ﰡ
وهي مكية وعدد آياتها إحدى عشرة آية ومائة، وهي مناسبة لما قبلها إذ الكل في قصص الأنبياء، وتتضمن السورة قصة يوسف على أحسن نظام وأدق تعبير وأروع وصف، وقد برز أثناء سردها تأييد الرسول في قضيته الكبرى حيث لم يكن يعرف شيئا عن يوسف ولفت لأنظار العالم إلى الكون وما فيه من آيات وعبر، وإلى ما في الإنسان من غرائز كحب الولد، والغيرة والحسد بين الأخوة، والمكر والخديعة من بعضهم، ومن امرأة العزيز الثائرة، وما يتبع ذلك من ندم، والإشارة إلى ما في المجتمع المصرى إذ ذاك. كل ذلك بأسلوب قوى وعبارة بليغة وتصوير دقيق.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)المفردات:
الْمُبِينِ من أبان إذا أوضح وفصل ما يريد الْقَصَصِ مأخوذة من قص الخبر إذا حدثه على وجهه الصحيح، والأصل قصصت الأثر فتبعته بعناية لأحيط به خبرا، وقد يطلق القصص ويراد به المقصوص من الخبر والأحاديث.
افتتاح حار العقل الإنسانى في فهمها وهي كسابقتها.
تلك آيات هذه السورة هي آيات الكتاب المبين الظاهر الذي أوضح المعنى وبين المقصود من القصة بأجلى بيان، ولعله وصفه هنا بالبيان لهذا، وفي سورة يونس لما تعرضت لبيان التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وللتحدى بالقرآن إلى آخر ما مضى ناسب بدؤها بقوله: تلك آيات الكتاب الحكيم والله أعلم بكلامه.
إنا أنزلنا هذا الكتاب حالة كونه يقرأ بلغتكم يا معشر العرب ويبين لكم كل شيء، ويجمع لكم كل خبر بلسان عربي مبين ظاهر، يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار، وحكم وحكمة، وسياسة واجتماع، ودين ودولة كل هذا بلغتكم رجاء أن تقفوا على تلك المعاني، وهذه الأغراض التي تخرج فردا مسلما وأسرة مسلمة ومجتمعا نظيفا مسلما وحكومة إسلامية قوية.
نحن نقص عليك أيها الرسول أحسن القصص والحديث بيانا وأسلوبا وإحاطة وكمالا من كل ناحية، وأحسن ما يقص ويتحدث عنه في الموضوع والغاية، فالقرآن كامل في قصصه شكلا وموضوعا، نحن نقصه بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن إذ جاءت فيها قصة يوسف كاملة تامة مفصلة مع اشتمالها على ما يوضح العقيدة ويثبتها ويبين أثرها في حياة الفرد والجماعة.
وإن كنت يا محمد من قبل هذا لمن الغافلين شأنك شأن قومك لا يعرفون من أخبار الماضين وغيرهم شيئا.
يوسف في دور الطفولة مع أبيه وقد رأى الرؤيا [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤ الى ٦]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
يَجْتَبِيكَ الاجتباء من اجتبيت الشيء إذا خلصته لنفسك والجبابة: جمع الشيء النافع كالماء، والمال للسلطان تَأْوِيلِ الأخبار بما تؤول إليه الرؤيا في الوجود.
يعقوب- إسرائيل- بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم الصلاة والسلام-، كان له أولاد اثنا عشر من أربع نساء.
وكان من بينهم يوسف وأخوه بنيامين من امرأته راحيل بنت خاله لابان، وكان يوسف جميل المنظر تبدو عليه مخايل الشرف والكرامة والخلق والنبل وتلوح عليه أمارات النبوة والرسالة، ولذا كان مقربا لدى أبيه، أثيرا عنده خصوصا بعد الرؤيا التي كانت سببا في محنته والتي هي خير وبركة في النهاية عليه وعلى شعب مصر.
المعنى:
اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه، وهذا شروع في بيان أحسن القصص.
قال يوسف لأبيه: يا أبتي إنى رأيت في منامي أحد عشر كوكبا. والشمس والقمر رأيتهم جميعا لي ساجدين سجود انحناء وخضوع وانظر إلى قوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، وهذه عبارة تقال في سجود العقلاء المكلفين! ولذا فهم أبوه أنها رؤيا إلهام ليست أضغاث أحلام.
فهم يعقوب من هذه الرؤيا أنه سيكون ليوسف شأن عظيم وسيسود قومه حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته بها فيحسدوه ويكيدوا له كيدا فنهاه عن أن يقص رؤياه على إخوته: يا بنى العزيز لا تقص رؤياك على إخوتك فإنى أخاف إن قصصتها يحسدوك فيكيدوا لك كيدا، ويدبروا لك أمرا ولا تعجب يا بنى من ذلك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين، لا تفوته فرصة من دواعي النفس الأمارة بالسوء
قال يعقوب: ومثل ذلك الشأن الرفيع والمكانة العالية التي تشير إليها رؤياك يجتبيك ربك لنفسه، ويصطفيك على آلك فتكون من المخلصين، ويعلمك من تأويل الرؤيا، وتعبيرها صادقا، ويتم نعمته عليك بالنبوة والرسالة، والملك والرياسة، ويتمها بسببك على آل يعقوب حيث تكون حلقة النبوة وسلسلة الرسالة فيك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم جد أبيه، وإسحاق جده والعرب تسمى الجد أبا «أنا ابن عبد المطلب» ألست معى في أن يعقوب فهم من رؤيا يوسف فهما دقيقا نتج عنه أن حذره من إخوته، وبشر بتلك البشارات.
إن ربك عليم بخلقه، يجعل رسالته عند من فيه استعداد لتحمل أعبائها، حكيم في كل أفعاله.
الرؤيا والحلم ما يراه النائم في نومه، وقد تكون من استشراف الروح وصفائها فهي ترمز لذلك برموز يعرفها بعض الناس الذين يدرسون تفسير الرؤيا وتعبير الأحلام، وهي تعبر غالبا عما تتطلبه النفس وما تميل إليه، وللعقل الباطن فيها أثر فعال ولعلماء الغرب تفسيرات وأبحاث يحسن الوقوف عليها.
وقد تنشأ الأحلام من تخمة في الأكل وضغط على القلب فيرى النائم المزعجات والأحلام المختلطة التي لا ترمز إلى شيء وهذه هي أضغاث الأحلام.
والرؤيا الصالحة جزء من النبوة، ونوع من الإخبار بالغيب إن جاز هذا التعبير.
يوسف وإخوته وما كان منهم [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧ الى ١٨]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦)
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)
عُصْبَةٌ هي الجماعة من الرجال ما بين الواحد إلى العشرة. غَداً الغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه لَيَحْزُنُنِي الحزن: ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه، والخوف: ألم في النفس مما يتوقع من مكروه يَرْتَعْ يقال رتع البعير والإنسان إذا أكلا كيف شاءا والرتوع أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول أصل الرتعة الخصب والسعة نَسْتَبِقُ يتكلف كل منا أن يسبق غيره.
هذا بدء القصة الحقيقي. والذي تقدم مقدمتان لها:
(أ) في الكلام على هذا الكتاب الذي هي فيه وأنه نزل باللسان العربي المبين.
(ب) وفي الكلام على رؤيا يوسف، وما كان لها من الأثر في نفس أبيه وما فهمه يعقوب من تأويلها، وسيتلو القصة خاتمة في العبرة منها وما يتعلق بذلك، وهذا ترتيب غريب لم يسبق القرآن بمثله أبدا- وإن كنت في شك فاقرأ القصة في التوراة- ولقد استخدمه أصحاب القصص المحدثون.
روى أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في مكة أو أرسلوا له من يسأله عن نبي كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمى
فأنزل الله عليه سورة يوسف محكمة كما في التوراة وكانت هنا أدق وأحكم.
المعنى:
تالله لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه آيات ودلائل على قدرة الله، وحكم ومواعظ للسائلين عنها الراغبين في معرفة حقائقها، وما تشير إليه وهم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فهذه القصة بظواهرها الغريبة تشير إلى معان دقيقة، إذ حسد إخوته له نتج عنه رميه في الجب وأخذ السيارة له وبيعه في مصر لعزيزها، وقد قلده أمر بيته لأمانته وصدقه فنشأ عن ذلك مراودة امرأته له عن نفسه فاستعصم. ونشأ عن ذلك ظهور أمره، ومعرفة خبره، ولو لم تبالغ في كيدها ليوسف لما ألقى في السجن الذي خرج منه إلى بيت الملك وإدارة الحكم في مصر إلى آخر ما سيأتى.
إن أبانا إذ أحب يوسف وشقيقه لقد ضل طريق العدل والصواب وضل ضلالا مبينا حيث يحب الولد حبا أكثر لحب أمه، والمراد ضلاله في الحب لا في العقيدة وهذا حكم منهم على أبيهم جائز إذ حب يوسف وأخيه لضعفهما وصغرهما في السن ولموت أمهما، ولما كان يأمله في يوسف من عقل وحكمة، وما فهمه من رؤياه.
ولما استبد بهم الحسد وغلب على عقلهم قالوا بعد التشاور: اقتلوا يوسف حتى لا يلقاه أبوه أبدا أو اطرحوه في أرض بعيدة عنا حتى ينقطع خبره عن أبيه، إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم وهذا تعبير دقيق يراد به يكمن لكم كل وجهه وإقباله، لا يشارككم فيه أحد.
وتكونوا من بعده قوما صالحين، بهذا زين لهم الشيطان أعمالهم، ومناهم بأنهم إذا ارتكبوا هذا الجرم يتوبون عنه ويصيرون صالحين عند أبيهم وعند ربهم فاحذروا أيها الناس ألاعيب الشيطان.
