سورة طه مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية وثماني ركوعات.
ﰡ
﴿ طه ﴾ عن كثير من السلف أن معناه يا رجل بالعبرانية، وعن بعض أنه عليه السلام إذا صلى في التهجد قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله طه أي طاء الأرض بقدميك فقلبت همزته هاء.
﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ : لتتعب، لما نزل القرآن قام هو عليه السلام وأصحابه واجتهدوا في القراءة والعبادة، فقال المشركون : ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك، فنزلت ﴿ إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾.
﴿ إِلا تَذْكِرَةً ﴾ أي : لكن تذكيرا فنصبه على الاستثناء المنقطع، وقيل علة لفعل محذوف، أي : وما أنزلناه إلا للتذكير والموعظة، وقيل مصدر موقع الحال من الكاف أو من القرآن ﴿ لِّمَن يَخْشَى ﴾ : لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار.
﴿ تَنزِيلا ﴾ أي : نزل تنزيلا أو مفعول به ليخشى، أي : لمن يخشى تنزيل الله، ﴿ مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ﴾ جمع العليا أي : الرفيعة و " من " صلة تنزيلا أو صفة له والالتفات للتعظيم.
﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق وعلى العرش استوى خبره أو تقديره هو الرحمن، وعلى العرش استوى إما خبر ثان أو تقديره هو على العرش استوى. سئل الشافعي عن الاستواء فأجاب : آمنت بلا تشبيه، واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك.
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ﴾ : ما تحت سبع أرضين وعن بعضهم هو صخرة تحت الأرض السابعة.
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ ﴾ أي : بذكر الله ودعائه ﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ أي : فاعلم أنه غني عن جهرك، فإنه يعلم ما تسر في نفسك وأخفى منه، وهو ما لم تحدث به نفسك بعد، أو ما أسر الرجل إلى غيره وأخفى منه، وهو ما أسر في نفسه فيكون نهيا عن الجهر، كما قال تعالى :" واذكر ربك في نفسك " ( الأعراف : ٢٠٥ )، أو معناه، يعلم السر وأخفى منه فكيف ما تجهر به فحينئذ حاصله أنزل من خلق السماوات والأرض القرآن ويعلم السر والجهر.
﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ تأنيث الأحسن.
﴿ وَهَل َأتَاكَ ﴾ : يا محمد ﴿ حَدِيثُ مُوسَى ﴾ : قفاه بقصته، ليأتم به في تحمل أعباء الرسالة والصبر على الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.
﴿ إِذْ رَأَى ﴾ مفعول لاذكر أو ظرف للحديث ﴿ نَارًا ﴾ : في طريق مصر حيث استأذن شعيبا في الرجوع إلى مصر لزيارة الوالدة، فخرج بأهله فأضل الطريق في ليلة مظلمة باردة فرأى من جانب الطور نارا ﴿ فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا ﴾ : أقيموا مكانكم ﴿ إِنِّي آنَسْتُ ﴾ : أبصرت إبصارا بينا ﴿ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ ﴾ : بشعلة منها ﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ : هاديا يهديني إلى الطريق.
﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا ﴾ أي : النار ﴿ نُودِي يَا مُوسَى ﴾.
﴿ إِنِّي ﴾ : من قرأ بكسر إن فبإضمار القول أو بإجراء النداء مجرى القول، ومن قرأ بالفتح فتقديره نودي بأني ﴿ أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾، فإنهما كانا من جلد حمار ميت غير مدبوغ، أو أمر بالخلع تعظيما للوادي. ﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾، عطف بيان، إن كان اسما للوادي وقيل معناه مرتين كثنى فهو مصدر لنودي أو المقدس، وقيل تقديره واطو الأرض بقدميك طوى فهو مصدر كهدى.
﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ﴾ : اصطفيتك للنبوة، ﴿ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ : إليك.
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إَِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾، بدل مما يوحى، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾ : لتذكرني أو عند ذكرك لي، يعني عند ذكر الصلاة، ففي الحديث :" إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال :" أقم الصلاة لذكري " .
﴿ إن الساعة آتية ﴾ : لا محالة ﴿ أكاد أخفيها ﴾ عن نفسي أي : وقتها فهو مبالغة في الإخفاء، وفي مصحف أبي وابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم أو أريد إخفاء وقتها أو أكاد أظهرها فالهمزة للسلب، في بعض القراءات أخفيها بفتح الهمزة أي أظهرها، وقيل أخفيها فلا أقول هو آتية ولولا ما في الإخبار من اللطف لما أخبرت به ﴿ لتجزى ﴾ متعلق بآتية ﴿ كل نفس بما تسعى ﴾ : تعمل.
