تفسير سورة البلد

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة البلد من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (زائدة) هذا أحد احتمالين، والآخر أنها نافية لكلام تقدمها وتقدم ذلك قوله: (مكة) أي لأنها مهبط الرحمات، يجبى إليها ثمرات كل شيء، جعلها الله حرماً آمناً ومثابة للناس، وجعل فيها قبلة أهل الدنيا بأسرها، وحرم فيها الصيد، وجعل البيت المعمور بإزائه؛ وغير ذلك من فضائلها، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل، أقسم الله تعالى بها. قوله: ﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴾ جملة حالية جيء بها تسلية له صلى الله عليه وسلم وسلم وتعجيلاً لمسرته، وحيث وعده فتح مكة في المستقبل، وعبر عنه بالحال لنحقق الوقوع على حد﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾[الزمر: ٣٠] وقد أنجز الله له ذلك، فعندما نزع المغفر عنه يوم الفتح، جاء رجل فقال: يا رسول الله ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه، فقتله الزبير وخص هذا الحال، لأن مكة وإن كانت عظيمة في نفسها، إلا أنها تلك الحالة أعظم، لانتقال أهلها من الظلمات إلى النور، وفيه إشارة إلى عظم قدر المصطفى وشرف البقاع به، فمكة زادها الله تشريفاً بقدومه بها وهو حلال. قوله: (فالجملة اعتراض) أي لا تعلق لها بما قبلها ولا بما بعدها، قصد بها الإخبار بما سيكون، والأحسن جعلها حالية كما علمت لأنه يستفاد منها تشريف مكة في تلك الحالة المستلزم زيادة تشريفه صلى الله عليه وسلم وإكرامه وتعظيمه؛ حيث أحل له ما لم يحل لأحد قبله ولا بعده. قوله: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ أقسم الله بهم لأنهم أعجب خلقه، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير، واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والصلحاء، ولا سيما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وتعليمه جميع الأسماء، وما مشى عليه المفسر من أن المراد بما ورد ذريته، يستفاد منه العموم الصالح والطالح، وقيل: هو قسم بآدم والصالحين فكأنهم ليسوا من أولاده. قوله: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ ﴾ هذا هو المقسم عليه. قوله: ﴿ فِي كَبَدٍ ﴾ بفتحين المشقة من المكابدة للشيء، وهي تحمل المشاق في فعله، وفي الآية إشارة إلى أنها قد أحاطت به إحاطة الظرف بالمظروف. قوله: (يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة) وذلك لأنه أولى ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشد عليه، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع، ثم يكابد بنت أسنانه وتحريك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه والترويج، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور، ثم الكبر الهرم، وضعف الركبة والقدم، ومصائب يكثر تعدادها، ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغم الدين، ويكابد محناً في المال والنفس، مثل الضرب والحبس؛ ولا يمضي عليه يوم إلا ويقاسي فيه شدة ويكابد مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم سؤال الملكين، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى، إلى أن يستقر به القرار، إما في الجنة، وإما في نار، هكذا قرره العلماء. قوله: (وهو أبو الأشد) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة وتشديد الدال المهملة، هو بالإفراد في كثير من النسخ، تبعاً لكثير من المفسرين، وفي بعض النسخ الأشدين بصيغة التثنية تبعاً لبعض المفسرين، ولينظر وجهها، واسمه أسيد من كلدة. قوله: (بقوته) الباء سببية، ومن قوته أنه كان يجعل الأديم العكاضي تحت قدميه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه. قوله: ﴿ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ أي على بعثه ومجازاته. قوله: ﴿ يَقُولُ ﴾ أي افتخاراً. قوله: (على عداوة محمد) (على) بمعنى في. قوله: ﴿ لُّبَداً ﴾ بضم اللام وكسرها مع فتح الباء، قراءتان سبعيتان، جمع لبدة وهو ما تلبد، والمراد به الكثرة. قوله: ﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ استفهام إنكاري. قوله: (ليس ما يتكثر به) أي يفتخر بكثرته، لأنه أنفقه فيما يغضب الله.