قال قائل منهم- الله أعلم باسمه ولا حاجة لنا في معرفته- قال: لا تقتلوا يوسف فهو أخوكم، ولكن إذا أردتم التخلص منه حقا فألقوه في غيابات البئر (وهي ما يغيب عن النظر من قعره أو حفرة بجانبه) يلتقطه بعض السيارة (وهم المسافرون الذين يسيرون في الأرض للتجارة) فيتم لكم غرضكم وهو إبعاده عن أبيه حتى يخلو لكم وجهه إن كنتم فاعلين الصواب فهذا هو الصواب.
عبارة القرآن الكريم تؤيد أن يوسف- عليه السلام- كان يتمتع بقسط وافر من محبة أبيه، وكان أبوه يفهم أن هذا يغضب إخوته خصوصا بعد الرؤيا فما كان يستريح إذا غاب يوسف عنه لحظة ولو مع إخوته، وكانوا يفهمون حرص أبيهم على يوسف.
قال إخوة يوسف، وقد رأوا ما رأوا: يا أبانا مالك لا تأمنا عليه؟ وأى شيء عرض لك من الشبهة حتى لا تأمنا على يوسف «يكاد المريب أن يقول خذوني» والحال
ماذا يفعل الأب؟ إنه لموقف حرج جدا، طلب أبناؤه مرافقة أخيهم لهم في الرعي والنزهة. إنه لطلب جميل، ولكن ماذا يفعل يعقوب؟ وهو يعلم ما عندهم بالنسبة لأخيهم، وما يعلمه بالإجمال من رعاية الله للصغير يوسف، قبل طلبهم على مضض ومع إظهار الكثير من الألم لفراق يوسف.
قال: إنى ليحزنني ذهابكم به وفراقه لي على أى صورة!! وأخاف أن يعتدى عليه بعض أفراد الذئب وأنتم عنه غافلون.
ماذا يجيبون على أبيهم وتخوفه من الذئب؟ أيقولون له لا تحزن؟
وإنما طمأنوه من ناحية الذئب، قالوا تالله لئن أكله الذئب وهو معنا، جماعة قوية وعصبة فتية، إنا إذن لخاسرون وخائبون في ادعائنا أننا عصبة قوية ولا يصح الاعتماد علينا في شيء.
تلك هي المؤامرة التي دبرت ليوسف، وبقي تنفيذها.
فلما ذهبوا به من عند أبيهم، وأمكنهم إقناعه واقتنع هو في الظاهر فقط ولأمر ما سلم في فلذة كبده يوسف، وأجمعوا أمرهم في أن يجعلوه في غيابة الجب المعروف عندهم ليذهب حيث شاء فيستريحوا ويخلو لهم وجه أبيهم نفذوا ما أجمعوا عليه وألقوه في الجب.
ولكن الله العالم البصير الرحمن الرحيم، لا يترك مظلوما يتخبط بل هو معه وناصره وحافظه ومطمئنه، أوحى إلى يوسف: لا تخف فالله معك، وسيظهرك عليهم، ويذلهم لك ويحقق رؤياك، ويسجد لك سجود خضوع إخوتك الأحد عشر وأبوك وأمك (قيل هي أمه أو خالته وأمه ماتت) وربك القوى لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لهول الموقف لا يشعرون.
وجاءوا على قميصه بدم ليس من دمه ليشهد كذبا وزورا أنه دمه والله يعلم أن الذئب برىء من دم ابن يعقوب.
روى أن يعقوب قال استهزاء: ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه!! قال هذا استهزاء بهم.
وقال ملوّحا بكذبهم: بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا إدا، وفعلتم فعلا نكرا وأما أنا فأمرى صبر جميل لا يأس فيه ولا قنوط من رحمته والله معى وهو المستعان وحده على ما تصفون، هذه قصة يوسف مع إخوته مصدرها القرآن فقط، وهذا ما نطمئن إليه دائما.
أما الأخبار والأقوال والإسرائيليات وقول التوراة فهذا شيء آخر لا نلتفت إليه.
يوسف مع السيارة [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
سَيَّارَةٌ هم الجمع المسافرون كالجوالة والكشافة وارِدَهُمْ هو الرائد الذي يبحث عن الماء فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسل دلوه- إناء يستقى به من البئر وَأَسَرُّوهُ أخفوه شَرَوْهُ باعوه بثمن قليل.
المعنى:
وجاء هذا المكان جماعة مسافرون روى أنهم من العرب الإسماعيليين فأرسلوا رائدهم يبحث عن الماء ويأتيهم به فأرسل دلوه في البئر فتعلق به يوسف حتى خرج، قال:
يا بشرى احضرى فهذا أوانك هذا غلام وسيم الطلعة، صبوح الوجه فاستبشروا به وسروا.
وأخفوه عن أعين الناس حتى لا يعلم به أحد لأجل أن يكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر والله- سبحانه- لا يغيب عنه شيء، عليم بما يفعل هؤلاء وهؤلاء، وباعته السيارة بثمن قليل دراهم معدودة لم تصل إلى حد الوزن وكانوا فيه من الزاهدين الراغبين عنه الذين يبتغون الخلاص منه.
يوسف في مصر [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
مَثْواهُ مقامه عندنا مأخوذ من ثوى بالمكان أقام به أَشُدَّهُ رشده وكماله.
المعنى:
وقال الذي اشتراه من مصر، لم يذكر القرآن اسمه ولا صنعته ولا مسكنه لأن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص يعنى بهذه الأشياء، بل قصصه لمعنى أعلى وأسمى ولا يهتم بمثل هذا، وقد ذكرت روايات في اسمه ووظيفته كثيرة، والظاهر أنه كان رئيس شرطة وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ.
قال أكرمى مقام هذا الغلام، فلا يكن في منزلة العبيد والأرقاء، بل عامليه كفرد منا فإنى ألمح فيه النبل والخلق، وأرى أنه سيكون له شأن: أكرميه رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة أو العامة أو نتخذه ولدا لنا تقر به أعيننا ونرثه ويرثنا.
يا سبحان الله!! أهكذا يكون يوسف الذي ألقى في الجب! وقد وقع في قلب سيده هذا الموقع ولا غرابة فالله حارسه وهاديه، وحافظه وراعيه ومثل ذلك التدبير والعناية بيوسف مكناه في أرض مصر، وكان هذا العطف من عزيزها فاتحة الخير وإن اعترض سبيله بعض المشاق فتلك حكم الله يعلمها، وكما قيل: الحوادث تخلق الرجال.. مثل ذلك مكناه في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، وتعبير الرؤيا وهكذا إعداد الأنبياء.
والله غالب على أمره، ومنفذ ما أراده لا راد لقضائه، فكل ما وقع ليوسف من إلقائه في الجب ومن استرقاقه وبيعه وتوصية سيده لامرأته بخصوصه وتعليمه الرؤيا وغير ذلك خطوات لإعداد يوسف للمحل الذي ينتظره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
ولما بلغ أشده؟ وكمل رشده، واستوى عقله وبدنه آتيناه حكما إلهاميا فيما يعرض له من المشاكل والنوازل، وسن الرشد هل هي ثلاثون أو أربعون؟
مثل ذلك نجزى المحسنين العاملين خصوصا الأنبياء والمرسلين وقائدهم وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلم..
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
المفردات:
وَراوَدَتْهُ طلبت منه أن يواقعها طلبا بلين ورفق كالمخادعة، يقال: راود الرجل
المعنى:
هكذا كانت محنة يوسف في طيها منة عليه، ورب محنة ولكن في طيها منن.. دخل دار العزيز وأراد سيده أن يكون رئيسا للخدم وأن يحسن معاملته أو أن يتخذه ولدا وأمر امرأته بتنفيذ ذلك. وأراد الله- سبحانه- فوق ذلك كله أشياء والله بالغ أمره، وأرادت امرأة العزيز غير ذلك، أرادت أن يكون يوسف عشيقا لها، وراودته عن نفسه، وطلبت منه ذلك بالحيلة والمكر لتصرفه عن رأيه، راودته عن نفسه لأجل أن يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو وإرادة ربه، وأعدت العدة لذلك وغلقت باب مخدعها وأبواب البهو المحيط به لتأمن الطارق والزائر وقالت ليوسف: هلم أقبل ونفذ ما أريده منك!! قال يوسف: أعوذ بالله وحده أن أكون من الجاهلين! يا هذه إن زوجك سيدي وقد أحسن مثواي وأكرم وفادتي واستأمنني على نفسه وبيته فكيف أخونه؟!! يا هذه إنه لا يفلح الظالمون أبدا الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي ومخالفة القانون الإلهى.. ترى يوسف- عليه السلام- أجابها معتزا بالإيمان بالله وبالأمانة لسيده وأنه لا يفلح الظالمون والخائنون، لقد ردها يوسف ردا عنيفا وصادمها في عواطفها في وقت هي فيه ثائرة ثورة جنسية عاصفة وهي سيدته وهو خادمها إنه شيء يخرج الشخص عن صوابه.
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.
وللعلماء في هذا الموضوع آراء واتجاهات كثيرة يجمل بنا أن نذكر الأقرب إلى
وقال البعض: إن أساليب اللغة قد تمنع مثل هذا الفهم في الآية (إذ جواب لولا لا بد أن يؤخر عنها) ولنا أن نجيب عن هذا بأن الجواب مقدر بقوله: لفعل ولفظ هم المتقدمة دليل الجواب. لا الجواب.. وبعضهم قال: إنما الرأي أن هذه الحادثة وقعت ليوسف قبل النبوة والرسالة على أن الهم الذي حصل إنما هو بمقتضى الطبيعة والفطرة الإنسانية البشرية ويوسف وقتئذ شاب يافع قوى فتى على أنه هم ولم يفعل إذ ما أن هم بمقتضى الطبيعة حتى تذكر ربه فكف نفسه بعد أن أثارتها الطبيعة، والعيب أن يرتكب الإنسان الخطيئة لا أن يهم بها فيمنعه دينه ولذا يقولون: إنه هم وما ألم، ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبها الله له عنده حسنة كاملة.
