تفسير سورة المؤمنون

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة المؤمنون
صفات أهل الإيمان
عني التشريع المكي في مبدأ الإسلام بغرس أصول الإيمان والعقيدة الحقة، وتخلق المؤمنين بمحاسن الأخلاق وأكرم الشيم والآداب، وذلك من أجل بناء الفرد المسلم، وتسلحه بقواعد الإسلام والتزامه بأركان هذا الدين الإلهي، ونجد هذا الاتجاه واضحا في السور القرآنية المكية، ومنها سورة «المؤمنون» : التي هي مكية بإجماع. وقد افتتحت ببيان خصال سبع للمؤمنين، وثم تبشرهم بالفلاح والفوز بجنان الفردوس إن اتصفوا بها اتصافا ملازما، والتزموا بها التزاما صحيحا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه عبد الرزاق وغيره: «أنزل علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) قال الله تعالى:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المؤمنون: ٢٣/ ١- ١١].
(١) فازوا وسعدوا. [.....]
(٢) متذللون.
(٣) ما لا يحمد من القول والفعل.
(٤) المجاوزون الحلال إلى الحرام.
(٥) الفردوس: أعلى الجنان.
1676
كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة- كما روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا- فنزلت آية: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢).
وهذه صفة أساسية في الصلاة، لأن الصلاة من غير خشوع وتضرع وتوجه بالقلب إلى الله لا معنى لها. وهذه الآيات تصف المؤمنين بصفات سبع وهي:
١- أنهم أهل التصديق التام بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقضاء والقدر من الله تعالى. روي عن مجاهد أن الله تعالى لما خلق الجنة وأتقن حسنها قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١). ثم وصف الله تعالى هؤلاء المفلحين بما يلي:
٢- أنهم الخاشعون في صلاتهم، أي الممتلئة قلوبهم بالخشوع، أي الخوف والسكون والوقار، وطمأنينة الأعضاء، والخشوع: صفة ضرورية لإدراك معاني الصلاة، ومناجاة الرب تعالى، وتذكر الله، والخوف من حسابه ووعيده. والخشوع:
شرط لتحصيل الثواب من الله سبحانه وتعالى.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والنسائي عن أنس: «حبّب إلي الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
٣- وأنهم معرضون عن كل ألوان اللغو: وهو الساقط من الكلام وكل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيشمل الكذب والهزل والسب والطعن واللعن وفحش الكلام، وجميع المعاصي.
٤- وهم فاعلون للزكاة المفروضة، مبادرون لإخراجها إلى مستحقيها، وكان أصل الزكاة واجبا في مكة، وربما يكون المراد زكاة النفس من الشرك والأدناس، والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق، والظاهر أن المراد: هو الحق الواجب في الأموال خاصة.
٥- والمؤمنون أهل العفة والصون، فهم الذين يحفظون فروجهم من التلوث بالحرام، من كل أنواع الزنا والفواحش، ويقتصرون في علاقاتهم بالنساء، على
1677
الزوجات التي أحلّها الله بعقد الزواج، ويقوم ملك اليمين الذي يتملك به السيد الرقبة أو الذات مقام العقد على الحرائر. فمن التزم الحلال، فلا حرج عليه ولا لوم بعدئذ، ومن طلب غير ذلك من الزوجات والإماء (الرقيقات في الماضي) فأولئك هم المعتدون، المتجاوزون حدود الله، فكلمة «العادون» يراد بها الظالمون.
٦- والمؤمنون ذكورا وإناثا يحافظون على العهود والأمانات، فيؤدون الأمانة إلى أهلها، ولا يخونون، وإذا عاهدوا غيرهم وفّوا بشروط المعاهدة، فأداء الأمانة، والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان. أما الخيانة والغدر فهما صفة أهل النفاق.
ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة وغيره: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
٧- والمؤمنون والمؤمنات يحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها، مع أداء جميع أركانها وشرائطها، وتمثل عظمة الخالق فيها، والخشوع في كل حركة وسكنة وأذكار فيها.
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال:
برّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»
.
بدء خلق الإنسان
أورد الله تعالى في أوائل سورة «المؤمنون» بعد بيان أوصافهم أربعة أدلة على وجوده وقدرته سبحانه وتعالى: وهي خلق الإنسان، وخلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء، وخلق أنواع الحيوان لمنافع بشرية، والمتأمل في هذه الأدلة والبراهين يجدها شاملة للكون الفسيح العظيم، وهي كلها من أجل خير الإنسان، سواء في بدء تكوينه وخلقه، أم بعد وجوده، لينتفع بخيرات السماء والأرض،
1678
وليكون دائما حامدا لله شاكرا، مقرا بالعبودية لربه، والدينونة لخالقه. وأذكر هنا الدليل الأول في التذكير بخلق الجنس الإنساني متمثلا بآدم أبينا عليه السلام، قال الله تعالى:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [المؤمنون: ٢٣/ ١٢- ١٦].
هذا إخبار عن ابتداء خلق الإنسان، والمراد اسم الجنس، وأراد به الله تعالى آدم عليه السلام، لأنه استل من الطين، فلقد أوجده الله من خلاصة سلّت من طين صاف، لا كدورة فيه، وأوجد الله ذرية آدم من صفوة الماء، يعني المني.
وكان تكوين الذرية البشرية بجعل نطفة المني في أصلاب الذكور، ثم قذفها وإيداعها في قرار مكين، أي في أرحام الإناث، في حرز مستقر متمكن حصين، من ابتداء الحمل إلى انتهاء الولادة، كما جاء في آية أخرى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) [المرسلات: ٧٧/ ٢٠- ٢٣].
ثم حوّل الله تعالى النطفة المشتركة بين ماء الرجل والأنثى عن صفاتها إلى صفة العلقة: وهي الدم المتجمد العريض، ثم صيّر الله سبحانه الدم الجامد مضغة، أي بضعة أو قطعة لحم، قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط.
وسمي التحويل خلقا، لأن الله يفني بعض الصفات، ويوجد صفات أخرى. ثم يصيّر الله المضغة عظاما مشكّلة ذات تقاطيع وأجزاء، من الرأس واليدين
(١) خلاصة.
(٢) مستقر.
(٣) دما متجمدا.
(٤) قطعة لحم.
(٥) بنفخ الروح فيه.
(٦) فتعالى وتكاثر خيره.
(٧) أتقن الصانعين.
1679
والرجلين، تشتمل على العظام والأعصاب والعروق. ثم يغطي الله تعالى العظام المخلوقة أولا بما يسترها ويشدها ويقويها، وهو اللحم، لأن اللحم يستر العظم، فجعل اللحم كالكسوة للعظم. ثم ينشئ الله تعالى الجنين خلقا آخر، أي مباينا للخلق الأول، بأن ينفخ الله فيه الروح، فيتحرك، ويصير خلقا آخر ذا سمع وبصر، وإدراك وحس، وحركة واضطراب.
فتبارك الله أحسن الخالقين، أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصوّرين. وكلمة «تبارك» مطاوع «بارك» كأنها بمنزلة «تعالى وتقدّس» من معنى البركة. وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما سمع صدر الآية، إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
قال فيما رواه الطيالسي وغيره عن أنس: «فتبارك الله أحسن الخالقين» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت.
وقوله سبحانه: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ معناه: أحسن الصانعين، ولا صانع ولا خالق غير الله تعالى، وخلقه وصنعه أقوم صنع وأحسنه وحسنه، فهو حسن وأحسن، ولا يراد بذلك التفاضل بينه وبين غيره تعالى، وإنما الدلالة على كمال الخلق وحسنه وتمام إبداعه وتكوينه.
وبعد تمام الخلق والولادة والحياة في الدنيا، إنكم أيها البشر بعد النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت. ثم تبعثون من قبوركم أحياء للنشأة الآخرة، للحساب والجزاء ثوابا وعقابا، كما قال الله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت:
٢٩/ ٢٠] يعني يوم المعاد. وهذا خبر بالبعث والنشور.
وانتقال الإنسان بموتتين: الأولى قبل وجوده والثانية بعد موته، ثم انتقاله بحياتين: حياة الدنيا وحياة الآخرة: دليل واضح على قدرة الله عز وجل، لأن هذا الانتقال في صورتين متتاليتين يحتاج إلى مبدع خالق، ألا وهو الله أحسن الخالقين.
1680
خلق السماوات وإنزال الماء وإيجاد الحيوان
الأدلة والبراهين الحسية القطعية على وجود الله وقدرته كثيرة متنوعة، أهمها خلق الإنسان والحيوان، وإبداع السماوات، وإنزال المطر، وكل نوع من أنواع الخلق هذه عجيب ومدهش، يغرس في عقل الإنسان ووعيه وقلبه الإيمان بوجود الخالق وتميزه بالقدرة الإبداعية المطلقة، وإذا تناسى الإنسان هذه الظواهر الدالة على الحق سبحانه، بسبب اكتمالها وبقائها، فإن الله تعالى لا ينسى شيئا من التذكير ببديع صنعه، وأنه غير غافل عن الاستمرار في الخلق وإتقان الصنع، كما لا يغفل عن مصالح المخلوقين وعن أعمالهم. وهذا تنوير للعقل الإنساني بدوام الوجود الإلهي والقدرة الإلهية، قال الله تعالى مبينا لنا ألوانا ثلاثة من الخلق:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٧ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [المؤمنون: ٢٣/ ١٧- ٢٢].
هذه دلائل ثلاث أخرى بعد خلق الإنسان على قدرة الله عز وجل، وهي خلق السموات السبع، وإنزال المطر من السماء وإنبات النبات به، وإيجاد الأنعام (الإبل والبقر والغنم) للانتفاع بكل مشتملاتها من اللحم واللبن والصوف والركوب عليها، من أجل خير الإنسان وبقائه. يقسم الله تعالى للتأكيد والتعظيم، لتحريك مشاعر
(١) سبع سموات طباقا.
(٢) بمقدار الحاجة.
(٣) هي شجرة الزيتون. [.....]
(٤) فيها الدهن.
(٥) إدام لهم.
(٦) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٧) لعظة ودليلا على القدرة.
1681
الإنسان وتحريك جذوة الإيمان في قلبه: بأنه سبحانه خلق لكم أيها البشر فوقكم سبع سماوات طباقا، أو طرائق، أي كل ما كان من طبقات بعضه فوق بعض، ولم نكن مهملين أمر جميع المخلوقات، التي منها السماوات، بل نحفظها ونتقنها لضمان استمرارها، ونعلم كل ما يحدث فيها من صغير أو كبير، فقوله سبحانه: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ نفي عام، أي في إتقان خلقهم، وعن مصالحهم، وعن أعمالهم.
والدليل الآخر على القدرة الإلهية بعد دليل خلق الإنسان وخلق السماوات: أننا أيها البشر أنزلنا من السحب السماوية أمطارا بقدر الحاجة والكفاية للشرب والسقاية، فكل ذلك بمقدار وحكمة، فليس المطر كثيرا يغرق الإنسان، ويفسد الأرض والعمران، وليس هو قليلا لا يكفي الإنسان والزرع والثمار، وهذا يشمل الأنهار والبحار، قال مجاهد: ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء.
ومن فضل الله ورحمته: أن الله تعالى يحفظ الماء في الأرض، فيتغذى النبات والحب، وتنبع منه الأنهار والينابيع والآبار. ولو شاء الله بقدرته لأذهب هذا الماء وصرّفه وغوّره عن الناس، ولكنّ لطف الله وسعة رحمته جعلت للماء خزانات في الأرض، يأخذ منها الناس عند الحاجة، فيسقون زروعهم وثمارهم وأنفسهم ودوابهم، وينتفعون به بسائر أوجه الانتفاع، من غسل، وتطهر، وتنظيف، وتبرد وغير ذلك.
وأخرج الله بماء السماء أو المطر جنات، أي بساتين من النخيل والأعناب، وسائر الفواكه الكثيرة المتنوعة، للأكل والانتفاع، والرزق والعيش الكريم. ويخرج الله أيضا بالمطر شجرة الزيتون التي تأتي بالدهن، أي الزيت، ويتخذ إداما يأتدم به الآكلون.
وإن في خلق الأنعام (الإبل والبقر والغنم) عبرة وعظة عظيمة، ونعمة وفيرة،
1682
تستحق الشكر والحمد، والاستدلال بها على قدرة الله تعالى، حيث يشرب الناس من ألبانها النقية، غير المختلطة بأخلاط البطن، وينتفعون بمنافعها الكثيرة، من أصواف وأوبار وأشعار، للباس والفرش، ويأكلون من لحومها بعد ذبحها، ويركبون على ظهورها، ويحملون عليها الأحمال، كالسفن التي تشق عباب البحار والأنهار.
دعوة نوح عليه السلام إلى التوحيد
تعرضت البشرية مع الأسف الشديد لظاهرة الانحراف في العقيدة والوثنية والشرك من عهودها الابتدائية الأولى، في عصر نوح عليه السلام أبي البشر الثاني، فكانت دعوة نوح القوية إلى توحيد الله، والابتعاد عن الشرك وعبادة الأوثان، لتتخلص الإنسانية من هذا المرض الخطير، واستمر تذكير الناس وبخاصة قبيلة قريش في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمصير قوم نوح الذين كفروا وأشركوا، فأبيدوا وأهلكوا، وفي هذا وعيد شديد بأن يحل بهم بلاء، مثلما حل بأولئك، والعاقل من اتعظ بغيره، ونوح عليه السلام أول نبي أرسل إلى الناس، وإدريس عليه السلام أول من نبّئ ولم يرسل. وهذا ما أخبر به القرآن في شأن نوح وقومه:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ٢٣- ٢٦].
المعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا عليه السلام إلى قومه، فدعاهم إلى عبادة الله وحده
(١) أشراف القوم وسادتهم.
(٢) يترأس عليكم.
(٣) به جنون.
(٤) انتظروا.
1683
لا شريك له، فليس لكم إله غير الله، ألا تتقون؟ أي ألا تخافون من الله بإشراككم به شريكا آخر؟ فإن الله هو الخالق القادر، وينتقم ممن عاداه، ونسب إليه الشريك.
فقال الملأ أي أشراف القوم وسادتهم الذين كفروا من قومه وعبدوا الأوثان: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يتميز ويترفع عنكم بادعاء النبوة، ولا ميزة له من علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟! ويمنع نبوته ثلاثة أشياء بحسب زعمهم:
١- لو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، وهذا إنكار لكون النبي بشرا، وتصور بأن النبوة تكون من عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة. وهذا يناقض حقيقة الرسالة، فإن الرسول طبعا وعقلا ينبغي أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يتفاهم معه، ويناقشه في الإلهيات والنبوات.
٢- ما سمعنا ببعثه: البشر في عهد الآباء والأجداد في الأزمان الغابرة، وهذا يكون بسبب تبعتهم في التقليد للأسلاف، وإهمال دور العقل والوعي، والإصرار على الكفر والجحود من غير برهان مقبول.
٣- وقالوا وما نوح إلا رجل مجنون، فيما يزعم أن الله أرسله إليكم، وخصه بالوحي والنبوة دونكم، وهذا اتهام رخيص يصدر من مفلس الحجة، وسطحي التفكير، والمتصف ببلاهة العقل، فإن العوام السطحيين لا يجدون لتسويغ انحرافهم غير اللجوء إلى تسفيه العقلاء، والتشكيك في حكمة الحكماء، ثم إنهم بعد هذا الاتهام يتواصون فيما بينهم بأن ينتظروا الموت لنوح، في زمن قريب، فيستريحوا منه ومن دعوته.
وقولهم: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا هلاكه إلى وقت. ولم يعيّنوه، وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم القدر منه.
1684
ولما يئس نوح من إجابة دعوته إلى توحيد الله وهجر عبادة الأوثان، على الرغم من صبره على هذه الدعوة ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، لما يئس أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم، فقال نوح: يا ربي انصرني على هؤلاء القوم الضالين، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، وهذا يقتضي طلب إنزال العقوبة بهم، وهو آخر الدواء، ووسيلة الخلاص من وباء الشرك والوثنية، كما قال الله تعالى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) [القمر: ٥٤/ ١٠].
صناعة السفن في عهد نوح عليه السلام
حينما يئس نوح عليه السلام من هداية قومه، وإرشادهم إلى توحيد الله تعالى، وترك عبادة الأوثان، أوحى الله تعالى إليه بالدعاء بنصره عليهم، فدعا عليهم، وأوحى الله إليه أيضا الإعداد لنجاته مع أهله الذين آمنوا بدعوته عن طريق صناعة سفينة يركبونها، ويتخلصون من الطوفان الذي يغرق القوم الكافرين، ويمحو آثارهم، وكان نوح عليه السلام نجارا، علّمه الله بالوحي والإلهام، كيف يصنع في صنع السفينة، لتكون أداة صالحة، يتحقق بها النجاة والأمن والسلام، وهذا ما تصرح به الآيات التالية:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المؤمنون: ٢٣/ ٢٧- ٣٠].
(١) الفلك هنا مفرد، لا جمع.
(٢) برعايتنا.
(٣) تنور الخبز.
(٤) إنزالا.
(٥) لمختبرين عبادنا.
1685
من أجل إنجاء نوح عليه السلام ومن آمن معه، أمره الله أن يصنع السفينة بحفظ الله ورعايته، وتعليمه وإرشاده، فكان جبريل عليه السلام يقول له: اصنع كذا وكذا، لجميع عمل السفينة، وما يحتاج إليه، فاستجنّ الكفار نوحا لادعاء النبوة، وسخروا منه لعمله السفينة على غير العادة الجارية، أو لكونها أول سفينة، فقوله تعالى: بِأَعْيُنِنا يراد به الإدراك.
فإذا جاء أمرنا، أي حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من تنور الخبز، الذي جعل أمارة كانت بين الله تبارك وتعالى وبين نوح عليه السلام، فاحمل في السفينة زوجين مزدوجين: ذكر وأنثى من كل صنف من الحيوان والنبات والثمر وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، وكل من آمن معك، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك: وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله، كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه. فقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي إهلاكنا للكفرة. وقوله: فَاسْلُكْ معناه: فأدخل.
وقوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الزوجان: كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء، كالذكر والأنثى من الحيوان والنّعال وغير ذلك، والمراد به في الحساب العددي:
الاثنان.
ثم نهى الله تعالى نوحا عن الاسترحام بقوله: وَلا تُخاطِبْنِي.. أي ولا تسألني، ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا ترأف في قومك، فإني قضيت أنهم مغرقون، بسبب كفرهم وطغيانهم.
فإذا استقرّ بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل معهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي
1686
غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمر الله تعالى نوحا أن يدعو ربه بعد خروجه من السفينة، دعاء مقرونا بالثناء والشكر، وهو: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة، لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، وتزلل له الصعاب.
إن في هذا الصنيع: وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين، لدلالات نيرات واضحات على صدق الأنبياء، فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإن كنا لمختبرين عبادنا بهذه الآيات البينة، لننظر من يعتبر ويتعظ. وهذا خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم مدلوله: إن فيما جرى على هذه الأمم لعبرا، أو دلائل لمن له نظر وعقل. ثم أخبر الله تعالى أنه يبتلي عباده زمنا بعد آخر، على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار. وقوله تعالى:
«مبتلين» معناه مصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى ذلك.
دعوة هود عليه السلام إلى التوحيد
لم تقتصر المأساة على قوم نوح وإغراقهم بالطوفان، وإنما تكررت في قوم آخرين هم عاد قوم هود عليه السلام، دعاهم هود كنوح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وحذّرهم وأنذرهم، ورغبهم في الاستقامة والتقوى. فعاداه الأشراف والكبراء والسادة، واستصغروه ورأوا مثل قوم نوح تماما أن هودا عليه السلام مجرد بشر، مثل غيره من الناس، وشأن النبي أو الرسول في زعمهم أن يكون من الملائكة فإن أطاعوا بشرا مثلهم، كانوا من أهل الضياع والخسران، وهذا ما ذكرته الآيات الآتية:
1687

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٣٤]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤)
«١» »
[المؤمنون: ٢٣/ ٣١- ٣٤].
المراد بهذه الآيات في اتجاه أكثر المفسرين: عاد قوم هود عليه السلام، فهم أقدم إلا أنهم لم يهلكوا بصيحة، لذا قال الطبري رحمه الله: إن هذا القرن هم ثمود ورسولهم صالح عليه السلام.
والمعنى: ثم أوجدنا من بعد قوم نوح المهلكين قوما آخرين، هم قبيلة عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعد قوم نوح عليه السلام، فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه، ورفضوا اتباعه، فقال لهم: أفلا تتقون؟! أي ألا تخافون عذاب الله بعبادتكم غيره من الأوثان والأصنام، فإن العبادة لا يستحقها إلا الله الواحد الأحد الذي لا شريك ولا ند ولا نظير له. قال الملأ، أي أشراف قوم هود المتصفون بثلاث صفات شريرة، وهي: الكفر بالخالق أو إنكار وحدانيته، والجحود بيوم القيامة، أو التكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والانغماس في متع الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، فإن الله أترفهم في الدنيا، أي نعّمهم، وبسط لهم الآمال والأرزاق، لكنهم جحدوا النعمة وبطروا واستكبروا، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدّعي الفضل عليكم، ويزعم النبوة والرسالة من الله إليكم؟!