قوله: ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴾ أي يبصر بهما المرئيات، شققناهما له وهو في ظلمة الرحم، وقدرنا بياضهما وسوادهما، وأودعناهما البصر على كيفية تعجز الخلق عن إدراكها. قوله: ﴿ وَلِسَاناً ﴾ أي يترجم به عما في ضميره. قوله: ﴿ وَشَفَتَيْنِ ﴾ أي يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك، وفي الحديث يقول:" يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعنك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق "قوله: (طريقي الخير والشر) وصف مكان الخير بالرفعة والنجدية ظاهر، بخلاف الشر، فإنه هبوط من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقوة ففيه تغليب، والمعنى: بينا له أن طريق الخير ينجي، وطريق الشر يردي، وسلوك الأول ممدوح، والثاني مذموم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود، وقال عكرمة: النجدان الثديان، أي لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه. قوله: (فهلا) أشار بذلك إلى أن لا بمعنى هلا للتحضيض وهو أحد احتمالين، والآخر أنها باقية على أصلها للنفي، أي لم يشكر على تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة، إن قلت: لم أفردت لا، مع أنها إذا دخلت على ماض تكرر كقوله تعالى:﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ ﴾[القيامة: ٣١] أجيب: بأنها مكررة في المعنى كأنه قال: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً.
قوله: ﴿ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ ﴾ هي في الأصل الطريق الصعب في الجبل واقتحامها مجاوزتها، ثم أطلق على مجاهدة النفس، في فعل الطاعات وترك المحرمات، والمراد باقتحامها فعلها وتحصيلها والتلبس بها، إذا علمت ذلك فقول المفسر جاوزها تفسير لاقتحام العقبة لكن باعتبار الأصل، وليس مراداً هنا، فلو قال: أي تلبس بها ودخلها لكان واضحاً أو يقال: المراد بالعقبة الطريق التي توصل إلى الجنة، فإنه ورد: إن بين العبد والجنة سبع عقبات، والمراد باقتحامها مجاوزتها بفعل الطاعات في الدنيا، فمعنى قول المفسر (جاوزها) أي فعل أسباب المجاوزة. قوله: (والجملة اعتراض) أي لبيان العقبة قوله: (بأن أعتقها) أي مباشرة وهو ظاهر، أو تسبباً كشراء القريب. قوله: ﴿ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴾ مصدر ميمي بوزن مفعلة، من سغب يسغب، من باب فرع جاع، وقيد الإطعام بذلك الوقت، لأن إخراج المال فيه أثقل على النفس. قوله: ﴿ ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ قيد اليتيم بكونه قريباً لأنه يجتمع حينئذ في الإطعام جهة الصلة والصدقة. قوله: (أي لصوق بالتراب) أي فهو كناية عن الافتقار. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (مضاف الأول لرقبة) أي من إضافة المصدر إلى مفعوله. قوله: (فيقدر قبل العقبة) إنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف. ليطابق المفسر المفسر، وذلك: لأن المفسر بكسر السين مصدر، والمفسر بفتحها وهو العقبة كغير مصدر، فلو لم يقدر المضاف لكان المصدر، وهو فك مفسراً لاسم العين وهي العقبة، وذلك غير جائز، وأما القراءة الأولى، فالفعل فيها بدل من قوله: ﴿ ٱقتَحَمَ ﴾ فلا يحتاج لتقدير مضاف.
قوله: ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أتى بـ ﴿ ثُمَّ ﴾ إشارة لبعد رتبة الإيمان وعلوها، عن رتبة العتق والصدقة. قوله: (وثم للترتيب الذكري) أي لأن الإيمان هو السابق، لا يصح عمل إلا به. قوله: ﴿ بِٱلصَّبْرِ ﴾ (على الطاعة) الخ، أي ما أصابه من المحن والشدائد. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ ﴾ خبره، وأتى باسم الإشارة تكريماً لهم بأنهم حاضرون عنده، في مقام قربه وكرامته، فذكرهم بما يشار به للبعيد، تعظيماً لهم وإشارة لعلو درجاتهم وارتفاعها. قوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ ﴾ أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، أو لأن منزلتهم عن يمين العرش. قوله: ﴿ هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ ﴾ ذكرهم بضمير الغيبة، إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه وكرامة أنسه. قوله: (الشمال) أي لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، أو لأن منزلتهم عن الشمال. قوله: ﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ ﴾ خبر ثان أو مستأنف. قوله: (بالهمز والواو) أي فهما قراءتان سبعيتان ولغتان جيدتان، يقال: آصدت الباب وأوصدت إذا أغلقته وأطبقته. قوله: (مطبقة) أي عليهم تفسير لكل من القراءتين، والمعنى: لا يخرجون منها أبداً، ولا يدخلها روح وريحان.
Icon