﴿ فلا يصدنك عنها ﴾ : عن التصديق بالساعة ﴿ من لا يؤمن بها ﴾ يعني كن شديد الشكيمة حتى لا يؤثر فيك أقوال الكفرة واعتقاداتهم فنهى الكافر والمراد نهيه أن ينصد عنها ﴿ واتبع هواه ﴾ : خالف أمر الله ﴿ فتردى ﴾ : فتهلك منصوب على جواب النهي.
﴿ وَمَا تِلْكَ ﴾، الحكمة في السؤال تنبيهه وتيقظه ليرى ما فيه من العجائب ﴿ بِيَمِينِكَ ﴾ حال من معنى الإشارة، أو صلة لتلك، وهي اسم موصول ﴿ يَا مُوسَى ﴾.
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ ﴾ : أعتمد ﴿ عَلَيْهَا ﴾ : عند المشي والإعياء ﴿ وَأَهُشُّ ﴾ : أخبط الورق عن الشجر ﴿ بِهَا عَلَى ﴾ رؤوس. ﴿ غَنَمِي ﴾ : تأكله، ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ ﴾ : حاجات، ﴿ أُخْرَى ﴾ : كحمل الماء والزاد بها. قيل : لما أمره الله بخلع لنعلين وتركهما تصور عند هذا السؤال إنكار التمسك بها. وأمره بالرفض فبسط الكلام، وقال : أنا محتاج إليها غاية الاحتياج، وعن وهب لما قال الله ألقها ظن موسى أنه يقو ل ارفضها.
﴿ قَال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ﴾ أي : نردها عصى كما كانت، منصوب بنزع الخافض، أي : إلى سيرتها، أو ظرف، أي : في طريقتها.
﴿ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ﴾ أي : إلى جنبك تحت العضد. ﴿ تَخْرُجْ ﴾، حال كونها ﴿ بَيْضَاء ﴾ : لها شعاع كالشمس. ﴿ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ : كبرص صلة لبيضاء. ﴿ آيَةً أُخْرَى ﴾، حال.
﴿ لِنُرِيَكَ ﴾ أي : فعلنا ذلك لنريك، أو تقديره خذ آية أخرى. لنريك فلا تكون آية على هذا حالا. ﴿ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴾، ثاني مفعولي نريك.
﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ : وادعه إلى التوحيد ﴿ إِنَّهُ طَغَى ﴾ : عصى وتكبر.
﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ : أفسح ربي قلبي لتحمل أعباء النبوة.
﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ : سهل علي أبهم الكلام أولا، وعلم أن ثمه مشروحا وميسرا، ثم رفع الإبهام بصدري وأمري ففيه تأكيد ومبالغة.
﴿ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴾ هو في صغره كان يوما في حجر فرعون فأخذ لحيته ولطمه فتشاءم به وأراد قتله، فقالت امرأته : أنه لا يعرف ولا يعقل ونمتحنه، فقربوا إليه جمرتين ولؤلؤتين فتناول جمرتين ووضعهما في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة وأصابه اللثغ، و عن بعض السلف سأل حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطى، ولذلك بقي في لسانه شيء من الرتة، ومنها قال فرعون :" ولا يكاد يبين " ( الزخرف : ٥٢ ).
﴿ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ : يفهموه هو جواب الأمر.
﴿ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ﴾ مفعولاه إما وزيرا أو هارون قدم ثانيها للعناية به أولى ووزيرا وهارون عطف بيان للوزير، أو وزيرا ومن أهلي وأخي على وجه بدل من هارون أو عطف بيان آخر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ﴾ مفعولاه إما وزيرا أو هارون قدم ثانيها للعناية به أولى ووزيرا وهارون عطف بيان للوزير، أو وزيرا ومن أهلي وأخي على وجه بدل من هارون أو عطف بيان آخر.
﴿ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴾ : ظهري أو قوتي.
﴿ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ : في الرسالة ومن قرأ أشدد وأشركه بلفظ الخبر فهما جواب الأمر.
﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾، فإن التعاون يؤدي إلى تكاثر الخير.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾، فإن التعاون يؤدي إلى تكاثر الخير.
﴿ إِنَّكَ كُنتَ بِنَا ﴾ : بأحوالنا ﴿ بَصِيرًا ﴾، فأعطنا ما هو الأصلح لنا.
﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ﴾ : مسئولك ﴿ يَا مُوسَى ﴾.
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ ﴾ : بالإنعام، ﴿ مرَّةً أُخْرَى ﴾ : في وقت آخر.
﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا ﴾ : ألهمنا ﴿ إِلَى أُمِّكَ ﴾ وقيل : أوحى إليها ملكا لا على وجه النبوة، أو على لسان نبي في وقتها ﴿ مَا يُوحَى ﴾ : ما لا يعلم إلا بالوحي.
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ ﴾ : بأن ألقيه وضعيه. ﴿ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ : بحر النيل ﴿ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ﴾ جعل البحر كأنه ذو تمييز فأمره وأخرج الجواب مخرج الأمر ﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾ جواب فيلقيه وتكرير عدو للمبالغة. ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً ﴾ : كائنة ﴿ مِّنِّي ﴾ قد ركزتها في القلوب، يحبك كل من يراك، أو مني ظرف لألقيت، أي : أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ : لتربى و يحسن إليك بمرأى، ومنظر مني كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به، تقديره ليتعطف عليك ولتصنع، أو تقديره ولتصنع فعلت ذلك.
﴿ إِذْ تَمْشِي ﴾ ظرف لألقيت أو لتصنع بدل من إذ أوحينا على أن المراد به وقت متسع ﴿ أُخْتُكَ ﴾ : مريم ﴿ فَتَقُولُ ﴾ : حين ألقاه النيل إلى الساحل وأخذه فرعون وأحبه وكان لا يقبل ثدي أحد من المراضع كما قال تعالى :" وحرمنا عليه المراضع من قبل " ( القصص : ١٢ ). ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ ﴾ : فجاءت بأمك فقبلت ثديها. ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ﴾ : بلقياك وقد مر اشتقاقه في سورة مريم ﴿ وَلا تَحْزَنَ ﴾ : هي بفراقك قيل أي : لا تحزن أنت على فراقها، قد ذكر أن أمه اتخذت تابوتا ووضعته فيه، فأرسلته في النيل وأمسكته بحبل، وكانت ترضعه في الليالي ثم ترسله في النيل، لأنه قد ولد في سنة أمر فرعون بقتل الغلمان المولود فيها، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت من يدها فذهب به البحر فاغتمت، وذهب به النيل إلى دار فرعون فالتقطه آل فرعون ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا ﴾ أي : القبطي الذي استغاثه على الإسرائيلي ﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ ﴾ : بأن غفر الله لك، وأمنك من القتل. ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ : ابتليناك ابتلاء أو جمع فتن يعني ضروبا من الفتنة، وهي ما وقع عليه من الواقعات قبل النبوة ﴿ فَلَبِثْتَ ﴾ : مكثت ﴿ سِنِينَ ﴾ أي : عشر سنين ﴿ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾ : منزل شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر. ﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ ﴾ : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه الأنبياء أو قدر قدرته في علمي ﴿ يَا مُوسَى ﴾.
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾ : اخترتك لرسالتي وأمري تمثيل لكمال قربه ووفور حبه.
﴿ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ﴾ : معجزاتي ﴿ وَلَا تَنِيَا ﴾ : و لا تقصرا ولا تفترا ﴿ فِي ذِكْرِي ﴾، يعني لا تنسياني وقيل لا تقصرا في تبليغ ذكري ورسالتي.
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ : تكبر، أمره بالذهاب وحده أولا حيث قال : اذهب إلى فرعون وثانيا : مع أخيه.
﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا ﴾ : فال تعنفا في قولكما كي لا تأخذه أنفة ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ﴾ : يذعن للحق ﴿ أَوْ يَخْشَى ﴾ : أن يكون الأمر كما تصفان فيجر إنكاره إلى هلاكه يعني : اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ترتب الفائدة على سعيه فيجتهد بطوقه، قيل قبل النصح أولا ثم أضله هامان.
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا ﴾ : أن يعجل علينا بالعقوبة ﴿ أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ : يجاوز الحد في الإساءة علينا أو فيك.
﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ﴾ : بالحفظ والعون ﴿ أَسْمَعُ ﴾ : ما يجري بينكم ﴿ وَأَرَى ﴾ : لست بغافل عنكما.
﴿ فأْتِيَاهُ ﴾ : فأتياه مكثا في بابه حينا طويلا قيل : سنتين حتى أذن لهما ﴿ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ : خل عنهم وأطلقهم ﴿ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ : بالأعمال الشاقة ﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ : ببرهان ومعجزة على رسالتنا ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ أي : السلامة من عذاب الله عليه.
﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ ﴾ : الرسل ﴿ وَتَوَلَّى ﴾ : وأعرض عنهم، ومن لين المقال أنه ما قال : إن العذاب عليك إن كذبت وتوليت.
﴿ قَالَ ﴾ : بعدما أتياه، وقالا ما أمرا به ﴿ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴾، خص موسى بالنداء لأنه المتكلم، أو لأنه عرف أنه الأصل وهارون ممده، أو لما علم أن له رتة، ولهارون فصاحة حمله خبثه على ذلك.
﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ﴾ : صورته وشكله اللائق به ﴿ ثُمَّ هَدَى ﴾ : هداه إلى منافعه وأعطى كل حيوان نظيره وزوجه ثم هداه كيف يأتي الذكر الأنثى، وقيل أي : أوجد الأشياء وقدر الأرزاق والآجال والأعمال، ثم الخلائق ماشون على قدر لا يقدر أحد عن الخروج منه، كما قال :" والذي قدر فهدى " ( الأعلى : ٣ )، و قيل أي : أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى استعماله وعلى هذا خلقه مفعوله الأول، ولما كان الجواب بليغا جامعا مفحما بهت فلم ير إلا صرف الكلام عن الطريق الأول.
﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴾ : ما حالهم مع أن أكثرهم عابدو الأصنام.
﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ﴾ : أعمالهم محفوظة عنده ﴿ فِي كِتَابٍ ﴾ : اللوح المحفوظ ﴿ لَّا يَضِلُّ رَبِّي ﴾ : لا يخطئ شيئا. ﴿ وَلَا يَنسَى ﴾ : ولا يذهب عنه ويجازيهم أو لا يضل ربي الكافر حتى ينتقم منه ولا ينسى الموحد حتى يجازيه أو لما سأل عن سعادتهم وشقاوتهم أحال علمه إلى الله فكأنه قال : لا أعلم حالهم.
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾ : كالمهد، ﴿ وَسَلَكَ ﴾ : حصل ﴿ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ﴾ : تسلكونها ﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء ﴾ أي : المطر ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ﴾ قيل : تم كلام موسى وهذا من كلام الله، وقيل : من تمام كلام موسى لكن عدل إلى التكلم على الحكاية لكلام الله تنبيها على ظهور ما فيه ما الدلالة على كمال قدرته، وإيذانا بأنه مطاع تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، ويمكن أن يكون كلام موسى، فأخرج بصيغة الغيبة لكن لما حكى الله قوله حكاه لفظا بلفظ حتى انتهى إلى قوله :" فأخرجنا " غير الأسلوب إلى التكلم تنبيها على عظم قدره، وأنه أمر لا يدخل تحت قدرة غيره ﴿ أَزْوَاجًا ﴾ : أصنافا ﴿ مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾ : مفترقات جمع شتيت والنبات مصدر سمى به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع فلهذا جاز وصفه بشتى التي هي جمع وقيل شتى صفة أزواجا.
﴿ كُلُوا ﴾ أي : فأخرجنا قائلين كلوا ﴿ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ﴾ أي كلوا أنتم من النبات واسرحوا أنعامكم فيها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴾ ذوي العقول الناهية عن القبائح.
﴿ مِنْهَا ﴾ : من الأرض ﴿ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ : فإن أب الكل منها وعن بعض الملك يأخذ من تراب الأرض الذي قدر أن يدفن فيها فيذره على النطفة فيخلق منها ﴿ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾ : بالموت ﴿ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ ﴾ : يوم البعث ﴿ تَارَةً أُخْرَى ﴾.
﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا ﴾ أي : الآيات التي ظهرت على يد موسى ﴿ فَكَذَّبَ ﴾ : الآيات وقال إنها سحر، ﴿ وَأَبَى ﴾ : قبولها.
﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ﴾ : فيبقى لك ديارنا.
﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ ﴾ : مثل سحرك ﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا ﴾ اسم مكان أو زمان ﴿ لَّا نُخْلِفُهُ ﴾ جعل المكان أو الزمان مخلفا على الاتساع كيوم شهدناه ﴿ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا ﴾ بدل من الموعد على الأول، وظرف للانخلفه على الثاني، وقيل مفعول أول لا جعل ﴿ سُوًى ﴾ منصفا يستوي مسافته إلينا وإليك أو عدلا أو مستوى يتبين الناس وما فيه فيه.
﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ﴾ : يوم عيد لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنه يوم عاشوراء إذا كان الموعد اسم زمان فهو ظاهر، وأما إن كان اسم مكان فهو كما تقول يوم عرفة في جواب أين أراك ؟ أي : في عرفة فإن له مكانا معينا معروفا ﴿ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ﴾، عطف على اليوم والزينة ﴿ ضُحًى ﴾ : في وقت الضحوة جهارا في محضر الخلائق ليتضح الحق على رءوس الأشهاد ويشتهر.
﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ﴾ هو كما تقول ذهب يفعل كذا أي شرع فيه ﴿ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ﴾ : ما يكاد به من السحرة وآلاتها ﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ : الموعد.
﴿ قَالَ لَهُم ﴾ : للسحرة ﴿ مُّوسَى ﴾ وفي عددهم اختلاف كثير قيل سبعون رجلا، وقيل ثمانون ألفا، أو ثلاثون أو تسعة عشر ألفا، أو خمسة عشر ألفا، أو اثنا عشر ألفا ﴿ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾، بأن تخيلوا للناس ما لا حقيقة له، فتقولوا إنه مخلوق لله وأن تدعوا معجزاته سحرا أو تدعوا له ندا ﴿ فَيُسْحِتَكُمْ ﴾ : يستأصلكم ﴿ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ ﴾ : خسر ﴿ مَنِ افْتَرَى ﴾ : على الله.
﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ ﴾ أي : تشاجر السحرة سرا من فرعون في أمرهم فقائل منهم يقول ليس هذا بساحر إنما هو كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر ﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ﴾ أي : تناجوا فيما بينهم.
﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾، تفسير لأسروا النجوى وهذا من اسم إن لغة من يجعل التثنية غير مختلف في الرفع والنصب والجر، أو تقديره أنه هذان لساحران ﴿ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ : بملككم وعيشكم الذي أنتم فيه أو بأشراف قومكم أو بدينكم الذي هو أمثل الأديان.
﴿ فأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ﴾ أي : أحكموا واعزموا كلكم على كيدهما مجتمعين لهما ﴿ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ﴾ : مصطفين فإنه أهيب في عين الرائين، ولهذا قول بعض السحرة لبعضهم ﴿ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾ : فاز من غلب.
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ﴾، بعدما جمعوا كيدهم وأتوا، ﴿ إِمَّا أَن تُلْقِيَ ﴾ : عصاك أولا، ﴿ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ﴾، ما بعد أن منصوب بمحذوف أي : اختر إلقاءك أو إلقاءنا أو مرفوع أي : الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.
﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا ﴾، قيل : لما علم ميلهم إلى البدء أمرهم به وليشعر علية تغيير نظمهم عن إما أن تلقي إلى أو أن نكون أول من ألقى ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ ﴾، إذا للمفاجأة أي : فألقوا فإذا حبالهم ﴿ وَعِصِيُّهُمْ ﴾، جمع عصى ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾، وتحريكها ما كان إلا بحيلة وحاصل الكلام فألقوا ففاجأ موسى تخيله وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ومن قرأ بخيل بالتاء فقوله : أنها تسعى بدل اشتمال من ضميره الراجع إلى الحبال والعصي قيل لطخوا بالزئبق فلما ضربت عليهما الشمس اضطربت.
﴿ فَأَوْجَسَ ﴾ : أضمر ﴿ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ﴾ : من أن يتلبس الأمر على القوم فلا يتبعونه وقيل من : طبع البشرية ظن أنها تقصده.
﴿ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ﴾، وهذا مشعر مؤيد للوجه للأول، وإلا فالمناسب أن يقال لا تخف إنك آمن.
﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ﴾ لم يقل عصاك تحقيرا لها أي العويدة التي في يدك ولا تبال بعصيهم ﴿ تَلْقَفْ ﴾ تبتلع جواب الأمر وقراءة تلقف بالرفع أي : تتلقف فبالحال أو الاستئناف. ﴿ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا ﴾ أي : إن الذي زوروا ﴿ كَيْدُ سَاحِر ﴾، وحد الساحر لأن المراد به الجنس، وقراءة سحر كعلم فقه بأن الإضافة للبيان أو جعل الساحر سحر للمبالغة ٍ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ : حيث كان.
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ﴾ أي : ألقى موسى عصاه فتلقفت فألقى ذلك السحرة على وجوهم ساجدين لله ﴿ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾، وعن بعض لما سجدوا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها.
﴿ قَالَ ﴾ فرعون :﴿ آمَنتُمْ لَهُ ﴾ أي : لموسى واللام لتضمين معنى الإتباع ﴿ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ : في اتباعه ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ﴾ : أستاذكم ﴿ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ﴾ أي : مختلفات من اليد اليمنى ومن الرجل اليسرى، ومن للابتداء، فإن القطع ناشئ من مخالفة العضو العضو. أي من وضع المخالفة فقد لابس المخالفة أيضا وقيل من أجل خلاف ظهر منكم ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ أي : عليها شبه تمكن المصلوب بالجذوع بيتمكن المظروف بالظرف، فقال : قي جذوع ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا ﴾ : أنا أو موسى وأراد به الهزء فإنه لم يكن من التعذيب في شيء وقيل أينا أي : أنا أو رب موسى الذي ّآمنتم به ﴿ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾.
﴿ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ ﴾ : نختارك، ﴿ عَلَى مَا جَاءنَا ﴾ الضمير لما ﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ : المعجزات ﴿ وَالَّذِي فَطَرَنَا ﴾، عطف على ما جاءنا وقيل قسم ﴿ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ﴾ أي : قاضيه يعني اصنع ما تصنع ﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ أي : لك تسلط في دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار.
﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ﴾ أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل، وأمر بتعليم السحر لهم كارهين، وهم الذين قالوا ذلك، وقيل لما رأى السحرة عصاه يحرس موسى وهو نائم قالوا لفرعون : إن هذا ليس بساحر فأبى إلا المعارضة ﴿ وَاللَّهُ خَيْرٌ ﴾ : جزاء أو لنا منك ﴿ وَأَبْقَى ﴾ عقابا أو لنا فإنك فان.
﴿ إِنَّهُ ﴾ الضمير للشأن ﴿ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ﴾ : بأن يموت كافرا ﴿ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا ﴾ : فيستريح ﴿ وَلَا يَحْيى ﴾ : حياة مرضية وهذه الجملة إما من تمام قول السحرة وإما ابتداء كلام من الله، وفي مسلم وغيره وإما أناس تصيبهم النار بذنوبهم، وليسوا من أهلها فيميتهم إماتة حتى يصيروا فحما يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم نهرا يقل له الحية فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل.
﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ﴾ وفي مسند أحمد والترمذي : قال عليه السلام :" في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاه درجة " .
﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾، بدل من الدرجات ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ﴾ : تطهر من أدناس المعاصي.
﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ ﴾، أن مفسرة أو مصدرية ﴿ بِعِبَادِي ﴾ : من مصر ﴿ فَاضْرِبْ ﴾ : اتخذ واجعل ﴿ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ ﴾ : بأن تضرب البحر بعصاك ﴿ يَبَسًا ﴾ أي : طريقا يابسا ﴿ لَّا تَخَافُ دَرَكًا ﴾ أي : من أن يدركك فرعون حال من ضمير فاضرب، أو صفة ثانية لطريقا، أي : طريقا لا تخاف فيه ﴿ وَلَا تَخْشَى ﴾، من قرأ لا تخف بالجزم فلا تخشى إما استئناف، أي : وأنت لا تخشى، أو عطف على لا تخف والألف زائدة للفاصلة كالظنونا.
﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ ﴾ حين أسرى موسى ببني إسرائيل من مصر، وثاني مفعوليه محذوف، أي : أتبعهم فرعون نفسه متلبسا بجنوده أو الباء صلة، أي : أتبعهم جنوده وقيل أتبع بمعنى اتبع ﴿ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ : في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يخفى.
﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ : رد عليه حيث قال :" وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ( غافر : ٢٩ ).
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، خطاب لهم بعد إهلاك فرعون على إضمار قلنا ﴿ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ : لمناجاة نبيكم، وإنزال التوراة عليكم ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾ شيء مثل الترنجبين من السماء ينزل عليهم ﴿ وَالسَّلْوَى ﴾ : طائر يسقط عليهم فيأخذون بقدر الحاجة، وذلك في التيه.
﴿ كُلُوا ﴾ أي : قائلين كلوا ﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ : من لذائذه أو حلالاته ﴿ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ ﴾ : بأن تكفروا نعمتي فتنفقوا في معصيتي ولم تشكروا ﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ ﴾ : يلزمكم، ومن قرأ يحل فمعناه ينزل ﴿ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ : هلك، وعن ابن عباس في جهنم قصر يرمى الكافر من أعلاه فيهوى أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك ق وله :" فقد هوى ".
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ﴾ : عن الشرك، ﴿ وَآمَنَ ﴾ : بما يجب الإيمان به، ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ : استقام على الطريق المستقيم.
﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ ﴾ سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها، وهو مبتدأ أو خبر ﴿ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قال ﴾، ذلك حين اختار سبعين رجلا من قومه فذهبوا إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة، فعجل من بينهم شوقا إلى ربه، وتقدم وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل.
قال مجيبا لربه :﴿ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي ﴾ أي : هم بالقرب مني " وعلى أثري " إما حال أو خبر بعد خبر ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ : لتزدد عني رضا فإن المسارعة إلى امتثال الأمر أمثل.
﴿ قَالَ ﴾ الله :﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ ﴾ الذين خلفتهم مع هارون، وهم ستمائة ألف إلا السبعين الذين اختارهم للمناجاة ﴿ مِن بَعْدِكَ ﴾ : بعد خروجك ﴿ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ : بأن دعاهم إلى عبادة العجل بعد اتخاذهم.
﴿ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ﴾ : بعد أخذ التوراة ﴿ غَضْبَانَ ﴾ : عليهم ﴿ أَسِفًا ﴾ الأسف الشديد الغضب أو الحزين، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ﴾ بأن يعطيكم التوراة، ووعدكم على لساني خير الدارين ﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ﴾ أي : الزمان في انتظار ما وعدكم الله ﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ ﴾ يجب ﴿ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ﴾ أي : وعدكم إياي بالثبوت على الدين واتباع هارون.
﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ : عن قدرتنا واختيارنا، ولو لم يسول لنا السامري لما أخلفناه ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا ﴾ : حمالا، ﴿ مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ ﴾ : من حلي القبط ﴿ فَقَذَفْنَاهَا ﴾ : في النار وذلك أنهم خرجوا من مصر كانت معهم ودائع من حلي آل فرعون، فقال هارون :" لا يحل لكم الوديعة، ولسنا برآدين إليهم "، فأمرهم أن يقذفوها في حفيرة ويوقد عليها النار، فلا تكون الودائع لنا ولا لهم أو أمرهم بذلك ليصير الحلي كحجر واحد حتى يرى فيها موسى حين رجوعه ما يشاء، وقيل الآمر بذلك السامري لا هارون ﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ أي : أراهم أنه أيضا ألقى حليا في يده وإنما ألقى التربة التي أخذها من تربة حافر فرس جبريل.
﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا ﴾ : من تلك الحلي المذاب، ﴿ لَهُ خُوَارٌ ﴾ : صوت العجل عن ابن عباس، لا والله ما كان له صوت، وليس له روح إنما كانت تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، والصوت من ذلك ﴿ فَقَالُوا ﴾ أي : السامري والضلال منهم :﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ أي : فنسيه موسى هاهنا، وذهب يطلبه، أو فنسى أن يذكركم أن هذا إلهكم أو فنسى السامري ما كان عليه من الإسلام وتركه.
﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ ﴾، من كلام الله ردا عليهم، وبيانا لسخافة رأيهم ﴿ أَلَّا يَرْجِعُ ﴾ أي : أنه لا يرجع ﴿ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ﴾ : لا يجيبهم، ولا يكلمهم ﴿ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ : لا يقدر على إضرارهم وإنفاعهم أو على دفع ضرهم، وإيصال نفعهم.
﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ﴾ : قبل رجوع موسى، ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ﴾ : ابتليتم بالعجل، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ﴾ : لا العجل، ﴿ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ﴾ : في الثبات على الدين.
﴿ قَالُوا لَن نَّبْرَحَ ﴾ : لن نزال ﴿ عَلَيْهِ ﴾ : على العجل بأن نعبده ﴿ عَاكِفِينَ ﴾ : مقيمين ﴿ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قال ﴾ : موسى بعدما رجع ﴿ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ﴾.
﴿ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ﴾ : بعبادة غير الله.
﴿ أَلَّا تَتَّبِعَنِ ﴾ أي : عن أن تأتي عقبي فتخبرني عن ما أحدثوا، أو عن أن تتبعني في الغضب لله، والمقاتلة معهم، ولا مزيدة على الوجهين نحو " ما منعك أن لا تسجد " ( الأعراف : ١٢ )، ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾، حيث وصيتك اخلفني ولا تتبع سبيل المفسدين، فرضيت، وسكنت وسكت.
﴿ قَالَ ﴾ هارون :﴿ يَا ابْنَؤم ﴾ ذكر الأم مع أنهما أخوان من أبوين، لأن ذكرها أرق وأبلغ في الحنو، ﴿ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ﴾ أي : بشعره فإنه كان عليه السلام شديد الغضب لله متصلبا لم يتمالك حين رآهم مشركين ﴿ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي : خشيت لو فارقتهم ليتفرقوا، وخشيت لو قاتلتهم لصاروا أحزابا مقاتلين بعضهم بعضا، ﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ حين قلت اخلفني في قومي وأصلح أي : ارفق بهم.
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ﴾، ثم أقبل إليه، وقال منكرا ما طلبك له، وما شأنك، وما الذي حملك عليه.
﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ﴾ : علمت، وفطنت ما لم يعلموه، ولم يفطنوا له ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً ﴾ أي : مرة من القبض أطلق على المقبوض ﴿ مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ﴾ أي : من تربة موطئ فرس جبريل، ﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾ : ألقيتها في الحلي المذاب نقل أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادته في نفسه، فلما رأى جبريل حين جاء لهلاك فرعون أخذ قبضة من أثر فرسه وألقى في روعه إنك إن ألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، وعن بعض أخذ التراب حين جاء جبريل ليذهب بموسى إلى المناجاة ﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ ﴾ : زينت، ﴿ لِي نَفْسِي ﴾.
﴿ قَالَ ﴾ موسى له، ﴿ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ ﴾ : ما دمت حيا، ﴿ أَن تَقُولَ ﴾ : مع كل من جاء إليك ﴿ لَا مِسَاسَ ﴾ : لا ما دمت حيا، ﴿ أن تقول ﴾ : مع كل من جاء إليك ﴿ لا مساس ﴾ لا مخالطة بوجه فتكون وحشيا نافرا منفردا فإنه إذا اتفق أن يمارس أحدا حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا ﴾ : لعذابك ﴿ لَّنْ تُخْلَفَهُ ﴾ : لن يخلفك الله وينجزه لك البتة، ومن قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا ﴿ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ ﴾ : ظللت بحذف اللام الأولى ﴿ عَلَيْهِ عَاكِفًا ﴾ : مقيما على عبادته ﴿ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ﴾ : بالنار فإنه صار لحما ودما أو بالمبرد فهو مبالغة في حرقه إذا برد بالمبرد ﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ ﴾ : لنذرينه رمادا أو مبرودا ﴿ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾ : وقد ذكر أنه لم يشرب أحد ممن عبده من ذلك الماء إلا اصفر وجهه كالذهب.
﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾، نصبه بالتمييز أي : وسع علمه كل شيء لا العجل الذي هو مثل في الغباوة، ولو كان حيا.
﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الاقتصاص ﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء ﴾ : أخبار ﴿ مَا قَدْ سَبَقَ ﴾ : من الأحوال تبصرة لك، وتنبيها ﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ﴾ : ذكرا كتابا مشتملا على ذكر أمور محتاج إليها.
﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ﴾ : فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ﴿ فَإِنَّهُ ﴾، الضمير للشأن ﴿ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴾ : عقوبة ثقيلة.
﴿ خَالِدِينَ فِيهِ ﴾ : في الوزر، وإفراد أعراض وجمع خالدين نظرا إلى اللفظ والمعنى ﴿ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ﴾ : ساء بمعنى بئس، وفيه ضمير مبهم يفسره حملا، والمخصوص بالذم محذوف أي : ساء حملا وزرهم واللام كهيت لك للبيان.
﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي : المشركين ﴿ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾ : زرق العيون قبيح المنظر وقيل : عميا فإن حدقة الأعمى تزرق.
﴿ يَتَخَافَتُونَ ﴾ : يتشاورون، ﴿ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ ﴾ : ما لبثتم في الدنيا ﴿ إِلَّا عَشْرًا ﴾ : عشر ليال استقصروا مدة مكثهم فيها مع أنهم آثروها على الباقي الدائم فتأسفوا عليها، وقيل : المراد مدة مكثهم في القبر أو المراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة يرفع عنهم العذاب في تلك المدة استقصروها لهول ما عاينوا من القيامة.
﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ ﴾ : منهم، ﴿ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ : في حال تناجيهم، ﴿ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ﴾ : أعدلهم رأيا وقولا ﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ﴾.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ : يا محمد ﴿ عَنِ الْجِبَالِ ﴾ : هل تبقى يوم القيامة أو تزول، ﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا ﴾ : يقلعها من أصلها ﴿ رَبِّي نَسْفًا ﴾.
﴿ فَيَذَرُهَا ﴾ : يدع أماكنها ومقارها من الأرض، ﴿ قَاعً ﴾ : منبسطا من الأرض ﴿ صَفْصَفًا ﴾ : ملساء منصوبان بالحال.
﴿ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ﴾ : اعوجاجا قليلا لا يدرك إلا بالقياس ﴿ وَلَا أَمْتًا ﴾ : نتوءا أي : لا واديا ولا رابية.
﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ : يوم إذ نسفت ﴿ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ﴾ : حيث ما أمرهم بادروا إليه أو الداعي إلى المحشر ﴿ لَا عِوَجَ لَهُ ﴾ : لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه ﴿ وَخَشَعَت ﴾ : سكنت أو خفضت ﴿ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ﴾ : لمهابته، ﴿ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ : صوت وطء أقدامهم إلى المحشر أو صوتا خفيا.
﴿ يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا ﴾ : شفاعة ﴿ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ﴾، أو لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن في أن يشفع له ﴿ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴾ : رضي الله قوله عن ابن عباس يعني من قال لا إله إلا الله، أو رضي قوله لأجله أو رضي لمكانته عند الله قوله في الشفاعة.
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ : ما تقدمهم من الأحوال، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ : ما يستقبلون يعني أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ : لا يحيط علمهم بمعلومات الله أو الضمير للموصول.
﴿ وَعَنَتِ ﴾ خضعت وذلت، ﴿ الْوُجُوهُ ﴾ : وجوه العالمين ﴿ لِلْحَيِّ ﴾ : الذي لا يموت ﴿ الْقَيُّومِ ﴾ : الذي هو قيم كل شيء، ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنَْ حمَلَ ظُلْمًا ﴾ : من أشرك بالله فإن الشرك لظلم عظيم.
﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ﴾ : بعض الطاعات ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ : إذ الإيمان شرط صحة الطاعة ﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا ﴾ : بأن يزاد على سيئاته، ﴿ وَلَا هَضْمًا ﴾ : بأن ينقص من حسناته.
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ أي : مثل ذلك الإنزال عطف على كذلك نقص، ﴿ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا ﴾ : كررنا، ﴿ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ : من المعاصي أي ليكونوا بحيث يرجى منهم التقوى، ﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ﴾ : القرآن ﴿ ذِكْرًا ﴾ : عظة واعتبارا بذكر العقاب للأمم الماضية فيشغلهم عن المعاصي.
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾ : جل الله في ذاته وصفاته ﴿ الْمَلِكُ ