام يعني بها هاهنا: (قد)؛ كما يقول العربي: إنْ كان عبد الله لَيزورنا، يريد: قد كان، واللام في: ﴿لِتَزُولَ﴾ لام الجواب، والمستقبل بعدها مرفوع، والمعنى قد كانت الجبال تزول من مكرهم على تعظيم أمر مكرهم؛ كقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نوح: ٢٢].
= (شاعراً الثانية)، (له) بدل (به)، (حُزُون) بدل (بُطُون) وورد في "الحجة للقراء" ٥/ ٣٣، و"الحلبيات" ص ١٩٧، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٣٠٧، و"الشعر والشعراء" ص ٢٩٨، وفيه: (تالياً بعدي) بدل (شاعراً مثلي)، والبيت الثاني يختلف كثيراً، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٠٨، وفيه: (حبال) بدل (جبال)، و"دلائل الإعجاز" للجرجاني ص ٣٩١، وفيه: (قائلاً بعدي) بدل (شاعراً مثلي)، وفي البيت الثاني: (سائراً) مكان (شاعراً)، و (حُزون) مكان (بُطون)، ومعنى (أطب) أعْرَف، (مارداً)؛ المارد: العاتي الشديد، ويريد به الجيد السائر، (حُزُون): جمع الحزن، وهو ما غلظ من الأرض في ارتفاع وخشونة.
(١) انظر: "السبعة" ص ٣٦٣، و"علل القراءت" ١/ ٢٩٠، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٧، و"الحجة للقراء" ٥/ ٣١، و"التيسير" ص ١٣٥، و"المُوضح في وجوه القراءات" ٢/ ٧١٣، و"النشر" ٢/ ٣٠٠، و"الإتحاف" ص ٢٧٣.
(٢) المصادر المسابقة.
(٣) "الحجة للقراء" ٥/ ٣٢ بنصه.
508
وقال أبو إسحاق: وإن كان مكرُهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصرُ دينه (١)، فإن قيل هذه القراءة على ما ذكرتم يُوجب أن الجبال قد زالت بمكرهم وهل كان ذلك؟
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما لأهل المعاني، والثاني للمفسرين؛ أما أهل المعاني فإنهم قالوا: هذا مبالغة في وصف مكرهم بالعظيم، وإن لم يكن جبلٌ قط زال لمكرهم، فهذا على مذهب العرب في المبالغة؛ يقول: وإن كان مكرُهم قد بلغ من كِبَرِه وعِظَمِه أن يُزيلَ ما هو مثل الجبال في الامتناع على من (٢) أراد إزالتَه ثباتُها؛ كأنه قيل: لو أزال مكرُهم الجبال لما أزال أمرَ الإسلام.
يدل على صحة ما ذكرنا قراءةُ جماعة من الصحابة: (وإن كاد مَكْرُهم لَتَزولُ) بالدال (٣)، أي (٤): قد قاربت الجبال أن تَزولَ، وهذا معنى قول أبي إسحاق (٥) وأبي بكر (٦) وأبي علي (٧)؛ قال أبو علي: ومثل هذا في تعظيم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٧ بنصه.
(٢) في جميع النسخ (ما) والتصويب من "الحجة للقراء" / ٣٢ ليستقيم الكلام.
(٣) قرأ بها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأُبي بن كعب رضي الله عنهم، وهي قراءة شاذة.
انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٤٥، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٨٧، و"القراءات الشاذة" لابن خالويه ص ٧٤، و"المحتسب" ١/ ٣٦٥، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ٣٣٧، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٠.
(٤) ساقطة من (أ)، (د).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٧.
(٦) لم أقف على مصدره، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٤، مختصراً.
(٧) "الحجة للقراء" ٥/ ٣٢.
509
الأمر قول الشاعر:
ألمْ تَرَ صَدْعًا في السَّمَاءِ مُبَيِّنًا على ابنِ لُبَيْنى الحارثِ بن هِشَامِ (١)
وهذا ليس على أنه شوهد صدع في السماء، ولكنه مبالغة على معنى أن الأمر قد قرب من ذلك، ومثله كثير في الشعر، وذكر ابن قتيبة باب ما أفرطت الشعراء في وصفه، وأنشد أبياتًا كثيرة، ثم قال: وهذا كله علي المبالغة في الوصف، وينوون في جمعه (٢): يكافى يفعل (٣)، وأنشد أبو إسحاق قول الأعشى:
لئن كنتَ في جُبٍّ ثَمانينَ قامةً ورُقِّيتَ أسبابَ السماءِ بِسُلّم
لَيسْتَدرِكَنَّكَ القَوْلُ حتَّى تَهِرّهُ وتَعْلَمَ أني عنكم غيرُ مُنَجِّمِ (٤)
(١) ورد بلا نسبة في: "الحجة للقراء" ٥/ ٣٢، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٣٠٧، وأبي حيان ٦/ ٢١٨.
(٢) هكذا في جميع النسخ، ويحتمل أنها (جميعه) أي في جمغ ما ذكروا، وعلى المثبت أي ينوون في جمعه من الجمع وإن كان مفرداً.
(٣) لم أقف عليه في كتبه المطبوعة.
(٤) "ديوان الأعشى" ص ٨٢، ورواية البيت الثاني تختلف عن الديوان، وهي:
لَيَسْتَدرِجَنْكَ القولُ حتى تَهِرَّهُ وتَعْلَمَ أني عنكَ لستُ بمُلْجَم
وورد البيت الأول فقط في "الكتاب" ٢/ ٢٨، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٢، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٨٧، و"شرح المفصل" ٢/ ٧٤، و"اللسان" (ثمن) ١/ ٥٠٩، (رقا) ٣/ ١٧١١.
(تهرّه): يقال هرّ الشيء يهُره ويهِره هرّاً وهريراً، أي كرِهَهُ، (مُنَجِّم): اسم فاعل من التنجيم، وهو الناظر في النجوم للتفكر والتدبر، وهو أيضاً ادعاء علم الغيب بالنظر في النجوم، وهو أيضاً التجْزِيىء؛ ومنه قولهم نزل القرآن منجماً وعلى هذه الرواية يكون المعنى: إن تهديدي لك ليس رجماً بالغيب كما هو قول المنجِّم، (ملجم) من اللجام وهو معروف؛ وهو حبل أو عصا تُدخل في فم الدابة وتلُزق إلى قفاه، والممسك عن الكلام مُمَثَّلُ بمن ألجم نفسه بلجام، وعلى هذه الرواية، =
510
قال: فإنما بالغ في الوصف، وهو يعلم أنه لا يُرَقَّى (١) أسبابَ السماء (٢).
وقال أبو بكر في قول الأعشى: تأويله لئن كنت فيما تَقْدِر ويُقَدَّر لك في قعر الأرض أو في السماء، لَيَصلنَّ إليك مني ما كره، لذلك معنى ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾: عند أنفسهم وفيما يقدّرون، فليس ينفعهم ذلك إذا كان الله قد وعد على ألسنة رسله ظهورَ الحق على الباطل.
وأما المفسرون فإنهم ذهبوا إلى قصة نمرود مع التابوت والنسور، وأن الجبال حين سمعت حفيف النسور والتابوت عند هبوطها ظنت أن ذلك أمرٌ من الله تعالى عظيم، وأن الساعة قد قامت ففزعت وزالت، وهذا يُروى عن علي -رضي الله عنه- ومجاهد وعكرمة (٣).
= المعنى: إن لساني غير ملجم عنك؛ لأنها من قصيدة قالها يهجو عمير بن المنذر. انظر: "اللسان" (لجم) ٧/ ٤٠٠٢، (هرر) ٨/ ٤٦٥٠، (نجم) ٧/ ٤٣٥٨.
(١) في (أ)، (د): (لا يرقك)، وفي (ش)، (ع): (لا تزول) والتصويب من المصدر.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٨ بنصه.
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٤٤ - ٢٤٥، مفصلاً عن علي ومجاهد من طرق، وورد مفصلاً في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١١ عن علي، و"مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٥٤ عن عكرمة، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٦٠، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٣، وما بعدها، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨١، وابن كثير ٢/ ٥٩٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٦، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن علي -رضي الله عنه-. وهذه القصة ظاهرة الوضع أو أنها إسرائيلية، إذ لم يرو فيها حديث مرفوع إلى النبيّ - ﷺ - بل وردت الروايات موقوفة على علي -رضي الله عنه- بطرق مضطربة وبأسانيد فيها جهالة، كما أنها ليست من الطرِق المشهورة عن علي -رضي الله عنه- فضلاً أن تكون من الصحيحة، ولعل هذا سبب نفي ابن عطية صحة نسبتها لعلي -رضي الله عنه- كما ضعفها من=
511
قال مجاهد: كان ذلك بختنصر (١).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ قال الفراء: أُضيفت ﴿مُخْلِفَ﴾ إلى الوعد ونُصبت الرسلُ على التأويل؛ لأن الإخلاف قد يقع بالوعد كما يقع بالرسل، فيقول أخلفت الوعدَ وأخلفت الرسلَ (٢)، وإذا كان الفعل يقع على شيئين مختلفين مثل: كَسَوْتك الثوبَ وأدخلتك الدار، فابدأ بإضافة الفعل إلى الرجل؛ تقول: هو كاسي عبد الله ثوبًا، ومدخله الدارَ، ويجوز: هو كاسي الثوبِ عبد الله، ومدخل الدارِ زيدًا؛ لأن الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عبد الله فيقول: أدخلت الدار، وكسوت الثوب، ومثله قول الشاعر (٣):
= جهة المعنى، فقال: وذُكر ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وذلك عندي لا يصح عن علي، وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الإنسر كما وُصف، وبعيد أن يُغرِّر أحد بنفسه في مثل هذا. (٨/ ٢٦٥)، وقد انتقد الزجاج هذه القصة من قبل فقال: وقيل هذا في قصة النمرود بن كنعان، ولا أرى لنمرود هاهنا ذكرًا. "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٧، وكذلك نقل الرازي تضعيفها فقال: قال القاضي لم أقف عليه: وهذا بعيد جدًّا لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر صحيح معتمد، ولا حجة في تأويل الآية البتة. "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٤٤.
(١) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٤٤، مفصلاً، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٤، وابن كثير ٢/ ٥٩٦، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٦، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٢) يقول الزمخشري في "تفسيره" ٢/ ٣٠٧: فإن قلت هلا قيل مخلفَ رسلِه وعدَه، ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ قلت: قدّم الوعد ليُعلمَ أنه لا يخلف الوعد، ثم قال: ﴿رُسُلَهُ﴾ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلفه رُسلَهُ الذين هم خيرته وصفوته؟!
(٣) لم أقف عليه، والبيت من الخمسين بيتاً التي لي يعرف لها قائل. ذكره عبد السلام هارون محقق "الكتاب" ١/ ١٨١، بالحاشية.
تَرَى الثورَ فيها مُدخِلَ الظِّلِّ رَأسَهُ وسَائِرُهُ بَادٍ إلى الشَّمْس أجْمَعُ (١)
أي مدخل رأسه الظلَّ، فقلب وأضاف مُدخلَ إلى الظلِّ [لأن الظل] (٢) التبس برأسه (٣)، فصار كل واحد منهما داخلًا في صاحبه (٤)، قال ابن عباس: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ﴾: يا محمد، ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ يريد النصر والفتح وإظهار الدين (٥)، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ قال: يريد: أن الله منيع شديد الانتقام، ومعنى الانتقام الجزاء بما كان من السيئات.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾ الآية. ذكر الزجاج في نصب (يوم) وجهين؛ أحدهما: أنه صفة لقوله ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (٦)، والآخر: أنه على معنى ينتقم يوم تبدل (٧)، وذكرنا في قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ
(١) ورد البيت في المصادر التالية "الكتاب" ١/ ١٨١، و"تأويل مشكل القرآن" ص ١٩٤، و"تفسير الطبري" ١٣/ ٢٤٨، وابن عطية ٨/ ٤٧٨، و"وَضَح البرهان في مشكلات القرآن" ١/ ٤٨٨، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٢، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧٧، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٣٩، و"الدر المصون" ٧/ ١٢٨، و"الخزانة" ٤/ ٢٣٥، و"الدرر اللوامع" ٦/ ٣٧. برواية (أكتع) بدل (أجمع)، والبيت وصف لهاجرة ألجأت الثيران إلى كُنُسِها، فهي تدخل رؤوسها في الظل لما تجده من شدة القيظ وسائر جسدها بارز للشمس.
(٢) ما بين المعقوفين من (ش) وساقط من باقي النسخ.
(٣) يقول الأعلم: كان الوجه أن يقول: مُدخلَ رأسه الظلّ؛ لأن الرأس هو الدّاخل في الظل، والظل هو المدخل فيه. "الدرر اللوامع " ٦/ ٣٧.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٧٩، نقل طويل مع تصرف يسير.
(٥) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٧ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٥.
(٦) وتقديره: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ﴾ ذكره الزجاج.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه"، ٣/ ١٦٩ بمعناه، حيث قال: وإن شئت أن يكون منصوباً بقوله ذو انتقام.
513
جُلُودًا} [النساء: ٥٦] أن التبديل يقع على معنيين، أحدهما: تبديل العين إلى غيره، والثاني: تبديل الصورةِ والعين قائمة، وقد ذُكر المعنيان في هذه الآية، قال ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض، وإنما تُبدل آكامُها وجبالها وأشجارها (١)، ثم أنشد (٢):
فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدتُهُم ولا الدَّارُ بالدَّارِ التي كنت أعْرِفُ (٣)
ونحو هذا روى أبو هريرة عن النبيّ - ﷺ - قال: "يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها (٤) ويمدُّها مدَّ الأديم العُكاظيِّ لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا" (٥).
(١) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٤٤ ب بنصه، وانظر: "تفسير الزمخشري" ٢/ ٣٠٨، والفخر الرازي ١٩/ ١٤٦، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٧٨، و"تفسير أبي حيان" ٥/ ٤٣٩، و"الدر المصون" ٧/ ١٣٠، و"تفسير أبي السعود" ٥/ ٦٠.
(٢) نُسب إلى ابن عباس في المصادر السابقة عدا تفسير الفخر الرازي ونُسب إلى عبد الله بن شبيب في "مجالس ثعلب" ص ٤٩.
(٣) المصادر السابقة نفسها، وتختلف رواية "مجالس ثعلب" في العجز، وهي:
وما الدهر بالدهر الذي كنت تعرف
(٤) في جميع النسخ (فينبشها) والتصويب من الطبري والثعلبي وباقي المراجع.
(٥) الحديث جزء من حديث الصور الطويل، أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٢، مختصراً، والطبراني في "معجمه الكبير" ٢٥/ ٢٦٦، مطولاً، والبيهقي في "البعث" ص ٣٣٨، مطولاً، وطرفه: (إن الله عَزَّ وَجَلَّ لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور)، وأورده الثعلبي ٢/ ١٤٤ ب، مختصرًا، وابن كثير ٢/ ١٦٣، مطولاً، وورد مختصرًا في "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٥، والفخر الرازي ١٩/ ١٤٦، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٣، وابن كثير ٢/ ٥٩٩، وأبي السعود ٥/ ٦٠، و"حاشية الجمل على الجلالين" ٢/ ٥٣٤، والحديث ضعيف، وقد ضعفه ابن كثير رحمه الله ٢/ ١٦٧ ووصفه بالنكارة؛ بسبب تفرد إسماعيل بن رافع وهو مكر الحديث، وأكده أحمد شاكر -رحمه الله- فقال: هو حديث ظاهر النكارة. انظر: "عمدة =
514
وقال الحسن: هي هذه الأرض إلا أنها تُغيَّر إلى سورة أخرى (١).
وأما تبديل السموات فقال ابن عباس في رواية أبي صالح: وتبديل المموات بأن يزاد فيها وينقص منها (٢).
وقال ابن الأنباري: باختلاف هيئتها؛ كما ذكر الله تعالى أنها مرة كالمهل (٣)، وتكون كالدهان (٤)، وعلى هذا القول معنى التبديلِ في الآية: وتبديلُ الصورةِ باختلاف الهيئةِ، والعينُ كما هي، كما تقول: قد بدلت قميصي جُبة؛ أن تقلبَ العينَ من حال إلى حال أخرى، وهو اختيار أبي إسحاق، قال: قد يقول: بَدَّل زيدٌ، إذا تغيرت حاله، فمعنى تبديل الأرض: تسيير جبالها وتفجير بحارها، وكونها مستوية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتبديل السموات: انتثار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
قال: وقوله: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ﴾ أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات (٥)، ومثله قال أبو علي: قال وهو كقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يُقتل مؤمنٌ بكافر ولا ذو عهد
= التفسير" ١/ ٧٨٨. حاشية (٢) (العكاظي) نسبة إلى سوق عكاظ، (العوج) ما اعوج يمينًا وشمالاً، (الأمت): ما يرتفع مرة ويهبط أخرى. "غريب اليزيدي" ص ٢٥٠.
(١) ورد في معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٤٥، بمعناه، و"تفسير الطوسي" ٦/ ٣٠٩ بنصه.
(٢) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٥، لكن جعله تفسيرًا لتبديل الأرض لا السماء، حيث قال: إنها تلك الأرض، وإنما يزاد فيها وينقص منها، وكذلك أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٨وعزاه إلى البيهقي في البعث لم أجده.
(٣) يشير إلى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج: ٨].
(٤) يشير إلى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن: ٣٧].
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦٩ بنصه.
515
في عهده" (١) (٢).
المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما كان التقدير في الآية؛ والسموات غير السموات، وذهب قوم إلى تبديل العين، فقال ابن مسعود: تبدل بأرض كالفضة بيضاء نقية، لم يُسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة (٣)، ونحو ذلك قال ابن عباس في رواية الكلبي وعطاء (٤).
(١) "المسائل الحلبيات" ص ٧٤ بنصه دون ذكر الحديث.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: باب قود المسلم بالذمي ١٠/ ٩٩ بنحوه عن الحسن مرسلاً، وأبو داود (٤٥٣٠) كتاب: الديات، إيقاد المسلم بالكافر، (٢٧٥١) كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أملى العسكر، بنصه، وابن ماجه (٢٦٥٨) كتاب: الديات لا يقتل مسلم بكافر، واللفظ له، والنسائي: القَسامة، القود بين الأحرار والمماليك في النفس ٨/ ١٩ بنصه، والحاكم: الفيء لا يقتل مؤمن بكافر ٢/ ١٤١ بنصه، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن: الجنايات فيمن لا قصاص بينه باختلاف الدين ٨/ ٢٩ بنحوه، كلهم عن علي إلا ابن ماجه عن ابن عباس، وذكره الألباني في "صحيح أبي داود" (٢٧٥١)، (٤٥٣٠)، و"صحيح النسائي" ٣/ ٩٨٤، و"صحيح ابن ماجه" (٢٦٥٨).
(٣) أخرجه بنصه: عبد الرزاق ٢/ ٣٤٤، موقوفاً على عمرو بن ميمون راوي الحديث عن ابن مسعود والطبري ١٣/ ٢٥٠، من طرق، والطبراني في "الكبير" ٩/ ٢٣٢، والحاكم ٤/ ٥٧٠، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأبو نعيم في "الحلية" ٤/ ١٥٣، وورد بنحوه في معاني النحاس ٣/ ٥٤٤، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١١، والماوردي ٣/ ١٤٣، وأورده ابن حجر في "الفتح" ١١/ ٣٨٣، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والبيهقي في الشعب لم أقف عليه، وقال: ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥١، من طريق العوفي ضعيفة، ولفظه: فزعم أنها تكون فضة، ورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٤٣ مختصرًا، وانظر: "تفسير ابن الجوزي". برواية عطاء ٤/ ٣٧٦، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٤، وابن كثير ٢/ ٥٦٤.
516
يؤكد هذا ما روى سَهْل بن سَعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُحْشرُ الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عَفْراءَ كَقُرْصَةِ النَّقيّ ليس فيها معلم لأحد" (١).
وقال علي -رضي الله عنه- في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب (٢)، ومذهب أكثر المفسرين؛ عكرمة، ومجاهد، والقرظي، وكعب: على أن هذا التبديل هو تبديل العين (٣).
(١) أخرجه بنصه البخاري (٦٥٢١) كتاب: الرقاق، باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ومسلم (٢٧٩٠) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: صفات المنافقين في البعث والنشور ٤/ ٢١٥٠، والطبري ١٣/ ٢٥٠، والطبراني في "الكبير" ٦/ ١٥٥، ١٧٤. (عفراء) العفر: بياض ليس بالناصع، وقيل بياض يضرب إلى حمرة قليلاً، (كقرصة النَقِّي): هو الرغيف المصنوع من الدقيق النقي من الغش والنخالة؛ يسمى الحُوَّارى، (ليس فيها معلم لأحد) قيل إنها مدرجة؛ من كلام سهل -رضي الله عنه- أو غيره، (المَعْلَم): الشيء الذي يُستدل به على الطريق، والمراد: أنها مستوية ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات؛ كالجبل والصخرة البارزة انظر: "فتح الباري" ١١/ ٣٨٢.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥١، وفيه (والجنة) بدل (والسماء)، وورد بنصه في "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٤٤ ب، والماوردي ٣/ ١٤٤، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٣٦١ - ٣٦٢، و"ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٦، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٤، و"الخازن" ٣/ ٨٦، وأبي حيان ٥/ ٤٣٩، وابن كثير ٢/ ٥٩٨، و"الدر المنثور" ٤/ ١٦٨، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٣) وقد تعددت أقوالهم في ماهية التبديل على أقوال: فقال مجاهد: تبدل أرضًا بيضاء كأنها الفضة، والسموات كذلك كأنها الفضة. "تفسير مجاهد" ١/ ٣٣٦، وأخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٠، وقال كعب: تفسير السموات جناناً، ويصير مكان البحر النار، وتبدل الأرض غيرها. أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٢، وورد في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٤٤، والثعلبي ٢/ ١٤٤ ب، والخازن ٣/ ٨٦، وابن كثير ٢/ ٥٩٨، وقال القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم. =
517
وسألتْ عائشةُ رسولَ الله - ﷺ - عن هذه الآية وقالت: أين يكون الناس يومئذ؟ قال: "على الصراط" (١) قوله تعالى: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ أىِ ظهروا وخرجوا من قبورهم، وهو كقوله: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [إبراهيم: ٢١] وقد مرّ.
٤٩ - قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد الذين أجرموا، زعموا أن لله شريكًا وولدًا ونظيرًا (٢)، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يريد يوم القيامة، ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ يقال: قرنت الشيء بالشيء، إذا شددته به ووصلته، والقَرْنُ اسم الحبل الذي شُدَّ به شيئان (٣)، وجاء هاهنا على التكثير لكثرة أولئك القوم.
= أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٢، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٤٤ب، وانظر: "تفسير البغوي" ٤/ ٤٦٢، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٦، وأبي حيان ٥/ ٤٣٩، وابن كثير ٢/ ٨٩٨، والخازن ٣/ ٨٦، وقال عكرمة: تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة، يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب. أورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٦٩، وعزاه إلى البيهقي في البعث، وهذا القول أي تبديل العين هو الأرجح؛ لموافقته لظاهر الآية، إذ هو الأصل في التبديل، ويعضده الأحاديث الصحيحة والصريحة، وقد رجحه جماعة من المفسرين؛ منهم: الطبري ١٣/ ٢٥٤، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٣، و"الجمل في حاشيته على الجلالين" ٢/ ٥٣٤.
(١) أخرجه بنصه: أحمد ٦/ ٣٥، ومسلم (٢٧٩١) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: في البعث والنشور، والترمذي (٣١٢١) التفسير، باب من سورة إبراهيم، وابن ماجه (٤٢٧٩): كتاب: الزهد، باب: ذكر البعث، والطبري ٧/ ٤٨٢ بعدة روايات، والحاكم في المستدرك: التفسير، سورة إبراهيم ٢/ ٨٨، وورد بنصه في: "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٥٤٥، و"تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٢، والثعلبى ٢/ ١٤٥ أ.