وخلاصة الرأيين، أن الكل متفق على أن يوسف لم يفعل سيئة قط وإنما الرأى الأول يقول إنه ما أهم لرؤية برهان ربه فرؤية البرهان منعت الهم والرأى الثاني أنه هم بدواعى الطبيعة ثم جاء الكف والمنع من وقوع المعصية برؤية البرهان وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء آية ٧٤].
وللمفسرين أقوال وأحاديث وروايات منقولة عن الإسرائيليين وغيرهم كثيرة وتتنافى مع مقام النبوة وشرف الرسالة أردنا أن نعرض عنها حتى تموت في بطون أصحابها.
مثل ذلك فعلنا وتصرفنا مع يوسف لأنا نعده لتحمل أعباء الرسالة في المستقبل ولنصرف عنه السوء يا سبحان الله لم يقل القرآن لنصرفه عن السوء إذ فرق العبارتين كبير!! ولنصرف عنه الفحشاء، إنه من عبادنا المصطفين الأخيار الذين اختارهم ربهم وأخلصهم من شوائب المعاصي وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [سورة ص ٤٥- ٤٧].
وللشيخ رشيد رضا- رحمه الله- وأجزل ثوابه رأى في هذه الآية خلاصته: ولقد همت بإيذائه وضربه بعد عصيانه أمرها وطلبها بلطف ولين وهذا شأن المرأة همت بضربه والبطش به لعصيانه أمرها وإفساده حيلها وهم هو برد الاعتداء وبمقابلته بالمثل لولا أن رأى برهان ربه، واستبقا الباب كل يريد أن يصل إليه فطلبه يوسف ليفر منها وطلبته
ولم تعينه لأمر في نفسها ما جزاؤه إلا أن يسجن لتقتص من رجل أهان كبرياءها ومنعها من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة لتريه أن في يدها إعزازه وإهانته، وما علمت أن ذلك كله سلسلة محكمة الأطراف وطريق موصل إلى غاية الله يعلمها، ويعد يوسف لها إلا أن يسجن أو يعذب عذابا مؤلما موجعا.
ولكن يوسف إزاء هذا لم ير بدا من إخبار زوجها وسيده بما حصل غير عابئ بما سيكون ما دام يرضى ربه ولم يخالفه.
وقال يوسف هي راودتني عن نفسي وسلكت في ذلك كل الطرق الممكنة وغير الممكنة واحتالت بأساليب الخداع والمكر ما شاء الله لها.
وشهد شاهد من أهلها في هذه القضية التي تحير قاضيها.. امرأته وزوجه تدعى دعوى، وغلامه وفتاه يناقضها، وهي دعوى تتعلق بالشرف والعرض شهد فيها شاهد قريب لها كان مع زوجها قائلا: إن كان قميص يوسف قد قدّ من قبل تكون صادقة في دعواها أنه أراد بها سوءا، فإنه لما وثب عليها ودفعته مزق القميص من قدام، وإن كان قميصه قد من الخلف تكون كاذبة في دعواها بالهجوم عليها، وهو من الصادقين في قوله أنها راودته وهو فر منها، فلما رأى سيده أن قميصه قد من دبر قال حاكما بهذا الحكم الذي يدل على ضعف الرجولة وذهاب الشهامة.
إنه من كيدكن أيها النساء إن كيدكن عظيم، فمحاولة التخلص بالاتهام من كيدك أيتها المرأة.
يا يوسف أعرض عن هذا الخبر لا تخبر أحدا أبدا وأنت استغفري ربك لذنبك، وتوبي من عملك إنك كنت من الخاطئين المذنبين.
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
المفردات:
شَغَفَها حُبًّا اخترق حبه شغاف قلبها وصل إلى سويدائه والشغاف: غطاء القلب، وَأَعْتَدَتْ هيأت لهن مُتَّكَأً مكانا يجلسن فيه متكئين مستريحين
المعنى:
شاع في المدينة نبأ امرأة العزيز مع فتاها. وقد أصبح حديث المجالس خصوصا في مجالس كبار المدينة: فاجتمع عدد من النساء واتفقن على تدبير أمر يكون من ورائه اجتماعهن بيوسف هذا.
وقال عدد من نساء المدينة قليل يمكن اجتماعه على رأى، وتدبيره لأمر، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وهذا كلام يفيد التعجب والإنكار من فعلها لأنها امرأة رجل كبير هو الوزير الأول وقد راودت هي بنفسها وطلبت، والمألوف أن المرأة تتمنع ويطلب منها ما لا تطلب هي، أليس من الغريب الذي يدعو إلى العجب أن تطلب امرأة من فتاها وخادمها، وتدوس كبريائها، والعجب العاجب أن تظل كما هي بعد أن افتضح أمرها وعلم به زوجها وعاملها معاملة فيها كثير من التنازل.
كل هذا تفيده العبارة القرآنية: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه: قد شغفها حبا، وأشرب قلبها حبه حتى ملك أمرها، واستبد بقلبها وعقلها وأضحت كالولهان، قالت النسوة: إنا لنراها في ضلال بيّن وجهل ظاهر يتنافى مع مكانتها وحالها.
فلما سمعت بمكرهن، ووصل إليها خبرهن، أرادت أن تمكر بهن مكرا يوقعهن في الشرك، ويجعلهن في صفها، وكان من أمرها أن أرسلت إليهن وأعدت لهن مكانا مهيئا فيه الأرائك مصفوفة، وجلسن متكئات عليها متقابلات وأعطت كل واحدة منهن سكينا تستعين به على قطع الطعام، وبينما هن في تناول الأطعمة، وكلّ تمسك بسكينها الحادة قالت: اخرج يا يوسف عليهن ويظهر أنه كان داخل حجرة متصلة بقاعة الطعام فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال السحرى الفاتن وغبن عن شعورهن، وقطعن أيديهن. والمعنى كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، والمراد جرحتها، وقلن حاشا لله والمعنى تنزيها لله- تعالى- عن صفات العجز، والتعجب من قدرته على
قالت وقد وصلت إلى ما تريد من إيقاعهن في شبكة جماله: إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما حصل منكن عند ما رأيتنه، وقد قلتم ما قلتم فذلكن الذي لمتنني فيه وكان الظاهر أن تقول: فهذا الذي لمتنني فيه ولكنها تريد فذلك يوسف البعيد في الكمال والجمال، بل هو أكبر من كل ذلك هو ملك روحانى في صورة بشر إنسانى.
وإذا كان هذا أمركن معه في لحظة فماذا أفعل وهو معى ليلا ونهارا؟ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع امتناعا بليغا مؤكدا، واستمسك بعروة عصمته التي ورثها عن أسلافه.
وتالله لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونا من الصاغرين، يا عجبا أبعد هذا كله تظل المرأة على حالها وتلح بطلب الوصال بيوسف!! لم تكتف بالإشارة مع يوسف حتى صرحت له وطلبت علنا وقالت (هيت لك)، ولم تقنع بالطلب بينها وبينه حتى عادت فطلبت علانية بحضور النسوة أترابها إن هذا لعجيب!! قال يوسف: يا رب. السجن أحب إلى مما يدعونني جميعا إليه فتلك بيئة ملوثة لا أحب المكث فيها أبدا، وإن لي في السجن لراحة بال وهدوء نفس، وهكذا لا يستريح الطيب في البيئة الفاسدة، وهذه إشارة إلى أثر البيئة، وإلا تصرف عنى يا رب كيدهن أصب إليهن وأمل، وأكن من عداد الجاهلين الذين يعملون السوء بجهالة، فاستجاب له ربه وصرف عنه كيدهن، وعصمه إنه هو السميع المجيب لدعاء المظلومين، عليم بصدق الإيمان وكمال الإخلاص.
ولكن ماذا يفعل العزيز وقد شاع الخبر أولا وأخيرا؟ لا بد أن يلجأ إلى أمر شاذ فاستشار وأشير عليه أن يزج يوسف في السجن حتى يرى كأنه المعتدى وامرأته شريفة هذا عند العامة، أما الخاصة فتعرف كل شيء وقد سهل الله هذا لأن السجن فيه مصلحة ليوسف.
يوسف في السجن [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
خَمْراً المراد: عنبا يكون خمرا بِتَأْوِيلِهِ بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج.
المعنى:
بدا لهم أن المصلحة في سجن يوسف فسجنوه، ودخل معه فتيان مملو كان للملك:
أما أحدهما فخازن طعامه والآخر ساقيه وليس الأمر من باب المصادفة ولكنه تقدير العزيز العليم، وماذا كان من شأنهما؟ قال أحدهما: يا يوسف إنى أرانى أعصر عنبا ويكون في المستقبل خمرا رأيت هذا في منامي رؤية واضحة كأنى رأيتها في اليقظة. وقال الآخر: إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه، قال كل منهما: يا يوسف نبئني بتأويل رؤياي وأخبرنى بتفسير حلمي الذي يؤول إليه في الخارج نبئنا بتأويله، ثم عللوا هذا الطلب بقولهم: إنا نراك من المحسنين الذين يعملون الإحسان بمقتضى الغريزة والفطرة لا بسبب آخر. وقيل المعنى: إنا نراك من المحسنين تعبير الرؤيا وتفسيرها.
وانتهز يوسف هذه الفرصة، وهي ثقة هذين الشخصين به وبعلمه وبعقله فعمل على أن يبدأ حديثه معهما بدعوتهما إلى دين التوحيد الخالص وترك الأوثان ومن هنا نفهم أن دخول السجن كان لحكمة الله يعلمها، وأن يوسف ينتقل من مكان إلى مكان فيه خير له ولدينه.