(١) أي قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. [.....]
(٢) نعّمناهم فبطروا.
1688
إنهم بهذه المقالة يستبعدون بعثة البشر، ويتطلبون إرسال أحد الملائكة للنبوة والرسالة، فهم تماما مثل قوم نوح الذي أنكروا نبوته تحت ستار البشرية الآدمية، لا الملائكية العلوية.
وأقسم قوم هود لبعضهم: لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم، واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسل: كانت هي الشبهة الأولى لإنكار عاد قوم هود، ولإنكار قوم نوح قبلهم، ولكنها شبهة واهية، لأن أبسط مبادئ السفارة أو الرسالة الإلهية، وغيرها أن يكون السفير أو الرسول من جنس المرسل إليه، وليس من جنس آخر فوقه، حتى يتحقق التفاهم على المهمة المرسل بها، ولا يبقى لأحد عذر في اتباع هذا الرسول الذي يؤيده الله تعالى بالمعجزة الخارقة للعادة، لتكون دليلا على صدقه في ادعائه النبوة، كقيام المعجزة على العرب قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي معجزة القرآن، وقيام المعجزة لعيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة في عهد فرعون المتأله الجبار، فقامت الحجة على هؤلاء وعلى جميع من وراءهم، ومن المعلوم أن العقاب لا يتعلق بأحد إلا بعد تركه الواجب عليه، وبعد قيام الحجة المفحمة أو المقنعة، ولقد أعذر، من أنذر وأقام الدليل على صحة مهمته وصدق دعوته.
وتأكد صدق الأنبياء على مدى التاريخ بآثارهم الطيبة، في غرس شجرة الإيمان في القلوب، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم، وعارضوا وقاوموا دعوتهم.
1689
إنكار قبيلة عاد البعث
لقد بلغت الأقوام العاتية المكذبة برسالات الرسل منتهى درجات العتو والتمرد، والعناد والمقاومة، فأنكروا صحة النبوة والرسالة، وإنزال الوحي الإلهي على البشر، وآذوا النبي والرسول إيذاء شديدا، وطعنوا في مقدراته العقلية وطاقاته الفكرية، وسخروا منه أشد السخرية، وأشركوا بالله شريكا آخر، وأنكروا وجود البعث والقيامة، أو العودة إلى الحياة الأخروية مرة أخرى بعد الموت وبلى العظام، وصيرورتها ترابا متفتتا. وهذه هي قواعد الكفر ومحطاته الأساسية، قال الله تعالى مبينا شبهة قبيلة عاد في وجود القيامة، بعد إنكارهم بشرية الرسل:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩)
قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ٣٥- ٤١].
أنكرت قبيلة عاد قوم هود عليه السلام كون النبي الرسول بشرا مثل بقية الناس، ثم أنكروا البعث والقيامة، وهذه هي الشبهة الثانية لهم، فقال الأشراف لقومهم:
كيف يعدكم هود أنكم تخرجون أو تبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم، وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟ وقرنوا بهذا الإنكار الاستبعاد الشديد لوقوع ما يدعيه هود عليه السلام، قائلين: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم، من حدوث البعث الجسدي، وعودة الحياة مرة أخرى،
(١) بعد وقوع ذلك.
(٢) العذاب بصوت مهلك.
(٣) الغثاء: ما يحمله السيل من زبده ومعتاده الذي لا ينتفع به.
(٤) هلاكا.
1690
للحساب والجزاء، بعد حياة الدنيا، وقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ استفهام على جهة الاستبعاد، وبمعنى الهزء بهذا الوعد.
ثم أكدوا نفي احتمال وقوع البعث بقولهم: ما هي إلا حياتنا الدنيا، أي ما الحياة إلا واحدة، وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، ولا إعادة ولا حشر ولا بعث، أي لا وجود لنا غير هذا الوجود، ولا قيامة وإنما تموت منه طائفة فتذهب، وتجيء طائفة أخرى، وهذا كفر الدهرية.
وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود عليه السلام، فقالوا: وأما هذا الرجل هود الذي يدعي النبوة ويثبت وقوع البعث، فهو مجرد رجل اختلق الكذب على الله تعالى، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار، والإخبار بالمعاد، ولسنا نحن بمصدقين له فيما يدّعي ويزعم.
ولما يئس هود عليه السلام من إيمان قومه على هذا النحو المذكور، قال داعيا ربه:
ربي انصرني على قومي نصرا مؤزرا، وعاقبهم، وأهلك الأعداء، بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك، وتوحيدك، وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه، وأخبره أنه ليصيرنّ قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، حين ظهور علامات الهلاك، وإنذارهم بالعذاب، إنهم عما قليل يندمون على كفرهم، حين لا ينفعهم الندم.
وكان الجزاء أن أخذتهم الصيحة: وهي صوت شديد مهلك لجبريل عليه السلام، أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه. ومن أجل ذكر الصيحة: ذهب الطبري إلى أنهم قوم ثمود، لأن من المعلوم أن قبيلة عاد أهلكوا بريح
1691
صرصر عاتية، قال ابن كثير في تفسيره: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فبعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم، وطغيانهم، وعصيان رسولهم، وهذا قانون الإله العادل: وهو أنه لا يعذّب إلا بحق، ولا ينتقم إلا بالعدل، وسنته في جميع البشر واحدة، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة الدائمة: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: ٤٣/ ٧٦].
وفي هذا القول: فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم بأن من كذب الرسول سيصيبه من العذاب مثلما أصاب هؤلاء الظالمين.
الأمم الأخرى ورسلها
على الرغم من تكذيب قوم نوح وعاد قوم هود رسلهم، وإهلاكهم بكفرهم، استمر العطاء والفيض الإلهي بإرسال رسل آخرين، وإيجاد أقوام متتابعين، كل قوم لهم تاريخهم وزمنهم، وكل رسول له مهمة وجهود في محاولة إصلاح البشر وتقويم الاعوجاج، وتجاوز اليأس في مسيرة التاريخ، لينتصر الحق في النهاية، وتعلو كلمة الدين والتوحيد فوق كل المعوقات والعراقيل، ويندحر الباطل وجنده، وينهزم الكفر وأشياعه. وقد تحقق ثبات الدعوة إلى وحدانية الله، وأدرك العقلاء زيف الدعوات الباطلة إلى الشرك والوثنية، قال الله تعالى مبينا هذه السنة الثابتة بإيجاد الأقوام والرسل في الأجيال المتلاحقة:
1692

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
«١» «٢» «٣» [المؤمنون: ٢٣/ ٤٢- ٤٤].
هذه الآيات إجمال لقصص ثلّة رفيعة من الأنبياء والمرسلين، وهم صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، ووجودهم تابع لإيجاد أقوامهم وأممهم، كل أمة مع رسولها في فترة زمنية معينة، وفي وقت مقدّر لا يتجاوزونه، ومفاد الآيات:
أخبر الله تعالى عن أنه أنشأ وأوجد بعد هلاك قوم نوح وعاد قوم هود أمما وخلائق أخرى، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا وتقدم الحياة. وكل شيء بميعاد وفي كتاب لا يتعداه في وجوده، فلا تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا تتأخر عن الأجل المحدد، والمراد أن وقت الهلاك محدد معلوم في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر، فلا يتعجل أحد العذاب، لأن كل شيء عند الله بمقدار، والموت مرتبط بأجل الإنسان لا يتقدم ولا يتأخر، كما قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: ١٦/ ٦١].
ثم أخبر الله سبحانه عن أنه أرسل رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، وهذا هو المراد بكلمة «تترى» فهو مصدر بمنزلة فعل، من تواتر الشيء، لا فعل بمعنى متواترين متتابعين، وإرسال الرسل سنة دائمة في البشرية، كما قال الله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: ١٦/ ٣٦].
(١) أمما أخرى.
(٢) متتابعين.
(٣) مجرد أخبار للتعجب.
1693
وكلما جاء الرسول لأمة، بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذّبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدمهم، ممن أهلكهم الله بالغرق أو الريح الصرصر العاتية، أو الصيحة، أي الصوت الشديد المهلك لجبريل عليه السلام، كما جاء في آية أخرى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) [يس: ٣٦/ ٣٠]. فكان الجزاء المرتقب أن الله سبحانه أتبع بعض الأقوام بعضهم الآخر بالهلاك والتدمير، يأتي بعضه إثر بعض، حين كذبوا الرسل، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) [الإسراء: ١٧/ ١٧]. وذلك الإنذار باق دائم ليوم القيامة.
وتصبح نتيجة الهلاك: أن تلك الأقوام يجعلهم الله أحاديث وأخبارا للناس، يتحدثون عن أحوالهم، تلهيا وتعجبا، كما قال الله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: ٣٤/ ١٩].
وخاتمة الإهلاك ما قاله الحق سبحانه: فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله، لقوم لا يصدقون به ولا برسوله، وهذا كلام وارد على سبيل الدعاء، والذم والتوبيخ والوعيد الشديد لكل كافر أو جاحد وجود الله، وهو ترسيخ لمبدأ ثابت: وهو أن تلك الأقوام العاتية كما أهلكوا عاجلا، فإن الهلاك لأمثالهم يأتي آجلا.
موسى وهارون وعيسى عليهم السلام
هذه أنباء مهمة عن ثلّة أو كوكبة أخرى من كبار الأنبياء والرسل: وهم موسى وهارون وعيسى عليهم السلام. أما موسى وهارون: فكانت مهمتهما خطيرة، ومخيفة، في بلاط فرعون المتأله الجبار، وقومه المستكبرين الفجار، وذلك من أجل
1694
الإعذار والإنذار، وإقامة الحجة والبيان، فإن أعرضوا كان عقابهم في محراب العدالة حقا، وأما عيسى وأمه عليهما السلام فكانا في موقف صعب، وتحدّ وإنكار واتهام، لكن إرادة الله وحكمته، وبيان آفاق قدرته فوق كل التحديات، ومحبطة لكل ألوان الاتهامات، ومعلنة للبراءة والسمو والعفة والطهر على مدى التاريخ، قال الله تعالى في بيان هذه الأخبار:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ٤٥- ٥٠].
يتابع البيان القرآني سرد أخبار فئة عليا من الأنبياء، بحسب الترتيب الزمني، وهنا يخبر الله تعالى أنه أرسل موسى وأخاه هارون بالآيات الدامغة الدالة على صدق نبوتهما لفرعون وملئه (قومه). وتلك الآيات تسع، منها اليد والعصا اللتان اقترن بهما التحدي، وهما «السلطان المبين» أي الحجة الواضحة، وبقية الآيات كالبحر الذي أغرق فرعون وجنوده فيه، والمرسلات الست: وهي أرسلها الله على فرعون وقومه، وذكرها الله في سورة الأعراف، وهي الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم، والرّجز أي القحط والسنون العجاف. وأما غير ذلك مما جرى بعد الخروج من البحر فليست تلك لفرعون، بل هي خاصة ببني إسرائيل.
أيد الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بهذه الآيات والمعجزات في مواجهة الطاغية فرعون وملئه، أي الأشراف وغيرهم، فاستكبروا عن الإيمان بموسى وأخيه
(١) برهان بيّن.
(٢) ضممناها.
(٣) الربوة: المكان المرتفع من الأرض.
(٤) المعين: الماء الجاري المرئي بالعيون.
1695
عليهما السلام، لأنهم أنفوا من ذلك، وكانوا قوما عالين، أي قاصدين العلوّ بالظلم والكبرياء.
وكانت شبهتهم هي قولهم: كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا، وعبيدنا المنقادون لأوامرنا. ومقصودهم أن الرسالة الإلهية تتنافى مع صفة البشرية، ولا تتفق مع كون قوم موسى وهارون أذلة لفرعون وقومه. وهذه نظرة مادية، ينظر بها الماديون الذين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ولا بالذات الإلهية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله تعالى على أوضاع الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والسلطة والمال.
وأدى هذا الشعور بالأنفة والاعتزاز إلى أمرين: الأول: تكذيب فرعون وقومه النبيّين الرسولين موسى وهارون، وأصروا على الكفر والعناد، فأهلكهم الله بالغرق في البحر الأحمر، في يوم واحد أجمعين، كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم، بتكذيبهم رسلهم.
والثاني: أيد الله موسى عليه السلام بأمر آخر غير الآيات التسع، وهو إنزال التوراة عليه، المشتملة على الأحكام الدينية، والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، لعلّ بني إسرائيل يهتدون بها إلى الحق بامتثال ما فيها من المعارف، والأحكام، والحكمة الإلهية.
ثم يخبر الله تعالى عن خبر مهم آخر: وهو أنه سبحانه جعل عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرته تعالى، حين خلقه من غير أب، وولادة أمه إياه من غير رجل، ليكون ذلك دليلا على القدرة الإلهية الفائقة كل قدرة. وجعل الله تعالى مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، فيه الزروع والثمار، والماء الجاري
1696
الظاهر للعيون والذي لا ينضب. والراجح أن الربوة في بيت لحم من بيت المقدس، لأن ولادة عيسى عليه السلام كانت هناك، وحينئذ كان الإيواء والاستقرار.
مناهج الحياة
الهدي الإلهي يعنى عناية شديدة بتحقيق العزة والاستقرار، والقوة وتقدم المجتمعات، فيشرع للناس من أجل هذه الغايات الجوهرية العناية بقوة الأجساد وصحتها، من طريق تناول الطيبات المستطابات المباحات، ونقاء الحياة بعمل الصالحات، وتماسك البنية الاجتماعية، وتكتل الأمة المؤمنة من طريق الوحدة والتعاون والعمل المشترك، سواء في مجال الاقتصاد، أو السياسة، أو الاجتماع، أو العلاقات الخارجية. ويدفع الوحي الإلهي كل تفريط أو تقصير أو تهاون في تحقيق هذه الغايات الكبرى. قال الله سبحانه مبينا مناهج الحياة السوية:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [المؤمنون: ٢٣/ ٥١- ٥٦].
يوصي الحق تبارك وتعالى أهل الإيمان بجملة مبادئ في الحياة: وهي الأكل من الحلال، والعمل بصالح الأعمال، ووحدة الدين والأمة، ولا يسمح شرع الله بالفرقة والتمزق، فذلك سبيل الشيطان، والطريق إلى الخسارة والضياع.
أما الأكل الحلال: فهو قوام الأبدان السوية، فيأمر الله به الرسل مبتدئا في رأي
(١) ملتكم وشريعتكم.
(٢) تفرقوا في دينهم. [.....]
(٣) أي قطعا وأحزابا مختلفة.
(٤) جهالتهم.
(٥) ما نجعله مددا لهم.
1697
جماعة بعيسى عليه السلام وانتهاء بمحمد صلّى الله عليه وسلّم للصلة القريبة بينهما، وتتابع مهمتهما، وكون أحدهما أتى مباشرة بعد الآخر، أمرهما بالأكل من الطيبات: الحلال بلذة وبغير ذلك والمشهور أن عيسى عليه السلام كان يأكل من بقل البرية. والخطاب في الراجح وإن كان في هذه الآية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فيراد به التنبيه إلى أن هذه المقالة قد خوطب بها كل نبي، أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم البقاء عليها، كما تقول لتاجر: يا تجار ينبغي أن تجانبوا الربا، فهو خطاب له بالمعنى.
وأردف الله الأمر بالحلال بالأمر بالعمل الصالح، لا لأن الأنبياء كانوا مقصرين بالعمل الصالح، وإنما للإفادة بأنهم ملازمون للعمل الصالح، فيقتدي بهم الناس.
والعمل الصالح: اتباع الفرائض واجتناب النواهي.
وأما في مجال الأفق الديني والسياسي: فإن الله أمر الناس بوحدة الدين والملة والسياسة، لأن دين الأنبياء دين واحد وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا شيء متفق عليه بين جميع الأنبياء، وأما اختلاف الفروع والجزئيات من شرائع وأحكام فرعية، فهو بحسب اختلاف الزمان والحال، وهذا لا يسمى اختلافا في الدين. وأما الاختلاف الواقع بين أتباع الدين والأنبياء فإنما نشأ من أنفسهم، فهم الذين فرّقوا أمر الدين، وقطّعوه ومزّقوه، وصاروا فرقا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، أي معجبون بما هم عليه، معتقدون أنه الحق الأسدّ، وأنهم مهتدون راشدون. وهذا ذم صريح للتفرق، وتوبيخ وتوعد عليه. لذا أمر الله نبيه بقوله: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم ورؤيتهم أمارات العذاب، كما جاء في آية أخرى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) [الحجر: ١٥/ ٣].
وزيادة في اللوم، يعاتب الله تعالى هؤلاء المفرّقين دين الأنبياء، ومضمون ذلك
1698
العتاب: أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من مال وأولاد، من أجل تكريمهم وإعزازهم ورضا الله عنهم؟ كلا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) [سبأ: ٣٤/ ٣٥]. إنهم أخطئوا الفهم وتقدير الأمور، فإنما نفعل ذلك الإنعام عليهم استدراجا لهم، وأخذا بهم إلى مهاوي العذاب إن لم يتوبوا. إننا نقدم لهم الخيرات من الأموال والبنين فتنة لهم، فترقّب بهم أيها النبي وكل متأمل مصيرهم السيّئ المحتوم، ثم ختمت الآية بالوعيد والتهديد، بقوله تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي إنهم لا يحسّون بأن الأوضاع والأحوال تسير في غير صالحهم، فعليهم استدراك خطأ المسيرة، وسوء العمل، وضلال التوجه إلى غير مرضاة الله تعالى.
المسارعون في الخيرات
تتكرر الحملة القرآنية لإصلاح النفوس بعقد مقارنة أو موازنة بين الأمور والأحوال، والصفات المتقابلة، فبعد أن فرغت الآيات في سورة «المؤمنون» من ذكر الكفرة وتوعدهم، عقّب الله تعالى بذكر المؤمنين ووعدهم، وأبان ذلك بأبلغ صفاتهم، وهي صفات تجمع بين صحة العقيدة، وأداء الحقوق، سواء أكانت حقوقا لله تعالى، كالعبادات المحضة من صلاة وصيام وزكاة وحج وكفارة، أم حقوقا للناس، كالودائع والديون، مع خوف القلوب من التقصير، وعدم قبول الأعمال منهم. قال الله تعالى مبينا صفات المسارعين في عمل الخير:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
«١» «٢» «٣»
(١) خائفون.
(٢) يعطون ما أعطوا.
(٣) خائفة.
1699
«١» [المؤمنون: ٢٣/ ٥٧- ٦٢].
تضمنت هذه الآيات صفات المسارعين في الخيرات أي المبادرين إلى فعل الخيرات، وأبانت بعدئذ حكمين من أحكام الأعمال. أما صفات أهل الخير فهي أربع:
١- خشية الله تعالى: فهم الذين يخافون من عذاب ربهم، يشفقون من الوقوع في شدة العذاب. والإشفاق: أبلغ التوقع والخوف، ويبتدئ الإشفاق من عذاب الله.
فكلمة «من» في قولنا هذا: «من عذاب الله» لابتداء غاية. والوجل في قوله تعالى:
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ بمعنى الإشفاق والخوف.
٢- الإيمان بالآيات الإلهية: فهم الذين يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه بآيات الله الكونية والدينية القرآنية. أما الآيات الكونية: فهي المتعلّقة بالكون الدالة على وجوب النظر والتأمل، كإبداع السماوات والأرض وخلق الإنسان والحيوان والنبات، وأما الآيات الدينية القرآنية: فهي المتعلقة بأخبار الأنبياء كخبر زكريا ويحيى وخبر مريم وابنها عيسى عليهم السلام، أو المتعلقة بالشرائع والأحكام، فكل ما أمر الله به فهو محبوب له راض عنه، وكل ما نهى عنه فهو مكروه له ومعيب.
٣- تجنب الشرك: فهم الذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، بل يوحدونه ويعظمونه، ويعتقدون بوحدانية المطلقة: «لا إله إلا الله» ولا يقدسون سواه، جل جلال الله.
والجمع بين ضرورة الإيمان بآيات الله ورفض الشرك، يوجب أمرين هما: توحيد
(١) قدر طاقتها من الأعمال.
1700
الربوبية، وتوحيد الألوهية والعبادة، فإن المشركين كانوا يعترفون بوحدانية الرب، كما قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
٣١/ ٢٥] ولا يقرون بوحدانية الألوهية والعبادة، فإنهم عبدوا الأصنام والأوثان.
٤- العمل مع الخوف من الله تعالى: فالمسارعون في الخيرات يؤدون الواجبات، ويعملون صالح الأعمال بمقدار أقصى الجهد، ولكن مع الخوف من الله، فهم يفعلون ما فعلوا، مع وجود الخوف بألا يتقبل الله منهم أعمالهم، إنهم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ولكنهم يخافون الله عز وجل، لأنهم راجعون إليه وحده. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان من حقوق الله تعالى كالعبادات، أو من حقوق بني آدم كالودائع والعدل بين الناس. وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ تنبيه على الخاتمة، فإن التقي التائب يخاف من الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وعدم النجاة من عذاب الله.