(٢) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٨ بنحوه.
(٣) انظر: (قرن) في "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩٤٧، و"اللسان" ٦/ ٣٦١٠.
518
وقوله تعالى: ﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾ جمع صفْد وهو القيد، يقال: صَفَدْتُ الرجلَ فهو مَصْفُود، والمصدر: الصَّفْد، والاسم: الصَّفَد، ومثله الصِّفادُ: وهو كل ما يوثق به من نِسْع أو قِدِّ (١)، ويقال أيضًا من هذا صَفَّدته بالتشديد، ومنه الحديث: "صُفِّدت الشَّياطين" (٢).
قال أبو عبيد: شُدَّت بالأغلال، قال عمرو:
وأُبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينا (٣)
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (صفد) ٢/ ٢٠٢٥ بنحوه، وانظر: (صفد) في "المحيط في اللغة" ٨/ ١١٧، و"الصحاح" ٢/ ٤٩٨، و"مقاييس اللغة" ٣/ ٢٩٣، و"اللسان" ٤/ ٢٤٥٨. (النَّسعُ) سيرٌ يُضَفَّر على هيئة أعنَّة النعال، تشدّ به الرحال، ويجعل زمامًا للبعير وغيره، (القَدّ) سيرٌ يصنع من الجلد، تخصف به النعال، وتشدّ به المحامل. انظر: "متن اللغة" ٤/ ٥٠٦، ٥/ ٤٤٩.
(٢) ونصه: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفّدت الشياطين" أخرجه مسلم (١٠٧٩) كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان ٢/ ٧، عن أبي هريرة، وجاء برواية: (إذا كان أول ليلة من رمضان صُفَّدت الشياطين...)، أخرجه الترمذي (٦٨٢) كتاب: الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان ٣/ ٦٦، وابن ماجه (١٦٣٨) كتاب: أبواب الصيام، باب: ما جاء في فضل شهر رمضان ١/ ٣٥١، والحاكم: الصوم، إذا كان أول ليلة (١/ ٤٢١) وقال صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي: الصيام، في فضل شهر رمضان ٤/ ٣٠٣.
(٣) وصدره:
فآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايا
انظر: "ديوان عمرو بن كلثوم" ص ٩٤، وورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٥٤، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري ص ٤١٢، و"تفسير الثعلبي" ٢/ ١٤٥ أ، والماوردي ٣/ ١٤٥، والطوسي ٦/ ٣١٠، "شرح المعلقات للزوزني" ص ١٨١، و"الفريد في الإعراب" ٣/ ١٨٠، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٤، و"الدر المصون" ٧/ ١٣١، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٩٩، و"تفسير الشوكاني" ٣/ ١٦٩. =
519
قال: وأما أصْفَدْتُه بالألف، فهو أن تعطيه وتصله، والاسم منه الصَّفَد، وكذلك الوَثاق (١).
وقال الزجاج: صَفَدتُه بالحديد وأصفدته، ومثله في العطية (٢)، إلا أن الاختيار في العطية أصفدته، وفي الحديد صفدته (٣).
قال ابن عباس: يريد بالأصفاد: سلاسلَ الحديد والأغلال (٤).
قال الكلبي: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ كل كافر مع شيطان في غل (٥)، وقال هطاء: وهو معنى قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] أي قُرنت نفوس المؤمنين بالحور العِين، ونفوس الكافرين بالشياطين (٦)، وفي هذا المعنى أيضاً قوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢].
= (فآبوا) فرجعوا، والأوب: الرجوع، (النِّهاب) الغنائم وما ينتهب، قال أبو جعفر: ومعنى البيت: ظفرنا بهم فلم نلتفت إلى أسلابهم ولا أموالهم، وعمدنا إلى ملوكهم فصفَّدناهم في الحديد، قال وهذا أمدح وأشرف.
(١) ورد في "تهذيب اللغة" (صفد) ٢/ ٢٠٢٥، بلفظه مختصراً.
(٢) وسمي العطاء صفداً لأنه يُقيَّد من يعطيه، ومنه: أنا مغلولُ أياديك، وأسيرُ نعمتك. "الدر المصون" ٧/ ١٣٢، وقيل: لأنها تُقَيِّد المودة وترتبطها. "تفسير الطوسي" ٦/ ٣١٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٧٥، بتصرف يسير.
(٤) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٥، من طريق ابن أبي طلحة صحيحة. بلفظ: في وثاق، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٣٧٧، ولفظه: أنها الأغلال "الدر المنثور" ٤/ ١٦٩، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، و"تفسير ابن كثير" ٢/ ٥٩٩ بلفظ: القيود.
(٥) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٤٧ بنصه، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٢ بنصه، والماوردي ٣/ ١٤٥ بنصه، و"البغوي" ٤/ ٣٦٣، و"تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٥، وأبي حيان ٥/ ٤٤٠
(٦) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٤٧ بنصه تقريباً.
520
قال ابن عباس: وقرناؤهم من الشياطين (١)، وقال قوم في معنى: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: قُرن بعضهم ببعض (٢).
وقال ابن زيد: قُرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم بالأغلال (٣)، فهذا (٤) ثلاثة أقوال في معنى: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ السرابيل جمع سِرْبال وهو القُمُص، والفعل منه تسربلتُ، وسربلتُ غيري (٥).
قال امرئ القيس:
لَعُوبٌ تُنَسِّيني إذا قُمتُ سِرْبالي (٦)
(١) انظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٧، ولفظه: أنهم يقرنون مع الشياطين، وورد غير منسوب في القرطبي ٩/ ٣٨٥، والألوسي ١٣/ ٢٥٦، وصديق خان ٧/ ١٣٨.
(٢) قاله ابن قتيبة في "الغريب" ١/ ٢٣٨ بنصه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٧، والخازن ٣/ ٨٧.
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٥ بنحوه، وورد في "تفسيرالثعلبي" ٢/ ١٤٥أ، بنحوه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" ٤/ ٣٧٧، والفخر الرازي ١٩/ ١٤٨، ونسبه إلى زيد بن أرقم وهو خطاء، و"تفسير الخازن" ٣/ ٨٧، وصديق خان ٧/ ١٣٨.
(٤) هكذا في جميع النسخ، والأولى: (هذه).
(٥) ورد في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٤٥ أ، بنحوه، وانظر: (سربل) في "جمهرة اللغة" ٢/ ١١٢٠، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٦٤ - ١٦٦٥، و"المحيط في اللغة" ٨/ ٤٣٣، و"اللسان" ٤/ ١٩٨٣.
(٦) وصدره:
ومثلك بيْضاء العوارضِ طَفْلَة
"ديوان امرئ القيس" ص ١٢٤، وورد في "تفسير الطبري" ١٣/ ٢٥٥، والطوسي ٦/ ٣١٠، و"أشعار الشعراء الستة الجاهليين" ١/ ٤٧، و"الخزانة" ١/ ٣٧٣، (العوارض) جمع العارض؛ وهو صفحة الخد، (طَفْلَة) ناعمة البدن، (لعوب): حسنة الدل.
521
وقال الزجاج: هو كل ما لُبِس (١).
والقطران: هناء الإبل.
قال الليث: وهو شيء يَتَحلَّب من شجر يقال له: الأَبْهُل (٢).
قال الفراء: أهلَ الحجاز وبنو أسد يفتحون القاف ويكسرون الطاء، وبعض قيس (٣) وتميم (٤) يقولون: قِطْران بكسر القاف وتسكين الطاء (٥)، وأنشد:
عَلَيْهم سَرَابِيلُ الحَدِيدِ كأنَّهم جِمَالٌ بها القَطرانُ مَطْلِيَّةٌ بُزُل (٦)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٧٠ بنصه.
(٢) ورد في "تهذيب اللغة" (قطر) ٣/ ٢٩٩٠، بنصه.
(٣) قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، جدّ جاهلي، بنوه قبائل كثيرة، منها: (هوازن)، و (سُليم)، و (غطفان)، و (باهلة)، وغلب اسم قيس على سائر العدنانية، حتى جعل في المثل في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٤٣، و"نهاية الأرب" ص ٣٦٢، و"معجم قبائل العرب" ٣/ ٩٧٢، و"الأعلام" ٥/ ٢٠٧.
(٤) هم بنو تميم بن مُرّ بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب، كانت منازلهم بأرض نجد والبصرة واليمامة، وامتدت إلى أرض الكوفة، ثم تفرقوا بعد ذلك في الحواضر والبوادي، وُلد لتميم: الحارث، وعمرو، وزيد مَناة، وتفرعت منهم بطون بني تميم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ١٩٨، و"نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" ص ١٧٩، و"معجم قبائل العرب" ١/ ١٢٦، و"الأعلام" ٢/ ٨٧.
(٥) لم أقف على مصدره.
(٦) لم أقف عليه. (بُزْل): قال الجوهري: بزلَ البعير يبزُلُ بُزُولاً: فطر نابُهُ، أي انشق، فهو بازلٌ، ذكراً كان أو أنثى، وذلك في السنة التاسعة، وربما بزل في السنة الثامنة، والجمع بُزُلٌ وبُزَّلٌ وبوَازلٌ. "الصحاح" (بزل) ٤/ ١٦٣٣.
522
وفيه لغة أخرى وهو فتح القاف وتسكين الطاء (١)، وبه قرأ عيسى بن عمر. قال أبو إسحاق: وجُعلت سرابيلهم من قطران والله أعلم؛ لأن القطران يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير نار وبغير قطران لقدر على ذلك، ولكنه عذَّب بما يَعقل العبادُ العذابَ من جهته، وحذّرهم ما يعرفون حقيقته (٢).
قال ابن الأنباري: والنار لا تُبطل ذلك القطران ولا يُفنيها، كما لا يُهلك أغلالَها وأنكالَها وحَيّاتِها وهوامَها وأشجارَها (٣)، وللقطران أيضًا روائح خبيئة، وقال غيره: وفيه أيضًا عقاب بالتسويد لسواد دخانه (٤).
٥١ - قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ هذه اللام تتعلق بقوله: ﴿وَتَغْشَى﴾ أي تغشى النار وجوههم ليقع لهم الجزاء من الله بما
(١) أي: قَطْران، وذكرها الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٢٥٦، بصيغة التمريض منسوبةً إلى عيسى بن عمر، لكنه قال: بكسر القاف، وبالكسر كذلك قال ابن خالويه، كما في القراءات الشاذة لابن خالويه ص ٧٤، لكنه جعلها مهموزة؛ قال: (قِطْرءان)، ووردت في "تفسير الثعلبي" ٢/ ١٤٥ أ، بالجزم؛ قال: وقرأ عيسى بن عمر: (قَطْران) بفتح القاف وتسكين الطاء، وانظر: "تفسير القرطبي" ٩/ ٣٨٥، قال ابن جني: وأما القطران ففيه ثلاث لغات: (قَطِرَان) على فَعِلان [وهي القراءة المتواترة]، و (قَطْران)، و (قِطْران) والأصل فيها (قَطِرَان) فأسكنا على ما يقال في كَلِمة: كَلْمَة وكِلْمَة. انظر: "المحتسَب" ١/ ٣٦٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٧٠ بنصه.
(٣) انظر: "تفسير الفخر الرازي" ١٩/ ١٤٩، مختصرًا.
(٤) وخلاصة الأمر أنه يحصل لهم أربعة أنواع من العذاب بالقطران: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. "الرازي" ١٩/ ١٤٨.
كسبوا، فمعنى ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾ هاهنا من الكفار؛ لأن جزاء المؤمن لا يقع بهذا (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ ذكرنا معناه في سورة البقرة عند تمام المائتين منها.
٥٢ - قوله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ قال ابن عباس: يريد ما أنزلت إليك من قصة إبراهيم ودعائه لوالده وما تبرأ منه من عبادة الأصنام وما دعا للمؤمنين، وقال غيره من أهل العلم: ﴿هَذَا﴾: القرآن (٢)، ﴿بَلَاغٌ لِلنَّاسِ﴾ والبلاغ اسم يقوم مقام التبليغ، قال أبو علي الجرجاني: تأويله: فعلنا هذا؛ يعني إنزال القرآن وما فيه من المواعظ لتبلِّغ الناس، وهذا عطف على البلاغ بالفعل، وهو قوله: ﴿وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ (٣)، قال ابن عباس:
(١) وقد تعقب الرازي الواحدي في تخصيص ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾ بالكافرين، وأبقى اللفظ على عمومه ليشمل الجزاء الفريقين، وكلاهما مصيب، فالتخصيص مناسب للسياق والسباق؛ حيث إن الكلام السابق واللاحق عن المجرمين فيخصهم الوعيد والتهديد، ويكون متعلق اللام محذوف؛ تقديره: يفعل بهم ذلك ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت من أنواع الكفر والمعاصي، والتعميم مناسبٌ بالنظر إلى أن ﴿لِيَجْزِيَ﴾ متعلق بقوله: ﴿وَبَرَزُوا﴾ أي الخلق كلهم، فيكون ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾ عامًا، أي مطيعة ومجرمة بحسبها، وتكون الآيتان بينهما جملة معترضة، وهناك أقوال أخرى في توجيه التأويل. انظر: "الرازي" ١٩/ ١٤٩، وأبي حيان ٥/ ٤٤١، وأبي السعود ٥/ ٦١.
(٢) قاله ابن زيد، أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥٨، بلفظه، وورد بلفظه في "تفسير الماوردي" ٣/ ١٤٦، والطوسي ٦/ ٣١١، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" ٤/ ١٧٠، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وورد غير منسوب في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢١٢، والبغوي ٣/ ٣٦٣، وابن الجوزي ٤/ ٣٧٨، والخارن ٣/ ٨٧.
(٣) والتقدير: فعلنا هذا لتبلّغ الناس ولينذروا به، فعطف ﴿وَلِيُنْذَرُوا﴾ على البلاغ =
524
ولتنذر يامحمد قومك (١)، ﴿وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي بما ذكر فيه من الحجج التي تدل على وحدانيته، ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ قال يريد وليتعظ أهل اللب والعقل والبصائر.
= وهو مصدر بمعنى التبليغ. وقد ورد في وجه عطف ﴿وَلِيُنْذَرُوا﴾ تسعة أقوال، ذكرها السمين في "الدر المصون" ٧/ ١٣٤.
(١) ورد في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي ١/ ٣٣٩ بنصه.
525
سورة الحجر
527
Icon