أخذ يوسف يدعوهما إلى التوحيد بعد أن قدم مقدمة كالمعجزة الدالة على صدقه فقال: اسمعوا. إنه لا يأتيكما طعام ترزقانه من أى مكان إلا ونبأتكما بتأويله وتفسيره من أين أتى؟ ولأى غرض أتى، وفي أى وقت سيأتى؟ كل ذلك قبل أن يأتيكما، وذلك بعض ما علمني ربي بوحيه لا بشيء آخر كالكهانة والسحر ومن هنا يعلم أن يوسف أوحى إليه وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين فهم أقرب إلى التصديق من غيرهم. وسبق أن قلنا إنه ألهم بما يطمئنه على نفسه ومستقبله وهو في البئر كل ذلك ليعلم أن الله يرعاه، والسبب في ذلك: أنى تركت شريعة قوم لا يؤمنون
وانظر إلى هذا الذي في القرآن حيث ينزه شجرة النبوة الطيبة عن عبادة الشرك والتوراة تنسب إلى بعض أولاد إسحاق الشرك.
يا صاحباي في السجن قروا واعترفوا بالله الواحد القهار.
يا صاحباي أرباب متفرقون في ذواتهم وصفاتهم التي تدعو إلى النزاع والتصادم والفساد. أهؤلاء خير أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد القهار بقدرته وإرادته؟! سبحانه وتعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية ٢٢].
ما تعبدون من دون الله الواحد إلا أسماء وضعتموها لمسميات لا تستحق الربوبية فاتخذتموها أربابا من دون الله، وهي أشياء لا ترزق ولا تحيى ولا تميت ولا تنفع وتضر، ما أنزل الله بتسميتها أربابا أى نوع من الحجة والبرهان: لم يأمركم ربكم بذلك على لسان الرسل الكرام، ولم يطلبها عقل راجح حتى يكون برهانا وسلطانا، إن الحكم إلا لله وحده فهو الإله الواجب الوجود الواحد المعبود، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، فادعوه واعبدوه وحده دون سواه.
ذلك الدين القيم والشرع الكامل والرأى الوسط، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
تَسْتَفْتِيانِ الاستفتاء طلب الفتوى أى: السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه وهذا اللفظ مأخوذ من الفتوة الدالة على معنى القوة والثقة بِضْعَ قيل:
هو من ثلاث إلى تسع ويغلب أن يطلق على السبع.
المعنى:
بعد أن تكلم مع صاحبيه في شأن التوحيد ومقدماته تكلم في تأويل رؤياهما فقال:
يا صاحباي أما أحدكما- الذي رأى أنه يعصر عنبا يصير خمرا- فيسقى ربه خمرا وربه مالكه وسيده ولم يقصد ربوبية العبادة فإن ملك مصر أيام يوسف لم يدع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى. وأما الثاني- وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه فيصلب فتأكل الطير آكلة اللحوم كالحدأة من رأسه، لا تناقشا! قد قدر الله الأمر وسبق الحكم الذي فيه تستفتيان، وهذا خارج عن تأويل الرؤيا ولكنه من باب المكاشفة وصفاء الأرواح، لعله إخبار ووحى ليوسف، وقال للذي ظن أنه ناج منهما- وانظر إلى التعبير بقوله: ظن أى: في الواقع لأنه ربما يغير الملك رأيه الذي قال أو تأتى حوائل تحول بين تحقيق ما قاله يوسف قال له-: اذكرني عند ربك وسيدك الملك، أى:
حدثه عن خبري وحالي، ويقصد يوسف أن يطرق الأبواب الظاهرية والأسباب المادية ليخرج من السجن فيتمم فصول روايته.
فأنسى الشيطان صاحبه أن يذكر يوسف عند الملك فأنساه الشيطان ذكر إخبار ربه أى: تذكيره بأمر يوسف فترتب على هذا أن يلبث في السجن بضع سنين هل هي ثلاثة أو سبعة أو قل أو أكثر الله أعلم بتحديدها وإن كانت من ثلاث إلى تسع.
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
المفردات:
عِجافٌ مهازيل في غاية الضعف تَعْبُرُونَ تفسرون وتؤولون الرؤيا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من الحطب وَادَّكَرَ أى:
تذكر أُمَّةٍ طائفة من الزمن دَأَباً بجد ونشاط تُحْصِنُونَ تدخرون البذر يُغاثُ من الغوث والإغاثة.
رأى الملك في نومه رؤيا أزعجته فقصها على وزرائه وحاشيته وعلمائه فعجزوا عن تفسيرها وكان عجزهم من دواعي التفكير في يوسف، واتصال الملك به.
وقال الملك: إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف هزيلات، وأرى سبع سنبلات خضر وأخرى سنبلات يابسة مهيأة للقطوف، الخيال والرموز إلى الواقع والحقائق.
قالوا: هي أحلام مختلطة، وخيالات غير منتظمة، وهذه أضغاث أحلام لا تأويل لها ولا تفسير، وإنما هي رموز مضطربة تنشأ عن ارتباك في المعدة وكدرة في النفس أحيانا وما نحن بتأويل أمثالها بعالمين.
وهكذا إعداد الله لبعض خلقه، وتربيته لهم جعل الكهنة وعلماء المصريين يعجزون عن تأويل الرؤيا فيبحثون، عمن يؤول لهم فلا يجدون إلا يوسف. وقال صاحبه القديم الذي كان في السجن معه واختبره عن كثب وأدرك ما عليه نفسه وما عنده من علوم ومعارف في تأويل الرؤيا، وقد تذكره بعد طول الزمن يا قوم لا تبحثوا فإنى أنبئكم بتأويل هذا الحلم فأرسلون إلى السجن فإن فيه فتى قد خبرته ووقفت منه على أسرار، فأرسلوه ليوسف فقابله وقال له: يوسف أيها الصديق الكريم أفتنا في رؤيا رآها الملك تتلخص في سبع بقرات سمان أكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، أخبرنى فإنك بتأويل الرؤيا من العالمين.
أفتنا في رؤية الملك فإنى أرجو أن يحقق لك الخروج من السجن وانتفاع الملك بحسن رأيك لعلى أرجع إلى الناس أهل الحل والعقد بتأويلك الدقيق وخبرك الوثيق لعلهم يعلمون مكانتك، وما أنت عليه من ذكاء وعقل، وحكمة وإلهام.
قال يوسف مؤولا الرؤيا، ومبينا لهم ما يجب عمله لتلافي الخطر الذي تشير له الرؤية بالرمز مع اعتزاره برأيه وأن له صفة الآمر الناصح:
تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحا وشعيرا دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه
ثم يأتى بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين، تأكل الكل إلا قليلا مما تحصنون وتدخرون للبذر، ثم يأتى من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة، وعصير العنب والسمسم والزيتون... إلخ.
وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءا من تأويل الرؤيا. والله أعلم.
طلب الملك له وحكمة يوسف [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
بالُ النِّسْوَةِ حالهن وأمرهن الذي يشغل البال خَطْبُكُنَّ أمركن العظيم وخطبكن الجسيم حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق.
المعنى:
بلغ الملك ما قاله يوسف من تفسير الرؤيا فرأى أنه كلام خطير يدل على رجاحة عقل صاحبه وقوة فطنته وذكائه، وأن من الخير للملك أن يحضر هذا الشخص أمامه ليسمع منه ويرى.
وقال الملك: ائتوني به وأحضروه لي لأسمع بنفسي، فلما جاء الرسول ليوسف قال له: كيف أذهب إلى الملك من السجن، وأنا ملوث بتهمة باطلة لا تليق بي وإنى برىء منها براءة الذئب من دمى، ولكن الرأى السديد أن ترجع إلى ربك وسيدك فتسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ما خبرهن؟ اسأل الملك أن يحقق في ذلك قبل أن أحضر إليه، إن ربي عالم الغيب والشهادة. وهو بكيدهن لي عليم.
وهذه حكمة آل ابراهيم- عليه السلام- حكمة يوسف الحكيم الذي يطلب هذا الطلب وهو في السجن؟ وفي هذا الدليل على صبره وأناته، واعتزازه بنفسه ودينه، وعفته وفي طلبه التحقيق ولم يتهم أحدا صراحة، وحفظه للجميل حيث لم يذكر سيدته وهي أصل البلاء.
قال الملك للنسوة: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ وهل كانت المراودة له ناشئة عن مغازلة وخضوع منه بالقول لكن؟! وأنطقهن الله بالحق فقلن: حاش لله ما علمنا عليه سوءا يشينه في كبير ولا صغير.
وقالت امرأة العزيز، شهادة ليوسف شهادة إثبات: الآن ظهر الحق وبدا الصبح لذي عينين أنا راودته عن نفسه وطلبت منه بكل حيلة وهو لم يراودني أبدا بل استعصم وأعرض عنى وإنه لمن الصادقين في كل ما قاله في شأنى وشأن غيرى.
وقيل المعنى أن يوسف قال: ذلك ليعلم العزيز أنى لم أخنه بالغيب والله أعلم.
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
هذا أول الجزء بناء على التقسيم اللفظي العددى، وفي الواقع هذه الآية متصلة بما قبلها إذ هي من كلام امرأة العزيز على معنى: ذاك الإقرار بالحق ليعلم يوسف أنى لم أخنه بالغيب وهو سجين فلم أنل من أمانته أو أطعن في شرفه أو ليعلم زوجي أنى لم أخنه بالغيب في خلوتي بيوسف وأنى لم يحصل منى إلا المراودة فأبى واستعصم، ولئن برأت يوسف فما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
هذا هو الظاهر من نظم الكلام والسياق، وبعضهم يقول: وما أبرئ نفسي حكاية لكلام يوسف على معنى: ذلك الذي كان منى ليعلم العزيز أنى لم أخنه في زوجه بالغيب، وأن يوسف لا يبرئ نفسه وهذا تواضع منه، والقائلون بهذا القول ممن يثبتون ليوسف هما، وقد مضى الكلام في مسألة الهم.
وما أبرئ نفسي، وكأن سائلا سأل وقال: لم؟ أجيب إن النفس لأمارة بالسوء هذا بطبعها فالنفس أرضية ظلمانية لا تدعو إلى الخير، ولا تأمر إلا بسوء، فالحسد والحقد والعجب والكبر والبطر وحب الأذى، وحب المال وكراهية الموت، وقول السوء والغيبة والنميمة وغير ذلك من دواعي الفساد، كل ذلك من عمل النفس ومن دأبها إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص ٧١ و ٧٢].
ولكن لا نيأس من روح الله ولا نقنط من مغفرته ورحمته إن تبنا وأنبنا إن ربي غفور ستار رحيم كريم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات...
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
المفردات:
أَسْتَخْلِصْهُ المراد أجعله خالصا لنفسي لا يشاركني فيه أحد مَكِينٌ ذو مكانة يَتَبَوَّأُ ينزل من مصر في أى مكان أراده، والمراد أنه صاحب الأمر.
انتهى التحقيق الذي طلبه يوسف وهو في السجن بظهور براءته مما نسب إليه، وفهم من هذا أنه كان أمينا على مال العزيز، وعرضه، وظهر لهم أنه ذو كياسة وعقل، وصاحب خبرة، وله إلمام بالتأويل.
كل هذا جعل الملك يطلبه ويصطفيه لنفسه، ويسند إليه أسمى الوظائف وأعلاها.
المعنى:
وقال الملك حينما وقف على أمر يوسف بالتفصيل: ائتوني به أجعله خالصا لي، وموضع ثقتي ومشورتي. فلما حضر يوسف وكلمه الملك، وناقشه ووقف على عقله وحنكته، وأمانته وحسن تصرفه قال له: إنك اليوم عندنا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية، وأمانة تامة فأنت من الآن صاحب التصريف بغير منازع في أمر المملكة.
قال يوسف: اجعلنى أيها الملك على خزائن الأرض الخاصة بك أتصرف في الأقوات والزرع حتى أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة التي رأيت رؤياها بالأمس، ولا تعجب من طلبى هذا إنى حفيظ شديد المحافظة خبير عليم بإدارة السياسة المالية والاقتصادية.
وهنا نقف.. كيف رضى يوسف أن يتعاون مع الملك؟ وكيف طلب تعيينه على خزائن الأرض.
والجواب عن الأول: أن يوسف قبل العمل مع الملك لأنه رأى فيه العقل وحسن السياسة، وقد جعله صاحب التصرف في الأمر وفي هذا خير ليوسف ولمصر.
وأما طلبه أن يكون واليا على خزائن مصر فلثقته بنفسه وعلمه بأن هذا فيه خير للأمة، ومن هنا هل لنا أن نقلد يوسف في عمله هذا؟ ومرجع ذلك ضمير المسلم ودينه فيختار ما فيه خير له ولأمته ولدينه.
ومثل ذلك التمكين السابق الذي انتقل يوسف فيه من محنة إلى محنة ومن شدة إلى نعمة فها هو ذا يوسف في الجب نتيجة لحسد إخوته له، ثم تأخذه السيارة وتبيعه بيع الرقيق بدراهم معدودة ليذهب إلى بيت العزيز، ولأمانته ونزاهته جعله العزيز أمينه، ثم كان موقفه مع امرأة العزيز الذي انتهى به إلى السجن، ولولا السجن لما اتصل بخادم الملك فيه الذي رفع اسمه وشهر مكانته حتى عرفه الملك واستخلصه لنفسه.
فكما مكنا له ذلك ورعيناه حتى وصل إلى ما وصل إليه مكنا له في أرض مصر حتى أصبح الآمر الناهي، والملك المطاع بعد أن دخلها مملوكا طريدا وعبدا يباع بدراهم قليلة وما ذلك إلا من صبره وجلده وقوة تحمله الشدائد، ومن أمانته وعفته وخلقه ودينه، وحسن بصره وتدبيره للأمور، وارعاء الله له في كل طور من أطوار حياته إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج آية ٣٨].
وها هو ذا يوسف يتبوأ من الأرض وينزل منها حيث شاء، يصيب برحمته من يشاء من خلقه جزاء لصبرهم وعاقبة لفعلهم، ولقد صبر يوسف صبرا كثيرا على إخوته،
موقف إخوة يوسف معه، ثم مع أبيهم [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٦]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
جَهَّزَهُمْ يقال: جهزت القوم تجهيزا أى: تكلفت لهم بجهازهم للسفر، وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الزفاف. والمراد به هنا الطعام الذي امتاروه من عنده أُوفِي أتم الْمُنْزِلِينَ المضيفين للضيوف سَنُراوِدُ نطلبه من أبيه برفق ولين ومخادعة بِضاعَتَهُمْ هي المال الذي يستقطع ويستعمل للتجارة رِحالِهِمْ جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه المتاع. نَكْتَلْ يقال: في كلت له الطعام إذا أعطيته واكتلت منه إذا أخذته نكتل أى نأخذ مَتاعَهُمْ المتاع: ما ينتفع به والمراد هنا أوعية الطعام بِضاعَتَهُمْ ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام وَنَمِيرُ نجلب لهم الميرة وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد كَيْلَ بَعِيرٍ أى: مكيل بعير أى جمله الذي يعطى لصاحبه مَوْثِقاً الموثق العهد الموثق إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ المراد إلا أن تغلبوا على أمركم.
المعنى:
كان يوسف على خزائن أرض مصر وهو الحفيظ للقوت العليم بأساليب الصرف والإكثار من الزرع، وقد كان الزمن زمن جدب وقحط عم مصر وما جاورها من البلاد كبلاد كنعان (فلسطين) لكن يوسف قد أرسل لمصر لإنقاذها من الجدب.
بل وفر من أقواتها ما كان يباع لجيرانها. ولما علم يعقوب وبنوه بخيرات مصر، وكانوا في أشد الحاجة إلى الطعام أرسل أبناءه العشرة ليبتاعوا من عزيز مصر القوت ويعطوه
وجاء إخوة يوسف العشرة فدخلوا عليه، وهو في أبهة السلطان فعرفهم لما وصل خبر مقدمهم إليه، ورآهم بعينه أما هم فلم يعرفوه لتغير حاله واستبعاد أن يكون الطريد الشريد الملقى في البئر عزيز مصر الذي يتحكم في أقوات الخلق، يا سبحان الله!! ولما جهزهم بجهازهم أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الطعام وأعطاهم ما يحتاج إليه المسافر في سفره، وكانوا عشرة وطلبوا أكثر من حقهم، طلبوا لأبويهم ولأخيهم الحادي عشر فإنه بقي في خدمة أبويه الكبيرين. أعطاهم حمل بعيرين بشرط أن يحضروا له أخاهم لأبيهم ليراه. ثم أخذ يجب إليهم المجيء ثانية مع أخيهم بقوله: ألا ترون أنى أتم لكم الكيل الذي تكتالون، وأريحكم في سعره وصنفه، وأنا خير المضيفين فقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بزاد يكفيكم في سفركم زيادة على تجارتكم، ومن هنا يعلم أن اتهامه لهم بالتجسس بعيد وأخذ رهينة منهم أبعد.
يا بنى يعقوب إن لم تحضروا لي أخاكم كما اتفقنا، وعدتم تمتارون لأهلكم منعتكم من الكيل في بلادي فضلا عن إيفائه وكماله، ولا تقربون بلادي فضلا عن الإحسان في المعاملة والضيافة.
قالوا: أيها العزيز سنراود عنه أباه، ونحتال بكل حيلة، ونخادعه بكل خدعة حتى يسلم لنا بنيامين الذي يعتز به أبوه فهو خلف لأخيه المفقود، وإنا لفاعلون ذلك إن شاء الله.
وقال يوسف لفتيانه الذين يتولون الكيل للتجار: اجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام-
روى أنها كانت جلودا وأدما- اجعلوها في رحلهم لكي يعرفوها إذا انقلبوا إلى أهلهم فيكون ذلك أدعى لرجوعهم ثانية حيث يقفون على مدى إكرام العزيز لهم، لعلهم يرجعون حسبما أمرتهم بذلك طمعا في برنا وحسن معاملتنا.
ابتاع إخوة يوسف منه طعامهم، وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم من أبيهم وإلا منع عنهم الكيل.. فلما رجعوا إلى أبيهم بعد هذه الرحلة قالوا بمجرد وصولهم: يا أبانا إن عزيز مصر قد منع منا الكيل بعد هذه المرة إن لم
قال يعقوب الشيخ الحزين على يوسف الذي لا يزال يذكره حتى ابيضت عيناه من الحزن: هل آمنكم عليه إلا ائتمانا كائتمانى لكم على أخيه يوسف من قبل؟ على معنى كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه وقلتم: إنا له لحافظون فلم يحصل الأمن والحفظ سابقا فكيف يحصل الآن؟!! يا بنى ما أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل!!.
وظاهر الكلام يدل على أنه أرسله معهم اعتمادا على حسن الظن بهم وأنه ما كان يرى علامات الحسد والحقد بينهم في هذه اللحظة وتلبية لدعوة الحاجة إلى الطعام.
فالله خير حافظا يحفظ لي ولدي، ولا يجمع بين مصيبتين لي، وهو أرحم الراحمين.
طلبوا من أبيهم هذا ساعة وصولهم وقبل فتح أمتعتهم.
ولما حطوا رحالهم وفتحوا متاعهم، وجدوا بضاعتهم التي أخذوها ثمنا لطعامهم وجدوها ردت إليهم.
قالوا: تأييدا لطلبهم يا أبانا ما نبغى؟ ماذا نطلب زيادة على وصفنا لك من إكرامه وفادتنا وحرصه على راحتنا؟
هذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا نشعر أليس هذا دليلا على منتهى الكرم؟ وداعيا لأن نوفى له بما طلب.
ونحن إذا ذهبنا ثانية مع أخينا نمير أهلنا، ونحضر لهم الطعام بلا ثمن، ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا فلا تخش عليه شيئا، ونريد كيل بعير لأجله، إذ يوسف كان يعطى كل رجل حمل بعير فقط اقتصادا وتوفيرا، ونظهر أمامه بأنا صادقون في دعوانا بأن لنا أخا مع أبوينا يخدمهما، وربما كان ذلك له تأثير عند العزيز.
وذلك أى البعير الزائد أمر يسير على مثل هذا الرجل الكريم الذي لو كان من نسل يعقوب لما أكرمنا هذا الإكرام.
الله على ما نقول جميعا وكيل، وهو نعم الحفيظ وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد...
يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
المعنى:
رضى يعقوب أن يذهب بنيامين مع إخوته ليقابلوا عزيز مصر، ولكنه كان يتوجس أمرا، ويتوقع حدثا، وهكذا المؤمن القوى الإيمان تتطلع روحه فتستشف الغيب المحجوب، لذا نصحهم فقال:
يا أولادى لا تدخلوا مصر من باب واحد ولكن ادخلوها من أبواب متفرقة حتى لا يحسدكم حاسد أو يكيد لكم كائد فيحل بكم مكروه.
وهنا يدور سؤال: هل للحسد أثر مادى في المحسود؟؟
«وأعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة»
وقوله (صلّى الله عليه وسلم) وقد أخبر بوعكة لبعض أصحابه من أثر حسد فقال. «علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت إن العين حق، توضأ له»
فتوضأ الحاسد ومعنى بركت قلت تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه بكلمات الله التامة.. إلخ وعلى الحاسد أن يتوضأ وأن يقول، تبارك الله أحسن الخالقين عند ما يرى شيئا وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [سورة الفلق آية ٥].
وبعض العلماء ينفى أثر العين ويفهم الآية هنا على معنى يا بنى لا تدخلوا من باب واحد لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم في نفس العزيز وعلى أسارير وجهه.
يا بنى اعملوا بنصيحتى واعلموا أنى لا أغنى عنكم من الله شيئا، ولا أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا إذا لا يغنى حذر من قدر، ولكن اسلكوا الأسباب العادية مع العلم أن قضاء الله نافذ لا محالة. إن الحكم إلا لله وحده له الحكم وله الأمر وعليه وحده فليتوكل المتوكلون لا على غيره.
ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ما كان دخولهم على هذا الشكل يغنى عنهم من أمر الله شيئا. ولكن كانت هناك حاجة في نفس يعقوب تدور بخلده أراد أن يظهرها لأبنائه، قضاها وأظهرها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها.
إنه لذو علم وبصر بالأمور لما علمه ربه بالوحي والإلهام وتأويل الرؤيا الصادقة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك.
يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على إبقائه عنده [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضمه إليه فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن السِّقايَةَ وعاء يسقى به، وكان يكال للناس طعامهم به وهو صواع الملك جَهَّزَهُمْ هذه المادة تفيد الإسراع وتنجيز الأمر ومنه أجهز على الجريح والمراد كما مضى أوقر ركائبهم بالطعام أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، وأذن تفيد التكثير والتكرير الْعِيرُ الجمال التي تحمل الطعام وتنقله من بلد إلى بلد والمراد هنا أصحابها زَعِيمٌ كفيل وضمين كِدْنا الكيد التدبير الخفى دِينِ الْمَلِكِ شرعه وقانونه.
المعنى:
ولما دخلوا على يوسف في ديوانه، وأحضروا معهم أخاه بنيامين، واجتمع بهم ضم
عرف يوسف أخاه الحبيب، وألم بحاله مع أبيه الحزين وما حصل من إخوته حينما طالبوا بنيامين من أبيهم ولكن يوسف يريد أخاه ولأمر ما يريد مكثه معه، فمضى في تنفيذ غرضه بكل وسيلة وحيلة! فلما جهزهم بجهازهم، وقضى لهم أمرهم، جعل السقاية في رحل أخيه بنيامين دون أن يعلم أحد، وحينما ساروا في طريقهم فرحين مسرورين أذن مؤذن، ونادى مناد، شأن من يضيع منه شيء: أيتها العير أى: يا أصحاب العير، قفوا إنكم سارقون!! كان هذا خبرا كالصاعقة عليهم، فما سرقوا ولا أخفوا شيئا.
قالوا: وأقبلوا على فتيان العزيز في دهش وحيرة ماذا تفقدون؟ وماذا ضاع منكم؟
أنكروا ضياع شيء، ولم ينفوا عن أنفسهم سرقة لأنهم يعلمون أنها بعيدة كل البعد لا تحتاج إلى نفى.
قال الفتيان: نفقد الصواع الذي نكيل به للناس الذي عليه شارة الملك، ولمن جاء به حمل بعير برّا وقال المنادى: إنى بهذا زعيم وضمين.
قال إخوة يوسف: تالله لقد علمتم أنتم بعد تجربتكم لنا أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بأى نوع من أنواع الفساد فضلا عن السرقة التي هي أحط أنواع الاعتداء، وكيف نسرق من جماعة أكرمونا هذا الإكرام! وما كنا سارقين في يوم من الأيام..
قال فتيان يوسف لهم: إذا كان الأمر كذلك فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في نفى كون الصاع في رحالكم أما السرقة فهم صادقون في دعوى البراءة منها يدل على هذا قولهم جزاؤه أخذ من وجد في رحله، وظهر أنه السارق للصواع، أخذه وجعله عبدا لصاحبه واسترقاقه عاما وذلك كان في شريعة يعقوب- عليه السلام-.
فَهُوَ جَزاؤُهُ وهذا تقرير للحكم السابق، وتوكيد له بعد توكيد، مثل ذلك الجزاء الشديد نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم أما يوسف فبعد أن رجعوا إليه تلبية لنداء المنادى وتبرئة لساحتهم وإجابة لطلبه بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه،
كذلك كدنا لأجل يوسف، وأوحينا إليه أن يفعل ذلك لأنه ما كان يصح له أن يأخذ أخاه في شريعة الملك التي يسير عليها يوسف، ولكنه احتال حتى حكموا هم بذلك فوصل إلى المطلوب والمقصود.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية منكرة في الظاهر لأنها تهمة باطلة حكى الله عن يوسف أنه فعلها بوحي منه وإذن فقال: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا في حال أن يشاء الله ذلك.
كذلك نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والتوفيق. كما رفعنا ووفقنا يوسف إلى بلوغ المقصود.
وفوق كل ذي علم من هو أوسع منه علما وإحاطة، حتى يصل إلى الله- سبحانه- الذي يعلم كل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك آية ١٤].
حوار بين يوسف وإخوته ثم بينهم وبين أبيهم [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٧ الى ٨٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا خَلَصُوا انفردوا عن الناس وتخلصوا منهم نَجِيًّا متناجين متشاورين فَرَّطْتُمْ قصرتم أَبْرَحَ أترك سَوَّلَتْ زينت يا أَسَفى يا أسفى والأسف الحزن الشديد على ما فات كَظِيمٌ مملوء غيظا على أولاده ممسك له في قلبه حَرَضاً الحرض المرض المشرف على الهلاك ثِّي
البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه، ومنه بث الريح، والمراد هنا إظهار ما انطوت عليه نفسه من الحزن فَتَحَسَّسُوا تعرفوا أحوال يوسف بحواسكم رَوْحِ اللَّهِ فرجه ورحمته.
المعنى:
افتقدوا صواع الملك، ثم وجدوه في وعاء بنيامين ومتاعه بعد أن نفى إخوته السرقة نفيا باتا، وشهدوا أنه إذا وجد في متاع شخص فجزاؤه أن يأخذه العزيز ويسترقه عنده غاظهم ذلك وساءهم هذا الحادث لأمور: منها عهدهم الذي أخذ عليهم عند أبيهم، وما فعلوه في يوسف من قبل، وألم والدهم الشديد عند ذهابهم بدون بنيامين فأخذوا يؤنبون أخاهم ويقولون:
إن يسرق بنيامين فقد سرق أخ له من قبل، وما ذاك إلا من عرق أمهما وخلقها.
أما أبوه الذي نجتمع معهما فيه فليس فيه هذا العرق، وفي هذا إشارة إلى أن الأخلاق تورث، وأن الحقد والحسد عندهم لا يزال.
وهل سرق يوسف من قبل؟ أصح شيء وأسلمه رواية أنه سرق صنما وهو صغير فكسره، أما الروايات التي تثبت أن عمته احتالت على أبيه وجعلت منطقة إسحاق أبيها تحت ثياب يوسف ونسبته إلى سرقتها وهو صغير ليمكث عندها فأظن أن هذا صغار لا يليق ببيت إبراهيم وإسحاق.
سمع يوسف قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه، وأضمر ولم يجبهم عنها، بل صفح عنهم وقال في نفسه. بل أنتم شر مكانا إذ أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم وألقيتموه في الجب، وادعيتم: كذبا أن الذئب أكله، والله أعلم وحده بما تصفون.
قال يوسف: معاذ الله!! وحاش لله أن نخالف شريعتكم وشريعة الملك هنا، ونأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده وانظر إلى قوله وجدنا متاعنا ولم يقل من سرق متاعنا فإنه لم يسرق أبدا.
إنا إذا أخذنا غيره لنكونن من الظالمين لأنفسهم المتجاوزين حدود الشرع.
ردهم يوسف ردا شديدا مبينا لهم أن هذا الرأى مما يستعاذ منه.. فلما يئسوا من فكاك بنيامين يأسا بليغا خلصوا من القوم، وانفردوا تاركين الناس ليجتمعوا اجتماعا خاصا للنجوى والتشاور فيما دعاهم ولم يكن في الحسبان.
قال كبيرهم سنا أو عقلا ولذا قيل هو يهوذا أو غيره: يا إخوتى إن هذا لحدث الأحداث.. ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهد الله وميثاقه المؤكد لتأتننى به إلا أن يحاط بكم؟ ألم تعلموا ما فرطتم في يوسف وقصرتم في حفظه من قبل؟ يا قوم إن الأمر جد خطير فماذا أنتم فاعلون؟!! إذا كان الأمر كذلك فلن أفارق أرض مصر أبدا وأترك بنيامين فيها حتى يأذن لي أبى في ذلك، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين، والرأى عندي: أن ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه وزيره عملا بشريعتنا، وما شهدنا عليه بالسرقة وجزائها إلا بما علمنا علما أكيدا حيث أخرج الصواع من متاع بنيامين، وقد أقررنا له أولا أن من يوجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى في شريعتنا الظالمين، حصل هذا كله، وما كنا للغيب المستور حافظين وعالمين أنه سيسرق وعاء الملك وسيأخذه فيه، ولو كنا نعلم هذا لما آتيناك العهد الموثق علينا.
وإن كنت في شك من أمرنا فاسأل أهل القرية التي كنا فيها ساعة أن فتشنا العزيز وهي مصر فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة، واسأل العير وأصحابه الذين كانوا يمتارون معنا وإنا لصادقون في أقوالنا على أى حال.
فأمرى صبر جميل، وليس لي إلا الرضا بقضاء الله وقدره، عسى الله أن يأتينى بهم جميعا يوسف وبنيامين والأخ الثالث، إنه هو العليم بحالي وضعفى وحزنى على أولادى الحكيم في كل صنع يصنعه وتولى عنهم وأعرض قائلا: يا أسفا احضرى فهذا أوانك يا أسفى على يوسف الحبيب، وابيضت عيناه من كثرة البكاء، ولا عجب فهو مملوء غيظا يردد حزنه في جوفه.
والحزن على فقد محبوب أمر طبيعي لا حرج فيه ما دام لا يبلغ بصاحبه أن يقول قولا لا يرضى الله ورسوله
وصدق رسول الله: «إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا»
قال أولاد يعقوب الذين حضروا من مصر إلى أبيهم حينما سمعوا أسفه على يوسف وحزنه العميق عليه وعلى إخوته قالوا: تالله يا أبت لا تزال تذكر يوسف وقد مضت حوادثه من زمن بعيد لا تزال تذكره حتى تصير مريضا مرضا مشرفا بك على الموت أو تكون من الهالكين!! قال إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله وحده. لا إلى أحد من خلقه فلا لوم على ولا تثريب، وأنا أعلم من الله وأمره مالا تعلمون فأنا أعلم أنهم أحياء يرزقون، وأن الله اجتبى يوسف وأتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وإن كنتم تظنون غير ذلك فأنا يا أولادى أعلم أن رؤيا يوسف حق وستراكم الأيام صدق نظريتى يا أولادى اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه حتى تقفوا على جلية أمرهما.
ولا تيأسوا من رحمة الله وفضله فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس إنه لا ييأس من رحمة الله وفضله إلا القوم الكافرون، أما المؤمنون حقا فلا تقنطهم المصائب، ولا تزعزعهم الشدائد وهم صابرون راضون بقضاء الله وقدره، واثقون من دفاع الله عنهم إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وفي قول القرآن: وابيضت عيناه من الحزن: معجزة أثبتها الطب الحديث إذ الحزن كثيرا ما ينشأ عنه بياض العين بياضا يمنعها من الرؤية.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
المفردات:
مَسَّنا أصابنا الضُّرُّ ألم الجوع مُزْجاةٍ بضاعة ناقصة غير تامة لا تقبل إلا بدفع وعرض وعليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أى يسوق ويدفع لَخاطِئِينَ الخاطئ من يتعمد الذنب والمخطئ من يخطئ القصد أى لا يعرف الصواب ثم يصير إلى غيره لا تَثْرِيبَ لا لوم ولا توبيخ.
سمع إخوة يوسف نصيحة أبيهم، وجاءوا إلى مصر، يتحسسون يوسف وأخاه، بلا يأس ولا ملل.
فلما دخلوا على يوسف أرادوا اختباره بذكر حالهم وتضرعهم له فإن رق قلبه وتغير حاله ذكروا ما يريدون، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز هو يوسف: وقالوا: أيها العزيز. قد مسنا وأهلنا الضر، وأصابتنا سنين مجدبة قاحلة لم تدع لنا «سبدا ولا لبدا» لم تترك لنا شيئا وجئنا لك أيها الأمير ببضاعة قليلة لا يقبلها التجار، بضاعة لا تروج إلا بالدفع وحسن العرض وكثرته، فأوف لنا الكيل وأتمه كما كنت تفعل فقد عودتنا الجميل، وتصدق علينا بالزائد، إن الله يجزى المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم.
هذا كلامهم الذي تحسسوا به يوسف، وتطلعوا به إلى معرفة خبره.
أما هو فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟! وهو استفهام يراد به تعظيم فعلتهم بيوسف قديما حيث ألقوه في الجب وحيدا طريدا عاريا من اللباس، وما فعلوه في أخيه بنيامين من المعاملة الجافة، إذ أنتم جاهلون قبح فعلتكم، وعظم جرمكم، أى: كنتم في حال يغلب فيها الجهل والطيش إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سورة النساء آية ١٧]، وقيل المعنى: هل علمتم قبح ما فعلتم؟! ألا فلتعلموا أن هذا ذنب كبير يجب أن تسرعوا فيه إلى التوبة ورضاء الله، أما حقي فأنا أسامحكم فيه، وهكذا خلق آل إبراهيم من الأنبياء والمرسلين.
كان سؤال يوسف لهم وهو العارف بما فعلوه فاتحة لأن يعرفوه فيطمئنوا أباهم على أولاده الأحبة: وكان مصداقا لقوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وصدق الله. ثم وجهوا ليوسف سؤالا يدل على التعجب والاستغراب:
أإنك لأنت يوسف؟! عجبوا من ترددهم عليه سنتين وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم.
قال نعم أنا يوسف!! وهذا أخى بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه وبيني وبين أبى، قد منّ الله علينا إذ هو الرحمن الرحيم، العليم الخبير الذي يدافع عن المؤمنين، يا إخوتى إن الحق الذي نطقت به الشرائع جميعا واتفقت عليه هو: من يتق الله حق تقواه،
ماذا قال يوسف إزاء هذا الإقرار بالذنب؟ قال: يا إخوتى لا تثريب عليكم ولا لوم فقد صفحت عن زلتكم. وأسأل الله أن يغفر اليوم لكم، وهو أرحم الراحمين.
يقول البعض كيف جاز ليوسف وقد عرفهم أن يكتم أمرهم سنتين مع علمه بحزن أبيه وألمه.
والجواب عن ذلك أنه يسير تبعا لوحى الله، فلما أمره نفذ، ويمكن أن يقال كتم الأمر ليصادفوا شدة وألما وليكون لقيا أبيه بعد فقده هو وأخيه أوقع في نفسه وأكثر أثرا والله أعلم. ثم قال يوسف:
يا إخوتى اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى ليعلم علما موافقا للواقع أنى حي وأن الله تولاني بالعناية والرعاية كما كان يأمل ويفهم من الرؤيا، وألقوه على وجهه يأت بصيرا، ويرتد إليه بصره إذ قد ضعف أو فقد لكثرة البكاء فإذا فرح واستبشر رجع له بصره كما كان، ولا حرج على فضل الله.
وأتونى بأهليكم جميعا لتفسر الرؤيا في الواقع.
يعقوب وقد جاءه البشير [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٨]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
فَصَلَتِ انفصلت عن البلد وجاوزت حدودها رِيحَ رائحة يوسف أو قميصه تُفَنِّدُونِ تنسبونى إلى الفند وهو ضعف العقل وفساد الرأى ضَلالِكَ خطئك.
المعنى:
تعرف إخوة يوسف على أخيهم وأقروا له بذنبهم وعفا عنهم وأمرهم أن يحملوا قميصه إلى أبيه، وأن يأتوا بأهليهم إليه.
ولما خرجوا من مصر وانفصلوا عنها قال يعقوب وهو النبي الصادق: إنى لأشم رائحة يوسف، وقال هذا لمن كان بمجلسه، قال الحاضرون له: تالله إنك لفي خطئك القديم، وحبك الأعمى ليوسف، واعتقادك فيه أنه حي يرزق، وما نظن هذا إلا ضلالا وتخبطا.
فلما أن جاء البشير بعد هذا بأيام يبشر بلقيا يوسف مع أخيه حاملا قميصه وقد ألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا ورجع له بصره قال لمن حوله: ألم أقل لكم يا أولادى:
إنى أعلم من الله أشياء لا تعلمونها؟
الآن حصحص الحق وظهر، وبدأ الصبح لذي عينين، واعترفوا بالجرم بعد الإنكار وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا، واطلب المغفرة لنا من الله فقد تبنا وأنبنا.
قال يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي في المستقبل إذ قد أتيتم ذنبا كبيرا، ليس من السهل أن أطلب المغفرة بهذه السرعة، على أن هذا الذنب وهو إلقاء يوسف في
وانظر إلى يوسف وكيف أزال الخوف من نفوس إخوته بسرعة حيث اعترفوا بذنبهم وقد كانوا في قلق وهمّ شديدين.