وأما الحكمان المتعلقان بأعمال العباد: فهما أن منهاج الشرع: اليسر والسماحة وترك التكليف بالشاق من الأعمال، والتكليف بقدر الطاقة، وهذا دليل الرحمة والعدل، فهما متلازمان في شرائع الله في قرآنه.
والحكم الثاني: أن لدى الله تعالى كتاب إحصاء الأعمال الذي ينطق بالحق والعدل، والتطابق مع واقع عمل الناس. ويكون الحساب الإلهي بفضل من الله ورحمة، فإن الناس لا يظلمون، أي لا ينقص في جزائهم من الخير شيء، بل يثابون على قليل العمل وكثيره، ولا يزاد في العقاب لأحد غير ما يستحق، بل يعفو الله عن كثير من السيئات.
1701
بعض أعمال الكفار
لم تكن أعمال الكفار قبل مجيء الأنبياء ولا بعد مجيئهم، على نحو مرض، ولا على أساس سليم من الاعتقاد، وإنما هم كسابق عهدهم في ضلال وجهالة وحيرة، وانحراف عن جادة الاستقامة. وربما كانت أحوالهم بعد بعثة نبي لهم أسوأ مما كانوا عليه، بسبب مقاومتهم رسالة الحق والتوحيد والخير، وتحديهم الرسل، وإصرارهم على الباطل، وعنادهم وتصلبهم في تغيير المواقف. وهذا حال كفار قريش الذين ماتوا على الكفر والضلال، وضموا سوءا إلى كفرهم، كالشرك والطعن بالقرآن، والسخرية من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيذاء أهل الإيمان. قال الله تعالى واصفا أعمالهم:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٣ الى ٧٠]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المؤمنون: ٢٣/ ٦٣- ٧٠].
هذه نماذج من أعمال الكفار والمشركين في مكة بعد البعثة النبوية، فهم في غمرة، أي حيرة وضلال من بيان القرآن، ومن الأعمال الصالحة التي يعمل بها المؤمنون.
ولهم أعمال سيئة غير الكفر والجهل، عاملون لها قطعا في المستقبل القريب: وهي الطعن في القرآن، وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. وهذا من دائرة علم الله تعالى المدون في اللوح المحفوظ، وعلم الله لا يتغير. وحتى: حرف ابتداء، فإن الله تعالى إذا أوقع
(١) أي حيرة وترك الفكر العميق.
(٢) منعّميهم البطرين.
(٣) أي يضجون ويستغيثون.
(٤) أي ترجعون وراءكم.
(٥) أي تتكلمون جماعة سمارا بالليل بالهوس وسوء الكلام في القرآن والنبي.
(٦) أي جنون.
1702
مترفيهم وهم أهل النعمة والبطر في العذاب الشديد والبأس والنقمة، صرخوا وضجوا واستغاثوا صائحين، مما يدل على ضعفهم. ويقال لهم يوم حلول العذاب بهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي تقول لهم الملائكة: لا فائدة ولا جدوى من هذا الصراخ والعويل اليوم، فلا يدفع عنكم العذاب الذي وجب عليكم، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.
وأسباب حجب النصر عنهم ثلاثة وهي:
١- أنهم كانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن نفروا منها، وأعرضوا عن سماعها وعن تاليها، أي إنهم يعرضون عن الحق، وإذا دعوا إليه أبوا.
٢- وهم في حال نكوصهم أو إعراضهم عن الحق، تراهم مستكبرين متعالين على الحق، ممتهنين الحق وأهله. وقوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضمير يعود على البيت الحرام، أي الحرم والمسجد، فهم يعتقدون أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله، فهم مستكبرون لذلك. وليس الاستكبار من الحق، كما أن سماع الآيات يحدث لهم كفرا وطغيانا.
٣- وهم سمّار في الليل أو النهار حول البيت الحرام، يتكلمون بسوء القول، ويطعنون بالقرآن والنبي. قال سعيد بن جبير فيما يرويه ابن أبي حاتم: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) والهجر: الهذيان والفحش.
وبواعث هذه الأحوال المرضيّة السيئة لكفار قريش أربعة:
١- أنهم لا يتدبرون القرآن، أي لا يفهمون المراد منه، ولا يدركون غاياته وأهدافه السامية، مع أنهم لمسوا عظمة بيانه، وفصاحة تعبيره، وقوة مضمونه.
1703
٢- وأنهم عرفوا أن الرسل الذين تتابعوا في الأمم كانوا مؤيدين بالمعجزات، ومع ذلك لا يدعوهم هذا إلى تصديق رسولهم النبي العربي الهاشمي.
٣- وهم عرفوا من سيرة هذا النبي قبل البعثة أنه الصادق الأمين، ومع كل هذا كذّبوه وآذوه، وعادوه عداء شديدا. وقوله تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ توبيخ، والمعنى: ألم يعرفوه صادقا مدة عمره، ولم ينكروا قط وجه هذه المعرفة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
٤- وأكثر من هذا وصفوا هذا الرسول بالجنون، مع أنه أرجح الناس عقلا، وأصوبهم رأيا. ويتلخص سبب رفضهم الإيمان ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: بأنه على الرغم مما جاءهم من الحق الثابت الأبلج: وهو توحيد الله، والتشريع الأفضل المحقق للسعادة، فإن أكثرهم كارهون لهذا الحق. وإنما قال: أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق ذاته.
الحق واحد لا يتعدد بحسب الأهواء
لقد قامت السماوات والأرض بالحق والعدل، لضمان البقاء واستمرار النظام، وتحقيق حياة الاستقرار للبشرية جمعاء وطبيعة الحق الثابت أنه جوهر واحد، لا يتعدد بحسب الأهواء والنزوات، حتى يظل له هيبته وقدسيته، وحتى لا يفسد نظام الكون في السماء والأرض، ومن أصالة الحق: أن دعوة الأنبياء إلى الله وعبادته دعوة خالصة محضة، لا جزاء عليها من أحد، فلا نظير ولا عوض أو مقابل للدعوة المخلصة، ودعوة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم كغيره من دعوات الأنبياء إلى الحق الثابت والطريق القويم، وذلك بخلاف مناهج غير المؤمنين، فإنهم يجافون الحق والحقيقة، ويتنكرون للصراط المستقيم، قال الله تعالى مبينا منهج القرآن ومناهج غير المؤمنين:
1704

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧١ الى ٧٤]

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
«١» «٢» «٣» [المؤمنون: ٢٣/ ٧١- ٧٤].
الحق: هو الشيء الثابت والصواب الدائم، المقابل للباطل، فهو ذو حقيقة ناصعة، لا يتغير ولا يتذبذب، ويتفق مع الواقع والصدق، فلو ساير الحق أهواء الناس، لا نقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم. وعليه، فإن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى، واتباع الحق، فإن اتباع الأهواء يؤدي إلى الفساد الشديد، والمراد: لو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية، مبيحا الظلم مقرا النهب والسلب والفواحش، مهملا الأخلاق والفضائل، لاختل نظام العالم، وشاع الفساد والدمار، وتخلفت المدنية، وبادت الحضارة.
بل إن القرآن العظيم جاء العرب والإنسانية بما يعظهم ويهذب طبائعهم ويبين لهم طريق الخير من الشر، غير أن الناس أعرضوا عن هذا البيان الشافي. ثم إن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان في غاية الإخلاص لدعوته، ولم يكن لديه أطماع في مال أو جاه أو زعامة أو متعة شخصية، فلم يطلب من قومه أجرا ورزقا على تبليغ الرسالة، والإرشاد إلى قانون الهداية، حتى لا ينفر أحد من دعوته، أو يتكأ في الإيمان برسالته، والمراد أن العرب وغير العرب ليسوا معذورين في ترك الاستجابة لرسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، التي هي محض الخير والصلاح والاستقامة ورفع مستوى الحياة وإعزاز الأمة.
(١) أي بوعظهم والبيان لهم. [.....]
(٢) أي أجرا ورزقا. قال الأصمعي: الخرج: الجعل مرة واحدة. والخراج: ما تردد لأوقات ما. وهذا في الاستعمال، أما في اللغة فهما بمعنى واحد.
(٣) أي عادلون عن طريق الرشاد.
1705
وأما دعوة هذا النبي فهي أقوم الدعوات، فإنك يا محمد النبي لتدعو الناس قاطبة، ومنهم مشركو قريش إلى الطريق المستقيم، والدين القيم الصحيح، وهو الإسلام، من أجل تحقيق العزة والسيادة، وتوفير الخير والكرامة، وإن دعوة الإسلام قائمة على العدل والوسطية والاعتدال، جمعت بين خيري الدنيا والآخرة، وحققت الانسجام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وربطت الإنسان بالله ربه، ربطا متينا لا مجال فيه للالتواء والتعثر، ولا للانحراف والضياع.
وأما المكذبون بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت، لمنحرفون عن هذا الطريق، لأن طريق الاستقامة واحد، وما يخالفه تتعدد طرقه، وتتشابك قضاياه.
والخلاصة: إن رسالة الإسلام تقوم على المعاني الخيرة، والقيم الثابتة، والحق الأبلج الذي لا يهادن الباطل، ولا يعرف الانحراف أو الالتواء، وإن جهود النبي رسول الإسلام كلها جهود مباركة وخيّرة ومشكورة، قصده إعلاء كلمة الله والحق، وإعلان عقيدة التوحيد لله تعالى، والإرشاد إلى الطريق الصحيح. وأما الكافرون برسالته فهم سدنة الباطل، وأنصار الهوى والضلالة، وأتباع الطرق الملتوية، المنافية لمنهج الطريق المستقيم.
إصرار المشركين على الشرك
قد تحتجب الرؤية الصحيحة عن العين والقلب بسبب الغبش أو الظلام، فيعذر الإنسان حين ذاك، ويحتاج إلى المساعدة والمعونة من الآخرين، أما إن كانت الرؤية واضحة، والحق بيّنا، والشمس طالعة، فلا يعذر أحد بترك العمل بما يتضح لديه، والإذعان للحق، والسير في ضوء النهار، غير أن هناك فئة من الناس يكابرون في المحسوسات، ويعاندون الحق، ويحاربونه على الرغم من ظهوره، وقوة حجته،
1706
وسطوع بيانه، وهذه الفئة تتمثل بمن عرفوا بالمشركين الوثنيين، إنهم يرون الحق ويعرفونه، ومع ذلك يعارضونه ويبتعدون عنه، فلا ينفعهم ترغيب أو تذكير بنعمة، ولا يرهبهم عذاب أو عقاب، حتى وإن رأوا أماراته واقتربت ساعاته، قال الله تعالى موضحا موقف المشركين المكيين من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإصرارهم على الشرك، وترك دعوة الحق:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
«١» «٢» »
«٤» «٥» [المؤمنون: ٢٣/ ٧٥- ٧٧].
هذا وصف دقيق لحال غريبة هي حال المشركين في مكة، فإنه لا حق لهم على الإطلاق في معاداة دعوة النبي محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم وكفرهم به، وبالقرآن الذي أنزل عليه، تشريفا لهم وتكريما، وهداية لهم، ونورا، وتبيانا.
وهم في أسوأ موقف، لا ينفعهم الترغيب والإنعام، ولا يرهبهم التهديد بالعذاب، فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لو أزال عنهم القحط، ومنّ عليهم بالخصب، ورحمهم وأمدهم بالنعم، وأفهمهم القرآن، لما آمنوا به، ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، واستمروا في عنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، لا يعرفون ماذا يصنعون. كما قال الله تعالى فيهم: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) [الأنفال: ٨/ ٢٣].
وهذه الآية نزلت في المدة التي أصابت فيها قريشا السنون الجدبة والجوع الذي
دعا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: اللهم سبعا كسني يوسف، وهو متفق عليه بلفظ «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف».
(١) لتمادوا في ضلالهم.
(٢) يتحيرون.
(٣) فما خضعوا.
(٤) ما يتذللون لله تعالى.
(٥) يائسون متحيرون.
1707
أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم أيضا لا يرهبهم التهديد بالعذاب، فلقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد، ونالهم من الجوع والقحط، فظلوا في استكبارهم وطغيانهم، فما تركوا الكفر والمخالفة، وما عدلوا عن غيهم وضلالهم، وما خشعوا لربهم ولا خضعوا له ولا تواضعوا لعظمته، وما دعوا ولا تذللوا، كما جاء في آية أخرى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام: ٦/ ٤٣].
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ هو الجوع والجدب الذي نزل بهم، حتى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، وقوله سبحانه: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ معناه: ما انخفضوا وتواضعوا، أي فما طلبوا أن يكونوا لربهم أهل طاعة، وعبيد خير. روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: «إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلاء، فإنما هي نعمة، فلا تستقبلوا نعمة الله بالحميّة، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله» وقرأ هذه الآية: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
ثم أخبر الله تعالى بخبر ثالث عن المشركين، فذكر أنه إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة فجأة، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير، ومن كل راحة، وانقطعت آمالهم، وخاب رجاؤهم. والمبلسون: الآيسون المتحيرون الذين لا يدرون ماذا يصنعون.
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ذكر بعضهم أنه يوم بدر حيث انهالت عليهم السيوف، والصواب: أنه توعد بعذاب غير معين، لأن إصابة قريش بالمجاعة والجدب إنما كان بعد وقعة بدر.
وهذه الأخبار الثلاثة التي تضمنتها الآيات الكريمة تصور ألوان العناد والاستكبار الذي استبد بعقول قريش، فإنه لا يفلح معهم أي لون من ألوان التربية،
1708
لا بالخير والإحسان، ولا بالشر والانتقام، فتراهم إذا أنعم الله عليهم ورحمهم، تمادوا في طغيانهم، ولو كشف الله ما بهم من ضر، أي قحط وجوع، لتمادوا في ضلالهم أيضا، ولقد تعرضوا للعذاب بالجوع والمرض والحاجة، فما خضعوا لربهم وما خشعوا له، وما تضرعوا بالدعاء لله تعالى في الشدائد التي تصيبهم، إنهم قوم متمردون، وأناس مستبدون، وقوم مصرون على الكفر والشرك والضلال، فلا غرابة إن عذّبوا أشد العذاب.
التذكير بالنعم الإلهية
تتعدد الأساليب التربوية التي انتهجها القرآن الكريم في حمل الناس على الإيمان بالله وحده لا شريك له، وترك عبادة الأصنام والأوثان، وتتكرر بين حين وآخر المذكّرات بألوان النعم التي هي في الوقت نفسه دليل باهر على عظيم قدرة الله تعالى، وأن هذه القدرة لا يعظم عنها أمر البعث، وجمع المخلوقات في محشر واحد، للحساب والجزاء، ونصب ميزان العدالة المطلق بين الناس جميعا، من غير بخس ولا زيادة، ولا حرص على العذاب والانتقام، وإنما من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، قال الله تعالى في تعداد نعمه على الناس وموقف الناس منها، وإنكارهم قدرة الله على البعث:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٣]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
«١»
(١) خلقكم.
1709
«١» [المؤمنون: ٢٣/ ٧٨- ٨٣].
هذان موقفان متباينان غريبان: موقف الإله المنعم المتفضل بالمدد والعطاء الدائم، وموقف الكفرة في مواجهة ذلك بإنكار قدرة الله على البعث وإقامة القيامة العظمى.
أما الموقف الإلهي: فمستمد من الواقع المحسوس، حيث يذكّر الله عباده بالنعم القريبة منهم، الحسية المشاهدة لهم: وهي إقدارهم على السمع والبصر والفؤاد، أي العقل والفهم، لتمييز الأشياء، والاعتبار بما في الكون من آيات وعبر تدل على قدرة الله ووحدانيته، وأنه الفاعل المطلق لما يشاء. وأما موقف البشر: فهو موقف غريب عجيب، لا يتفق مع أفضال الله ونعمه.
لقد أمدكم الله أيها البشر بنعمة السمع لسماع الأصوات، والبصر لرؤية الأشياء، والفؤاد، أي العقل لفهم الأمور، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق المنافع الدنيوية والأخروية، وخص الله تعالى هذه النعم الثلاث بالذكر، لأنها مفاتيح المعرفة، وطرق الاستدلال بها على وجود الله وقدرته. غير أن الشاكرين من الناس قليلون، فإنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة، وقابلوها بالجحود والإنكار، وقابلوها بالإعراض والابتعاد.
وقوله سبحانه: الْأَفْئِدَةَ يراد بها القلوب أداة الوعي، وهي إشارة إلى النطق والعقل، وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ نعت لمصدر محذوف تقديره: شكرا قليلا ما تشكرون.
ومن أدلة قدرته تعالى: أنه ذرأكم في الأرض، أي خلقكم ووزعكم في أجزاء الأرض بالتناسل، لعمارتها وتحضرها، وجعلكم متميزين مختلفين في الأجناس
(١) أكاذيبهم المسطورة في كتبهم.
1710
والألوان، واللغات والصفات، ثم يوم القيامة يجمعكم جميعا بعد التوزع والتشتت لميقات يوم معلوم، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه، وله سبحانه الحكم وحده، لا راد لفعله، ولا معقب لحكمه. وقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حكمه وقضائه، وهذه آية البعث.
ومن الأدلة على قدرة الله سبحانه: أنه هو الذي يحيي الإنسان والحيوان والنبات بعد العدم، ويميت الكائنات الحية بعد الحياة، وهذا أمر ملموس مشاهد، فيكون ذلك دليلا قاطعا واضحا على إحياء الناس من القبور، والانتقال إلى دار الثواب، بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء، كما أحياهم بعد الإماتة للعمل والاختبار.
ومن الأدلة على القدرة الإلهية أن الله يجعل اختلافا بين الليل والنهار، والاختلاف هنا: التعاقب والكون خلفه، وذلك بنظام دقيق وزمان محدد. أفلا تتفكرون أيها الناس في هذه الأشياء، وتدركون حقيقة قدرة الله ووحدانيته.
ولكن الواقع خلاف ذلك: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) أي ليس لكفار مكة وأمثالهم نظر في هذه الآيات، وقالوا كمن تقدمهم من الأولين كعاد وثمود، فأنكروا البعث واستبعدوه، وقالوا: هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟! لقد وعدنا بالبعث، كما وعد أسلافنا من الآباء والأجداد مثل هذا الوعد في الزمان الغابر، على لسان الأنبياء السابقين، ولم يتحقق هذا الوعد مع طول العهد، فما يكون هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين، لقد توارثناها تقليدا وعادة، دون وعي للحقيقة، ولا دليل يثبت صحتها، وهذا بحسب زعمهم، وكأن هذا لغباوتهم يحدث في دار الدنيا، أي أن الإعادة سريعة وقائمة في حال الحياة التي يحيونها دون انتظار أجيال أخرى.
1711
مناقشة المشركين في عقائدهم
دحض القرآن الكريم ببيانه البليغ، وحجته القاطعة، مزاعم المشركين في إنكار البعث، وردّ على شبهاتهم ببراهين ثلاثة، مستمدة من إقرارهم بأشياء معينة، يلزم من الإقرار بها أن يؤمنوا ببارئ هذه الأشياء، وأن يذعنوا لشرعه ورسالة رسوله. وهذه الأشياء ركيزة الأدلة هي من الواقع المشاهد المتعلق بالأرض التي يعيش عليها الإنسان، والسماوات السبع المحيطة بالأرض، وبحقيقة مالك الأشياء والمتصرف بها ومدبرها أحسن تدبير. قال الله تعالى ذاكرا هذا اللون من النقاش الهادئ المثير:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٩٠]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ٨٤- ٩٠].
هذه مناقشات لعقائد المشركين، تتضمن الرد عليهم لإثبات البعث والقيامة وهي:
١- قل أيها النبي الرسول لمنكري الآخرة: من مالك الأرض ومالك من فيها من الحيوان والنبات والثمرة، وغير ذلك من المخلوقات الأرضية، إن كنتم من أهل العلم بذلك؟ وقوله سبحانه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ توبيخ لهم، واستهانة بهم، وإعلان لجهلهم.
إنهم سيقرون على الفور وبحسب دلالة العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا.
(١) الملك الواسع.
(٢) يغيث ويمنع.
(٣) أي يمنع غيره، ولا يمنع منه.
(٤) فكيف تخدعون عن توحيده.
1712
فإذا أقروا بذلك، فقل لهم أيها الرسول: أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق هذا ابتداء، قادر على إعادته انتهاء، وأنه لا تصح العبادة إلا للقادر على الخلق والإحياء، والإماتة والإنهاء!! ٢- وقل أيها النبي الرسول أيضا لهم: من خالق السماوات السبع وما فيها من الكواكب النيرة، ومجموعات النجوم العظيمة، والملائكة في كل أنحائها، ومن خالق العرش العظيم ومن ربّه والمهيمن عليه؟ فالعرش يجمع بين صفتين: العظمة والكبر اتساعا وعلوا، والحسن والبهاء في الجمال.
إنهم سيعترفون على الفور وبالفطرة بأن ذلك كله لله وحده، ولا جواب سواه.
فقل لهم حينئذ: إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله، وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره، وإشراككم به سواه؟! وهذه الآية تدل على أن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وأنه واحد فيها، ويشركون معه غيره في الألوهية، حتى عبدوا معه غيره مما لا نفع له ولا ضر.
وبما أن العالم العلوي والسفلي لله تعالى، فهو مدبر شؤونهما، فقل لهم أيها الرسول الكريم: من بيده الملك والتصريف والتدبير لشؤون الكون سمائه وأرضه، وبيده ملك كل شيء، وهو سبحانه يحمي ويجير، ويغيث ويمنع الآخرين، ولا يجار ولا يمنع منه، لأنه صاحب السلطان الأعظم، والمهيمن الأكبر، والسيد المطلق في الأكوان.
وكلمة مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الملكوت: مصدر في بنائه مبالغة كالجبروت والرهبوت.
والمراد من قوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أنه تبارك وتعالى إذا منع أحدا فلا يقدر عليه، وإذا أراد أحدا فلا مانع له، وكذلك في سائر قدرته، وما نفذ
1713
من قضائه، لا يعارض ذلك شيء، ولا يحيله عن مجراه، إنهم سيقرون بلا تردد بأن المالك المدبر للكون هو الله، لا غيره، فقل لهم مستغربا موبخا: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي فكيف تخدعون عن توحيد الله وطاعته؟! والخادع: هو الشيطان والهوى.
والواقع: ليس الأمر كما يقولون من نسبتهم إلى الله تعالى ما لا يليق به، فلقد جئناهم بالقول الحق، والدليل القاطع، والإخبار الصادق الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الدليل الصحيح على ذلك كله، ولكنهم مع كل ذلك لكاذبون فيما ذكروا لله تعالى من الصاحبة والولد والشريك، وفي إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على مزاعمهم الباطلة وعقائدهم الملوثة، إنهم حيارى تائهون، وجهلة بعيدون عن المنطق والعقل، وذلك كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) [المؤمنون: ٢٣/ ١١٧]. فهؤلاء المشركون لا دليل على صحة عقائدهم، وإنما هم قوم مقلدون عن غير وعي ورشد، آباءهم وأسلافهم الضالين.
نفي اتخاذ الله ولدا
وقع العقل الوثني بسبب الوثنية في ألوان مختلفة من الخرافات والأوهام، ومن أخطرها نسبة الولد والصاحبة والشريك لله، وهذا فضلا عن كونه يتنافى مع حقيقة الألوهية والعقل والحكمة، هو مدعاة للفساد والخراب في العالم، لأن سلطان الألوهية يضعف ويفسد، وتنهار معه النظم الكبرى، وتتداعى المشكلات المدمرة إذا قلنا بتعدد الآلهة، لذا كان جوهر الرسالات الإلهية والنبوات والكتب السماوية إقرار مبدأ توحيد الإله، ورفض كل أنواع تعدد الآلهة ومزاعم الوثنية، قال الله تعالى معلنا مبدأ وحدة الألوهية والربوبية:
1714

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ٩٢]

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
[المؤمنون: ٢٣/ ٩١- ٩٢].
هذه الآية نفي قاطع، وتنزيه واضح لله تعالى عن أمرين: هما اتخاذ الولد، واتخاذ الشريك، فلم يجعل الله لنفسه ولدا، كما زعم بعض المشركين، حين قالوا: الملائكة بنات الله.
ولم يكن مع الله إله آخر يشاركه في الألوهية أو العبادة، لا قبل خلق العالم، ولا بعد خلقه، كما تصور الوثنيون، حين اتخذوا الأصنام آلهة. وقوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ دليل التمانع، فلو افترض احتمال تعدد الآلهة، لانفرد كل واحد منهم بما خلق، واستقل بما أوجد، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر، لأن استمرار الشركة مستحيل، لأنه يكون همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر، ويطلب قهره والتسلط عليه، لإظهار قوة القوي على الضعيف، كما هو حال ملوك الدنيا.
ولو حدث هذا التغالب وانقسام السلطة، لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن، كما قال الله سبحانه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢١/ ٢٢]. ولو اختلف إلهان في إدارة، فمحال نفوذهما، ومحال عجزهما، فإذا انفردت إرادة الواحد، فهو العالي، والآخر ليس بإله.
والمشاهد دقة نظام الكون وكماله وانسجامه، وارتباط العالم العلوي بالعالم السفلي دون تصادم ولا اضطراب، كما قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: ٦٧/ ٣]. وهذا دليل على وحدة الإله صاحب السلطان الواحد.
وقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ إذن: جواب لمحذوف تقديره لو كان معه إله إذن لذهب كل إله بما خلق.
1715
ولما ثبت عقلا ومنطقا كون التعدد في الآلهة مستحيلا، وبطل قول المشركين في الأمرين معا: وهما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك، قال الله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المشركون المتجاوزون الحدود في ادعائهم الولد أو الشريك لله.
وقوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ اتباع لقوله قبل ذلك: سُبْحانَ اللَّهِ قال الأخفش: والجرّ أجود ليكون الكلام من وجه واحد. وقرئ «عالم الغيب» والمعنى:
الله هو عالم الغيب والشهادة، يعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه وما يبصرونه، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء، وهذا دليل آخر على نفي الشريك، لأن غير الله، وإن علم الشهادة، أي العالم المشاهد والموجودات المرئيات أمامه، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات، وهذا دليل النقص، والله متصف بالكمال، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها، دون العلم بالغيب، والغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهدوه.
وإذا كان الله تعالى عالم الغيب والشهادة على حد سواء فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي فتعالى وتقدس وتنزه الله عما يقول المشركون المفترون، الذين يشركون مع الله إلها آخر، وهذه الخاتمة تقديس مطلق لله عز وجل عن أي نقص من صاحبة أو ولد أو شريك، وإطلاق التقديس هو مضمون الألوهية الحقيقية.
الدعاء بالنجاة من عذاب الظلمة
تعهدت العناية الإلهية النبي صلّى الله عليه وسلّم بأتم أنواع الحماية من شرور الظلمة ومن أجل تماسك الشخصية، وإرساء معالم الدعوة إلى الله بالتزام موقف الصلابة، في صراع الأهواء، والاستعاذة من وساوس الشياطين، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وتلك
1716
إرشادات عالية، وتوجيهات وأوامر قويمة، لتحقيق النجاح في ممارسة أساليب الدعوة إلى الدين، وتحصين المسيرة الإيمانية من التعثر والانحراف، قال الله تعالى مبينا هذه الإرشادات والأوامر:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ٩٣- ٩٨].
هذه طائفة من الأوامر والتوجيهات الإلهية إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم معناها: قل أيها الرسول: يا رب إن أريتني ما تعد هؤلاء القوم المشركين من عذاب الدنيا والآخرة، فلا تجعلني فيهم، ونجني منهم، ولا تعذبني بعذابهم، لأنه قد يصيب العذاب غير أهله، كما جاء في آية أخرى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٨/ ٢٥].
إن هذا التوجيه بأن يدعو النبي لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة، إن كان قضي أن يرى ذلك، هو المنهج الذي أنفذه الله تعالى في أنبيائه ورسله حين ينزل العذاب بأقوامهم. والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجر النبي، وليكون دائما ذاكرا ربه، ومعلما إيانا الاعتصام بالله تعالى في وقت المحنة والشدة.
ففي هذا الدعاء مصلحتان: استصحاب الخشية من الله، والتحذير من الأمر المعذّب من أجله، ونظيره لسائر الأمة دعاء في جودة الخاتمة. ويتضمن هذا الدعاء إعلاما بقرب العذاب من قريش، كما كان في يوم بدر.
(١) إما مكونة من ((إن شرطية)) و ((ما)) زائدة، وتريني: جزم بالشرط، لزمته النون الثقيلة. [.....]
(٢) قوله ثانيا ((رب)) اعتراض بين الشرط وجوابه.
(٣) أعتصم بك.
(٤) وساوسهم.
1717
ويؤكد الله تعالى اقتراب العذاب من هؤلاء، فيخبر سبحانه: لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن، ولكنا نؤخره لوقت معلوم، لأن بعض ذرياتهم سيكون من المؤمنين الأصفياء.
والتوجيه الثاني: مقابلة الإساءة بالإحسان، فقابل أيها النبي السيئة بالحسنة، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى المشركين وتكذيبهم، وادفع بالخصلة التي هي أحسن، بالصفح والعفو، والصبر على الأذى، والكلام الجميل، كالسلام، أي إنه أمر عليه السلام بالصفح ومكارم الأخلاق، لأن الله أعلم بحال القوم الضالين، وبما يصفون ربهم من الشرك والتكذيب. وهذا وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، معناه اشتغل أيها النبي بدعوتك، وكل تعذيبهم والنقمة منهم إلينا.
والتوجيه الثالث: الاعتصام بالله، ومضمونه اعتصم بالله والتجأ إلى الله تعالى من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والعصيان ومخالفة الأوامر، وتعوذ بالله وتحصن من حضور الشياطين في شيء من الأمور، فإنهم إذا حضروا كانوا معدّين للهمز، وهذا توجيه للتحصن من الشيطان في كل أمر وفعل، سواء في الأحوال العادية أو في سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، فإن النزعات وسورات الغضب هي من الشيطان. وهذه هي الحالة التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار، فتزيد الحمية من تعقيد الأوضاع، فإن كان هناك اعتصام بالله، والتجاء إليه وتعوذ من الشيطان، خفّت الأزمة، وبرزت الحكمة، والهمزات: جمع همزة، والهمز: النخس والدفع والإثارة، أو الوخذ باليد وغيرها.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتزم هذا التوجيه في كل الأحوال،
أخرج أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان
1718
عند الموت».
وفي مصنف أبي داود ومسند الإمام أحمد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان: همزه ونفخه ونفثه».
قال أبو داود: وهمزه: الموتة وهي الجنون، ونفخه: الكبر، ونفثه: السّحر.
إن هذه التوجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء من النجاة من عذاب الظلمة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والتعوذ من الشيطان لطرده في كل حال، توجيهات لأمة النبي أيضا ولكل من أراد الخير لنفسه ولغيره.
موازين الحساب يوم القيامة
الحياة في الدنيا: هي مجال العمل والاختبار والتسابق في الخيرات، وفيها ما يحقق النجاة أو الهلاك، وأما الآخرة فهي دار الجزاء والحساب على الأعمال خيرها وشرها، وكما يزرع الإنسان يحصد، ولا مجال لتعديل الأحوال، وإعطاء الفرصة لإصلاح الأعمال في عالم الآخرة، فإن ميزان النجاة قائم على الحق والعدل المطلق، فمن رجحت حسناته على سيئاته، كان من المفلحين، ومن طغت سيئاته على حسناته، كان من الهالكين الخاسرين، وليس هناك ميزان للعدالة أدق ولا أعظم ولا أفضل من هذا الميزان، قال الله تعالى مبينا سلفا للناس هذه الأحوال:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
«١» «٢»
(١) حاجز دون الرجعة.
(٢) الصور: بوق ينفخ فيه نفختان: الأولى ليموت الناس، والثانية ليعودوا أحياء.
1719
«١» «٢» [المؤمنون: ٢٣/ ٩٩- ١٠٤].
«حتى» ابتداء كلام وإخبار عن حال جديدة: هي حال المحتضر عند الموت من عصاة المؤمنين والكافرين الجاحدين. والمعنى: إذا دنا أجل الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله تعالى، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجوع إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، ويتدارك ما فاته من خير، وما قصّر فيه من الأعمال الصالحة.
فيأتيه الردع والزجر من الله بكلمة «كلا» أي لا إجابة لطلبه، وتلك كلمة لا بد من أن يقولها كل محتضر، تعبيرا عن الندم، لأنه لا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لعاد لما كان عليه، وكذب في هذه المقالة، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: ٦/ ٢٨] ويكون أمام هؤلاء الظلمة برزخ، أي حاجز مانع ما بين الدنيا والآخرة، يمنع من العودة إلى عالم الدنيا. وهذا تهديد ووعيد بعذاب البرزخ، والمراد من البرزخ، هنا بإجماع المفسرين: المدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه، وجملة إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها إشارة إلى أن المحتضر لو ردّ لعاد، فتكون الآية آية ذمّ لهم.
وإذا نفخ في الصور (القرن الهائل) النفخة الثانية، وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والأحساب والقرابات، على الرغم من وجود التعاطف والتراحم والنسب، لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، ولا يتمكن القريب أو الصديق من سؤال قريبه أو صديقه، وهو يبصره. لأن هول المطلع يشغل كل امرئ بنفسه، فلا أنساب نافعة، وإنما النافع: هو العمل الصالح.
(١) تحرق.
(٢) كالحون: عابسون متقلّصو الشفاه عن الأسنان.
1720
وميزان الحساب واضح، فمن رجحت حسناته على سيئاته، ولو بحسنة واحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة. ومن ثقلت سيئاته، وطغت على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا، وباءوا بالخسران، بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وكان عذابهم ذا صفات ثلاث:
إنهم في جهنم ماكثون على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وهذا دليل تخليد الكفار في النار، وتحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم، وهم في النار عابسون، متقلصو الشفاه عن الأسنان. والموازين: هي الأعمال، ومعنى الوزن:
إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على حسب عادتهم وعرفهم، ولفح النار: إصابة الوجوه بالوهج والإحراق. والكلح: انكشاف الشفتين عن الأسنان، وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة وعند الغضب.
إن تصوير العذاب بهذه الصورة الشنيعة للجاحدين الكافرين تقشعر منه الأبدان، وتضطرب له فرائص «١» الإنسان، ويرهبه كل امرئ مهما كان، ولو من الجبابرة العتاة، لأن مثل هذا العذاب لا يضارعه أي عذاب في الدنيا مهما اشتد وقسا، ومهما عظم وامتد. فهل من متعظ معتبر، وخاشع يتدبر الأمر قبل وقوعه؟!.
تقريع أهل النار على كفرهم
لا يقتصر حال أهل النار على العذاب الشديد المؤلم، وإنما يقرّعون ويوبخون على كفرهم ومآثمهم، وتراهم إذا سمعوا هذا التقريع، أذعنوا، وأقروا على أنفسهم، فيدعون ربهم بأن يخرجهم من النار، فلا يجابون لدعائهم، فيقعون في اليأس
(١) الفرائص: جمع فريصة وهي لحمة بين الجنب والكتف، ترعد عند فزع الإنسان.
1721
والإحباط، ويتلخص أمرهم في أنهم سخروا من أهل الإيمان، وابتعدوا عن تذكير القرآن، فوقعوا في حمأة العذاب، وفاز المؤمنون الأتقياء بجنان الخلد ورضوان الله، وجوزوا على صبرهم على الطاعة، والبعد عن المعصية، وهذا ما وصفه لنا القرآن الكريم قبل أن يقع تماما على هذا النحو في الآيات التالية:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١١١]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
«١» «٢» «٣» «٤» [المؤمنون: ٢٣/ ١٠٥- ١١١].
في مطلع هذه الآيات محذوف تقديره: يقال لأهل النار: ألم تكن آياتي أي آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا، للتذكير والاتعاظ، فتكذبون بها، وتعرضون عنها؟! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم. والمعنى: قرّوا بهذا واعترفوا، فهو أمر واضح، لا ينكره أحد.
فكان جوابهم بقولهم: يا ربنا غلب علينا شقاء أنفسنا بشهواتنا وملذاتنا، بحيث صارت مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، وكنا من القوم الضالين. ثم تدرّجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع. فقالوا: يا ربنا أخرجنا من عذاب النار، وردّنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما كنا عليه، فنحن ظالمون، نستوجب العقوبة.
فأجيبوا بحسب ما تحتم عليهم من العذاب وبحسب علم عز وجل: امكثوا في النار، خاسئين أذلاء صاغرين، واسكتوا ولا تطلبوا مثل هذا الطلب، فإنه لا رجعة
(١) شقاوتنا.
(٢) انزجروا.
(٣) أي استهزاء.
(٤) أي لأنهم.
1722
إلى الدنيا. وقوله تعالى: وَلا تُكَلِّمُونِ بلفظ نهي، وهم لا يستطيعون الكلام، على ما روي، فهذا مبالغة في المنع. ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا.
ثم أخبر الله تعالى عن سبب عذابهم بما يفيد بأنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربّنا صدّقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير الراحمين.
فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم والهزء بهم على نسيان ما ذكّرتكم به مما ينفعكم، ولم تلتفتوا لمقتضى التذكرة، ولم تخافوا العقاب، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما جاء في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) [المطففين: ٨٣/ ٢٩- ٣٠]. أي يلمزونهم استهزاء. والفريق المشار إليه ممن هزئوا به:
كل مستضعف من المؤمنين، وقد نزلت الآية في كفار قريش الذين كانوا يهزؤون بصهيب وعمار وبلال رضي الله عنهم ونظرائهم. ولكنها عامة فيمن جرى مجراهم قديما، وبقية الدهر.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين بأنه جازاهم في يوم القيامة بسبب صبرهم على أذى الكفار واستهزائهم بهم، وكان الجزاء هو الفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما جاء في آية أخرى وهي:
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) [المطففين: ٨٣/ ٣٤- ٣٦].
والجزاء المعطى للمؤمنين: هو الجنة والرضوان الإلهي، والفائزون: هم المنتهون إلى غايتهم التي كانت أملهم، ومعنى الفوز: النجاة من هلكة إلى نعمة.
تتبين عظمة القرآن، وأفضال الله ونعمه: في أن الحق سبحانه وتعالى بيّن لعباده
1723
سلفا في هذه الدنيا، كل ما يلاقون في عالم الغيبيات، ومصير كل فريق: إما في الجنة وإما في النار.
عمر الدنيا قصير
مهما طال العمر بالإنسان، فإن عمر الإنسان قصير، بل وعمر الدنيا كلها قصير، وذلك رحمة من الله بعباده، لأن الدنيا دار امتحان واختبار، ودار تكليف ومسئولية، والمسؤولية تقتضي التخفيف وعدم الإطالة، فكما زاد العمر ثقلت المسؤولية، فكان من الرحمة أن يقصّر الأجل منعا من تزاحم المسؤوليات وإطالتها، لذلك اقترن الإخبار عن قصر الدنيا بالتذكير بالمسؤولية فيها، وأنها ليست دار العبث واللهو، وإنما هي جسر للآخرة التي يكون فيها الحساب، والمحاسب: هو الله صاحب العزة المطلقة، والملك الحق، وذو السلطان الأكبر، وهو رب العرش الكريم، فكيف يصح لعاقل عبادة غير الله؟ ومن عبد إلها غير الله خاب وخسر، ومن عبد الله وحده لا شريك له فاز ونجا، قال الله تعالى مبينا هذه المعاني والمبادئ:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٨]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
«١» [المؤمنون: ٢٣/ ١١٢- ١١٨].
(١) تنزه عن البعث.
1724
ينبّه الله تعالى في هذه الآيات على أمور ثلاثة: قصر العمر في الدنيا، وإناطة التكليف والمسؤولية فيها بعنق الإنسان. وإفراد الحساب بالله عز وجل.
أما الأمر الأول: فيسأل الله الكافرين والمقصرين سؤال تقريع وتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا؟ فأجابوا لعظم الأهوال وشدة العذاب: مكثنا يوما أو بعض يوم، فاسأل الحاسبين وهم الملائكة، والمراد توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة، لكن الكفر في الدنيا أداهم إلى عذاب طويل.
فأجاب أحد الملائكة الحفظة: ما مكثتم إلا زمنا يسيرا، على أي تقدير، سواء كان المكث في الدنيا أو في القبور، وذلك بالنسبة إلى العذاب الطويل في الآخرة، ولكنكم كنتم لا تعلمون الحقيقة، ولو علمتم فعلا بها لعملتم بما يرضي ربكم. ثم لبيان الأمر الثاني وهو التذكير بالتكاليف، وبخهم الله على غفلتهم، بما مفادة:
أظننتم أنما خلقناكم عبثا، أي لعبا وباطلا، بلا قصد كريم، ولا غاية معينة؟! وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الآخرة للحساب والجزاء؟! وهذا هو الأمر الثالث الدال على تفرد الله بالحساب. لقد تنزه الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه سبحانه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم البهي، الشامل في تدبيره نظام الكون الرحيب.
ثم توعد الله جلت قدرته عبدة الأوثان: بأنه من يعبد إلها آخر مع الله دون حجة ولا دليل، فحسابه عند الله، إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا تأكيد أن الكافر لا يبلغ أمنيته، ولا ينجح سعيه.
وقل أيها النبي الرسول: يا رب اغفر لي ذنوبي واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجّني من العذاب الأليم، فإنك صاحب المغفرة الشاملة والرحمة الواسعة.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء بالمغفرة والرحمة وذكر الله بأنه
1725
أرحم الراحمين: تعليم لأمته، وإرشاد إلى أن الرحمة الحقيقية والشاملة إنما هي لله سبحانه، وما رحمة كل راحم بغيره إلا جزء من مائة من رحمة الله تعالى، فإن الله تعالى أنزل ووزّع في العالم رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعة وتسعين.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار».
1726
Icon