تفسير سورة الكهف

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

وروي في هذا السبب (١): أنّ اليهود قالت: إن أجابكم عن الثلاثة، فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين، وأمسك عن الأخرى فهو نبي، فأنزل الله سورة أهل الكهف، وأنزل بعد ذلك ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾، وأخرج (٢) ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والنضر بن الحارث، وأميّة بن خلف، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو البحتري في نفر من قريش، وكان رسول الله - ﷺ - قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النّصيحة، فأحزنه حزنا شديدا، فأنزل الله سبحانه ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَمْدُ﴾؛ أي: المدح والثناء والشكر كله مستحق ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ لأن وجود كلّ شيء نعمة من نعمه تعالى، فلا منعم إلا هو، قال (٣) القيصري رحمه الله تعالى: الحمد قوليٌّ، وفعليٌّ، وحاليٌّ، أما القولي: فحمد اللسان، وثناؤه عليه بما أثنى به الحق على نفسه على لسان أنبيائه عليهم السلام، وأما الفعلي: فهو الإتيان بالأعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى، وتوجهًا إلى جنابه الكريم، وأما الحالي: فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب، كالاتصاف بالكمالات العلمية، والعملية، والتخلق بالأخلاق الإلهية؛ لأن النّاس مأمورون بالتخلق بلسان الأنبياء، صلوات الله عليهم، لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم ﴿الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ -، وفيه (٤) إشعارٌ بأنّ شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل، لا كما زعمت النصارى في حق عيسى - عليه السلام - ﴿الْكِتابَ﴾؛ أي القرآن الحقيق باسم الكتاب.
علّم (٥) سبحانه عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه
(١) البحر المحيط.
(٢) لباب النقول.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
(٥) الشوكاني.
بالموصول يشعر بعليّة ما في حيز الصلة لما قبله، ووجه كون إنزال الكتاب - وهو القرآن - نعمة على رسوله - ﷺ -، كونه اطّلع بواسطته على أسرار التوحيد، وأحوال الملائكة، والأنبياء، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبّده الله وتعبّد أمّته بها، وكذلك العباد، كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم، لمثل ما ذكرناه في النبي - ﷺ -، و ﴿الواو﴾ في قوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ﴾؛ أي: الكتاب ﴿عِوَجًا﴾؛ أي: اختلافًا في اللفظ، وتناقضًا في المعنى، أو ميلًا عن الحق، حاليّة، فالجملة حال أولى من الكتاب كما قاله الأصبهاني، ولكنها حال سببية؛ أي (١): أنزله غير جاعل له عوجًا؛ أي شيئًا من العوج بنوع اختلال في النظم، وتناف في المعنى، أو عدول عن الحق إلى الباطل.
والخلاصة: لا خلل في لفظه، ولا في معناه، واختار حفصٌ عن عاصم السكت على عِوَجًا وهو وقفةٌ لطيفةٌ من غير تنفس لئلا يتوهّم أنّ ما بعده صفة له،
٢ - وقوله: ﴿قَيِّمًا﴾؛ أي: مستقيمًا معتدلًا لا إفراط فيه، ولا تفريط، أو قيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال حال ثانية من الكتاب مؤكدة للأولى، فهي حال مترادفة، أو من الضمير في ﴿لَهُ﴾ فهي متداخلة. ومعنى لا إفراط فيه؛ أي: فيما اشتمل عليه من التكاليف، حتى يشق على العباد، ومعنى لا تفريط فيه؛ أي: بإهمال ما يحتاج إليه، حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال: ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
وقال العلماء (٢) باللغة والتفسير: في هذه الآية تقديم وتأخير، تقديرها: أنزل على عبده الكتاب قيمًا، ولم يجعل له عوجًا، وقال الكرماني: إذا جعلته حالًا - وهو الأظهر - فليس فيه تقديم ولا تأخير، والصحيح أنهما حالان من الكتاب الأولى جملة، والثانية مفرد، انتهى ذكره في «البحر»، وقرأ أبو رجاء وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن يعمر، والنخعي، والأعمش، قيما بكسر القاف وفتح الياء، وقرأ الجمهور ﴿قَيِّمًا﴾ بتشديد الياء وفتح القاف، كما سبق في سورة الأنعام.
(١) روح البيان.
(٢) زاد المسير.
﴿لِيُنْذِرَ﴾ ويخوف؛ أي: أنزل على عبده الكتاب لينذر الكتاب أو محمد بما فيه الذين كفروا بالله ورسوله، فحذف (١) المفعول الأول، اكتفاءً بدلالة القرينة، واقتصارًا على الغرض المسوق إليه، ﴿بَأْسًا﴾؛ أي: عذابًا ﴿شَدِيدًا﴾ صادرا مِنْ ﴿لَدُنْهُ﴾؛ أي: من عنده تعالى، نازلًا من قبله بمقابلة كفرهم وتكذيبهم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، أو عذاب النار في العقبى، أو كلاهما، وإنما قال: ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾؛ لأنه هو المعذب دون الغير ﴿وَيُبَشِّرَ﴾ ذلك الكتاب، أو محمدٌ ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: المصدّقين ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ﴾؛ أي: الأعمال الصالحة وهي ما كانت لوجه الله تعالى ﴿أَنَّ لَهُمْ﴾ أي بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة ﴿أَجْرًا حَسَنًا﴾ وثوابًا جسيما هو الجنة، وما فيها من النعيم
٣ - حالة كونهم ﴿ماكِثِينَ فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك الأجر الحسن ﴿أَبَدًا﴾ من غير انقطاع، وانتهاء وتغير حال، نصب على الظرفية لـ ﴿ماكِثِينَ﴾ وتقديم الإنذار على التبشير، لتقدم التّخلية على التحلية.
وقرأ أبو بكر (٢): ﴿من لدنه﴾ بإسكان الدال إسكان الباء من سبع مع إشمامها الضمّ، ليدل على أصله، وكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء للإتباع، وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضمّ الدال وسكون النون، وقرأ (٣) حمزة والكسائي ﴿يبْشر﴾ بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الشين، وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَيُبَشِّرَ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿لِيُنْذِرَ﴾ وقرىء بالرفع.
والمعنى: حمد الله سبحانه نفسه على إنزاله كتابه العزيز إلى رسوله - ﷺ -؛ لأنه أعظم نعمةٍ أنزلها على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وجعله كتابًا مستقيمًا لا اعوجاج فيه، ولا زيغ، بل يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى أنزل الكتاب على عبده محمد - ﷺ - مستقيمًا لا
(١) البيضاوي.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضًا، وبعضه يشهد لبعضٍ، ولا اعوجاج فيه، ولا ميل عن الحق. ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا﴾؛ أي: ليخوف الذين كفروا به عذابًا شديدًا، صادرًا من عنده تعالى؛ أي: نكالًا في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة. ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: ويبشر المصدّقين الله ورسوله، الذين يمتثلون أوامره ونواهيه بأن لهم ثوابًا جزيلًا منه على إيمانهم به، وعملهم الصالح في الدنيا، وذلك الثواب الجزيل هو الجنة التي وعدها الله المتقين، خالدين فيها أبدًا، لا ينتقلون منها ولا ينقلون.
٤ - ﴿وَيُنْذِرَ﴾ الكتاب أو محمدٌ أيضًا خاصة ﴿الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ بأسًا شديدًا من لدنه ذكر (١) المنذرين دون المنذر به، بعكس الأول استغناءً لتقديم ذكره؛ أي: وليحذر من بين هؤلاء الكفار من قالوا هذه المقالة الشّنعاء: إن الله اتّخذ ولدًا، وهؤلاء ثلاث طوائف:
١ - المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
٢ - اليهود القائلون: عزيرٌ ابن الله.
٣ - النصارى القائلون: المسيح ابن الله.
٥ - وإنما خص هؤلاء مع دخولهم في الإنذار السّابق لفظاعة حالهم، وشناعة كفرهم وضلالها ﴿ما لَهُمْ﴾؛ أي: ما لهؤلاء القائلين ﴿بِهِ﴾؛ أي: باتخاذه تعالى ولدا ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾؛ أي: برهان وحجة بل هو قول لم يصدر عن علم يؤيده، ولا عقل يظاهره، ﴿وَلا لِآبائِهِمْ﴾؛ أي: ولا لأسلافهم الذين قلدوهم في تلك المقالة به علم؛ أي: على اتّخاذه تعالى ولدًا برهانٌ وحجةٌ؛ أي: وكذلك ليس لآبائهم الذين قالوا مثل هذه المقالة، وهم القدوة لهم به من علم، والمعنى: أي: ليس لهم، ولا لأحد من أسلافهم الذين قلّدوه علم بهذا القول، أهو صواب أو خطأ، بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر ونظر فيما يجوز على الله، ويمتنع، و ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ مرفوع على الابتداء، و ﴿مِنْ﴾ مزيدة لتأكيد النفي ﴿كَبُرَتْ﴾؛ أي:
(١) النسفي.
285
عظمت مقالتهم هذه في الكفر، لما فيها من التّشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه إلى ولد يعينه، ويخلفه، إلى غير ذلك من الزيغ من جهة كونها ﴿كَلِمَةً﴾ تمييز، وتفسير للضمير المبهم الذهني في كبرت مثل ربه رجلًا ﴿تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ﴾ صفة للكلمة تفيد استعظام اجترائهم على التفوه بها، والمراد بتلك الكلمة هي قولهم: اتخذ الله ولدا فـ ﴿كَلِمَةً﴾ (١) بالنصب على التمييز، وبالرفع على الفاعلية فعل النصب يكون فاعل ﴿كَبُرَتْ﴾ مضمرًا مفسرًا بما بعده، وهو للذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: كبرت الكلمة كلمة خارجة من أفواههم، والمخصوص بالذم تلك المقالة الشنعاء، والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب؛ أي: ما أكبرها كلمة ﴿إِنْ يَقُولُونَ﴾؛ أي: ما يقولون في هذا الشأن ﴿إِلَّا كَذِبًا﴾؛ أي: إلّا قولًا كذبًا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق فـ ﴿كَذِبًا﴾ صفة لمصدر محذوف.
والمعنى: أي (٢) عظمت مقالتهم هذه في الكفر، حيث لم يكتفوا بخطورها بالبال، وترددها في الصدور، بل تلفّظوا بها على مرأى من الناس ومسمع، وكثير مما يوسوس به الشيطان، وتحدّث به النفس لا يتلفظ به، بل يكتفى بما يعتقده القلب، فكيف ساغ لهم أن يتجرّؤوا على التلفظ بهذا المنكر، الذي لا مستند له من عقل ولا نقل.
ثم أكد هذا الإنكار، وبيّن أنه كما لا علم لهم ولا لآبائهم به لا علم لأحد به، لأنه لا وجود له، وما هو إلا محض اختلاف بقوله: ﴿إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾؛ أي: ما يقولون إلّا قولًا لا حقيقة له بحال، وقرىء (٣) ﴿كبرت﴾ بسكون الباء، وهي في لغة تميم، وقرأ (٤) الجمهور ﴿كَلِمَةً﴾ بالنصب، وقرأ ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وأبو رزين، وأبو رجاء، ويحيى بن يعمر، وابن محيصن، وابن أبي عبلة ﴿كلمة﴾ بالرفع، قال الفراء: من نصب أضمر؛ أي: كبرت تلك
(١) المراح.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) زاد المسير.
286
الكلمة كلمة، ومن رفع لم يضمر شيئًا كما تقول: عظم قولك، وقال الزجاج: من نصب فالمعنى كبرت مقالتهم: اتخذ الله ولدًا، وكلمة منصوب على التمييز، ومن رفع فالمعنى: عظمت كلمة هي قولهم اتّخذ الله ولدًا، ومعنى قوله: ﴿تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ﴾؛ أي: إنّها قول بالفم، لا صحّة لها، ولا دليل عليها. ذكره ابن الجوزي.
٦ - ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ يا محمد ﴿باخِعٌ﴾، أي: مهلك ﴿نَفْسَكَ﴾ وقاتلها ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾؛ أي: على إعراضهم وتوليهم عن الإيمان بك؛ أي: فلعلك يا محمد متبع نفسك وراءهم أو مجهدها، أو متعبها، أو مهلكها، وقاتلها غمًا وهمًا على تولّيهم، وإعراضهم عن الإيمان بك، ﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ﴾؛ أي: بهذا القرآن، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه الترجّي تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا الحديث فلا تبال بهم، ولا تحزن عليهم، ولا تذهب نفسك ﴿أَسَفًا﴾ عليهم، وحزنا على عدم إيمانهم، فهو مفعول له، لـ ﴿باخِعٌ﴾ أو مصدر في موضع الحال، والأسف أشد الحزن كما في «القاموس».
وقرأ الجمهور (١) ﴿باخِعٌ﴾ بالتنوين ﴿نَفْسَكَ﴾ بالنصب، وقرىء ﴿باخع نفسك﴾ بالإضافة، والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ وفي «الصحاح» الحديث ضد القديم، ويُستعمل في قليل الكلام وكثيره.
والحاصل: أن لعل (٢) هنا للاستفهام الإنكاري، المتضمن معني النهي، أي لا تبخع نفسك من بعد توليهم عن الإيمان، وإعراضهم عنه أسفا وحسرة عليهم؛ أي: إنك قد اشتد وجدك عليهم، وبلغت حالًا من الأسى والحسرة، صرت فيها أشبه بحال من يحدث نفسه أن يبخعها أسى وحسرة عليهم، وما كان من حقك أن تفعل ذلك إن عليك إلا البلاغ وليس عليك الهداية ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ﴾.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
وقد جاء مثل هذا النهي في آيات كثيرة، كقوله: ﴿لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)﴾ وقوله: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ وقوله: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾.
وخلاصة ذلك: أبلغهم رسالة ربك، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنّما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم أسًى وحسرةً، فإنما أنت منذرٌ ولست عليهم بمسيطر، إن عليك إلا البلاغ،
٧ - ثم ذكر سبحانه سبب إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ بالبشارة والنذارة، وهو أنه تعالى جعل ما على الأرض زينة لها ليختبر المحسن والمسيء، ويجازي كلًا بما يستحقّ، فقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ﴾ من حيوان، ونبات، ومعادن ﴿زِينَةً لَها﴾، ولأهلها ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾؛ أي: لنعاملهم معاملة من يختبر حتى يظهر ﴿أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ في ترك الدنيا، ومخالفة هوى نفسه، طلبًا لله ومرضاته؛ أي: أيهم أطوع لله، وأشدّ استمرارًا على خدمته، وأيهم أقبح عملًا في الإعراض عن الله وما عنده من الباقيات الصالحات، والإقبال على الدنيا وما فيها من الفانيات الفاسدات.
قال في «الإرشاد» (١): أي استفهامية مرفوعة بالابتداء، و ﴿أَحْسَنُ﴾ خبرها، و ﴿عَمَلًا﴾ تمييز، والجملة في محل النصب معلقة لفعل البلوى لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته؛ أي: إنّا (٢) جعلنا ما على الأرض زينة لها، لنختبر حالهم في فهم مقاصد تلك الزينة، والاستدلال بها على وجود خالقها، والإخبات إليه، والطاعة له فيما أمر به، والبعد عما نهى عنه، فتقوم الحجة عليهم، فمن اعتبر بتلك الزينة، وفهم حكمتها، حاز المثوبة، ومن اجترأ على مخالفة أمره، ولم يفهم أسرارها ومقاصدها استحق العقوبة.
وخلاصة ذلك: أنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها، لنعاملهم معاملة من يختبرون، فنجازي المحسنين بالثواب، والمسيئين بالعقاب، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات أعمالهم.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
روي: أن النّبيّ - ﷺ - قال: «إن الدنيا نضرة حلوة، والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون» وقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض». وروى البخاري أنّ عمر كان يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللهم إني أسألك أن ننفقه في حقه.
٨ - ﴿وَإِنَّا لَجاعِلُونَ﴾ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا، ﴿ما عَلَيْها﴾ أي: ما على الأرض من المخلوقات قاطبة ﴿صَعِيدًا﴾، أي: ترابا ﴿جُرُزًا﴾؛ أي: لا نبات فيه، وسنةٌ جرزٌ لا مطر فيها؛ أي: وإن الأرض وما عليها بائد فان، وإن المرجع إلى الله، فلا تأسى، ولا تحزن لما تسمع وترى، ونحو الآية ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦)﴾ وقوله: ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (١٠٧)﴾.
وإجمال المعنى: أنّ ما على الأرض سيصير ترابًا ساذجًا بعد ما كان يتعجّب من بهجته النظارة، وتسر برؤيته العيون، فلا تحزن لما عاينت من تكذيب هؤلاء، لما أنزل عليك من الكتاب، فإنا جعلنا ما على الأرض من مختلف الأشياء زينة لها لنختبر أعمال أهلها، فنجازيهم بحسب ما هم أهل له، وإنا لمفنون ذلك بعد حين، وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ -، وكأنه قيل: لا تحزن فإنّا ننتقم لك منهم.
وخلاصة النظم: لا تحزن يا محمد ممّا وقع من هؤلاء من التكذيب، فإنّا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا، فمجازوهم إن خيرًا.. فخيرٌ، وإن شرًا.. فشرٌ.
ملخص قصة أهل الكهف كما أثر عن العرب
روي أنّ النّصارى عظمت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، حتى عبدوا الأصنام، وأكرهوا النّاس على عبادتها، وأصدر الملك دقيانوس الأوامر المشددة في ذلك، ومعاقبة من يخالفه، وأراد أن يلزم فتيةٌ من أشراف قومه عبادتها، وتوعّدهم بالقتل، فأبوا إلا الثبات على دينهم، فنزع ثيابهم، وحليّهم، ولكنّه رحم شبابهم، فأمهلهم لعلهم يتوبون إلى رشدهم، وهكذا ذهب الملك إلى مدن أخرى، ليحث أهلها على عبادتها، وإلا قتلوا.
289
أمّا الفتية: فإنهم انطلقوا إلى كهف قريب من مدينتهم، أفسوس أو طرسوس، في جبل يدعى نيخايوس، وأخذوا يعبدون الله فيه حتى إذا هجم عليهم دقيانوس وقتلهم ماتوا طائعين، وقد كانوا سبعة، فلما مرّوا في الطريق إلى الكهف، تبعهم راع ومعه كلبه فجلسوا هناك يعبدون الله، وكان من بينهم امرؤ يدعى تمليخا يبتاع لهم طعامهم، وشرابهم، يبلغهم أخبار دقيانوس الذي لا يزال مجدًا في طلبهم، حتى إذا عاد من مطافه، ووصل إلى مدينتهم، بحث عن هؤلاء العباد والنساك ليذبحهم، أو يسجدوا للأصنام، فسمع بذلك تمليخا بينما كان يشتري لهم الطعام خفيةً، فأخبرهم، فبكوا ثمّ ضرب الله على آذانهم، فناموا، وتذكرهم دقيانوس، فهدد آباءهم، إن لم يحضروهم، فدلوه عليهم، وقالوا: إنّهم في الكهف، فتوجه إليهم، وسده عليهم ليموتوا هناك، وينتهي الأمر على ذلك.
وقد كان في حاشية الملك رجلان يكتمان إيمانهما، وهما: بيدروس، وروناس فكتبا قصة هؤلاء الفتية سرا في لوحين من حجر، وجعلاهما في تابوت من نحاس، وجعلا التّابوت في البنيان، ليكون ذلك عظة واعتبارًا، وذكرى لمن سيجيىء من بعد.
ثم مضت قرون يتلو بعضها بعضًا، ولم يبق لـ: دقيانوس ذكرٌ ولا أثر، وبعدئذٍ ملك البلاد ملك صالح يسمى بيدروس، دام ملكه (٦٨) سنة، وانقسم الناس في شأن البعث والقيامة فرقتين، فرقة مؤمنة به، وأخرى كافرة، فحزن الملك لذلك حزنًا شديدًا، وضرع إلى الله أن يري الناس آية يرشدهم بها إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها، وقد خطر إذ ذاك ببال راع يسمى أولياس، أن يهدم باب الكهف، ويبني به حظيرة لغنمه، فلما هدمه استيقظوا جميعًا، فجلسوا مستبشرين، وقاموا يصلون، ثم قال بعضهم لبعض: كم لبثتم نيامًا؟ قال بعضهم: لبثنا يومًا أو بعض يوم، وقال آخرون: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ﴾ الورق الفضة ﴿هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا﴾ وليحضر لنا جانبًا منه، فذهب تمليخا، كما اعتاد من قبل ليشتري لهم الطعام، وهو متلطف
290
في السؤال مختف حذرًا من دقيانوس.
وبينما هو ماش سمع اسم المسيح ينادى به في كل مكان، فحدّث نفسه، وقال: عجبا لم لم يذبح دقيانوس هؤلاء المؤمنين، وبقي حائرًا دهشًا، وقال: ربما أكون في حلم، أو لعل هذه ليست مدينتنا، فسأل رجلًا ما اسم هذه المدينة؟ قال: أفسوس، وفي آخر مطافه تقدم إلى رجل، فأعطاه ورقًا ليشتري به طعامه، فدهش الرجل من نوع هذا النقد، الذي لم يره من قبل، وأخذ يقلبه ويعطيه إلى جبرته، وهم يعجبون منه، ويقولون له: أهذا من كنز عثرت عليه؟ فإنّ هذه الدّراهم من عهد دقيانوس، وقد مضت عليه حقبة طويلة، ثمّ أخذوه، وقادوه إلى حاكمي المدينة، فظنّ في بادىء الأمر أنهم ساقوه إلى دقيانوس، ولكن لما عرف أنه لم يؤت به إليه، زال عنه الكرب، وجفت مدامعه، ثمّ سأله حاكما المدينة - وهما: أريوس، وطنطيوس - أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ وبعد حوار بينه وبينهما، ذكر لهما خبر الفتية، ودقيانوس، وأنّ حديثهما كان أمس وإن كان لديكما ريب من أمري فها هو ذا الكهف، فاذهبا معي لتريا صدق ما أقول، فسارا معه حتّى وصلا إلى باب الكهف، وتقدّمهما تمليخا فأخبرهما بالحديث كله، فداخلهما العجب حين علما أنهم ناموا تسعا وثلاث مئة سنة، وأنّهم أفاقوا ليكونوا آية للناس.
ثم دخل أريوس فرأى تابوتًا من نحاس مختومًا بخاتم، وبداخله لوحان مكتوبٌ عليهما قصّة هؤلاء الفتية، وكيف هربوا من دقيانوس حرصًا على عقيدتهم، ودينهم، فسد عليهم بالحجارة، ولما رأى أريوس، ومن معه هذا القصص، خروا لله سجدًا، وأرسلوا بريدًا إلى ملكهم أن عجل واحضر لترى آية الله في أمر فتية بعثوا بعد أن ناموا تسعًا وثلاث مئة سنة، ثمّ سار الملك، ومعه ركب من حاشيته وأهل مدينته حتى أتوا مدينة أفنوس، وكان يوما مشهودًا، وحين رأى الفتية خر ساجدًا لله تعالى، ثمّ اعتنقهم، وبكى، وهم لا يزالون يسبحون ثمّ قال الفتية له: أيّها الملك، نستودعك الله، ونعيذك من شر الإنس والجن، ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم، وقبضت أرواحهم، فأمر الملك أن يجعل كل منهم في
291
تابوت من ذهب، وحين جنّ الليل، ونام، رآهم في منامه يقولون له: اتركنا كما كنّا في الكهف، ننام على التراب، حتى يوم البعث، فأمر الملك أن يوضعوا في تابوت من ساج، وأن لا يدخل عليهم أحد بعد ذلك، وأن يبنى على باب الكهف مسجد يصلّي فيه الناس، وجعل لهم ذلك اليوم عيدا عظيما. ذلك هو القصص الذي جعله النصارى دليلًا على البعث، أمّا القرآن الكريم، فإنه يقول: إن آياتي على البعث، وإعادة الأرواح بعد الموت ليست مقصورة على هذا القصص وحده، فآياتي عليه لا تعد ولا تحصى، فاقرؤوا صحائف هذا الوجود، ولا تقصروا أمركم على صحائف أهل الكهف والرقيم، واجعلوا أنظاركم تتجه إلى ما حواه الكون، لا إلى ما كتب في القصص، والحكايات، وإن كانت فيها الدلائل والآيات.
إجمال القرآن لقصص أصحاب الكهف
٩ - وقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ ﴿أم﴾: هي (١) المنقطعة المقدرة بـ ﴿بل﴾، والهمزة التي للإنكار مع ملاحظة معنى النهي فيها عند الجمهور، وبـ ﴿بل﴾ وحدها عند بعضهم، والتّقدير: بل أحسبت، أو بل حسبت، ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى ﴿بل﴾ في الأصل، والمعنى أنّ القوم لما تعجّبوا من قصّة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول - ﷺ - على سبيل الامتحان قال سبحانه: بل أظننت يا محمد ﴿أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ﴾ الكهف الغار الواسع في الجبل، فإن لم يكن واسعا فغار ﴿وَ﴾ أصحاب ﴿الرَّقِيمِ﴾ هو كلبهم بلغة الروم قال في «القاموس»: الرقيم - كأمير: قرية أصحاب الكهف، أو جبلهم، أو كلبهم، أو الوادي، أو الصّحراء، أو لوح رصاص أو حجري نقش ورقّم فيه نسبهم، وأسماؤهم، ودينهم ومم هربوا، وجعل على باب الكهف، فالرقيم عربيٌّ، فعيل بمعنى مفعول؛ أي: بل أظننت يا محمد أنهم ﴿كانُوا﴾ في بقائهم على الحياة مدة طويلة من الدهر ﴿مِنْ آياتِنا﴾؛ أي: من بين آياتنا، ودلائل
(١) الشوكاني.
قدرتنا ﴿عَجَبًا﴾؛ أي: آية ذات عجب وضعًا موضع المضاف، أو وصفًا لذلك بالمصدر مبالغة، والعجيب ما خرج عن حد أشكاله، ونظائره وهو خبر لكانوا، و ﴿مِنْ آياتِنا﴾ حال منه.
والمعنى (١): أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادات، ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات، فإن لله تعالى آيات عجيبة، قصتهم عندها كالنزر الحقير؛ أي: لا تحسب (٢) أيّها الرسول أنّ قصّة أصحاب الكهف والرقيم، المذكورة في الكتب السّالفة حين استمروا أحياء أمدًا طويلًا عجيبةٌ بالإضافة إلى ما جعلناه على ظهر الأرض من الزينة، فليست هي بالعجب وحدها من بين آياتنا، بل زينة الأرض وعجائبها أبدع وأعجب من قصة أصحاب الكهف، فإذا وقف علماء الأديان الأخرى لدى أمثالها، دهشين حائرين، فأنا أدعوك وأمتك إلى ما هو أعظم منها، وهو النظر في الكون وعجائبه من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر، والكواكب، إلى نحو أولئك من الآيات الدالة على قدرة الله، وأنه يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه، قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصّة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله؛ لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم.
١٠ - وقوله: ﴿إِذْ أَوَى﴾ ظرف لـ ﴿عَجَبًا﴾ أو مفعول لاذكر محذوفًا؛ أي (٣): اذكر يا محمد قصّة حين صار وأتى، وانضم، والتجأ ﴿الْفِتْيَةُ﴾ والشبان من أشراف الروم، أكرههم دقيانوس ملكهم على الشرك، فأبوا، وهربوا ﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾ هو جيروم في جبلهم بنجلوس، واتّخذوه مأوى، والفتية جمع فتى، وهو الشاب القوي الحدث ﴿فَقالُوا﴾؛ أي: قالت الفتية في دعائهم: ﴿رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ﴾؛ أي: أعطنا من عندك، أي من خزائن رحمتك الخاصّة المكنونة عن عيون أهل المعاداة، فمن ابتدائية متعلقة بـ ﴿آتنا﴾ ﴿رَحْمَةً﴾ خاصة تستوجب المغفرة والأمن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
من الأعداء ﴿وَهَيِّئْ لَنا﴾؛ أي: يسر لنا، وأصلح ورتِّب، وأتمم لنا ﴿مِنْ أَمْرِنا﴾ الذي هو مهاجرة الكفار، والمثابرة على الطاعة ﴿رَشَدًا﴾؛ أي: إصابةً للطريق الموصل إلى المطلوب، واهتداء إليه، وكلا الجارّين متعلق بـ ﴿هَيِّئْ﴾ لاختلافهما في المعنى.
أي: اذكر أيها الرسول حين أوى أولئك الفتية إلى الكهف، هربًا بدينهم من أن يفتنهم عباد الأصنام، والأوثان، وقالوا: إذ ذلك ربنا يسر لنا بما نبتغي من رضاك، وطاعتك رشدا من أمرنا وسدادا إلى العمل الذي نحب، وارزقنا المغفرة، والأمن من الأعداء.
١١ - ﴿فَضَرَبْنا﴾ فعقب هذا القول ﴿ضربنا﴾ وألقينا ﴿عَلَى آذانِهِمْ﴾ حجابًا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة من نومهم حالة كونهم مستقرين ﴿فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾؛ أي: سنين ذوات عدد كثيرة، وهي ثلاث مئة وتسع سنين، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة، وقيل (١): منه التقليل؛ لأنّ الكثير قليل عند الله سبحانه
١٢ - ﴿ثُمَّ﴾ بعد تلك السنين الكثيرة ﴿بَعَثْناهُمْ﴾؛ أي: أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشّبيهة بالموت، وفيه دليل على أن النّوم أخو الموت في اللوازم من البعث، وتعطيل الحياة، والالتحاق بالجمادات، ﴿لِنَعْلَمَ﴾ ونختبر ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾؛ أي: أي الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير، والتفويض، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أحد الحزبين الفتية، والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكًا بعد ملك، وذلك لأنّ اللام للعهد، ولا عهد لغيرهم، والتّصحيح ما سيأتي قريبا، وأيّ مبتدأ خبره قوله: ﴿أَحْصى﴾ فعل (٢) ماض، وهو الصحيح لا أفعل تفضيل، لأنّ المقصود بالاختبار إظهار عجز الكل عن الإحصاء رأسًا لا إظهار أفضل الحزبين وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما؛ أي ضبط ﴿لِما لَبِثُوا﴾؛ أي للبثهم فما مصدرية ﴿أَمَدًا﴾؛ أي: غاية وزمنًا، فالمراد بالأمد هنا المدة، وهو مفعول به ﴿لأحصى﴾، والجار
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة؛ أي: لنختبر أي الحزبين أحصى وضبط أمدًا ومدة للبثهم فيظهر لهم عجزهم، ويفوّضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرّفوا حالهم، وما صنع الله بهم من حفظ أبدانهم، وأديانهم، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه، ويستبصروا أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم، وآية بيّنة لكفارهم، وقرأ (١) أبو الجوزاء وأبو عمران، والنخعي ﴿ليعلم﴾ بضم الياء على ما لم يسمّ فاعله، ويعني بالحزبين المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف؛ أي: لنعلم أهؤلاء أحصى للأمد، أو هؤلاء، فكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف، بعد خروجهم من بينهم، فبعثهم الله ليبين ذلك ويظهر، والظاهر أنّ المراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف، لا أهل المدينة؛ لأنهم لمّا تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، فالحزبان هما: هذان، وكأنّ الذين قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول اهـ من «الفتوحات».
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والزهري (٢): ﴿وهيء﴾ ﴿ويهيء﴾ بيائين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر، عن عاصم، و ﴿هي﴾ لنا ﴿ويهي﴾ لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياءً، واحتمل أن يكون حذفها، فالأول: إبدالٌ قياسي، والثاني: مختلف فيه، ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزومًا.
وقرأ أبو رجاء ﴿رُشْدا﴾ بضم الراء وإسكان الشين، وقرأ الجمهور ﴿رَشَدًا﴾ بفتحهما، قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظه تقتضي ذلك، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية، فإنها كافية.
١٣ - ثم شرع في تفصيل ما أجمل
(١) زاد المسير.
(٢) البحر المحيط.
في قوله: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾ فقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾؛ أي: نخبرك يا محمد، ونبين لك ﴿نَبَأَهُمْ﴾؛ أي: خبر أصحاب الكهف، والرقيم ﴿بِالْحَقِّ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: نقص قصًا متلبسًا بالحق والصدق، وفيه إشارة إلى أن القصاص كثيرا ما يقصون بالباطل، ويزيدون، وينقصون، ويغيرون القصّة كل واحد يعمل برأيه، موافقا لطبعه وهواه، وما يقص بالحق إلا الله تعالى، ثمّ فصّل ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن أصحاب الكهف والرقيم ﴿فِتْيَةٌ﴾؛ أي: شبان أحداث ﴿آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ بالتحقيق لا بالتقليد، صفة لفتيةٌ، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال ﴿وَزِدْناهُمْ هُدًى﴾ على ﴿هُدًى﴾ بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح، والانقطاع إلى الله، والزهد في الدنيا، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقد جرت (١) العادة أن الفتيان أقبل للحق، وأهدى للسبل من الشيوخ الذين قد عتوا، وانغمسوا في الأديان الباطلة، ومن ثمّ كان أكثر الذين استجابوا لله ورسوله - ﷺ - شبانًا، وبقي الشّيوخ على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل، ونحو الآية قوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)﴾، وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيمانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، وقوله: ﴿لِيَزْدادُوا إِيمانًا مَعَ إِيمانِهِمْ﴾.
تنبيه: في أي زمان كان قصص أهل الكهف؟ رجّح ابن كثير أن قصص أهل الكهف كان قبل مجيء النصرانيّة لا بعدها، كما رواه كثير من المفسرين متبعين ما أثر عن العرب، والدليل على ذلك أنّ أحبار اليهود، كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، فقد روي عن ابن عباس، أنّ قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله - ﷺ - فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء الفتية، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، وفي هذا أعظم الأدلّة على أنّ ذلك كان محفوظا عند أهل الكتاب، وأنّه مقدّم على النصرانية.
١٤ - ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ﴾، أي: قوّينا قلوبهم بالصبر على هجر الأهل، والأوطان، وفراق الخلان، والأخدان، والجراءة على إظهار الحق، والرد على
(١) المراغي.
دقيانوس الجبار، وألهمناهم قوة العزيمة، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان، ﴿إِذْ قامُوا﴾ ظرف منصوب بربطنا؛ أي: ربطنا على قلوبهم حين قاموا بين يدي الجبار دقيانوس إذ عاتبهم على تركهم عبادة الأصنام، فإنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبّت الله تعالى هؤلاء الفتية، حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى، وصرحوا بالبراءة من الشركاء، ﴿فَقالُوا﴾؛ أي: قالت الفتية ﴿رَبُّنا﴾؛ أي: مالكنا، وخالقنا ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: رب العالم، ومالكه، وخالقه، والصنم جزء من العالم، فهو مخلوق لا يصلح للعبادة ﴿لَنْ نَدْعُوَا﴾؛ أي: لن نعبد أبدًا ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿إِلهًا﴾؛ أي: معبودًا آخر لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، والعدول عن أن يقال: (ربًا) للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة.
أي: لن ندعو من دون رب السموات والأرض إلهًا لا على طريق الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك، إذ لا رب غيره، ولا معبود سواه، وقد أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الألوهية، والخلق، وبالجملة الثانية إلى توحيد الربوبية والعبادة، وعبدة الأصنام يقرون بتوحيد الأولى، ولا يقرون بتوحيد الثانية، بدليل قوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، وقوله سبحانه حكاية عنهم: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾، وكانوا يقولون في تلبيتهم في الحج: لبّيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
ثم علّلوا عدم دعوتهم لغيره تعالى بقولهم: ﴿لَقَدْ قُلْنا﴾؛ أي: والله لئن عبدنا غيره تعالى لقد قلنا: ﴿إِذًا﴾؛ أي: حين عبدنا غيره قولًا ﴿شَطَطًا﴾ كذبًا وزورًا، وإذا حرف جواب وجزاء مهمل، يقدر بـ ﴿لو﴾، أي: لو دعونا من دونه إلها، والله لقد قلنا قولًا خارجًا عن حد العقول مفرطًا في الظلم.
وفي هذا: إيماء إلى أنّهم دعوا لعبادة الأصنام، وليموا على تركها،
١٥ - ثم حكى سبحانه عن أهل الكهف مقالة بعضهم لبعض فقال: ﴿هؤُلاءِ﴾ مبتدأ، وفي التعبير باسم الإشارة تحقير لهم. ﴿قَوْمُنَا﴾ عطف بيان يعنون أهل بلدهم.
﴿اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانه وتعالى خبر المبتدأ ﴿آلِهَةً﴾؛ أي: أصناما يعبدونها ﴿لَوْلا﴾ حرف تحضيض؛ أي: هلا ﴿يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على عبادة الأصنام ﴿بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ﴾؛ أي: بحجة واضحةٍ تصلح للتمسك بها، وفيه تبكيت لهم، لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال.
أي: إن قومنا هؤلاء، وإن كانوا أكبر منا سنًا وأكثر تجربةً، قد أشركوا مع الله غيره، فهلا أتوا بحجة بينة على صدق ما يقولون، كما أتينا على صدق ما ندّعي بالأدلة الظاهرة، وإنّهم لأظلم الظالمين، فيما فعلوا، وفيما افتروا، ومن ثمّ قال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾؛ أي: من أشد ظلمًا ﴿مِمَّنِ افْتَرى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾، والاستفهام فيه إنكاري بمعنى النفي؛ أي: لا أظلم ممن افترى على الله الكذب، ونسب إليه الشريك، وزعم أن له ولدًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فإنّ (١) الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد.
والمعنى: أنّه (٢) أظلم من كلّ ظالم، وعذابه أعظم من كل عذاب؛ لأن الظّلم موجب للعذاب، فيكون الأعظم للأظلم،
١٦ - ثم قال بعض الفتية لبعض منهم، وقت اعتزالهم عن قومهم ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ﴾ وعبادتهم ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾، أي: إلّا عبادته سبحانه وتعالى، أو وإذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله؛ أي: وإذ أردتم اعتزالهم، ومفارقتهم، واعتزال الشيء الذي يعبدونه ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾ أي: إلا عبادته.
وعلى التقديرين: فالاستثناء متصل على تقدير كونهم مشركين كأهل مكة، ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان، ﴿فَأْوُوا﴾؛ أي: التجئوا ﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾، وصيروا إليه، واجعلوه مأواكم.
قال الفراء (٣): هو جواب إذ، ومعناه اذهبوا إليه، واجعلوه مأواكم، وقيل:
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
هو دليل على جوابه؛ أي: إذ اعتزلتموهم اعتزالًا اعتقاديًا، فاعتزلوهم اعتزالًا جسمانيًّا، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف، وفيه إشارةٌ إلى أن الاعتزال الاعتقادي يوجب الاعتزال الجسماني، ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ﴾؛ أي: يبسط لكم ويوسع عليكم ﴿رَبُّكُمْ﴾؛ أي: مالك أمركم ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: من تفضّله، وإنعامه في الدارين ﴿وَيُهَيِّئْ لَكُمْ﴾؛ أي: يسهل لكم ﴿مِنْ أَمْرِكُمْ﴾ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ﴿مِرْفَقًا﴾؛ أي: ما ترتفقون، وتنتفعون به غدًا، وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم عن شوب الشك، وقوة وثوقهم.
أي: وإذ (١) فارقتموهم، وخالفتموهم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم بأبدانكم، والجؤوا إلى الكهف، وأخلصوا لله العبادة في مكان تتمكنون منها بلا رقيب، ولا حسيب، وإنّكم إن فعلتم ذلك، فالله تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارين، ويسهّل لكم من أمر الفرار بدينكم، والتوجّه إليه في عبادتكم ما ترتفقون وتنتفعون به، أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيّا إلا وهو شابّ. وقرأ ﴿قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ٦٠﴾، ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ﴾ ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾ وقرأ (٢) أبو جعفر، والأعرج وشيبة، وحميد، وابن سعدان، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر، في رواية الأعشى، والبرجميّ، والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون، بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع والمحيض، فإن قياسه الفتح، وقرأ ابن أبي إسحاق، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء؛ أي: رفقًا.
١٧ - ثم بيّن سبحانه حالهم بعد أن أووا إلى الكهف، فقال: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ يا محمد، أو يا من يصلح للخطاب ويتأتى منه الرؤية، وليس المراد به الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس ﴿إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ﴾ أي تتزاور وتتنحّى وتميل بحذف إحدى التائين، من الزور بفتح الواو، وهو الميل ﴿عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ الذي.. أووا إليه، فالإضافة لأدنى ملابسة
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
299
﴿ذاتَ الْيَمِينِ﴾؛ أي: جهة (١) ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره؛ أي: جانبه الذي يلي المغرب، فلا يقع عليهم شعاعها، فيؤذيهم؛ لأنّ الكهف كان جنوبيًا؛ أي: كانت ساحته داخلة في جانب الجنوب، أو زوّرها الله عنهم، وصرفها على منهاج خرق العادة، كرامةً لهم، وحقيقتها: الجهة ذات اسم اليمين؛ أي: الجهة المسماة باسم اليمين، ﴿وَإِذا غَرَبَتْ﴾؛ أي: تراها عند غروبها. ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾، أي: تقطعهم وتتركهم ﴿ذاتَ الشِّمالِ﴾؛ أي: جهة ذات شمال الكهف، أي: جانبه الذي يلي المشرق، وجملة قوله: ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنهم في فجوة متسع من ذلك الكهف، ووسطه، فيصيبهم نسيم الهواء وبرده.
وخلاصة ذلك (٢): أنهم طول نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا في غروبها، إذ كان باب الكهف في مقابلة بنات نعش، فهو إلى الجهة الشمالية، والشمس لا تسامت ذلك أبدًا، لأنّها لا تصل إلى أبعد من خط السرطان، وكل بلاد بعده إلى جهة الشّمال تكون الشمس من ورائها لا أمامها، فيكون الظلّ مائلًا جهة الشمال طول السنة، كما يعلم ذلك من علم الفلك، وإيضاح ذلك أنه لو كان باب الكهف في ناحية الشرق، لمّا دخل إليه شيء منها حين الغروب، ولو كان من ناحية الجنوب، لما دخل منها شيء حين الطلوع ولا الغروب، وما تزاور الفيء لا يمينًا ولا شمالًا، ولو كان جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال، ولا تزال فيه إلى الغروب.
تنبيه: وهنا إشكالٌ لأنه قد تقدّم في القصة أنّ الملك الظالم الذي فرّوا منه بنى على باب الكهف سدًّا، وقال: لكي يموتوا جوعًا وعطشًا، وأنّ السد استمرّ عليهم مدة لبثهم نيامًا، وأنّ الملك الصالح اجتمع بهم حين تيقّظوا، وبنى على باب الغار مسجدًا، بعد موتهم، وصريح هاتين الآيتين يردّ هذا ويبطله، إذ لو كان
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
300
باب الغار قد سدّ كما ذكر، لم يستقم قوله: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ إلخ فليتأمّل وليحرّر، وقرأ (١) الحرميان - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: ﴿تزَّاورَ﴾ بإدغام تاء تتزاور في الزاي، وقرأ الكوفيون، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وأحمد بن جبير الأنطاكي، بتخفيف الزاي، إذا حذفوا التاء، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر، وقتادة، وحميدٌ، ويعقوب، عن العمري ﴿تَزْوَرُّ﴾ على وزن تحمر، وقرأ الجحدريُّ، وأبو رجاء، وأيّوبٌ السختيانيُّ، وابن أبي عبلة، وجابر، وورد عن أيوب ﴿تَزْوَارُّ﴾ على وزن تحمار، وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل ﴿تَزْوَأَرُّ﴾ بهمزة قبل الراء، على وزن قولهم: ادهأمَّ واشْعَأل فرارًا من التقاء الساكنين، وكلّها بمعنى الزور، بمعنى الميل، وقرأ الجمهور ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾ بالتاء، وقرأت فرقة بالياء؛ أي: يقرضهم الكهف، وللمفسرين (٢) في تعيين مكان الكهف أقوال، فقيل: هو قريب من إيلياء - بيت المقدس - ببلاد الشام، وقال ابن إسحاق عند نينوى ببلاد الموصل، وقيل: ببلاد الروم، ولم يقم إلى الآن الدّليل على شيء من ذلك، ولو كان لنا في معرفة ذلك فائدة دينية.. لأرشدنا الله إليه، كما قال - ﷺ -: «ما تركت شيئًا يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار، إلا وقد أعلمتكم به».
وخلاصة ذلك: أي إن هدايتهم إلى التوحيد، ومخالفتهم قومهم، وآباءهم، وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم، وإيواءهم إلى كهف تلك صفته، بحيث تزاور الشمس عنهم طالعةً، وتقرضهم غاربة، وإخبارك بقصصهم، كل ذلك ﴿مِنْ آياتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى الكثيرة في الكون الدالّة على كمال قدرته، وعلى أنّ التّوحيد هو الدين الحق، وعلى أن الله يكرم أهله.
والمعنى (٣): أي ما صنع الله بهم من تزاور الشمس وقرضها حالتي الطلوع والغروب، مع كونهم في موقع شعاعها من آيات الله العجيبة الدالة على كمال
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
301
علمه، وقدرته، وحقّية التوحيد، وكرامة أهله عنده، ثمّ بيّن أن هدايتهم إلى التوحيد كانت بعناية الله ولطفه، فقال: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾؛ أي: من يوفّقه الله للاهتداء بآياته، وحججه إلى الحق، كأصحاب الكهف. ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ الذي أصاب سبيل الحق، وفاز بالحظ الأوفر في الدارين، فلن يقدر على إضلاله أحد، والمراد: إما الثناء عليهم، بأنهم المهتدون، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفّقه الله للاستبصار بها، كأصحاب الكهف، وقوله: ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ بدون ياء في الرسم؛ لأنها من ياءات الزوائد، وهي لا تثبت فيه، وأما في النطق فعند الوقف تحذف عند الجميع، وعند الوصل بعض السبعة يحذفها، وبعضهم يثبتها اهـ شيخنا.
وفي هذا (١): إيماء إلى أن أصحاب الكهف أصابوا الصّواب ووفّقوا لتحقيق ما أمّلوا من نشر الرحمة عليهم، وتهيئة المرفق لهم، ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾؛ أي: ومن يضلله الله لسوء استعداده، وصرف اختياره إلى غير سبل الهدى والرشاد، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾؛ أي: ناصرا يهديه إلى الحق، كدقيانوس وأصحابه؛ أي: فلن تجد له أبدًا خليلًا، ولا حليفًا يرشده لإصابة سبل الهداية، ويخلصه من الضلال؛ لأن التّوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء من عباده، ويخذل من يشاء، وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ - وإرشادٌ له إلى أنه لا ينبغي له أن يحزن على إدبار قومه عنه، وتكذيبهم إياه، فإن الله لو شاء.. لهداهم وآمنوا.
١٨ - ﴿وَتَحْسَبُهُمْ﴾؛ أي: وتحسب أيها الرسول أو أيّها المخاطب أصحاب الكهف، وتظنّهم لو رأيتهم ﴿أَيْقاظًا﴾؛ أي: منتبهين لانفتاح أعينهم على هيئة الناظر ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾؛ أي: نيام جمع راقد كقاعد، وقعود؛ أي: والحال أنهم راقدون نائمون؛ أي: ولو رأيتهم.. لظننتهم في حال يقظة لانفتاح أعينهم، كأنهم ينظرون إلى من أمامهم، والحال أنهم: نائمون لما بهم من الحال الخاصة بالنوم، كاسترخاء المفاصل، والأعضاء، ولا سيما العينان والوجه ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
302
ونقلب هؤلاء الفتية في حال رقدتهم بأيدي الملائكة، أو بيد القدرة ﴿ذاتَ الْيَمِينِ﴾ نصب على الظرفية؛ أي: جهة تلي أيمانهم ﴿وَذاتَ الشِّمالِ﴾؛ أي: جهة تلي شمائلهم، كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم، على طول الزمان؛ أي: نحوّلهم في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن، ومرّة للجنب الأيسر، كي ينال روح النّسيم جميع أبدانهم، ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث، والمراد بذات اليمين وذات الشمال هنا يمينهم وشمالهم أنفسهم، بخلاف ما تقدم، فإنّ المراد به يمين الكهف وشماله كما مر ﴿وَكَلْبُهُمْ﴾؛ أي: وكلب أولئك الفتية، وهو كلب راع قد تبعهم على دينهم، واسمه قطمير ﴿باسِطٌ ذِراعَيْهِ﴾ حكاية حال ماضية؛ أي: وكلبهم ملق يديه على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ﴿بِالْوَصِيدِ﴾؛ أي: بموضع الباب من الكهف والذراع (١) من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى قال في «القاموس»: الوصيد الفناء والعتبة. انتهى قال السدي: الكهف لا يكون له عتبة، ولا باب، وإنما أراد أنّ الكلب منه موضع العتبة من البيت ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على أهل الكهف، أي: لو شاهدت يا محمد، أو أيها المخاطب في رقدتهم التي رقدوها في الكهف ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: لأدبرت ﴿فِرارًا﴾ منهم، والفرار الهرب، وهو منصوب على المصدرية من معنى ما قبله، إذ التولية، والفرار معناهما واحد؛ أي: ولّيت توليةً، وفررت فرارًا. ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾؛ أي: ولملئت (٢) نفسك حين اطّلاعك عليهم خوفًا وفزعًا، فكل من رآهم فزع منهم فزعًا شديدًا لأنّ الله سبحانه قد ألبسهم هيبة ووقارًا كي لا يصل إليهم واصل ولا تلمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الحين الذي أراد أن يجعلهم فيه عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج عليهم من عباده، وليعلموا أنّ وعد الله حق، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ﴾ بالنون مزيد اعتناء الله بهم، حيث أسند
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) زاد المسير.
303
التقليب إليه تعالى، وأنّه الفاعل ذلك، وحكى الزمخشريّ أنه قرىء ﴿ويقلِّبهم﴾ بالياء مشدّدًا؛ أي: يقلبهم الله، وقرأ أبو رجاء ﴿وتقلبهم﴾ بتاء مفتوحة، وسكون القاف، وتخفيف اللام المكسورة مضارع قلب مخففًا، وقرأ أبو الجوزاء، وعكرمة: ﴿ونقلبهم﴾ مثلها إلا أنه بالنون، وقرأ الحسن فيما حكى ابن جني، و ﴿تقلبهم﴾ مصدر تقلب منصوبًا بفعل مقدر، كأنه قيل: وترى، أو تشاهد، تقلبهم، وعنه أيضًا أنه قرأ كذلك إلّا أنه ضم الباء فهو مصدرٌ مرتفعٌ بالابتداء، قاله أبو حاتم، وقرأ أبو جعفر الصادق ﴿وكالبهم﴾؛ أي: صاحب كلبهم كما تقول لابن، وتامر؛ أي: صاحب لبن وتمر.
وقرأ ابن وثّاب، والأعمش، وأبو حصين ﴿لو اطلعت﴾ بضم الواو، وصلًا، وقرأ الجمهور بكسرها، وقد ذكر ضمها عن شيبة، وأبي جعفر، ونافع، وقرأ عاصم، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، ﴿وَلَمُلِئْتَ﴾ خفيفةً مهموزة، وقرأ ابن عباس، وابن كثير، ونافع، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، ﴿وَلَمُلِئْتَ﴾ بتشديد اللام مهمزا، وقرأ أبو جعفر، وشيبة بتشديد اللام، وإبدال الياء من الهمزة، وقرأ الزهريّ بتخفيف اللام والإبدال، وتقدم الخلاف في ﴿رُعْبًا﴾ في آل عمران، وقرأ هنا بضم العين أبو جعفر وعيسى
١٩ - ﴿وَكَذلِكَ﴾؛ أي: وكما (١) أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مر الأيام بقدرتنا. ﴿بَعَثْناهُمْ﴾ من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا في خلقنا، ليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه، من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار، إذا تبيّنوا طول الزمان عليهم، بهيئتهم حين رقدوا، و ﴿لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: وليقع التساؤل بينهم، والاختلاف، والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال، وظهور القدرة الباهرة، والاقتصار على علة السؤال لا ينفي غيرها، وإنّما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار، وجملة قوله: قالَ ﴿قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ مبيّنة لما قبلها من التساؤل بينهم؛ أي: كم مدة لبثكم في النوم؟ قالوا:
(١) المراغي.
304
ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة.
أي: وكذلك بعثناهم لتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضًا، فيقول قائل منهم لأصحابه: كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾؛ أي: قال بعضهم جوابًا عن سؤال من سأل منهم: لبثنا يومًا أو بعض يوم، ظنًا منهم أنّ الأمر كذلك، قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر النهار، فلذلك قالوا يومًا، فلما رأوا الشّمس قالوا: أو بعض يوم، وكان قد بقيت بقية من النهار، ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال (١) بعض آخر منهم بما سنح لهم من الأدلة، أو بإلهام من الله ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾؛ أي: أنتم لا تعلمون مدة لبثكم؛ لأنها متطاولة ومقدارها مبهم، وإنما يعلمها الله تعالى، وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وهذا من الأدب البارع في الرد على الأولين بأحسن أسلوب، وأجمل تعبير، وحين علموا أنّ الأمر ملتبسٌ عليهم، عدلوا إلى الأهم في أمرهم، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ﴾؛ أي: بدراهمكم ﴿هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ وهي: طرسوس - بفتح الراء - كما جزم بذلك فخر الدين الرازي، قالوه إعراضًا عن التعمق في البحث عن مدة لبثهم؛ لأنه ملتبسٌ لا سبيل لهم إلى علمه، وإقبالًا على ما يهمهم بحسب الحال، كما ينبىء عنه ﴿الفاء﴾، والورق: الفضة مضروبةً أو غير مضروبة.
وفي قولهم: ﴿هذِهِ﴾ إشارة (٢) إلى أنّ القائل كان قد أحضرها ليناولها، بعض أصحابه، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم، ونحوها لمن خرج من منزله، لا ينافي التّوكّل على الله كما جاء في الحديث «اعقلها وتوكّل» وقرأ أبو (٣) عمرو، وحمزة، وأبو بكر، والحسن، والأعمش، واليزيديّ، ويعقوب في رواية، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان: ﴿بوَرْقِكُم﴾ بإسكان الراء، وقرأ باقي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
305
السبعة، وزيد بن عليّ بكسرها، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو، وإسكان الراء، وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعن ابن محيصن أيضًا كذلك إلا أنه كسر الراء ليصحّ الإدغام، وقال الزمخشري: وقرأ ابن محيصن أيضًا كذلك إلا أنه كسر الراء ليصحّ الإدغام، وقال الزمخشري: وقرأ ابن كثير ﴿بورقكم﴾ بكسر الراء، وإدغام القاف في الكاف انتهى، وهو مخالفٌ لما نقل النّاس عنه، وحكى الزجاج قراءة بكسر الواو، وسكون الراء دون إدغام، وقرأ عليّ بن أبي طالب ﴿بوارقكم﴾ على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر، وجائل.
﴿فَلْيَنْظُرْ﴾ ذلك الأحد ﴿أَيُّها﴾؛ أي: أي أهل المدينة ﴿أَزْكى طَعامًا﴾؛ أي: أطيب طعامًا وأحل مكسبًا، قال الضحاك: وكان أكثر أموالهم غصوبًا أو أرخص سعرًا، وقيل (١): يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام؛ أي: فليبصر أي الأطعمة أجود وألذ ﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ﴾؛ أي: بقوت، وطعام، وهو ما يقوم به بدن الإنسان، ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الأزكى طعامًا ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾؛ أي: وليترفق في دخول المدينة، وفي شرائه، وفي إيابه منها، ﴿وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ﴾؛ أي: ولا يخبرن بمكانكم ﴿أَحَدًا﴾ من أهلها،
٢٠ - ثمّ ذكروا تعليل الأمر والنهي السالفين بقولهم: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: ليبالغ في التلطف وعدم الإشعار لأن أهل المدينة ﴿إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إن يطلعوا عليكم، ويظفروا بكم، والضمير (٢) للأهل المقدر في أيّها ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾؛ أي: يقتلوكم بالرّجم، وهو الرمي بالحجارة، إن دمتم على ما أنتم عليه، وهو أخبث القتلة، وكان ذلك من عادتهم، ولهذا خصّه من بين أنواع ما يقع به القتل، ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ﴾؛ أي: يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله تعالى، أو يدخلوكم فيها كرهًا من العود بمعنى الصيرورة؛ أي (٣): إن الكُفَّار إن علموا بمكانكم، ولم تفعلوا ما يريدون منكم، بل ثبتم على إيمانكم، إمّا أن يقتلوكم رميًا بالحجارة، وكان ذلك هو المتسع في الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير في الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن في الدولة، وإما أن يعيدوكم إلى ملة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
306
آبائكم التي هم مستمسكون بها، ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا﴾؛ أي: وإن دخلتم في دينهم، وملّتهم، ولو بالإكراه، والإلجاء لن تفوزوا بخير ﴿أَبَدًا﴾، أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة، والاستمرار عليها، فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم، والخذلان الذي لا خذلان بعده.
وفي «الكرخي»: واستشكل الحكم عليهم بعدم الفلاح، مع الإكراه المستفاد من ﴿إِنْ يَظْهَرُوا﴾ إذ المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه، لخبر «رفع عن أمّتي» الخ، وأجيب بأنّ المؤاخذة به كانت في غير هذه الشريعة بدليل ﴿وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ﴾ وخبر «رفع عن أمتي» الخ اهـ وقرأ الحسن، ﴿وليتلطف﴾ بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال، ﴿وليُتلَطَّفْ﴾ بضم الياء مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو صالح، ويزيد بن القعقاع، وقتيبة ﴿ولا يشعرن بكم أحد﴾ ببناء الفعل للفاعل، ورفع ﴿أحدٌ﴾ وقرأ زيد بن عليّ ﴿يظهروا﴾ بضم الياء مبنيًّا للمفعول.
الإعراب
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿الْكِتابَ﴾: مفعول به ﴿وَلَمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لَمْ يَجْعَلْ﴾: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور، في محل المفعول الأول ﴿عِوَجًا﴾: مفعول ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة ﴿قَيِّمًا﴾: حال من ضمير له، وهي حال مؤكدة، ويجوز أن تكون ﴿الواو﴾ حالية، والجملة الفعلية حال أولى من ﴿الْكِتابَ﴾ ﴿قَيِّمًا﴾: حال ثانية منه متداخلة، والتقدير: أنزله غير جاعل له عوجًا قيمًا.
﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)﴾.
307
﴿لِيُنْذِرَ﴾: ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿ينذر﴾: منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على ﴿الْكِتابَ﴾ و ﴿ينذر﴾ يتعدى إلى مفعولين أولهما محذوف، تقديره: لينذر الذين كفروا به ﴿بَأْسًا﴾: مفعول ثان له ﴿شَدِيدًا﴾: صفة لـ ﴿بَأْسًا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ والتقدير: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب لإنذاره الذين كفروا به بأسًا شديدًا، ﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على الكتاب، والجملة معطوفة على جملة ﴿ينذر﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للمؤمنين ﴿يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور، خبرها، مقدم ﴿أَجْرًا﴾ اسمها مؤخر ﴿حَسَنًا﴾: صفة ﴿أَجْرًا﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿يُبَشِّرَ﴾ على رأي من يرى أن ﴿يُبَشِّرَ﴾ يتعدى لمفعولين، وقيل: هو في تأويل مصدر، منصوب بنزع الخافض، والخافض المحذوف متعلق بـ ﴿يُبَشِّرَ﴾ والتقدير: ويبشرُ المؤمنين بكون أجر حسن لهم، ﴿ماكِثِينَ﴾: حال من ﴿الهاء﴾ في ﴿لَهُمْ﴾ ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ماكِثِينَ﴾ و ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿ماكِثِينَ﴾ أيضًا.
﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)﴾.
﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول أول معطوف على ﴿يُنْذِرَ﴾ الأول وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والمفعول الثاني محذوف تقديره بأسًا شديدًا ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ ﴿ما﴾ نافية ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿عِلْمٍ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾ زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، ﴿لِآبائِهِمْ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في ﴿لَهُمْ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتقرير جهالتهم، وأنهم
308
يقولون ما لا يعرفون، ﴿كَبُرَتْ﴾: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مبهم مستتر فيه وجوبًا مفسر بالنكرة، المذكورة ﴿كَلِمَةً﴾: منصوب على التمييز لفاعل ﴿كبر﴾، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: تلك الكلمة، وجملة ﴿كَبُرَتْ﴾ في محل الرفع خبر مقدم للمخصوص بالذم المحذوف، والجملة الاسمية جملة إنشائية، سيقت لإنشاء الذم، لا محلّ لها من الإعراب، ﴿تَخْرُجُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على كلمة ﴿مِنْ أَفْواهِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَخْرُجُ﴾ والجملة صفة لـ ﴿كَلِمَةً﴾ ﴿إِنْ﴾: نافية ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿كَذِبًا﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا قولًا كذبًا.
﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
﴿فَلَعَلَّكَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿لعل﴾: حرف ترج ونصب، وهي من أخوات إن و ﴿الكاف﴾ اسمها ﴿باخِعٌ﴾: خبرها ﴿نَفْسَكَ﴾: مفعول به لـ ﴿باخِعٌ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿باخِعٌ﴾ وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها ﴿بِهذَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُوا﴾ ﴿الْحَدِيثِ﴾: بدل من اسم الإشارة ﴿أَسَفًا﴾: مفعول لأجله منصوب بـ ﴿باخِعٌ﴾ أو منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال، وجواب الشرط محذوف دل عليه الترجي، والتقدير: إن لم يؤمنوا بهذا الحديث، فلا تحزن، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وجملة الشرط مستأنفة.
﴿إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿جَعَلْنا﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿جَعَلْنا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل النهي المقصود من الترجي، ﴿ما﴾: في محل النصب مفعول أول لـ ﴿جعل﴾ ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صلة لها ﴿زِينَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿جعل﴾ وإن كان بمعنى خلقنا، فتكون ﴿زِينَةً﴾ حالًا من ما الموصولة ﴿لَها﴾: جار ومجرور، صفة
309
لـ ﴿زِينَةً﴾. ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل ﴿نبلوهم﴾ فعل ومفعول منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿أَيُّهُمْ﴾: ﴿أي﴾: اسم استفهام مبتدأ و ﴿الهاء﴾: مضاف إليه ﴿أَحْسَنُ﴾: خبر المبتدأ ﴿عَمَلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿نبلو﴾ لأنه في معنى نعلم، وقد علّق عن العمل بـ ﴿أي﴾ الاستفهامية، ويجوز أن تكون ﴿أي﴾ موصولة بمعنى الذي وتعرب بدلًا من ﴿الهاء﴾ في ﴿نبلوهم﴾ والتقدير: لنبلو الذي هو أحسن، و ﴿أَحْسَنُ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ﴿أَحْسَنُ﴾ والجملة صلة ﴿لأي﴾ الموصولة، وتكون الضمة في ﴿أي﴾ ضمة بناء؛ لأن شرطه موجود، وهو أن تضاف، ويحذف صدر صلتها، وجملة ﴿نبلوهم﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿لام﴾ التعليل الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنا﴾ والتقدير: إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لبلاء من عليها أيهم أحسن عملًا.
﴿وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبًا (٩)﴾.
﴿وَإِنَّا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿لَجاعِلُونَ﴾: خبره مرفوع بـ ﴿الواو﴾ و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ ﴿جاعلون﴾ ﴿عَلَيْها﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها ﴿صَعِيدًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جاعلون﴾. ﴿جُرُزًا﴾: صفة لـ ﴿صَعِيدًا﴾. ﴿أَمْ﴾: منقطعة تقدر بـ ﴿بل﴾، وبهمزة الإنكار، ﴿حَسِبْتَ﴾: فعل وفاعل ﴿أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ﴾: ناصب واسمه، ومضاف إليه ﴿وَالرَّقِيمِ﴾: معطوف على ﴿الْكَهْفِ﴾. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مِنْ آياتِنا﴾ حال من ﴿عَجَبًا﴾ ﴿عَجَبًا﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾ وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي حسب، وجملة حسب مستأنفة، والاستفهام المستفاد من أم للإنكار، والنفي، واليس المراد نفي العجب عن قصة أهل الكهف، فهي عجب كما ذكرنا، ولكن القصد نفي كونها أعجب الآيات.
310
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدًا (١٠)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر إذ أوى ﴿أَوَى الْفِتْيَةُ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَوَى﴾. ﴿فَقالُوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿أَوَى﴾ ﴿رَبَّنا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ ﴿آتِنا﴾: فعل ومفعول أول لأنه بمعنى أعطنا، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب النداء ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿رَحْمَةً﴾. ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿رَبَّنا﴾ ﴿وَهَيِّئْ﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَنا﴾ متعلق بـ ﴿هَيِّئْ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتِنا﴾. ﴿مِنْ أَمْرِنا﴾: جار ومجرور حال من ﴿رَشَدًا﴾. ﴿رَشَدًا﴾: مفعول به.
﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)﴾.
﴿فَضَرَبْنا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿ضربنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قالوا﴾ ﴿عَلَى آذانِهِمْ﴾ متعلق به، ومفعول ﴿ضربنا﴾ محذوف تقديره: حجابًا مانعًا من السماع، ﴿فِي الْكَهْفِ﴾: حال من ضمير آذانهم، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، ﴿سِنِينَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، وعلامة نصبه الياء والظرف متعلق بـ ﴿ضربنا﴾. ﴿عَدَدًا﴾: نعت لـ ﴿سِنِينَ﴾ لأنه فعلٌ بمعنى مفعول، أي: سنين معدودة.
﴿ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَدًا (١٢)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿بَعَثْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿ضربنا﴾ ﴿لِنَعْلَمَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، أو عاقبة ﴿نعلم﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مع أن
311
المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لعلمنا أي الحزبين إلخ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿بعثنا﴾ ﴿أَيُّ﴾: اسم استفهام مبتدأ مرفوع ﴿الْحِزْبَيْنِ﴾: مضاف إليه، ﴿أَحْصى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَيُّ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي علم؛ لأنها معلقة عنها باسم الاستفهام ﴿لِمَا﴾: اللام حرف جر ﴿ما﴾ مصدرية ﴿لَبِثُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف نعت لـ ﴿أَمَدًا﴾ ولكنه لما قدّم عليه جعل حالا ﴿أَمَدًا﴾: مفعول أحصى، والتقدير: أحصى أمدا للبثهم.
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدًى (١٣)﴾.
﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ ﴿نَقُصُّ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿نَقُصُّ﴾ ﴿نَبَأَهُمْ﴾: مفعول به ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿نَقُصُّ﴾ أو من مفعوله، وهو النبأ، و ﴿الباء﴾ للملابسة ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لسرد قصتهم ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل ﴿بِرَبِّهِمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿فِتْيَةٌ﴾. ﴿وَزِدْناهُمْ هُدًى﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾.
﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهًا لَقَدْ قُلْنا إِذًا شَطَطًا (١٤)﴾.
﴿وَرَبَطْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زِدْناهُمْ﴾ ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿رَبَطْنا﴾ ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿رَبَطْنا﴾ ﴿قامُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿فَقالُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قامُوا﴾ ﴿رَبُّنا﴾: مبتدأ ﴿رَبُّ السَّماواتِ﴾: خبر. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب
312
مقول ﴿قالوا﴾ ﴿لَنْ نَدْعُوَا﴾: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿إِلهًا﴾. ﴿إِلهًا﴾: مفعول ﴿نَدْعُوَا﴾. ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب، وجزاء، مهمل دال على شرط مقدر، تقديره: إن دعونا إلهًا من دونه.. لقد قلنا قولًا شططا. ﴿شَطَطًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر، محذوف؛ أي: قولًا ذا شطط، أي إفراط وظلم.
﴿هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥)﴾.
﴿هؤُلاءِ﴾: مبتدأ. ﴿قَوْمُنَا﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من ﴿آلِهَةً﴾. ﴿آلِهَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، والأول محذوف تقديره: اتخذوا الأصنام آلهة من دونه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قالوا﴾، وهذه الجملة إخبار في معنى الإنكار، ويجوز أن يكون ﴿قَوْمُنَا﴾: هو الخبر، و ﴿اتَّخَذُوا﴾: حالًا. وفي «السمين»: و ﴿اتَّخَذُوا﴾: يجوز أن يتعدى لواحد، بمعنى عملوا؛ لأنهم نحتوها، بأيديهم، ويجوز أن يكون متعديًا لاثنين بمعنى صيّروا، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ هو الثاني قدم و ﴿آلِهَةً﴾ هو الأول، وعلى الوجه الأول، يجوز في ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أن يتعلق بـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، وأن يتعلق بمحذوف حالًا من ﴿آلِهَةً﴾ إذ لو تأخر.. لجاز أن يكون صفة ﴿لآلهة﴾ اهـ. ﴿لَوْلا﴾: حرف تحضيض مضمن معنى الإنكار، ﴿يَأْتُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: حال من ﴿سلطان﴾ ﴿بِسُلْطانٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتُونَ﴾ ﴿بَيِّنٍ﴾: صفة لـ ﴿سلطان﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية ﴿من﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع، مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على
313
كونها مستأنفة ﴿افْتَرى﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتَرى﴾ ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به لـ ﴿افْتَرى﴾.
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾.
﴿وَإِذِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، ﴿اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل مضاف إليه، لـ ﴿إِذِ﴾ ﴿وَما يَعْبُدُونَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ معطوف على ﴿الهاء﴾ في ﴿اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ إن كانت موصولةً، أو موصوفةً، ويصح كونها مصدرية، والتقدير: وعبادتهم. ﴿يَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف، تقديره: وما يعبدونه ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء ﴿اللَّهَ﴾: مستثنى متصل من ﴿ما﴾ أو من العائد المحذوف على تقدير: كونهم مشركين، ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان، ﴿فَأْوُوا﴾: فعل وفاعل و ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إِذِ﴾ الشرطية، وجوبًا كما قاله الفراء، نظير قولك: إذ فعلت فافعل كذا ﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب ﴿إِذِ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذِ﴾ الشرطية من شرطها وجوابها في محل النصب، معطوف على جملة قوله: ﴿هؤُلاءِ قَوْمُنَا﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قالوا﴾.
﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾.
﴿يَنْشُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به ﴿رَبُّكُمْ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب الطلب ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾: جار ومجرور، صفة لمفعول محذوف تقديره: نجاحًا من رحمته، ﴿وَيُهَيِّئْ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يَنْشُرْ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُهَيِّئْ﴾ ﴿مِنْ أَمْرِكُمْ﴾: حال من ﴿مِرْفَقًا﴾ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها ﴿مِرْفَقًا﴾: مفعول به.
﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾.
﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على
314
أيّ مخاطب، والجملة مستأنفة ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط متعلق بـ ﴿تَرَى﴾ ويجوز أن تكون شرطية متعلّقة بما بعدها ﴿طَلَعَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّمْسَ﴾، والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ ﴿إِذا﴾ ﴿تَزاوَرُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الشمس، ﴿عَنْ كَهْفِهِمْ﴾: متعلق به ﴿ذاتَ الْيَمِينِ﴾: ظرف، ومضاف إليه، والإضافة فيه من إضافة المسمى إلى الاسم، والظرف متعلق بـ ﴿تَزاوَرُ﴾، وجملة ﴿تَزاوَرُ﴾: في محل النصب حال من الشمس، أي: وترى الشمس وقت طلوعها، متزاورة عن كهفهم، ذات اليمين؛ أي: جهة يمين الكهف، ﴿وَإِذا غَرَبَتْ﴾: ظرف مجرد عن معنى الشرط، أضيف إلى الجملة، معطوف على قوله: ﴿إِذا طَلَعَتْ﴾ على كونه متعلقا بـ ﴿تَرَى﴾ ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّمْسَ﴾. ﴿ذاتَ الشِّمالِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تقرض﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تَزاوَرُ﴾ على كونها حالًا من ﴿الشَّمْسَ﴾ ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِي فَجْوَةٍ﴾: خبره ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فَجْوَةٍ﴾، والجملة في محل النصب حال من هاء ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾.
﴿ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾.
﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ ﴿مِنْ آياتِ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما ﴿يَهْدِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿مِنْ﴾ على كونه فعل الشرط لها، ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب ﴿هو﴾ ﴿الْمُهْتَدِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجزم بـ ﴿مِنْ﴾ على كونها جوابٌ لها، والجملة الشرطية مستأنفة، ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿مِنْ﴾ اسم شرط مبتدأ، والخبر جملة الجواب كما مر آنفًا، ﴿يُضْلِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿فَلَنْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ ﴿لن﴾. ﴿لن تجد﴾: ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على من يصلح للخطاب، ﴿لَهُ﴾ متعلق به
315
وَلِيًّا: مفعول به لـ ﴿تَجِدَ﴾ لأنه من وجد بمعنى أصاب ﴿مُرْشِدًا﴾: صفة ﴿وَلِيًّا﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مِنْ﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿مِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مِنْ﴾ الأولى.
﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)﴾.
﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة، ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ حالية ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿رُقُودٌ﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿تَحْسَبُهُمْ﴾ ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿نُقَلِّبُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله سبحانه، ﴿ذاتَ الْيَمِينِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿نُقَلِّبُهُمْ﴾ ﴿وَذاتَ الشِّمالِ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿تَحْسَبُهُمْ﴾ ﴿وَكَلْبُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ حالية ﴿كَلْبُهُمْ﴾: مبتدأ ﴿باسِطٌ﴾: خبره ﴿ذِراعَيْهِ﴾: مفعول ﴿باسِطٌ﴾ ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ متعلق بـ ﴿باسِطٌ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب حال من (هاء) ﴿نُقَلِّبُهُمْ﴾ ﴿لَوِ﴾ شرطية مبنية على سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال بحركة التخلص من التقاء الساكنين، ﴿اطَّلَعْتَ﴾: فعل وفاعل فعل شرط، لـ ﴿لَوِ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿لَوَلَّيْتَ﴾: ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوِ﴾. ﴿وليت﴾ فعل وفاعل جواب شرط لـ ﴿لَوِ﴾ ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿فِرارًا﴾ ﴿فِرارًا﴾: مفعول مطلق من معنى الفعل قبله؛ لأنه مرادفه في المعنى، ويجوز أن يعرب مصدرًا في موضع الحال، أي فارًا، وجملة ﴿لَوِ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلَمُلِئْتَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿اللام﴾: واقعة في جواب ﴿لَوِ﴾، ﴿ملئت﴾ فعل ونائب فاعل ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿رُعْبًا﴾ ﴿رُعْبًا﴾: تمييز محول عن نائب الفاعل، ورجح أبو حيان أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ ﴿ملئت﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ﴾.
﴿وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف
316
تقديره: بعثناهم بعثًا كائنًا كإنامتنا إياهم المدة الطويلة في كون كل منهما آية من آياتنا ﴿بَعَثْناهُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿لِيَتَساءَلُوا﴾: ﴿اللام﴾ حرف جر، وتعليل ﴿يتساءلوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرةً بعد لام كي ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال، من ﴿واو﴾ الفاعل تقديره: حالة كونهم متنازعين بينهم، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المضمرة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: وكذلك بعثناهم لتساؤلهم بينهم ﴿قالَ قائِلٌ﴾: فعل، وفاعل ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿قائِلٌ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، مسوقة لبيان التساؤل بينهم، ﴿كَمْ﴾ اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لَبِثْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قائِلٌ﴾ ﴿يَوْمًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لَبِثْنا﴾ ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾: معطوف على ﴿يَوْمًا﴾ و ﴿أَوْ﴾ فيه للشك ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قالُوا﴾ ﴿بِما﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿لَبِثْتُمْ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما لبثتموه ﴿فَابْعَثُوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف ﴿ابعثوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فاتركوا التساؤل، وخذوا فيما هو أهم وأجدى، لنا في موقفنا هذا، فابعثوا ﴿أَحَدَكُمْ﴾: مفعول به ﴿بِوَرِقِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿ابعثوا﴾ أو حال من أحدكم، والباء للملابسة؛ أي: ملتبسًا بها، ومصاحبًا لها ﴿هذِهِ﴾: صفة لـ ﴿ورقكم﴾ ﴿إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ متعلق بـ ﴿ابعثوا﴾.
﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩)﴾.
﴿فَلْيَنْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة و ﴿اللام﴾ لام الأمر ﴿ينظر﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لام﴾ الأمر، وفاعله ضمير يعود على الأحد، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَابْعَثُوا﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قالُوا﴾ ﴿أَيُّها﴾ ﴿أي﴾ اسم استفهام؛ مبتدأ مرفوع، و ﴿الهاء﴾ ضمير المؤنثة، مضاف إليه ﴿أَزْكى﴾: خبر المبتدأ ﴿طَعامًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل
317
النصب سادة مسد مفعولي ﴿ينظر﴾ معلق عنها باسم الاستفهام، ويجوز أن يكون، أي: اسمًا موصولًا في محل النصب مفعول ﴿ينظر﴾، والضمة فيه ضمة بناء لا إعراب ﴿أَزْكى﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أيها هو أزكى طعامًا كما مر نظيره، في ﴿أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. ﴿فَلْيَأْتِكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة، و ﴿اللام﴾ لام الأمر ﴿يأتي﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿الام﴾ الأمر، وعلامة جزمه حذف الياء، وفاعله ضمير يعود على ﴿الأحد﴾، و ﴿الكاف﴾ في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَلْيَنْظُرْ﴾. ﴿بِرِزْقٍ﴾ متعلق بـ ﴿يأت﴾ ﴿مِنْهُ﴾ صفة لـ ﴿رزق﴾ ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة و ﴿اللام﴾ لام الأمر ﴿يتلطف﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لام﴾ الأمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿الأحد﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلْيَأْتِكُمْ﴾ ﴿وَلا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة، ﴿يُشْعِرَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿الأحد﴾ ﴿بِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُشْعِرَنَّ﴾ ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾.
﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)﴾.
﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم، ﴿يَظْهَرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَظْهَرُوا﴾ ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول مجزوم، بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جواب شرط لها؛ ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿يَرْجُمُوكُمْ﴾ ﴿فِي مِلَّتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُعِيدُوكُمْ﴾ أي: يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ على كونها مستأنفة «مسوقة» لتعليل قوله: ﴿وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ ﴿وَلَنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لَنْ﴾ حرف نصب ﴿تُفْلِحُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل، مقدر بـ ﴿أن﴾ أو بـ ﴿لو﴾ الشرطيتين ﴿أَبَدًا﴾: ظرف مستغرق للزمان المستقبل منصوب بفتحة ظاهرة متعلق بـ ﴿تُفْلِحُوا﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب.
318
التصريف ومفردات اللغة
﴿عِوَجًا﴾ وفي «القاموس» وغيره من معاجم اللغة، عوج بكسر الواو، ويعوج بفتحها - من باب تعب - عوجًا، العود، ونحوه انحنى، والإنسان ساء خلقه، فهو أعوج، والعوج بكسر، ففتح الاسم من عوج: الالتواء، وعدم الاستقامة، ولم تفرّق هذه المعاجم بينهما، وفي «الأساس» - يقصد أساس البلاغة -: يقال في العود: عوج بفتحتين، وفي الرأي عوج بكسر، ففتح ففرّق بينهما، وهذا هو الحق بدليل الآية، فالعوج بكسر ففتح في المعاني، كالعوج بفتحتين في الأعيان، فالعوج في الآية بكسر، ففتح، الانحراف، والميل عن الاستقامة، فلا خلل في لفظه، ولا تناقض في معناه. قَيِّمًا؛ أي: مستقيما (١) معتدلًا، لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف، حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه بإهمال ما تمس الحاجة إليه، أو قيّمًا بمصالح العباد، فيكون وصفا للكتاب بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو قيمًا على الكتب السابقة، مصدقًا لها شاهدًا بصحتها.
وفي «القاموس» و «التاج» و «اللسان»: القيم (٢) على الأمر متوليه، كقيم الوقف، وغيره، وقيم المرأة زوجها، وأمر قيم مستقيم، والديانة القيمة؛ المستقيمة، وفي التنزيل: ﴿وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾؛ أي: دين الأمة القيمة، ويتعدى بـ ﴿الباء﴾ وبـ ﴿على﴾ ﴿والبأس الشديد﴾ العذاب في الآخرة ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ أي من عنده.
﴿باخِعٌ نَفْسَكَ﴾، أي: قاتلها ومهلكها قاله ابن عباس، وأنشد قول لبيد:
لعَلَّكَ يومًا إن فَقَدْتَ مَزارَهَا عَلَى بُعْدهِ يومًا لنفسكَ باخعُ
يقال: بخع الرجل نفسه يبخعها - من باب نفع - بخعًا، وبخوعًا أهلكها وجدًا.
وقال الليث (٣): بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده، وأنشد قول الفرزدق:
(١) المراغي.
(٢) القاموس واللسان.
(٣) البحر المحيط.
319
ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه لشيءٍ نحته عن يديهِ المقاديرُ
أي: نحَّته بشد الحاء فخفف.
﴿عَلى آثارِهِمْ﴾؛ أي: من بعدهم؛ أي: من بعد توليهم عن الإيمان، وتباعدهم عنه.
﴿صَعِيدًا﴾؛ أي: ترابًا، أو فتاتًا يضمحلُّ بالرياح، لا اليابس الذي يرسب. ﴿جُرُزًا﴾ بضمتين والجرز: الذي لا نبات فيه فهو حائل البهجة، باطل الزينة، ويقال (١): سنة جرزٌ، وسنون أجرازٌ لا مطر فيها، وأرضٌ جرز، وأرضون أجرازٌ لا نبات بها، وجرزت الأرض إذا ذهب نباتها بقحط، أو جراد، وجرز الجراد الأرض أكل ما فيها، والجروز المرأة الأكولة: قال الرّاجز:
إنَّ العجوز حيَّةٌ جروزا تأكل كُلَّ ليلةٍ قفيزَا
اهـ «سمين». وجرزه الزمان اجتاحه.
﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ أم: حرف يدل على الانتقال من كلامٍ إلى آخر. وهو بمعنى ﴿بل﴾، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أحسبت والخطاب في الظاهر للنبي - ﷺ -، والمراد غيره كما سبق نظيره.
﴿أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ﴾ والكهف النَّقبُ المُتَّسع في الجبل فإن لم يكن متّسعًا، فهو غار، والجمع كهوف في الكثرة، وأكهف في القلّة ﴿وَالرَّقِيمِ﴾ لوح حجري رقمت فيه أسماؤهم كالألواح الحجرية المصرية، التي يذكر فيها تاريخ الحوادث، وتراجم العظماء، وفي «القاموس» الرّقيم: الكتاب المرقوم، ورقم يرقم من باب نصر الكتاب بيّنه، وأعجبه بوضع النقط، والحركات، وغير ذلك ورقم الثوب خططه، والبعير كواه، والخبز نقشه، ويقولون: فلانٌ يرقم على الماء لمن يكون ذا حذق في الأمور.
﴿عَجَبًا﴾ والعجب: كل ما يتعجب منه لحسنه، أو قبحه، والتعجب انفعال يحدث في النفس، عند الشعور بأمرٍ خفي سببه، ولهذا يقال: إذا ظهر السّبب
(١) الفتوحات.
320
بطل العجب، ولا يطلق على الله أنه متعجب إذ لا شيء يخفى عليه. ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾، أي نزلوه، وسكنوه، والتجؤا إليه، يقال: أوى إلى منزله من باب شرب إذا نزله بنفسه، وسكنه، والمأوى لكل حيوان سكنه. اهـ من «المصباح» و «القاموس».
والفتية جمع فتيّ كصبي وصبية اهـ «بيضاوي» وفي «المصباح» مثله، وفي «القاموس» وفتيٌ كغني، الشاب من كل شيء اهـ. وقد كانوا من أبناء أشراف الروم، وعظمائهم لهم أطواق وأسورة من الذهب. ﴿وَهَيِّئْ لَنا﴾؛ أي: يسر لنا ﴿رَشَدًا﴾: والرشد بفتحتين، وضم فسكون: الهداية إلى الطّريق الموصل للمطلوب ﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ﴾؛ أي: أنمناهم نومًا شديدًا من ضربت على يده، إذا منعته من التصرف، وإرادة هذا المعنى على طريق الاستعارة التبعية، كما سيأتي في مبحث البلاغة ﴿عَدَدًا﴾؛ أي: ذوات عدد، والمراد: التكثير؛ لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبًا.
﴿ثُمَّ بَعَثْناهُمْ﴾؛ أي: أيقظناهم، وأثرناهم من نومهم ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ والحزبان: هما الحزب القائل: لبثنا يومًا، أو بعض يوم، والحزب القائل: ربكم أعلم بما لبثتم.
﴿أحصى أمدا﴾ فعل ماض لا اسم تفضيل، كما قيل: يقال: أحصى الشيء إذا حفظه، وضبطه، قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل التفضيل؟
قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي ليس بقياس اهـ. والأمد مدّةٌ لها حد ونهاية، ﴿نَبَأَهُمْ﴾ النّبأ الخبر العظيم ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي: بالصدق ﴿وَرَبَطْنا﴾ والربط: الشدُّ، وربطت الدابة: شددتها بالرباط، والمربط الحبل، وربط الله على قلبه؛ أي: قوّى عزيمته ﴿إِذْ قامُوا﴾؛ أي: وقفوا بين يدي ملكهم الجبار، دقيانوس ﴿إِلهًا﴾؛ أي: معبودًا آخر لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، شَطَطًا وقال الفراء: إشتط في الشؤم جاوز القدر، وشط المنزل إذا بعد شطوطًا، وشط الرجل، وأشط جار، وشطّت الجارية شطاطًا، وشطاطة طالت.
321
﴿اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾؛ أي: نحتوا أصنامًا وعبدوها، والسّلطان الحجّة. والبيّن: الواضح ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ والاعتزال والتعزل تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب.
﴿مِرْفَقًا﴾ بكسر الميم، وفتح الفاء، وبالعكس، وقد قرىء بهما ما ترتفقون به من غداء وعشاء، أي: تنتفعون قال في «أساس البلاغة»: (وارتفقت به) انتفعت ومالي فيه مرفقٌ ومرفقٌ، وما فيها مرفقٌ من مرافق الدار نحو المتوضأ، والمطبخ، وقيل: بالكسر في الميم لليد وبالفتح للأمر، وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر حكاه الأزهري عن ثعلب.
﴿تَزاوَرُ﴾؛ أي: تمايل: أصله تتزاور: فخفف بإدغام التاء في الزاي، أو حذفها ﴿تَقْرِضُهُمْ﴾: تقطعهم، وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة مأخوذ من معنى القطيعة قال الكسائي: يقال: قرضت المكان إذا عدلت عنه، ولم تقربه ﴿فَجْوَةٍ﴾: متّسع من الفجاء، وهو تباعد ما بين الفخذين، ويقال: رجل أفجأ، وامرأة فجواء وجمع الفجوة، فجاء لقصعة وقصاع ﴿أَيْقاظًا﴾: جمع يقظ بضم القاف وكسرها، وهو المنتبه، وجمعه أيقاظ كعضد، وأعضاد، ويقاظ كرجل، ورجال. ورجل يقظان، وامرأة يقظى ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾: جمع راقد، أي: نائم كقعود وقاعد، وجلوس وجالس ﴿الوصيد﴾: فناء الكهف ﴿رُعْبًا﴾؛ والرعب: الخوف يملأ الصدر.
﴿بِوَرِقِكُمْ﴾ الورق بفتح ﴿الواو﴾ وكسر الراء ﴿الفضة﴾ مضروبة كانت أو غير مضروبة ﴿أَيُّها أَزْكى﴾ أي: أطيب وأجود، وفي «القاموس»: زكا يزكو زكاء وزكوًا الزرع نما، والأرض طابت. والزكيّ ما كان ناميًا طيّبًا صالحًا ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾؛ أي: يتكلف اللطف في المعاملة، كي لا تقع خصومة تجر إلى معرفته، ﴿وَلا يُشْعِرَنَّ﴾؛ أي: لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم، ﴿إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إن يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم.
322
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرير في قوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا﴾ فإنّ نفي العوج معناه: إثبات الاستقامة، وإنما جنح إلى التكرير: لفائدة منقطعة النظير، وهي التأكيد والبيان، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، مجمع على استقامته، ومع ذلك، فإن الفاحص المدقق قد يجد له أدنى عوج، فلما أثبت له الاستقامة، أزال شبهة بقاء ذلك الأدنى، الذي يدق على النظرة السطحية الأولى.
ومنها: المطابقة في هذه الآية فقد طابق سبحانه بين العوج، والاستقامة، فجاء الكلام حسنًا، لا مجال فيه لمنتقد.
ومنها: الطباق بين ﴿يُبَشِّرَ﴾ و ﴿لِيُنْذِرَ﴾ وبين ﴿يَهْدِ﴾ و ﴿يُضْلِلْ﴾ وبين ﴿أَيْقاظًا﴾ و ﴿رُقُودٌ﴾ وبين ﴿ذاتَ الْيَمِينِ﴾ و ﴿ذاتَ الشِّمالِ﴾.
ومنها: نفي الشيء بإيجابه في قوله تعالى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ وله تسمية أخرى وهي عكس الظاهر، وهو من مستطرفات علم البيان، وهو أن تذكر كلامًا يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف، وهي نفي للموصوف أصلًا، ولقائل أن يقول: إنّ اتّخاذ الله ولدًا هو في حد ذاته محال، فكيف ساغ قوله: ﴿ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾؟
قلنا: إن الولد في حدّ ذاته محالٌ لا يستقيم تعلق العلم به، ولكنه ورد على سبيل التهكم، والاستهزاء بهم.
ومنها: الإطناب بذكر الخاص في قوله: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ﴾ بعد ذكر العام في قوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾ لشناعة دعوى الولد لله. وفيه من بديع الحذف، وجليل الفصاحة حذف المفعول الأول في قوله: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾؛ أي: لينذر الكافرين بأسًا شديدًا، ثم ذكر المفعول الأول، وحذف الثاني في قوله ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤)﴾؛ أي: عذابًا شديدًا، فحذف العذاب لدلالة الأول عليه، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني
323
عليه، وهذا من ألطف الفصاحة، فيكون في الكلام احتباك.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ﴾ حيث شبّه حاله - ﷺ - مع المشركين، وهو آسف من عدم هدايتهم بحال من فارقته أحبته، فهمّ بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجدًا وحزنًا عليهم.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ فإن الجرز حقيقة في الأرض التي قطع نباتها، فجعله هنا وصفا لما عليها من النبات، فكأنّه مجازٌ، علاقته المجاورة ذكره في «الفتوحات».
ومنها: الاستعارة التصريحية التّبعيّة في قوله: ﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ﴾ شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان، ثمّ استعير الضرب للإنامة، ثم اشتقّ من الضرب بمعنى الإنامة ﴿ضربنا﴾ بمعنى: أنمنا على طريق الاستعارة التّصريحية التبعية.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾ للتنصيص على وصفهم، وسنهم، فكانوا في سن الشباب مردًا، وكانوا سبعة، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: إذ أووا.
ومنها: الطباق المعنوي بين ﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ﴾ ﴿ثُمَّ بَعَثْناهُمْ﴾ لأن معنى الأول: أنمناهم، والثاني: أيقظناهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ لأن الربط في الأصل: هو الشد بالحبل، والمراد هنا: شددنا على قلوبهم، كما تشد الأوعية، بالأوكية؛ أي: قوينا على قلوبهم، بالصّبر على هجر الأوطان، والفرار بالدين إلى الكهوف، والغيران، وافتراش صعيدها، وجسرناهم على قول الحق، والجهرية أمام دقيانوس الجبار.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿قامُوا﴾ و ﴿قالوا﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظًا﴾؛ لأن التشبيه هنا جاءت الأداة فيه فعلًا من أفعال الشك واليقين، تقول: حسبت زيدًا في جرأته الأسد،
324
وعمرًا في جوده الغمام، وفي الآية: تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بالأيقاظ في بعض صفاتهم، لأنه قيل: إنّهم كانوا مفتّحي العيون في حال نومهم.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾ لأن اسم الفاعل هنا بمعنى الماضي، وعمل في ذراعيه النصب على إرادة حكاية الحال الماضية، كما قاله الكسائي، ومن تبعه؛ أي: إنه تقدّر الهيئة الواقعة في الزمن الماضي، واقعة في حال التكلم، والمعنى: يبسط ذراعيه، فيصح وقوع المضارع موقعه بدليل أن الواو في ﴿وَكَلْبُهُمْ﴾ واو الحال، ولذا قال سبحانه: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ﴾ بالمضارع الدالِّ على الحال، ولم يقل وقلبناهم بالماضي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
325
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (٢٣)...﴾ الآيتين (١)، جاءت هاتان الآيتان إرشادًا، وتأديبًا من الله سبحانه لرسوله - ﷺ - يعلمه بأنه إذا أراد أن يخبر عن شيء سيفعله في مستقبل الأيام، أن يقرن قوله بمشيئة علّام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما سيكون.
(١) لباب النقول.
326
وجاءتا معترضتين أثناء القصة؛ لما تضمّنتاه من تعليم عباده تفويض الأمور كلها إليه، سبحانه، وبيان أنه لا يحدث في ملكه إلا ما يشاء.
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر قصص أهل الكهف، ودل اشتمال القرآن عليه على أنه وحي من علام الغيوب.. أمر سبحانه رسوله - ﷺ - بالمواظبة على درسه وتلاوته، وأن لا يكترث بقول القائلين له ائت بقرآن غير هذا، أو بدّله، ثمّ ذكر ما يلحق الكافرين من النكال، والوبال يوم القيامة، وما ينال المتقين من النعيم المقيم، كفاء ما عملوا من صالح الأعمال.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ...﴾ الآيتين، روي أن هاتين الآيتين نزلتا حين سألت قريشٌ رسول الله - ﷺ - عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: «غدا أخبركم» ولم يستثن - لم يقل إن شاء الله - فأبطأ عليه الوحي خمسة عشر يومًا، فشق ذلك عليه، وكذبته قريش.
قوله تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا...﴾ سبب نزوله: ما أخرجه ابن مردويه، من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في أميّة بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبيّ - ﷺ - إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت هذه الآية ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي - ﷺ -، وعنده سلمان، فقال عيينة: إذا نحن أتيناك فأخرج هذا، وأدخلنا، فنزلت الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٢١ - ﴿وَكَذلِكَ﴾؛ أي: وكما أنمناهم، وبعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا ليتساءلوا بينهم، فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى، ومعرفة حسن دفاع
327
الله عن أوليائه ﴿أَعْثَرْنا﴾؛ أي: أطلعنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أحوال أهل الكهف الفريق الذين كانوا في شك من قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وفي مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى ﴿لِيَعْلَمُوا﴾؛ أي: ليعلم الفريق الذين أعثرناهم على أحوالهم العجيبة، وهم الملك ورعيته ﴿أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ تعالى بالبعث للروح، والجثة معا ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: صدق لا شك فيه، بطريق أن القادر على إنامتهم مدة طويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى، قال بعض العارفين: اليقظة بعد النوم علامة على البعث بعد الموت. ﴿وَ﴾ ليوقنوا ﴿أَنَّ السَّاعَةَ﴾؛ أي: القيامة مع ما فيها من الحساب والجزاء آتية ﴿لا رَيْبَ فِيها﴾؛ أي: لا شك في مجيئها، إذ لا حجّة لمن أنكرها إلا الاستبعاد، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم، وعلمهم به مما يخفف من غلوائهم، ويكبح جماح إنكارهم، ويردهم إلى رشدهم.
ذلك أن حال هؤلاء الفتية في تلك الحقبة الطويلة، وقد حبست عن التصرف نفوسهم، وعطلت مشاعرهم وحواسهم، وحفظت من التحلل والتفتت أبدانهم، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب، ثمّ رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها، وأطلقت النّفوس من عقالها، وأرسلت إلى تدبير أبدانها، فرأت الأمور كما كانت، والأعوان هم الأعوان، ولم تنكر شيئًا عهدته في مدينتها، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف في شؤونها، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم، وحبست نفوسهم، من واد واحد في الغرابة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل، أو معاندٌ، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني، ولا يبقى بعد ذلك شك في أن وعد الله حق، وأنّ الله سيبعث من في القبور، فيرد عليهم أرواحهم، ويجازيهم جزاء وفاقًا بحسب أعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
والظرف في قوله: ﴿إِذْ يَتَنازَعُونَ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْثَرْنا﴾؛ أي: وكذلك أعثرنا الناس - بيدروس وقومه - على أصحاب الكهف، حين يتنازعون، أي: يتنازع الناس
328
بعضهم بعضًا فيما ﴿بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾؛ أي: في (١) أمر بعثهم، فمن مقر به وجاحد له، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد، ففرح الملك، وفرحوا بآية الله على البعث، وزال ما بينهم من الخلاف في أمر القيامة، وحمدوا الله إذ رأوا ما رأوا ممّا يثبتها ويزيل كل ريب فيها.
والمعنى: أي (٢) أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل: في أمر أصحاب الكهف، في قدر مكثهم، وفي عددهم، وفيما يفعلونه بهم بعد أن اطلعوا عليهم ﴿فَقالُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض: ﴿ابْنُوا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أصحاب الكهف ﴿بُنْيانًا﴾ يسترهم عن أعين الناس لئلا يتطرق الناس إليهم، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم، وهم أحياء أمات الفتية، فانقسموا في شأنهم فريقين: فريق يقول: نسد عليهم باب الكهف، ونذرهم حيث هم، وفريق يقول: نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول في الرأي، كما سيأتي.
ثم قال سبحانه حاكيًا لقول المتنازعين فيهم، وفي عددهم، وفي مدة لبثهم، وفي غير ذلك مما يتعلق بهم، ﴿رَبُّهُمْ﴾؛ أي: رب أصحاب الكهف ﴿أَعْلَمُ بِهِمْ﴾؛ أي: أعلم بعددهم، وبمدة لبثهم من هؤلاء المتنازعين فيهم، قالوا ذلك تفويضًا للعلم إلى الله سبحانه، وقيل: هذه الجملة معترضةٌ من كلام الله تعالى، ردًّا لقول الخائضين فيهم، ممن أعثروا عليهم، أو ممن كان في عهده - ﷺ - من أهل الكتاب، في بيان أنسابهم، وأسمائهم، وأحوالهم، ومدة لبثهم؛ أي: دعوا ما أنتم فيه من التنازع، فإنّي أعلم بهم منكم.
وقال بعض المفسرين (٣): والظرف في قوله: ﴿إِذْ يَتَنازَعُونَ﴾ متعلق بـ ﴿اذكر﴾ مقدرًا، وقال: هو الأظهر، والأنسب لترتيب ﴿الفاء﴾ الآتية عليه، ويكون كلامًا منفصلًا عما قبله، ويؤيّده أن الإعثار، ليس في زمن التنازع، بل
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
329
قبله، والمتنازعون هم: قوم بيدروس، والمعنى: أي: واذكر يا محمد قصة حين يتنازع قوم بيدروس فيما بينهم، في تدبير أمر أصحاب الكهف، حين توفاهم الله ثانيا بالموت كيف يخفون مكانهم، وكيف يستر الطريق إليهم، ﴿فَقالُوا﴾؛ أي: بعض أهل المدينة ﴿ابْنُوا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على باب كهفهم ﴿بُنْيانًا﴾ كي لا يعلم أحد تربتهم، وتكون محفوظة من تطرق الناس، كما حفظت تربة رسول الله - ﷺ - بالحظيرة، قائلين: ﴿رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾؛ أي: بحالهم وشأنهم، لا حاجة إلى علم الغير بمكانهم.
ويمكن (١) أن يجاب عن صاحب هذا القول، بأن يقال: إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم، قرنا بعد قرن، منذ أووا إلى الكهف، إلى وقت الإعثار، ويؤيد ذلك، أن خبرهم كان مكتوبًا على باب الغار، كتبه بعض المعاصرين، وهم من المؤمنين الذين يخفون إيمانهم من دقيانوس ملكهم كما قاله المفسرون.
﴿قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ﴾؛ أي: على أمر أهل الكهف، وتدبير شأنهم، وهم (٢): الملك والمسلمون، أو أولياء أصحاب الكهف، أو رؤساء البلد، وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي ﴿غُلِبُوا﴾ بضم الغين، وكسر اللام ذكره في «البحر». ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾؛ أي: لنبنيّن على باب كهفهم مسجدًا يصلي فيه المسلمون، ونستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد، قال الزجاج: وهذا يدل على أنّه لما ظهر أمرهم، غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنّ المساجد للمؤمنين؛ أي: كانت الكلمة لهم، وكان كلامهم هو النافذ، لأن ملك الوقت كان من جملتهم، وكان مسلمًا، وأما الملك الذي خرجوا هاربين منه.. فقد مات في مدة نومهم. اهـ شيخنا.

فصل


وقد ذكر العلماء: أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه، أشدّ النهي، حتى ذكر
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
330
ابن حجر في كتابه «الزواجر»: أنه من الكبائر، لما روي في صحيح الأخبار من النهي عن ذلك، روى أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس: أنّ النبي - ﷺ - قال: «لعن الله تعالى زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك».
وروى الشيخان، وأحمد، والنسائي، قوله - ﷺ -: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق يوم القيامة».
وروى أحمد والطبراني: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة.
اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وثبتهم في أمر دينهم، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم، حذو القذّة بالقذّة، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون في الصدر الأول وما بعده، فرجاله هم الأسوة، وقد صحّ أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما وجد قبر دانيال في عهده بالعراق، أمر أن يسوى بالأرض، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها من الأخبار.
٢٢ - ولما ذكر سبحانه القصة، ونزاع المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقص علينا ما دار في عهد النبي - ﷺ - من الخلاف في عدد أصحاب الكهف. فقال: ﴿سَيَقُولُونَ﴾ الخ، والضمائر (١) في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبي - ﷺ - من أهل الكتاب والمسلمين، لكن لا على وجه إسناد كل قول إلى كل منهم، بل على التوزيع، سألوا رسول الله - ﷺ - عن أصحاب الكهف، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخبارًا بما سيجري بينهم من اختلافهم
(١) روح البيان.
331
في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم.
قيل: وإنما أتى (١) بالسين في هذا، لأن في الكلام طيًّا وإدماجًا، تقديره: فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم سيقولون، ولم يأت بهم في باقي الأفعال، لأنها معطوفة على ما فيه السين، فأعطيت حكمه من الاستقبال. اهـ «سمين»؛ أي: سيقول عبيد الله (٢) اليهود لك يا محمد عند سؤالك إياهم عن عدد أصحاب الكهف: هم؛ أي: أصحاب الكهف: ﴿ثَلاثَةٌ﴾؛ أي: ثلاثة أشخاص، وقرأ ابن محيصن، ﴿ثلاث﴾ بإدغام الثّاء في التاء، وحسن ذلك لقرب مخرجهما، وكونهما مهموسين؛ لأنّ الساكن الذي قبل (الثّاء) من حروف اللين فحسن ذلك، ذكره في «البحر»، وجملة قوله: ﴿رابِعُهُمْ﴾؛ أي: جاعلهم أربعة، بانضمامه إليهم، ﴿كَلْبُهُمْ﴾ في محل نصب على الحال من (ثلاثة)؛ أي: حالة كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم.
﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: النصارى، وإنما لم يأت بالسين فيه؛ اكتفاء بعطفه على ما هي فيه: هم ﴿خَمْسَةٌ﴾؛ أي: أصحاب الكهف خمسة أشخاص، وقرأ شبل بن عباد، عن ابن كثير، بفتح ميم خمسة، وهي لغة كعشرة، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم، وبإدغام التاء في السين، وعنه أيضًا: إدغام التنوين في السين، بغير غنة ذكره في «البحر». وجملة قوله: ﴿سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ في محل نصب على الحال من خمسة؛ أي: حالة كونه جاعلهم ستة كلبهم بانضمامه إليهم، ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: يقول كلا الفريقين ما قالوا من العدد رجمًا بالغيب، أي: ظنًّا بالغيب؛ أي: بما خفي عنهم من غير دليل، ولا برهان، وانتصابه على الحالية من الضمير في الفعلين معًا؛ أي: يقول كلا الفريقين ما قالوا حالة كونهم راجمين بالغيب؛ أي: ظانين بالخبر الخفي عنهم، أو على المصدرية منهما، فإن الرجم والقول واحد؛ أي: يرجمون ذلك رجمًا بالغيب؛ أي: يقولونه قولًا بالغيب.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
332
والحاصل: أن المقصودين بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين، القائلين بأنهم ثلاثة، والقائلين بأنهم خمسة، ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: المسلمون هم ﴿سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾.
وقرىء: ﴿وثامنهم كالبهم﴾؛ أي: صاحب كلبهم، وهذا هو الحقّ، بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنّهما رجم بالغيب، فأرشد ذلك إلى أن الحال في الأخير بخلافه، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس، بطريق التلقن من الوحي؛ لأن الوحي مقدم على المقالة المذكورة على ما يدل عليه السين، فعرفوا ذلك بإخبار الرسول - ﷺ - عن جبريل عليه السلام.
و ﴿الواو﴾ (١) الداخلة على الجملة الثالثة هي ﴿الواو﴾ التي تدخل على الجملة الواقعة صفة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالًا عن المعرفة، في قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، وفائدتها: توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه ﴿الواو﴾ هي التي أذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم، قالوه عن ثبات علم، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم، دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأوّلين قوله: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾، وأتبع القول الثالث قوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد - تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين -: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ منكم؛ أي: عالم بعدد أصحاب الكهف، وقد أخبركم بها، بقول: سبعة، وثامنهم كلبهم.
والمعنى: هو سبحانه أقوى علمًا، وأزيد في الكيفية، فإنّ مراتب اليقين متفاوتة في القوة، ولا يجوز أن يكون التفضيل بالإضافة إلى الطائفتين الأوليين، إذ لا شركة لهما في العلم، اهـ «كرخي» ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال: ﴿ما يَعْلَمُهُمْ﴾؛ أي: ما يعلم ذواتهم فضلًا عن عددهم، أو ما يعلم عددهم فهو على حذف مضاف، ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ من الناس قد وفقهم الله تعالى، وهم القائلون: هم سبعة، وثامنهم كلبهم.
(١) النسفي.
333
روى قتادة عن ابن عباس أنه قال: أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى، كانوا سبعة سوى الكلب.
وفي هذا (١): دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد، بل المهم الاعتبار بذلك القصص، وبما يكون نافعا لعقولنا، وتطهيرا لأخلاقنا، ورقيا في حياتنا الدنيوية، والأخروية، وفي «الفتوحات»: المثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية بالمعنى الذي عرفته، وفي حق القليل العالمية، فلا تعارض، وهذا هو الحق، لأنّ العلم بتفاصيل كائنات العالم وحوادثه في الماضي والمستقبل لا يحصل إلا عند الله تعالى، أو عند من أخبره الله تعالى عنها، اهـ رخى».
وبعد أن ذكر سبحانه هذا القصص نهى رسوله - ﷺ - عن شيئين: المراء في أمرهم، والاستفتاء في شأنهم، فقال: ﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ﴾، والفاء لتفريع (٢) النهي على ما قبله؛ أي: إذا عرفت جهل أصحاب القولين الأولين، فلا تجادلهم، ولا تنازعهم ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في شأن أصحاب الكهف ﴿إِلَّا مِراءً ظاهِرًا﴾؛ أي: إلّا جدالًا ظاهرًا غير متعمق فيه، ونزاعًا سهلًا لينًا، وهو أن تقصّ عليهم ما في القرآن من غير تكذيب لهم، في تعيين العدد، ولا تصريح لهم بجهلهم، وتفضيح لهم، فإنه ممّا يخل بمكارم الأخلاق التي بعث لإتمامها، ولا يترتب على ذلك كبير فائدة؛ لأن المقصد من القصة هو العظة والاعتبار، ومعرفة أن البعث حاصل لا محالة، وهذا لا يتوقف على عدد معين، بل تقول هذا التعيين لا دليل عليه، ونحو الآية قوله: ﴿وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ﴿وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ﴾؛ أي: ولا تسأل في شأن أصحاب الكهف ﴿مِنْهُمْ أَحَدًا﴾؛ أي: أحدًا من أهل الكتاب، فإنّهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجمًا بالغيب من غير استناد إلى دليل قاطع، ولا نص صريح، وقد جاءك ربك بالحق الذي لا مرية فيه، فهو الحكم المقدم على كل ما تقدم من الكتب والأقوال
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
334
السالفة، وفي الآية (١) دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
٢٣ - وقوله: ﴿وَلا تَقُولَنَّ﴾ نهي تأديب؛ أي: ولا تقولنّ يا محمد ﴿لِشَيْءٍ﴾؛ أي: لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، ﴿إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ﴾ الشيء ﴿غَدًا﴾؛ أي: فيما يستقبل من الزمان مطلقًا، فيدخل فيه الغد، وهو اسم لليوم الذي بعد يومك، دخولًا أوليًا، فإنّه نزل حين قالت اليهود لقريش، سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فسألوه - ﷺ - فقال: «ائتوني غدًا أخبركم» ولم يستثن؛ أي: لم يقل إن شاء الله، وتسميته استثناءً لأنه يشبه الاستثناء في التخصيص، فأبطأ عليه الوحي أيامًا حتى شق عليه، وكذبته قريش، وقالوا ودّعه ربه وأبغضه، كما مر في أسباب النزول،
٢٤ - ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾؛ أي: إلّا قائلًا إن شاء الله تعالى، فهو استثناء مفرّغٌ من النهي؛ أي: لا تقولن لشيء: إنّي فاعل ذلك غدًا في حال من الأحوال، إلّا في حال تلبسك بالتعليق بالمشيئة على الوجه المعتاد، كأن تقول: إن شاء الله.
والمعنى: أي ولا تقولنّ أيها الرّسول لشيء: إنّي سأفعل ذلك غدًا إلّا أن تقول: إن شاء الله، ذاك أنه ربّما مات المرء قبل مجيء الغد، أو ربما عاقه عائق عن فعله، فإذا لم يقل: إن شاء الله.. صار كاذبًا في ذلك الوعد، ونفر الناس منه.
قال ابن الجوزي (٢): وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب، إذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله: في قصة موسى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا﴾، ولم يصبر، فسلم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه اهـ.
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ يا محمد؛ أي: واذكر مشيئة ربّك؛ أي: قل إن شاء الله {إِذَا
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير.
نَسِيتَ} المشيئة، أولًا؛ أي (١): واذكر مشيئة ربّك إذا فرط منك نسيان، ثم تذكرت ذلك، وهذا أمر بالتدارك حين التذكر سواء أطال الفصل أم قصر. أو المعنى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ بالتسبيح والاستغفار، وغيرهما ﴿إِذا نَسِيتَ﴾ كلمة المشيئة، وهذا مبالغة في الحث على ذكر هذه الكلمة.
وقد حقق الله سبحانه له ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف.
وخلاصة ذلك: اطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدك إليه خيرًا، ومنفعة في ضمن ما ألقى إليك من الأوامر، والنواهي، وقد استجاب الله دعاءه، فهداه فيما أنزل عليه ما هو خير منفعة، وأجدى فائدة للمسلمين، في دنياهم وآخرتهم، وآتاهم من الخير العميم ما جعلهم به خير أمة أخرجت للناس، وقيل (٢): الإشارة إلى قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ﴾؛ أي: عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر، بدل هذا المنسيّ، وأقرب منه رشدًا، وأدنى منه خيرًا ومنفعة، والأولى أولى.
٢٥ - ثم بيّن سبحانه ما أجمل في قوله: ﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)﴾ فقال: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ﴾؛ أي: لبث الفتية في كهفهم أحياء نيامًا حين ضربنا على آذانهم، ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ﴾ فقط؛ أي: ثلاث مئة سنةٍ فقط، على حساب أهل الكتاب الذين علّموا قومك السؤال عن شأنهم؛ لأنّ السّنين عندهم شمسيّةٌ ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾؛ أي: وازداد أصحاب الكهف في لبثهم تسع سنوات على ثلاث مئة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، فجملة ما لبثوا في كهفهم على حساب قومك، ثلاث مئة سنة وتسع سنوات، لأنّ السنين عندهم قمريةٌ، ولا شك (٣) أنّ في هذا البيان معجزة لرسوله - ﷺ - النبي الأمي، الذي لم يقرأ، ولم
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
يكتب، ولم يدرس الحساب، ولا الهندسة ولا الفلك، فمن أين له أن كل مئة سنة شمسية، تزيد ثلاث سنين قمرية، وكلّ ثلاث وثلاثين سنةً شمسيةً تزيد سنةً قمريةً، وكل سنة شمسية تزيد عشرة أيامٍ، وإحدى وعشرين ساعةً، وخمس ساعة على السنة القمرية.
والسنة الشمسية (١): مدّة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من ذلك البرج، وذلك ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم.
والسنة القمرية: اثنا عشر شهرًا قمريًا، ومدتها ثلاث مئة وأربعة وخمسون يومًا وثلث يوم، وقرأ الجمهور ﴿مِائَةٍ﴾ بالتنوين، فسنين بدل أو عطف بيان لثلاث مئة لا تمييز (٢)، وإلا لكان أقل مدة لبثهم عند الخليل ست مئة سنة، لأن أقلّ الجمع عنده اثنان، وعند غيره تسع مئة، لأن أقله ثلاثة عندهم، هذا على قراءة ﴿مئةٍ﴾ بالتنوين، وأمّا على قراءة الإضافة، فأقيم الجمع مقام المفرد؛ لأنّ حق المئة أن يضاف إلى المفرد، وجه ذلك: أن المفرد في ثلاث مئة درهم في المعنى جمع، فحسن إضافته إلى لفظ الجمع، كما في الأخسرين أعمالًا فإنه ميّز بالجمع.
وقرأ حمزة (٣)، والكسائي، وطلحة، ويحيى، والأعمش، والحسن، وابن أبي ليلى، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي: ﴿مئة﴾ بغير تنوين مضافًا إلى سنين، أوقع الجمع موقع المفرد، كما مر آنفًا، وقرأ أُبيٌّ ﴿سنة﴾ وكذا في مصحف عبد الله، وقرأ الضحاك: ﴿سنون﴾ بالواو على إضمار، هي سنون، وقرأ الحسن، وأبو عمرو، في رواية اللؤلؤي عنه ﴿تسْعا﴾ بفتح التاء كما قالوا عشر،
٢٦ - ثم أكد أن المدّة المضروبة على آذانهم، هي هذه المدة، فقال: ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمد إذا نازعوك فيما ذكرنا: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِما لَبِثُوا﴾؛ أي: بمدة لبثهم، وقد أخبرنا بمدّته، فهو الحق الذي
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
337
لا يحوم حوله شك، وقال البغويُّ: وهذه الجملة مرتبة على محذوف تقديره: إن الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا، فإن نازعوك فيها فأجبهم، و ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾؛ أي: بالزمان الذي لبثوا فيه، لأن علم الخفيّات مختص به تعالى، ولذلك قال: ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى خاصة ﴿لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾، أي: علم ما غاب عن أهل الأرض، والسموات فيهما، يعني: أنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال أهلها، فإنه العالم وحده به، فكيف يخفى عليه حال أصحاب الكهف، لا يعزب عنه علم شيء منه، فسلّموا له علم ما لبثت به الفتية في الكهف، وإذا علم الخفي فيهما، فهو بعلم غيره أدرى.
ومن ذلك العلم الغائب على كثير من العقول، حساب السنة الشمسية والقمرية، فقد غيّبه الله عن بعض الناس، ولم يطلع عليه إلّا العارفين بحساب الأفلاك، ومن ثم يعجبون من أمر نبيهم، ويعلمون أنّ هذا مبدأ زينة الأرض وزخرفها.
وفائدة تأخير بيان مدة لبثهم (١): الدلالة على أنهم تنازعوا فيها أيضًا، كما تنازعوا في عددهم على أن هذا البيان من الغيب الذي أخبر الله به نبيه - ﷺ - ليكون معجزة له، وجاء قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا﴾ تذييلًا لسابقه ليكون محاكيًا قوله في حكاية عددهم ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾.
ثم زاد في المبالغة والتأكيد، فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال: ﴿أَبْصِرْ بِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَأَسْمِعْ﴾ به تعالى؛ أي: ما أبصر الله سبحانه وتعالى بكل موجود، وأسمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى عليه شيء من ذلك، وهذا أمر عظيم من شأنه أن يتعجّب منه، وقد ورد مثل هذا في الحديث «سبحانك ما أحلمك عمن عصاك، وأقربك ممن دعاك، وأعطفك على من سألك».
فأفاد هذا التركيب التعجب من علمه سبحانه وتعالى، ودل على (٢) أن شأنه
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
338
سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين، وأنّه يستوي في علمه الغائب والحاضر، والخفي والظاهر، والصغير والكبير، واللطيف والكثيف، وكأن أصله: ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء، و ﴿الباء﴾ زائدة عند سيبويه، وخالفه الأخفش، والبحث عنه مقرر في علم النحو، وسنذكر طرفًا منه في مبحث الإعراب، وقرأ عيسى ﴿أسمع به وأبصر﴾ على الخبر فعلًا ماضيًا لا على التعجب؛ أي: أبصر عباده بمعرفته، وأسمعهم، و ﴿الهاء﴾ كناية عن الله تعالى ﴿ما لَهُمْ﴾؛ أي: ما لأهل السموات والأرض، وقيل: لأهل الكهف، وقيل: لمعاصري محمد - ﷺ - من الكفار ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يلي أمورهم، وناصر ينصرهم، ومدبر يدبر شؤونهم، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه تعالى، وفي هذا بيان لغاية قدرته، وأن الكلّ تحت قهره. ﴿وَلا يُشْرِكُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فِي حُكْمِهِ﴾ وقضائه، أو في علم غيبه ﴿أَحَدًا﴾ من مخلوقاته، فله خاصة الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك، تعالى الله وتقدست أسماؤه.
أي: لا (١) يجعل الله تعالى أحدًا من الموجودات العلوية والسفلية شريكًا لذاته العلية في قضائه الأزلي إلى الأبد، لعزته وغناه، قال الإمام: المعنى أنه تعالى لما حكى أنّ لبثهم هو هذا المقدار.. أراد أنه ليس لأحد أن يقول بخلافه، انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَلا يُشْرِكُ﴾ بالياء على النفي، وقرأ مجاهد بالياء، والجزم قال يعقوب: لا أعرف وجهه. وقرأ ابن عامر، والحسن، وأبو رجاء وقتادة، والجحدري، وأبو حيوة، وزيد، وحميد بن الوزير، عن يعقوب، والجعفي، واللؤلؤي، عن أبي بكر، ﴿ولا تشرك﴾ بالتاء والجزم على النهي، والمعنى: ولا تشرك أيها الإنسان
٢٧ - ﴿وَاتْلُ﴾، أي: واقرأ يا محمد ﴿ما أُوحِيَ إِلَيْكَ؛﴾ أي: ما أنزل إليك ﴿مِنْ كِتابِ رَبِّكَ﴾؛ أي: من القرآن بيان للموحى
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
339
إليه، للتقرب إلى الله تعالى بتلاوته، والعمل بموجبه، والاطلاع على أسراره، ولا تسمع لقولم، ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ﴾، والفرق (١) بين التلاوة والقراءة: أن التلاوة قراءة القرآن متابعة كالدراسة، والأوراد الموظفة، والقراءة أعم؛ لأنها جمع الحروف باللفظ لا اتباعها، قيل (٢): ويحتمل أن يكون معنى قوله: ﴿وَاتْلُ﴾ واتبع أمرًا، من التّلوّ لا من التلاوة.
﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾؛ أي: لكلمات الله سبحانه وتعالى؛ أي: لا مغير للقرآن؛ أي: لا قادر على تبديله، وتغييره غيره تعالى كقوله: ﴿وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ﴾ فهو عامّ مخصوصٌ فافهم، فإن قلت (٣): موجب هذا أن لّا يتطرق النسخ إليه؟.
قلت: النسخ في الحقيقة ليس بتبديل؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ المغاير، فكيف يكون تبديلا، وقيل: معناه لا مغير بما أوعد الله بكلماته أهل معاصيه، وقيل: معناه لا مغيّر بأوامره ونواهيه، وبوعده لأولياه، ووعيده لأعدائه.
﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾ أبد الدهر، وإن بالغت في الطلب ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ﴿مُلْتَحَدًا﴾؛ أي: ملجأً وحرزًا تعدل إليه عند نزول بلية، قال الزجاج: لن تجد معدلًا عن أمره ونهيه، أي: إنك إن لم تتبع القرآن وتتله، وتعمل بأحكامه لن تجد معدلًا تعدل إليه، ومكانًا تميل إليه.
وحاصل معنى الآية: أي (٤) واتل أيها الرسول الكتاب الذي أوحي إليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من أمر ونهي، وإن أحدًا لا يستطيع أن يغير ما فيه من وعيد لأهل معاصيه، ومن وعد لأهل طاعته، فإن أنت لم تتبعه، ولم تأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد المخالفين حدوده، فلن تجد من دونه موئلًا، ولا ملجأ تلتجىء إليه؛ إذ قدرة الله محيطةٌ بك، وبجميع خلقه، لا يقدر أحدٌ على
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
340
الهرب من أمر أرادهُ به.
وفي (١) أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه، وإخباره أنه لا مبدّل لكلماته، إشارةٌ إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف، وتحريف أخبارهم، وهذه الآية آخر قصّة أهل الكهف.
٢٨ - ثمّ شرع سبحانه في نوع آخر، كما هو دأب الكتاب العزيز فقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾؛ أي: احبسها وثبتها مصاحبة ﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾، ويذكرونه ﴿بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ﴾؛ أي: في أول النهار وآخره، والمراد الدوام؛ أي: مداومين على الدعاء في جميع الأوقات، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير، والعشي لطلب عفو التّقصير، وقال ابن عمر، ومجاهدٌ، وإبراهيم: ﴿وَالْعَشِيِّ﴾ إشارة إلى الصلوات الخمس، وقال قتادة: إلى صلاة الفجر، وصلاة العصر.
وقرأ نصر بن عاصم، ومالك بن دينار، وأبو عبد الرحمن، وابن عامر: ﴿بالغدوة﴾ بالواو، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو قال النّحّاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول: الغدوة، وجملة قوله: ﴿يُرِيدُونَ﴾ بدعائهم في تلك الأوقات ﴿وَجْهَهُ﴾ تعالى، ورضاه، حال من الضمير المستكن في يدعون؛ أي: يدعون ربهم حالة كونهم مريدين بدعائهم، وعبادتهم، وجهه تعالى ورضاه، لا شيئًا آخر من أعراض الدنيا.
والمعنى: أي احبس نفسك وثبتها مع فقراء الصحابة، كعمار بن ياسر، وصهيب، وبلال، وابن مسعود، وأضرابهم ممن يدعون ربّهم بالغداة والعشي بالتسبيح، وصالح الأعمال، ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون عرضًا من أعراض الدنيا، ولا شيئًا من لذاتها ونعيمها.
روي: أن عيينة بن حصن الفزاري، أتى النبي - ﷺ - قبل أن يسلم، وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقه، ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات
(١) الشوكاني.
341
مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم النّاس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لهم مجلسًا، فنزلت هذه الآية كما مر في أسباب النزول، ونحو الآية قوله: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، ومقال هؤلاء شبيه بمقالة قوم نوح ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ ثم أمره سبحانه بمراقبة أحوالهم فقال: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾؛ أي: ولا تلتفت عيناك، ولا تنصرف ولا تمل ﴿عَنْهُمْ﴾ إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، وهذا نهيٌ (١) للعينين، والمراد صاحبهما، يعني نهيه عليه السلام عن الازدراء بفقراء المسلمين، لرثاثة زيهم، طموحًا إلى زيّ الأغنياء، وقيل: معناه: لا تحتقرهم عيناك، حالة كونك يا محمد ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾؛ أي: تطلب مجالسة الأغنياء والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، وفي إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا تحقير لشأنها، وتنفير عنها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾ على نسبة الفعل إلى العينين، وقرأ الحسن: ﴿تعد﴾ عينيك بالتشديد، والتخفيف من عدّى أو أعدى، وقرأ الأعمش، وعيسى: ﴿وَلا تَعْدُ﴾ بالتشديد ﴿وَلا تُطِعْ﴾ يا محمد، أي: لا توافق في تنحية الفقراء عن مجلسك، ﴿مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾؛ أي: من جعلنا قلبه غافلًا عن ذكرنا، كعيينة بن حصن، وقيل: أميّة بن خلف، والغفلة: معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور؛ أي: جعلنا قلبه في فطرته الأولى غافلًا عن الذكر، ومختومًا عن التوحيد، كرؤساء قريش، وفيه تنبيه على أنّ الدّاعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات، وانهماكه في المحسوسات، حتى خفي عليه أن الشّرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة؛ أي: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، أي: عن توحيدنا ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾؛ أي: شهوته في عبادة الأصنام ﴿وَكانَ أَمْرُهُ﴾ وشأنه، وعملُه ﴿فُرُطًا﴾؛ أي: ضائعًا لا ينتفع به في الدنيا والآخرة.
وفي «التأويلات النجمية»: وكان أمره في متابعة الهوى هلاكًا وخسرانًا،
(١) روح البيان.
(٢) أبو البقاء.
342
وقيل: متجاوزًا عن حدّ الاعتدال، وقرأ أبو مجلز (١)، وعمر بن فائد، وموسى الأسوأريّ، وعمرو بن عبيد ﴿أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ بفتح لام أغفلنا، ورفع باء القلب بإسناد الإغفال إلى القلب على معنى: حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة والمجازاة. ومعنى الآية ﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾ الخ؛ أي (٢): ولا تصرف بصرك، ونفسك عنهم رغبة في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون.
وخلاصة ذلك: النهي عن احتقارهم، وصرف النظر عنهم إلى غيرهم، لسوء حالهم وقبح بزتهم، روي أنّ رسول الله - ﷺ - قال: - لما نزلت الآية - «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه» ثم هذا النهي بقوله: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا﴾ الخ؛ أي: ولا تطع في تنحية الفقراء عن مجلسك من جعلنا قلبه غافلًا عن ذكر الله وتوحيده، لسوء استعداده، واتباع شهوته، وإسرافه في ذلك غاية الإسراف، وتدسيته نفسه حتى ران الكفر والفسوق والعصيان على قلبه، وتمادى في اجتراح الآثام والأوزار،
٢٩ - وبعد أن أمر رسوله - ﷺ - أن لا يلتفت إلى قول أولئك الأغنياء، الذين قالوا: إن طردت أولئك الفقراء آمنّا بك، أمره أن يقول لهم ولغيرهم على طريق التهديد والوعيد، هذا هو الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وَقُلِ﴾ أيها الرسول لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتّبعوا أهواءهم، هذا الذي أوحي إلي هو ﴿الْحَقُّ﴾ حالة كونه كائنًا ﴿مِنْ﴾ عند ﴿رَبِّكُمْ﴾ ومالك أمركم، لا من قبل نفسي، وهو الذي يجب عليكم اتّباعه، والعمل به، فقد جاء الحقّ، وانزاحت العلل، فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم، ما شئتم مما فيه النّجاة أو الهلاك، ﴿فَمَنْ شاءَ﴾ أن يؤمن به ويدخل في غمار المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يصلح أن يكون معذرة له، ﴿فَلْيُؤْمِنْ﴾ به، لأن الحقّ قد وضح، واختفى الباطل ﴿وَمَنْ شاءَ﴾ أن يكفر به، وينبذه وراء ظهره، ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾، ولست بطارد - لأجل أهوائكم - من كان للحق متبعًا، وبالله وبما أنزل عليّ مؤمنًا، فالله تعالى لم يأذن لي في طرده لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار، وهذه الجملة وردت مورد تهديد، لا مورد
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
343
تخيير، ولذلك عقّبه بقوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ﴾.
وخلاصة ذلك (١): أنّني في غنى عن متابعتكم، وإنني لا أبالي بكم، ولا بإيمانكم، وأمر ذلك إليكم، وبيد الله التوفيق، والخذلان، والهدى، والضلال، وهو لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يضره كفر الكافرين كما قال: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ وقرأ (٢) أبو السمال قعنب ﴿وقل الحَقُّ﴾ بفتح اللام، حيث وقع. قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية انتهى. وعنه أيضًا ضم اللام حيث وقع كأنّه إتباع لحركة القاف، وقرأ أيضًا الحقّ بالنصب، قال صاحب «اللّوامح» هو على صفة المصدر المقدر؛ لأنّ الفعل يدل على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة كنصبه إيّاه نكرة، والتقدير: وقل القول الحقّ، وقرأ الحسن، وعيسى الثقفي بكسر لامي الأمر.
ولما هدد السامعين بأن يختاروا لأنفسهم ما يجدونه غدًا عند الله، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والمعاصي، والوعد على الأعمال الصالحة، وبدأ بالأول فقال: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا﴾ راجع (٣) لقوله: ﴿وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ الخ راجع لقوله: ﴿فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ﴾ فهو لف ونشر مشوش؛ أي: إنّا أعددنا وهيأنا، ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: للكافرين ﴿نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾؛ أي: نارًا عظيمةً عجيبةً، أحاط بهم سورها، وجدرانها، وفسطاطها، فلا مخلص لهم منها؛ أي: إنا قد أعددنا لمن ظلم نفسه، وأنف من قبول الحق، ولم يؤمن بما جاء به الرسول نارًا، يحيط بهم لهيبها، المستعر من كل جانب، كما يحيط السّرادق والفسطاط بمن حل فيه، فلا مخلص منه، ولا ملجأ إلى غيره، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقّق، ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ من العطش؛ أي: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة، وهم في النار، فيطلبوا الماء لشدة ما هم فيه من العطش لحر جهنم، كما قال في سورة الأعراف حكاية عنهم: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ ﴿يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ﴾، أي: كدري
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
344
الزيت، أو كالفضّة المذابة ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ وينضجها، والشيُّ: الإنضاج بالنار من غير إحراق، كما سيأتي في مبحث التصريف؛ أي: إذا قرب إلى الفم ليشرب سقطت فروة وجهه؛ أي: يؤتى لهم بماء غليظ كدريّ الزّيت وعكره؛ إذا قرب إليهم للشرب سقطت جلود وجوههم، ونضجت من شدّة حره.
روى أحمد، والترمذي، والبيهقي، والحاكم عن أبي سعيد الخدري: أن النبيّ - ﷺ - قال: «المهل كعكر الزيت» - بفتحتين - ما بقي في أسفل الإناء، «فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه» وعن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت.
والمعنى: أنّه ينضج به جميع جلودهم. ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾ ذلك الماء الموصوف؛ لأن المقصود بشرب الماء تسكين الحرارة، وهذا يبلغ في الإحراق مبلغًا عظيمًا، فالمخصوص بالذم محذوف تقديره: هو؛ أي: ذلك الماء المستغاث به كما قدرنا ﴿وَساءَتْ﴾ النار، وقبحت ﴿مُرْتَفَقًا﴾؛ أي (١): متكأ، ومنزلًا، وأصل الارتفاق نصب المرفق، تحت الخد، وهو تمييز محول عن الفاعل، والأصل: قبح مرتفقها، فحوّل الإسناد إلى النار، ونصب مرتفقًا على التمييز مبالغة وتأكيدًا؛ لأن ذكر الشيء مبهمًا ثمّ مفسرًا أوقع في النفس من أن يفسّر أولًا، وأعربه بعضهم مصدرًا بمعنى الارتفاق، فعبر عن الإضرار والعذاب بالمرتفق الذي هو المنتفع به، أو نفس الانتفاع على سبيل المشاكلة، لقوله في الجنة: ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ وإلّا فأي ارتفاق في النار؟!
والمعنى: أي ما أقبح هذا الشراب الذي هو كالمهل، فهو لا يطفىء غلة، ولا يسكن حرارة الفؤاد، بل يزيد فيها إلى أقصى غاية، وما أسوأ هذه النار منزلًا ومرتفقًا، ومجتمعًا للرفقة مع الكفار والشياطين، وجاء في الآية الأخرى ﴿إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (٦٦)﴾
٣٠ - ثم ثنى بذكر السعداء فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بالحقّ الذي أوحي إليك، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ من الأعمال؛ أي: جمعوا بين عمل القلب، وعمل الأركان، والصالحات؛ جمع صالحة وهي (٢) في الأصل صفة، ثمّ غلب استعمالها فيما حسّنه الشرع من الأعمال، فلم تحتج إلى
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
موصوف، ومثلها الحسنة فيما يتقرب به إلى الله تعالى. ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ﴾ منهم ﴿عَمَلًا﴾ مفعول أحسن، والتنوين فيه للتقليل، والأجر: الجزاء على العمل؛ أي: لا نبطل ثواب من أخلص منهم عملًا، ووضع الظاهر موضع المضمر، إذ حق العبارة أن يقال: إنّا لا نضيع أجرهم، للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم، إذ به يستحق ارتفاع الدرجات، والشرف، والرّتب، وقرأ عيسى الثقفي ﴿إنا لا نضيِّع﴾ من ضيع عداه بالتضعيف، والجمهور من أضاع عدوه بالهمزة.
والمعنى: أي (١) إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فالله لا يضيع أجرهم على ما أحسنوا من الأعمال، ولا يظلمهم على ذلك نقيرًا ولا قطميرًا،
٣١ - ثمّ بيّن ما أعدّ لهم من النعيم بقوله:
١ - ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات السابقة، ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾؛ أي: بساتين إقامة وخلود، يعني تخلد هي، ويخلد فيها صاحبها، ويجوز (٢) أن يكون العدن: اسمًا لموضع معين من الجنة، وهو وسطها، وأشرف مكان فيها، وقوله: جنّات لفظ جمع، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦)﴾ ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢)﴾، ويمكن أن يكون نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة.
٢ - ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ﴾؛ أي: من تحت مساكنهم، وقصورهم ﴿الْأَنْهارُ﴾ الأربعة من الخمر، واللبن، والعسل، والماء العذب، وذلك لأن أفضل البساتين في الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار؛ أي: إنّه لهم جنات يقيمون فيها، تجري من تحت غرفها الأنهار.
٣ - ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها﴾؛ أي: يلبسون في تلك الجنات، وحكى الفراء ﴿يَحْلَوْنَ﴾ بفتح الياء وسكون الحاء، وفتح اللام من حليت المرأة، إذا لبست الحلي، وهي ما تتحلى وتتزين به من ذهب وفضة وغير ذلك من الجواهر. ﴿مِنْ أَساوِرَ﴾ قيل:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
346
﴿مِنْ﴾ زائدة بدليل سقوطها في سورة ﴿هَلْ أَتى﴾ ﴿وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وقيل:
ابتدائية، وأساور جمع أسورة، وهي جمع سوار، وهي زينة تلبس في الزند من اليد، وهي من زينة الملوك، يعني في الزمن الأول، وتنكيرها لتعظيم حسنها، قال في «بحر العلوم» (١): وتنكير أساور للتكثير والتعظيم، ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ بيانية صفة لأساور، وتنكيره لتبعيده من الإحالة به، وظاهر (٢) الآية: أنها جميعها من ذهب، وجاء في آية أخرى ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾، وفي أخرى ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾، ولؤلؤ فيجمع بينها بأنهم يحلون بالأساور الثلاثة، إما على سبيل المعاقبة، أو على سبيل الجمع كما تفعله نساء الدّنيا، فيكون في الواحد منهم سوار من ذهب، وآخر من فضة، وآخر من لؤلؤ، وقرأ أبان عن عاصم، من: ﴿أسوره﴾ من غير ألف، وبزيادة هاء، وهو جمع سوار.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» أخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما.
٤ - ﴿وَيَلْبَسُونَ﴾ فيها ﴿ثِيابًا خُضْرًا﴾؛ أي: ذوات خضرة؛ لأن (٣) الخضرة أحسن الألوان، وأكثرها طراوة، وأحبها إلى الله تعالى، ولأنها هي اللون الموافق للبصر، وقرأ أبان: ﴿ويلبسون﴾ بكسر الباء وعبارة «المراغي» هنا: واختير اللون الأخضر، لأنه أرفق بالأبصار، ومن ثمّ جعله الله لون النبات والأشجار، وجعل لون السماء الزرقة؛ لأنه نافع لأبصار الحيوان أيضًا، وقد قالوا: أربعة مذهبة للهم والحزن: الماء، والخضرة، والبستان، والوجه الحسن، ﴿مِنْ سُنْدُسٍ﴾ بيان لتلك الثياب، صفة لها، وهو ما رق من الديباج ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ وهو ما غلظ منه، والدّيباج: الثوب الذي سداه ولحمته إبريسم وحرير، وإنما جمع بين النوعين للدلالة على أن لبسهما مما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وقرأ ابن محيصن: ﴿واستبرقَ﴾ بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلًا ماضيًا على وزن استفعل من البريق، ويكون استفعل فيه موافقًا للمجرد الذي هو برق، ذكره في «البحر».
(١) روح البيان.
(٢) السمرقندي.
(٣) المراغي.
347
فإن قيل: ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بالبناء للمفعول، وفي اللباس: ﴿يَلْبَسُونَ﴾ بالبناء للفاعل؟
قلنا: بنى في الأول للمفعول إيذانًا (١) بكرامتهم، وأن غيرهم يفعل بهم ذلك، ويزينهم به، بخلاف اللبس، فإن الانسان يتعاطاه بنفسه شريفا أو حقيرا، وقدم التحلي على اللباس؛ لأنه أشهى للنفس اهـ «سمين».
وقال بعضهم: لا شك (٢) أن لباس السّتر يلبسه المرء بنفسه، ولو كان سلطانا.. فلذا أسند إليه، وأما لباس الزينة فغيره يزيّنه به عادة كما يشاهد في السلاطين والعرائس، ولذا أسند إلى غيره على سبيل التعظيم والكرامة.
٥ - ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها﴾؛ أي: حالة كونهم متكئين في الجنة، وجالسين فيها، ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ والسرر متربعين عليها، وفي «الجمل»: متّكئين: حال عاملها محذوف؛ أي: ويجلسون متكئين؛ أي: متربعين ومضطجعين جمع أريكة، وهي: السّرير في الحجال، ولا يسمى السرير وحده أريكة، إلّا إذا كان في الحجال والحجال: جمع حجلة، وهي بيت يزيّن بالثياب للعروس، وخص (٣) الاتكاء؛ لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرّتهم؛ أي: يتكئون فيها على سرر مزدانة بالستور، وفي هذا دليل على منتهى الراحة والنعيم، كما يكون ذلك في الدنيا، وأصل ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ موتكئين؛ لأنه من اتكأ، أصله: أوتكأ، كما سيأتي في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى.
وقد اشتملت الآية (٤) على خمسة أنواع من الثواب كما أشرنا إليها بالأرقام، الأول: لهم جنات عدن، الثاني: تجري من تحتهم... إلخ، الثالث: يحلّون فيها، الرابع: ويلبسون ثيابًا... إلخ، والخامس: متكئين فيها... إلخ اهـ شيخنا.
﴿نِعْمَ الثَّوابُ﴾ الذي أثابهم الله به بأنواعه الخمسة المتقدمة، والثواب فاعل والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هي؛ أي: الجنات ﴿وَحَسُنَتْ﴾؛ أي:
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
348
الجنات ﴿مُرْتَفَقًا﴾؛ أي: مقرًا، ومنزلًا، ومجتمعا لعباده الصالحين، وقيل: ﴿حَسُنَتْ﴾؛ أي: الأرائك ﴿مُرْتَفَقًا﴾؛ أي: متكأً ومقعدًا، ومنزلًا للاستراحة.
والمعنى: أي نعمت الجنة لهم جزاءً وفاقًا على جميل أعمالهم، وحسنت منزلًا، ومقيلًا، ونحو الآية ﴿أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلامًا (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقامًا (٧٦)﴾.
الإعراب
﴿وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف ﴿أَعْثَرْنا﴾: فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره: أعثرنا عليهم قومهم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، والتقدير: أعثرنا عليهم إعثارًا مثل: إنامتنا إياهم، وبعثنا إياهم، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ﴾. ﴿لِيَعْلَمُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يعلموا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لعلمهم أن وعد الله حق، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَعْثَرْنا﴾. ﴿أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي علم؛ أي: ليعلموا حقية وعد الله، ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾: ناصب واسمه ﴿لا﴾: نافية ﴿رَيْبَ﴾ اسمها ﴿فِيها﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿لا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ المشددة، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر معطوف على مصدر أن الأولى تقديره: ليعلموا حقية وعد الله، وعدم وجود الريب في الساعة، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿أَعْثَرْنا﴾ ﴿يَتَنازَعُونَ﴾: فعل وفاعل في محل الجر، مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بَيْنَهُمْ﴾ متعلق به ﴿أَمْرَهُمْ﴾: مفعول به منصوب بـ ﴿يَتَنازَعُونَ﴾ لأن تنازع إذا كان بمعنى التجاذب ينصب مفعولًا وقيل: منصوب بنزع الخافض أي في أمرهم.
349
﴿فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾.
﴿فَقالُوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَعْثَرْنا﴾ ﴿ابْنُوا عَلَيْهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿قالَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالوا﴾، وإن شئت: قلت ﴿ابْنُوا﴾: فعل أمر وفاعل ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿ابْنُوا﴾ ﴿بُنْيانًا﴾: مفعول به ومنصوب على المصدرية، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ ﴿رَبُّهُمْ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿بِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ إن كان من كلامهم، أو جملة مستأنفة، إن قلنا إنه من كلام الله ﴿قالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿غَلَبُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿عَلى أَمْرِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿غَلَبُوا﴾ ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿نتخذن﴾ فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَسْجِدًا﴾. ﴿مَسْجِدًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾.
﴿سَيَقُولُونَ﴾ ﴿السين﴾ حرف استقبال أتى بها للإشارة إلى أنّ النزاع في أمرهم، حصل في زمن النبي - ﷺ -؛ أي: في المستقبل البعيد بالنسبة لقصتهم، ﴿يقولون﴾ فعل وفاعل، والضمير يعود إلى الخائضين في قصتهم، زمن النبي - ﷺ - من أهل الكتاب والمؤمنين، والجملة الفعلية مستأنفة، قال أبو حيان: وجاء (١) بسين الاستقبال؛ لأنه كان في الكلام طيٌّ، وإدماج، والتقدير: فإذا أجبتهم عن سؤالهم، وقصصت عليهم قصة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم إذا سألتهم، سيقولون، ولم يأت بالسين فيما بعده؛ لأنه معطوف على المستقبل، فدخل في
(١) الفتوحات.
350
الاستقبال، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال، الذي هو صالح له، ﴿ثَلاثَةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلاثة أشخاص، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول القول ﴿رابِعُهُمْ﴾: مبتدأ ﴿كَلْبُهُمْ﴾: خبره، والجملة في محل الرفع، صفة لـ ﴿ثَلاثَةٌ﴾؛ أي: هم ثلاثة، موصوفون بكون جاعلهم، أربعة كلبهم بانضمامه إليهم، ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سَيَقُولُونَ﴾ ﴿خَمْسَةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم خمسة أشخاص، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾: مبتدأ، وخبر، والجملة في محل الرفع، صفة لـ ﴿خَمْسَةٌ﴾ تقديره: هم خمسة أشخاص، موصوفون بكون جاعلهم ستة كلبهم بانضمامه إليهم ﴿رَجْمًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: يرجمون ذلك رجمًا بالغيب؛ أي: يرمون رميًا بالخبر الخفي المظنون، أو على الحال من فاعل يقولون، أي: يقولون ذلك حالة كونهم راجمين بالغيب؛ أي: قائلين بما غاب عنهم، ﴿بِالْغَيْبِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿رَجْمًا﴾، ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سَيَقُولُونَ﴾ ﴿سَبْعَةٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم سبعة أشخاص، ﴿وَثامِنُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾ زائدة، زيدت تشبيهًا (١) للجملة الواقعة صفة للنكرة، بالجملة الواقعة حالًا عن المعرفة، في نحو قولك: جاء زيد، ومعه رجل آخر، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، ودلالة على أن اتصافه بها، أمر ثابت، مستقر في الأذهان، وهذا القول ما اختاره الزمخشري، وابن هشام من الأقوال المتلاطمة في هذه ﴿الواو﴾ التي لا طائل تحتها. ﴿وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿سَبْعَةٌ﴾ تقديره: ويقولون هم سبعة أشخاص، موصوفون بكون جاعلهم ثمانية كلبهم بانضمامه إليهم.
﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة {رَبِّي
(١) الفتوحات.
351
أَعْلَمُ}: مبتدأ، وخبر ﴿بِعِدَّتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿ما﴾ نافية ﴿يَعْلَمُهُمْ﴾: فعل، ومفعول ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿قَلِيلٌ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط، مقدر، تقديره: إذا عرفت أنه لا يعلمهم إلا قليل منهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: لا تمار فيهم، ويصحّ أن تكون ﴿الفاء﴾ تفريعية، كما في «روح البيان» كما مر عنه ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُمارِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مِراءً﴾: مفعول مطلق ﴿ظاهِرًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَلا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾ ناهية جازمةٌ ﴿تَسْتَفْتِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿فَلا تُمارِ﴾ ﴿فِيهِمْ﴾ متعلق به، ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من ﴿أَحَدًا﴾ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به.
﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾.
﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، أو استئنافية، ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَقُولَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله، ﴿فَلا تُمارِ﴾ أو مستأنفة ﴿لِشَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولَنَّ﴾؛ أي: لأجل شيء تقدم عليه، وتهتم به، وقيل: ﴿اللام﴾ بمعنى في ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه ﴿فاعِلٌ﴾ خبره ﴿ذلِكَ﴾: مفعول فاعل ﴿غَدًا﴾: منصوب على الظرفية متعلق بفاعل ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: لا تقل لشيء في حال من الأحوال، إلا في حال تلبسك بالتعليق، بالمشيئة ﴿أَنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء، ولكن
352
على حذف مضاف، والتقدير: لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله، فحذف الوقت، وهو مراد، أو على الحال، والتقدير: لا تقولنّ أفعل غدا إلّا حالة كونك قائلًا إن شاء الله، أو إلا حالة كونك متلبسًا بقول إن شاء الله كما في «العكبري».
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلا تَقُولَنَّ﴾ ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، ﴿نَسِيتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذا﴾ تقديره: واذكر مشيئة ربّك وقت نسيانك إياها، عند تذكرك بها، ﴿وَقُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة اذكر ﴿عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء، واسمها ضمير مستتر فيها: تقديره: هو يعود على الرب، والأولى أن يكون ﴿رَبِّي﴾ اسمها مؤخرًا، ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يَهْدِيَنِ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسر نون الوقاية في محل النصب مفعول به، وفاعله لفظة ﴿رَبِّي﴾ أو ضمير يعود على الرب لتقدمه رتبة، ﴿لِأَقْرَبَ﴾ متعلق بـ ﴿يَهْدِيَنِ﴾ ﴿مِنْ هذا﴾ متعلق بـ ﴿أقرب﴾ ﴿رَشَدًا﴾: تمييز ﴿لِأَقْرَبَ﴾ أي: لشيء أقرب إرشادًا للناس، أو مفعول مطلق؛ أي: يهديني هدايةً فيكون ملاقيًا لعامله بهذا المعنى، والأول أقرب، وجملة يهديني مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على الخبرية، لـ ﴿عَسَى﴾، ولكنه في تأويل اسم الفاعل، ليصحّ الإخبار به، والتقدير: وقل عسى ربي هاديا لي لأقرب من هذا رشدًا.
﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ﴾.
﴿وَلَبِثُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ﴾ ﴿فِي كَهْفِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿لَبِثُوا﴾ ﴿ثَلاثَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿لَبِثُوا﴾ ﴿مِائَةٍ﴾ مضاف إليه، ﴿سِنِينَ﴾ عطف بيان لثلاث مئة،
353
ولا يصح أن يكون تمييزًا؛ لأن تمييز المئة يجرّ، وجره بالإضافة والتنوين مانع منها، نعم قرىء في السبعة بالإضافة، وعليه فـ ﴿سِنِينَ﴾ تمييز غير أنه قليل؛ لأن تمييز المئة، الكثير فيه الإفراد، كما قال ابن مالك:
ومئة والألف للفرد أَضِفْ ومئةٌ بالجمع نزرًا قد رَدِفْ
﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾.
﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿لَبِثُوا﴾ ﴿قُلِ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿لَبِثُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بالزمن الذي لبثوه ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم ﴿غَيْبُ السَّماواتِ﴾ مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾، والجملة مستأنفة ﴿أَبْصِرْ﴾: فعل تعجب، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، والباء في ﴿بِهِ﴾ زائدة في الفاعل إصلاحًا للفظ ﴿وَأَسْمِعْ﴾: معطوف على ﴿أَبْصِرْ﴾، وجملة التعجب جملة إنشائية، لا محلّ لها من الإعراب.
﴿ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾.
﴿ما﴾: نافية ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من ولي ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿وَلِيٍّ﴾: مبتدأ مؤخر مرفوع، تقديرا، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿يُشْرِكُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿فِي حُكْمِهِ﴾، متعلق بـ ﴿يُشْرِكُ﴾ ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية.
﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧)﴾.
﴿وَاتْلُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿اتْلُ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به
354
﴿أُوحِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أُوحِيَ﴾ ﴿مِنْ كِتابِ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور حال من ﴿ما﴾ الموصولة ﴿لا﴾ نافية ﴿مُبَدِّلَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿لِكَلِماتِهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾، وجملة لا في محل النصب حال من ﴿رَبِّكَ﴾ لأن المضاف كالجزء من المضاف إليه، ﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لَنْ تَجِدَ﴾: ناصب ومنصوب، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من ﴿مُلْتَحَدًا﴾ ﴿مُلْتَحَدًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لا﴾ على كونها حالا من ﴿رَبِّكَ﴾.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاتْلُ﴾. ﴿مَعَ الَّذِينَ﴾: ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اصْبِرْ﴾ ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿بِالْغَداةِ﴾ متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾ ﴿وَالْعَشِيِّ﴾: معطوف على ﴿الغداة﴾ ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الموصول، أو من فاعل ﴿يَدْعُونَ﴾ ﴿وَلا تَعْدُ﴾: جازم ومجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة ﴿عَيْناكَ﴾: فاعل وعلامة رفعه الألف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَعْدُ﴾ ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ﴾: فعل ومفعول به، ومضاف إليه ﴿الدُّنْيا﴾ صفة لـ ﴿الْحَياةِ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ضمير المخاطب في ﴿عَيْناكَ﴾ لأن المضاف جزء من المضاف إليه.
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
﴿وَلا تُطِعْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لا تُطِعْ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾ ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به ﴿أَغْفَلْنا قَلْبَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول {عَنْ
355
ذِكْرِنا} متعلق به، والجملة صلة من الموصولة، ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾؛ والجملة معطوفة على ﴿أَغْفَلْنا﴾ ﴿وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾: معطوفة على جملة ﴿أَغْفَلْنا﴾ على كونها صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة.
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾.
﴿وَقُلِ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿قُلِ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾. ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الْحَقُّ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره؛ هذا الذي أوحي إليّ الحقّ ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: حال من الحق، والجملة في محل النصب مقول القول، لـ ﴿قُلِ﴾ ﴿فَمَنْ شاءَ﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية، أو فصيحة ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿شَاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿فَلْيُؤْمِنْ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب من الشرطية، وجوبًا لكونه جملة طلبيّةً و ﴿اللام﴾ لام أمر وجزم ﴿يؤمن﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلِ﴾ على كونها مستأنفة، أو مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾: جملة شرطية معطوفة على جملة من الأولى، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿أَعْتَدْنا﴾: فعل وفاعل ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ متعلق به ﴿نارًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿أَحاطَ﴾: فعل ماض ﴿بِهِمْ﴾ متعلق به ﴿سُرادِقُها﴾: فاعل وجملة ﴿أَحَاطَ﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿نارًا﴾؛ ولكنها صفة سببية.
﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)﴾.
356
﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿إِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾: جازم وفعل وفاعل مجزوم على كونه فعل شرط، وعلامة جزمه حذف النون ﴿يُغاثُوا﴾: فعل، ونائب فاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه حذف النون ﴿بِماءٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُغاثُوا﴾ ﴿كَالْمُهْلِ﴾: صفة أولى لـ ﴿ماء﴾، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿يَشْوِي﴾: فعل مضارع ﴿الْوُجُوهَ﴾: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿الماء﴾، والجملة الفعلية في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿ماء﴾ أو حال منه لتخصصه بالصفة ﴿بِئْسَ الشَّرابُ﴾: فعل وفاعل وهو من أفعال الذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هو أي: ذلك الماء المستغاث به، وجملة ﴿بِئْسَ﴾ في محل الرفع خبر للمخصوص بالذم المحذوف، والجملة الاسمية، جملة إنشائية لا محلّ لها من الإعراب، ﴿وَساءَتْ﴾: فعل ماض، وهي لإنشاء الذم، وفاعله ضمير يعود على النار، ﴿مُرْتَفَقًا﴾: تمييز محول عن فاعل ﴿ساء﴾ والأصل: ساء مرتفقها فحول الإسناد من المضاف إلى المضاف إليه، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فجيء بضمير الرفع، فاستتر في الفعل، ثم جيء بالمضاف المحذوف تمييزًا، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: النار، والجملة معطوفة على جملة ﴿بِئْسَ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه ﴿لا﴾: نافية ﴿نُضِيعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿أَجْرَ﴾: مفعول به ﴿مَنْ﴾: مضاف إليه ﴿أَحْسَنَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿عَمَلًا﴾: مفعول به، أو تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر، ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الرفع خبر أول، لـ ﴿إِنَّ﴾ الأولى، والرابط الضمير المستتر في أحسن أو، الرابط تكرر الظاهر بمعناه، لأن حقّ العبارة أجرهم، ويجوز أن تكون جملة ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ﴾ معترضةً وخبر، ﴿إِنَّ﴾ الأولى جملة ﴿أُولئِكَ﴾.
357
﴿أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)﴾.
﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم للمبتدأ الثاني، ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾: مبتدأ ثان مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل الرفع خبر ثان، لـ ﴿إِنَّ﴾ الأولى أعني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، أو خبر لها، إن قلنا: جملة ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ﴾ معترضة ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع ﴿مِنْ تَحْتِهِمُ﴾ متعلق به ﴿الْأَنْهارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّاتُ﴾؛ أو في محل النصب حال من ﴿جَنَّاتُ﴾ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان، لـ ﴿أُولئِكَ﴾ فِيها متعلق بـ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ أو حال من واو ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ أي: حالة كونهم كائنين فيها ﴿مِنْ أَساوِرَ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿أَساوِرَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾، وهو ممنوعٌ من الصرف لصيغة منتهى الجموع، أو جار ومجرور صفة لـ ﴿أَساوِرَ﴾. ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ صفة لـ ﴿أَساوِرَ﴾ ﴿وَيَلْبَسُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُحَلَّوْنَ﴾. ﴿ثِيابًا﴾: مفعول به ﴿خُضْرًا﴾: صفة أولى لـ ﴿ثِيابًا﴾ ﴿مِنْ سُنْدُسٍ﴾: جار ومجرور صفة ثانية لـ ﴿ثِيابًا﴾ أو حال من ﴿ثِيابًا﴾ لتخصصه بالصفة، ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾: معطوف على ﴿سُنْدُسٍ﴾ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾: حال إما من الضمير في ﴿تَحْتِهِمُ﴾ أو من الضمير في ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ أو ﴿يَلْبَسُونَ﴾ ﴿فِيها﴾: جار ومجرور حال أيضًا من الضمير في ﴿يُحَلَّوْنَ﴾، أو ﴿يَلْبَسُونَ﴾ وهي حال متداخلة ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ ﴿نِعْمَ الثَّوابُ﴾: فعل وفاعل وهو من أفعال المدح، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي؛ أي: الجنات، والجملة الفعلية خبر للمخصوص بالمدح، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿وَحَسُنَتْ﴾: فعل ماض لإنشاء المدح، معطوف على نعم، وفاعله ضمير يعود على الجنات ﴿مُرْتَفَقًا﴾: تمييز لفاعل ﴿حسن﴾ محول عن الفاعل، والتقدير: حسن مرتفقها، والمخصوص بالمدح محذوف، تقديره: هي؛ أي: الجنات.
358
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ﴾ أطلعنا عليهم قومهم، وأظهرناهم، وأعثر يتعدى بالهمزة، وأصل العثار في القدم، وفي «الأساس»: وعثر على كذا اطلع عليه، وأعثره على كذا أطلعه، وأعثره على أصحابه دلّه عليهم، ويقال للمتورط: وقع في عاثور، وفلان يبغي صاحبه العواثير، وأصله حفرة تحفر للأسد، وغيره يعثر بها، فيطيح فيها، ويقال: عثر عثورا، وعثارا: إذا سقط لوجهه، ويقال في المثل: «من سلك الجدد أمن العثار» ثم استعمل في الاطلاع على أمر من غير طلب له.
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ﴾ والساعة: يوم القيامة، حين يبعث الله الخلائق جميعًا للحساب والمجازاة، والتنازع والتّخاصم ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: رميًا بالخبر الخفي، وإتيانًا به، والرجم القول بالظن والحدس، ويقال: لكل ما يخرص رجم فيه، وحديث مرجوم، ومرجّم، وفي «المصباح» الرّجم بفتحتين الحجارة، ورجمته رجما من باب قتل، ضربته بالرجم، وهي الحجارة الصغار، ورجمته بالقول، رميته بالفحش، قال تعالى: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: ظنًا: من غير دليلٍ، ولا برهان، كقول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب:
ومَا الحرب إلّا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجّم
أي: المظنون، والغيب ما غاب عن الانسان، فالمراد أن يرمي الانسان ما غاب عنه، ولا يعرفه بالحقيقة، كما يقال: فلان يرمي بالكلام رميًا؛ أي: يتكلم من غير تدبر، والمراد هنا القول بالظن والتخمين.
﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ﴾؛ أي: لا تجادل، يقال: مارى يماري مماراةً، ومراءً؛ أي: جادل وفي «القاموس» مارى مراء ومماراةً جادل، ونازع، ولاج وتماريا تجادلا وامترى في الشيء شك، والمرية بكسر الميم، والمرية الجدل؛ يقال: ما في ذلك مرية، أي: جدل وشك.
﴿مُلْتَحَدًا﴾؛ أي: ملتجأ تجنح إليه لائذًا، إن هممت بالتبديل للقرآن، وفي «المصباح» قال أبو عبيدة: ألحد إلحادًا جادل، ومارى، ولحد جار، وظلم،
359
وألحد في الحرم، استحل حرمته وانتهكها، والملتحد بالفتح اسم الموضع، وهو: الملجأ. وفي «القاموس»: التحد عن الدين بمعنى ألحد، والتحد إلى كذا مال، والتحد إلى فلان التجأ ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ في «المختار» الصبر: حبس النفس عن الجزع، وبابه: ضرب وصبره حبسه، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ اهـ.
﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾؛ أي: لا تنصرف يقال: عداه إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طوره، وجاءني القوم عدا زيدًا، فحق الكلام، أن يقال: بالنصب؛ أي: لا تعد عينيك، وإنما عدل إلى الرفع لأنه أراد صاحب العينين، فهو من المجاز كما سيأتي في البلاغة ﴿فُرُطًا﴾ بضمتين؛ أي: مجاوزًا الحدّ. قال ابن عطية: الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط، والتضييع للذي يجب أن يلزم، ويحتمل: أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف اهـ «سمين».
والظاهر: أنه مصدر أفرط كما في «المختار» وعبارته: وأفرط في الأمر: جاوز فيه الحدّ اهـ. وعليه فيكون مصدرًا سماعيًا، لا قياسيًا، وفي «المختار» أيضًا: وأمرٌ فرطٌ بضمتين؛ أي: مجاوز فيه الحد، ومنه قوله تعالى: ﴿وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ اهـ ثمّ قال: وفرط إليه منه قول سبق، وبابه نصر اهـ.
﴿إِنَّا أَعْتَدْنا﴾؛ أي: أعددنا، وهيأنا ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ الذين اختاروا الكفر بالله، والجحد له، والإنكار لأنبيائه نارًا عظيمة ﴿أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾؛ أي: اشتمل عليهم، والسّرادق واحد السرادقات، قال الجوهري: وهي التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف؛ أي: قطن فهو سرادق، ومنه قول رؤبة:
يا حكم بن المنذر بن جارود سرادق المجد عليك ممدود
وفي «الفتوحات»: والسرادق قيل: هو ما أحاط بشيء، كالمضرب والخباء، وقيل للحائط المشتمل على شيء: سرادق، قاله الهرويّ، وقيل: هو الحجرة، تكون حول الفسطاط، وقيل: هو ما يمد على صحن الدار، وقال الراغب: السّرادق فارسيّ معرب، وليس في كلامهم اسم مفرد، ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا، وقيل: هو دخان يحيط بالكفار، قبل دخول النار، وقيل: حائط من نار يطيف بهم، وفي «الكشاف»: شبه ما يحيط بهم من النار
360
بالسرادق، وهو الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط اهـ.
﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ الياء فيه منقلبةٌ عن واو، إذ الأصل يستغوثوا، فنقلت كسرة الواو للساكن قبلها، ثم قلبت ياء لمناسبة الكسرة.
﴿المهل﴾ بضم الميم اسم يجمع معدنيات الجواهر، كالفضة، والحديد، والصفر، ما كان منها ذائبًا، والقطران الرقيق، والزيت الرقيق، والسم، والقيح، أو صديد الميت خاصة، وما يتحات عن الخبز من الرماد، وقيل: هو كعكر الزّيت؛ أي: ما بقي في الإناء منه.
والخلاصة: هو اسم جامع لكل المستقذرات التي تغشى منها النفس، وتتألم وتنفر ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾؛ أي: ينضجها إذا قدم ليشرب لشدة حرّه، والشيّ: الإنضاج بالنار من غير إحراق، ﴿مُرْتَفَقًا﴾؛ أي: متّكأً يقال: بات فلان مرتفقا؛ أي: متّكئا على مرفق يده، وأصل الارتفاق الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد، وهي هيئة المتحزن والمتحسر ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾؛ أي: جنات إقامة، واستقرار، يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه، واستقر، ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه. ﴿أَساوِرَ﴾ جمع أسورة، والأسورة جمع سوار، كأحمرة جمع حمار، فالأساور جمع الجمع.
﴿السندس﴾ ما رق من الديباج، ﴿الاستبرق﴾ ما غلظ من الديباج، والاستبرق يونانيّةٌ والسندس فارسية، وقيل: هندية ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ أصله موتكئين من اتّكأ أصله، اوتكأ، والاتكاء: التحامل على الشيء ﴿عَلَى الْأَرائِكِ﴾ جمع أريكةٍ، وفي «القاموس»: الأريكة - كسفينة - سرير في حجلة، أو كل ما يتكأ عليه من سرير، ومنصّة، وفراش، أو سرير متخذ مزين في قبة، أو بيتٍ، فإن لم يكن فيه سريرٌ.. فهو حجلة، والجمع أرائك اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله تعالى: ﴿يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾ فقد شبّه
361
أمرهم بشيء كثر النزاع حوله، ثم حذف ذلك الشيء، واستعير النّزاع القائم حوله.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ فقد شبه الغيب، والخفاء بشيء يرمى بالحجارة، واستعير الرجم له.
وفي «الفتوحات»: والرجم بمعنى الرمي، وهو: استعارة للتكلم بما لم يطّلع عليه لخفائه، عنه تشبيها له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضًا اهـ.
ومنها: صيغة التعجب في قوله: ﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾.
ومنها: المجاز العقليَّ في قوله: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْناكَ﴾؛ لأنه أسند فعل عدا، أي: تجاوز إلى العينين، ومن حقه: أن يسندهما إليه؛ لأن عدا متعد بنفسه، وإنّما جنح إلى المجاز؛ لأنه أبلغ من الحقيقة، فكأنّ عينيه ثابتتان في الرنوّ إليهم، وكأنما أدركتا ما لا تدركان، وأحستا بوجوب النظر، إلى هؤلاء، وصبر النفس، ورياضتها على ملازمتهم، وقيل: هو من باب التضمين، فقد ضمّن عدا معنى نبا، وعلا من قولهم: نبت عينه عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ﴾ وبين قوله: ﴿فَلْيُؤْمِنْ﴾ ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾.
ومنها: المشاكلة (١) في قوله: ﴿يُغاثُوا﴾ إذ لا إغاثة لهم بالماء المذكور، بل إتيانهم به، وإلجاؤهم لشربه غاية الإضرار، والإغاثة هي الانقاذ من الشدة، فكأنّه قال: يضروا ويعذبوا بماء. الخ وعبر عن هذا الإضرار بالإغاثة مشاكلة لقوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ اهـ شيخنا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيانًا﴾، وفي قوله: ﴿فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِرًا﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا﴾.
ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ﴾ فإنه راجع
(١) الفتوحات.
362
لقوله ﴿وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ فإنه راجع لقوله: ﴿فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ﴾.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ﴾ فقد سمى أعلى أنواع العذاب إغاثةً، والإغاثة هي: الإنقاذ من العذاب تهكما بهم، وتشفيًا منهم، والتهكم: فن طريف من فنونهم.
ومنها: التشبيه (١) المؤكد في قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها﴾ فقد شبه النار المحيطة بهم، بالسرادق المضروب على من يحتويهم، وأضيف السّرادق إلى النار، فذلك هو التشبيه المؤكّد، وهو أن يضاف المشبّه إلى المشبه به، كقول بعضهم:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ذهب الأصيل على لجين الماء
فقد أضاف الأصيل، وهو المشبه إلى الذهب، وهو المشبّه به، كما أضاف الماء الذي هو المشبه إلى اللجين، الذي هو المشبه به.
ومنها: التشبيه المرسل المفصل في قوله: ﴿بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ لذكر الأداة، ووجه الشبه، وقيل: وجه الشّبه فيه الثخن والرداءة في كلٍ كما في «الفتوحات».
ومنها: المقابلة البديعة بين الجنة في قوله: ﴿نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾، والنار في قوله: ﴿بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ فقد ذكر الارتفاق في النار مقابلةً كقوله: فيما بعد في وصف الجنة ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله أعلم
* * *
(١) إعراب القرآن.
363
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا أمر (١) نبيّه بصبر نفسه مع فقراء المؤمنين، وعدم طاعة أولئك الأغنياء من المشركين، الذين طلبوا منه - ﷺ - طرد هؤلاء الصعاليك،
(١) المراغي.
364
وأن يعيّن لهم مجلسًا، وللسادة مجلسًا آخر، حتى لا يؤذوهم بمناظرهم وروائحهم المستقذرة، وحتّى لا يقال: إنّ السّادة ومواليهم يجتمعون في صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفي ذلك امتهان لكبريائهم، وخفض من عزتهم.. أردف ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغي أن يكون موضع فخار؛ لأنه ظل زائل، وأنه كثيرًا ما يصير الفقير غنيًا، والغني فقيرًا، وإنّما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر وعمدة التفاضل، هو: طاعة الله وعبادته، والعمل على ما يرضيه في دار الكرامة، حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا (١) أبان أن الدنيا ظل زائل، وأنه لا ينبغي أن يغترّ أحد بزخرفها ونعيمها، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله، وانتظار مثوبته في جنات تجري من تحتها الأنهار.. أردف ذلك بذكر أحوال يوم القيامة، وما يكون فيها من أخطار وأهوال، وأنه لا ينجي منها إلّا اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين.
التفسير وأوجه القراءة
٣٢ - قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ هذا المثل ضربه الله تعالى لمن يتعزز ويفتخر بالدنيا، ويستنكف عن مجالسة الفقراء، فهو على هذا متّصل بقوله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ ﴿وَاضْرِبْ﴾ هنا بمعنى اجعل، يتعدى إلى مفعولين ﴿لَهُمْ﴾ متعلّق به ﴿مَثَلًا﴾ مفعول ثان، ﴿رَجُلَيْنِ﴾ مفعول أول، أي واجعل يا محمد رجلين موصوفين بالصفات الآتية، ﴿مَثَلًا﴾ وشبها لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ، وللمؤمنين المكابدين لمشاق الفقر؛ أي: مثل حال هؤلاء الكافرين والمؤمنين بحال (٢) رجلين شريكين في بني إسرائيل، أحدهما
(١) المراغي.
(٢) المراح.
365
كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا، أو تمليخا، لهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانًا قد اشترى أرضا بألف دينار، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال هذا: اللهمّ إن فلانًا بنى دارًا بألف دينار، وإنّي اشتريت منك دارًا في الجنة، بألف دينار، فتصدّق بها، ثم تزوّج صاحبه امرأة، وأنفق عليها ألف دينار، فقال هذا: اللهمّ إني أخطب إليك امرأةً من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بها، ثمّ إن صاحبه اشترى خدمًا، ومتاعًا بألف دينار، فقال هذا: اللهم إني أشتري منك خدمًا ومتاعًا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة، فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف، فجلس على طريق، حتى مر به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه صاحبه، فعرفه فقال له: فلان؟ قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتعينني بخير، قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصّدقين، فطرده ووبخه على التصدق بماله، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى فنزل في شأنهما قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾؛ أي: واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين المتقلبين في نعم الله، والمؤمنين المكابدين لمشاق الفقر، مثلا رجلين؛ أي: اجعل مثل الفريقين مثل رجلين ﴿جَعَلْنا لِأَحَدِهِما﴾، وهو الكافر: ﴿جَنَّتَيْنِ﴾؛ أي: بستانين ﴿مِنْ أَعْنابٍ﴾؛ أي: من كروم متنوعة، فإطلاق الأعناب عليها مجاز، ويجوز أن يكون بتقدير المضاف؛ أي: من أشجار أعناب، والأعناب جمع عنب، وهو ثمر الكرم ﴿وَحَفَفْناهُما﴾؛ أي: أحطنا البستانين ﴿بِنَخْلٍ﴾؛ أي: جعلنا النّخل محيطة بالجنتين ملفوفا بها، كرومهما ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُما﴾؛ أي: وجعلنا وسط البستانين ﴿زَرْعًا﴾ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة على الشكل الحسن، والترتيب الأنيق.
وخلاصة ذلك (١): أن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهي متواصلة
(١) المراغي.
366
متشابكة، فلها منظرٌ ورواءٌ حسنٌ ووضعٌ أنيقٌ يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر.
روي: أن أخوين من بني إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطراها، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وأنفق المؤمن ما ورثه في وجوه الخير وطاعة الله، وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا في كتابه، وسواء أصحت الرواية أم لم تصحّ، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها.
٣٣ - وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم في النعيم قد عصوا ربهم، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ﴾؛ أي: كل من البستانين ﴿آتَتْ أُكُلَها﴾؛ أي: أعطت وأخرجت ثمرها كل عام، وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل وإفراد (١) الضمير في ﴿آتَتْ﴾ للحمل على لفظ المفرد، قال الحريري: ولا يثنى خبر كلا إلا بالحمل على المعنى ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ﴾؛ أي: ولم تنقص ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من أكلها وثمرها ﴿شَيْئًا﴾ في سائر الأعوام على خلاف ما يعهد في الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعوامًا، وتقل أعوامًا أخرى، فقوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾؛ أي: في بعض السنين بل في كل سنة يأتي ثمرها وافيًا.
وقرأ الجمهور (٢): كلتا الجنتين، وفي مصحف عبد الله ﴿كلا الجنتين﴾، أتى بصيغة التذكير، لأن تأنيث الجنتين مجازي، ثمّ قرأ ﴿آتت﴾ فأنّث، لأنه ضمير مؤنّث، فصار نظير قولهم: طلع الشّمس، وأشرقت، وقال الفراء في قراءة ابن مسعود: ﴿كل الجنتين آتى أكله﴾ انتهى. فأعاد الضمير على كل ﴿وَفَجَّرْنا﴾؛ أي: أجرينا وشققنا ﴿خِلالَهُما﴾؛ ﴿خِلالَهُما﴾؛ أي: وسط الجنتين ﴿نَهَرًا﴾ ليسقيهما دائما من غير انقطاع، وقرأ (٣) الجمهور، ﴿وَفَجَّرْنا﴾ بتشديد الجيم للمبالغة، وقال الفراء: إنما شدد ﴿وَفَجَّرْنا﴾ وهو نهر واحد، لأن النهر يمتد، فكان التفجر فيه
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
كله، أعلم الله تعالى أن شربهما كان من نهر واحد، وهو أغزر الشرب، وقرأ الأعمش وسلّام، ويعقوب، وعيسى بن عمر، بتخفيف الجيم، وكذا قرأ الأعمش في سورة القمر، والتشديد في سورة القمر، أظهر لقوله ﴿عُيُونًا﴾ وقوله ﴿نَهَرًا﴾ وانتصب ﴿خِلالَهُما﴾؛ أي: وسطهما على الظرف لأنه كان النهر يجري من داخل الجنتين، وقرأ الجمهور (١) ﴿نَهَرًا﴾ بفتح الهاء، وقرأ أبو السمال، والفياض بن غزوان، وطلحة بن سليمان بسكون الهاء؛ أي: وشققنا وسط الجنتين نهرًا كبيرًا، تتفرع منه عدة جداول، ليدوم سقيهما، ويزيد بهاؤهما، وتكثر غلتهما.
ولعل (٢) تأخير ذكر تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل مع أن الترتيب الخارجي على العكس، للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل، وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، ولو عكس لانفهم أنّ المجموع خصلة واحدة، بعضها مرتب على بعض، فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقّف على السقي كقوله تعالى: ﴿يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ﴾
٣٤ - ﴿وَكانَ لَهُ﴾، أي: لصاحب الجنّتين ﴿ثَمَرٌ﴾؛ أي: أنواع من المال غير الجنتين من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى، والثّمر بفتحتين جمع ثمرة، وهي المجني من الفاكهة، وذكرها وإن كانت الجنة لا تخلو عنها إيذان بكثرة الحاصل له في الجنتين من الثمار وغيرها، وقال ابن (٣) عباس وقتادة: الثمر: - يعني إذا قرىء بضمتين - جميع المال من الذهب والحيوان وغير ذلك، وقال النابغة:
مهلًا فداءٌ لَكَ الأَقوامُ كلُّهمُ وما أثمَّرُ من مالٍ ومن ولد
وقال مجاهد: يراد بها: الذهب والفضّة خاصة، وقال ابن العلاء: الثمر المال.
وخلاصة ذلك: أنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
368
ثاغيها، وراغيها، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه، وخدمه، ولا يستعصي عليه شيء من مسرات الدنيا ومباهجها، ولذاتها ونعيمها.
وقرأ الأعمش (١)، وأبو رجاء، وأبو عمرو بإسكان الميم فيهما تخفيفًا، أو جمع ثمرة، كبدنة وبدن، وقرأ أبو جعفر، والحسن، وجابر بن زيد، والحجاج، وعاصم، وأبو حاتم، ويعقوب عن رويس عنه، بفتح الثاء والميم فيهما، وقرأ رويس عن يعقوب: ثمر بضمهما، ﴿وثمره﴾ بفتحهما، وأما الثُّمُرُ بضمتين فقد مر تفسيره آنفًا عن ابن عباس وغيره، وأما من قرأ بالفتح فلا اتكال عليه، لأنّه يعني به حمل الشجر، وقرأ أبو رجاء في رواية ﴿ثمر﴾ بفتح الثاء وسكون الميم، وفي مصحف أبيّ ﴿وآتيناه ثمرا كثيرا﴾ وينبغي أن يجعل تفسيرًا.
وبعد أن تم له الأمر، وقعد على سنام العز والكبرياء، داخله الزهو والخيلاء ﴿فَقالَ﴾؛ أي: صاحب الجنّتين ﴿لِصاحِبِهِ﴾ وأخيه المؤمن الذي جعل مثلا للفقراء المؤمنين ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنّ صاحب الجنتين ﴿يُحاوِرُهُ﴾؛ أي: يراجع صاحبه، ويكلّمه بالكلام الذي فيه الافتخار بالمال، والخدم، وإنكار البعث والإشراك بالله، من حار إذا رجع ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا﴾ وعن (٢) محمد بن الحسن رحمه الله: المال كل ما يتملكه الإنسان من دراهم، أو دنانير، أو ذهب، أو فضة، أو حنطة، أو خبز، أو حيوان، أو ثياب، أو سلاح، أو غير ذلك، ﴿وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾؛ أي: أكثر حشمًا، وأعوانًا، وأولادًا ذكورًا لأنهم الذين ينفرون معه دون الإناث، والنفر بفتحتين من الثلاثة إلى العشرة من الرجال، ولا يقال فيما فوق العشرة، وقال صاحب «روح البيان»: لاح لي ههنا إشكال، وهو أنه إن حمل أفعل على حقيقته في التفضيل، يلزم أن يكون الرجلان المذكوران مقدرين لا محقّقين أخوين، لأنه على تقدير التحقيق يقتضي أن لا يكون لأحدهما مال أصلا كما يفصح عنه البيان السابق، وقد أثبت هاهنا الأكثرية للكافر، والأقلية للمؤمن، وجوابه يستنبط من السؤال، والله أعلم بحقيقة الحال انتهى.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
369
والمعنى: أي (١) فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره، وراجعه الحديث: أنا أكثر منك مالًا كما ترى، من جنّاتي، وزروعي المختلفة، وأعزّ عشيرةً، ورهطًا تقوم بالذب عني، ودفع خصومي، وتنفر معي عند الحاجة إلى ذلك.
٣٥ - ثم زاد فخرًا على صاحبه المسلم، وأراه عيانًا ما يتمتع به من المناظر البهيجة في تلك الجنان التي لا تفنى في زعمه، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله: ﴿وَدَخَلَ﴾ صاحب الجنتين ﴿جَنَّتَهُ﴾؛ أي: بستانه مع صاحبه المؤمن يطوف به فيها، ويريه حسنها، ويعجبه منها، ويفاخره بها.
وأفرد الجنة (٢) لأن المراد ما هو جنته، وهي ما متّع به من الدنيا تنبيهًا على أنه لا جنّة له غيرها، ولا حظ له في الجنة التي وعد بها المتقون، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: والحال أنّ صاحب الجنتين ﴿ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾؛ أي: ضار لها بعجبه، واعتماده على ماله، وبكفره بالمبدأ والمعاد، وهو أقبح الظلم، كأنه قيل: فماذا قال إذ ذاك؟ ﴿قالَ﴾ صاحب الجنتين استئناف بيانيّ لسبب الظلم، ﴿ما أَظُنُّ﴾ كثيرًا ما يستعار الظن للعلم، لأنّ الظن الغالب يداني العلم، ويقوم مقامه في العادات والأحكام ومنه: المظنة للعلم ﴿أَنْ تَبِيدَ﴾ وتفنى، وتهلك، وتنعدم، من باد إذا ذهب وانقطع ﴿هذِهِ﴾ الجنة يعني جنتيه ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: دهرا فلطول أمله، وتمادي غفلته، واغتراره بمهلته، قال ذلك بمقابلة موعظة صاحبه، وتذكيره، بفناء جنته، والاغترار بها وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات.
والأبد: الدهر (٣) كالأمد وانتصابه على الظرف، والمراد هنا: المكث الطويل، وهو مدّة حياته، لا الدوام المؤبّد إذ لا يظنّه عاقل لدلالة الحسّ والحدس على أنّ أحوال الدنيا ذاهبة باطلة.
٣٦ - ﴿وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ﴾؛ أي: القيامة التي هي عبارة عن وقت البعث
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
370
﴿قائِمَةً﴾؛ أي: كائنة حاصلة فيما سيأتي، ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ﴾؛ أي: والله لئن رجعت ﴿إِلى رَبِّي﴾ بالبعث على الفرض، والتقدير: كما زعمت أن الساعة آتية فليس فيه دلالة على أنه كان عارفا بربه، مع أن العرفان لا ينافي الإشراك، وكان كافرًا مشركًا.
قال في «البرهان» (١): قال تعالى هنا: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي﴾ وفي «حم» ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي﴾ لأن الرد يتضمّن كراهة المردود، ولما كان في الكهف، تقديره: ولئن رددت عن جنتي هذه التي ما أظن أن تبيد أبدًا إلى ربي كان لفظ الرد الذي يتضمن الكراهة أولى هنا، وليس في «حم» ما يدل على كراهته، فذكر بلفظ الرّجع ليقع في كل سورة ما يليق بها. انتهى.
﴿لَأَجِدَنَّ﴾ يومئذ ﴿خَيْرًا مِنْها﴾؛ أي: من هذه الجنة ﴿مُنْقَلَبًا﴾ تمييز محول عن المبتدأ؛ أي: مرجعًا، وعاقبةً، ومدار هذا الطّمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنّما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي، وكرامته عليه سبحانه، وهو معه أينما توجه، ولم يدر أن ذلك استدراج.
وحاصل معنى الآيتين: أي ودخل (٢) هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب، وأشجار، ونخيل، ومعه صاحبه هاتين الجنتين، وطاف به فيهما مفاخرا، وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: - ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدًا، ولا تخرب كما قال: وهو شاك في المعاد إلى الله والبعث والنشور، ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان في كل ذلك ظالمًا لنفسه، إذ وضع الشيء في غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرًا لتلك النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرًا به منكرًا لما جاء به الوحي وأقرته جميع الشرائع.
وخلاصة ذلك: أنه لحقه الخسار من وجهين:
١ - ظنه أن تلك الجنة لا تهلك، ولا تبيد مدى الحياة.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
371
٢ - ظنه أن يوم القيامة، لن يكون ثمّ تمني أمنية أخرى كان في شك منها، فقال: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ﴾ إلخ؛ أي: والله لئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، والذي جرّأه على هذا الطّمع، وعلى تلك اليمين الفاجرة، اعتقاده أنّ الله إنما حباه بما حباه به في الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال.
وخلاصة ذلك: أنه لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة، ما هو أفضل منها، قال ذلك طمعًا، وتمنيًا على الله، وادعاءً للكرامة عنده تعالى كما مرّ.
وقرأ ابن الزبير، وزيد بن علي، وأبو بحرية، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وحميد، وابن مناذر، ونافع، وابن كثير، وابن عامر، ﴿لأجدنّ خيرا منهما﴾ بالتثنية وعود الضمير على الجنتين، وكذا في مصاحف مكة، والمدينة، والشام، وقرأ الكوفيون، وأبو عمرو ﴿مّنها﴾ على الإفراد، وعود الضمير على الجنة المدخولة، وكذا في مصاحف الكوفة، والبصرة،
٣٧ - ثمّ ذكر سبحانه جواب المؤمن له، فقال: ﴿قالَ لَهُ﴾؛ أي: لصاحب الجنتين ﴿صاحِبُهُ﴾؛ أي: أخوه المؤمن، وهو استئناف بياني كما سبق ﴿وَهُوَ﴾ أي: والحال أنّ صاحبه المؤمن ﴿يُحاوِرُهُ﴾؛ أي: يجاوب الكافر، ويخاطبه بالتوبيخ على شكه في حصول البعث.
قال في «الإرشاد»: وفائدة هذه الجملة الحالية: التنبيه من أوّل الأمر على أن ما يتلوه كلامٌ معتنى بشأنه مسوق للمحاورة، وقرأ أبيٌّ: ﴿وهو يخاصمه﴾ وهي قراءة تفسير لا قراءة رواية لمخالفته سواد المصحف ذكره في «البحر».
﴿أَكَفَرْتَ﴾ حيث قلت: ما أظن الساعة قائمةً، فإنه شك في صفات الله وقدرته، وقرأ ثابت البناني، ويلك أكفرت، وهو تفسير معنى التوبيخ والإنكار، لا قراءة ثابتة عن الرسول - ﷺ -، ﴿بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾؛ أي (١): في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام. ﴿مِنْ تُرابٍ﴾ فإنّه متضمن بخلقه منه، إذ هو أنموذج مشتمل إجمالًا
(١) روح البيان.
على جميع أفراد الجنس، وهمزة الاستفهام فيه للتقرير والإمكان بمعنى ما كان ينبغي أن تكفر، ولم كفرت بمن أوجدك من تراب أولًا ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾؛ أي: من منيّ في رحم أمك، ثانيًا، وهي مادتك القريبة ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ﴾؛ أي: جعلك معتدل الخلق والقامة حال كونك ﴿رَجُلًا﴾؛ أي: إنسانًا ذكرًا بالغا مبلغ الرجال، قال في «القاموس» الرّجل: بضم الجيم وسكونها: معروف، وإنما هو إذا احتلم وشب.
والمعنى: أي (١) قال له صاحبه المؤمن واعظًا، وزاجرًا عمّا هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب، إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثمّ يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرًا سويًّا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة، فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادرٌ على أن يخلقك مرة أخرى.
والخلاصة: كيف تجحدون ربّكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جليّة، يعلمها كلّ أحد من نفسه، فما من أحد إلّا يعلم أنه كان معدومًا، ثمّ وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنها مثله،
٣٨ - وقد أشار إلى ذلك بقوله: ﴿لكِنَّا﴾؛ أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية، وأقول: ﴿هُوَ﴾، أي: الشأن ﴿اللَّهُ رَبِّي﴾؛ أي: مالكي وخالقي.
أصل ﴿لكِنَّا﴾ لكن (٢) أنا فحذفت الهمزة بنقل حركتها إلى نون لكن أو بدون نقل على خلاف القياس، فتلاقت النّونان، فكان الإدغام، وأثبت جميع القراء ألفها في الوقف، وحذفوها في الوصل غير ابن عامر، فإنه أثبتها في الوصل أيضًا لتعويضها عن الهمزة أو لإجراء الوصل مجرى الوقف، و ﴿هُوَ﴾: ضمير الشأن مبتدأ خبره ﴿اللَّهُ رَبِّي﴾، وتلك الجملة خبر (أنا) والعائد منها إليه ياء الضمير في
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
﴿رَبِّي﴾ والاستدراك من قوله: ﴿أَكَفَرْتَ﴾ كأنّه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد، فوقع لكن بين جملتين مختلفتين في النفي والإثبات.
وقرأ الكوفيون (١)، وأبو عمرو وابن كثير، ونافع في رواية ورش، وقالون ﴿لكن﴾ بتشديد النون بغير ألف في الوصل، وبألف في الوقف، وأصله، ولكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى نون لكن، وحذفت الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر، وقرأ ابن عامر، ونافع في رواية المستملى، وزيد بن عليّ، والحسن، والزهري، وأبو بحريّة، ويعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية، وكردم، وورش في رواية، وأبو جعفر بإثبات الألف وقفا، ووصلا، أما في الوقف، فظاهر، وأما في الوصل فبنو تميم يثبتونها فيه في الكلام، وغيرهم في الاضطرار، فجاء على لغة بني تميم، وعن أبي جعفر حذف الألف وصلا ووقفا، وذلك من رواية الهاشمي، ودل إثباتها في الوصل أيضًا على أن أصل ذلك: لكن أنا، ويدلّ على ذلك أيضًا قراءة فرقة ﴿لكننا﴾ بحذف الهمزة، وتخفيف النونين، وقرأ أبيّ والحسن ﴿لكن أنا هو الله ربي﴾ على الانفصال، وفكه من الإدغام، وتحقيق الهمز، وحكاها ابن عطية عن ابن مسعود، وحكاها الأهوازي عن الحسن.
وقد قرىء (٢) ﴿لكن هو الله ربي﴾ و ﴿لكن أنا لا إله إلا هو ربي﴾ ﴿وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ فهو المعبود وحده لا شريك له، وفيه إيذان بأنّ كفره كان بطريق الإشراك؛ لأن صاحبه لما عجّز الله عن البعث، فقد جعله مساويا لخلقه في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة، فقد أثبت الشريك،
٣٩ - ثم زاد في عظة صاحبه، فقال له: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ﴾؛ أي: وهلّا حين دخلت بستانك، فلولا تحضيضية بمعنى هلا ﴿قُلْتَ﴾ عند إعجابك بها ﴿ما شاءَ اللَّهُ﴾ ما موصولة خبر مبتدأ، محذوف أي الأمر هو الذي شاء الله ﴿لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: لا قوّة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله تعالى وإقداره.
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
والمراد بهذا الكلام (١): تحضيضه على الإعتراف بأن جنّته، وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها على حالها عامرة وإن شاء أفناها وجعلها خربةً؛ أي: هلا قلت ذلك اعترافًا بعجزك، وبأن ما تيسر لك من عمارتها، وتدبيرها، إنما هو بمعونته تعالى، وإقداره وفي الحديث «من رأى شيئًا فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوّة إلا بالله، لم تضرّه العين». وفي الحديث أيضًا «من رأى أحدًا أعطي خيرًا من أهل أو مالٍ فقال عنده: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.. لم ير فيه مكروهًا».
والمعنى: أي وهلا (٢) إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها، ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال، والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله، وفضله، وهلا قلت لا قوّة إلا بالله إقرارًا بأنّ ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده.
وبعد أن نصح الكافر بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله، وكبير سلطانه، أجابه عن افتخاره بالمال، والنفس وردّ على قوله: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ فقال: ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا﴾ وخدمًا في الدنيا أصله: إن ترني، والرؤية إما بصرية فـ ﴿أَقَلَّ﴾ حال، وإما علمية فهو مفعول ثان، والأول ياء المتكلم المحذوفة، وأنا على كلا التقديرين. تأكيد للياء.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَقَلَّ﴾ بالنصب مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تَرَنِ﴾ إن كانت، علميةً أو حالًا إن كانت بصريةً، وقرأ عيسى بن عمر، ﴿أقل﴾ بالرفع على أن تكون ﴿أَنَا﴾ مبتدأ، و ﴿أقل﴾ خبره، والجملة في موضع مفعول ﴿تَرَنِ﴾ الثاني: إن كانت علمية، وفي موضع الحال إن كانت بصرية، ويدل قوله: ﴿وَوَلَدًا﴾ على أن قول صاحبه ﴿وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ عنى به الأولاد إذ قابل كثرة المال بالقلة، وعزة النفر بقلة الولد
٤٠ - ﴿فَعَسى رَبِّي﴾؛ أي: فلعل ربي ﴿أَنْ يُؤْتِيَنِ﴾، أي: أن يعطيني أصله
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
يؤتيني ﴿خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ هذه في الآخرة بسبب إيماني، لأن الجنة الدنيوية فانية، والأخروية باقية، والجملة جواب الشرط ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْها﴾؛ أي: على جنتك في الدنيا ﴿حُسْبانًا﴾؛ أي: عذابًا يرميها به ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ من برد أو صاعقة أو نار قال في «القاموس» الحسبان: بالضم جمع حساب، والعذاب، والبلاء، والشّرّ، والصّاعقة، وإنما توقع (١) في حقه العذاب لعلمه بأنّ الكفران مؤد إلى الخسران، وأن الإعجاب سبب للخراب كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ فكلامه هذا جواب عن قول صاحبه المنكر للبعث: ﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا﴾. ﴿فَتُصْبِحَ﴾ الإصباح هنا بمعنى الصيرورة؛ أي: فتصير جنتك ﴿صَعِيدًا زَلَقًا﴾؛ أي: أرضًا ملساء لا نبات فيها، بحيث تزلق الرجل فيها لكفرك، ف زَلَقًا مصدر أريد به المفعول مبالغة؛ أي: فتصبح جنتك بعد إرسال الله عليها حسبانًا أرضًا ملساء تزلق فيها الأقدام لملاستها، باستئصال نباتها وأشجارها، وجوز القرطبي أن يكون ﴿زَلَقًا﴾ من زلق رأسه، إذا حلقه، والمراد: أنه لا يبقى فيها نبات كالرأس المحلوق، فـ ﴿زَلَقًا﴾ بمعنى مزلوق أيضًا
٤١ - ﴿أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها﴾؛ أي: ماء جنّتك معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿غَوْرًا﴾؛ أي: غائرًا داخلًا في الأرض ذاهبا فيها، لا تناله الأيدي، ولا الدلاء، فأطلق هذا المصدر مبالغة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿غَوْرًا﴾ بفتح الغين، وقرأ البرجمي ﴿غورا﴾ بضم الغين، وقرأت فرقة بضم الغين، وهمز الواو، ويعنون بواو بعد الهمزة فيكون ﴿غؤورا﴾ كما جاء في مصدر غارت عينه ﴿غؤورا﴾ ﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ﴾؛ أي: فلن تقدر ﴿لَهُ﴾؛ أي: للماء الغائر، ﴿طَلَبًا﴾ فضلًا عن وجدانه ورده، قال في «الجلالين»: لا يبقى له أثر تطلبه به؛ أي: لن تستطيع طلب الماء الغائر، فضلًا عن وجوده وردّه، ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل، وقيل (٣): المعنى فلن تستطيع طلب غيره عوضًا عنه.
والمعنى: أي (٤) إن ترني أيها الرّجل أفقر منك فإني أرجو الله أن يقلب
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
الآية، ويجعل ما بي بك، ويرزقني الغنى، ويرزقني لإيماني جنّة خيرًا من جنتك، ويسلبك بكفرك نعمته، ويخرّب جنّتك بأن يرسل عليها مطرا من السماء، يقلع زروعها، وأشجارها، أو يجعل ماءها يغور في الأرض، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه.
وخلاصة ذلك: أن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر، إما بآفة سماويّةٍ، أو بآفة أرضيةٍ، وهي غور مائها، وكلتاهما تتلف الشجر والزرع والكرم،
٤٢ - ثمّ أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ قد قدمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره؛ أي: أهلك ثمر بستانه بالكلية، وجميع أمواله مأخوذ (١) من أحاط به العدو لأنّه إذا أحاط به فقد غلبه، واستولى عليه، فيهلكه، فهو معطوف على مقدر، كأنه قيل: فوقع بعض ما توقّعه من المحذور، وأهلك أمواله المعهودة التي هي جنتاه وما حوتاه وأحيط بثمره. ﴿فَأَصْبَحَ﴾؛ أي: صار صاحب الجنّتين ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ ظهرًا لبطن، ويضرب إحداهما على الأخرى تأسفًا وتحسرًا كما هو عادة النادمين فإن النادم يضرب يديه واحدةً على الأخرى، قال السمرقندي (٢) تقليب الكفين، وعض الكف، والأنامل، واليدين، وأكل البنان، وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الندم والحسرة؛ لأنها من روادفها فتطلق الرّادفة على المردوف، فيرتقي الكلام به إلى الذروة العليا، ويزيد الحسن بقبول السامع. انتهى ولكونه في معنى النّدم عداه تعديته بعلى، كأنّه قيل: فأصبح يندم ﴿عَلى ما أَنْفَقَ﴾ وصرف ﴿فِيها﴾؛ أي: في عمارتها وإصلاحها من الأموال، ولعل (٣) تخصيص الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنّه إنّما يكون على الأفعال الاختيارية، يقول الفقير الظاهر: أن الإنفاق إنما هو لتملكها، فالتّحسر على ماله مغن عن التحسر على الجنة؛ لأنّها بدله، وهذا شائع في العرف كما يقول بعض النّادمين: قد صرفت لهذا كذا، وكذا مالًا، وقد آل أمره إلى الهلاك متحسرًا على المال المصروف، وجملة
(١) روح البيان.
(٢) بحر العلوم.
(٣) روح البيان.
قوله: ﴿وَهِيَ﴾، أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل ﴿خاوِيَةٌ﴾؛ أي: خالية ساقطة، في محل نصب على الحال، يقال: خوت الدار خويّا، إذا تهدمت، وخلت من أهلها؛ أي: ساقطة ﴿عَلى عُرُوشِها﴾؛ أي: على دعائمها المصنوعة للكروم سقطت عروشها على الأرض، وسقط فوقها الكروم، وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع لكونها العمدة، قيل: أرسل الله تعالى عليها نارا فأحرقتها، وغار ماؤها، وجملة قوله: ﴿وَيَقُولُ﴾ معطوفة على يقلّب، أي: ويقول صاحب الجنة ﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾؛ أي: يقول ذلك الكافر: تأسفًا على تلف ماله يا قوم أتمنى عدم إشراكي بالله أحدًا من المخلوقات، كأنّه تذكر موعظة أخيه، وعلم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه، فتمنى أن لا يكون مشركًا، فلم يصبه ما أصابه حين لا ينفعه التّمني، ولمّا (١) كانت رغبته في الإيمان لطلب الدنيا لم يكن قوله هذا توبة وتوحيدًا؛ لخلوه عن الإخلاص.
والمعنى (٢): أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها: ﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا﴾، فأصبح يقلب كفّيه ندمًا، وأسفًا على ضياع نفقته الّتي أنفقها في عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدًا.
والخلاصة: أنه لما أنفق عمره في تحصيل الدنيا، وأعرض عن الدين، ثمّ ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا، ومن ثمّ عظمت حسرته، وقال: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾
٤٣ - ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ﴾، أي: لذلك الكافر ﴿فِئَةٌ﴾؛ أي: جماعة ﴿يَنْصُرُونَهُ﴾؛ أي: يقدرون على نصره بدفع الهلاك، أو على رد المهلك والإتيان بمثله ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى فإنه وحده القادر على نصره بذلك لا غير، لكنه لا ينصره لاستحقاقه الخذلان بكفره ومعاصيه، ﴿وَما كانَ مُنْتَصِرًا﴾؛ أي: ممتنعًا بقوته عن انتقامه سبحانه.
والمعنى: أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
ويقدرون على دفع الجوائح عنه، أو ردّ المهلك له من دون الله تعالى، فإنّ الله هو الذي يقدر وحده على نصره، وما كان منتصرًا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته.
وخلاصته: أنه لا يقدر على نصره إلا الله، ولا ينصره غيره، من عشيرةٍ وولدٍ، وخدمٍ وحشمٍ، وأعوانٍ كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه.
وقرأ الأخوان (١) - حمزة والكسائي - ومجاهد، وابن وثاب، والأعمش، وطلحة، وأيوب، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير: ﴿ولم يكن﴾ بالياء، لأنّ تأنيث الفئة مجاز، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ﴿وَلَمْ تَكُنْ﴾ بالتاء، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿فئة تنصره﴾ على اللفظ.
٤٤ - ﴿هُنالِكَ﴾ أي: في مثل ذلك الوقت، وفي تلك الحال، وفي مثل ذلك المقام ﴿الْوَلايَةُ﴾؛ أي: النصرة ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى وحده، ولا يقدر عليها أحد ﴿الْحَقِّ﴾، أي: الثّابت الوجود، أزلًا، وأبدًا، وهو تقرير لقوله: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
والمعنى: أي في مثل تلك الشدائد والمحن، النصرة لله وحده، لا يقدر عليها غيره، أو المعنى (٢) ينصر في مثل تلك الأحوال أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم، كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن، وحقق ظنه وترك عدوه مخذولًا مقهورًا، ويؤيّد هذا المعنى قوله: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرٌ ثَوابًا﴾؛ أي (٣): إثابة في الآخرة لمن آمن به، والتجأ إليه ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾؛ أي: عاقبة في الدنيا لمن رجاه، وعمل لوجهه، وقيل: المعنى: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا﴾؛ أي (٤): أفضل جزاءً لأهل طاعته، لو كان غيره يثيب ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾؛ أي: عاقبة طاعته، خير من عاقبة طاعة غيره، فهو خير إثابةً وعاقبةً.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) الخازن.
379
وقرأ ابن كثير (١)، ونافع، وابن عامر، وعاصم ﴿الولاية﴾ بفتح الواو بمعنى الموالاة والصلة، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، وابن وثاب، وشيبة، وابن غزوان، عن طلحة، وخلف وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، ﴿الولاية﴾ بكسر الواو، وهي بمعنى الرئاسة والرعاية، وقرأ النحويان: أبو عمرو، والكسائي، وحميد، والأعمش، وابن أبي ليلى، وابن مناذر، واليزيدي، وابن عيسى الأصبهانيّ ﴿الحَقُّ﴾ برفع القاف، صفة للولاية، وقرأ باقي السبعة بخفضها وصفًا لله تعالى، وقرأ أُبيٍّ ﴿هنالك الولاية الحق لله﴾ برفع الحقّ صفة لـ ﴿الْوَلايَةُ﴾ وتقديمها على قوله ﴿لِلَّهِ﴾، وقرأ أبو حيوة، وزيد بن علي، وعمرو بن عبيد، وابن أبي عبلة، وأبو السمال، ويعقوب عن عصمة، عن أبي عمرو لله الحق بنصب الحق قال الزمخشري على التأكيد «والمدح».
قال أبو علي (٢): من كسر قاف ﴿الْحَقِّ﴾ جعله من وصف الله عز وجل، ومن رفعه جعله صفة لـ ﴿الْوَلايَةُ﴾ فإن قيل: لم نعت الولاية، وهي مؤنثة بالحق، وهو مصدر؟ فعنه جوابان: ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أنّ تأنيثها ليس حقيقيًا، فحملت على معنى النصر، والتقدير: هنالك النصر لله الحق، كما حملت الصيحة على معنى الصّياح في قوله: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾.
والثاني: أن الحقّ مصدرٌ يستوي في لفظه المذكر والمؤنث، والاثنان والجمع، فيقال: قولك حق، وكلمتك حق، وأقوالكم حقٌّ، ويجوز ارتفاع الحق على المدح للولاية، وعلى المدح لله تعالى بإضمار هو.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي ﴿عقبا﴾ بضم القاف، والتنوين، وقرأ عاصم، وحمزة، والحسن، والأعمش، ﴿عقبا﴾ بسكون القاف، والتنوين، وعن عاصم ﴿عقبى﴾ بألف التأنيث المقصورة على وزن رجعى. قال أبو علي: ما كان على ﴿فُعُل﴾ جاز تخفيفه بسكون عينه، كالعنق
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
380
والطّنب. قال أبو عبيدة: العقب، والعقب، والعقبى والعاقبة بمعنًى، وهي الآخرة، والمعنى: عاقبة طاعة الله خير من عاقبة طاعة غيره.
٤٥ - وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم وكانت سبب شقائهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا، ضرب مثلًا لدار الدنيا عامّة في سرعة فنائها، وعدم دوام نعميها. فقال: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك وبيّن لهم ﴿مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾؛ أي: صفتها العجيبة في فنائها، وبيّن لهم ما يشبهها في زهرتها، ونضارتها، وسرعة زوالها؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يعكفوا عليها، ولا يعرضوا عن الآخرة بالكليّة، وقوله: ﴿كَماءٍ﴾ استئناف (١) لبيان المثل؛ أي: هي كماء ﴿أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ﴾ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء وحده، بل بمجموع ما في حيز الأداة؛ أي: صفتها، وحالها وهيئتها كصفة، وحال وهيئة ماء أنزلناه من السحاب ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء؛ أي: التف وتكاتف، وتراكم بسبب ذلك الماء ﴿نَباتُ الْأَرْضِ﴾ أشجارها، وزروعها، وحشيشها، حتى خالط بعضه بعضًا، وصار في المنظر في غاية الحسن والنضارة ﴿فَأَصْبَحَ﴾ ذلك النبات؛ أي: فصار ذلك النبات الملتف إثر بهجته، ونضارته ﴿هَشِيمًا﴾؛ أي: مهشومًا مكسورًا ليبسه، من الهشم، وهو: كسر الشيء الرخو ﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾؛ أي: تحمله، وتفرقه، وتطيّره وتذهبه وتعدمه، يقال: ذرت الريح الشيء، وأذرته، وذرته أطارته وأذهبته، وذرا هو بنفسه، ويقال: ذرى الحنطة: إذا نقّاها في الريح كما في «القاموس»، وهذه الآية مختصرة من قوله: ﴿إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ﴾ الآية.
شبه الدنيا في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال بحال نبات اخضرّ والتف، وأزهر، ثمّ صار هشيمًا متفتتًا تنثره الرياح ذات اليمين وذات الشمال، ومن ثمّ ينبغي أن لا يغترن أهلها بها، ولا يفخرن ذوو الأموال الكثيرة بأموالهم، ولا يستكبرن بها على غيرهم، فإنّما هي ظلٌّ زائلٌ، وضيفٌ راحل، وفي الحديث
(١) روح البيان.
«الدنيا كسوق قام ثمّ انفض».
وقرأ ابن مسعود، وأبي وابن عباس، وابن أبي عبلة (١): ﴿تذريه﴾ بضم التاء وكسر الراء، بعدها ياء ساكنة، وهاء مكسورة من أذرى الرباعيّ إلا أنّ ابن مسعود فتح التاء، وقرأ (٢) زيد بن علي، والحسن، والنخعي، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وابن محيصن، وخلف، وابن عيسى، وابن جرير ﴿الريح﴾ على الإفراد، وقرأ الجمهور ﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ بالجمع ﴿وَكانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ذو الكمال والجلال ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه من الإنشاء والإبقاء، والإفناء ﴿مُقْتَدِرًا﴾؛ أي: قادرًا لا يعجزه شيء، والمقتدر مفتعل من قدرت؛ أي: وكان (٣) الله ذو الجلال والجمال قادرًا على كل شيءٍ إنشاءً وفناءً وإعادة فهو يوجد الأشياء، ثم ينميها ثم يفنيها، وما حال الدنيا إلا هذه الحال، فهي تظهر أوّلًا ناضرةً ظاهرةً، ثمّ تتزايد قليلًا قليلًا، ثمّ تأخذ في الانحطاط إلى أن تصير إلى الهلاك، والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يبتهج بما يحوزه منها، أو يفخر به، أو يصعّر خدّه استكبارًا،
٤٦ - ثم بين سبحانه ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، إثر بيان حالها بما مرّ من المثل، فقال: ﴿الْمالُ وَالْبَنُونَ﴾ اللذان يفتخر بهما الناس، لا سيّما رؤساء العرب وأغنياؤهم، ﴿زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾؛ أي: شيءٌ يتزينون به في الحياة الدنيا، ويفنى عنهم عن قريب، وليسا من زاد الآخرة، فيقبح بالعاقل أن يفتخر بهما، والزّينة (٤) مصدر في الأصل، أطلق على المفعول مبالغة، كأنهما نفس الزينة، وقدم (٥) المال على البنين مع كونهم أعزّ منه لدى جميع الناس من قبل أنّ الزينة به أتمّ، ولأنه يمدّ الآباء والأبناء في كل حين، ولأنه مناط ببقاء النفس والأولاد، وبذا يبقى النوع الإنساني، ولأنّ الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم، ولأنه زينة بدونهم، دون العكس، فإنّ من له بنون ولا مال له، فهو في بؤس وشقاء.
(١) زاد المسير.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
(٥) المراغي.
382
روي عن علي - رضي الله عنه -: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. وهذا (١) رد على الأغنياء والرؤساء الذين يفتخرون بالمال والغنى والأبناء، فأخبرهم سبحانه أنّ ذلك مما يتزين به في الدنيا، لا مما ينفع في الآخرة، كما قال في الآية الأخرى: ﴿أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ وقال أيضًا: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾، ولهذا عقّب هذه الزينة الدنيوية بقوله: ﴿وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ﴾؛ أي: والأعمال الصالحة التي تبقى ثمراتها أبد الآباد من الصلاة، والصوم، والزكاة، وأعمال الحج، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة البائسين وذوي الحاجات، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ونحو ذلك من الكلم الطيب، ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ في الآخرة من الفانيات الفاسدات، من المال والبنين؛ أي: أفضل لصاحبها من هذه الزينة بالمال والبنين في الآخرة. ﴿ثَوابًا﴾ وجزاء، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها ﴿وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾؛ أي: رجاء (٢) حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كلّ ما كان يؤمله في الدنيا، وأما ما مر من المال والبنين: فليس لصاحبه أمل يناله. يعني أن (٣) هذه الأعمال الصّالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل ممّا كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى: ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ والظاهر أنّ الباقيات الصالحات كلّ عمل خير، فلا وجه لقصرها على الصلاة، كما قاله بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعضٌ آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث الآتية ببعض الأعمال الصالحة بخصوصها لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم، وصححه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - ﷺ - قال:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
383
«استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟: قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وأخرج الطبراني وابن مردويه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - ﷺ -: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهنّ يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة».
وأخرج النسائي والطبراني والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا «خذوا جنّتكم قيل: يا رسول الله من أي عدوّ قد حضر؟ قال: بل جنتكم من النار، قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، معقبات، ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات».
٤٧ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد، أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ﴾، وقرأ (١) نافع، وحمزة، والكسائي، والأعرج، وشيبة، وعاصم، وابن مصرف، وأبو عبد الرحمن، ﴿نُسَيِّرُ﴾ بنون العظمة ﴿الْجِبالَ﴾ بالنصب، وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو، والحسن، وشبل، وقتادة، وعيسى، والزهري وحميد، وطلحة، واليزيدي، والزبيري، عن رجاله، عن يعقوب ﴿تسير﴾ بضم التاء وفتح الياء المشددة مبنيًا للمفعول، ﴿الجبال﴾ بالرفع، وعن الحسن كذلك إلّا أنه بضم الياء المثناة من تحتها، وقرأ ابن محصين، ومحبوب عن أبي عمرو ﴿ويوم تسير الجبال﴾ من سار الثلاثي، وقرأ أبي ﴿ويوم سيرت الجبال﴾ بصيغة الماضي المبني للمجهول.
أي: واذكر يا محمد لأمتك قصة يوم نسير الجبال، ونقلعها، ونزيلها من أماكنها، وتسير في الجو على هيآتها كما تسير السحاب، أو تسير أجزاؤها بعد أن نجعلها هباء منبثًا، والمراد بتذكيره: تحذير المشركين، مما فيه من الدواهي ﴿وَتَرَى﴾ يا محمد أو يا كلّ من يصلح للرؤية ﴿الْأَرْضَ﴾؛ أي جميع جوانبها حالة كونها ﴿بارِزَةً﴾؛ أي: ظاهرة منكشفة ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا
(١) البحر المحيط.
نبات ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾؛ أي: والحال أنا قد جمعنا الخلائق من الأولين والآخرين من كل جانب إلى الموقف. ﴿فَلَمْ نُغادِرْ﴾؛ أي: لم نترك ﴿مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ تحت الأرض إلا وقد جمعناهم لذلك اليوم، يقال: غادره: وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، ومنه: الغدير، وهو ماء غادره السيل، وتركه في الأرض الغائرة، أي: المنخفضة.
وقال الزمخشري: فإن قلت (١): لم جيء بـ ﴿حَشَرْناهُمْ﴾ ماضيا بعد ﴿نُسَيِّرُ﴾ و ﴿تَرَى﴾؟
قلت: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك انتهى. والأولى أن تكون ﴿الواو﴾ واو الحال، لا واو العطف، والمعنى: وقد حشرناهم؛ أي: يوقع التسيير في حالة حشرهم، وقيل: ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾، ﴿وَعُرِضُوا﴾، ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾ مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقيق وقوعه.
وقرأ عمرو بن العاص وابن السميفع وأبو العالية (٢): ﴿وترى الأرض بارزة﴾ بضم التاء، والضاد، وقرأ أبو رجاء العطاردي، كذلك إلا أنه فتح ضاد الأرض.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿نُغادِرْ﴾ بنون العظمة وقتادة ﴿تغادر﴾ على الإسناد إلى القدرة أو الأرض، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك، أو بفتح الدال وبالياء مبنيًا للمفعول و ﴿أحد﴾ بالرفع، وعصمة كذلك، والضحاك ﴿نغدر﴾ بضم النون، وإسكان الغين، وكسر الدال.
٤٨ - ﴿وَعُرِضُوا﴾؛ أي: الخلائق يوم القيامة يعني المحشورين ﴿عَلى رَبِّكَ﴾ كعرض الجند على السلطان ليقضى بينهم حالة كونهم ﴿صَفًّا﴾؛ أي: مصفوفين كل أمة وزمرة صف.
والمعنى (٤): صفوفًا يقف بعضهم وراء بعض، غير متفرقين، ولا مختلطين،
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
385
شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، ليحكم فيهم بما أراد، لا ليعرفهم، مقولًا لهم وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونا﴾ أيها العباد حالة كونكم كائنين ﴿كَما خَلَقْناكُمْ﴾ خلقا ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ حفاة عراة غرلًا، بلا أموال، وأعوان، وبنين كما ورد في الحديث، وعن عائشة - رضي الله عنها - قلت: يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال: «عراة حفاة» قلت: والنّساء؟ قال: «نعم» قلت: يا رسول الله نستحي؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشد من ذلك، لن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» وقوله: ﴿بَلْ زَعَمْتُمْ﴾ إضراب وانتقال من كلام إلى كلام آخر للتقريع، والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث؛ أي: بل زعمتم، وقلتم أيها المشركون المنكرون للبعث، والزعم الادعاء بالكذب، ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة؛ أي: بل زعمتم في الدنيا أنه ﴿أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ﴾ في الآخرة أبدًا ﴿مَوْعِدًا﴾؛ أي: وقتًا ننجز فيه ما وعدناه لكم على ألسنة الأنبياء من البعث والمحاسبة، والمجازاة خيرًا أو شرًّا.
والحاصل: أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أحوال يوم القيامة أمورًا:
١ - ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ﴾؛ أي: واذكر أيها الرسول قصّة يوم نقلع الجبال من أماكنها، ونسيرها في الجو كالسحاب، ونجعلها هباء منثورا كما قال: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (١٠٧)﴾؛ أي: تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض سطحًا مستويًا لا عوج فيه، ولا وادي، ولا جبل، وقال: ﴿وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ وقال: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)﴾.
٢ - ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً﴾؛ أي: وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة إذ لم يبق على وجهها شيء من العمائر ولا شيء من الجبال، ولا شيء من الأشجار، فليس عليها ما يسترها، فيكون جميع الخلائق ضاحين لربهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم، وهذا هو المراد من قوله: ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا (١٠٧)﴾.
386
٣ - ﴿وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾؛ أي: وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم، فلم نترك منهم أحدًا لا صغيرًا، ولا كبيرًا، كما قال: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)﴾ وقال: ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾.
ولما ذكر سبحانه حشر الخلق.. بيّن كيفية عرضهم على ربهم فقال:
٤ - ﴿وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ أي: يعرض الخلق كلهم على الله صفًّا واحدًا، كما قال: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾ ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا أيها الناس، أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أوّل مرة فرادى، حفاةً، عراةً، لا شيء معكم من المال، والولد، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ﴾ وفي هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث، الذين يفخرون في الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل: أن النبي - ﷺ - قال: «إن الله ينادي يوم القيامة: يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم، ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفًا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب».
وفي الحديث الصحيح: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر...» والحديث له بقية.
٥ - ٤٩ ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾ معطوف على «عرضو» والمراد (١) بالكتاب، صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع: إما حسي بأن توضع صحيفة كل واحد في يده، السعيد في يمينه، والشقي في شماله، أو في الميزان، وإما عقلي، أي: أظهر عمل كل واحد من خير أو شر بالحساب الكائن في ذلك اليوم، وقرأ زيد بن علي ﴿ووضع﴾ مبنيًا للفاعل ﴿الكتاب﴾ بالنصب، والفاعل
(١) الشوكاني.
387
الله أو الملك، أي: وضع (١) في هذا اليوم الرهيب، كتاب كل إنسان في يده اليمنى، إن كان مؤمنًا، وفي يده اليسرى إن كان كافرًا، فقد تطايرت الكتب إلى أيدي الخلائق مثل الثلج ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: المشركين والمنافقين ﴿مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ﴾؛ أي: خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة؛ أي: يحصل لهم خوف العقاب من الله بذنوبهم، وخوف الفضيحة عند الخلق بظهور الجرائم لأهل الموقف، ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول المجرمون عند وقوفهم على ما في الكتاب من السيئات، نقيرًا، وقطميرًا، تعجبًا من شأنه ﴿يا وَيْلَتَنا﴾؛ أي: يا هلكتنا احضري وتعالي فهذا أوانك، يدعون على أنفسهم بالويل، لوقوعهم في الهلاك (٢)، منادين لهلكتهم التي هلكوا بها من بين الهلكات، مستدعين لها ليهلكوا ولا يروا هول ما لاقوه، فإن الويل والويلة الهلكة.
﴿مالِ هذَا الْكِتابِ﴾ قال البقاعي (٣): رسم لام الجر وحده إشارةٌ إلى أنهم صاروا من قوة الرعب، وشدة الكرب، يقفون على بعض الكلمة؛ أي: أي شيء لهذا الكتاب حالة كونه ﴿لا يُغادِرُ﴾، ولا يترك ﴿صَغِيرَةً﴾ من السيئات ﴿وَلا كَبِيرَةً﴾ من الذنوب تصدر عن جانيها، وقدّم الصغيرة اهتمامًا بها، وإذا أحصيت فالكبيرة أحرى. ﴿إِلَّا أَحْصاها﴾؛ أي: إلّا عدها، وضبطها، وحواها، وأثبتها، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الصّغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة، وعن سعيد بن جبير: الصغيرة: المسيس، والكبيرة الزنا؛ وهذا (٤) الإحصاء لا يعارض قوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ...﴾ الآية، إذ لا يلزم من العد عدم التكفير، إذ يجوز أن تكتب الكبائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثمّ تكفّر عنه، فيعلم قدر نعمة العفو عليه اهـ كرخي.
﴿وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا﴾ في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا ﴿حاضِرًا﴾، أي مكتوبًا مثبتًا في كتابهم، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ من خلقه، فلا ينقص من حسنات أحد أجره الذي يستحقه، ولا يزيد على سيئات
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) الفتوحات.
388
أحد، فيكتب ما لم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله، فيكون إظهارا لمعدلة القلم الأزلي. بل يعفو (١) ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، فإنه سبحانه وعد بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة، وإنه قد يغفر له ما سوى الكفر، ومن ثم لا يعذب أحدًا بما لم يعمله، ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه، ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهى عنه، ولم يرتضه.
ونحو الآية قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)﴾ وقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)﴾.
وخلاصة ذلك: أن الجزاء نتيجة العمل، والعمل مرسوم في قوالب حافظة له، فليس يمكن رفعه، ولا دفعه، ولا يكون الجزاء عليه ظلما، كما لا تعد التخمة بعد الأكل الكثير ظلمًا، ولا المرض بعد الشرب من الماء الآسن المملوء بالجراثيم والأدران ظلمًا، وإنما تلك مسببات لأسباب كلّ عاقل يعلم أنّها نتيجة حتمية لها.
الإعراب
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (٣٢)﴾.
﴿وَاضْرِبْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اضْرِبْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿اضْرِبْ﴾ ﴿مَثَلًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿اضْرِبْ﴾ لأنه بمعنى اجعل ﴿رَجُلَيْنِ﴾: مفعول أول له؛ أي: واجعل رجلين مثلًا، وشبها لهم، وفي «روح البيان» ﴿مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ مفعولان لـ ﴿اضْرِبْ﴾ أولهما ثانيهما، لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان اهـ ﴿جَعَلْنا﴾: فعل وفاعل ﴿لِأَحَدِهِما﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾: مفعول أول له ﴿مِنْ أَعْنابٍ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾،
(١) المراغي.
389
والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿رَجُلَيْنِ﴾ ولكنها سببية، ﴿وَحَفَفْناهُما﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿بِنَخْلٍ﴾: متعلق بـ ﴿حففنا﴾ ﴿وَجَعَلْنا﴾: فعل وفاعل ﴿بَيْنَهُما﴾: ظرف في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿زَرْعًا﴾: مفعول أول له، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنا لِأَحَدِهِما﴾.
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤)﴾.
﴿كِلْتَا﴾: مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين؛ لأنه اسم مقصور ﴿الْجَنَّتَيْنِ﴾: مضاف إليه ﴿آتَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿كِلْتَا﴾ ﴿أُكُلَها﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتَتْ﴾، والأول محذوف تقديره: آتته أكلها؛ لأن ﴿آتى﴾ هنا بمعنى أعطى، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ وقد روعي لفظ ﴿كِلْتَا﴾ فأتى الخبر مفردًا، وروعيت التثنية المعنوية في قوله: ﴿وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ في قوله: ﴿جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ﴾ أو مستأنفة، استئنافًا بيانيًا، ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على ﴿كِلْتَا﴾ ﴿مِنْهُ﴾: حال من ﴿شَيْئًا﴾، لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به لـ ﴿تَظْلِمْ﴾، أو مفعول مطلق، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿آتَتْ﴾ ﴿وَفَجَّرْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آتَتْ﴾ ﴿خِلالَهُما﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿فَجَّرْنا﴾ ﴿نَهَرًا﴾: مفعول به، ﴿وَكانَ﴾: الواو: عاطفة ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم ﴿ثَمَرٌ﴾: اسمها مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ﴾. ﴿فَقالَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿قال﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنتين ﴿لِصاحِبِهِ﴾ متعلق بـ ﴿قال﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾ حالية ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُحاوِرُهُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل قال ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَنَا أَكْثَرُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿مِنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَكْثَرُ﴾ ﴿مالًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، ﴿وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾: معطوف على ﴿أكثر مالا﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
390
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا (٣٥)﴾.
﴿وَدَخَلَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿دَخَلَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنتين ﴿جَنَّتَهُ﴾: مفعول به على السعة، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾ حالية ﴿هُوَ ظالِمٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿لِنَفْسِهِ﴾: ﴿اللام﴾ زائدة لـ ﴿نفسه﴾ مفعول به لـ ﴿ظالِمٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل، ﴿دَخَلَ﴾: ﴿قالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الظلم، وهو الأحسن، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في ﴿ظالِمٌ﴾؛ أي: وهو ظالم في حال كونه قائلًا كذا في «الجمل». ﴿ما﴾ نافية ﴿أَظُنُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الداخل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿أَنْ تَبِيدَ هذِهِ﴾: ناصب وفعل وفاعل ﴿أَبَدًا﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿تَبِيدَ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر سادّ مسد مفعولي ﴿أَظُنُّ﴾ تقديره: ما أظن بيد هذه الجنة وهلاكها أبدًا.
﴿وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا (٣٦)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿أَظُنُّ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الداخل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿ما أَظُنُّ﴾ ﴿السَّاعَةَ قائِمَةً﴾: مفعولان لـ ﴿أَظُنُّ﴾ ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿رُدِدْتُ﴾: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلى رَبِّي﴾: متعلق به ﴿لَأَجِدَنَّ﴾: ﴿اللام﴾ واقعة في جواب القسم مؤكدة للأولى ﴿أجدن﴾ فعل مضارع في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الداخل ﴿خَيْرًا﴾: مفعول به لأنه من وجد بمعنى أصاب ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾ ﴿مُنْقَلَبًا﴾: تمييز لـ ﴿خَيْرًا﴾ منصوب به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿ما أَظُنُّ﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم كما هي القاعدة على حدّ قول ابن مالك:
391
واحذف لدى اجتماعِ شَرطٍ وَقَسَمْ جَوابَ ما أَخَّرتَ فهو مُلتزَمْ
التقدير: إن رددت إلى ربي أجد خيرًا منها منقلبًا، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه.
﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض ﴿لَهُ﴾: متعلق به ﴿صاحِبُهُ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُحاوِرُهُ﴾: خبره والجملة الاسمية في محل النصب حال من صاحبه، ﴿أَكَفَرْتَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَكَفَرْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي ﴿كَفَرْتَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِالَّذِي﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿خَلَقَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿مِنْ تُرابٍ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار، والمجرور قبله. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿سَوَّاكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة الصلة ﴿رَجُلًا﴾: حال من (كاف) الخطاب، ولكنه جامد مؤول بمشتق تقديره: كاملًا، ويجوز أن يعرب مفعولًا ثانيًا لـ ﴿سَوَّاكَ﴾.
﴿لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَدًا (٣٩)﴾.
﴿لكِنَّا﴾ أصله لكن أنا هو الله ﴿لكن﴾ حرف استدراك استدرك به على قوله: ﴿أَكَفَرْتَ﴾: ﴿أنا﴾ ضمير المتكلم مبتدأ أول ﴿هُوَ﴾: ضمير شأن مبتدأ ثان ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ثالث ﴿رَبِّي﴾: خبر لثالث، وجملة الثالث خبر للثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَلا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لا﴾ نافية ﴿أُشْرِكُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الرجل المؤمن منهما ﴿بِرَبِّي﴾ متعلق بـ ﴿أُشْرِكُ﴾ ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَلَوْلا﴾: الواو استئنافية ﴿لَوْلا﴾: حرف تحضيض
392
بمعنى هلا ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿قُلْتَ﴾ ﴿دَخَلْتَ﴾: فعل وفاعل ﴿جَنَّتَكَ﴾: مفعول به على السعة، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿قُلْتَ﴾: فعل وفاعل والتّقدير: ولولا قلت وقت دخولك جنتك، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْتَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾ موصولة في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الذي أعطيته هو ما شاءه الله، وأراده لا بحولي، وقوتي، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْتَ﴾ ﴿شاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره ما شاءه الله ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل إن ﴿قُوَّةَ﴾: في محل النصب اسمها ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿بِاللَّهِ﴾: خبر لا، وجملة ﴿لا﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْتَ﴾ ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿تَرَنِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف والفتحة قبلها دليل عليها، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة النون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزأ عنها بكسرة نون الوقاية، في محل النصب مفعول أول لـ ﴿ترى﴾ ﴿أَنَا﴾ تأكيد لياء المتكلم المحذوفة ﴿أَقَلَّ﴾: مفعول ثان لـ ﴿تر﴾ ﴿مِنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَقَلَّ﴾ ﴿مالًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل ﴿وَوَلَدًا﴾: معطوف على ﴿مالًا﴾.
﴿فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠)﴾.
﴿فَعَسَى﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة جامديةً ﴿عسى﴾ فعل ماض من أفعال الرجاء ﴿رَبِّي﴾: اسمها ﴿أَنْ﴾ حرف مصدر ﴿يُؤْتِيَنِ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل النصب مفعول أول ﴿خَيْرًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿أتى﴾ ﴿مِنْ جَنَّتِكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾ والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرا لـ ﴿عسى﴾، ولكنه في تأويل مشتق، والتقدير، فعسى ربي آتيًا إياي خيرًا من جنتك، وجملة ﴿عسى﴾ في محل الجزم جواب لـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في
393
محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَيُرْسِلَ﴾: معطوف على ﴿يُؤْتِيَنِ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَبِّي﴾ ﴿عَلَيْها﴾: متعلق بـ ﴿يُرْسِلَ﴾ ﴿حُسْبانًا﴾: مفعول به ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: صفة لـ ﴿حُسْبانًا﴾ ﴿فَتُصْبِحَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿تصبح﴾ فعل مضارع معطوف على ﴿يُرْسِلَ﴾ هي فعل من الأفعال الناقصة، واسمها ضمير يعود على ﴿جَنَّتِكَ﴾ ﴿صَعِيدًا﴾: خبر ﴿أصبح﴾ منصوب ﴿زَلَقًا﴾: صفة لـ ﴿صَعِيدًا﴾.
﴿أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)﴾.
﴿أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره معطوف على قوله: ﴿فَتُصْبِحَ﴾ ﴿فَلَنْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفةٌ ﴿لن﴾ حرف نصب ﴿تَسْتَطِيعَ﴾: منصوب بـ ﴿لن﴾، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿طَلَبًا﴾ ﴿طَلَبًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُصْبِحَ﴾. ﴿وَأُحِيطَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف تقديره: فانقضت الصواعق على جنته، وغارت المياه فيها، وأحيط بثمره، ﴿أُحِيطَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿بِثَمَرِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿فَأَصْبَحَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿أصبح﴾ فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على صاحب الجنة ﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، ﴿عَلى ما﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُقَلِّبُ﴾ لأنه ضمنه معنى يندم، وجملة ﴿يُقَلِّبُ﴾: في محل النصب خبر ﴿أصبح﴾، وجملة ﴿أصبح﴾: معطوفة على جملة ﴿أُحِيطَ﴾. ﴿أَنْفَقَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة ﴿فِيها﴾: متعلق بـ ﴿أَنْفَقَ﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: على ما أنفقه فيها، ﴿وَهِيَ خاوِيَةٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿عَلى عُرُوشِها﴾: متعلق بـ ﴿خاوِيَةٌ﴾ والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿فِيها﴾ ﴿وَيَقُولُ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُقَلِّبُ﴾ وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة، ﴿يا لَيْتَنِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿يا﴾ حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف تقديره: يا قوم ﴿لَيْتَنِي﴾: ﴿ليت﴾ حرف تمني ونصب، والنون للوقاية لأنّها تقي حركة البناء الأصلي عن الكسر، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها
394
﴿لَمْ أُشْرِكْ﴾: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على صاحب الجنة ﴿بِرَبِّي﴾: متعلق بـ ﴿أُشْرِكْ﴾ ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿أُشْرِكْ﴾: في محل الرفع خبر ﴿ليت﴾، وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾.
﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)﴾.
﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَمْ تَكُنْ﴾ جازم ومجزوم، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم لـ ﴿تَكُنْ﴾ ﴿فِئَةٌ﴾: اسمها مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿أُحِيطَ﴾. ﴿يَنْصُرُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة لـ ﴿فِئَةٌ﴾ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من فاعل ﴿ينصرون﴾ وذكّرت الصفة، وجمعت لأن الفئة تتضمن الجمع، وهو يتضمن الذكور والإناث، ﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿كانَ﴾ فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على صاحب الجنة ﴿مُنْتَصِرًا﴾: خبرها، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ﴾. ﴿هُنالِكَ﴾: اسم إشارة يشار به إلى المكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، واللام لبعد المشار إليه، و ﴿الكاف﴾ حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ﴿الْوَلايَةُ﴾: مبتدأ ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والتقدير: الولاية مستحقة مستقرة لله هنالك لا لغيره، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿الْحَقِّ﴾: بالجر صفة للجلالة، وبالرّفع صفة لـ ﴿الْوَلايَةُ﴾؛ أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو الحق، ﴿هُوَ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿ثَوابًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بأفعل التفضيل، ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾: معطوف على ﴿خَيْرٌ ثَوابًا﴾ و ﴿عُقْبًا﴾ بمعنى عاقبة.
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)﴾.
﴿وَاضْرِبْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿اضْرِبْ﴾: فعل أمر بمعنى اذكر، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به ﴿مَثَلَ الْحَياةِ﴾: مفعول به ﴿الدُّنْيا﴾: صفة لـ ﴿الْحَياةِ﴾؛ أي: واذكر لهم صفة الحياة الدنيا، والجملة مستأنفة ﴿كَماءٍ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هي كماء، والجملة مستأنفة استئنافًا
395
بيانيًا، ويجوز أن يكون ﴿مَثَلَ الْحَياةِ﴾: مفعولًا أول ﴿كَماءٍ﴾: مفعولًا ثانيًا؛ أي: واجعل لهم مثل الحياة الدنيا مثل ماء، ﴿أَنْزَلْناهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿ماء﴾ ﴿فَاخْتَلَطَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿اختلط﴾: فعل ماض ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿نَباتُ الْأَرْضِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْناهُ﴾. ﴿فَأَصْبَحَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿أصبح﴾ فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على نبات الأرض ﴿هَشِيمًا﴾: خبر ﴿أصبح﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿اختلط﴾ ﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿هَشِيمًا﴾، ﴿وَكانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿مُقْتَدِرًا﴾ ﴿مُقْتَدِرًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
﴿الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦)﴾.
﴿الْمالُ﴾: مبتدأ ﴿وَالْبَنُونَ﴾: معطوف عليه ﴿زِينَةُ الْحَياةِ﴾: خبر، ومضاف إليه ﴿الدُّنْيا﴾: صفة للحياة، والجملة مستأنفة ﴿وَالْباقِياتُ﴾: مبتدأ ﴿الصَّالِحاتُ﴾: صفة لـ ﴿وَالْباقِياتُ﴾ ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ ﴿ثَوابًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿وَخَيْرٌ﴾: معطوف على خير ﴿أَمَلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل.
﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلّق بمحذوف تقديره: واذكر لهم يوم نسير الجبال؛ أي: قصته وهوله، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿نُسَيِّرُ الْجِبالَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ﴾: فعل ومفعول به لأن ﴿تَرَى﴾ بصرية ﴿بارِزَةً﴾: حال من ﴿الْأَرْضَ﴾: وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نُسَيِّرُ الْجِبالَ﴾ ولكنه على تقدير قد لكونه فعلًا ماضيًا؛
396
أي: ويوم نسير الجبال حالة كوننا حاشرين إياهم، ﴿فَلَمْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿لم﴾ ﴿نُغادِرْ﴾: جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الله ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من ﴿أَحَدًا﴾. ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾: لأنه ماض معنى بسبب لم.
﴿وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)﴾.
﴿وَعُرِضُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾. ﴿عَلى رَبِّكَ﴾: متعلق به ﴿صَفًّا﴾: حال من ﴿الواو﴾ في ﴿عُرِضُوا﴾ أي: حالة كونهم مصفوفين ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿جِئْتُمُونا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم في محل النصب مقول لقول محذوف حال من ﴿واو﴾ عُرِضُوا: والتقدير: وعرضوا على ربك صفا حالة كونهم مقولًا لهم لقد جئتمونا ﴿كَما﴾: ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه ﴿ما﴾ مصدرية ﴿خَلَقْناكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿خَلَقْناكُمْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الكاف﴾ تقديره: كخلقنا إياكم أول مرة، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: لقد جئتمونا مجيئًا مشابهًا بخلقنا إياكم أول مرة حفاة عراة غرلا. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وانتقال مفيد للتوبيخ ﴿زَعَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل ﴿أَلَّنْ﴾ ﴿أن﴾ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ﴿لن﴾ حرف نفي ونصب، ﴿نَجْعَلَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني ﴿مَوْعِدًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾ إذا كان بمعنى صير، وإذا كان الجعل مجرد الإيجاد كانت لكم متعلقة به و ﴿مَوْعِدًا﴾: هو المفعول به و ﴿مَوْعِدًا﴾ أي مكانًا، وزمانًا تبعثون فيه، وجملة ﴿نَجْعَلَ﴾: في محل الرفع خبر أن المخففة، وجملة ﴿أن﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم، والتقدير: بل زعمتم عدم جعلنا لكم موعدا تبعثون فيه.
﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾.
397
﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿وَعُرِضُوا﴾ ﴿فَتَرَى﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿ترى﴾ فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾: مفعولان لـ ﴿ترى﴾ إن كانت علمية، ﴿مُشْفِقِينَ﴾: حال إن كانت بصرية، والجملة معطوفة على جملة ﴿وُضِعَ﴾ ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُشْفِقِينَ﴾ ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور، صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا ﴿يا وَيْلَتَنا﴾ إلى قوله: ﴿وَوَجَدُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿وَيْلَتَنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لِهذَا﴾: جار ومجرور خبره ﴿الْكِتابُ﴾: بدل من اسم الإشارة، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿لا﴾: نافية ﴿يُغادِرُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الكتاب ﴿صَغِيرَةً﴾: مفعول به ﴿وَلا كَبِيرَةً﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿لا يُغادِرُ﴾: في محل النصب حال من الكتاب، والعامل فيه، الجار والمجرور، لقيامه مقام الفعل، أو الاستقرار الذي تعلق به الجار ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿أَحْصَاهَا﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿الْكِتابُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿صَغِيرَةً﴾ و ﴿كَبِيرَةً﴾ ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني، لأن ﴿يُغادِرُ﴾ بمعنى يترك، ويترك قد يتعدى لاثنين اهـ «سمين».
﴿وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
﴿وَوَجَدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَوُضِعَ﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ ﴿وَجَدُوا﴾ ﴿عَمِلُوا﴾: فعل وفاعل صلة ﴿ما﴾ الموصولة أو صفة ﴿ما﴾ الموصوفة، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما عملوه ﴿حاضِرًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿وجد﴾ ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿جَنَّتَيْنِ﴾: تثنية جنة، والجنة البستان سميت بذلك لاجتنان أرضها، واستتارها بظل الشجر، وكل مادة (جـ ن ن) تفيد الخفاء، والاستتار كالجنين،
398
والجن، والمجنون لاستتار عقله، وجن الليل؛ أي: أظلم إلى نحو ذلك ﴿مِنْ أَعْنابٍ﴾؛ أي: كروم منوعة، جمع عنب، والعنبة الحبة، وفي «القاموس» وغيره: عنب الكرم صار ذا عنب، والعنب ثمر الكرم، وجمعه أعناب، والحبة منه عنبة ﴿وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ﴾؛ أي: جعلنا النّخل محيطًا بكل منهما يقال: حفه القوم إذا طافوا به، وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله، فتزيده الباء مفعولًا ثانيًا كقولك: غشية، وعشيته به، والمعنى: جعلنا النخل محيطًا بهما مطبقا بحفافيهما؛ أي: جانبيهما، ومنه قوله تعالى: ﴿حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ ﴿أُكُلَها﴾؛ أي: ثمرها ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ﴾؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا ﴿نَهَرًا﴾ والنّهر: بالتحريك لغة في النهر بالسكون، وهو مجرى الماء العذب ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾؛ أي: أنواع من المال يقال: ثمر فلان ماله، وأثمره، إذا نماه، قال الحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا... قد أثمروا مالًا وولدَا
وفي «البيضاوي»: مأخوذ من ثمر ماله بالتشديد إذا كثّره، وفي «المصباح» الثمر بفتحتين، والثمرة مثله، فالأول مذكّرٌ، ويجمع على ثمارٍ، مثل جبلٍ، وجبال، ثم يجمع الثمار على ثمر، مثل كتابٍ وكتب، ثمّ يجمع على أثمارٍ مثل عنق، وأعناق، والثاني مؤنث، والجمع منه: ثمرات مثل قصبة وقصبات، والثمر: هو الحمل الذي تخرجه الشجرة، وسواءٌ أكل أو لا، فيقال: ثمر الأراك، وثمر العوسج، وثمر الدّوم، وهو المقل كما يقال: ثمر النخل، وثمر العنب، قال الأزهري: وأثمر الشجر أطلع ثمره، أول ما يخرجه فهو مثمر، ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثمرة اهـ. وفي «الأساس» ﴿وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾؛ أي: مال وانظر ثمر مالك، ونماءه، ومال ثمر؛ أي: مبارك فيه، وأثمر القوم، وثمروا ثمورًا، كثر مالهم، وثمر ماله، يثمر كثر، وفلان مجدود ما يثمر له مال، والمراد في الآية أنه كان إلى جانب الجنتين الموصوفتين الأموال الدائرة من الذهب والفضة وغيرهما، وكان وافر اليسار من كل وجه والصاحب المصاحب لك ﴿يُحاوِرُهُ﴾؛ أي: يجادله، ويراجعه الكلام بالوعظ، والدعاء؛ إلى الإيمان بالله والبعث ﴿نَفَرًا﴾ والمراد من النفر الخدم، والحشم حشم الرجل خدمه ومن يغضب له سموا بذلك لأنهم يغضبون له والأعوان ﴿تَبِيدَ﴾ تفنى وتهلك ﴿مُنْقَلَبًا﴾؛ أي: مرجعًا، وعاقبةً، وهو اسم مكان من الانقلاب
399
﴿سَوَّاكَ﴾، أي: عدلك، وكملك إنسانا ﴿لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ أصل التركيب: لكن أنا هو الله ربي دخله نقل، وحذف كما مر في مبحث التفسير.
﴿إِنْ تَرَنِ﴾ ﴿أَنْ يُؤْتِيَنِ﴾ كلاهما رسم بدون ياء؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في النطق: فبعض السبعة يثبتها، وبعضهم يحذفها كما مر ﴿حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ﴾؛ أي: مطرًا عظيمًا يقلع زرعها، وأشجارها يحتمل إما أن يكون مصدرًا كالغفران، والبطلان، وإما أن يكون جمع حسبانة؛ أي: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء كما في «الشهاب». ﴿صَعِيدًا زَلَقًا﴾ والصّعيد وجه الأرض، الزّلق الأملس؛ أي: أرضًا ملساء لا تثبت عليها القدم، وفي «القاموس» الزلق بفتحتين، والزّلق بفتح فسكون أرض ملساء، ليس بها شيء، وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها، وأشجارها بالذهاب، والإهلاك، فلم يبق له أثر اهـ. بيضاوي.
﴿غَوْرًا﴾ مصدر غار في الأرض، أي: ذهب فلا سبيل إليه، فهو بمعنى الفاعل؛ أي: غائرًا في الأرض لا يدرك، فهو مصدر وصف به مبالغة ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾؛ أي: بأمواله من النقد، والمواشي وغيرهما، يقال: أحاط به العدو إذا استولى عليه، وغلبه ثمّ استعمل في كل إهلاك.
﴿يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ هذا أسلوب في اللّغة يفيد النّدامة والحسرة فإن من عظمت حسرته، يصفق بإحدى يديه على الأخرى متأسفًا متلهفًا، ﴿وَهِيَ خاوِيَةٌ﴾؛ أي: ساقطةٌ يقال: خوت الدّار، وخويت خيًا، وخويًا تهدمت، وخلت من أهلها ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ واحدها عرش، وهي الأعمدة التي توضع عليها الكروم، وفي «المصباح»: العرش شبه بيت من جريد، يجعل فوقه الثمام، والجمع عروش مثل فلس وفلوس، والعريش مثله، وجمعه عرش بضمتين كبريد، وبرد، وعريش الكرم، ما يعمل مرتفعًا يمتد عليه الكرم، والجمع عرائش أيضًا اهـ. وفي «الشهاب»: العروش جمع عرش، وهو ما يصنع ليوضع عليه الكرم، فإذا سقط.. سقط ما عليه اهـ.
﴿مُنْتَصِرًا﴾؛ أي: ممتنعًا بقوة عن انتقام الله ﴿الْوَلايَةُ﴾ بفتح الواو، وبكسرها الملك والقهر والسلطنة ﴿عُقْبًا﴾؛ أي: عاقبة ﴿مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ المثل الصّفة
400
﴿هَشِيمًا﴾ أي: يابسًا متفرق الأجزاء، وقال الزمخشري: الهشيم ما تهشم، وتحطّم الواحدة هشيمة، وقال ابن قتيبة: كل ما كان رطبًا ويبس فهو هشيم، ويقال: صارت الأرض هشيمًا؛ أي: صار ما عليها من النبات والشجر قد يبس وتكسر ﴿تَذْرُوهُ﴾؛ أي: تفرقه وتنشره، وذرت الريح التراب وأذرت العين دمعها، وعيناه تذريان الدّموع، وطعنته فأذريته عن فرسه، وأذراه الفرس عن ظهره رمى به، وذرا حد نابه انسحقت أسنانه، وسقطت أعاليها، وبلغني عنه ذروٌ من قولٍ؛ أي: طرف منه، وأخذ في ذروٍ من الحديث، إذا عرّض، ولم يصرح، قال صخر بن حبناء:
أتاني عن مغيرة ذرو قولٍ وعن عيسى فقلت له كذاك
﴿مُقْتَدِرًا﴾؛ أي: كامل القدرة، فهو مفتعل من قدر للمبالغة ﴿بارِزَةً﴾؛ أي: ظاهرةٍ إذ لم يبق على وجهها شيء من العمائر، ولا من الجبال والأشجار ﴿وَحَشَرْناهُمْ﴾؛ أي: سقناهم إلى الموقف من كل أوب ﴿فَلَمْ نُغادِرْ﴾؛ أي: لم نترك يقال غادره، وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر، وهو ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السيل؛ أي: تركه من الماء في الغديرة؛ أي: في الحفرة، والغديرة الشّعر الذي نزل حتى طال، والجمع غدائر، ومنه قوله: غدائره مستشزرات إلى العلا.
والمفاعلة هنا: ليست على بابه؛ أي: ليس فيها مشاركةٌ ﴿وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ﴾؛ أي: أحضروا لفصل القضاء ﴿صَفًّا﴾؛ أي: مصطفين، وهو في الأصل مصدر يقال فيه: صف يصف صفًا من باب شد، واختلف هنا في ﴿صَفًّا﴾ هل هو مفردٌ وقع موقع الجمع إذ المراد صفوفًا، أو فيه حذف؛ أي: صفًا صفًا كما في آية أخرى ﴿وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)﴾ ﴿مَوْعِدًا﴾؛ أي: وقتًا ننجز فيه ما وعدنا من البعث، وما يتبعه ﴿وَوُضِعَ الْكِتابُ﴾؛ أي: جعل كتاب كل عامل في يد صاحبه حين الحساب ﴿مُشْفِقِينَ﴾؛ أي: خائفين من أشفق إذا خاف ﴿يا وَيْلَتَنا﴾؛ أي: يا هلكتنا أقبل فهذا أوانك والويل: الهلاك ﴿أَحْصاها﴾؛ أي: عدها وضبطها ﴿حاضِرًا﴾؛ أي: مسطورًا في كتاب كل منهم ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ﴾؛ أي: لا يتجاوز ما حده من الثّواب والعقاب.
401
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ﴾ لأنّ وجه الشبه منتزع من متعدد.
ومنها: التتميم - ويقال له التمام - في قوله: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا﴾ لأن وصف الجنّتين أولًا باشتمالهما على أعناب، ونخيل ثم تمم ذلك بقوله: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا﴾ لئلا يتوهّم أنّ الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب، ولتكون كلٌّ من الجنّتين جامعة للأقوات والفواكه، متواصلة العمار على الشكل الحسن، والترتيب الأنيق، ثم تمم ذلك أيضًا بقوله: ﴿وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ للدلالة على ديمومة الانتفاع بهما، فإن الماء هو سر الحياة، وعامل النمو الأول في النباتات، وإذن فقد استكمل هذا الرجل كلّ الملاذ، واستوفى ضروب النّعم ثم تمم ذلك أيضًا بقوله: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها﴾ لاستحضار الصورة التامة للانتفاع بالموارد.
ومنها: الاحتراس بقوله: ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ لأنه احتراس به من أن يكون ثمة نقص في الأكل الذي آتته.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿آتَتْ أُكُلَها﴾ لأنّه كناية عن تمامها، ونموها دائمًا، وأبدًا فليست على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها في بعض السنين، وينقص في بعض.
ومنها: اللف والنشر المشوش في قوله: ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ﴾ الخ لأن (١) حاصل ما قاله الكافر من القول الشنيع ثلاث مقالات: الأولى: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا...﴾ إلخ الثانية: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ...﴾ إلخ الثالثة: ﴿وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً...﴾ إلخ، وقد تعقبه المؤمن في الثلاثة على سبيل اللف، والنشر المشوش، فوبخه على الأخيرة، بقوله: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
(١) الفتوحات.
402
خَلَقَكَ...} إلخ، ووعظه، ونصحه على الثانية بقوله: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ...﴾ إلخ وقرعه على الأولى بقوله: فعسى ربي، الخ اهـ شيخنا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ لأنه كناية عن التّحسر والندم، لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.
ومنها: المبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل في قوله: ﴿أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرًا﴾؛ أي: غائرًا.
ومنها: التشبيه التّمثيلي المقلوب في قوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآية، أما التشبيه التمثيلي: فهو تشبيه الحياة الدنيا، وما فيها من زخارف بالنبات الذي اختلط به الماء الهاطل من السماء، فربا والتفّ وزها، ورف، وأمّا التشبيه المقلوب: فقد كان من حق الكلام أن يقول: فاختلط بنبات الأرض، ووجهه: أنه لمّا كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه، عكس للمبالغة في كثرته.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿يا وَيْلَتَنا﴾ نداء الويلة قائم على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل: يا هلاكنا أقبل، فهذا أوانك.
ومنها: الجمع في قوله: ﴿الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾، وهو أن يجمع المتكلِّم بين شيئين أو أكثر في حكم واحد، وهو واضح في الآية، ومنه في الحديث قوله - ﷺ -: «من أصبح آمنًا في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها» فجمع الأمن ومعافاة البدن، وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها، أي: بأسرها.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
403
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ردّه على أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بأموالهم وأعوانهم، وقالوا: كيف نجلس مع هؤلاء، ونحن من أنساب شريفة، وهم من أنساب وضيعة، ونحن أغنياء، وهم فقراء.. أردف ذلك بذكر عصيان إبليس لأمره تعالى بالسجود لآدم؛ لأن الذي حداه إلى ذلك هو كبره وافتخاره عليه بأصله ونسبه، إذ قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ فأنا أشرف منه أصلًا ونسبًا فكيف أسجد له، تنبيهًا على أنّ هذه الطريقة السّالفة هي بعينها طريقة إبليس، ثمّ حذّر سبحانه منها في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ
(١) المراغي.
404
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} وقد تكرر ذكر هذه القصة في مواضع من الكتاب الكريم، وهي في كل موضع سيقت لفائدة غير ما جاءت له في المواضع الأخرى على اختلاف أساليبها وعباراتها، ولا عزو فهي من نسج العليم الخبير.
وعبارة أبي حيان هنا: ذكروا (١) في ارتباط هذه الآية بما قبلها: أنه تعالى لمّا أمر نبيه - ﷺ - بمجالسة الفقراء، وكان أولئك المتكبرون قد تأنفوا عن مجالستهم، وذكروا للرسول - ﷺ - طردهم عنه، وذلك لما جبلوا عليه من التكبر، والتكثر بالأموال والأولاد، وبشرف الأصل والنّسب، وكان أولئك الفقراء بخلافهم في ذلك.. ناسب ذكر قصة إبليس بجامع ما اشتركا فيه من التكبر، والافتخار بالأصل الذي خلق منه، وهذا الذي ذكروه في الارتباط هو ظاهر بالنسبة للآيات السابقة قبل ضرب المثلين، وأما أنه واضح بالنسبة لما بعد المثلين فلا، والذي يظهر في ارتباط هذه الآية بالآية التي قبلها هو أنه لمّا ذكر يوم القيامة، والحشر، وذكر خوف المشركين مما سطر في ذلك الكتاب، وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم، واتخاذ شركاء مع الله، ناسب ذكر إبليس، والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله، تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر شبهات المبطلين، ورد عليها بأدلة لا تدحض، وبرهانات لا ترد.. قفّى على ذلك ببيان أن في القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكّر وتدبر، وألقى السمع، وهو شهيد، لكنها القلوب قد تحجرت، والأفئدة قد قست، فلا تنفع فيها الذكرى، ولا تستجيب لوعظ الواعظ، ونصيحة المذكر، ولو آخذهم ربهم بما كسبوا... لأرسل عليهم العذاب معجلًا، ولم يبق منهم على ظهر الأرض أحدًا، ولكنه الغفور ذو الرحمة، فجعل لهلاكهم موعدا، لعلهم يتوبون إلى رشدهم ويرعوون عن غيّهم.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
405
التفسير وأوجه القراءة
٥٠ - ثمّ إنه تعالى عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصّة آدم، واستكبار إبليس فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصّة وقت قولنا للملائكة: ﴿اسْجُدُوا﴾ يا ملائكتي ﴿لِآدَمَ﴾ سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، وكان ذلك مشروعًا في الأمم السالفة، ثم نسخ بالسلام ﴿فَسَجَدُوا﴾؛ أي: فسجدت الملائكة جميعًا، امتثالًا لأمر الله وطاعة لطلبه السجود ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ اللعين فإنه أبى واستكبر، ولم يسجد، وكأنه قيل: ما باله لم يسجد؟ فقيل: ﴿كانَ مِنَ الْجِنِّ﴾؛ أي: كان أصله جنيًا خلق من نار السموم، ولم يكن من الملائكة، فلهذا عصى، فالجملة مستأنفةٌ مسوقة لبيان سبب عصيانه.
وإنّما صح (١) الاستثناء المتّصل لأنه أمر بالسجود معهم، فغلبوا عليه في قوله ﴿فَسَجَدُوا﴾ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلًا كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لا مرأة بين الرجال.
﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾؛ أي: خرج عن طاعته بترك السجود، فالأمر على حقيقته جعل عدم امتثاله للأمر خروجًا عنه، ويجوز أن يكون المراد المأمور به، وهو السجود، والفاء للسببية لا للعطف؛ أي: كونه من الجن سبب فسقه، ولو كان ملكا.. لم يفسق عن أمر ربه؛ لأن الملك معصوم دون الجن والإنس.
والمعنى (٢): واذكر - أيها الرسول - لقومك وقت قولنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية وتكريم اعترافًا بفضله، واعتذارًا عما قالوه في شأنه من نحو قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾ فسجدوا كلهم أجمعون امتثالًا إلا إبليس، ثم بيّن السّبب في عصيانه، ومخالفته للأمر فقال: ﴿كانَ مِنَ الْجِنِّ﴾؛ أي: إن الذي منعه من السجود أنّه كان جنّيًا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورًا بينهم متّصفًا بصفاتهم، بدليل أنه قال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، ولأنه أثبت له في هذه الآية ذريةً ونسلًا، والملائكة لا ينسلون، ولأن الملائكة لا يستكبرون
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
406
وهو قد استكبر ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾؛ أي: فصار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله للملائكة المعدود هو في عدادهم، إذ لولا الأمر ما تحقق إباؤه.
ثم حذر سبحانه من اتباعه بعد أن استبان من حاله ما استبان فقال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ﴾ ﴿الهمزة﴾ للإستفهام الإنكاري التعجبي داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أبعد علمكم يا بني آدم بصدور الفسق من إبليس تتبعونه، وتتخذونه ﴿وَذُرِّيَّتَهُ﴾؛ أي: أولاده وأتباعه ﴿أَوْلِياءَ﴾، أي: أصدقاء ﴿مِنْ دُونِي﴾ تطيعونهم بدل طاعتي مجاوزين عني إليهم؛ أي (١): ذلك الاتخاذ منكر غاية الإنكار، حقيق بأن يتعجب منه، والمراد بالولاية هنا: اتباع الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، فالموالاة مجاز عن هذا، لأنه من لوازمها، فلا يرد كيف قال ذلك، مع أنّ الشيطان وذرّيته ليسوا أولياء بل أعداء، لأنّ الأولياء هم الأصدقاء، ذكره في «الفتوحات».
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن إبليس وذريّته ﴿لَكُمْ عَدُوٌّ﴾؛ أي: أعداء فحقهم أن تعادوهم لا أن توالوهم شبه بالمصادر للموازنة كالقبول.
وحاصل المعنى (٢): كيف تصنعون هذا الصنع، وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم من لم يكن لكم منه منفعة قط، بل هو عدو لكم، يترقب حصول ما يضركم في كل حين ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: للكافرين ﴿بَدَلًا﴾ من الله، إبليس وذريته، تمييز لفاعل ﴿بِئْسَ﴾ البدل للكافرين بالله، والمخصوص بالذم إبليس وذرّيته، أي: اتخاذهم إبليس وذريته أولياء من دونه وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم المتفضل عليهم بما لا يحصى من الفواضل؛ أي: بئس (٣) البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) النسفي.
407
٥١ - ثم بيّن السبب في عدم استحقاق إبليس وذريته هذه الولاية في أنفسهم بعد بيان خباثة أصلهم، فقال: ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ﴾؛ أي: ما أحضرت إبليس وذريته ﴿خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ لأعتضد بهم في خلقهما، وأشاورهم في تدبير أمرهما، حيث خلقتهما قبل خلقهم، وفيه (١) ردّ لمن يدّعي أن الجن يعلمون الغيب؛ لأنهم لم يحضروا خلق السموات والأرض حتى يطّلعوا على مغيّباتهما، ﴿وَلا﴾ أشهدتهم ﴿خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعضهم، كقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
والمعنى: أي (٢) ما أحضرت إبليس وذريّته خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فكيف تطيعونهم، وتعبدون الأصنام من دوني، وهم عبيد أمثالكم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا.
وقصارى ذلك (٣): ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما خصّصتهم بخصائص لا تكون لسواهم، حتى يقتدي الناس بهم، فأنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ليس لي في ذلك شريك ولا وزير.
﴿وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾؛ أي: الشّياطين الذين يضلون الناس عن الدين، والأصل (٤) متخذهم، فوضع المظهر موضع المضمر، ذمًا لهم وتسجيلًا عليهم بالإضلال، ﴿عَضُدًا﴾؛ أي: أعوانًا في شأن الخلق وفي شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي، بناء على الشركة في بعض الأحكام الربوبية، وقال في «القاموس»: العضد النّاصر، والمعين، وهم عضدي وأعضادي، انتهى.
والمعنى: ما استعنت على خلق السموات والأرض بهم، ولا شاورتهم، وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعوانًا، ووحّد العضد لموافقة الفواصل؛ أي: وما كنت متّخذ من لا يهدون إلى الحق أعوانًا وأنصارًا، لأنهم يضلون، فمتبعهم يحور عن قصد السبيل، ولا يصل إلى هدى فكيف اتبعوهم وعبدوا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
الأصنام على مقتضى وسوستهم، حتى يكونوا قدوة للناس.
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر، وهو يخطب (١): ﴿أفتتخذونه وذريته﴾ بفتح الذال، وقرأ الجمهور ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ﴾ بتاء المتكلم، وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والسختياني وعون العقيلي، وابن مقسم ﴿ما أشهدناهم﴾ بنون العظمة، وقرأ أبو جعفر، والجحدري، والحسن، وشيبة، ﴿وما كنت﴾ بفتح التاء خطابًا للرسول - ﷺ -. قال الزمخشري: والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم. انتهى.
وقرأ علي بن أبي طالب ﴿متخذًا المضلين﴾ أعمل اسم الفاعل، وقرأ عيسى بن عمر ﴿عضدًا﴾ بسكون الضاد خفف فعلًا كما قالوا: رجل وسبع، في رجل وسبع، وهي لغة عن تميم، وعنه أيضًا بفتحتين، وقرأ شيبة، وأبو عمرو في رواية هارون، وخارجة، والخفّاف عضدًا بضمتين، وعن الحسن عضدًا بفتحتين، وعنه أيضًا بضمتين، وقرأ الضحاك عضدًا بكسر العين، وفتح الضاد، وقرأ عكرمة (٢) بضم العين وإسكان الضاد، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد كما مرّ ففي عضد ثمان لغات: أفصحها فتح العين، وضمّ الضاد، وبها قرأ الجمهور.
واعلم (٣): أنّ الله سبحانه وتعالى منفرد في الألوهية، والكل مخلوق له، وقد خلق الملائكة والجنّ والإنس، فباين بينهم في الصورة والأشكال والأحوال. قال سعيد بن المسيب: الملائكة ليسوا بذكور، ولا إناث، ولا يتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون، والجن يتوالدون، وفيهم ذكور وإناث، ويموتون، والشّياطين ذكور وإناث، ويتوالدون، ولا يموتون، بل يخلدون في الدنيا، كما خلّد فيها إبليس، وإبليس: هو أبو الجن، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض بيضة فتفلق البيضة عن جماعةٍ من الشياطين.
٥٢ - ثم أخبر سبحانه عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
409
تقريعًا لهم وتوبيخًا، فقال: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾؛ أي: واذكر يا محمد قصة يوم يقول الله سبحانه وتعالى للكفار توبيخًا وتعجيزًا، وهو يوم القيامة، وقال بعضهم: يقول على ألسنة الملائكة، والأظهر هو الأول، لأنه قد ثبت أنّ الله تعالى يتجلّى يوم القيامة للخلق، مسلمهم وكافرهم، بصور شتّى، حتى يرونه بحسب ما اعتقدوه في هذه الدار، فلا يبعد كلامه معهم أيضًا، لأنه كلام بالغيب والتوبيخ، لا بالرضى والتشريف، كما كلم إبليس بعد اللعن والطرد على ما سبق في سورة الحجر والتشريف، كما كلم إبليس بعد اللعن والطرد على ما سبق في سورة الحجر ونحوها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ بالياء؛ أي: الله مناسبة لقوله: ﴿وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا﴾ وقرأ الأعمش، وطلحة، ويحيى، وابن أبي ليلى، وحمزة، وابن مقسم، ﴿نقول﴾ بنون العظمة مناسبة لقوله: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ﴾ الخ.
أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين أهوال يوم يقول الله عز وجل للكفار توبيخًا لهم وتقريعًا: ﴿نادُوا شُرَكائِيَ﴾ أضافهم إليه، على زعمهم تهكمًا بهم، وتقريعًا، أي: نادوا آلهتكم التي قلتم إنهم شركائي، وقرأ الجمهور ﴿شركائي﴾ ممدودًا مضافًا للياء، وابن كثير، وأهل مكة مقصورًا مضافًا لها أيضًا، ذكره في «البحر».
﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ وادّعيتم أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم، ويمنعوكم من عذابي، والمراد بهم كل من عبد من دون الله تعالى ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾؛ أي: نادوهم للإغاثة، ذكر كيفية دعوتهم في آية أخرى ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا﴾؛ أي: فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء، ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾؛ أي: فلم يغيثوهم، أي لم يدفعوا عنهم ضرًا، ولا أوصلوا إليهم نفعًا، إذ لا إمكان لذلك، فهو لا ينافي إجابتهم صورة ولفظًا، كما قال: حكاية عن الأصنام، إنها تقول: ﴿ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ﴾.
﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين المشركين وآلهتهم ﴿مَوْبِقًا﴾؛ أي (٢): حاجزًا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
410
بعيدًا، أو واديًا في جهنم من قيح ودم، وذلك أن المشركين الذين اتّخذوا من دون الله آلهة: الملائكة، وعزيرا، وعيسى ومريم، عليهم السلام. دعوا هؤلاء فلم يجيبوهم استهانةً بهم، واشتغالًا بأنفسهم، ثم حيل بينهم، فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنّم، وأدخل عزيرًا وعيسى ومريم الجنّة، وسار الملائكة إلى حيث أراد الله من الكرامة، وحصل بين الكفار ومعبوديهم هذا الحاجز وهو ذلك الوادي.
وعلى هذا فهو اسم مكان، ويحتمل كونه مصدرًا من وبق يبق وبوقا، كوثب وثوبا أو من وبق يوبق وبقًا كفرح يفرح فرحًا إذا هلك أي: مهلكًا يشتركون فيه، وهو النار، وقال الفراء: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: تواصلهم في الدنيا ﴿مَوْبِقًا﴾؛ أي: هلاكًا في الآخرة، فالبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ في سورة الأنعام على قراءة من ضم النون، ومفعول أول لـ ﴿جَعَلْنا﴾ وعلى الوجه الأول مفعولٌ ثان.
٥٣ - ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: الكافرون ﴿النَّارَ﴾ من مكان بعيد ﴿فَظَنُّوا﴾؛ أي: أيقنوا ﴿أَنَّهُمْ مُواقِعُوها﴾؛ أي: واردوها (١)، وداخلوها، ومخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير لشدة ما يسمعون من تغيظها، وزفيرها كقوله تعالى: ﴿إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾، والمكان (٢) البعيد، قيل: مسيرة خمس مئة سنة، والظن هنا بمعنى اليقين، والمواقعة المخالطة بالوقوع فيها، وقيل: إن الكفّار يرون النار من مكان بعيد، فيظنون ذلك ظنًا ﴿وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها﴾؛ أي: عن النار ﴿مَصْرِفًا﴾؛ أي: مهربًا ومعدلًا يعدلون إليه، ومكانًا ينصرفون إليه، أو انصرافًا عنها، لأن النّار أحاطت بهم من كل مكان.
وفي مصحف عبد الله (٣): ﴿ملاقوها﴾ مكان مواقعوها، وقرأه كذلك الأعمش، وابن غزوان، عن طلحة، والأولى جعله تفسيرًا لمخالفته سواد
(١) الواحدي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
المصحف، وعن علقمة أنه قرأ ﴿ملافُّوها﴾ بالفاء مشددة من لففت، وأجاز أبو معاذ ﴿مصرفا﴾ بفتح الراء، وهي قراءة زيد بن علي جعله مصدرا، كالمضرب، لأن مضارعه يصرف على وزن يفعل كيضرب.
٥٤ - ولما ذكر (١) سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك، وضرب لهم الأمثال الواضحة، وحكى بعض أحوال الآخرة فقال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد كررنا وبيّنا وذكرنا على وجوه كثيرة من النظم ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الكريم ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لمصلحتهم ومنفعتهم ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾؛ أي: من كل نوع من أنواع الأمثال، كمثل الرجلين المذكورين، ومثل الحياة الدنيا، ليتذكروا ويتعظوا، أو من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي في الغرابة والحسن كالمثل ليتلقوه بالقبول؛ فلم يفعلوا، والمعنى؛ أي: ولقد وضحنا للناس كل ما هم في حاجة إليه من أمور دينهم، ودنياهم، ليتذكروا فينيبوا، ويعتبروا، ويزدجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله، وعبادة الأوثان؛ لكنهم لم يقبلوا ذلك، ولم يرعووا عن غيّهم وعنادهم، واستكبارهم وعتوهم.
﴿وَكانَ الْإِنْسانُ﴾؛ أي: جنس الإنسان بحسب جبلته، ومقتضى طبيعته ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾؛ أي: مراء وخصومة، تمييز؛ أي: أكثر (٢) الأشياء التي يتأتى منها الجدل، كالجن والملك؛ أي: جدله أكثر من جدل كل مجادل، لا ينبي إلى حق، ولا يزدجر لموعظة، والمراد بذلك خصومة الأمم لأنبيائهم، وردهم عليهم ما جاؤوا به كما حكى الله عنهم من قولهم: ﴿ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ وقولهم: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾.
أخرج الشيخان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن علي كرم الله وجهه، أن النبي - ﷺ - طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصليان» فقلت: يا رسول الله؛ إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا» والجدل: هاهنا شدة الخصومة بالباطل، لاقتضاء خصوصية المقام ذلك، وإلا فالجدل لا يلزم أن يكون بالباطل قال تعالى: ﴿وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
وخلاصة ذلك: أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل لما أتيه من سعة الحيلة، وقوة المعارضة، واختلاف النزعات، والأهواء، وقوة العزيمة إلى غير حد فلو اتجه إلى سبيل الخير، وتاقت نفسه إلى سلوك طريقه ارتقى إلى حظيرة الملائكة، ولو نزعت نفسه إلى اتباع وساوس الشيطان انحط إلى الدرك الأسفل، ولحق بأنواع الحيوان، يفعل ما يشاء، غير مقيّد بوازع من الدين، ولا زمام من العقل، وصادق العزيمة،
٥٥ - ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم ذكر علة ذلك فقال: ﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ﴾؛ أي: لم يمنع أهل مكة من ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ بالله تعالى، ويتركوا الشرك الذي هم عليه ﴿إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى﴾ وهو الرسول الكريم الداعي، والقرآن العظيم الهادي ﴿وَ﴾ من أن ﴿يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ من أنواع الذّنوب ﴿إِلَّا﴾ انتظار ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: سنة الله، وعادته في الأمم الماضية، وهو الاستئصال لما كان تعنتهم مفضيًا إليه، جعلوا كأنهم منظرون له. ﴿أَوْ﴾ انتظار أن ﴿يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ﴾؛ أي: عذاب الآخرة حال كونه ﴿قُبُلًا﴾؛ أي: أنوعًا، جمع قبيل، أو عيانًا لهم؛ أي: معاينًا.
والمعنى: أي (١) وما منع هؤلاء المشركين من أن يؤمنوا بالله حين جاءتهم البينات الواضحة، والدّلالات الظاهرة، وعلموا صحّة ما تدعوهم إليه، وأن يستغفروا ربهم بالتوبة عما فرّط منهم من الذنوب، إلا تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم يطلبون أحد أمرين:
١ - إما عذاب الاستئصال بنحو قولهم: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾.
٢ - وإمّا أن تأتيهم بأنواع من العذاب، والبلاء يتلوا بعضها بعضًا حين
(١) المراغي.
وجودهم في الدنيا كقولهم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)﴾، وقولهم: ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
وقرأ الحسن (١)، والأعرج، والأعمش، وابن أبي ليلى، وخلف، وأيوب، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، والكوفيون بضم القاف والباء فاحتمل أن يكون بمعنى قبلًا، لأنّ أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة، وأن يكون جمع قبيل كسبيل، وسبل، أي: يجيئهم العذاب أنواعًا، وألوانًا، وقرأ باقي السبعة، ومجاهد، وعيسى بن عمر ﴿قِبلًا﴾ بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه عيانا، وقرأ أبو رجاء، والحسن أيضًا بضم القاف وسكون الباء وهو تخفيف ﴿قبل﴾ على لغة تميم، وذكر ابن قتيبة: أنه قرىء بفتحتين، وحكاه الزمخشري، وقال: مستقبلًا، وقرأ أبي بن كعب، وابن غزوان عن طلحة ﴿قَبِيلًا﴾ بفتح القاف، وباء مكسورة بعدها ياء على وزن فعيل.
فحاصل معنى الآية (٢): أنهم لا يؤمنون، ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة، أو معاينته.
٥٦ - ولما كان مجيء ذلك بيد الله وأمره مفوّض إليه لا إلى الرسول، نبه إلى ذلك بقوله: ﴿وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال ﴿إِلَّا مُبَشِّرِينَ﴾ للمؤمنين والمطيعين بالثواب، والدرجات ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ للكافرين، والعاصين بالعقاب، والدركات، فإنّ طريق الوصول إلى الأول والحذر عن الثاني مما لا يستقل به العقل، فكان من لطف الله ورحمته أن أرسل الرّسل لبيان ذلك.
والمعنى: أي (٣) وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله ورسوله بجزيل ثوابه في الآخرة، وينذروا أهل الكفر به وتكذيب رسله بعظيم
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
عقابه، وأليم عذابه، ولم نرسلهم ليقترح عليهم الظالمون من أممهم الآيات بعد ظهور المعجزات، ويطلبوا منهم ما لا قبل لهم به، ثم ذكر أن من شأن المشركين كثرة الجدل للرسول - ﷺ - فقال:
﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كلام مستأنف، فالوقف على ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾، أي: يجادلون ويخاصمون الرسل المبشرين والمنذرين ﴿بِالْباطِلِ﴾ حيث يقولون: ﴿ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ ﴿وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ ويقترحون آيات بعد ظهور المعجزات، تعنّتًا ﴿لِيُدْحِضُوا﴾؛ أي: ليزيلوا ﴿بِهِ﴾؛ أي: بالجدال ﴿الْحَقَّ﴾ الذي مع الرسل عن مقره ومركزه، ويبطلوه. مأخوذٌ من إدحاض القدم، وهو إزلاقها عن موطنها، والدحض الزلق؛ أي: ويجادل أولئك المشركون بالباطل كقولهم للنبي - ﷺ -: أخبرنا عن فتية ذهبوا أوّل الدهر ما شأنهم؟ وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مما يقصد منه التعنت وإزالة الحقّ الذي جاء به الرسل عليهم السلام، لا كشف حقيقة تفيد في دين أو دنيا.
وخلاصة ذلك: أن الرّسل ما أرسلوا للجدل والشغب بالباطل، بل بعثوا للبشارة والإنذار، وأنتم تجادلون بالباطل لتدحضوا الحق الذي جاءكم به رسولي.
﴿وَاتَّخَذُوا آياتِي﴾ الدالة على الوحدة والقدرة ونحوهما ﴿وَما أُنْذِرُوا﴾؛ أي:
خوّفوا به من العذاب ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: سخرية يعني موضع استهزاء (١) فيكون من باب الوصف بالمصدر مبالغة، يقرأ بالواو، وبالهمز سبعيتان، والمعنى؛ أي:
واتخذوا الحجج الّتي أحجّ بها عليهم، وكتابه الذي أنزل إليهم، والنذر التي أنذروا بها من العذاب والعقاب، استهزاء وسخريةً كقولهم: ﴿وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)﴾ وقولهم: ﴿لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا﴾.
٥٧ - ولما حكى عنهم خبيث أحوالهم، وصفهم بما يوجب الخزي والنّكال
(١) روح البيان.
415
فقال: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ استفهام إنكاري مضمن للتوبيخ؛ أي: من أشد ظلمًا ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ﴾؛ أي: وعظ بالقرآن الكريم فقوله: ﴿ذُكِّرَ﴾ قد روعي لفظ ﴿من﴾ في خمسة مواضع هذا أولها، وروعي معناها في خمسة أولها: قوله ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾. اهـ شيخنا. ﴿فَأَعْرَضَ عَنْها﴾؛ أي: فصرف عنها، ولم يتدبرها، ولم يتفكرها ﴿وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ من الكفر والمعاصي، وتغافل عنها، ولم يتفكر في عاقبتها، ولم ينظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء، ولما كان (١) الإنسان يباشر أكثر أعماله بيديه غلّبت الأعمال باليدين على الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو ممّا عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدين له: ما قدمت يداك، قال بعضهم: أحق الناس تسمية بالظلم من يرى الآيات فلا يعتبر بها، ويرى طريق الخير فيعرض عنها، ويرى مواقع الشر فيتّبعها، ولا يجتنب عنها.
وحاصل المعنى: أي لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات الله، ودل بها على سبيل الرشاد، وهدي بها إلى طريق النجاة، فأعرض عنها، ولم يتدبّرها، ولم يتّعظ بها، ونسي ما عمله من الكفر والمعاصي، أي: لم يتفكر في عواقبه، ومن ثم لم يتب منها، ولم ينب إلى ربه.
ثم علل ذلك الإعراض والنسيان بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾؛ أي: أغطية جمع كنان، كأزمّة وزمام كراهية ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾؛ أي: أن يفقهوا ما ذكر من آيات الله تعالى، وتذكير الضمير وتوحيده باعتبار معنى القرآن، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم كراهة أن يقفوا على كنه الآيات، أو المعنى: جعلنا على قلوبهم أغطية مانعة من أن يفهموا القرآن فيتبعوه، وتلك الأغطية ما ران على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم ﴿وَ﴾ جعلنا ﴿فِي آذانِهِمْ وَقْرًا﴾؛ أي: ثقلًا وصممًا يمنعهم عن استماعه، وفيه: إشارة إلى أن أهل اللّغو والهذيان لا يصيخون إلى القرآن.
والمعنى: أي إن (٢) ذلك الإعراض منهم بسبب أنّا جعلنا على قلوبهم أغطية
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
416
كراهة أن يفقهوا ما ذكّروا به، وجعلنا في آذانهم ثقلًا لئلّا يسمعوه، والمراد: أنه لا يدع شيئًا من الخير يصل إليها، فهي لا تعي شيئًا من الآيات إذا تليت عليها، ذلك أنهم فقدوا الاستعداد لقبول الرشاد بما دنّسوا به أنفسهم من قبيح الأفعال والأقوال، وبما اجترحوا من الكفر، والفسوق، والعصيان، فأصبح بينهم وبين سماع الحق حجاب غليظ، فلا ينفذ إلى السمع شيء مما يسمع سماع تدبّر واتّعاظ، ولا إلى القلب شيء مما يقال فيعيه وينتفع به، كما قال: ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾ وقال: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾ وقد تكرر هذا المعنى في غير موضع من الكتاب الكريم.
ثم ذكر سبحانه أثر هذا الختم على القلوب ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ﴾ يا محمد ﴿إِلَى الْهُدى﴾؛ أي: إلى طريق الفلاح، وهو دين الإسلام ﴿فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾؛ أي: لن يوجد منهم اهتداء أبدًا، أي: مدة التكليف كلها البتة إن دعوتهم إلى الهدى؛ لأنه محال منهم، وتقييده (١) بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم، أي: ومهما كررت أيها الرّسول من الدعوة إلى الحق حرصًا منك على نجاتهم، وخشية نزول البلاء بهم، فلن يستجيبوا لك، ولن يهتدوا بهديك، لأن الله قد كتب عليهم الضلال بسوء أعمالهم، وقبح طواياهم، فأنى يفيد النصح وتجدي العظة، ويرق القلب.
وخلاصة المعنى (٢): كأنه - ﷺ - حرصًا منه على هداهم قال: مالي أدعوهم رجاء أن تنكشف تلك الأكنّة، وتمزّق بيد الدعوة، فقيل له: وأنى لك ذلك ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ وقد جاءت هذه الآية في قومٍ علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة.
٥٨ - ثم بيّن أنّه سبحانه لا يعجل العقوبة لعباده على ما يجترحون من الفسوق والآثام رجاء أن ينيبوا إليه فقال: ﴿وَرَبُّكَ﴾ يا محمد مبتدأ، خبره ﴿الْغَفُورُ﴾؛ أي: البيلغ في المغفرة، وهي صيانة العبد عما استحقه من العقاب، للتجاوز عن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
417
ذنوبه من الغفر، وهو إلباس الشيء ما يصونه من الدنس ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ خبر بعد خبر؛ أي: الموصوف بالرحمة الواسعة، وهي الإنعام على الخلق، وإيراد (١) المغفرة على صيغة المبالغة دون الرّحمة للتنبيه على كثرة الذنوب، وأن المغفرة ترك المضار، وهو سبحانه قادر على ترك ما لا يتناهى من العذاب، وأما الرحمة: فهي إنعام، وإيجاد، ولا يدخل تحت الوجود إلّا ما يتناهى، وتقديم الوصف الأول؛ لأن التّخلية مقدم على التحلية. ﴿لَوْ يُؤاخِذُهُمْ﴾؛ أي: لو يريد مؤاخذتهم ﴿بِما كَسَبُوا﴾ من الذنوب ﴿لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ﴾؛ أي: عذاب الاستئصال في الدنيا من غير إمهال لاستيجاب أعمالهم لذلك، ولكنه لم يعجل، ولم يؤاخذ بغتة ﴿بَلْ﴾ جعل ﴿لَهُمُ﴾؛ أي: لعذابهم ﴿مَوْعِدٌ﴾؛ أي: أجل مقدر قيل: هو عذاب الآخرة، وقيل: يوم بدر، فالموعد هنا اسم زمان ﴿لَنْ يَجِدُوا﴾ ألبتة حين مجيء الموعد ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى؛ أي: من غيره سبحانه، وقيل: من دون العذاب ﴿مَوْئِلًا﴾؛ أي: منجى وملجأ، يقال: وأل أي نجا، ووأل إليه أي لجأ إليه، وفيه دلالة على أبلغ وجه على أن لا ملجأ لهم ولا منجى، فإن من يكون ملجأه العذاب.. كيف يرى وجه الخلاص والنجاة منه؟.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَوْئِلًا﴾ بسكون الواو، وهمزة بعدها مكسورة، وقرأ الزهري ﴿مولًا﴾ بتشديد الواو من غير همز، ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه ﴿مولا﴾ بكسر الواو خفيفة من غير همز، ولا ياء.
والمعنى: أي وربك أيها الرسول غفورٌ لذنوب عباده، ذو رحمة واسعة بهم إذ هم أنابوا إليه، ورجعوا إلى رحاب عفوه وجوده وكرمه، فيرحمهم واسع الرحمات، ويتجاوز لهم عن عظيم الخطيئات، ولو شاء أن يؤاخذهم بما اجترحوا من المعاصي، كإعراضهم عن آياته، ومناصبتهم العداء لرسله، ومجادلتهم بالباطل، لعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنزل بهم عذاب الاستئصال جزاء وفاقًا لقبيح أعمالهم، ومثل الآية قوله: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
418
عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ}، وقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ﴾ إلى نحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الباب، ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال، فقال: ﴿بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ﴾ ليس لهم منه محيص، ولا ملجأ يلتجئون إليه من عذابه.
٥٩ - ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف، فقال: ﴿وَتِلْكَ الْقُرى﴾؛ أي: قرى عاد وثمود وأضرابهما، وهي على تقدير المضاف؛ أي: وأهل تلك القرى مبتدأ خبره قوله تعالى: ﴿أَهْلَكْناهُمْ﴾ واستأصلناهم ﴿لَمَّا ظَلَمُوا﴾ وكفروا برسلهم؛ أي: وقت ظلمهم مثل ظلم أهل مكة بالتكذيب والجدال وأنواع المعاصي، و ﴿لَمَّا﴾ (١) إما حرف كما قال ابن عصفور، وإما ظرف استعمل للتعليل، وليس المراد به الوقت المعيّن الذي عملوا فيه الظلم، بل زمان من ابتداء الظلم إلى آخره ﴿وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ﴾؛ أي: لهلاكهم ﴿مَوْعِدًا﴾؛ أي: وقتًا معينًا لا يتأخرون عنه.
والمعنى: أي (٢) وتلك القرى من عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، أهلكناهم لما ظلموا، فكفروا بآياتنا، وجعلنا لهلاكهم ميقاتا، وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم، إذا جاء أهلكناهم، كما هي سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفي الأمم، فليعتبروا بهم، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وقرأ الجمهور (٣) ﴿لِمَهْلِكِهِمْ﴾ بضم الميم، وفتح اللام قال الزجاج: وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول، فيكون المعنى: وجعلنا لإهلاكهم، والثاني: أن يكون زمانا، فالمعنى لوقت هلاكهم، وقرأ حفص، وهارون عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، أي لإهلاكهم، وقرأ حفصٌ عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، فيكون زمانًا، أي: لوقت إهلاكهم.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط وزاد المسير.
419
الإعراب
﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ قلنا، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾ ﴿اسْجُدُوا﴾: فعل أمر، وفاعل ﴿لِآدَمَ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْنا﴾ ﴿فَسَجَدُوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿سجدوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قُلْنا﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء متصل أو منقطع ﴿إِبْلِيسَ﴾: منصوب على الاستثناء ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾. ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة مسوقة لبيان علة استثناء ﴿إِبْلِيسَ﴾ من الساجدين ﴿فَفَسَقَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿فسق﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبليس ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾.
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)﴾.
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري التعجبي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف ﴿تتخذونه﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول، ﴿وَذُرِّيَّتَهُ﴾: معطوف على ضمير المفعول، ويجوز أن يكون مفعولًا معه ﴿أَوْلِياءَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتخذ﴾ ﴿مِنْ دُونِي﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَوْلِياءَ﴾ أو متعلق بـ ﴿تتخذونه﴾، وجملة ﴿اتخذ﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، والتقدير: أبعد ما عرفتم فسقه عن أمر ربه تتبعونه، فتتخذونه، وذريته أولياء من دوني، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾ لأنه صفة على زنة المصادر كالقبول ﴿عَدُوٌّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿تتخذونه﴾ أو
420
من فاعله لأن فيها مصححًا لكل من الوجهين، وهو الرابط اهـ «سمين» ﴿بِئْسَ﴾: فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا مفسر بنكرة مذكورة بعده ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿بَدَلًا﴾ و ﴿بَدَلًا﴾: تمييز لفاعل ﴿بِئْسَ﴾ ويجوز أن يتعلّق ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ بمحذوف حال من ﴿بَدَلًا﴾ وأن يتعلق بفعل الذمّ والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا والتقدير: بئس البدل للظالمين بدلًا، والمخصوص بالذم إبليس وذريته، وجملة ﴿بِئْسَ﴾: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿ما﴾: نافية ﴿أَشْهَدْتُهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿خَلْقَ السَّماواتِ﴾: مفعول ثان ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السموات، والجملة مستأنفة ﴿وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف على ﴿خَلْقَ السَّماواتِ﴾ ﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿كُنْتُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾: خبره، ومضاف إليه، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة قوله ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ﴾ ﴿عَضُدًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿مُتَّخِذَ﴾ لأنه اسم فاعل من اتخذ مضاف إلى مفعوله الأول.
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد يوم يقول، والجملة المحذوفة مستأنفةٌ ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿نادُوا﴾: فعل وفاعل ﴿شُرَكائِيَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه ﴿الَّذِينَ﴾: نعت لـ ﴿شُرَكائِيَ﴾، وجملة ﴿نادُوا﴾: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾ ﴿زَعَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: زعمتموهم شركائي ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقُولُ﴾ لأن الماضي هنا بمعنى المستقبل؛ أي: يوم يقول نادوا شركائي فيدعونهم ﴿فَلَمْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿لم﴾ حرف جزم ونفي ﴿يَسْتَجِيبُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿فَدَعَوْهُمْ﴾ ﴿وَجَعَلْنا﴾: فعل وفاعل ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف في محل المفعول الثاني
421
لـ ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿مَوْبِقًا﴾: هو المفعول الأول له، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾.
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)﴾.
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿فَظَنُّوا﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿ظنوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿رَأَى﴾ ﴿أَنَّهُمْ مُواقِعُوها﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿ظن﴾ ﴿وَلَمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لَمْ﴾ ﴿يَجِدُوا﴾: جازم وفعل وفاعل ﴿عَنْها﴾: متعلق بـ ﴿مَصْرِفًا﴾ و ﴿مَصْرِفًا﴾: مفعول به لـ ﴿وجد﴾ لأنه بمعنى أصاب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿فَظَنُّوا﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿صَرَّفْنا﴾: فعل وفاعل ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾: متعلق به ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿صَرَّفْنا﴾ أيضًا ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾: جار ومجرور صفة لمحذوف وقع مفعولًا لـ ﴿صَرَّفْنا﴾ تقديره: مثلًا من جنس كل مثل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ﴾: خبره ﴿جَدَلًا﴾: تمييز محول عن اسم ﴿كانَ﴾ والأصل: وكان جدل الإنسان أكثر شيء، وجملة ﴿كَانَ﴾: معطوفة على جملة ﴿صَرَّفْنا﴾ على كونها جواب القسم.
﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (٥٥)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية ﴿ما﴾ نافية ﴿مَنَعَ النَّاسَ﴾: فعل ومفعول أول ﴿أَنْ يُؤْمِنُوا﴾: ناصب وفعل، وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا تقديره: وما منع الناس إيمانهم ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُوا﴾ ﴿جاءَهُمُ الْهُدى﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يُؤْمِنُوا﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾: ناصب وفعل ومفعول به
422
مقدم ﴿سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾: فاعل مؤخر، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿مَنَعَ﴾ ولكنه على تقدير مضاف، والتقدير: وما منع الناس إيمانهم، وقت مجيء الهدى إياهم، واستغفارهم ربهم، إلا إتيان سنة الأولين إياهم؛ أي: إلا انتظار إتيان سنة الأولين إياهم، ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ﴾: فعل ومفعول وفاعل معطوفة على ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ ﴿قُبُلًا﴾: حال من الضمير، أو من العذاب، والتقدير: أو إلا انتظار إتيان العذاب إياهم، ﴿قُبُلًا﴾: وجملة ﴿مَنَعَ﴾: مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿صَرَّفْنا﴾ وفي الكرخي: وإنما احتيج إلى حذف المضاف، إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعًا عن إيمانهم، فإن المانع يقارن الممنوع، وإتيان العذاب متأخرٌ عن عدم إيمانهم بمدة كثيرة اهـ.
﴿وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦)﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة على ﴿صَرَّفْنا﴾، أو استئنافية، ﴿ما﴾ نافية ﴿نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مُبَشِّرِينَ﴾: حال من ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾: معطوف على ﴿مُبَشِّرِينَ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة أو معطوفة على ﴿صَرَّفْنا﴾ ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يُجادِلُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾: فعل، وفاعل صلة الموصول ﴿بِالْباطِلِ﴾: متعلق بـ ﴿يُجادِلُ﴾ ﴿لِيُدْحِضُوا﴾: ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿يدحضوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يدحضوا﴾ ﴿الْحَقَّ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإدحاض الحق به، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُجادِلُ﴾ ﴿وَاتَّخَذُوا﴾: ﴿الواو﴾ حالية أو استئنافية ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل ﴿آياتِي﴾: مفعول أول ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿آياتِي﴾ ﴿أُنْذِرُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما أنذروا به، ويصح أن تكون ﴿ما﴾ مصدرية، والمصدر المؤول معطوف على ﴿آياتِي﴾، ﴿هُزُوًا﴾ مفعول ثاني لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾ وجملة ﴿اتَّخَذُوا﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿يجادل﴾ على
423
تقدير قد أو مستأنفة.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية من اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾ ﴿ذُكِّرَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول ﴿بِآياتِ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ذُكِّرَ﴾ ﴿فَأَعْرَضَ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿أعرض﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿عَنْها﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على ﴿ذُكِّرَ﴾ ﴿وَنَسِيَ﴾: فعل ماض، معطوف على ﴿أعرض﴾: وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿نَسِيَ﴾ ﴿قَدَّمَتْ يَداهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما قدمته يداه ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿جَعَلْنا﴾ خبره، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلْنا﴾ ﴿أَكِنَّةً﴾: مفعول أول له ﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، وذلك المقدر منصوب على أنه مفعول لأجله، والتقدير: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة كراهية فقههم بآيات الله ﴿وَفِي آذانِهِمْ﴾: معطوفة على ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ ﴿وَقْرًا﴾: معطوف على ﴿أَكِنَّةً﴾ ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿أَنْ﴾ حرف شرط ﴿تَدْعُهُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿أَنْ﴾ الشرطية، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿إِلَى الْهُدى﴾: متعلق به ﴿فَلَنْ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ ﴿لن﴾ ﴿يَهْتَدُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بلن ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل ﴿أَبَدًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَهْتَدُوا﴾، وجملة ﴿يَهْتَدُوا﴾: في محل الجزم بـ ﴿أَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿أَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنا﴾: عطف فعلية على اسمية.
424
﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)﴾.
﴿وَرَبُّكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿رَبُّكَ﴾: مبتدأ ﴿الْغَفُورُ﴾: خبر أول ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم ﴿يُؤاخِذُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محلّ لها من الإعراب، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُؤاخِذُهُمْ﴾ ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: بما كسبوه ﴿لَعَجَّلَ﴾: ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ ﴿عجل﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿لَهُمُ﴾ متعلق به ﴿الْعَذابَ﴾: مفعول به، والجملة جواب لولا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة، أو في محل الرفع خبر ثالث، لربك ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب وابتداء ﴿لَهُمُ﴾: خبر مقدم ﴿مَوْعِدٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة ﴿لَنْ يَجِدُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَوْئِلًا﴾ أو متعلق بـ ﴿يَجِدُوا﴾ و ﴿مَوْئِلًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿لَنْ يَجِدُوا﴾: في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُمُ﴾ أو في محل الرفع صفة لـ ﴿مَوْعِدٌ﴾ ﴿وَتِلْكَ﴾: مبتدأ ﴿الْقُرى﴾ بدل منه ﴿أَهْلَكْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين متعلق بـ ﴿أهلكنا﴾، وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾ الحينية ﴿وَجَعَلْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أهلكنا﴾ ﴿لِمَهْلِكِهِمْ﴾: حال من ﴿مَوْعِدًا﴾ أو متعلق به لأن ﴿جعل﴾ هنا بمعنى قدر، وعين ﴿مَوْعِدًا﴾: مفعول به لـ ﴿جَعَلْنا﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾؛ أي: خرج يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، قال الفراء: العرب تقول: فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. ﴿وَذُرِّيَّتَهُ﴾ والذرية: الأولاد، وبذلك قال جمع من العلماء، منهم: الضحّاك، والأعمش،
425
والشعبيُّ، وقيل: المراد بهم الأتباع من الشياطين. قال أبو نصر القشيري، وبالجملة: فإن الله تعالى أخبر بأن لإبليس أتباعًا، وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم، وهم أعداؤهم، ولم يثبت عندنا علم بكيفيّة التوالد منهم، وحدوث الذرية من إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح اهـ. ﴿وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ والعدو اسم جنس يطلق على الواحد، والكثير، كما قال ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧)﴾، وقال: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ ﴿عَضُدًا﴾، والعضد: أصله ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين كاليد، ونحوها، وهو المراد هنا، وفي «السمين»: والعضد من الإنسان، وغيره معروف، ويعبر به عن المعين، والناصر، يقال: فلان عضدي، ومنه ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾؛ أي: سنقوي نصرتك ومعونتك اهـ.
﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾، أي: فلم يجيبوا لهم فالسين والتاء زائدتان ﴿مَوْبِقًا﴾ الموبق مكان الوبوق؛ أي: الهلاك، وهو النار وفي «القاموس»: وبق كوعد ووجل، وورث وبوقا، وموبقًا هلك، وكمجلس المهلك والموعد، والمحبس واد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين، وأوبقه حبسه أو أهلكه وأوبقته ذنوبه: أهلكته اهـ. وفي أبي السعود: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ﴾، أي: بين الداعين والمدعوين ﴿مَوْبِقًا﴾ اسم مكان، أو مصدر من وبق وبوقًا كوثب وثوبًا أو وبق وبقا كفرح فرحًا، إذا هلك؛ أي: مهلكًا يشتركون فيه وهو النار ﴿مَصْرِفًا﴾ أي: مكانًا ينصرفون إليه. وفي «السمين» والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ أو زمان، وقال أبو البقاء: ﴿مَصْرِفًا﴾ أي: انصرافًا، ويجوز أن يكون مكانًا اهـ. ﴿جَدَلًا﴾؛ أي: خصومة في الباطل قال الفرزدق:
ما أنت بالحكم التُّرضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرّأي والجدل
﴿سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ الإهلاك بعذاب الاستئصال، ﴿قُبُلًا﴾ والقبل، بضمتين الأنواع والألوان واحدها قبيل كسبل وسبيل وفي «القاموس»: رأيته قبلا (بضمتين) وقَبْلا (بفتح فسكون) وقَبَلا (بفتحتين) وقِبَلًا (بكسر ففتح) وقُبَيلًا (بضم ففتح) وقبيلًا؛ أي: عيانًا، ومقابلةً، وقال الفراء: إن قبلا جمع قبيل؛ أي: متفرقا يتلو
426
بعضه بعضًا، وقيل: عيانًا، وقيل: فجأة ﴿لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾، والإدحاض الإزلاق يقال أدحض قدمه؛ أي: أزلقها، وأزلها من موضعها، والحجة الداحضة التي لا ثبات لها، والدحض الطين: لأنه يزلق فيه، ومكان دحض من هذا اهـ «سمين». وفي «المختار»: دحضت حجته بطلت، وبابه خضع وأدحضها الله، ودحضت رجله زلقت وبابه قطع، والإدحاض الإزلاق اهـ.
﴿أَكِنَّةً﴾؛ أي: أغطية جمع كنان كزمام، وأزمة، وأصله أكننة، كأزممة نقلت حركة النون إلى الكاف، قبلها، ثم أدغمت في التي بعدها اهـ شيخنا وفي «القاموس»: أنّه جمع كن أيضًا، ونصه: والكن - بالكسر - وقاء كل شيءٍ وستره كالكنة، والكنان بكسرهما، والجمع أكنان وأكنة اهـ ﴿وَقْرًا﴾؛ أي: ثقلا في السمع ﴿مَوْئِلًا﴾ والموئل المرجع، من وأل، يئل، وألًا، وؤولًا إذا رجع، وهو من التأويل، وقال الفراء: الموئل المنجا، يقال وألت نفسه، أي نجت، وقال ابن قتيبة: الموئل الملجأ يقال وأل فلان إلى فلان يئل، وألا، وؤولا إذا لجأ إليه، وهو هنا مصدر اهـ. وفي «المصباح»: وأل إلى الله يئل - من باب وعد - التجأ إليه، وباسم الفاعل سمي ومنه: وائل بن حجر، وهو صحابي، وسحبان بن وائل، ووأل رجع، وإلى الله الموئل؛ أي: المرجع اهـ. ﴿لِمَهْلِكِهِمْ﴾ بضم الميم اسم مصدر لأهلك لكنه على زنة اسم المفعول، وهو مضاف لمفعوله؛ أي: لإهلاكنا إياهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿اسْجُدُوا﴾ ﴿فَسَجَدُوا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿أَوْلِياءَ﴾ و ﴿عَدُوٌّ﴾ في قوله: ﴿أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ لأن الأولياء معناه الأصدقاء وإن كان مجازًا عن الأتباع.
427
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾ إذ المراد بالمضلين من انتفى عنهم إشهاد خلق السموات والأرض اهـ سمين.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿عَضُدًا﴾ لأنه حقيقة في العضو المعروف، ثمّ استعير للمعين والناصر.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿نادُوا شُرَكائِيَ﴾ لأنه أضافهم إليه على زعمهم تهكمًا بهم، وتقريعًا لهم.
ومنها: الطباق بين ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾، وبين ﴿الْحَقَّ﴾ ﴿والباطل﴾ في قوله: ﴿وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾؛ لأن اليدين مجاز عن النفس من إطلاق البعض، وإرادة الكل.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿الْهُدى﴾ و ﴿يَهْتَدُوا﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا﴾.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ﴾.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿وَتِلْكَ الْقُرى﴾؛ أي: أهل تلك القرى من إطلاق المحل، وإرادة الحال.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
428
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي - ﷺ -، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك في مجلس واحد، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة.. قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر، ليبين بها أن موسى مع كونه نبيًا صادقًا، أرسله الله إلى بني إسرائيل بشيرًا ونذيرًا، وهو كليم الله، أمر أن يذهب إلى الخضر، ليتعلم منه ما لم يعلمه، وفي ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر.
(١) المراغي.
429
مقدمة تشرح هذا القصص
١ - مَنْ موسى؟
أكثر العلماء على أنّ موسى الذي ذكر في هذه الآية، هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل، صاحب المعجزات الظاهرة، والشريعة الباهرة، ولهم على ذلك أدلة:
١ - أنه ما ذكر الله موسى في كتابه إلا أراد صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان شخصا آخر سمي بهذا الاسم، لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز، وتزيل الشبهة.
٢ - ما أخرجه البخاري، ومسلم في جماعة آخرين، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس - رضي الله عنهما -: إن نوفًا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله.
وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدثين والمؤرخين، أنّ موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب، وكان نبيًا قبل موسى بن عمران، ولهم على ذلك أدلة:
١ - أن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة، وكلّمه بلا واسطة، وحج خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء، يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره. وردّ هذا: بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض أشياء، فيحتاج في تعلمها إلى من دونه، وهذا مشاهد معلومٌ.
٢ - أن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر، وذهابه إلى التيه، توفي، ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته، ولو كانت هذه القصة معه، لاقتضت خروجه من التيه؛ لأنها لم تكن وهو في مصر بالاتفاق.
٣ - أنها لو كانت معه لاقتضت غيبته أيامًا، ولو كان كذلك.. لعلمها الكثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه، ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها، ولم
430
يكن شيء من ذلك، فإذًا لم تكن معه. وردّ هذا: بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أيامًا، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض، بل ذهب ليناجي ربه، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، فأوصى فتاه بكتمان ذلك، وعلى الجملة: فإنكارهم لا يؤبه به، وهو جائز عقلا، وقد أخبر به سبحانه رسوله.
٢ - من فتاه؟
فتى موسى: هو يوشع بن نون، بن أفراشيم، بن يوسف عليه السلام، وقد كان يخدمه ويتعلّم منه، والعرب تسمّي الخادم فتًى، لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوة، كما يطلقون على العبد فتى، وفي الحديث الصحيح: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي، ولا يقل عبدي وأمتي» وهذا من محاسن الآداب الشرعية.
٣ - من الخضر؟
الخضر: - بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد، وسكونها -: لقبٌ لصاحب موسى، واسمه بليا - بفتح الباء وسكون اللام - ابن ملكان، والأكثرون على أنه كان نبيًا، ولهم على ذلك أدلة:
١ - قوله: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا﴾، والرحمة النّبوّة بدليل قوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾.
٢ - قوله: ﴿وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾، وهذا يقتضي أنه علمه بلا واسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكلّ من كان كذلك كان نبيًا.
٣ - أنه قال له موسى: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾، والنبي لا يتعلّم من غير النبي.
٤ - أنه قال: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾؛ أي: بل قد فعلته بوحي من الله، وهذا دليل النبوة.
٤ - أين كان مجمع البحرين؟
431
مجمع البحرين: هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرًا واحدًا، وفيه رأيان:
١ - أنه ملتقى بحري فارس والروم، ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب.
٢ - أنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي عند طنجة، قاله محمد بن كعب القرظي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق أمام طنجة.
قال البقاعي: والله أعلم إنّه مجمع النيل، والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية، كما ورد في الحديث، فإنّ الطير لا يشرب من الماء الملح اهـ. وليس في الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن جاء في الخبر الصحيح شيء فذاك، وإلا فيجمل السكوت عنه.
قصة الخضر مع موسى عليهما السلام
واعلم: أنه قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة بروايات مختلفة، وأتم الروايات وأصحها، ما روى الشيخان عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم: أن موسى صاحب الخضر، ليس موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله. حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه، إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: إنّ لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى: يا رب، فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثمّ، فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثمّ انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في
432
البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه: ﴿آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا﴾ قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ قال: فكان للحوت سربًا، ولموسى وفتاه عجبًا، فقال موسى: ﴿ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾» قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، لا يصيب ماؤها ميتًا إلّا عاش، قال: وكان قد أكل منه، فلما قطر عليه الماء عاش، قال: فرجعا يقصان أثرهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، قال: أتيتك لتعلّمني مما علّمت رشدًا، قال: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ يا موسى، إني على علم من الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علّمك الله لا أعلمه، قال موسى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ فقال له الخضر: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلّموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوه بغير نولٍ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟! لقد جئت شيئًا إمرًا. قال ﴿: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)﴾ قال: وقال رسول الله - ﷺ -: «فكانت الأولى من موسى نسيانًا قال: وجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلّا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة، من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله، فقال موسى: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ {قالَ أَلَمْ أَقُلْ
433
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥)} قال: وهذه أشد من الأولى، ﴿قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦)﴾ ﴿فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِدارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ﴾ قال: مائل، فقال الخضر بيده هكذا، فأقامه فقال موسى: قوم أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيّفونا ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ ﴿قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)﴾ فقال رسول الله - ﷺ -: وددنا أن موسى كان صبر، حتى يقص الله علينا من خبرهما».
قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: ﴿وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا﴾ وكان يقرأ: ﴿وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين﴾، وبقية روايات سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيِّ بن كعب، هي موافقة لهذه الرواية في المعنى، وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها، فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذا روايات غير سعيد عنه.
التفسير وأوجه القراءة
٦٠ - والظرف في قوله: ﴿وَإِذْ قالَ﴾ متعلق بفعل محذوف تقديره؛ واذكر يا محمد لقومك قصّة إذ قال مُوسى بن عمران عليه السلام، ﴿لِفَتاهُ﴾ يوشع بن نون بن أفراشيم بن يوسف عليه السلام، لما فيها من العبرة. قيل (١): ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة: أن اليهود لما سألوا النبي - ﷺ - عن قصة أصحاب الكهف، وقالوا: إن أخبركم فهو نبي، وإلا فلا.. ذكر الله قصّة موسى والخضر، تنبيهًا على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالمًا بجميع القصص والأخبار، والمعنى: واذكر قصة وقت قول موسى لفتاه يوشع بن نون، وهو ابن أخت موسى، وكان من أكبر أصحابه، ولم يزل معه إلى أن مات، وخلفه في شريعته، وكان من أعظم بني إسرائيل بعد موسى، سمي فتاه إذ كان
(١) الشوكاني.
434
يخدمه، ويتبعه، ويتعلم منه، ويسمى الخادم والتلميذ فتى، وإن كان شيخا، وإليه يشير القول المشهور: تعلم يا فتى فالجهل عار.
﴿لا أَبْرَحُ﴾: من برح الناقص كزال يزال؛ أي: لا أزال أسير، فحذف الخبر اعتمادًا على قرينة الحال؛ إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر، ويدل عليه أيضًا ذكر السفر في قوله: ﴿لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا﴾ ﴿حَتَّى أَبْلُغَ﴾ وأصل ﴿مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: ملتقى بحر فارس والروم، مما يلي المشرق، وهو المكان الذي وعد الله موسى بلقاء الخضر فيه، والمراد (١) بملتقاهما هنا موضع يقرب التقاؤهما فيه مما يلي المشرق، ويُعطى لما يقرب من الشيء حكم ذلك الشيء ويعبر به عنه، وفيه إشارة إلى أن موسى والخضر عليهما السلام بحران لكثرة علمهما ﴿أَوْ﴾ حتى ﴿أَمْضِيَ﴾ وأسير ﴿حُقُبًا﴾؛ أي: زمانًا طويلًا، أتيقن معه فوات المطلب، أو أسير ثمانين سنةً، يعني حتى يقع، إما بلوغ المجمع، أو مضي الحقب؛ قال الجوهري: الحقب - بالضم - ثمانون سنةً، وقال النّحّاس: الذي يعرفه أهل اللغة: أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطًا وقومًا منهم غير محدود، وجمعه أحقاب، وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال: أنا، فأوحى الله إليه: أنّ أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين، كما مر في القصة، والمعنى؛ أي (٢): واذكر أيها الرسول قصة حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أزال أمشي حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين، أو أسير دهرًا طويلًا.
وخلاصة ذلك: أن الله تعالى أعلم موسى هذا العالم، وما أعلمه موضعه بعينه، فقال: لا أزال أمشي حتى يجتمع البحران، فيصيرا بحرًا واحدًا، أو أمضي دهرًا طويلًا حتى أجده.
ومجمل الأمر: أنّه وطّن نفسه على تحمل التعب الشديد، والعناء العظيم،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
435
في السفر مهما طال به الزمان. وقرأ (١) الضحاك، وعبد الله بن مسلم بن يسار مجمع بكسر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم بالكسر في كلا الحرفين، وهو شاذ، وقياسه: من يفعل بفتح الميم كقراءة الجمهور، والظاهر؛ أن مجمع البحرين، هو اسم مكان جمع البحرين، وقيل: مصدر، وقرأ الضحاك حقبا بإسكان القاف، والجمهور بضمها.
٦١ - قوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغا﴾ معطوف على محذوف تقديره: فذهبا يمشيان، فلما بلغا، أي: بلغ موسى وفتاه ﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِما﴾؛ أي: مجمع البحرين، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعًا، وهو الموضع الذي وعد موسى أن يجتمع فيه مع الخضر، وفيه الصّخرة، وفيه عين ماء الحياة، التي لا يصيب ماؤها ميتًا إلا حيي، وقد وقع أنّهما لمّا وضعا، أنّ حوتهما أصابه شيء من ماء الحياة فحيي، وقيل (٢): البين بمعنى الافتراق؛ أي: البحران المفترقان، يجتمعان هناك، وقيل: الضمير لموسى، والخضر؛ أي: وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما، ويكون البين: على هذا بمعنى الوصل؛ لأنه من الأضداد، والأول أولى، ﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾؛ أي: تركا حوتهما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب؛ أي: نسي موسى تذكر الحوت لصاحبه، وصاحبه نسي الإخبار بأمره، فلا يخالفه ما في حديث «الصحيحين» من إسناد النسيان إلى صاحبه، وفي «الأسئلة المقحمة»: كانا جميعًا قد زوّداه لسفرهما، فجاز إضافة ذلك إليهما؛ وإن كان الناسي أحدهما، وهو يوشع: يقال: خرج القوم، وحملوا معهم الزاد، وإنما حمله بعضهم، ﴿فَاتَّخَذَ﴾ الحوت. إن قلت: كيف أتى بالفاء، وذهاب الحوت مقدم على النسيان؟
قلت: الفاء فصيحة، ولا يلزم أن يكون المعطوف عليه الذي يفصح الفاء عنه معطوفًا على نسيا بالفاء، بل بالواو، والتقدير: وحيي الحوت، فسقط في البحر، فاتخذ ﴿سَبِيلَهُ﴾؛ أي: طريقه ﴿فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾؛ أي: مسلكًا مفعول ثان لـ ﴿اتخذ﴾، أي: اتخذ سبيلًا سربًا، والسرب: النفق، الذي يكون في الأرض،
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
للضب ونحوه من الحيوانات، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء عن الموضع الذي انسرب فيه الحوت ودخل فصار كالطاق فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه، وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض، قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر، فكان كالسرب،
٦٢ - فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة، وذهب الحوت فيه، انطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافرين من النصب والكلال، ولم يجدا النصب حتّى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر، فلهذا قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا جاوَزا﴾، أي: جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين الذي جعل موعدا للملاقاة، مع الخضر؛ أي: انطلقا بقيّة يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد، ألقي على موسى الجوع، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى مطلبه، فعند ذلك، ﴿قالَ﴾ موسى ﴿لِفَتاهُ﴾ يوشع ﴿آتِنا غَداءَنا﴾؛ أي: قرّب لنا ما نتغدى به، وهو الحوت كما ينبىء عنه الجواب، والغداء - بالفتح - هو ما يعد للأكل أول النهار، والعشاء ما يعد له آخره، والله ﴿لَقَدْ لَقِينا﴾ وذقنا ﴿مِنْ سَفَرِنا هذا﴾؛ أي: من هذا السفر الذي سرناه بعد مجاوزة مجمع البحرين، ﴿نَصَبًا﴾؛ أي: تعبًا وإعياء.
وقرأ الجمهور: ﴿نَصَبًا﴾ بفتحتين، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمتين، قال صاحب «اللوامح»: وهي إحدى اللغات الأربع التي فيها، ذكره في «البحر»، قال النواوي: إنما لحقه النصب والجوع، ليطلب موسى الغداء، فيتذكر به يوشع الحوت، وفي الحديث: «لم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره به»، وفي «الأسئلة المقحمة»: كيف (١) جاع موسى ونصب في سفرته هذه، وحين خرج إلى الميقات ثلاثين يومًا لم يجع ولم ينصب؟
قيل: لأن هذا السفر، كان سفر تأديب وطلب علم، واحتمال مشقة، وذلك السّفر كان إلى الله تعالى، انتهى، وجملة القسم في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء
٦٣ - ﴿قالَ﴾ فتى موسى لموسى: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ قال ابن ملك (٢): هو يجيىء بمعنى أخبرني، وهنا بمعنى التعجب، ومفعوله محذوف، وذلك المحذوف عامل في
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
437
قوله: ﴿إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ والتقدير: أرأيت ما دهاني أو نابني في ذلك الوقت والمكان، وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين، الذي هو الموعد.
والمعنى: عجبت مما أصابني حين وصلنا إلى الصخرة، ونزلنا عندها ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ أن أذكر لك أمره، وما شاهدت منه من الأمور العجيبة، نسب النسيان إلى نفسه؛ لأن موسى كان نائمًا، وأحس يوشع بخروجه من المكتل إلى البحر، ورآه قد اتخذ السرب، فأشفق أن يوقظ موسى، وقال: أؤخر إلى أن يستيقظ، ثم نسي أن يعلمه حتى ارتحلا، وجاوزا مجمع البحرين.
وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره، لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زادا لهما، وأمارة لوجدان مطلوبهما.
ثم اعتذر بإنساء الشيطان إياه، لأنه لو ذكر ذلك لموسى ما جاوز ذلك المكان، وما ناله النصب فقال: ﴿وَما أَنْسانِيهُ﴾؛ أي: وما أنساني الحوت ﴿إِلَّا الشَّيْطانُ﴾ بوسوسته الشاغلة عن ذلك، ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ بدل اشتمال من الضمير، وقرىء ﴿أن أذكر له﴾ كما في «البيضاوي»؛ أي: وما أنساني ذكر أمر الحوت لك، إلا الشيطان بوسوسته الشاغلة عن ذلك، ﴿وَاتَّخَذَ﴾ الحوت ﴿سَبِيلَهُ﴾ ومسلكه ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ اتخاذا ﴿عَجَبًا﴾، وهو كون مسلكه كالسرب، فلم يلتئم الماء، وجمد ما تحت الحوت منه حتى رجع موسى إليه، فرأى مسلكه، وكون الحوت قد مات، وأكل شقه الأيسر، ثمّ حيي بعد ذلك، وقرأ الجمهور ﴿وما أنسانيه﴾ بكسر الهاء على أصل حركة التقاء الساكنين ولمناسبة الياء وقرأ حفص بضم الهاء هنا وفي «الفتح» في قوله: ﴿عليه الله﴾ بناء على أن الغالب في حركة بناء هاء الضمير الضم، جبرًا لما فاته من الإعراب، وذلك في الوصل، وقد بسطنا البحث عن ذلك في سورة الفاتحة، فراجعه، وعبارة ابن الجوزي هنا: قرأ الكسائي ﴿أنسانيه﴾ بإمالة السين مع كسر الهاء، وقرأ ابن كثير ﴿أنسانيهي﴾ بإثبات ياء في الوصل بعد الهاء، وروي عن حفص ﴿أنسانيه إلا﴾ بضم الهاء في الوصل، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجبًا
438
للناس، فهو معطوف على جملة قوله؛ ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ وما بينهما اعتراض كما في «الجمل»: يعني أنّ قوله: ﴿وَما أَنْسانِيهُ﴾ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، سببهُ ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه، لبيان طرف آخر من أمر الحوت، كأنه قيل: حيي واضطرب، ووقع في البحر، واتّخذ سبيله فيه سبيلًا عجبًا.
قلت: ويحتمل كون جملة، ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ حالًا من الحوت في قوله: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾.
وفي «الخازن» (١): قيل: وأي شيء أعجب من حوت قد أكل منه دهرًا، ثم صار حيًا بعدما أكل بعضه.
وفي «القرطبي»: وموضع العجب: أن يكون حوت قد مات يؤكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك، وقال أبو شجاع في كتاب «الطبري»: أتيت به، فرأيته، فإذا هو شقّ حوت بعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء من اللحم، عليه قشرة رقيقة، تحتها الشوك اهـ.
وحاصل معنى الآية: أي (٢) قال له فتاه: أرأيت ما حدث لي حين لجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين، إني نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حييّ واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا، وذلك أن مسلكه كان كالطاق والسرب، وما أنساني ذكره إلّا الشيطان
٦٤ - ﴿قالَ﴾ موسى لفتاه: ﴿ذلِكَ﴾ الذي ذكرت من أمر الحوت، ﴿ما كُنَّا نَبْغِ﴾؛ أي: الأمر الذي كنا نبغيه ونطلبه لكونه أمارة الظفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر عليه السلام، أصله نبغيه، والضمير العائد إلى الموصول محذوف كما قدرناه.
وقرىء (٣): ﴿نبغ﴾ بغير ياء في الوصل، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبي
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
عمرو، والكسائي، ونافع، وأما الوقف.. فالأكثر فيه طرح الياء اتباعًا لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير، ﴿فَارْتَدَّا﴾؛ أي: رجع موسى وفتاه من ذلك الموضع، وهو (١) طرف نهر ينصب إلى البحر، ﴿عَلى آثارِهِما﴾؛ أي: على أعقابهما، وطريقهما الذي جاء منه، والآثار: الأعلام جمع أثر، وإثر، يقال: خرج في أثره، وفي إثره، أي: بعده وعقبه حالة كونهما يقصان ﴿قَصَصًا﴾ فهو مصدر فعل محذوف؛ أي: يتبعان آثارهما اتباعًا، ويتفحصان تفحصًا، حتى أتيا الصخرة التي حيي الحوت عندها، وسقط في البحر، واتخذ سبيله سربًا، قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملًا لا علامة فيها.
وخلاصة ما تقدم (٢): أنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام: أن موضع هذا العالم مجمع البحرين، وأن علامة وجوده في المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي في المكتل حيًا، فلما بلغا مجمع البحرين، اضطرب الحوت فيه، ووثب في الماء، وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر، وجعله كالطاق أو الكوة، حتى سرى الحوت فيه، فلما جاوز موسى، وفتاه المكان المعين، وهو الصخرة بسبب النسيان، وسارا كثيرًا، وتعبا وجاعا.. قال موسى لفتاه: ﴿آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا﴾، قال الفتى: أرأيت ما وقع لي من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة، فاتخذ سبيله في البحر اتخاذًا عجبًا، إذا انقلب من المكتل، وصار حيًا، وألقى نفسه في البحر على غفلة منّي، وإنّي نسيت أن أبلغك خبره، وما أنساني ذكره إلا الشيطان، قال موسى: ذلك الذي كنا نطلبه، لأنه أمارة الظفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر، فرجعا في طريقهما الأولى، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم
٦٥ - ﴿فَوَجَدا﴾؛ أي: فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها ﴿عَبْدًا﴾ التنكير للتفخيم، ﴿مِنْ عِبادِنا﴾ الإضافة للتشريف، وهو الخضر، وكان مسجّى بثوب أبيض، فسلّم عليه موسى، وعرّفه نفسه، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام، فقال: أنا موسى. قال:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
440
موسى بني إسرائيل، قال: نعم، والخضر (١) - بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد - لقبه، وسبب تلقيبه بذلك. ما جاء في «الصحيح» أنه عليه السلام قال: «إنّما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» الفروة وجه الأرض اليابسة، وقيل: النّبات اليابس المجتمع، والبيضاء الأرض الفارغة التي لا غرس فيها؛ لأنها تكون بيضاء، واهتزاز النبات تحركه وكنيته أبو العباس، واسمه بليا، - بباء موحدة مفتوحة، ثمّ لام ساكنة، ثمّ مثناة تحتية - ابن ملكان - بفتح الميم وإسكان اللام - ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد، بن سام، بن نوح عليه السلام، وكان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل، وهرب منه، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه، وكان أبوه من الرّوم، وأمه من فارس، واسمها ألها، وقيل: أمه رومية، وأبوه فارسي، والله أعلم.
وروي (٢): أنهما وجدا الخضر، وهو نائم على وجه الماء، وهو مغطى بثوب أبيض، أو أخضر، طرفه تحت رجليه، والآخر تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فرفع رأسه واستوى جالسا، وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي، ودلك علي. والصحيح أن الخضر نبيٌّ، وذهب الجمهور إلى أنه حيٌّ إلى يوم القيامة، لشربه من ماء الحياة. والله أعلم.
﴿آتَيْناهُ﴾؛ أي: أعطيناه ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: نبوة ووحيا كائنة ﴿مِنْ عِنْدِنا﴾ وفضلنا، كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصه بجناب الكبرياء، وقال الإمام مسلم: إن النبوة رحمةٌ كما في قوله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ ونحوه، ولكن لا يلزم أن تكون الرحمة نبوةً، فالرحمة هنا: هي طول العمر على قول من ذهب إلى عدم نبوته، وقيل: الرحمة: النعمة التي أنعم الله بها عليه ﴿وَعَلَّمْناهُ﴾؛ أي: علمنا ذلك العبد ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾؛ أي: من جنابنا، ﴿عِلْمًا﴾ خاصًّا حاصلًا له
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
441
بلا واسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وهو: ما علمه الله سبحانه من علم الغيوب والإخبار عنها بإذنه تعالى، على ما ذهب إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - أو علم الباطن.
قال السمرقندي (١): إنما قال: ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ مع أن العلوم كلها من لدنه، لأن بعضها بواسطة تعليم الخلق، فلا يسمى ذلك علمًا لدنيًا، بل العلم اللدني: هو الذي ينزله في القلب من غير واسطة أحد، ولا سبب مألوف من خارج، كما كان لعمر، وعليٍّ، ولكثير من أولياء الله المرتضين، الذين فاقوا بالشوق والزهد على كل من سواهم.
قال الزجاج (٢): وفيما فعل موسى، وهو من أجلّة الأنبياء، من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه، ولذا ورد: أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد.
٦٦ - ثم قص سبحانه ما دار بين موسى والخضر، بعد اجتماعهما فقال: ﴿قالَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك العبد ﴿مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ كلام (٣) مستأنف مبني على سؤال نشأ من السياق، كأنه قيل: فماذا جرى بينهما من الكلام بعد اجتماعهما؟ فقيل: قال له موسى؛ أي: للخضر عليهما السلام ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾؛ أي: هل أصحبك، والاستفهام فيه للاستئذان ﴿عَلى﴾ شرط ﴿أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾ وهو في موضع الحال من الكاف، وهو استئذان منه في اتباعه له على وجه التعليم، ويكفيك دليلا في شرف الاتباع. ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾؛ أي: على شرط أن تعلّمني علمًا ذا رشد وإصابة، أرشد به في ديني، كائنًا مما علمك الله سبحانه وتعالى، وفي هذا (٤) السؤال ملاطفة، ومبالغة في حسن الأدب؛ لأنه استأذنه أن يكون تابعًا له، على أن يعلمه مما علمه الله تعالى من العلم، قال الإمام: والآية تدل على أن موسى راعى
(١) بحر العلوم.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
أنواع الأدب، حيث جعل نفسه تبعا له بقوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ واستأذن في إثبات هذه التبعية، وأقرّ على نفسه بالجهل، وعلى أستاذه بالعلم، في قوله: ﴿عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾ و ﴿من﴾ في قوله: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ للتبعيض؛ أي: لا أطلب مساواتك في العلوم، وإنما أريد بعضًا من علومك، كالفقير يطلب من الغني جزءًا من ماله، وفي قوله: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ اعتراف بأنه أخذ من الله، والرشد: الوقوف على الخير، وإصابة الصّواب.
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو (١): ﴿من لدنا﴾ بتخفيف النون، وهي لغة في لدن، وهي الأصل: قيل: وقد أولع كثير ممن ينتمي إلى الصلاح ادّعاء هذا العلم، ويسمونه العلم اللدني، وأنه يلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك، حتى يخبر بأن من كان من أصحابه، هو من أهل الجنة، على سبيل القطع، وأن بعضهم يرى الخضر، وقرأ الحسن، والزهري، وأبو بحرية، وابن محيصن، وابن مناذر، ويعقوب، وأبو عبيد، واليزيدي ﴿رشدا﴾ بفتحتين، وهي قراءة أبي عمرو من السبعة، وقرأ باقي السبعة بضم الراء، وإسكان الشين، وهما لغتان: كالبخل والبخل. وفي الآية دليل على أن المتعلّم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن المفضول، وقد يأخذ الفاضل عن الفاضل إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب، ومعرفة البواطن.
٦٧ - ﴿قالَ﴾ الخضر لموسى: ﴿إِنَّكَ﴾ يا موسى ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾؛ أي: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك، فإني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمكه لا أعلمه أنا،
٦٨ - ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة، فقال: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ﴾ يا موسى، وتسكت ﴿عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾؛ أي: علمًا و ﴿خُبْرًا﴾ تمييز محول عن الفاعل؛ أي: لم يحط به خبرك؛ أي: علمك، والخبر: العلم
(١) البحر المحيط.
بالشيء، والخبير بالأمور: هو العالم بخفاياها، وبما يحتاج إلى الاختبار منها، والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي، وقرأ الحسن، وابن هرمز ﴿خبرا﴾ بضم الباء؛ أي: وكيف (١) تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور، ظواهرها منكرة، وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح العالم لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك، بل يبادر بالإنكار،
٦٩ - ﴿قالَ﴾ موسى للخضر ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿صابِرًا﴾ معك ملتزمًا طاعتك، ﴿وَ﴾ ستجدني ﴿لا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾؛ أي: لا أخالف أمرًا لك تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله وشرعه، فجملة: ﴿وَلا أَعْصِي﴾ معطوفة على ﴿صابِرًا﴾ فيكون التقييد بقوله: ﴿إِنْ شاءَ اللَّهُ﴾ شاملًا للصبر ونفي المعصية، كما أشرنا إليه في الحل؛ أي: ستجدني صابرًا وغير عاص؛ أي: لا أخالفك في شيء، ولا أترك أمرك فيما أمرتني به.
وتعليق الوعد بالمشيئة (٢): إما طلبًا لتوفيقه في الصبر ومعونته، أو تيمنًا به، أو علما منه بشدة الأمر وصعوبته، فإن الصّبر من مثله عند مشاهدة الفساد شديد جدّا، لا يكون إلا بتأييد الله تعالى.
وقيل: إنما استثنى؛ لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم من الصبر، وهذه عادة الصالحين، فإن قلت ما معنى قول موسى للخضر: ﴿سَتَجِدُنِي﴾ الآية، ولم يصبر، وقول إسماعيل عليه السلام: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فصبر؟ قال بعض العلماء: لأن موسى جاء صحبة الخضر بصورة التعلم، والمتعلم لا يصبر إذا رأى شيئًا حتى يفهمه، بل يعترض على أستاذه كما هو دأب المتعلمين، وإسماعيل لم يكن كذلك، بل كان في معرض التسليم والتفويض إلى الله تعالى، وكلاهما في مقامهما واقفان، وقيل: كان موسى في مقام الغيرة والحدة، والذبيح في مقام الحكم والصبر، قال بعض العارفين: قال الذبيح من الصابرين: أدخل نفسه في عداد الصابرين، فدخل، وموسى عليه السلام تفرد بنفسه، وقال: صابرًا، فخرج، والتفويض من التفرد أسلم وأوفق لتحصيل المقام ووصول المرام.
٧٠ - ﴿قالَ﴾ الخضر لموسى: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾؛ أي: فإن صحبتني لأخذ العلم، وهو إذن له في
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الاتباع، والفاء لتفريع الشرطية، على ما مر من التزامه للصبر والطاعة. ﴿فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ﴾ تشاهده من أفعالي وتنكره مني في نفسك؛ أي: تفاتحني بالسؤال عن حكمته، فضلا عن المناقشة والاعتراض، ﴿حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾؛ أي: حتى أبتدىء لك ببيانه، وفيه إيذان بأن كل ما صدر منه فله حكمة، وغاية حميدة ألبتة، وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والتابع مع المتبوع، وهذه (١) الجمل المعنونة بـ ﴿قال﴾ و ﴿قال﴾: مستأنفة، لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة، كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها.
والمعنى: أي قال له الخضر: إن سرت معي فلا تفاتحن في شيء أنكرته علي حتى أبتدىء بذكره، فأبين لك وجه صوابه، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك، فقبل موسى شرطه، رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
وقرأ ابن كثير (٢)، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي ﴿فَلا تَسْئَلْنِي﴾ ساكنة اللام مخففة النون، وقرأ نافع، وابن عامر، ﴿فلا تسألني﴾ مفتوحة اللام مشددة النون، قال أبو علي: كلهم بياء في الحالين. انتهى. وقرأ ابن عامر، في رواية الداجونيّ ﴿فلا تسألنّ عن شيء﴾ بتحريك اللام من غير ياء، والنون مكسورة مشددة.
٧١ - والفاء في قوله: ﴿فَانْطَلَقا﴾ فاء الفصيحة، كما في «روح البيان»؛ أي: ذهب موسى والخضر عليهما السلام على ساحل البحر، يطلبان السفينة، وأمّا يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل، أو كان معهما، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى، فاكتفى بذكر المتبوع من التابع، فالمقصود ذكر موسى والخضر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فحملوهم. ﴿حَتَّى إِذا رَكِبا﴾؛ أي: دخلا ﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ والألف واللام ﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهدٌ في
(١) الشوكاني.
(٢) زاد المسير والبحر المحيط.
445
سفينة مخصوصة، كما ذكره في «البحر»، وقال في «الإرشاد»: في سورة هود، معنى الركوب العلو على شيء له حركة، إما إراديةٌ كالحيوان، أو قسرية كالسفينة والعجلة، ونحوهما، فإذا استعمل في الأول، يوفر له حظ الأصل، فيقال: ركبت الفرس، وإن استعمل في الثاني، يلوح بمحلية المفعول بكلمة ﴿فِي﴾ فيقال: ركبت في السفينة، وفي «الجلالين»: ﴿حَتَّى إِذا رَكِبا﴾ البحر ﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ ﴿خَرَقَها﴾؛ أي: ثقبها (١) الخضر وشقها لمّا بلغوا اللج؛ أي: معظم الماء، حيث أخذ فأسًا، فقلع بغتة؛ أي: على غفلة من القوم من ألواحها لوحين مما يلي الماء، فجعل موسى يسد الخرق بثيابه، وأخذ الخضر قدحًا من زجاج، ورقع به خرق السفينة، أو سده بخرقة.
روي أنه لما خرق السّفينة لم يدخلها الماء.
وقال الإمام في «تفسيره»: والظاهر أنه خرق جدارها، لتكون ظاهرة العيب، ولا يتسارع إلى أهلها الغرق، فعند ذلك ﴿قالَ﴾ موسى منكرًا عليه: ﴿أَخَرَقْتَها﴾ يا خضر، والاستفهام فيه للإنكار المضمن للتوبيخ. ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَها﴾؛ أي: لتهلك ركابها بالماء، فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها، وهم قد أحسنوا بنا حيث حملونا بغير أجرة، وليس هذا جزاءهم، فاللام للعاقبة، وقيل: لام العلة.
وقرأ زيد بن علي (٢)، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني: ﴿ليغرق﴾ بفتح الياء والراء، وسكون الغين ﴿أهلها﴾ بالرفع، وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب، وإسكان الغين، وكسر الراء، ونصب لام أهلها، وقرأ الحسن، وأبو رجاء كذلك، إلا أنهما فتحا الغين، وشددا الراء ﴿لَقَدْ جِئْتَ﴾؛ أي: والله لقد: أتيت وفعلت يا خضر ﴿شَيْئًا إِمْرًا﴾؛ أي: شيئًا عجيبًا عظيمًا شديدًا على القوم، قال في «القاموس»: أمرٌ إمرٌ، منكرٌ عجب: يقال: أمر الأمر إذا كبر، والإمر
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
446
الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر: الداهية العظيمة.
٧٢ - ﴿قالَ﴾ الخضر لموسى: ﴿أَلَمْ أَقُلْ﴾ الاستفهام للتقرير؛ أي: قد قلت لك: ﴿إِنَّكَ﴾ يا موسى ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾؛ أي: لا تقدر صبرًا معي فيما ترى مما أفعل، وهو تذكير لما قاله من قبل متضمن للإنكار على عدم الوفاء بوعد
٧٣ - فـ ﴿قالَ﴾ موسى للخضر ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ﴾؛ أي: بنسياني وصيّتك بعدم السؤال عن حكمة الأفعال قبل البيان، فإنه لا مؤاخذة على الناسي فـ ﴿ما﴾ مصدرية، ويحتمل كونها موصولة؛ أي: لا تؤاخذني بالذي نسيته، وهو قول الخضر ﴿فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ وقيل (١): هذا من التورية، وإيهام خلاف المراد، فالمراد بما نسيه شيء آخر غير الوصية؛ لكنه أوهم أنها المنسية، ليتقي بها من الكذب مع التوصل إلى المقصود، وهو بسط عذره في الإنكار، ﴿وَلا تُرْهِقْنِي﴾؛ أي: لا تكلفني يا خضر، ولا تحملني ﴿مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾؛ أي: في أمر صحبتي إياك مشقة وشدة وصعوبةً، وقرأ أبو جعفر ﴿عسرا﴾ بضم السين حيث وقع، والمعنى: قال موسى (٢) للخضر: لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك، وترك الإنكار عليك، ولا تكلفني مشقّةً، ولا تضيّق عليّ أمري؛ ولا تعسر عليّ متابعتك، بل يسرها بالإغضاء، وترك المناقشة، فإني أريد صحبتك، ولا سبيل لي إليها إلا بذلك.
٧٤ - والفاء في قوله: ﴿فَانْطَلَقا﴾ فصيحة، والانطلاق: الذهاب؛ أي: فقبل الخضر عذر موسى عليه السلام، فخرجا من السفينة، فانطلقا ﴿حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا﴾ بين قريتين لم يبلغ الحنث يلعب مع عشر صبيان، كان وضيء الوجه اسمه جيشور - بالجيم، أو بالخاء، أو بالحاء - أو حينون، قال السهيلي: فأخذه الخضر من بينهم ﴿فَقَتَلَهُ﴾ عطف (٣) على الشرط، بالفاء، أي: فقتله عقيب اللقاء؛ أي: فقتله بذبحه مضطجعًا بالسكين، أو بفتل عنقه، وقيل: معنى قتله أشار بأصابعه الثلاث: الإبهام، والسبابة، والوسطى، وقلع رأسه، كما قال رسول الله - ﷺ -: «ثم خرجا من السفينة، فبينما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع
(١) شهاب.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
447
الغلمان، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله» كذا في «الصحيحين» برواية أبي بن كعب - رضي الله عنه -.
أي (١): فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلامًا يلعب مع لداته وأترابه، فقتله، ولم يبين القرآن كيف قتله، أحز رأسه، أم ضرب رأسه بالجدار، أم بطريق آخر؟ وعلينا أن لا نهتم بذلك، إذ لو علم الله فيه خيرًا لنا.. لذكره، ولكن بيّنته السنة كما مر آنفًا. ﴿قالَ﴾ موسى للخضر، والجملة جواب الشرط ﴿أَقَتَلْتَ﴾ يا خضر، والاستفهام فيه للتوبيخ المضمن للإنكار ﴿نَفْسًا زَكِيَّةً﴾؛ أي: طاهرة من الذنوب، لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث؛ أي: الإثم والذنب، وهو قول الأكثرين، ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾؛ أي: بغير قتل نفس محرمة، يعني لم تقتل نفسًا فيقتص منها، وخص (٢) هذا من بين مبيحات القتل، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان؛ لأنه أقرب إلى الوقوع، بالنظر إلى حال الغلام، وقرأ ابن عباس (٣)، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وابن محيصن، وحميد، والزهري، ونافع، واليزيدي، وابن مسلم، وزيد، وابن بكير، عن يعقوب، والتمار، عن رويس عنه، وأبو عبيد، وابن جبير، الأنطاكي وابن كثير، وأبو عمرو ﴿زَاكِيَةً﴾ بالألف، وقرأ زيد بن علي، والحسن، والجحدري، وابن عامر، والكوفيون ﴿زكية﴾ بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية، لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة، وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا، وكفرًا» متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
والله ﴿لَقَدْ جِئْتَ﴾، وفعلت يا خضر ﴿شَيْئًا نُكْرًا﴾؛ أي: شيئًا منكرًا، أنكر من الأول؛ لأن ذلك كان خرقًا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه،
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
448
وقيل: الآمر: أعظم من المنكر، لأن قتل نفس واحدة، أهون من إغراق أهل السفينة.
والمعنى: أي (١) والله لقد فعلت شيئًا تنكره العقول، وتنفر منه النفوس، وأتى هنا بقوله: ﴿نُكْرًا﴾ وهناك بقوله: ﴿إِمْرًا﴾ لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة؛ لأن ذلك لم يكن إهلاكًا لنفس، إذ ربما لا يحصل الغرق، وفي هذا إتلاف النفس قطعًا فكان أنكر.
وقرأ الجمهور: ﴿نُكْرًا﴾ بإسكان الكاف، وقرأ نافع، وأبو بكر، وابن ذكوان، وأبو جعفر، وشيبة، وطلحة، ويعقوب، وأبو حاتم، بضم الكاف حيث كان منصوبًا.
قال جماعة من القراء (٢): نصف القرآن عند قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾.
الإعراب
﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ قال موسى لفتاه، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿قالَ مُوسى﴾ فعل وفاعل ﴿لِفَتاهُ﴾ متعلق به، والجملة في محل الجر، مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿لا أَبْرَحُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لا﴾ نافية ﴿أَبْرَحُ﴾ فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير يعود على موسى، والخبر محذوف تقديره: لا أبرح ماشيًا حتى أبلغ، ويحتمل إنها تامة، فلا تستدعي خبرًا، بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير، والطلب، ولا أفارقه، وجملة ﴿لا أَبْرَحُ﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿حَتَّى﴾ حتى حرف جرّ
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
449
وغاية، بمعنى إلى كما قاله أبو البقاء، أو بمعنى لام التعليل، كما قاله غيره ﴿أَبْلُغَ﴾ منصوب بأن مضمرةً وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على موسى، ﴿مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾ مفعول به، ﴿أَوْ﴾ حرف عطف ﴿أَمْضِيَ﴾ معطوف على ﴿أَبْلُغَ﴾ وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿حُقُبًا﴾ ظرف زمان متعلق بـ ﴿أَمْضِيَ﴾، وجملة ﴿أَبْلُغَ﴾ صلة ﴿أن﴾ المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَبْرَحُ﴾، والتقدير: لا أبرح ماشيًا إلى بلوغي مجمع البحرين، أو مضيّي حقبًا.
﴿فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف، تقديره: فذهبا يمشيان، فلما بلغا الخ ﴿لما﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿بَلَغا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محلّ لها من الإعراب، ﴿مَجْمَعَ﴾ مفعول به، وهو مضاف ﴿بَيْنِهِما﴾ ظرف أضيف إليه على الاتساع، أو بمعنى الوصل؛ أي: مجمع وصلهما ﴿نَسِيا حُوتَهُما﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محلّ لها من الإعراب. وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة، ﴿فَاتَّخَذَ﴾ الفاء عاطفة ﴿اتخذ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحوت ﴿سَبِيلَهُ﴾ مفعول أول ﴿سَرَبًا﴾ مفعول ثان ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ متعلق بمحذوف حال من ﴿سَرَبًا﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿نسي﴾.
﴿فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبًا (٦٢)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿لما﴾ حرف شرط، ﴿جاوَزا﴾ فعل وفاعل ﴿قالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿لِفَتاهُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قالَ﴾، وجملة ﴿قالَ﴾ جواب لما، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على محذوف تقديره: فذهبا يمشيان، ﴿فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ...﴾ إلخ ﴿آتِنا غَداءَنا﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿آتِنا غَداءَنا﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿لَقِينا﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْ سَفَرِنا﴾ متعلق به،
450
﴿هذا﴾ بدل من ﴿سَفَرِنا﴾ أو صفة له ﴿نَصَبًا﴾ مفعول به لـ ﴿لَقِينا﴾ والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة مستأنفة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ فعل وفاعل يتعدى إلى مفعولين، وهو بمعنى أخبرني، ومفعولاه محذوف، والتقدير: رأيت أمرنا ما عاقبته، وفي «البيضاوي» أرأيت ما دهاني؛ أي: أخبرني ما دهاني، ونابني إذ أوينا إلى الصخرة، وجملة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمعمول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ المحذوف ﴿أَوَيْنا﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية، في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذْ﴾ الظرفية ﴿فَإِنِّي﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية لتعليل الدهشة التي اعترتهما مما نابهما، ﴿إني﴾ ناصب واسمه ﴿نَسِيتُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، ﴿الْحُوتَ﴾: مفعول به منصوب والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَما أَنْسانِيهُ﴾ ﴿الواو﴾ اعتراضية ﴿ما﴾ نافية ﴿أنساني﴾ فعل ماض والنون للوقاية، والياء ضمير المتكلم مفعول به، و ﴿الهاء﴾ ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل النصب مفعول ثان، مبني على الضم، على قراءة حفص، رجوعًا إلى الأصل في حركة بناء هاء الضمير، وإن كان الكسر مناسبًا للياء، المذكورة قبله، كما هو قراءة الجمهور إِلَّا أداة استثناء مفرّغ ﴿الشَّيْطانُ﴾ فاعل ﴿أنساني﴾، والجملة الفعلية معترضة لاعتراضها بين المعطوف، والمعطوف عليه، ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ ناصب وفعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الفتى، والجملة الفعلية مع أن المصدرية، في تأويل مصدر منصوب على كونه بدل اشتمال من ﴿الهاء﴾ في ﴿نَسِيتُ﴾ والتقدير: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. ﴿وَاتَّخَذَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿اتَّخَذَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الحوت ﴿سَبِيلَهُ﴾ مفعول أول ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ إما متعلق بـ ﴿اتَّخَذَ﴾ أو حال من ﴿عَجَبًا﴾ ﴿عَجَبًا﴾ مفعول ثان، وجملة
451
﴿اتَّخَذَ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله، ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ﴿ذلِكَ﴾ مبتدأ ﴿ما﴾ اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص، واسمه ﴿نَبْغِ﴾ فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، المحذوفة، اتباعًا لرسم المصحف العثماني، لأنه فعل معتل بالياء، وفاعله ضمير يعود على موسى، وفتاه وجملة ﴿نَبْغِ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لما الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما كنا نبغيه ﴿فَارْتَدَّا﴾ الفاء عاطفة ﴿ارتدا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلى آثارِهِما﴾ متعلق بـ ﴿ارتدا﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿قالَ﴾ ﴿قَصَصًا﴾ مفعول مطلق معنوي لـ ﴿ارتدا﴾ أو مفعول مطلق لمحذوف تقديره: يقصان قصصًا، والجملة المحذوفة حال من فاعل ﴿ارتدا﴾؛ أي: ارتدا حالة كونهما يقصان قصصًا، ﴿فَوَجَدا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿وجدا عبدا﴾ فعل وفاعل ومفعول به، لأن وجد هنا بمعنى: أصاب يتعدى إلى مفعول واحد ﴿مِنْ عِبادِنا﴾ صفة أولى لـ ﴿عَبْدًا﴾، وجملة ﴿وجدا﴾ معطوفة على ارتدا ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً﴾ فعل وفاعل ومفعولان ﴿مِنْ عِنْدِنا﴾ صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، وجملة ﴿آتَيْناهُ﴾ في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿عَبْدًا﴾ ﴿وَعَلَّمْناهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْناهُ﴾ ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ حال من ﴿عِلْمًا﴾ لأنه صفة نكرةٍ قدمت عليها، ﴿عِلْمًا﴾ مفعول ثانٍ لـ ﴿علمنا﴾ لا مفعول مطلق، ولو كان مفعولًا مطلقًا.. لقال تعليمًا، لأن فعله من باب فعل الرباعي.
﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض ﴿لَهُ﴾ متعلق به، ﴿مُوسى﴾ فاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾ حرف
452
استفهام واستئذان ﴿أَتَّبِعُكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿عَلى﴾ حرف جر ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ﴿تُعَلِّمَنِ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، و ﴿النون﴾ للوقاية، و ﴿الياء﴾ مفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلى﴾ تقديره: على تعليمك إياي، الجار والمجرور حال من ﴿الكاف﴾ في ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾، أي: أتبعك حال كونك معلّمًا لي ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُعَلِّمَنِ﴾ أو حال من ﴿رُشْدًا﴾ ﴿عُلِّمْتَ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: مما علمته ﴿رُشْدًا﴾، مفعول ثان لـ ﴿تُعَلِّمَنِ﴾.
﴿قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ﴾ ناصب وفعل منصوب، وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿مَعِيَ﴾ ظرف ومضاف إليه، حال من فاعل ﴿تَسْتَطِيعَ﴾؛ أي: حال كونك معي ﴿صَبْرًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿تَسْتَطِيعَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَكَيْفَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام للاستفهام الإنكاري التعجبي في محل نصب على التشبيه بالحال، من فاعل ﴿تَصْبِرُ﴾، ﴿تَصْبِرُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على موسى، ﴿عَلى ما﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَصْبِرُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّكَ﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾ ﴿لَمْ تُحِطْ﴾ جازم وفعل مجزوم، وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تُحِطْ﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد ضمير به ﴿خُبْرًا﴾ مفعول مطلق معنوي لـ ﴿تُحِطْ﴾ لأن معنى ﴿لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ لم تخبر، وأعربها الزمخشري تمييزًا محولًا عن الفاعل، أي: لم يحط به خبرك، وليس ببعيد.
﴿قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠)﴾.
453
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة ﴿سَتَجِدُنِي﴾ فعل، ومفعول أول، والنون للوقاية، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قالَ﴾، وجملة ﴿إِنْ شاءَ اللَّهُ﴾ معترضة ﴿صابِرًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿تجدني﴾ ﴿وَلا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾ نافية ﴿أَعْصِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور حال من ﴿أَمْرًا﴾ ﴿أَمْرًا﴾ مفعول به، وجملة ﴿لا أَعْصِي﴾ في محل النصب معطوفة على ﴿صابِرًا﴾، والتقدير: ستجدني صابرًا غير عاص لك، أو معطوفة على قوله: ﴿سَتَجِدُنِي﴾ كونها مقول ﴿قالَ﴾. ﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة، ﴿فَإِنِ﴾ ﴿الفاء﴾ لتفريع الجملة الشرطية، على ما مر من التزامه للصبر، والطاعة، كما في «روح البيان» ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿اتَّبَعْتَنِي﴾ فعل وفاعل ونون وقاية، ومفعول به في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿فَلا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية، ﴿لا﴾ ناهية جازمة، ﴿تَسْئَلْنِي﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على موسى، والنون للوقاية، والياء مفعول به ﴿عَنْ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿تَسْئَلْنِي﴾، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿أُحْدِثَ﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرةً بعد حتى، وفاعله ضمير يعود على الخضر؛ ﴿لَكَ﴾ متعلق بـ ﴿أُحْدِثَ﴾ ﴿مِنْهُ﴾ حال من ﴿ذِكْرًا﴾ ﴿ذِكْرًا﴾ مفعول به، ولا بد من تقدير صفة محذوفة بعد شيء؛ أي: عن شيء خفي عليك سره، وغبي أمره، وجملة ﴿أُحْدِثَ﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره: إلى إحداثي لك منه ﴿ذِكْرًا﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَسْئَلْنِي﴾.
﴿فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها﴾.
﴿فَانْطَلَقا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة كما في «روح البيان»؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما تقاولا، وأردت بيان حالهما بعد ذلك، فأقول لك: ﴿انطلقا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب، إذا
454
المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿رَكِبا﴾ فعل وفاعل ﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿خَرَقَها﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، وجملة ﴿إِذا﴾ من فعل شرطها، وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، والتقدير: فانطلق إلى خرقه السفينة وقت ركوبهما إياها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿انطلقا﴾.
﴿قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفةٌ ﴿أَخَرَقْتَها﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَخَرَقْتَها﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿خَرَقْتَها﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿لِتُغْرِقَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿تغرق أهلها﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرةً، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لغرقك أهلها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿خَرَقْتَها﴾ ﴿لَقَدْ﴾ جئت ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿جِئْتَ شَيْئًا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿إِمْرًا﴾ صفة لـ ﴿شَيْئًا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة مستأنفة ﴿أَلَمْ أَقُلْ...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري ﴿لَمْ أَقُلْ﴾ جازم ومجزوم وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ﴾ ناصب ومنصوب وفاعله ضمير يعود على موسى ﴿مَعِيَ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿تَسْتَطِيعَ﴾ ﴿صَبْرًا﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾
455
وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿أَقُلْ﴾ ﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُؤاخِذْنِي﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والنون للوقاية الياء مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿بِما﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر ﴿ما﴾ مصدرية، أو موصولة أو موصوفة ﴿نَسِيتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، أو الموصولة ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بنسياني أو بالذي نسيته، أو بشيء، نسيته، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تُؤاخِذْنِي﴾ ﴿وَلا تُرْهِقْنِي﴾ جازم وفعل مجزوم ونون وقاية ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة ﴿لا تُؤاخِذْنِي﴾ ﴿مِنْ أَمْرِي﴾ حال من ﴿عُسْرًا﴾ ﴿عُسْرًا﴾ مفعول به.
﴿فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلامًا فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)﴾.
﴿فَانْطَلَقا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما تقاولا، وأردت بيان ما جرى بينهما بعد ذلك.. فأقول لك: ﴿انطلقا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل في الزمان ﴿لَقِيا غُلامًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿فَقَتَلَهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿قتله﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَقِيا﴾ ﴿قالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة جواب ﴿إِذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ في محل جر بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره: فانطلقا إلى قول موسى، وقت لقائهما غلامًا فقتله إياه الجار والمجرور متعلق بـ ﴿انطلقا﴾ ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَقَتَلْتَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿قَتَلْتَ﴾ ﴿نَفْسًا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿زَكِيَّةً﴾ صفة لـ ﴿نَفْسًا﴾، والجملة في محل النصب
456
مقول ﴿قالَ﴾ ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَتَلْتَ﴾ أو في محل نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول؛ أي: قتلته ظالمًا، أو مظلومًا ﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿جِئْتَ شَيْئًا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿نُكْرًا﴾ صفة ﴿شَيْئًا﴾ والجملة جواب القسم لا محلّ لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾: اسم مكان من جمع يجمع من باب فَتَح فالقياس في مصدره: ومكانه وزمانه الفتح، وهو ملتقى بحر الروم، وبحر فارس، مما يلي المشرق، وملتقاهما عند البحر المحيط، وقيل: ملتقى البحرين هو بحر الأردن، وبحر القلزم، وقيل: غير ذلك مما هو مذكور في المطوّلات ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾؛ أي: زمنًا طويلًا، والحقب ثمانون سنة وقيل: سبعون سنة، وقيل: سنة واحدة. بلغة قريش، ويجمع على أحقاب كعنق، وأعناق، وفي معناه الحقبة بالكسر، وبالضم، وتجمع الأولى: على حقب كقربة، وقرب، والثانية: على حقب كغرفة وغرف ذكره في «الفتوحات». ﴿سَرَبًا﴾؛ أي: مسلكا كالسرب، وهو: النفق، فصار الماء عليه كالقنطرة، وفي معاجم اللغة: السرب: بفتحتين الحفيرة، تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء، ويقال: طريق سرب؛ أي: يتتابع فيه الناس. ﴿غَداءَنا﴾، والغداء الطعام الذي يؤكل أولَ النهار، والمراد به هنا الحوت ﴿نَصَبًا﴾؛ أي: تعبًا وإعياءً ﴿إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾؛ أي: التجأنا، والصخرة معروفة، وهي حجر كبير ﴿نبغى﴾؛ أي: نطلب ﴿فَارْتَدَّا﴾؛ أي: رجعا ﴿عَلى آثارِهِما﴾؛ أي: على طريقهما الذي جاءا منه ﴿قَصَصًا﴾؛ أي: اتباعَا من قولهم أثره إذا تبعه ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ ﴿مِنْ عِنْدِنا﴾ لدن، وهي بمعنى عند، فتكون اسمًا لزمان الحضور ومكانه، كما أن عند كذلك إلا أن لدن تختص بستة أمور:
١ - أنها ملازمة لمبدأ الغايات الزمانية والمكانية، و ﴿عند﴾ غير ملازمة فمن ثم يتعاقبان في نحو: جئت من عنده من لدنه، وفي الآية الكريمة.
٢ - أن الغالب في لدن استعمالها مجرورة بمن، ونصبها قليل، وجر عند بمن دون جر لدن في الكثرة.
457
٣ - أنها مبنية على السكون بخلاف عند فإنها معربةٌ دائمًا.
٤ - جواز إضافتها إلى الجمل.
٥ - جواز إفرادها قبل غدوة.
٦ - أنها لا تقع إلّا فضلة بخلاف عند، فإنها قد تقع عمدة، وقال بعضهم: إنّ ﴿عند﴾ في لسان العرب لما ظهر، ولدن، لما بطن، فيكون المراد بالرحمة: ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعًا بأنّه خاص.
﴿فِي السَّفِينَةِ﴾ السفينة معروفة، وتجمع على سفن، وعلى سفائن، وتحذف التاء فيقال: سفينة، وسفينٌ، وهو مما بينه وبين مفرده تاء التأنيث، وهو كثير في المخلوق، نادر في المصنوع نحو عمامة وعمام، وقال الشاعر:
متى تأته تأت لُجَّ بحرٍ تقاذف في غواربه السَّفين
ذكره في «البحر المحيط».
﴿الرشد﴾ - بضم فسكون وبفتحتين - إصابة الخير والإحاطة بالشيء معرفته معرفة تامة، والخبر المعرفة ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: بيانًا ﴿إِمْرًا﴾ بكسر الهمزة؛ أي: منكرًا من أمر الأمر إذا أنكر أو من أمر بمعنى كثر ﴿لا تُرْهِقْنِي﴾؛ أي: لا تحملني ﴿عُسْرًا﴾، والعسر: ضد اليسر، وهو المشقة ﴿زَكِيَّةً﴾؛ أي: طاهرة من الذنوب، ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾؛ أي: بغير حق قصاص لك عليها، ﴿نُكْرًا﴾ والنكر: المنكر الذي تنكره العقول، وتنفر منه النفوس.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: إطلاق الفتى على الخادم في قوله: ﴿لِفَتاهُ﴾ لأنه حقيقة في الرجل الشابّ، أو العبد.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿لا أَبْرَحُ﴾ لأن فيه حذف خبر برح الناقصة اعتمادًا على قرينة الحال؛ تقديره: لا أبرح سائرًا.
458
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ لأن مضى حقيقة في نفوذ الأمر، فاستعارهُ للسير والذهاب.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ لأن الرؤية هنا مستعارة للمعرفة التامة، والمشاهدة الكاملة، فهي استعارة تصريحية تبعية؛ لأنها أجريت في فعل، وقد حذف المشبه، وأقيم المشبه به مقامه، شبهت المعرفة التامة، بالرؤية، فاستعير اسم المشبه به الذي هو الرؤية للمشبه الذي هو المعرفة التامة، ثم اشتق من الرؤية بمعنى المعرفة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ بمعنى أعرفت، وشاهدت على طريق الاستعارة، التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿سَرَبًا﴾ لأنه حقيقة في الحفيرة تحت الأرض، ثمّ استعير لمسلك الحوت في الماء، بجامع النفوذ في كل.
ومنها: الطباق بين ﴿نَسِيتُ﴾ ﴿واذكر﴾.
ومنها: التنكير للتفخيم في قوله: ﴿فَوَجَدا عَبْدًا﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿مِنْ عِبادِنا﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾، والتقريري في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (١).
(١) وكان الفراغ من تسويد هذا المجلد السادس عشر - ولله الحمد - أوائل ليلة الخميس الليلة الخامسة من شهر صفر من شهور سنة اثنتي عشرة وأربع مئة وألف من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية، ويتلوه المجلد السابع عشر بحول الله تعالى وقوته، وتيسيره نسأل الله تعالى الإعانة لنا على التمام والإكمال، كما أعان على الابتداء والافتتاح، والحمد لله أولًا وآخرًا حمدًا يوافي نعمه ويكافىء مزيده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
قد تم تصحيحه بيد مؤلفه في تاريخ ١٣/ ٥/ ١٤١٦ هـ.
459
شعر
460
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد السابع عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١٧]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الموفق سبيل الرشاد، من أرادَ به خيرًا من العباد، والصلاة والسلام على من جمع علوم الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء الخامس عشر من القرآن بعون الله وتيسيره.. أردفته بتفسير الجزء السادس عشر منه، راجيًا منه سبحانه الإعانة والتوفيق، لما هو المعنى عنده، وأن يكون ذخيرة لي عنده، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول وقولي هذا:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)﴾
5
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ...﴾ الآيات، لا يزال الكلام متصلًا في قصص موسى والخضر عليهما السلام، ولكن لوحظ في تقسيم القرآن إلى أجزائه الثلاثين جانب اللفظ، لا جانب المعنى، ولذا تجد نهاية جزء، وبداية آخر، حيث لا يزال الكلام في معنى واحد لم يتم بعد كما هنا.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) الأمور التي رآها موسى عليه السلام، حين صاحب الخضر وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه، مرة بعد أخرى، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرًا، وكان من جراء ذلك أنه فارقه، ولم يستطع صحبته.. أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره، مما ينكر ظاهره، وقد أظهر الله تعالى الخضر على حكمة باطنة، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، يحكمون بناء على الظواهر، كما قال النبي - ﷺ -: "نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر".
وأحكام هذا العالِم مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر، وهذه لا يُطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده، ومن ثم اعترض موسى على ما رأى، ولم يعلم ما آتاه الله تعالى الخضر من قوة عقلية، قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور، ويطّلع على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى في معرفة الشرائع والأحكام بناءً على الظواهر ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء والإطلاع على أسرارها الكامنة.
التفسير وأوجه القراءة
٧٥ - ﴿قَالَ﴾ الخضر ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ يا موسى - والهمزة (٢) فيه للاستفهام التقريري،
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
المضمَّن للتوبيخ لموسى على ترك الوصية، زاد هنا كلمة (لك) على سابقه، لتشديد العتاب على رفض الوصية لأنه قد نقض العهد مرتين -: إنك لن تستطيع معي صبرًا، ووسمه بقلة الصبر والثبات حين تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار، مع عدم الارعواء بالتذكير أول مرة، قال البغوي: روي أن يوشع كان يقول لموسى: اذكر العهد الذي أنت عليه، وفي البخاري قال: "يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما"
٧٦ - ﴿قَالَ﴾ موسى للخضر ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا﴾ أي بعد (١) هذه المرة أو بعد هذه النفس المقتولة فلا تصاحبني ولا ترافقني أي لا تجعلني صاحبًا لك ولا تكن مرافقًا معي، بل أبعدني عنك وإن سألتُ صحبتك، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره، ولذا قال: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾؛ أي: قد وجدت (٢) عذرًا من قبلي حين خالفتك مرة بعد أخرى، أو (٣) قد بلغت الغاية التي تُعذر بسببها في فراقي، إذ خالفتك مرة بعد أخرى، وهذا كلام نادم أشد الندم، قد اضطره الحال إلى الاعتراف، وسلوك سبيل الإنصاف، وفي "البحر" ومعنى: ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾؛ أي: قد اعتذرت إليَّ وبلغت إليَّ العذر. انتهى.
والعذر (٤): بضمتين وبسكون الذال في الأصل تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه، بأن يقول: لم أفعل أو فعلت لأجل كذا، أو فعلت فلا أعود، وهذا الثالث التوبة، فكل توبة عذر بلا عكس، والاعتذار عبارة عن هو أثر الذنب، وأصله القطع، يقال: اعتذرت إليه؛ أي: قطعت ما في قلبه من الموجدة.
وقرأ الجمهور (٥): ﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾ من باب المفاعلة، وقرأ عيسى ويعقوب: ﴿فلا تصحبني﴾ مضارع صحب، وقرأ عيسي أيضًا: ﴿فلا تصحبني﴾ بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب.
ورواها سهل عن أبي عمرو؛ أي: فلا تصحبني علمك، وقدره بعضهم:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
(٥) البحر المحيط.
فلا تصحبني إياك، وبعضم نفسك، وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وتشديد النون، وقرأ الجمور: ﴿مِنْ لَدُنِّي﴾ بإدغام نون لدن في نون الوقاية، التي اتصلت بياء المتكلم، وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون، وهي نون لدن، اتصلت بياء المتكلم، وهو القياس؛ لأن أصل الأسماء إذا أضيفت إلى ياء التكلم.. لم تلحق بها نون الوقاية، نحو: كلامي وفرسي، وأشمَّ شعبة الضم في الدال.
ورُوي عن عاصم سكون الدال، قال ابن مجاهد: وهو غلط، وكأنه يعني من جهة الرواية.
وأما من جهة اللغة: فليست بغلط؛ لأن من لغاتها (لَدْ) بفتح اللام وسكون الدال.
وقرأ عيسى: ﴿عذرًا﴾ بضم الذال، ورويت عن أبي عمرو وعن أبيّ ﴿عذري﴾ بكسر الراء مضافًا إلى ياء المتكلم.
٧٧ - ﴿فَانْطَلَقَا﴾؛ أي: انطلق الخضر وموسى عليهما السلام، بعد المرتين الأوليين، بعدما شرطا ذلك ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا﴾ ووصلا ﴿أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ بعد (١) الغروب في ليلة باردة، وهي أنطاكية، بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، قاعدة العواصم، وهي ذات أعين وسور عظيم من صخر داخله خمسة أجبل، دورها إثنا عشر ميلاً، كما في "القاموس" وقيل: برقة، وقيل: قرية من قر أذربيجان، وقيل: قرية من قرى الروم ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾؛ أي: طلبا من أهلها أن يطعموهما ضيافة، قيل: لم يسألاهم، ولكن نزولهما عندهم كالسؤال منهم، ووضع (٢) الظاهر موضع المضمر، لزيادة التأكيد، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة، لما فيه من الكلفة، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية، بإظهارهم، فقوله: ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ جواب إذا، أو صفة لقرية كما سيأتي، وفي الأسئلة المقحمة (٣) استطعم موسى هاهنا فلم يطعم، وحين سقى
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
8
لبنات شعيب ما استطعم وقد أُطعم، حيث قال: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ والجواب هاهنا: إن الحرمان كان بسبب المعارضة، بحيث لم يكشف بعلم الله بحاله، بل جنح إلى الاعتماد على مخلوق، فأراد السكوت بحادث مسبوق، وهناك جرى على توكله ولم يُدخل وساطة عن المخلوقين بينه وبين ربه، بل حط الرحل ببابه ﴿فَأَبَوْا﴾؛ أي: فامتنعوا؛ أي: أبى أهل القرية ﴿أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾؛ أي: أبوا من تضييفهما وتطعيمهما، وفي قوله: ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ دون أن يقول: فأبوا أن يطعموهما، زيادة تشنيع عليهم، ووصفهم بالدناءة والشح، فإن الكريم قد يردّ السائل المستطعم ولا يعاب، ولكن لا يرد الغريب المستضيف إلا لئيم، ألا تراهم يقولون في أهاجييهم: فلان يطرد الضيف؟ وعن قتادة: شر القرى التي لا يضاف فيها، ولا يُعرف لابن السبيل حقه.
وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان: بكسر الهضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول: ميَّل وأمال، ذكره في "البحر".
﴿فَوَجَدَا﴾؛ أي: فوجد الخضر وموسى عليهما السلام ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك القرية ﴿جِدَارًا﴾؛ أي: حائطاً مائلاً ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾؛ أي: يقرب أن يسقط فمسحه بيده ﴿فَأَقَامَهُ﴾؛ أي: أقام الخضر الجدار بالإشارة بيده فاستقام، أو هدمه ثم بناه، وعن ابن عباس: دفعه بيده فاستقام، وهذا أليق بحال الأنبياء، وكان ارتفاع الجدار مئة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، وامتداده على وجه الأرض خمس مئة ذراع، والمعنى: فوجدا في القرية حائطاً مائلاً، مشرفاً على السقوط، فمسحه بيده، فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته ﴿قَالَ﴾ له موسى لضرورة الحاجة إلى الطعام ﴿لَوْ شِئْتَ﴾ يا خضر أخذ الأجرة ﴿لَاتَّخَذْتَ﴾؛ أي: لأخذت ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على عملك هذا ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: أجرة حتى تشتري بها طعامًا؛ أي: كان (١) ينبغي لك أن تأخذ منهم جعلًا على عملك، لتقصيرهم فينا
(١) المراح.
9
مع حاجتنا، وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة، فهو من فضول العمل.
قال بعضهم (١): لما قال له: ﴿لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾.. قال الخضر: أليس كنت في البحر ولم تغرق بغير سفينة، ولما قال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾.. قال أليس قتلت القبطي بغير ذنب، ولما قال: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ قال: أنسيت سقياك لبنات شعيب من غير أجرة، وهذا من باب لطائف المحاورات.
قال بعضهم (٢): إن قلت: كيف جوز موسى طلب الأجر بمقابلة العمل الذي حصل بمجرد الإشارة، وهو من طريق خرق العادة الذي لا مؤنة فيه؟
قلت: لم ينظر إلى جانب الأسباب، وإنما نظر إلى النفع العائد إلى جانب أصحاب الجدار، ألا ترى أنه جوز أخذ الأجرة بمقابلة الرقية بسورة الفاتحة ونحوها، وهو ليس من قبيل طلب الأجر على الدعوة، فإنه لا يجوز للنبي أن يطلب أجرًا من قومه على دعوته وإرشاده، كما أشير إليه في مواضع كثيرة من القرآن.
والمعنى (٣): أي قال موسى ذلك تحريضًا للخضر، وحثًا له على أخذ الجعل - الأجر - على فعله، لإنفاقه في ثمن الطعام والشراب وسائر مهام المعيشة.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿يَنْقَضَّ﴾، أي: يسقط، من انقضاض الطائر، ووزنه انفعل، نحو انجر، قال صاحب "اللوامح": من الفضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض، إذا كان فيه حصى، فعلى هذا يريد أن ينقض؛ أي: يتفتت فيصير حصاة. انتهى. وقيل: وزنه افعل كاحمر، وقرأ أبي ﴿أَنْ يَنْقَضَّ﴾ بضم الياء وفتح القاف والضاد، مبنيًا للمفعول من نقضته، وهي مروية عن النبي - ﷺ -.
وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش ﴿يُرِيدُ لِيَنْقَضَّ﴾ كذلك، إلا أنه منصوب
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
10
بأن المقدرة بعد اللام، وقرأ علي، وعكرمة، وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي، وخليد بن سعد، ويحيى بن يعمر: ﴿ينقاص﴾ بالصاد غير معجمة مع الألف، ووزنه ينفعل اللازم، من قاص يقيص، إذا كسرته.. تقول: قصصته فانقاص، وقرأ الزهري ﴿ينقاض﴾ بألف وضاد معجمة، وهو من قولهم: قضته - بضاد معجمة - فانقاض؛ أي: هدمته فانهدم، قال أبو علي: والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة. انتهى.
وعبارة ابن الجوزي هنا: وقرأ أبيُّ بن كعب وأبو رجاء: ﴿ينقاض﴾ بألف وضاد معجمة، وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وأبو عثمان النهدي ﴿ينقآص﴾ بألف ومدة وصاد غير معجمة، وكله بلا تشديد، قال الزجاج: فمعنى ينقض يسقط بسرعة، وينقاص غير معجمة ينشق طولًا، يقال: انقاصت سنه، إذا انشقت قال ابن مقسم: انقاصت سنه وانقاضت بالصاد والضاد على معنى واحد. انتهى.
وقوله: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ قرأ (١) ابن كثير وأبو عمرو ﴿لتخذت﴾ بكسر الخاء، غير أن أبا عمرو كان يدغم الذال، وابن كثير يظهرها.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ﴿لاتخذت﴾ وكلهم أدغموا إلا حفصاً عن عاصم فإنه لم يدغم مثل ابن كثير.
قال الزجاج: يقال: تخذ يتخذ، في معنى اتخذ يتخد، نحو تبع واتبع، افتعل من تخذ، وأدغم التاء في التاء.
٧٨ - ﴿قَالَ﴾ الخضر لموسى: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾؛ أي: هذا الوقت وقت الفراق بيننا، أو هذا الاعتراض الثالث منك سبب الفراق الموعود بقوله ﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾، أو هذا (٢) الاعتراض المتوالي منك، هو سبب الفراق بيني وبينك، بحسب ما شرطت على نفسك، وإنما كان هذا الأخير سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر، فكان موسى فيهما معذورًا دون هذا، إذ لا ينكر الإحسان إلى المسيء بل يحمد، وإضافة الفراق إلى البين من إضافة المصدر إلى الظرف
(١) زاد المسير.
(٢) المراغي.
اتساعًا؛ أي: هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر، هو المفرق بيننا، وتكريره (١) بيني وبينك وعدوله عن بيننا، لمعنى التأكيد، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ بالتنوين والجمهور على الإضافة.
﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾؛ أي: سأخبرك، السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة، وقرأ ابن وثاب: ﴿سأنبيك﴾ بإخلاص الياء من غير همز ﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾؛ أي: بعاقبة ومآل ما لم تقدر يا موسى صبرًا عليه من الأفعال الثلاثة التي صدرت مني وهي خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، ومألها خلاص السفينة من اليد الغاصبة، وخلاص أبوي الغلام من شره، مع الفوز ببدل حسن، واستخراج اليتيمين للكنز.
وفي قوله (٢): ﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ دون أن يقول بتأويل ما فعلت، أو بتأويل ما رأيت ونحوهما، تعريض به عليه السلام وعتاب له.
قال بعضهم (٣): ومن هذا أخذ قول بعض الكبار: من قال لأستاذه: لِمَ.. لم يفلح، والتأويل رجع الشيء إلى مآله، والمراد به هاهنا المال والعاقبة، إذ هو المنبأ به دون التأويل ثم شرع في البيان له.
٧٩ - فقال: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ التي خرقتها ﴿فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ أعني لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة، وكانوا عشرة إخوة، خمسة منهم زمنى ﴿يَعْمَلُونَ﴾ بها أي يكتسبون بها ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ مؤاجرة، فإسناد العمل إلى الكل بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين.
﴿فَأَرَدْتُ﴾ بحكم الله وإرادته ﴿أَنْ أَعِيبَهَا﴾؛ أي: أن أجعلها ذات عيب بالخرق ﴿و﴾ الحال أنه كان ورائهم؛ أي: أمامهم كقوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ فوراء من الأضداد ﴿مَلِكٌ﴾ كافر اسمه جلندي بن كرر، ملك غسان وقيل: اسمه هدد بن بدد، كان بجزيرة الأندلس ببلدة قرطبة، وأول فساد ظهر في البحر كان
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
12
ظلمه على ما ذكره أبو الليث، وأول فساد ظاهر في البر قتل قابيل هابيل على ما ذكره أيضًا عند تصير قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ الآية، ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ صحيحة جيدة، وهو من قبيل إيجاز الحذف ﴿غَصْبًا﴾ من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، أو على الحالية، بمعنى غاصبًا، والغصب أخذ الشيء ظلمًا وقهرًا، ويسمى المغصوب غصبًا، والمعنى؛ أي (١): أما فعلي ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم ضعفاء، لا يقدرون على دفع الظلمة، وكانوا يؤاجرونها ويكتسبون قوتهم منها، فأردت أن أعيبها بالخرق الذي خرقته، وكان قدامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة للاستعمال غصبًا، ويدع كل معيبة، فعبتها لأرده عنها، وخلاصة ذلك: أن السفينة كانت لقوم مساكين عجزة، يكتسبون بها، فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافون ويعجزون عن دفعه، من غصب ملك قدامهم، من عادته غصسب السفن الصالحة؛ أي: إنما خرقتها لأن الملك إذا راها منخرقة.. تركها ورقعها أهلها فانتفعوا بها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَسَاكِينَ﴾ بتخفيف السين جمع مسكين، وقرأ علي - كرم الله وجهه - بتشديد السين، جمع مسَّاك جمع تصحيح، فقيل: المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة، وكل منهم يصلح لذلك، وقرأ الجمهور: ﴿وَرَاءَهُمْ﴾ وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه أمامهم في المكان، لأنهم كانوا يسيرون إلى بلده، وقرأ (٣) أبي بن كعب وابن مسعود ﴿وكان أمامهم ملك﴾.
قال الزمخشري: فإن قلت قوله: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلِمَ قدَّم عليه؟.
قلتُ: النية به التأخير وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها لمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
13
٨٠ - ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ﴾ الذي قتلته، وهر جيسور، وكان كافرًا.. ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ﴾ من عظماء تلك القرية، اسم أبيه كازبرا، واسم أمه سهوى، كما في "التعريف" ﴿مُؤْمِنَيْنِ﴾؛ أي: مقرين بتوحيد الله تعالى ﴿فَخَشِينَا﴾؛ أي: خفنا من ﴿أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾؛ أي: يكلفهما ﴿طُغْيَانًا﴾؛ أي: ضلالةً ﴿وَكُفْرًا﴾؛ أي: إشراكًا بالله ويتبعان له لمحبتهما إياه، فيكفران بعد الإيمان، ويضلان بعد الهداية، وإنما خشي الخضر من ذلك لأن الله تعالى أعلمه بحال الولد، أنه طُبع؛ أي: خلق كافرًا
٨١ - ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾؛ أي: أن يبدل الأبوين، ويعوضهما ويرزقهما ولدًا ﴿خَيْرًا مِنْهُ﴾؛ أي: من المقتول ﴿زَكَاةً﴾؛ أي: دينًا وصلاحًا وطهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة ﴿وَأَقْرَبَ﴾ منه ﴿رُحْمًا﴾؛ أي: رحمةً وبرًا بوالديه.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أبدلهما الله تعالى جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت سبعين نبيًا.
قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي.. لكان فيه هلاكهما، فليرض المرء بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن خير له من قضائه فيما يحب.
وفي الحديث "لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له" وقال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.
وخلاصة ذلك: أنا قد علمنا أنه لو أدرك وبلغ.. لدعا أبويه إلى الكفر فأجاباه ودخلا معه في دينه لفرط حبهما له، وإنما قال أولًا فأردت، وثانيًا فأردنا، وثالثًا فأراد ربك؛ لأن العرب تؤثر اختلاف الكلام على اتفاقه، مع تساوي المعاني؛ لأنه أعذب على الألسن، وأحسن موقعاً في الأسماع، ذكره في "زاد المسير" وقرأ ابن عباس (١): ﴿وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين﴾ وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري ﴿فكان أبواه مؤمنان﴾ فخرجه الزمخشري، وابن عطية، وأبو الفضلى الرازي، على أن في ﴿كان﴾ ضمير الشأن والجملة في
(١) البحر المحيط.
موضع نصب خبر لكان، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنًا خبرًا لكان، على لغة بني الحرث بن كعب، فيكون منصوبًا. وفي قراءة أُبيَّ ﴿فخاف ربك أن يرهقهما﴾ والمعنى: فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيَّره، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين، الذين أهمهم الأمر وتكلموا، وقرأ (١) نافع، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وشيبة، وحميد، والأعمش، وابن جرير ﴿أن يبدلهما﴾ بالتشديد هنا، وبالتحريم والقلم، وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن ﴿أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾ بالتخفيف.
﴿وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾؛ أي: أوصل للرحم، وأبر للوالدين، والرحم والرحمة: العطف، مصدران كالكثر والكثرة، وقال رؤبة بن الحجاج:
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمِ لَنَا إِلَّا مَا ألْهَمتَنَا إِلْهَامَا
وَإِنِّي إِذَا مَا خَتَمْتُ خَتْمًا أَقُوْلُ اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
لَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا يُوَافِيْ وَلَكَ الشُكْرُ شُكْرًا يُكَافِيْ
يَا مُنْزِلَ الرَّحْمِ عَلَى إِدْريْسَا وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيْسَا
وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه؛ لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة، وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر في رواية، ويعقوب، وأبو حاتم ﴿رُحُمًا﴾ بضم الحاء، وقرأ ابن عباس ﴿رحمًا﴾ بفتح الراء وكسر الحاء،
٨٢ - ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ﴾ الذي سويته وأصلحته ﴿فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ﴾ اسمهما (٢) أصرم وصريم ابنا كاشح، وكان سياحًا تقيًا، واسم أمهما دنيا، فيما ذكره النقاش كائنين ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ وهي القرية المذكورة سابقًا، وهي أنطاكية، وفيه (٣) جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة وعبر عنها بالقرية فيما تقدم تحقيراً لها، لخسة أهلها، وعبر عنها هنا بالمدينة تعظيمًا لها، من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وعلى أبيهما اهـ شيخنا ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ﴾؛ أي: تحت ذلك الجدار ﴿كَنْزٌ لَهُمَا﴾؛ أي: مال مدفون لهما، من ذهب وفضة ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا﴾ أي: أبو الغلامين ﴿صَالِحًا﴾ كان الناس يضعون الودائع عند ذلك الصالح، فيردها إليهم سالمة، فحفظا بصلاح أبيهما في مالهما وأنفسهما، قال جعفر بن محمد: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، فيكون الذي دفن ذلك الكنز جدهما السابع ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ يا موسى بالأمر بتسوية
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
15
الجدار؛ أي: مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفًا له.
﴿أَنْ يَبْلُغَا﴾؛ أي: أن يبلغ الغلامان ﴿أَشُدَّهُمَا﴾؛ أي: حلمهما وكمال رأيهما، وتمام نموهما ﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا﴾ من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولولا أني أقمته لانقضّ وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال، وتنميته وضاع بالكلية ﴿رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ لهما مصدر في موقع الحال؛ أي: مرحومين من قبله تعالى، أو علة لإرادة، فإن إرادة الخير رحمة، أو مصدر لمحذوف؛ أي: رحمهما الله سبحانه بذلك رحمة ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ﴾؛ أي: وما فعلت ما رأيته يا موسى من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار ﴿عَنْ أَمْرِي﴾؛ أي: عن رأيي واجتهادي، وإنما فعلته بأمر الله، ووحيه، وهذا إيضاح لما أشكل على موسى، وتمهيد للعذر في فعله المنكر ظاهرًا، والمعنى؛ أي: وما فعلت الذي رأيتني أفعله، عن رأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلته عن أمر الله إياي به، لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس، وإراقة دمائهم، لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك، وأوضحت وجوهها لك، ﴿تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾؛ أي: مآل وعاقبة الأمر الذي لم تطق ولم تقدر الصبر والسكوت عليه، لكون ظاهره من المنكر؛ أي: لم تستطع الصبر عليه، فحذف (١) التاء للتخفيف، فإن استطاع واسطاع بمعنى واحد، وهو إنجاز للتنبئة الموعودة.
وخلاصة المسائل الثلاثة (٢): أنه حين يتعارض ضرران، يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى، فلو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك، وفاتت منافعها بتاتًا، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه في دينهم ودنياهم، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررًا من سقوطه، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
16
ومجمل الأمر في ذلك: أن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها في أنفسها، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن، وتجريد النفس، وتطهير القلب عن العلائق الجسمية، ومن ثم قال في صفة علمه ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة، بعثه الله إلى هذا العالِم ليعلمه أن كمال المعرفة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر، إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليها في الواقع.
روي (١): أن موسى لما أراد أن يفارقه.. قال له الخضر: لو صبرت.. لأتيت على ألف عجيب، كل عجيب أعجب مما رأيت، فبكى موسى على فراقه وقال له: أوصني يا نبي الله، قال لا تطلب العلم لتحدث به الناس، واطلبه لتعمل به، وذلك لأن من لم يعمل بعلمه، فلا فائدة في تحديثه، بل نفعه يعود إلى غيره.
ومن وصايا الخضر: كن نفاعًا، ولا تكن ضرارًا، وكن بشاشًا، ولا تكن عبوسًا غضابًا، وإياك واللجاجة، ولا تمشِ في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجيب، ولا تعير المذنبين خطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك ما دمت حيًا، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، واجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن لخوف من أمَّنك، ولا تيأس من الأمن من خوفك، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك، فقال له موسى: قد أبلغت في الوصية، فأتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه، فقال له الخضر: أوصني أنت يا موسى، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا تحب الدنيا، فإنها تخرجك من الإيمان وتدخلك في الكفر.
فقال له الخضر: قد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال له: آمين،
(١) روح البيان.
17
كما في "التعريف والإعلام" للإمام السهيلي رحمه الله تعالى.
تنبيه: لذكر هذه القصة في الكتاب الكريم فوائد (١):
١ - أن لا يعجب المرء بعلمه، وأن لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعل فيه سرًا لا يعرفه.
٢ - أن فيها تأديبًا لنبيه، بترك طلب الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوه، واستهزؤوا به، وبكتابه؛ لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا، واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي والعذاب الدائم.
٣ - أن ما حدث فيها يجري مثله كل يوم في هذه الحياة، ألا ترى أن قتل الغلام وهو صغير لا ذنب له، يشبه الطاعون الذي يهلك الأمم، ويفتك بها فتكًا ذريعًا، والبهائمَ التي تفتك بها السباع، أو تأكلها الناس، ولو تأمل الناس حكمة ذلك.. لعلموا أنهم لو بقوا على الأرض مئة عام أو نحوها ولم يمت منهم أحد.. لضاقت بهم الأرض، ولماتوا جوعًا، ولأكل الابن أباه، ولأصبحت الأرض منتنة، قذرة، ولهلك الناس جميعًا، وأن أكل كواسر الطير لصغارها ليخلو به الجو والأرض من الحيوان المزدحمة، ولولا ذلك.. لأصبحت الأرض مضرة بالناس والحيوان، فاقتناصها رحمة ونعمة على الناس وأن خرق السفينة التي هي لمساكين، أشبه بموت بقرة فلاح فقير، بجانبه رجل غني لم تصب بقرته بسوء، وذلك إنما يكون لحكمة لا يعلمها إلا الله، وقد يكون منها أن الفقير حين موته يخرج من هذا العالم خفيفًا، لا يحزنه شيء، وأن الغني إذا لم يهذب نفسه.. تكون روحه مجذوبة إلى هذا العالم، متطلعة إلى ما فيه، فيصير في حسرة حين موته.
وإن ذكر الجدار وإقامته تشيران إلى أن كل من ترى ليس أهلًا للنعمة ظاهرًا، وقد أغدقت عليه، فأهل هذه القرية اللؤماء الأشحاء ليسوا أهلًا للإكرام.
(١) المراغي.
18
وخلاصة ما قال الخضر: إن هذه الأعمال في ست من جنس أعمال الناس، بل هي من أعمال الله تعالى، وإنما كنت واسطة فيها، فهي نماذج لفعل ربكم في هذه الحياة.
الإعراب
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير مستتر، يعود على الخضر، والجملة مستأنفةٌ ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام التقريري المضمن للتوبيخ ﴿لَمْ أَقُلْ﴾ جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على الخضر ﴿لَكَ﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول قال ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه وجملة ﴿لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن في محل النصب مقول أقل.
﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦)﴾.
﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إن﴾ حرف شرط جازم، ﴿سَأَلْتُكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿عَنْ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور متعلق بسأل، وهو في محل المفعول الثاني، ﴿بَعْدَهَا﴾: ظرف ومضاف إليه صفة لشيء ﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، ﴿لا﴾ ناهيةٌ جازمةٌ تصاحب فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، و ﴿النون﴾ للوقاية والياء مفعول به، والجملة في محل جزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب، مقول قال ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق ﴿بَلَغْتَ﴾ (١): فعل وفاعل ﴿مِنْ لَدُنِّي﴾ جار ومجرور متعلق ببلغت أو حال من عذرًا ﴿عُذْرًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية
(١) المراغي.
19
في محل النصب مقول قال.
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧)﴾.
﴿فَانْطَلَقَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فتقاولا وتشارطًا فانطلقا. ﴿انْطَلَقَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إِذَا﴾ في مجل الجر بحتى تقديره: فانطلقا إلى استطعامهما أهل قرية، وقت إتيانهما إياها، الجار والمجرور متعلق بانطلقا ﴿فَأَبَوْا﴾ الفاء: عاطفة ﴿أَبَوْا﴾ فعل وفاعل معطوف على استطعما ﴿أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ تقديره: فابوا ضيافتهم إياهما ﴿فَوَجَدَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿وَجَدَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَبَوْا﴾ متعلق به ﴿جِدَارًا﴾ مفعول به، ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الجدار والجملة في محل النصب، صفة للجدار ﴿أَنْ يَنْقَضَّ﴾: ناصب ومنصوب وفاعله: ضمير يعود على الجدار، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إنقضاضه ﴿فَأَقَامَهُ﴾ الفاء: عاطفة أقامه فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الخضر، والجملة معطوفة على جملة وجدا ﴿قَالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على موسى والجملة مستأنفة ﴿لَوْ شِئْتَ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف شرط غير جازم ﴿شِئْتَ﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿لَاتَّخَذْتَ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ ﴿لَاتَّخَذْتَ﴾ فعل وفاعل جواب لو ﴿عَلَيْهِ﴾ حال من أجرًا ﴿أَجْرًا﴾: مفعول به، وجملة لو الشرطية في محل النصب مقول قال.
﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)﴾.
20
﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الخضر والجملة مستأنفة ﴿هَذَا فِرَاقُ﴾ مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب مقول قال ﴿فِرَاقُ﴾ مضاف ﴿بَيْنِي﴾ مضاف إليه ﴿بين﴾ مضاف و ﴿الياء﴾ ضمير المتكلم في محل الجر مضاف إليه ﴿وَبَيْنِكَ﴾ معطوف على بيني وساغت إضافة بين إلى غير متعدد لتكرير بين بالعطف والداعي إلى هذا التكرير التوصل إلى العطف على ضمير الخفض لأنه يجب عند العطف عليه إعادة الخافض، فكأنه قال بيننا. اهـ شيخنا. ﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾ السين: حرف استقبال ﴿أنبئك﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول ﴿بِتَأْوِيلِ﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر دخل على مضمون المفعولين الثاني والثالث ﴿تَأْوِيلِ﴾ مجرور بها الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أُنَبِّئُكَ﴾ وهو مضاف و ﴿ما﴾ في محل الجر مضاف إليه ﴿لَمْ تَسْتَطِعْ﴾ جازم وفعل وفاعل مستتر ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بصبرا و ﴿صَبْرًا﴾ مفعول به والجملة صلة لما، أو صفة لها.
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)﴾.
﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿السَّفِينَةُ﴾ مبتدأ. ﴿فَكَانَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾ واقعة في غير موضعها. ﴿كانت﴾ فعل ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿السَّفِينَةُ﴾. ﴿لِمَسَاكِينَ﴾: جار ومجرور خبر كان وهو ممنوع من الصرف لصيغة منتهى المجموع؛ لأنه على زنة مفاعيل. ﴿يَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل صفة لـ ﴿مَسَاكِينَ﴾. ﴿فِي الْبَحْرِ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْمَلُونَ﴾، وجملة كان في محل الرفع، خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره جواب ﴿أَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ مستأنفة. ﴿فَأَرَدْتُ﴾ الفاء: عاطفة ﴿أردت﴾ فعل وفاعل والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كانت﴾ ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿أَعِيبَهَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: فأردت تعييبها ﴿وَكَانَ﴾ ﴿الواو﴾: واو الحال ﴿كان﴾ فعل ماض ناقص ﴿وَرَاءَهُمْ﴾ منصوب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر كان مقدم على اسمها ﴿مَلِكٌ﴾ اسمها مؤخر، وجملة كان في محل النصب حال من
21
فاعل يعملون ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿مَلِكٌ﴾ ﴿غَصْبًا﴾: مفعول مطلق مبين لنوع الأخذ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من فاعل ﴿يَأْخُذُ﴾.
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أما﴾ حرف شرط ﴿الْغُلَامُ﴾ مبتدأ ﴿فَكَانَ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿أما﴾ ﴿كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره جواب ﴿أما﴾ وجملة ﴿أما﴾ معطوفة على جملة ﴿أَمَّا﴾ السابقة. ﴿فَخَشِينَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿خشينا﴾ فعل وفاعل معطوف على كان ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الولد ﴿وَكُفْرًا﴾ معطوف على ﴿طُغْيَانًا﴾ وجملة ﴿يُرْهِقَهُمَا﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره فخشينا إرهاقه إياهما طغياناً وكفراً.
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)﴾.
﴿فَأَرَدْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَرَدْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿خشينا﴾ ﴿أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾: ناصب وفعل ومفعول أول ﴿رَبُّهُمَا﴾ فاعل ﴿خَيْرًا﴾ مفعول ثان ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾ وجملة ﴿يُبْدِلَهُمَا﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَرَدْنَا﴾ تقديره فأردنا إبدال ربهما إياهما خيرًا منه ﴿زَكَاةً﴾: تمييز لاسم الفضيل منصوب به ﴿وَأَقْرَبَ﴾ معطوف على خيرًا ﴿رُحْمًا﴾ تمييز لأقرب منصوب به.
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾ حرف شرط ﴿الْجِدَارُ﴾ مبتدأ ﴿فَكَانَ﴾ الفاء: رابطة كان فعل ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿الْجِدَارُ﴾ ﴿لِغُلَامَيْنِ﴾ جار ومجرور خبر كان ﴿يَتِيمَيْنِ﴾ صفة أولى ﴿لِغُلَامَيْنِ﴾. ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ صفة ثانية له
22
وجملة كان في محل الرفع، خبر المبتدأ وجملة المبتدأ جواب أما وجملة أما معطوفة على جملة أما الأولى ﴿وَكَانَ﴾ فعل ناقص معطوف على كان الأولى ﴿تَحْتَهُ﴾ ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ ﴿كَنْزٌ﴾ اسمها مؤخر ﴿لَهُمَا﴾ صفة لـ ﴿كَنْزٌ﴾ ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره وجملة كان معترضة لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه.
﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.
﴿فَأَرَادَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أَرَادَ رَبُّكَ﴾ فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ ﴿أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره فأراد ربك بلوغهما أشدهما ﴿وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَبْلُغَا﴾. ﴿رَحْمَةً﴾ مفعول لأجله منصوب بـ ﴿أَرَادَ﴾ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾ ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾ نافية ﴿فَعَلْتُهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة ﴿عَنْ أَمْرِي﴾ جار ومجرور حال من ضمير المفعول تقديره ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ﴾ حالة كونه صادرًا ﴿عَنْ أَمْرِي﴾. ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ﴾ مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة تأويل مضاف ﴿مَا﴾ اسم موصول أو نكرة موصوفة في محل الجر، مضاف إليه ﴿لَمْ تَسْطِعْ﴾ جازم وفعل وفاعل مستتر أصله تستطع حذفت منه تاء الافتعال للتخفيف ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿صَبْرًا﴾ ﴿صَبْرًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾ أي لا تجعلني صاحبًا لك والمفاعلة هنا على بابها ﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾؛ أي: وجدت عذرًا من قبلي ﴿أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ والقرية هي أنطاكية كما روي عن ابن عباس أو الأبلة أو الناصرة ولا يوثق بصحة شيء من هذا ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾؛ أي: طلبا منهم أن يطعموهما، وفي تكرير أهلها وجهان:
23
أحدهما: أنه توكيد، من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، والحكمة في ذلك، أنه لو قال استطعماها، لم يصح؛ لأنهما لم يستطعما القرية، أو قال استطعماهم، فكذلك لأن جملة استطعما أهلها صفة لقرية.
والثاني: أنه للتأسيس، وذلك أن الأهل المأتيين ليسوا جميع الأهل، وإنما هم البعض، إذ لا يمكن أن يأتيا جميع الأهل في العادة في وقت واحد، فلما ذكر الاستطعام ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل، كأنهما تتبعا الأهل واحدًا واحدًا، فلو قيل: استطعماهم، لاحتمل أن يعود الضمير على ذلك البعض المأتي دون غيره، فكرر الأهل لذلك اهـ كرخي.
﴿أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ أي ينزلوهما أضيافًا يقال: ضافه إذا كان له ضيفًا، وأضافه وضيَّفه أنزله لديه ضيفاً، وأصل ضاف مال، من قولهم ضاف السهم عن الهدف؛ أي: مال عن الغرض، والجمع ضيوف وأضياف وضيفان ﴿جِدَارًا﴾؛ أي حائطًا ﴿يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾؛ أي: يسقط بسرعة، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم، كما قال الشاعر:
يُرِيْدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِيْ بَرَاءٍ وَيعْدِلُ عَنْ دِمَاءِ بَنِيْ عَقِيْلِ
﴿فَأَقَامَهُ﴾؛ أي: مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ﴿لَاتَّخَذْتَ﴾ يقرأُ بكسر الخاء مخففة وهو من تخذ يتخذ، إذا عمل شيئًا، ويقرأ بالتشديد وفتح الخاء، وفيه وجهان: أحدهما: هو افتعل من اتخذ، والثاني: أنه من الأخذ، وأصله يتخذ فأبدلت الياء تاء وأدغمت، وأصل الياء الهمزة، ذكره أبو البقاء ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ﴾؛ أي: سأخبرك ببيان سر ووجه ما فعلت في الأمور الثلاثة.
فائدة: في مباحث الأفعال السبعة التي تنصب ثلاثة مفاعل: الأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعل سبعة، وهي: أعلم، وأرى، وأنبا، ونبَّأ، وأخبر، وخبَّر، وحدَّث.
والأصل في هذه الأفعال، أعلم، وأرى، اللَّذان كان أصلهما قبل دخول
24
همزة النقل عليها، علم ورأى المتعديان لاثنين، وأما الخمسة الباقية، فليس لها ثُلاثي يُستعمل في العلم إلا خبَّر، ولكنها أُلحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدي إلى ثلاثة، لأن الإنباء والتنْبِيىء والإخبار والتخبير والتحديث بمعنى الإعلام، هذا وتستعمل الخمسة متعدية إلى واحد بأنفسها، وإلى مضمون الثاني والثالث، أو مضمون الثالث وحده بالباء، نحو حدثتك بخروج زيد، وعليه يُحمل قوله تعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾.
والتأويل من آل إلى كذا؛ أي: صار إليه، فإذا قيل: ما تأويله؛ أي: ما مصيره وفي "الشهاب" المراد بالتأويل إظهار ما كان باطناً ببيان وجهه اهـ.
وفي "القرطبي" المراد: بالتأويل التفسير قوله: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ في "المصباح": السفينة معروفة، والجمع سفين بحذف الهاء، وسفائن، ويُجمع السفين على سفن بضمتين، وجمع السفينة على سفين شاذ، لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الطاء، بابه المخلوقات مثل تمرة وتمر، ونخلة ونخل، وأما في المصنوعات مثل سفينة وسفين فممنوع إلا في ألفاظ قليلة، ومنهم من يقول: السفين لغةٌ في الواحدة، وهي فعيلة بمعنى فاعله، كأنها تسفن الماء؛ أي: ثقشره، وصاحبها سفَّان اهـ.
﴿لِمَسَاكِينَ﴾ جمع مسكين، وهو الضعيف العاجز عن الكسب، لأمر في نفسه، أو في بدنه، ﴿يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾؛ أي: يكتسبون ويؤاجرون ﴿أَعِيبَهَا﴾؛ أي: أجعلها ذات عيب، بنزع ما نزعته منها ﴿وَرَاءَهُمْ﴾؛ أي: أمامهم، وهو لفظ يُستعمل في الشيء وضده، كما قال:
ألَيْسَ وَرَائِيْ أنْ أدِبَّ عَلَى الْعَصَا فَيَأْمَنَ أَعْدَائِيْ وَيسْأَمَنِيْ أهْلِيْ
﴿خشينا﴾؛ أي: خفنا ﴿أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ أي يحملهما ويكلفهما ﴿طُغْيَانًا﴾ أي مجاوزةً للحدود الإلهية ﴿زَكَاةً﴾؛ أي: طهارةً من الذنوب ﴿رُحْمًا﴾؛ أي: رحمةً كالكثر والكثرة ﴿أَشُدَّهُمَا﴾ مفرد بمعنى القوة، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع له واحد من لفظه، قيل: أَشِد بكسر الشين وقيل: أشَد بفتحها اهـ
25
شيخنا. ﴿عَنْ أَمْرِي﴾؛ أي: عن رأيي واجتهادي ﴿مَا لَمْ تَسْطِعْ﴾؛ أي: تستطع ماضيه اسطاع، الذي أصله استطاع من باب افتعل الخماسي، حذفت تاء الافتعال منه للتخفيف كما مر، ومضارعه يسطيع، أصله يستطيع، بوزن يستقيم، فحذفت منه التاء أيضًا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بزيادة لك في قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ﴾ في المرة الثانية للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة بعد مرة، والوسم بعدم الصبر.
ومنها: تكرير ﴿أَهْلَهَا﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ للتأكيد، وفيه أيضًا إقامة الظاهر مقام المضمر؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقال استطعماهم.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ فقد استُعيرت الإرادة للمشارفة والمداناة، ويجوز أن يكون مجازاً عقلياً، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، لأن المراد هنا لازم الإرادة العرفي، وهو القرب من الشيء؛ أي: يقرب من السقوط؛ لأن الإرادة من صفات العقلاء، وإسنادها إلى الجدار من لطيف الاستعارة، وبليغ المجاز، كقول الشاعر:
يُرِيْدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِيْ بَرَاءٍ وَيَرْغَبُ عَنْ دِمَاءِ بَنِيْ عَقِيْلِ
ومنها: التكرار في قوله: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ كرر البين لغرض التوصل إلى العطف على ضمير الخفض، لأنه يجب عند العطف عليه، إعادة الخافض، فكأنه قال بيننا كما مر، ومنها السلف والنشر المرتب في قوله: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ﴾ فقد جاء بها مرتبة بعد ذكر ركوب السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، بطريقة السلف والنشر المرتب، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: التقديم والتأخير لغرض العناية بالمقدم في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا
26
وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} لأن مقتضى الظاهر تأخير قوله: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ عن قوله: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ لأن إرادة العيب مسببة عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، ولكن قدم المسبب على السبب للعناية به، ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿كُلَّ سَفِينَةٍ﴾؛ أي: صالحة، حذف لدلالة لفظ ﴿أَعِيبَهَا﴾ وكذلك حذف لفظ فكان كافرًا من قوله: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ﴾ لدلالة قوله تعالى: ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ عليه.
ومنها: تعليم الأدب في قوله: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ وقوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ حيث أسند ما ظاهره شر لنفسه، وأسند الخير إلى الله تعالى، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله عز وجل.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ﴾ لأن المراد بهما أبوه وأمه، فثنى الأب تغليباً له على الأم، كالقمرين في الشمس والقمر، والعمرين في أبي بكر وعمر، وهو تثنية لا تنقاس.
ومنها: التفنن في قوله: ﴿فَأَرَدْتُ﴾ ﴿فَأَرَدْنَا﴾، ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ وأبدى بعضهم حكمة في اختلاف التعبير، وهي أن:
الأول: لما كان إفساداً محضاً.. عبّر فيه بقوله: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أدباً مع الله.
والثاني: لما كان فيه نوع إفساد، ونوع إصلاح.. عبر فيه بقوله: ﴿فَأَرَدْنَا...﴾ إلخ اهـ. شيخنا "جمل".
والثالث: لما كان إصلاحاً محضاً ونعمة من الله.. عبر فيه بقوله: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
27
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩)﴾.
المناسبة
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة الخضر.. أعقبها بذكر قصة ذي القرنين، ورحلاته الثلاث إلى الغوب والشرق، وإلى السدين، وبنائه للسد في وجه يأجوج ومأجوج، وهي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإيمان، وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ...﴾ سبب نزوله: ما روي عن قتادة قال: إن اليهود يسألون النبي - ﷺ - عن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ...﴾.
وقبل الشروع في تفسير الآيات الكريمة، لا بد من بيان مَنْ ذو القرنين،
28
فنقول: المراد بذي القرنين في الآية الكريمة، هو ذو القرنين الأكبر (١)، واسمه إسكندر بن فيلقوس اليوناني، ملك الدنيا بأسرها، كما قال مجاهد: ملك الأرض أربعةٌ: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران نمرود وبختنصر، وفي "مشكاة الأنوار" شداد بن عاد بدل بختنصر، وكان ذو القرنين بعد نموود في عهد إبراهيم - عليه السلام - على ما يأتي، ولكنه عاش زمنًا طويلًا، ألفًا وست مئة سنة على ما قالوا، وفي تفسير الشيخ، وكان بعد ثمود، وكان الخضر على مقدمه جيشه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير.
وقال ابن كثير: والصحيح أنه ما كان نبيًا ولا ملكًا، وإنما كان ملِكاً صالحًا عادلاً، ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، وانقادت له البلاد، مات بمدينة شهر زور، بعدما خرج من الظلمة (لأنه دخل الظلمة والنور في سياحته)، ودُفن فيها.
وفي "التبيان" مدة دوران ذي القرفين في الدنيا خمس مئة، ولما فرغ من بناء السد.. رجع إلى بيت المقدس ومات به، وإنما سُمي بذي القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس؛ أي: جانبيها مشرقها ومغربها، كما لُقِّب أردشير واضع النرد بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، وفي "القاموس": لما دعاهم إلى الله تعالى، ضربوه على القرن الأيمن، فمات فأحياه الله، ثم دعاهم فضربوه على قرنه الأيسر، فمات ثم أحياه الله، كما سُمي عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذي القرنين لما كان شجتان في قرني رأسه، إحداهما من عمرو بن ود، والثانية من ابن ملجم، وفي "قصص الأنبياء": وكان قد رأى في منامه أنه دنا من الشمس، حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فلما قص رؤياه على قومه، سموه به، وقالا السيوطي في "الأوائل": أول من لبس العمامة ذو القرنين، وذلك أنه طلع له في رأسه قرنان كالظلفين، يتحركان، فلبسها من أجل ذلك، ثم إنه دخل الحمام ومعه كاتبه فوضع العمامة وقال لكاتبه: هذا الأمر لم يطلع عليه غيرك، فإن سمعت به
(١) روح البيان.
29
من أحد قتلتُك، فخرج الكاتب من الحمام، فأخذه كهيئة الموت، فأتى الصحراء، فوضع فمه بالأرض، ثم نادى: ألا إن للملك قرنين، فأنبت الله من كلمته قصبتين، فمر بهما راع فقطعهما، واتخذهما مزماراً، فكان إذا زمر، خرج من القصبتين: ألا إن للملك قرنين، فانتشر ذلك في المدينة، فقال ذو القرنين: هذا أمر أراد الله تعالى أن يبديه.
وأما ذو القرنين الثاني، وهو إسكندر الرومي، الذي يؤرخ بأيامه الروم، فكان متأخرًا عن الأول بدهر طويل أكثر من ألف سنة، كان هذا قبل المسيح - عليه السلام - بنحو من ثلاث مئة سنة، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف. وهو الذي حارب دارَا، وأذل ملوك الفرس، ووطىء أرضهم، وكان كافرًا، عاش ستًا وثلاثين سنة، فالمراد بذي القرنين في القرآن هو الأول دون الثاني، وقد غلط كثير من العلماء في الفرق بينهما، فظنوا أن المذكور في الآية هو الرومي سامحهم الله اهـ. من "روح البيان".
التفسير وأوجه القراءة
٨٣ - ولما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود، وانتهى الكلام حيث انتهى.. شرع سبحانه في السؤال الثالث، والجواب عنه، فالمراد بالسائلين اليهود، أو كفار قريش بتلقينهم، فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك يا محمد اليهود، أو كفار قريش، بتلقين اليهود سؤال اختبار وامتحان ﴿عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ الأكبر إسكندر بن فيلقوس اليوناني، كان عبدًا صالحًا ملَّكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، ملك الأقاليم كلها، وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، ودانت له البلاد، وكان داعيًا إلى الله كما مر؛ أي: يسألونك عن خبره وقصته وحاله، وعبر (١) بصيغة الاستقبال، للدلالة على استمرارهم على ذلك السؤال إلى ورود الجواب.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد في الجواب ﴿سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: سأذكر لكم أيها
(١) روح البيان.
السائلون ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من خبر ذي القرنين وحاله، فحذف المضاف ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: نبأً مذكورًا، وبيانًا واضحًا، أو المعنى سأتلو عليكم في شأنه من جهته تعالى ﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: قرآنًا والسين للتأكيد والدلالة على التحقق؛ أي: لا أترك التلاوة البتة، أي: قل لهؤلاء المتعنتين: سأقص عليكم قصصًا وافيًا، جامعًا لما تريدون، أعلمنيه ربي، وأخبرني به،
٨٤ - ثم فصل ذلك فقال: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ﴾؛ أي: لذي القرنين أمره من التصرف ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كيف يشاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها؛ أي (١): جعلنا له قدرةً على التصرف في الأرض، من حيث التدبير والرأي، وعلى الأسباب حيث سخر له السحاب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء في الضوء، وسهل عليه السير في الأرض ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾؛ أي: أعطيناه ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاج إليه في إصلاح ملكه ﴿سَبَبًا﴾؛ أي: طريقًا يوصله إلى ذلك الشيء المقصود، كآلات السير، وكثرة الجند، فأراد بلوغ المغرب
٨٥ - ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾؛ أي: سلك طريقا يوصله إلى استقصاء بقاع الأرض، ليملأها عدلًا
٨٦ - ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ أي: حتى إذا بلغ منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يمكنه مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيط الأطلسي الغربي، الذي يقال له: أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال، أو جاوز البحر المحيط، ووصل إلى موضع غروبها، ولا مانع من ذلك عقلًا ولا شرعًا، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس، ومكن له في الأرض، والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره، ذكره الشوكاني.
﴿وَجَدَهَا﴾؛ أي: الشمس كأنها ﴿تَغْرُبُ﴾ في رأي العين ﴿فِي عَيْنٍ﴾؛ أي: في بحر محيط ﴿حَمِئَةٍ﴾؛ أي: ذات طين أسود، شديد السخونة، كما يدل عليه قراءة شعبة، وحمزة، والكسائي، وابن عامر ﴿حامية﴾ بألف بعد الحاء، وبياء بعد الميم، وهي قراءة ابن مسعود، وطلحة؛ أي: وجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة، وطين أسود، وتلك العين هي نفس البحر المحيط لا غير.
(١) المراح.
31
وخلاصة ذلك (١): أنه بلغ بلادًا لا بلد بعدها تغرب عليها الشمس، إذ لم يكن عمران إلا ما عرفوه عند بحر الظلمات، فهو قد سار إلى بلاد تونس، ثم مراكش، ووصل إلى البحر، فوجد الشمس كأنها تغيب فيه، وهو أزرق اللون كأنه طين وماء.
قال في "البيان" (٢): ولما وصل ذو القرنين إلى مغرب الشمس، يطلب عين الحياة.. قال له شيخ: هي خلف أرض الظلمة، ولما أراد أن يسلك في الظلمة.. سأل: أي الدواب في الليل أبصر؟ قالوا: الخيل فقال: أي الخيل أبصر؟ قالوا: الإناث فقال؛ أي الإناث أبصر؟ قالوا: البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك فركبوا الرماك، وترك بقية عسكره، فدخلوا الظلمات فساروا يومًا وليلة، فأصاب الخضر العين، لأنه كان على مقدمة جيشه صاحب لوائه الأكبر، فشرب منها واغتسل، وأخطأ ذو القرنين، فساروا على حصحاص من حجارة، لا يدرون ما هي، فسألوه عنها فقال الإسكندر: خذوا من هذه الحجارة ما استطعتم، فإنه من أقل منها ندم، ومن أكثر منها ندم، فأخذوا وملأوا مخالي دوابهم من تلك الحجارة، فلما خرجوا.. نظروا إلى ما في مخاليهم، فوجوده زمردًا أخضر، فندموا كلهم لكونهم لم يكثروا ذلك ﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا﴾؛ أي: عند تلك العين؛ يعني عند نهاية العمارة ﴿قَوْمًا﴾ كفارًا لباسهم جلود الوحوش، وطعامهم ما يلفظه البحر من السمك، فخيَّره الله سبحانه، بين أن يعذبهم بالقتل، أو أن يدعوهم إلى الإيمان، وهذا تفصيل قوله ﴿قُلْنَا﴾ له بطريق الإلهام ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ هؤلاء القوم الكفار؛ أي: أنت مخير في أمرهم بعد الدعوة إلى الإِسلام، بين أن تعذبهم بالقتل إن هم أبوا عن الإيمان، ولم يقروا بوحدانيتي، ويذعنوا لك، في ما تدعوهم إليه من طاعتي ﴿وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ﴾ وتفعل ﴿فِيهِمْ حُسْنًا﴾؛ أي: أمرًا ذا حسن، فحذف المضاف؛ أي: وبين أن تفعل فيهم إحسانًا بالعفو أو الأسر، وسماما إحسانًا في مقابلة القتل، أي: بأن تتركهم أحياء، أي: فأنت مخير فيهم بين تعذيبهم بالقتل، وبين تركهم أحياء، إن أبوا عن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
32
الإِسلام، ويجوز (١) أن يكون ﴿إِمَّا﴾ ﴿وَإِمَّا﴾ للتوزيع والتقسيم، دون التخيير؛ أي: ليكن شأنك معهم إما التعذيب، وإما الإحسان.
فالأولى: لمن بقي على حاله ولم يؤمن.
والثانية: لمن تاب وآمن. والإحسان إليهم بتعليمهم طريق الهدى والرشاد، وتبصيرهم بالشرائع والأحكام
٨٧ - ﴿قَالَ﴾ ذو القرنين لبعض خاصته وبطانته: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ نفسه بالإصرار على الكفر، ولم يقبل الإيمان منى ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾؛ أي: فسنعذبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل، وعن قتادة: كان يطبخ من كفر في القدور، ومن آمن أعطاه وكساه ﴿ثُمَّ يُرَدُّ﴾ ويرجع ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾ وخالقه في الآخرة ﴿فَيُعَذِّبُهُ﴾؛ أي: يعذب ذلك الظالم ﴿عَذَابًا نُكْرًا﴾؛ أي: عذابًا شديدًا منكرًا، لم يُعهد مثله وهو عذاب النار
٨٨ - ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ﴾ وصدق بالله ووحدانيته بسبب دعوتي ﴿وَعَمِلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ حسبما يقتضيه الإيمان ﴿فَلَهُ﴾؛ أي: فلذلك المؤمن الحامل في الدارين ﴿جَزَاءً الْحُسْنَى﴾؛ أي: فله المثوبة الحسنى، حال كونه مجزيًا بها فـ ﴿جَزَاءً﴾ حال، أو فله في الآخرة الجنة ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا﴾؛ أي: مما نأمر به ﴿يُسْرًا﴾؛ أي: قولًا سهلًا متيسرًا غير شاق عليه، والمعنى (٢): فله في الدارين المثوبة الحسنى جزاء وفاقًا على تلك الخلال الجميلة التي عملها في دنياه، وسنعلمه في الدنيا ما يتيسر لنا تعليمه مما يقربه إلى ربه، ويليِّن له قلبه ولا يشق عليه فعله مشقةً كبيرةً، كالصلاة، والزكاة، والجهاد، ونحوها.
وقرأ زيد بن علي، والزهري، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى، والكوفيون، وابن عامر (٣): ﴿فَأَتْبَعَ﴾ ثلاثتها بالتخفيف وقرأ باقي السبعة بالتشديد، والظاهر أنهما بمعنى واحد وعن يونس بن حبيب، وأبي زيد أنه بقطع الهمزة، عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها أنه يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.
(١) روح البيان.
(٢) المراغى.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن العاص، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وحمزة، والكسائي ﴿حامية﴾ بالياء؛ أي: حارة.
وقرأ ابن عباس، وباقي السبعة، وشيبة، وحميد ابن أبي ليلى، ويعقوب، وأبو حاتم، وابن جبير الأنطاكي ﴿حَمِئَةٍ﴾ بهمزة مفتوحة، والزهري يليِّنها؛ أي: ذات طين أسود، ولا تنافي بين الحامية والحمئة، إذ تكون العين جامعة للوصفين، وفي التوراة تغرب في ماء وطين.
وقرأ حمزة (١)، والكسائي، وحفص، وأبو بحرية، والأعمش، وطلحة، وابن مناذر، ويعقوب، وأبو عبيد، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي، ومحمد بن جرير ﴿فَلَهُ جَزَاءً﴾ بالنصب والتنوين، والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة وقرأ باقي السبعة ﴿جزاء الحسنى﴾ يرفع جزاء مضافًا إلى الحسنى.
قال أبو علي: جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها، و ﴿جزاء﴾ مبتدأ و ﴿لَهُ﴾ خبره، وقرأ عبد الله ابن أبي إسحاق ﴿فله جزاء﴾ مرفوعًا منونًا، وهو مبتدأ وخبر، والحسنى بدل من جزاء.
وقرأ ابن عباس، ومسروق ﴿جزاء﴾ بالنصب بغير تنوين الحسنى بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه؛ أي: فله الجزاء جزاء الحسنى، وخرَّجه المهدوي: على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقرأ أبو جعفر ﴿يسرًا﴾ بضم السين حيث وقع.
٨٩ - ﴿ثُمَّ﴾ قفل ذو القرنين راجعاً من مغرب الشمس و ﴿أَتْبَعَ سَبَبًا﴾؛ أي: سلك طريقًا موصلًا إلى مشرقها
٩٠ - ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾؛ أي: وصل الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولًا من معمور الأرض، إذ لا يمكنه أن يبلغ موضع طلوع الشمس، وقيل (٢): مكان طلوعها، لعدم المانع شرعًا ولا عقلًا من وصوله إليه،
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
كما أوضحناه فيما سبق، قيل بلغه في اثني عشرة سنة، وقيل: في أقل من ذلك بناءً على ما ذكر من أنه سخر له السحاب، وطوى له الأسباب.
﴿وَجَدَهَا﴾؛ أي: الشمس ﴿تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ﴾ عراة ﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا﴾؛ أي: من دون الشمس وأمامها ﴿سِتْرًا﴾ من اللباس والبناء، يعني ليس لهم لباس يستترون به من حر الشمس، ولا بناء يستظلون فيه؛ لأن أرضهم لا تمسك الأبنية لغاية رخاوتها، وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب، أو البحر من شدة الحر، وإذا ارتفعت عنهم خرجوا؛ أي (١): حتى إذا بلغ الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولًا من المعمور، وجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، فليس لهم سقوف ولا جبال تمنع من وقوع أشعة الشمس عليهم، لأن أرضهم لا تحمل بنيانًا، بل لهم سروب يغيبون فيها حين طلوع الشمس، ويظهرون حين غروبها، فهم حين طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش، وحين غروبها يشتغلون بتحصيل مهماتهم وأحوالهم، على الضد من أحوال الناس.
وخلاصة ذلك: أنه بلغ غاية المعمور من الأرض جهة المشرق، ووجد قومًا لا لباس لهم ولا بناء، فهم عراةٌ في العراء، أو في سراديب في الأرض.
وقرأ الحسن، وعيسى، وابن محيصن ﴿مطلع﴾ بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير، وأهل مكة، وهو القياس، وقرأ الجمهور بكسرها، وهو مسموع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع مكسور العين، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في مباحث الصرف، وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني: ذهب من يقول من العرب.
تطلع بكسر اللام، وبقي مطلع بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس.
٩١ - ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: أمر ذي القرنين وشأنه وحاله كذلك؛ أي: كما وصفناه
(١) المراغي.
وبيناه لك يا محمد من قبل من بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ومن فعله الأفاعيل المذكورة، فهو قد بلغ الغاية في رفعة الشأن، وبسطة الملك، مما لم يتح لكثير من الناس، أو أمره في أهل المشرق كأمره في أهل المغرب، فحكم في أهل المطلع كما حكم في أهل المغرب، من تعذيب الظالمين، والإحسان إلى المؤمنين ﴿و﴾ نحن ﴿قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ﴾؛ أي: بما عند ذي القرنين من الأسباب والعدد ﴿خُبْرًا﴾؛ أي: علمًا، تمييز؛ أي: ونحن قد علمنا بما لديه من الأسباب والعدد، والشؤون والأحوال، علمًا محيطًا بظواهره وخفاياه.
وخلاصة ذلك: أنه كما وُصف، وفوق ما وصف، مما لا يحيط بعلمه إلا اللطيف الخبير.
فانظر (١) يا أخي سعة لطف الله تعالى، وإمداده بمن شاء من عباده، فإنه ذكر وهب بن منبه: أن ذا القرنين كان رجلًا من أهل الإسكندرية، ابن امرأة عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان خارجًا عن قومه، ولم يكن بأفضلهم حسبًا ولا نسبًا، ولكنه نشأ في ذات حسن وجمال، وحلم ومروءة وعفة، من لدن كان غلامًا، إلى أن بلغ رجلًا، ولم يزل منذ نشأ يتخلق بمكارم الأخلاق، ويسمو إلى معالي الأمور، إلى أن علا صيته، وعز في قومه، وألقى الله تعالى عليه الهيبة، ثم إنه زاد به الأمر إلى أن حدَّث نفسه بالأشياء، فكان أول ما أجمع عليه رأيه الإِسلام فأسلم، ثم دعا قومه إلى الإِسلام، فأسلموا عنوة منه عن آخرهم، ثم كان من أمره ما كان،
٩٢ - ثم حكى سبحانه وتعالى سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى، وهي ناحية القطر الشمالي، بعد تهيئة أسبابه، فقال: ﴿ثُمَّ﴾ قفل ذو القرنين راجعاً من مطلع الشمس و ﴿أَتْبَعَ سَبَبًا﴾؛ أي: سلك طريقًا ثالثاً، معترضًا بين المشرق والمغرب آخذًا من الجنوب إلى الشمال
٩٣ - ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ﴾ ذو القرنيق ووصل ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾؛ أي: بين الجبلين الذين سد ما بينهما، وهما جبلان عاليان، في منقطع أرض الترك، مما يلي المشرق، من ورائهما يأجوج ومأجوج،
(١) روح البيان.
وانتصاب ﴿بَيْنَ﴾ على المفعولية؛ لأنه مبلوغ، وهو من الظروف التي تُستعمل أسماء وظروفًا، كما ارتفع في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ وانجرَّ في قوله: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾.
قال وهب (١): السدان جبلان مرتفعان في السماء، من ورائهما ومن أمامهما البلدان، وهما بمنقطع أرض الترك، مما يلي أرمينية وأذربيجان، وذكر الهروي: أنما جبلان من وراء بلاد الترك، وقيل: هما جبلان من جهة الشمال، ليِّنان أملسان، يزلق عليهما كل شيء، ويسمى الجبلان سدين، لأن كل واحد منهما سد فجاج الأرض، وكانت بينهما فجوة كان يدخل منها يأجوج ومأجوج.
وقرأ مجاهد (٢)، وعكرمة، والنخعي، وحفص، وابن كثير، وأبو عمرو: ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ بفتح السين، وقرأ باقي السبعة بضمها، قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، وقال الخليل وسيبويه: بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. ﴿وَجَدَ﴾ ذو القرنين ﴿مِنْ دُونِهِمَا﴾؛ أي: من دون السدين؛ أي: من ورائهما، مجاوزًا عنهما، وقيل: أمامهما؛ أي: من جهة الأمام، خارجة عنهما، لا داخلة بناحية يأجوج ومأجوج اهـ شيخنا. وفي "الخطيب": وجد من دونهما؛ أي: بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما، إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين اهـ.
وخلاصة ذلك (٣): أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالًا يعطون إياه، حتى يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حاجزًا بين الجبلين، يمنعهم من الخروج إليهم فلا يصلون إليهم.
٩٤ - وقرأ عاصم (٤)، والأعمش، ويعقوب في رواية بالهمز في ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ هنا، وكذا في الأنبياء، وهي لغة بني أسد، ذكره الفراء، قيل: ولا وجه له إلا الغريبة المحكية عن العجاج أنه كان يهمز العألم والخأتم، وقرأ باقي السبعة بألف غير مهموزة، وهي لغة كل العرب، غير بني أسد. وقرأ العجاج وابنه رؤبة:
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
﴿أجوج﴾ بهمزة بدل الياء، وقرأ الحسن، وا لأعمش، وطلحة، وخلف، وابن سعدان، وابن عيسى الأصبهاني، وابن جبير الأنطاكي، ومن السبعة حمزة والكسائي ﴿خراجا﴾ بألف هنا وفي حرفي قد أفلح، وسكن ابن عامر الراء فيها، وقرأ باقي السبعة ﴿خَرْجًا﴾ فيهما بسكون الراء، فخراج بالألف والخرج بمعنى واحد، كالنول والنوال، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر ﴿سُدًّا﴾ بضم السين، وابن محيصن، وحميد، والزهري، والأعمش، وطلحة، ويعقوب في رواية ابن عيسى الأصبهاني، وابن جرير، وباقي السبعة بفتحها.
٩٥ - ﴿قَالَ﴾ ذو القرنين جوابًا لهم ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي﴾؛ أي: ما بسطه الله لي، وجعلني فيه مكينًا قادرًا، من الملك والمال، وسائر الأسباب ﴿خَيْرٌ﴾ مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخراج، فلا حاجة لي إليه، ومثله قول سليمان - عليه السلام - ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ ومن هذا يؤخذ أنّ الدول القوية يجب أن تحافظ على الدول الضعيفة، ولا تأخذ منها مالًا، ما دامت قادرة على إغاثتها.
وخلاصة ذلك: ما أنا فيه خير مما تبذلونه، وقرأ ابن كثير وحميد ﴿مَا مَكَّنَنِي﴾ بنونين متحركتين، وباقي السبعة؛ بإدغام نون مكني في نون الوقاية، ثم طلب منهم المعاونة له فقال: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بعملة وصناع يحسنون البناء والعمل وبآلات لا بد منها في البناء ﴿أَجْعَلْ﴾ جواب الأمر ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيها القوم ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾؛ أي: وبين يأجوج ومأجوج ﴿رَدْمًا﴾؛ أي: حاجزًا حصينًا، وحجابًا عظيمًا، وهو أكبر من السد، وأوثق منه (١)، إذ السد كل ما يسد به، والردم وضع الشيء على الشيء، من حجارة، أو تراب، أو نحوهما، حتى يقوم من ذلك حجاب منيع، ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض.
٩٦ - وقوله: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾؛ أي: أعطوني وناولوني زبر الحديد، تفسير للقوة، فيكون المراد بها ترتيب الآلات، وهذا لا ينافي رد خراجهم، لأن المأمور به الإيتاء بالثمن والمناولة، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة دون
(١) الشوكاني.
38
الخراج على العمل، وقال الفراء معنى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾ إئتوني بها، فلما ألقيت الياء.. زيدت ألفًا، وعلى هذا فانتصاب زبر بنزع الخافض، والزبر (١): جمع زبرة، كغرف جمع غرفة، وهي القطعة الكبيرة، قال في "القصص" قالوا: من أين لنا من الحديد ما يسع هذا العمل، فدلهم على معدن الحديد والنحاس، ولعل تخصيص الأمر بالإيتاء بها دون سائر الآلات من الصخور ونحوها، لما أن الحاجة إليها أمس، إذ هي الركن في السد، وفي "القصص": قاس ما بين الصدفين، فوجده ثلاثة أميال.
وقال بعضهم (٢): حفر ما بين السدين، وهو مئة فرسخ حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب بدل الطين لها والبنيان من زبر الحديد، بين كل زبرتين الحطب والفحم، وقرأ الجمهور (٣): ﴿آتُونِي﴾ وقرأ أبو بكر عن عاصم، ﴿إئتوني﴾؛ أي: جيئوني، وانتصب زبر بإيتوني على إسقاط حرف الجر؛ أي: جيئوني بزبر الحديد، وقرأ الجمهور: ﴿زُبَرَ﴾ بفتح الباء، والحسن بضمها، وعبارة "المراح" هنا: وقرأ حمزة ﴿ائتوني﴾ بوصل الهمزة في الموضعين، ووافقه أبو بكر هنا، وخالفه في الموضع الثاني، انتهى.
وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى﴾ معطوف على محذوف، تقديره فأتوه بها، فأمر برص بعضها فوق بعض، فرصوا حتى إذا ساوى ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾؛ أي: بين طرفي الجبلين بالبناء، والصدف (٤): منقطع الجبل، أو ناحيته، وبين: مفعول به، كبين السدين؛ أي: إنهم (٥) جاؤوا ذا القرنين بزبر الحديد، فشرع يبني شيئًا فشيئًا، حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السمك، يعني: ملأ ما بينهما إلى أعلاهما، وكان ارتفاعه مئتي ذراع، وعرضه خمسين ذراعًا، ووضع المنافخ والنار حول ذلك ﴿قَالَ﴾ للعملة ﴿انْفُخُوا﴾ بالكير؛ أي: في الحديد
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
(٥) المراح.
39
المبني، فنفخوا ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ﴾؛ أي: المنفوخ فيه وهو زبر الحديد ﴿نَارًا﴾؛ أي: مثل النار في الحرارة والهيئة، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين، مع أنه فعل العملة، للتثبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة.
﴿قَالَ﴾ ذو القرنين للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها ﴿آتُونِي﴾ قطرًا أي: نحاسًا مذابًا ﴿أُفْرِغْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أصبب على الحديد المحمى ﴿قِطْرًا﴾؛ أي: نحاسًا مذابًا، فأفرغه عليه، فدخل مكان الحطب والفحم، فامتزج بالحديد، والتصق بعضه ببعض، وصار جبلًا صلدًا، وهذه كرامة عظيمة، حيث صرف الله تأثير الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين والمفرغين للقطر.
والإفراغ الصب؛ أي: أصبب على الحديد المحمى قطرًا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للعلة التي وقفت عليها آنفًا.
وقرأ ابن كثير (١)، وأبو عمرو، وابن عامر، والزهري، ومجاهد، والحسن: ﴿الصُّدُفَيْنِ﴾ بضم الصاد والدال، وأبو بكر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن، كذلك إلا أنه سكَّن الدال، وباقي السبعة، وأبو جعفر، وشيبة، وحميد، وطلحة، وابن أبي ليلى، وجماعة عن يعقوب، وخلف في اختياره، وأبو عبيد، وابن سعدان، بفتحهما وابن جندب بالفتح وإسكان الدال، ورويت عن قتادة.
وقرأ الماجشون: بالفتح وضم الدال، وقرأ قتادة، وأبان عن عاصم بضم الصاد وفتح الدال، ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾ في الكلام حذف، تقديره فنفخوا حتى إذا... وقرأ الجمهور: ﴿قَالَ آتُونِي﴾؛ أي: أعطوني، وقرأ الأعمش، وطلحة، وحمزة، وأبو بكر بخلاف عنه قال ﴿إئتوني﴾؛ أي: جيئوني.
و ﴿قِطْرًا﴾ منصوب بأفرغ، على إعمال الثاني، ومفعول ﴿آتُونِي﴾ محذوف لدلالة الثاني عليه، كما مر
٩٧ - ﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾ بحذف (٢) تاء الافتعال تخفيفًا وحذرًا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
40
من تلاقي المتقاربين، وقال في "برهان القرآن":
اختار التخفيف في الأول، لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول، فاختير فيه الحذف والثاني مفعوله اسم واحد، وهو قوله: ﴿نَقْبًا﴾. انتهى.
والفاء (١): فصيحة؛ أي: فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر، فأفرغ عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلًا صلدًا؛ أي: صلبًا أملس، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه، فما قدروا ﴿أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾؛ أي: أن يظهروا الجبل ويعلوه بالصعود، لارتفاعه وملاسته ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾؛ أي: وما استطاع يأجوج ومأجوج نقبًا للجبل وثقبًا له؛ أي: وما قدروا أن ينقبوه ويخرقوه من أسفله، لصلابته وثخانتِهِ، فلا سبيل إلى مجاوزته إلى غيرم من الأمم إلا بأحد هذين إما: ارتقاء، وإما نقب، وقد سلب قدرتهم على ذلك.
وهذه معجزة عظيمة؛ لأن تلك الزبر الكثيرة، إذا أثرت فيها حرارة النار.. لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها، فضلًا عن النفخ فيها، إلى أن تكون كالنار، أو عن إفراغ القطر عليها، وكأنه سبحانه صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال، وكان ما كان، والله على كل شيء قدير، كذا في "الإرشاد" أخذًا عن تفسير الإِمام. يقول الفقير: ليس ببعيد أن تكون المباشرة بالنفخ والصب من بعيد بطريق من طرق الحيل، ألا ترى أن نار نمرود لما كانت بحيث لا يقرب منها أحد.. عملوا المنجنيق، فألقوا به إبراهيم - عليه السلام - فيها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾ بحذف التاء تخفيفًا، لقربها من الطاء، قرأ حمزة، وطلحة: بإدغامها في الطاء، كأنه أراد استطاعوا، فادغم التاء في الطاء، وهو إدغام على غير حده، وقال أبو علي: هي غير جائزة، وقرأ الأعمش عن أبي بكر: ﴿فما اصطاعوا﴾ بالإبدال من السين صادًا لأجل الطاء، قرأ الأعمش: ﴿فما استطاعوا﴾ بالتاء من غير حذف.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
41
٩٨ - ﴿قَالَ﴾ ذو القرنين ﴿هَذَا﴾ السد ﴿رَحْمَةٌ﴾ عظيمةٌ ونعمةٌ جسيمةٌ ﴿مِنْ رَبِّي﴾ على كافة الخلق، لا سيما على مجاهديه، وفيه (١) إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادةً، بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بمباشرتي.
وقال ابن عطية (٢): والإشارة بهذا إلى الردم والقوة عليه والانتفاع به، وقال الزمخشري: إشارة إلى السد؛ أي: هذا السد نعمةٌ عظيمةٌ من الله تعالى، ورحمة منه على عباده، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته، قيل: وفي الكلام حذف تقديره، فلما أكمل بناء السد، وامشوى واستحكم.. قال: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ وقرأ ابن أبي عبلة ﴿هذه رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ بتأنيث اسم الإشارة.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾، أي (٣): وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، وقيل: مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: موعود ربي وهو يوم القيامة، والمراد بمجيئه مجيء أشراطه وأماراته، من خروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام. ونحو ذلك من أشراط يوم القيامة.
﴿جَعَلَهُ﴾؛ أي: جعل هذا السد المشار إليه بما تقدم مع متانته ﴿دَكَّاءَ﴾؛ أي: أرضًا مستويةً، والظاهر (٤) أن جعله بمعنى صيَّره، فدكًا: مفعول ثان، وقال الزمخشري: فإذا دنا (٥) مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي.. جعل السد دكًا؛ أي: مدكوكًا منبسطًا مستويًا بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع.. فقد اندك. انتهى. وفيه بيان لعظمة قدرته تعالى بعد بيان سعة رحمته.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر (٦): ﴿دَكَّاً﴾ منونًا غير مهموز ولا ممدود، مصدر دككته، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي ﴿دَكَّاءَ﴾ ممدودةً مهموزةً بلا تنوين.
والمعنى: أي (٧) فإذا دنا وقت خروجهم من وراء السد.. جعل ربي ذلك
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
(٤) البحر المحيط.
(٥) الكشاف.
(٦) زاد المسير.
(٧) المراغي
السد بقدرته وسلطانه أرضًا مستويةً، فسلط عليه منهم أو من غيرهم من يهدمه، ويسوي به الأرض ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي﴾ بخروجهم وقت قرب الساعة ﴿حَقًّا﴾؛ أي: صدقًا ثابتًا لا ريب في تحقيقه واقعًا لا محالة فيه البتة، لا يتخلف، أو كان وعده بالثواب والعقاب، وهذا آخر قول ذي القرنين.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، ابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه ابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - ﷺ - قال: "إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذين عليهم ارجعوا، فستفتحونه غدًا، فيعودون إليه أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه غدًا - إن شاء الله تعالى - ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع مخضبةً بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء قسرًا وعلوًا، فيبعث الله تعالى عليهم نغفًا في أقفائهم، فيهلكون" قال رسول الله - ﷺ -: "فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكراً من لحومهم".
وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله - ﷺ - من نومه وهو محمر الوجه، وهو يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلَّق قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: "نعم إذا كثر الخبث" وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعًا
٩٩ - قوله: ﴿وَتَرَكْنَا...﴾ إلخ. من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين؛ أي: وصيَّرنا ﴿بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾؛ أي (١): صيَّرنا بعض يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السد يموج ويختلط ببعضهم الآخر
(١) المراح.
43
من شدة الازدحام عند خروجهم، لكثرتهم، وذلك عقب موت الدجال، فينحاز عيسى - عليه السلام - بالمؤمنين إلى جبل الطور فرارًا منهم. وروي: أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه، ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس، ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس، ولا يصلون إلى من تحصَّن منهم بورد أو ذكر، ويُحبس نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مئة دينار، فيتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء، فيسلط الله تعالى دودًا في أنوفهم أو آذانهم، فيموتون به، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيتوجه نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى، فيرسل - سبحانه وتعالى - عليهم طيرًا فتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطرًا يغسل الأرض حتى تصير كالمرآة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الغنم والإبل، حتى إن اللقحة لتكفي الجماعة الكثيرة، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحًا طيبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ نفخة ثانية للبعث، وهو القرن الذي ينفخ فيه للبعث من القبور، والمراد بالنفخة هنا: النفخة الثانية التي عندها يكون الحشر، بمقتضى الفاء التي بعدها؛ لأن الفاء تشعر بذلك، ولم يذكر النفخة الأولى؛ لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة.
والمعنى: نفخ إسرافيل في الصور أرواح الخلائق عند استعداد صور الأجساد لقبول الأرواح، كاستعداد الحشيش لقبوله الاشتعال، فتشتعل بأرواحها ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.
﴿فَجَمَعْنَاهُمْ﴾؛ أي: جمعنا يأجوج ومأجوج وغيرهم ﴿جَمْعًا﴾؛ أي: جمعًا عجيبًا، لم نترك من الملك والإنس والجن والحيوانات أحدًا؛ أي: جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء.
44
الإعراب
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)﴾.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾: جار ومجرور متعلق به وهو في محل المفعول الثاني والجملة مستأنفة ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة ﴿سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿السين﴾: حرف استقبال ﴿أتلو﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿عليكم﴾ متعلق به ﴿منه﴾ حال من ﴿ذِكْرًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿ذِكْرًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾ ﴿إِنَّا﴾ إن حرف نصب ونا اسمها ﴿مَكَّنَّا﴾: فعل وفاعل ﴿لَهُ﴾: متعلق به وكذا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به أيضًا ومفعول ﴿مَكَّنَّا﴾ محذوف تقديره ﴿مَكَّنَّا لَهُ﴾ أمره من التصرف فيها كيف يشاء وجملة ﴿مَكَّنَّا﴾ في محل الرفع خبر إن وجملة إن: مستأنفة مسوقة لبيان الذكر المتلو عليهم ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾: حال من سببا، لأنه صفة نكر قدمت عليها ﴿سَبَبًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتَيْنَا﴾ وجملة ﴿آتَيْنَا﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿مَكَّنَّا﴾.
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦)﴾.
﴿فَأَتْبَعَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية ﴿أَتْبَعَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿سَبَبًا﴾: مفعول به والجملة: معطوفة مفرعة على جملة ﴿آتَيْنَاهُ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿بَلَغَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ مفعول به وجملة ﴿بَلَغَ﴾: في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونا فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي ﴿وَجَدَهَا﴾: فعل ومفعول أول وفاعله: ضمير يعود على ذي
45
القرنين ﴿تَغْرُبُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الشمس ﴿فِي عَيْنٍ﴾: متعلق به ﴿حَمِئَةٍ﴾: صفة لـ ﴿عَيْنٍ﴾ وجملة ﴿تَغْرُبُ﴾: في محل النصب مفعول ثان أو حال من مفعول ﴿وَجَدَ﴾ وجملة ﴿وَجَدَ﴾ جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إذَا﴾: في محل الجر بحتى الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿أتبع﴾ والتقدير ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ إلى وجدانه الشمس غاربة ﴿فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ وقت بلوغه ﴿مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾. ﴿وَوَجَدَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿وَجَدَهَا﴾ وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿عِنْدَهَا﴾ متعلق بـ ﴿وجد﴾ ﴿قَوْمًا﴾ مفعول به ﴿قُلْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة: جواب لشرط محذوف تقديره فلما وجدهم ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ الخ. وجملة الشرط المحذوف مستأنفة ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ...﴾: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قُلْنَا﴾ ونداء الله إياه إن كان نبيًا فبوحي وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبي اهـ. بيضاوي. ﴿إِمَّا﴾: حرف تفصيل ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿تُعَذِّبَ﴾ فعل مضارع منصوب بأن وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره إما الشأن فيهم تعذيبك إياهم أو على كونه مبتدأ خبره محذوف تقديره: إما تعذيبك إياهم واقع ومن شواهد الرفع قول الشاعر:
فَسِيْرُوْا فَإمَّا حَاجَةٌ تَقْضِيَانِهَا وَإِمَّا مَقِيْلٌ صَالِحٌ وَصَدِيْقُ
أو في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لفعل محذوف، تقديره: إما فعلت التعذيب أو إختر إما: التعذيب ﴿وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذ﴾ معطوف على ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ ﴿فِيهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَتَّخِذَ﴾ أو مفعول ثان لـ ﴿تَتَّخِذَ﴾ و ﴿حُسْنًا﴾ مفعول أول.
﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة مستأنفة ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿ظَلَمَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أَمَّا﴾. ﴿سَوْفَ﴾: حرف استقبال ﴿نُعَذِّبُهُ﴾: فعل
46
ومفعول وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية جواب ﴿أَمَّا﴾: لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿أَمَّا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ ﴿يُرَدُّ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعله ضمير يعود على من ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾: متعلق به والجملة معطوفة على جملة نعذبه ﴿فَيُعَذِّبُهُ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب ﴿يُعَذِّبُهُ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَذَابًا﴾ مفعول مطلق ﴿نُكْرًا﴾: صفة له وجملة يعذب معطوفة على جملة ﴿يُرَدُّ﴾.
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على من والجملة صلة الموصول ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو صفة لمصدر محذوف أي عملًا صالحًا والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾. ﴿فَلَهُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب أما له خبر مقدم ﴿جَزَاءً﴾: حال من ﴿الْحُسْنَى﴾. ﴿الْحُسْنَى﴾ مبتدأ مؤخر؛ أي: فالحسنى كائنة له حالة كونه مجزيًا بها، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر من الموصولة والجملة الاسمية جواب أما لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَمَّا﴾: الأولى ﴿وَسَنَقُولُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿نقول﴾ ﴿مِنْ أَمْرِنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿يُسْرًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿يُسْرًا﴾ مفعول به أو مفعول مطلق لأنه صفة لمصدر محذوف والتقدير سنقول له من أمرنا قولًا يسرًا وجملة ﴿نقول﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة قوله ﴿فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾ على كونها خبرًا لمن الموصولة.
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ ﴿أَتْبَعَ سَبَبًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول والجملة: معطوفة على جملة قوله ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ السابق ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية
47
﴿إِذَا﴾ ظرف لما يسشقبل من الزمان ﴿بَلَغَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾: مفعول به والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿وَجَدَهَا﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لا من الإعراب وجملة إذا في محل الجر بحتى وحتى متعلقة بـ ﴿أَتْبَعَ﴾ والتقدير: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ إلى وجدانه الشمس طالعة على قوم وقت بلوغه ﴿مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾. ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾ متعلق بـ ﴿تَطْلُعُ﴾ وجملة ﴿تَطْلُعُ﴾ في محل النصب حال من مفعول وجد أو مفعول ثان لوجد ﴿لَمْ﴾ حرف جزم ﴿نَجْعَلْ﴾: مجزوم بلم وفاعله ضمير يعود على الله ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور في محل النصب مفعول ثان لجعل ﴿مِنْ دُونِهَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿سِتْرًا﴾. ﴿سِتْرًا﴾ مفعول أول لجعل وجملة نجعل في محل الجر صفة لقوم.
﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)﴾
﴿كَذَلِكَ﴾ جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر كائن كذلك والجملة مستأنفة؛ أي: أمر ذي القرنين كائن كما وصفناه من بلوغه مغرب الشمس وبلوغه مطلع الشمس وبسطة الملك له. ﴿وَقَدْ﴾ الواو: استئنافية ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق ﴿أَحَطْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة أو حالية أو معطوفة ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بأحطنا ﴿لَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة الموصول ﴿خُبْرًا﴾: تمييز محول عن فاعل ﴿أَحَطْنَا﴾؛ أي: وقد أحاط علمنا بما لديه.
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣)﴾
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ ﴿أَتْبَعَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿سَبَبًا﴾: مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢)﴾. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿بَلَغَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ مفعول به والجملة في محل
48
الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿وَجَدَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿مِنْ دُونِهِمَا﴾: مفعول ثان لوجد ﴿قَوْمًا﴾ مفعول أول له وجملة ﴿وَجَدَ﴾ جواب ﴿إِذَا﴾ وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الجر بحتى و ﴿حَتَّى﴾ متعلق بـ ﴿أَتْبَعَ﴾ والتقدير ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢)﴾ إلى وجدانه ﴿قَوْمًا﴾ من دون السدين وقت بلوغه بينهما ﴿لَا يَكَادُونَ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب خبر كاد وجملة كاد في محل النصب صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل و ﴿الواو﴾: ضمير يعود على أولئك القوم والجملة مستأنفة ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾: منادى مضاف وجملة النداء: في محل النصب مقول قال ﴿إِنَّ يَأْجُوجَ﴾: ناصب واسمه ﴿وَمَأْجُوجَ﴾. معطوف على يأجوج ﴿مُفْسِدُونَ﴾: خبر إن ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول قال على كونها جواب النداء ﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿هل﴾ حرف استفهام استخباري ﴿نَجْعَلُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على أولئك القوم ﴿هَلْ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل ﴿خَرْجًا﴾: مفعول أول والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة إن ﴿عَلَى﴾ حرف جر ﴿أَنْ تَجْعَلَ﴾: ناصب وفعل منصوب وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿بَيْنَنَا﴾: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لتجعل ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾ معطوف على ﴿بَيْنَنَا﴾ ﴿سَدًّا﴾: مفعول أول لتجعل وجملة تجعل مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بعلى تقديره: على جعلك سدًا بيننا وبينهم الجار والمجرور: متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿خَرْجًا﴾ تقديره: خرجا قائمًا على شرط جعلك سدًا بيننا وبينهم.
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥)﴾
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة مستأنفة
49
﴿مَا مَكَّنِّي﴾ إلى قوله: ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى﴾: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿مَكَّنِّي﴾ فعل ماض، ونون وقاية، وياء مفعول ﴿فِيهِ﴾ متعلق به ﴿رَبِّي﴾ فاعل والجملة صلة الموصول ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَعِينُونِي﴾ الفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره إذا عرفتم ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: أعينوني. ﴿فَأَعِينُونِي﴾ فعل وفاعل ونون وقاية وياء مفعول ﴿بِقُوَّةٍ﴾ متعلق به والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول قال ﴿أَجْعَلْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿بَيْنَكُمْ﴾ ظرف في محل المفعول الثاني لـ ﴿أَجْعَلْ﴾ ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾ معطوف عليه ﴿رَدمًا﴾ مفعول أول لأجعل والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب الطلب.
﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)﴾.
﴿آتُونِي﴾ فعل أمر وفاعل ونون وقاية والياء مفعول أول ﴿زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾: مفعول ثان، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مفسرة لأعينوني ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية متعلقة بمحذوف تقديره. فجاؤوه بما طلب فبنى وجعل ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ الفحم والحطب حتى ﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ وسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾... إلخ. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿سَاوَى﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾: مفعول به لـ ﴿سَاوَى﴾ كما مر في مبحث التفسير، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة إذا في محل الجر بحتى تقديره وجعل بين الصدفين الفحم والحطب والحديد إلى قوله لهم: ﴿انْفُخُوا﴾ وقت مساواته ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾. ﴿انْفُخُوا﴾: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول قال ﴿حَتَّى﴾ حرف جر
50
وغاية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿جَعَلَهُ نَارًا﴾ فعل ومفعولان وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة: في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿قَالَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الجر بحتى تقديره إلى قوله آتوني وقت جعله إياه نارًا الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قَالَ انْفُخُوا﴾. ﴿آتُونِي﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول أول والمفعول الثاني محذوف لدلالة العامل الثاني عليه لأن المسألة من باب التنازع تقديره ﴿آتُونِي﴾ قطرًا والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أُفْرِغْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿قِطْرًا﴾: مفعول به لـ ﴿أُفْرِغْ﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب الطلب، فأُعمل الثاني هنا على مذهب البصريين لقربه، ولو أعمل الأول لقيل آتوني أفرغه عليه قطرا.
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)﴾.
﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره فجاء قوم يأجوج ومأجوج بعد أن أنهى بناءه وتسويته يحاولون أن يعلوه أو يثقبوه فما اسطاعوا والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿ما﴾ نافية ﴿اسْطَاعُوا﴾ فعل ماض وفاعل ﴿أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به والجملة في تأويل مصدر على المفعولية والتقدير فما اسطاعوا ظهورهم إياه والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا﴾ فعل وفاعل ﴿لَهُ﴾: متعلق به ﴿نَقْبًا﴾: مفعول به والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ذي القرنين والجملة: مستأنفة ﴿هَذَا رَحْمَةٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿مِنْ رَبِّي﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رَحْمَةٌ﴾ والجملة الإسمية في محل النصب مقول قال ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿جَاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه والجملة: في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على
51
كونها فعل شرط لها والظرف: متعلق بالجواب الآتي ﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعولان والجملة: جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة على كونها مقول قال ﴿وَكَانَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو حالية ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾: فعل ناقص واسمه ومضاف إليه وخبره والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ أو على جملة جوابها أو حال من فاعل ﴿جَاءَ﴾.
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩)﴾.
﴿وَتَرَكْنَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف إلى مثله والتنوين في إذ عوض عن الجملة المحذوفة كما مر تقديره؛ أي: يوم إذ يدك السد أو يوم إذ يخرج يأجوج ومأجوج والظرف متعلق بـ ﴿يَمُوجُ﴾ أي: ﴿يَمُوجُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على بعضهم ﴿فِي بَعْضٍ﴾ متعلق بـ ﴿يَمُوجُ﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿تَرَكْنَا﴾ لأن ترك هنا من أفعال التصيير وجملة ﴿تَرَكْنَا﴾: مستأنفة. ﴿وَنُفِخَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿فِي الصُّورِ﴾ جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿نفخ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿تَرَكْنَا﴾ ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿جَمْعًا﴾: مفعول مطلق ﴿والفاء﴾: عاطفة والجملة: معطوفة على جملة ﴿نفخ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿ذِكْرًا﴾؛ أي: نبأً مذكورًا، وهو القرآن ﴿مَكَّنَّا لَهُ﴾ يقال: مكنه ومكن له، كنصحه ونصح له؛ أي: مهد له الأسباب، وجعله قادرًا على التصرف في الأرض، من حيث التدبير والرأي.
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)﴾ قد سبق لك في مبحث القراءة، أن نافعًا، وابن كثير، وأبا عامر، وابن عامر قرؤوا ﴿فَأَتْبَعَ﴾ ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)﴾ في المواضع كلها، بهمزة وصل، وتشديد التاء من افتعل الخماسيِّ، والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء من أتبع الرباعي، فقيل: هما بمعنى واحد فيتعديان لمفعول واحد، وقيل ﴿أتبع﴾
52
بالقطع متعد لاثنين حذف أحدهما تقديره ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)﴾ سببًا آخر أو فأتبع أمره سببًا. ومنه: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ فعداه لاثنين، ومن حذف أحد المفعولين قوله تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)﴾؛ أي: أتبعوا جنودهم، واختار أبو عبيد ﴿اتَّبع﴾ بالوصل، قال: لأنه من المسير، قال: تقول: تبعت القوم واتبعتهم، فأما الإتباع بالقطع فمعناه اللحاق، كقوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ وقال يونس، وأبو زيد: ﴿أتبع﴾ بالقطع، عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبالوصل إنصا يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات. اهـ "سمين".
﴿سَبَبًا﴾؛ أي: طريقًا يوصله إليه، من علم أو قدرة أو آلة ﴿حَمِئَةٍ﴾؛ أي: ذات حمئة، وهي الطين الأسود، وفي "المصباح" والحمأة بسكون الميم: طين أسود، وحمئت البئر حمأً، من باب تعب، صار فيها الحمأة، وحميت الحديدة تحمى، من باب تعب فهي حامية، إذا اشتد حرها بالنار، ويتعدى بالهمزة فيقال: أحميتها فهي محماة، ولا يقال: حميتها بغير ألف. اهـ والعين الحمئة: ماء يجري على الطين الأسود.
﴿مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾: بكسر الراء؛ أي: مكان غروبها، والقياس: فتحها لأن القاعدة (١) عند الصرفيين: أن كل فعل ثلاثي متصرف، لا يأتي مضارعه على وزن يفعل بكسر العين، بل يأتي على يفعل بضمها، أو على يفعل بفتحها ككرم يكرم، ونصر ينصر، وفرح يفرح، وغرب يغرب، وطلع يطلع، قياس مفعله فتح الميم والعين مع سكون فائه، سواء أريد به المصدر، أو الزمان أو المكان، والكسر فيه شاذ كما قال ابن مالك في "لامية الأفعال":
مِنْ ذِيْ الثَّلاثَةِ لاَ يَفْعَلْ لَهُ إئت بمفـ ـعل مَصْدَرَ أَو مَا فِيهِ قَدْ عَمِلاَ
﴿حُسْنًا﴾؛ أي: أمرًا ذا حسن ﴿نُكْرًا﴾؛ أي: منكرًا فظيعاً ﴿الْحُسْنَى﴾؛ أي: المثوبة الحسنى ﴿يُسْرًا﴾؛ أي: سهلًا ميسرًا غير شاق ﴿سِتْرًا﴾؛ أي: بناءً، وكانوا إذا طلعت الشمس تغوَّروا في المياه، وإذا غربت خرجوا ﴿خُبْرًا﴾؛ أي: علمًا
(١) مناهل الرجال.
53
يتعلق بظواهره وخفاياه ﴿بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾؛ أي: بين الجبلين، ويُروى: أن ذا القرنين سد ما بينهما، وإطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي "القاموس": السد الجبل الحاجز، أو لكونه ملاصقاً للسد، فهو مجاز علاقته المجاورة، والقول الثاني هو المناسب لما قبله. اهـ "شهاب".
﴿يَفْقَهُونَ﴾ يفهمون ﴿يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ اسمان أعجميان، بدليل منع الصرف فيهما للعلمية والعجمة، وقيل: بل هما عربيان، واختلف في اشتقاقهما، فقيل: من أجيج النار، وهو التهابها وشدة توقدها، وقيل: من الأوجة، وهي الأخلاط، أو شدة الحر، وقيل: من الأوج، وهو سرعة العدو، وإنما منعا من الصرف، للعلمية والتأنيث، وكلاهما من أج الظليم، إذا أسرع، أو من أجت النار، إذا التهبت، ﴿خَرْجًا﴾؛ أي: جعلًا من أموالنا والخراج: ما لزمك أداؤه ﴿بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس ﴿رَدْمًا﴾ والردم أكبر من السد وأوثق منه، يقال: ثوب مردم؛ أي: فيه رقاع فوق رقاع.
﴿آتُونِي﴾ قرأ أبو بكر (١) ﴿ائتوني﴾ بهمزة وصل، من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة، بخلاف عنه في الثاني، ووافقه حمزة على الثاني من غير خلاف عنه، والباقون بهمزة القطع فيهما، فزبر على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض؛ أي: جيئوني بزبر الحديد وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدى بالهمزة إلى اثنين، وعلى قراءة أبي بكر يحتاج إلى كسر التنوين، من ﴿رَدْمًا﴾ لالتقاء الساكنين؛ لأن همزة الوصل تسقط درجا، فيقرأ له بكسر التنوين وبعده همزة ساكنة هي فاء الكلمة، وإذا ابتدأت بكلمة ائتوني في قراءتِهِ وفي قراءة حمزة.. تبدأ بهمزة مكسورة للوصل، ثم ياء صريحة هي بدل عن همزة فاء الكلمة، وفي الدرج تسقط همزة الوصل، فتعود الهمزة لزوال موجب إبدالها، والباقون يبتدئون ويصلون بهمزة مفتوحة، لأنها همزة قطع ويتركون تنوين ﴿رَدْمًا﴾ على حاله من السكون، هذا كله ظاهر لأهل النحو، خفيٌّ على القراء.
(١) الفتوحات.
54
﴿زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾؛ أي: قطع الحديد، جمع زبرة كغرفة وغرف ﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ بفتحتين وضمتين أيضًا، وضم الأول وسكون الثاني، وقد قرىء بالثلاث جميعًا، مثنى صدف بفتحتين، وصدف بضمتين، وصدف بضم الأول وفتح الثاني، وبالعكس منقطع الجبل، أو ناصيته، وقد سميا بذلك لأنهما يتقابلان وفي زاده وسميت كل ناحية من الجبلين صدفاً لكونه مصادفاً، ومقابلاً للآخر من قولك صادفت الرجل؛ أي: لقيته اهـ.
﴿قِطْرًا﴾؛ أي: نحاسًا مذابًا، فالقطر بكسر فسكون النحاس المذاب على الحديد المحمى، وقيل: رصاصًا مذابًا ﴿أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾؛ أي: أن يعلوه ويرقوا فوقه لارتفاعه وملاسته ﴿رَحْمَةٌ﴾؛ أي: أثر رحمة ﴿دَكَّاءَ﴾؛ أي: مثل دكاء وهي الناقة التي لا سنام لها، والمراد بها: الأرض المستوية ﴿حَقًّا﴾ ثابتًا واقعًا لا محالة ﴿يَمُوجُ﴾؛ أي: يضطرب اضطراب البحر ﴿الصُّورِ﴾ قرن ينفخ فيه والبوق.
فائدة في مبحث اسْطاع: قالوا: الأصل في اسطاع واستطاع أن التاء حذفت تخفيفًا، وفتحت همزة الوصل وقطعت، وهو قول الفراء، وفي استطاع لغات: اسطاع يستطيع، بفتح الهمزة في الماضي وضم حرف المضارعة، فهو أطاع يطيع، وأصله يطوع بقلب الفتحة من الواو إلى الطاء في أطوع، إعلالاً له حملاً على الماضي، فصار أطاع، ثم دخلت السين كالعوض من عين الفعل، هذا مذهب سيبويه، واللغة الثانية استطاع يستطيع بكسر الهمزة في الماضي ووصلها، وفتح حرف المضارعة، وهو استفعل نحو استقام واستعان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع.
فمنها: تكرار ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿مَغرِبَ﴾ و ﴿مَطْلِعَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿مَغْرِبَ﴾ و ﴿تَغْرُبُ﴾ و ﴿مَطْلِعَ﴾ و ﴿تَطْلُعُ﴾.
55
ومنها: التفصيل أو التخيير في قوله: ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)﴾ لأن السبب حقيقة في الحبل، فاستعير هنا لكل ما يُتوصل به إلى المقصود من الآلات والعملة وآلات السير وكثرة الجند.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾ مقابل قوله: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ...﴾ الآية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾؛ أي: بين الجبلين؛ لأن السد حقيقة في الحاجز المبني، فاستعماله في الجبل مجاز، علاقته المجاورة.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾ أي: كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار، وحذفت أداة التشبيه فأصبح بليغًا.
ومنها: التفنن في قوله: ﴿رَدْمًا﴾ لأنه بمعنى سداً، إلا أنه أبلغ منه في المعنى.
ومنها: استعمال الماضي في المستقبل، في قوله: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا﴾ لأن الاستطاعة المنفية مستقبلة بالنظر إلى وقت القول.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض، بموج البحر المتلاطم، واستعار لفظ يموج لذلك الاختلاط، ففيه استعارة تبعية، والاستعارة هنا من نوع استعارة محسوس لمحسوس، كما هو من أقسام الاستعارة، فإن أصل الموج تحريك المياه، فاستعير لحركة يأجوج ومأجوج، أو لحركة الخلق كلهم، لاشتراك المستعار والمستعار له في الحركة، وهي استعارة مكنية تبعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
56
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) أنه إذا جاء يوم القيامة ينفخ في الصور لقيام الخلق من قبورهم، بعد أن تقطعت أوصالهم، وتمزقت أجسامهم، وجمعهم في صعيد واحد للحساب والجزاء.. أردف ذلك ببيان أنه إذ ذاك يُبرز النار للكافرين، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، وفي ذلك تعجيل الهم والحزن لهم، من قبل أنهم تعاموا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، وحسبوا أن اتخاذهم أولياء من دون الله ينجيهم من عذابه، وأن ما عملوه من تلك الأعمال الباطلة نافع لهم، وكل ذلك وهم وخيال، فلا فائدة منه في ذلك اليوم ولا نقيم لهم إذ ذاك وزنًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) ما أعده للكافرين من العذاب
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
57
في جهنم جزاء كفرهم بربهم، واستهزائهم برسله وآياته.. أردف ذلك بما يرغِّب المؤمنين في العمل الصالح، من جنات تجري من تحتها الأنهار، جزاءً وفاقًا على إنابتهم إليه، وإخباتهم له، ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي ذكر فيه الدلائل والبينات على وحدانيته، وإرساله الرسل، والبعث والجزاء، للدلالة على عظيم فضله، ومزيد إنعامه، ثم أعقب ذلك ببيان أن العمل لا يُتقبل إلا إذا صاحَبَهُ أمران: أن يكون خالصًا لوجهه تعالى، وأن يكون مبرءًا من الشرك الخفي والجلي.
أسباب النزول
قوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) الحاكم وغيره، عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)﴾ وقال اليهود: أوتينا علمًا كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي...﴾ إلخ. الآية.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه...﴾ الآية، أخرج ابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص" عن طاووس قال: قال رجل: يا رسول الله إني أقف أريد وجه الله وأحب أن يُرى موطني، فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ مرسل وأخرجه الحاكم في "المستدرك" موصولًا، عن طاووس، عن ابن عباس صححه على شرط الشيخين.
وأخرج (٢) ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: كان رجل من المسلمين يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه فأنزل الله ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه...﴾. الآية.
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
58
وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر في تاريخه، من طريق السدى الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: قال جندب عن زهير: إذا صلى الرجل، أو صام، أو تصدق، فذُكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس له فنزلت في تلك ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٠ - ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ﴾ أبرزنا نار جهنم ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ نفخ في الصور، وجمعناهم جمعًا وأظهرناها ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ باللهِ وبرسله ﴿عَرْضًا﴾ هائلاً وإظهارًا عجيبًا، لا يُعرف كنهه حتى يروا أهوالها، وشديد نكالها، ويسمعوا لها تغيظًا وزفيرًا، وفي هذا تعجيل للهم والحزن لهم، ومعرفة أنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفا.
وتخصيص العرض بالكافرين (١)، مع أنها بمرىءً من أهل الجمع قاطبةً، لأن ذلك لأجلهم خاصةً، وهذا العرض يجري مجرى العقاب لهم من أول الأمر، لما يتداخلهم من الغم العظيم
١٠١ - ﴿الَّذِينَ﴾ الموصول مع صلته نعت للكافرين، أو بدل ولذا لا وقف على عرضا، كما في "الكواشي" ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ﴾؛ أي: أعين قلوبهم، وهم في الدنيا ﴿فِي غِطَاءٍ﴾؛ أي: في غلاف وغيظ وأغشية كثيفة، محاطة بذلك من جميع الجوانب، والغطاء: ما يغطي الشيء ويستره ﴿عَنْ ذِكْرِي﴾ على وجه يليق بي، وعن كتابي فلا يهتدون به؛ أي: في غطاء عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيد، كما قيل:
فَفِي كَلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
﴿وَكَانُوا﴾ مع ذلك ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لا يقدرون لفرط تصاممهم عن الحق، وكمال عداوتهم للرسول - ﷺ - ﴿سَمْعًا﴾؛ أي: استماعًا لذكري وكلامي وقرآني، فلا يؤمنون به، يعني: أن حالهم أعظم من الصمم، فإن الأصم قد يستطيع السمع إذا
(١) روح البيان.
صيح به، وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة.
والمعنى (١): أن هذا العذاب إنما نالهم من جراء أنهم كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكروا فيها، ولا يتأملون حججه، فيعتبروا بها وينيبوا إلى ربهم، وينقادوا لأمره ونهيه، وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله، الذي ذكرهم به، وبيانه الذي بيِّنه لهم في آي كتابه، فتغافلوا وتعاموا، وتصاموا عن قبول الهدي، واتباع الحق كما قال: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)﴾ ذاك أنهم لما دنسوا أنفسهم باجتراح الذنوب والآثام، وأطاعوا وساوس الشيطان وما نصبه لهم من الحبائل.. طبع الله على قلوبهم، وجعل على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة،
١٠٢ - ثم بيَّن أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات لا يجديهم نفعًا، فقال: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والهمزة فيه للتوبيخ والتقريع المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، و (الفاء): عاطفة على ذلك المحذوف، والحسبان هنا بمعنى الظن، والتقدير أَكفروا بي (٢) مع جلالة شأني، فحسبوا وظنوا ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي﴾ من الملائكة، وعيسى وعزير، وهم تحت سلطاني وملكوتي ﴿مِنْ دُونِي﴾ مجاوزين إيّاي؛ أي: تاركين عبادتي ﴿أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: معبودين ينصرونهم من بأسي، والمعنى: أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم، أو يرفع عنهم ما يحل بهم من النكال والوبال، وخلاصة هذا: أظنوا أن ذلك الاتخاذ ينفعهم وأنه لا يغضبني؟ كلا.
وقرأ علي بن أبي طالب (٣)، وزيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ونعيم بن ميسرة، والضحاك، وابن أبي ليلى، وابن كثير، ويعقوب بخلاف عنهما، وابن محيصن، وأبو حيوة، والشافعي، ومسعود بن صالح ﴿أَفَحَسِبَ﴾ بإسكان السين وضم الباء مضافًا إلى الذين؛ أي: أفكفايتهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء، على أنه مبتدأ وخبر، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
ثم أكد هذا الإنكار بقوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾؛ أي: أعددنا وهيأنا ﴿جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ﴾ المعهودين ﴿نُزُلًا﴾ وهو ما يعد للنزيل والضيف؛ أي: أحضرنا جهنم للكافرين، كالنزل المعد للضيف، وفيه تهكم بهم، كقولهم: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ والمعنى: إن جهنم معدة لهم عندنا، كما يعد النزاع للضيف؛ أي (١): إنا هيأنا لهؤلاء الكافرين جهنم عوضًا مما أعدوه لأنفسهم من الأولياء الذين اتخذوهم زادًا ليوم المعاد، والخلاصة: إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر عُدةً، هي جهنم وبئس المصير.
وقرأ أبو حيوة، وأبو عمرو بخلاف عنه ﴿نزْلاً﴾ بسكون الزاي وفي ذلك تهكم بهم، وتخطئة لهم في حسبانهم ذلك، وإيماء إلى أن لهم وراء جهنم ألوان أخرى من العذاب، وما جهنم إلا أنموذج منه.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أن من ادعى محبة الله وولاءه، لا يتخذ من دون الله أولياء، أيًا كان، إذ لا يجتمع ولاية الحق وولاية الخلق، ومن كفر بنعمة الولاء واتخذ من دون الله أولياء، فله جهنم البعد والقطيعة أبدًا.
١٠٣ - ثم ذكر سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل من أهل الكتابين، اليهود والنصارى، ومن المشركين ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾ أيها الكفرة؛ أي: هل نخبركم أنا ومن تبعني من المؤمنين ﴿بِالْأَخْسَرِينَ﴾ في الآخرة ﴿أَعْمَالًا﴾ نصب على التمييز والجمع، للإيذان بتنوعها؛ أي: بالقوم الذين هم أشد الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا، قال في "الإرشاد" هذا بيان حال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها، من صلة الرحم، وإطعام الفقراء، وعتق الرقاب ونحوها، وفي حسبانهم أيضًا حيث كانوا معجبين بها، واثقين بنيل ثوابها، ومشاهدة آثارها غِبَّ بيان حالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها، مع كونها حسنة في حسبانهم. انتهى.
وقال في "البحر": والأخسر من أتعب نفسه بعمل فأدى تعبه به إلى النار،
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
نعوذ بالله من ذلك
١٠٤ - ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: هم الذين ضل؛ أي: ضاع وبطل سعيهم وجهدهم في إقامة الأعمال الحسنة ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بالسعي لا بالضلالة، لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا ﴿وَهُمْ﴾ أي: ضل سعيهم والحال أنهم ﴿يَحْسَبُونَ﴾؛ أي: يظنون ﴿أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾؛ أي: يعملون عملًا ينفعهم في الآخرة؛ أي (١): يحسبون أنهم يعملون ذلك، على الوجه اللائق، وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها، وكابدوا في تحصيلها.
وفي الآية: إشارة إلى أهل الأهواء والبدع، وأهل الرياء والسمعة، فإن اليسير من الرياء شرك، وان الشرك محبط الأعمال، لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ والمعنى (٢): قل لهم يا محمَّد: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ثوابًا وفضلًا، فنالوا به هلاكًا وبوارًا، كالمشتري سلعةً يرجو بها ربحًا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعته، ووكس في الذي رجا فضله.
وخلاصة ذلك: أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وأنهم يحسنون صنعًا، ثم استبان لهم أنهم كانوا مخطئين، وفي ضلال مبين، وأن سعيهم الذي سعوه في الدنيا ذهب هباءً، فلم يجدهم نقيرًا ولا قطميرًا.
١٠٥ - ثم بيَّن السبب في بطلان سعيهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من ضلال سعيهم مع الحسبان المذكور هم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: بدلائله الداعية إلى توحيده عقلًا ونقلاً ﴿و﴾ كفروا بـ ﴿لِقَائِهِ﴾ سبحانه وتعالى بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة، على ما هي عليه ﴿فَحَبِطَتْ﴾؛ أي: ضاعت وبطلت بذلك ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ التي عملوها مما يحسبونها حسنة حبوطًا كليًا، فلا يثابون عليها، وذلك خسران وضلالٌ مبين.
وقرأ ابن عباس وأبو السمال (٣): ﴿فحبطت﴾ بفتح الباء، والجمهور
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
بكسرها، ثم حكم عليهم بقوله: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ﴾؛ أي: فلا نجعل لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ وقدرًا؛ أي (١): فنزدري بهم، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة، ولما كان هذا الازدراء من عواقب حبوط الأعمال.. عطف عليه بطريق التفريع، وأما ما هو من أجزية الكفر، فسيجيء بعد ذلك.
والمعنى (٢): أن هؤلاء الأخسرين أعمالاً، هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة في الآفاق والأنفس، التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب، وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثم حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزي طويل، ولا تثقل بها موازينهم؛ لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهم منها شيء.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿فَلَا نُقِيمُ﴾ بالنون ﴿وَزْنًا﴾ بالنصب، ومجاهد، وعبيد بن عمير ﴿فَلَا نُقِيمُ﴾ بالياء لتقدم قوله ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وعن عبيد أيضًا ﴿يقوم﴾ بفتح الياء كأنه جعل قام متعدياً، وعن مجاهد، وابن محيصن، ويعقوب بخلاف عنهم ﴿فلا يقوم﴾ مضارع قام ﴿وزنٌ﴾ مرفوع به وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - ﷺ - قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال: "اقرؤوا - إن شئتم -: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا" متفق عليه.
١٠٦ - ثم بيَّن مآلهم بسبب كفرهم، وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك الكفر فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة (٤) إلى ما ذكر، من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم عند الله، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك؛ أي: أمر هؤلاء المذكورين، وشأنهم ذلك الذي ذكرناه، وقوله: ﴿جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ جملة مستأنفة مسوقة لبيان جزائهم؛ أي: جزاء هؤلاء المذكورين نار جهنم، وقيل:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الخازن.
المعنى: ذلك التصغير لهم، وجزاؤهم جهنم، فأضمرت واو الحال، ذكره ابن الجوزي ﴿بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي﴾ الدالة على وحدانيتي ﴿وَرُسُلِي﴾ المؤيدين بالمعجزات ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: مهزوءاً بها؛ أي: جزاؤهم (١) جهنم بسبب كفرهم وإنكارهم لما يجب إيمانهم وإقرارهم به، واتخاذهم القرآن وغيره من الكتب الإلهية ورسل الله وأنبيائه سخرية واستهزاء، وهذا من قبيل الوصف بالمصدر للمبالغة، يعني: أنهم بالغوا في الاستهزاء بآيات الله ورسله، فكأنهم جعلوها وإياهم عين الاستهزاء، أو المعنى مهزوءاً بهما كما مر، أو مكان هزء
١٠٧ - ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار، الوعد للمؤمنين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بآيات ربهم ولقائه في الدنيا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ من الأعمال وهي ما كانت خالصةً لوجه الله تعالى ﴿كَانَتْ لَهُمْ﴾ في علم الله تعالى في الأزل، وإنما قدرنا ذلك جوابًا عما يقال المقام للمضارع، فما وجه المعنى هنا؟
وحاصل الجواب: أن الكينونة المذكورة بحسب علم الله الأزلي وإن كانت الكينونة المقارنة بالدخول ستحصل، ذكره في "الفتوحات" ﴿جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾؛ أي: ثمار بساتين الفردوس ﴿نُزُلًا﴾ معدًا لهم مبالغةً في إكرامهم حالة كونهم
١٠٨ - ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقدرين الخلود في تلك الجنات حالة كونهم ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ مصدر كالصغر؛ أي: لا يطلبون تحولاً وانتقالاً عنها إلى غيرها، كما ينتقل الرجل في الدنيا من دار إذا لم توافقه إلى دار، إذ لا مزيد عليها وفيها كل المطالب، والمراد بنفي التحويل تأكيد الخلود، والفردوس (٢): ربوة خضراء في الجنة أعلاها وأحسنها، يقال: لها سرة الجنة، وفي حديث (٣) عبادة: "الفردوس أعلاها"؛ يعني: أعلى الجنة، قال قتادة: وربوتها ومنها تفجر أنهار الجنة، قال أبو هريرة: جبل تتفجر منه أنهار الجنة، وفي حديث أبي أمامة "الفردوس سرة الجنة" قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وقال مجاهد: الفردوس البستان باللغة الرومية، واختار
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
الزجاج ما قاله مجاهد.
ومعنى الآي: أي (١) إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال، ابتغاء المثوبة من ربهم، لم بساتين الفردوس في أعلى الجنة وأوسطها منزلًا، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر الأنهار".
حالة كونهم خالدين ولابثين فيها أبدًا، لا يبغون تحولاً عنها إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحولوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه، إلى دار أخرى، وخلاصة هذا: أنه لا مكان أعز منها عندهم، ولا أرفع شأنًا. حتى تنازعهم إليه أنفسهم، وتطمح إليه أبصارهم،
١٠٩ - ثم نبه إلى عظيم شأن القرآن بقوله: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المجادلين لك ﴿لَوْ كَانَ الْبَحْرُ﴾؛ أي: جنس ماء البحر ﴿مِدَادًا﴾ وحبرًا ﴿لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾؛ أي: لكتابتها وهي حكمه وعجائبه، والكلمات هي: العبارات عنها كما في "الجلالين" ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ﴾؛ أي: لفنى جنس ماء البحر بأسره، مع كثرته ولم يبق فيه شيء؛ لأن كل جسم متناه ﴿قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ﴾ وتفنى ﴿كَلِمَاتُ رَبِّي﴾؛ أي: من غير (٢) أن تفنى معلوماته وحكمه، فإنها غير متناهية لا تنفد، كعلمه فلا دلالة للكلام على نفادها بعد نفاد البحر.
و ﴿قَبْلَ﴾ هنا بمعنى غير أو بمعنى دون، وإنما اختار جمع القلة على الكثرة، وهي الكلم - تنبيهًا على أن ذلك لا يقابل بالقليل، فكيف بالكثير كما في "بحر العلوم" ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ﴾؛ أي: بمثل ماء البحر الموجود ﴿مَدَدًا﴾ تمييز؛ أي: زيادة ومعونة.. ما نفدت كلمات - الله تعالى - لأن كلمات الله غير متناهية، فلا نفاد لها، فحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الأول عليه، والواو (٣) لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها؛ أي: ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ﴾
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
65
كلماته لو لم يجىء بمثله مددًا ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾.
والمعنى (١): قل لهم أيها الرسول: لو كان ماء البحر مددًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي وعلومه.. لنفد ماء البحر قبل أن تنفد تلك الكلمات ولو مددنا ماء البحر بمثل ما فيه من الماء مددًا وعونًا؛ لأن مجموع المتناهيين متناه وعلوم الله وحكمته لا نهاية لها، والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ وقرأ عبد الله (٢)، وابن عباس، والأعمش، ومجاهد، والأعرج، والحسن، والمنقري عن أبي عمرو ﴿مددا لكلمات ربي﴾ بدل ﴿مِدَادًا﴾ وقرأ (٣) ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم ﴿تَنْفَدَ﴾ بالتاء الفوقانية وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وطلحة، وابن أبي ليلى ﴿ينفد﴾ بالياء التحتانية، قال أبو علي: التأنيث أحسن لأن المسند إليه الفعل مؤنث، والتذكير حسن لأن التأنيث ليس بحقيقي، وإنما لم تنفد كلمات الله؛ لأن كلامه صفة من صفات الله، ولا يتطرق على صفاته النفاد.
وقرأ السلمي (٤): ﴿أن تنفد﴾ بتشديد الفاء على وزن تفعل على المضي، وجاء كذلك عن عاصم، وأبي عمرو، فهو مطاوع من نفَّد مشدداً، نحو كسرته فتكسّر، وفي قراءة الجماعة مطاوع؛ لأنفد وقرأ الجمهور: ﴿بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ بفتح الميم والدال بغير ألف، والأعرج بكسر الميم، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والأعمش بخلاف عنه، وأبو رجاء، وقتادة، وابن محيصن، والتيمي، وحميد، والحسن في رواية، وأبو عمرو في رواية، وحفص في رواية: ﴿بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ بألف بين الدالين وكسر الميم.
فإن قيل (٥): لِمَ قال في أول الآية ﴿مَدَادًا﴾ وفي آخرها ﴿مَدَدًا﴾ وكلاهما
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير والبحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
(٥) زاد المسير.
66
بمعنى واحد، واشتقاقهما غير مختلف، فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: لما كان الثاني آخر آية وأواخر الآيات هاهنا أتت على الفعل، والفعل كقوله نزلاً هزوًا حولاً، كان قوله: ﴿مددًا﴾ أشبه بهؤلاء الألفاظ من المداد واتفاق المقاطع عند أواخر الآيي، وانقضاء الأبيات، وتمام السجع في النثر، أخف على الألسن وأحلى موقعًا في الأسماع، فاختلفت اللفظتان لهذه العلة، وفي "الفتوحات": المعنى مختلف كاللفظ، فلا اعتراض كما عُلم من هذا ومما سبق.
١١٠ - ﴿قُل﴾ يا محمَّد لهؤلاء المجادلين لك بعدما بينت لهم شأن كلمات الله تعالى، ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أي: ما أنا إلا آدمي مثلكم في الصورة، ومساويكم في الصفات البشرية؛ أي: إنَّ حالي (١) مقصور على البشرية، لا يتخطاها إلى الملكية، ومن كان هكذا فهو لا يدَّعى الإحاطة بكلمات الله، إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه، كما قال: ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ من ربي من بعض تلك الكلمات، وكفى بهذا الوصف فارقًا بينه وبين سائر أنواع البشر، ثم بيَّن أن الذي أوحي إليه هو قوله: ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ﴾ ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ أي: منفرد في ألوهيته وربوبيته، لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، يعني: أنا معترف ببشريتي ولكن الله منّ عليّ من بينكم بالنبوة والرسالة، وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن بني آدم في البشرية واستعداد الإنسانية سواء، النبي والولي والمؤمن والكافر، والفرق بينهم بفضيلة الإيمان والولاية والنبوة والوحي والمعرفة، بأن إله العالمين إله واحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. اهـ.
وفي هذا: إرشاد إلى التوحيد، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد، فقال: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو﴾ ويطمع شرط جزاؤه ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ قال في "الإرشاد" (كان) للاستمرار، والرجاء: توقع وصول الخير في المستقبل؛ أي: فمن كان يرجو ويأمل ويطمع ﴿لِقَاءَ رَبِّهِ﴾، أي: رؤية ربه أو كرامة ربه وثوابه، أو من كان يخاف
(١) روح البيان.
67
لقاء ربه والمصير إليه للمجازاة.. ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ لتحصيل ذلك المطلوب العزيز ﴿عَمَلًا صَالِحًا﴾ لائقًا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من قبل.
وقال الإمام (١): حمل أصحابنا لقاء الرب على رؤيته، والمعتزلة على لقاء ثوابه، يقال: لقيه كرضيه رآه، كما في "القاموس" والرجاء: يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الأمل، كما في "البغوي".
والمعنى (٢): من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين، ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله وقال في "التأويلات النجمية" العمل الصالح متابعة النبي - ﷺ - والتأسي بسنته ظاهرًا وباطناً، فأما سُنَّة باطنهِ فالتبتل إلى الله تعالى وقطع النظر عما سواه.
﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ من المخلوقات سواء كان صالحًا أو طالحًا حيوانًا أو جمادًا قال أبو البقاء (٣): أي: في عبادة ربه، ويجوز أن تكون الباء على بابها؛ أي بسبب عبادة ربه. اهـ.
ومعنى الآية: أي فمن كان يطمع في ثواب الله على طاعته.. فليخلص له العبادة وليفرد له الربوبية، ولا يشرك به سواه لا إشراكًا جليًا كما فعل الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، ولا إشراكًا خفيًا كما فعل أهل الرياء ممن يطلب بعمله وعلمه الدنيا، أو الجاه، أو التسمية، أو الوظيفة، أو الشهرة، وهذا هو الشرك الأصغر، كما صح في الحديث وروي مستفيضًا في الأخبار من أن كل عمل أريد به الدنيا لا يُقبل، فقد أخرج أحمد، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - يرويه عن ربه قال: "أنا خير الشركاء، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك".
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وَلَا يُشْرِكْ﴾ بياء الغائب كالأمر في قوله: ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي عنه ﴿ولا تشرك﴾ بالتاء خطابًا للسامع والتفاتًا من
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
68
ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، وهو المأمور بالصالح، ثم عاد إلى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، في قوله: ﴿بربه﴾ ولم يأت التوكيب بربك إيذانًا بأنَّ الضميرين لمدلولٍ واحد، وهو ﴿من﴾ في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو﴾.
خاتمة
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها: ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، عن أبي حكيم قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم".
وأخرج ابن راهويه، والبزار، والحاتم وصححه، والشّيرازي في "الألقاب" وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ في ليلة ﴿كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ...﴾ الآية كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة" قال ابن كثير بعد إخراجه: غريب جدًّا.
وأخرج ابن الضريس، عن أبي الدرداء قال: "من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه" وفي "تفسير الحدادي" عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة الكهف.. فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة تكون فيها، ومن قرأ الآية التي في آخرها حين يأخذ من مضجعه.. كان له نور يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها.. كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ".
وفي "تفسير البيضاوي" عن النبي - ﷺ - "من قرأ عند مضجعه ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾.. كان له نور في مضجعه، يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة، يصلون عليه حتى يستيقظ".
وفي "فتح القريب" من قرأ عند إرادة النوم ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الخ. ثم قال: اللهم أيقظني في أحب الأوقات إليك، واستعملني
69
بأحب الأعمال إليك.. فإنه سبحانه يوقظه، ويكتبه من قوّام الليل. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إذا أردت أن تقوم آية ساعة شئت من الليل.. فاقرأ إذا أخذت مضجعك ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا﴾ الآية. فإن الله يوقظك متى شئت من الليل.
وتكلموا في القراءة في الفراش مضطجعًا (١): قال في "الفتاوي الحمدية": لا بأس للمضطجع بقراءة القرآن. انتهى. والأولى أن لا يقرأ وهو أقرب إلى التعظيم، كما في "شرح الشرعة" ليحيى الفقيه وعن ظهير الدين المرغيناني لا بأس للمضطجع بالقراءة مضطجعًا إذا أخرج رأسه من اللحاف؛ لأنه يكون كاللبس وإلا فلا نقله قاض خان وفي "المحيط": لا بأس بالقراءة إذا وضع جنبيه على الأرض لكن يضم رجليه إلى نفسه. انتهى. نسأل الله تعالى أن يوقظنا من الغفلة قبل انقضاء الأعمار، ويؤنسنا بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار، آمين.
الإعراب
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١)﴾
﴿وَعَرَضْنَا﴾ الواو: عاطفة ﴿عرضنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تركنا﴾ ﴿جَهَنَّمَ﴾: مفعول به ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف مضاف إلى مثله متعلق بـ ﴿عرضنا﴾ و ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿عرضنا﴾ أيضًا ﴿عَرْضًا﴾: مفعول مطلق. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ أو بدل منه ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿فِي غِطَاءٍ﴾ جار ومجرور خبر كان ﴿عَنْ ذِكْرِي﴾ صفة لـ ﴿غِطَاءٍ﴾ أو متعلق به وجملة كان صلة الموصول ﴿وَكَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾ فعل وفاعل ومفعول به والجملة الفعلية خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كَانُوا﴾ معطوفة على جملة ﴿كان﴾ الأولى على كونها صلة الموصول.
(١) روح البيان.
70
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)﴾.
﴿أَفَحَسِبَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف ﴿والفاء﴾ عاطفة على ذلك المحذوف تقديره أكفر الذين كفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا ﴿حسب﴾ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل والجملة معطوفة على ذلك المحذوف والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا﴾ فعل وفاعل ﴿عِبَادِي﴾ مفعول أول لاتخذ ﴿مِنْ دُونِي﴾ جار ومجرور حال من ﴿أَوْلِيَاءَ﴾. ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ مفعول ثان له وجملة ﴿اتخذ﴾ مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر سَدّ مسد مفعولي ﴿حسب﴾. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل الإنكار المفهوم من الاستفهام ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ حال من ﴿نُزُلًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿نُزُلًا﴾ حال من ﴿جَهَنَّمَ﴾.
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة: مستأنفة ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾ ﴿هَلْ﴾ حرف للاستفهام الاستعلامي ﴿نُنَبِّئُكُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول أول ﴿بِالْأَخْسَرِينَ﴾ الباء داخلة على مضمون المفعولين الثاني والثالث، وجملة ﴿نبأ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قُل﴾ ﴿أَعْمَالًا﴾: تمييز ﴿الأخسرين﴾: منصوب به وجمع التمييز، والأصل فيه الافراد، لمشاكلة المميز، وللإيذان بأن خسرانهم، إنما كان من جهاتٍ شتى، لا من جهة واحدة، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم ﴿الَّذِينَ﴾ والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من هم الأخسرون أعمالاً؟ فقيل: هم ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. ﴿ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾ فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بالسعي ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿هم﴾: مبتدأ وجملة ﴿يَحْسَبُونَ﴾ خبره والجملة الإسمية: في محل النصب، حال من ضمير
71
﴿سَعْيُهُمْ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وما في خبرها سد مسد مفعولي ﴿يَحْسَبُونَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل والجملة: صلة الموصول ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿وَلِقَائِهِ﴾ معطوفة على ﴿آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾. ﴿فَحَبِطَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿حبطت أعمالهم﴾: فعل وفاعل والجملة، معطوفة على جملة ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿لا﴾: نافية ﴿نُقِيمُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة: معطوفة على جملة ﴿حبطت﴾ ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُقِيمُ﴾ ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿نُقِيمُ﴾ ﴿وَزْنًا﴾ مفعول به.
﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)﴾
﴿ذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره الأمر ذلك أي أمر هؤلاء الكفرة، وشأنهم ذلك الذي ذكرناه من حبوط أعمالهم، وخسة قدرهم، والجملة مستأنفة ﴿جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان جزاء الذين حبطت أعمالهم، ويجوز أن يعرب ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ و ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ مبتدأ ثان و ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبر ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ والجملة: خبر المبتدأ الأول، وهو ﴿ذَلِكَ﴾، ويجوز أن يعرب ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ و ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ خبر و ﴿جَهَنَّمُ﴾ بدل أو عطف بيان لقوله ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر ما مصدرية ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾، أي: حالة كونهم مجزيين بها بسبب كفرهم أو متعلق بـ ﴿جَزَاؤُهُمْ﴾ لأن الخبر من معمولات المبتدأ فليس أجنبيًا كما في "الجمل" ﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿وَرُسُلِي﴾: معطوف على ﴿آيَاتِي﴾. ﴿هُزُوًا﴾ مفعول ثان والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَفَرُوا﴾.
72
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧)﴾
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب وتوكيد ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿كَانَتْ﴾ فعل ناقص ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور حال من ﴿نُزُلًا﴾. ﴿جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾ اسمها ﴿نُزُلًا﴾ خبرها وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)﴾.
﴿خَالِدِينَ﴾: حال من الضمير في ﴿لَهُمْ﴾ وهذا أيضًا باعتبار الأزل؛ أي: حال كونهم محكوماً لهم في الأزل بالخلود فيها، كما في "الجمل" ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿لَا يَبْغُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿عَنْهَا﴾ متعلق بـ ﴿حِوَلًا﴾. ﴿حِوَلًا﴾ مفعول به والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله: ضمير يعود على محمد والجملة. مستأنفة لو كان البحر إلى آخر الآية مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم ﴿كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره والجملة: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿مِدَادًا﴾ ومضاف إليه ﴿لَنَفِدَ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ ﴿نَفِدَ الْبَحْر﴾: فعل وفاعل ﴿قَبْلَ﴾: ظرف متعلق به والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿لَوْ﴾: في محل النصب مقول لـ ﴿قُل﴾ لنفد البحر قبل أن تنفد ناصب وفعل وفاعل ومضاف إليه والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره قبل نفاد ﴿كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ما بعدها على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها تقديوها ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ﴾ كلماته لو لم يجيء بمثله مددا والجملة المحذوفة في محل النصب حال من ﴿رَبِّي﴾ ﴿لَوْ﴾ حرف شرط ﴿جِئْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿بِمِثْلِهِ﴾ متعلق به ﴿مَدَدًا﴾ تمييز ﴿بِمِثْلِهِ﴾ منصوب به وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف تقديره ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ﴾ لنفد ولم تفرغ وجملة
73
﴿لو﴾ الشرطية معطوفة على جملة لو المحذوفة.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد والجملة مستأنفة ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ﴾ إلى آخر الآية. مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿أَنَا بَشَر﴾ مبتدأ وخبر ﴿مِثْلُكُمْ﴾ صفة لـ ﴿بَشَرٌ﴾ والجملة الاسمية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق به ﴿أَنَّمَا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿ما﴾ كافة لكفها ما قبلها عما بعدها ﴿إِلَهُكُمْ﴾: مبتدأ ﴿إِلَهٌ﴾: خبره ﴿وَاحِدٌ﴾: صفة ﴿إِلَهٌ﴾ والجملة الاسمية: صلة ﴿أن﴾ المكفوفة لأن ما الكافة وإن كفتها عن العمل لا تخرجها عن المصدرية، و ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع، على كونها نائب فاعل ليوحى، تقديره: يوحى إليّ وحدانية الله سبحانه وجملة يوحى في محل الرفع صفة ثانية لبشر والمعنى (١) لم يوح إليّ إلا وحدانية إلا ﴿إِلَهٌ﴾؛ أي: لا تعدده، فالحصر نسبي. اهـ شيخنا. ﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر: جملة الجواب، أو الشرط أو هما، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها واسمها: ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة الفعلية: في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ تقديره فمن كان راجيًا لقاء ربه ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملةً طلبيةً ﴿واللام﴾ حرف أمر وجزم ﴿يعمل﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وفاعله: ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿عَمَلًا﴾ مفعول به أو مطلق ﴿صَالِحًا﴾ صفة له والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَلَا يُشْرِكْ﴾: ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿يُشْرِكْ﴾ مجزوم بلا الناهية وفاعله: ضمير يعود على
(١) الفتوحات.
74
﴿من﴾ ﴿بِعِبَادَةِ رَبِّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُشْرِكْ﴾ ﴿أَحَدًا﴾ مفعول به وجملة ﴿لَا يُشْرِكْ﴾ في محل الجزم معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلْيَعْمَلْ﴾ على كونها جواب ﴿من﴾ الشرطية.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾؛ أي: أعددنا وهيانا ﴿نُزُلًا﴾: والنزل: الطعام النفيس يعد للضيف إكرامًا وقال في "القاموس": النزاع (١) بضمتين المنزل، وما يهيأ للضيف أن ينزل عليه والجمع: أنزال والطعام ذو البركة كالنزيل والفضل والطعام. اهـ.
﴿جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾: قال في "الجلالين" الإضافة فيه للبيان، ولعل وجه الجمع حينئذٍ اعتبار ما فيه؛ أي: في الفردوس من القصور وغيرها فكأنه جنان متعددة. اهـ. شيخنا.
في "القاموس"، و"التاج": الفردوس: بالكسر الأودية التي تنبت ضروبًا من النبت، والبستان: يجمع كل ما يكون في البساتين، تكون فيه الكروم، وقد يؤنث عربيةً، أو روميةً نقلت، أو سريانيةً، وروضةً دون اليمامة لبني يربوع، وماء لبني تميم، قرب الكوفة وقلعة فردوس بقزوين، إلى أن يقول والفردسة: السعة، وصدر مفردس: واسع أو ومنه الفردوس، قال شارحه، قوله: أو ومنه الفردوس؛ أي: ومن اشتقاقه كما نقله ابن القطاع، وهذا يؤيد كونه عربيًا، ويدل له أيضًا قول حسان رضي الله عنه:
وَإِنَّ ثَوَابَ اللهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ فِيْهَا يُخَلَّدُ
قال أبو حيان (٢): قيل: ولم يسمع الفردوس في كلام العرب، إلا في هذا البيت، بيت حسان وهذا لا يصح، فقد قال أمية بن أبي الصلت:
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً فِيْهَا الْفَرَادِيْسُ ثَمّ الْفُوْمُ وَالْبَصَلُ
والفراديس: جمع فردوس والظاهر: أن معنى جنات الفردوس: بساتين
(١) القاموس.
(٢) البحر المحيط.
75
حول الفردوس، ولذلك أضاف الجنات إليه، ويقال: كرم مفردس؛ أي: معرش، وكذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوسًا، لاجتماع نخلها، وتعريشها على أرضها، وفي دمشق، باب الفراديس، يخرج منه إلى البساتين. انتهى.
﴿حِوَلًا﴾؛ أي: تحولاً إلى غيرها، فحول مصدر سماعي التحول. انتهى. شيخنا. وفي "السمين" "الحول" قيل: مصدر بمعنى التحول، يقال: حال عن مكانه ﴿حِوَلًا﴾، فهو مصدر كالعوج والصغر. انتهى.
قال الزمخشري: يقال: حال عن مكانه حولا كقوله عادني حبها عودًا، يعني لا مزيد عليها، حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم، وهذه غاية الوصف؛ لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان.. فهو طامح الطرف إلى أرفع منه، ويجوز أن يراد نفي التحول، وتأكيد الخلود. انتهى.
وقال ابن عطية: والحول بمعنى التحول، قال مجاهد: متحولاً وقال الشاعر:
لِكُلِّ دَوْلَةٍ أَجَلُ ثُمَّ يُتَاحُ لَهَا حِوَلُ
﴿مِدَادًا﴾ والمداد: ما يمد به الشيء، واختص به تمد به الدواة من الحبر، وما يمد به السراج من السليط، ويقال: السماد مداد الأرض ﴿لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾؛ أي: معلوماته غير المتناهية ﴿يَرْجُو﴾ والرجاء: طمع حصول ما فيه مسرة مستقبلة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾؛ أي: كانوا ينظرون فلا يعتبرون، وتعرض عليهم الآيات الكونية فلا يؤمنون، ولم تكن أعينهم حقيقةً في غطاءٍ وحجاب، وإنما هو بطريق التمثيل، وكذا قوله: {وَكَانُوا لَا
76
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} لأن هذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
ومنها: الاستفهام الإنكاري الذي يفيد التوبيخ والتقريع في قوله: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾.
ومنها: جناس التصحيف في قوله: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ ويسمى الجناس الناقص، وهو أن يكون النقط فيه فارقًا بين الكلمتين على حد قول البحتري:
وَلَمْ يَكُنِ الْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ إِذْ سَرَى لِيُعْجِزَ وَالْمُغْتَرُّ بِاللَّهِ طَالِبُهْ
والجناس ويقال له: التجنس والمجانسة والتجانس لغةً مشتق من الجنس واصطلاحًا تشابه الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى، وفائدته: أن يميل بالسامع إلى الإصغاء، فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاءً إليها.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ﴾ والمغاير في قوله: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
77
إجمال ما تضمنته السورة من الأغراض والمقاصد
١ - وصف الكتاب الكريم بأنه قيم، لا عوج فيه، جاء للتبشير والإنذار.
٢ - جعل ما على ظهر الأرض زينة لها، وقد خلقه الله تعالى ابتلاءً للإنسان، ليرى كيف ينتفع به.
٣ - ما جاء من قصص أهل الكهف، ليس بالعظيم إذا قيس بما في ملكوت السموات والأرض.
٤ - وصف الكهف وأهله، ومدة لبثهم فيه، وبيان عدد أهله.
٥ - أمر النبي - ﷺ - بالجلوس مع الفقراء المؤمنين، وعدم الفرار منهم إلى أغنيائهم إجابةً لدعوتهم.
٦ - ذكر ما يلاقيه الكفار من الوبال والنكال يوم القيامة.
٧ - ضرب مثل، بين حال فقراء المؤمنين، وأغنياء المشركين.
٨ - ضرب المثل لحال الدنيا.
٩ - عرض كتاب المرء عليه في الآخرة وخوف المجرمين منه.
١٠ - عداوة إبليس لآدم وبنيه.
١١ - قصص موسى والخضر.
١٢ - وصف أعمال المشركين وأنها ضلال وخيبة في الآخرة.
١٣ - قصص ذي القرنين وسدُّ يأجوج ومأجوج وكيف صنعه ذو القرنين.
78
١٤ - ما يلقاه المؤمنون من النعيم في الآخرة.
١٥ - علومُ الله تعالى لا نهاية لها (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تم بعون الله تعالى وتوفيقه، تفسير سورة الكهف، في الساعة الخامسة، من ليلة الخميس، الثامن عشر من شهر صفر، من شهور سنة ألف وأربع مئة واثنتي عشرة سنة من التاريخ الهجري ١٨/ ٢/ ١٤١٢ هـ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا مقبولة، وسعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وصلى الله على سيدنا، وحبيبنا، خاتم النبيين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، آمين آمين.
79
سورة مريم
سورة مريم مكيَّة كلها، أو إلا آيتين هما: (٥٨) و (٧١) فمدنيتان، وهي ثمان أو تسع وتسعون آية، وكلماتها تسع مئة واثنتان وستون كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف وثلاث مئةٍ وحرفان، وسميت سورة مريم، لذكر مريم فيها، ولم (١) تذكر امرأة باسمها صريحاً في القرآن إلا مريم، فقد ذكرت فيه في ثلاثين موضعًا.
ومن فضائلها: ما روي (٢) عن رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة مريم أُعطي عشر حسنات، بعدد من كذب زكريا وصدق به، ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - المذكورين فيها، وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع" ولكنه موضوع لا أصل له.
وروى محمد بن إسحاق في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل، عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة: أن جعفر بن أبي طالب، قرأ صدر هذه السورة على النجاشي فبكى حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
ومناسبتها لسورة الكهف (٣): اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من أعاجيب القصص، كقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى عليهما السلام.
وقال أبو حيان (٤): مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى ضمّن السورة قبلها قصصًا عجبًا، كقصة أهل الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين، وهذه
(١) الفتوحات.
(٢) اليضاوي.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
80
السورة تضمنت قصصًا عجبًا، من ولادة يحيى بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقرٍ، وولادة عيسى من غير أب، فلما اجتمعا في هذا الشيء المستغرب.. ناسب ذكر هذه السورة بعد تلك.
الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال أبو عبد الله محمد بن حزم الأندلسي: في سورة مريم خمس آيات من المنسوخ.
أولاهن: قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾ (٣٩) الآية. نسخ الإنذار هنا بآية السيف.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ (٥٩) الآية. نسخت بالاستثناء بقوله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ (٦٠).
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ (٧٥) الآية. نسخت بآية السيف.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ الآية (٨٤). نسخ أولها بآية السيف.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ الآية (٥٩). نسخت بالاستثناء، وهو قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ (٦٠). وفيها تقديم في النظم.
انتهى.
والله أعلم
* * *
81

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)﴾
المناسبة
قد سبق لك بيان مناسبة جملة هذه السورة للسورة السابقة آنفًا، وأما مناسبة
82
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يَا مَنْ يُضِيْعُ عُمْرَهُ فِيْ اللَّهْوِ أَمْسِكْ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ ذَاهِبٌ كَذَهَابِ أَمْسِكْ