أما كيف شم يعقوب رائحة يوسف على مسيرة أيام فالذي يستبعد هذا شخص محروم ومن ذاق عرف، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، أنستبعد على يعقوب بن ابراهيم هذا، وجده ألقى في النار فلم تؤثر فيه، هؤلاء أرواحهم قوية لا تحجزها مادة ولا يحدها مكان ولا زمان، وهو نبي وقد تكون هذه معجزة له.
وأما رجوع بصره إليه فهي معجزة كالمعجزات التي جاءت على يد الأنبياء، وليس من العقل ولا من الدين البحث في كيفيتها، بل نؤمن بها كما جاءت، وهذا هو الإيمان بالغيب وهو صفة المؤمنين المهديين.
تأويل رؤيا يوسف من قبل [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
الْعَرْشِ كرسي تدبير الملك وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ساجدين سجود إجلال وتعظيم لا سجود عبادة نَزَغَ نخس. والمراد وسوس وأفسد ما بيني وبين إخوتى الْبَدْوِ البادية.
المعنى:
عرف يوسف إخوته ثم عرفهم بنفسه متى شاء الله، وطلب منهم أن اذهبوا بقميصي وألقوه على وجه أبى، وأحضروا لي أهلكم جميعا يعيشون معى في مصر.
ذهب الإخوة كما أشار يوسف وأحضروا له أبويه، ولما علم بمقدمهم خرج هو ووجوه القوم للقيا يعقوب إسرائيل الله ونبيه، فلما دخلوا عليه وهو في عظمة الملك وأبهة السلطان آوى إليه أبويه، وضمهما وعانقهما عناق المشوق الولهان، وقال:
ادخلوا مصر، وتمتعوا بخيرها إن شاء الله آمنين لا خوف عليكم، ولا أنتم تحزنون فيها أبدا، ورفع أبويه على سرير ملكه زيادة في تكريمهما. وهل هي أمه أو خالته؟ الله أعلم فبكل قال بعض المفسرين.
وما كان من أبويه وإخوته الأحد عشر إلا أن خروا له ساجدين سجود تحية وإجلال، وكانت تحيتهم كذلك فلما رآهم يوسف قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل، وذلك تفسيرها إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فالشمس أبوه والقمر أمه أو خالته والكواكب إخوته قد جعلها ربي حقيقة واقعة، وقد أحسن بي، وأفاض على من نعمه إذ أخرجنى من السجن إلى الملك والرياسة، وجاء بكم من البدو وشظف العيش إلى الحضر والمدنية، وانظر إلى سياسة يوسف وحكمته لم يثر الموضوعات التي ينشأ عنها ألم لبعض الناس فلم يذكر إلقاءه في الجب لئلا يتألم إخوته، ولا زجه في السجن، ومكر النسوة به لئلا يثار هذا
هذا كله من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتى وأوقع بيننا الحسد والبغضاء للقضاء على الأخوة الصادقة.
إن ربي- سبحانه وتعالى- لطيف بخلقه رحيم بعباده إنه هو العليم بحالهم الحكيم في أفعاله- جل شأنه-.
لما أتم الله النعمة على يوسف، وخلصه من شدة الإلقاء في الجب، ومحنة امرأة العزيز وكيد النسوة له، وألم السجن، وأنعم عليه بالملك بعد البراءة مما نسب إليه لما حصل هذا وأمثاله ليوسف تاقت نفسه الكريمة إلى دعاء الله- تبارك وتعالى- أن يجزل الله له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا فقال:
يا ربي قد عودتني الجميل وآتيتني ملك مصر، وعلمتني شيئا من تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا، والوقوف على أسرار كلامك، يا رب يا فاطر السموات والأرض وخالقهما على أبدع نظام وأحكم ترتيب أنت يا ربي وليي وصاحب أمرى ومتولى شأنى في الدنيا والآخرة يا ولى الأولياء وسيد الضعفاء والأقوياء، يا صاحب الأمر، توفني مسلما، وألحقنى بالصالحين من آبائي ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأنت الرحيم الكريم القادر على كل شيء..
القصة وما تشير إليه من أهداف [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٢ الى ١١١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ اتفقوا على إلقائه في الجب وعزموا عليه وَكَأَيِّنْ المراد بها كثير من الآيات غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم وتحيط بهم بَغْتَةً فجأة
هذا ختام السورة الكريمة، وتلك القصة القوية المؤثرة التي اشتركت فيها عناصر مختلفة في أماكن متعددة، قصة فصولها متعددة الألوان فيوسف مع إخوته، وهو في بيت العزيز، وفي السجن، وفي دست الحكم قصة جمعت بين كيد الإخوة وحسدهم، وكيد النساء ومكرهن، قصة الصبر والحكمة، والفداء والبطولة، قصة السياسة والرياسة، قصة لها معان وفيها إشارات وعبرة وذكرى لأولى الألباب.
المعنى:
بعد أن قص الله قصة يوسف أحسن القصص شكلا وموضوعا وكانت أروع مثل للقصة ذكر الله- تبارك وتعالى- أن القصص دليل على نبوءة محمد وصدقه فقال:
ذلك الذي ذكرناه سابقا مما يتعلق بيوسف من أنباء الغيب وأخباره التي لا يعلمها إلا الله عالم الغيب والشهادة، ذلك نوحيه إليك، ونطلعك عليه، إذ ما كنت تعلم هذا أنت ولا أحد من قومك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم، واتفقوا على إلقاء يوسف في الجب، وعزموا على ذلك مصممين، وهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين.
نعم هذه أخبار كيف وصلت إليك؟ هل كنت حاضرها وشاهد أمرها؟ أم وصلت إليك عن طريق الرواية ممن حضرها؟ لا هذا ولا ذاك ولم تكن هناك كتب فيها هذا القصص المحكم بهذه الصورة فلم يبق إلا أنها وصلت إليك عن طريق الوحى الإلهى، وهذا بلا شك من دلائل النبوة وعلامات الرسالة، وكان هذا يكفى في إيمان الناس بك وتصديقهم لرسالتك لو أن الله أراد ذلك.
ولكن اعلم أن أكثر الناس ولو حرصت وعملت المستحيل لا يؤمنون مهما ظهرت الآيات الناطقة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد.
أيكون السبب في عدم إيمانهم بك أنك تطلب مالا أو أجرا أو جاها أو ملكا حتى يكون لهم العذر في عدم الإيمان؟!! لا، لا، إنك كبقية الرسل قبلك لا تسأل الناس
لا تعجب يا محمد من كفرهم وقد ظهرت الدلائل في القصة دالة على صدقك فكثير من الآيات في السموات وما فيها والأرض وما عليها يمرون عليها مرور الحيوان أو الجماد وهم عنها معرضون لا يلتفتون إليها ولا يؤمنون بها، ولا غرابة فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فمن يهديهم من بعد الله، وهؤلاء الكفار المعاصرون لك ومن على شاكلتهم لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون، فالعجب أنك إن سألتهم قائلا من خلقكم؟ يقولون: الله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية ٢٥، وسورة الزمر آية ٣٨] ولكنهم يعبدون معه آلهة وشركاء قائلين: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
أعملوا هذا فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله تحيط بهم وتغشاهم فلا تترك أحدا منهم أو تأتيهم الساعة بغتة وفجأة وهم لا يشعرون؟ ولكنهم في ضلال مبين.
بعد هذا النقاش الدقيق وسوق الأدلة المفحمة وبيان أنه لا غرض لك إلا الخير لهم، وبيان أن طبعهم الكفر مهما ظهر من الأدلة، بعد هذا ساق البيان والطريقة المثلى التي تحمل الغرض العام من دعوته، فقال الله له: قل هذه سبيلي.. الآية والمعنى: قل يا محمد: هذه الدعوة التي أدعو لها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي أدعو إلى دين الله لا غرض لي ولا قصد إلا إرضاء ربي والقيام بواجبى والامتثال لأمره- سبحانه وتعالى-.
وأنا على بصيرة من أمرى وحجة ظاهرة، ومعرفة كاملة بما أدعوا إليه أنا ومن تبعني ودعا بدعوتي وسار على طريقتي إلى يوم الدين وسبحان الله وما أنا من المشركين به غيره في أى ناحية من النواحي، لا أشرك به عرضا من أعراض الدنيا، ولا أوثر عليه مالا ولا ولا ولدا ولا تجارة ولا كسبا. بل: الله أكبر ولله الحمد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، لقد أرسلنا رسلنا تترا وأوحينا إليهم. وأيدناهم بروح من أمرنا، وكانوا في جماعة من أهل القرى المجتمعة فيها الخلق، وهكذا الرسل كانوا لقيادة بعض الشعوب والأمم وأنت يا محمد لهداية كل القرى والأمم.
وظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد.
حتى إذا يئسوا وظنوا الظنون جاءهم نصرنا وأمرنا. ولا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، فنجا المؤمنون الذين أراد الله لهم النجاة فآمنوا أما الكافرون فحاق بهم البأس والعذاب من كل جانب، ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين.
فأنت ترى أن من أغراض القصة في القرآن العبرة والعظة بمن تقدم من الأمم فضلا عن أنها دليل النبوة وبرهانها لما فيها من الأخبار بما لا يعرف الرسل ولا طريق لمعرفتهم إلا بالوحي.
ولقد كان في قصص الأنبياء جميعا خصوصا يوسف وإخوته عبرة وعظة وذكرى.
وهدى لأولى الألباب والعقول الصافية.
ما كان هذا الحديث، أى القرآن الشامل للقصة وغيرها، ليفترى ويختلق، وكيف يكون هذا؟ وهو المصدق لما بين يديه من الكتب بل هو المهيمن عليها الحارس لها:
وكان فيه تفصيل كل شيء. نعم ما فرطنا في الكتاب من شيء إذ فيه أمهات المسائل وأسس القواعد الشرعية وهو الأصل للسنة والإجماع والقياس فما وافق روح الكتاب أخذناه وما تنافر معه رددناه، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون بالغيب ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية ٢].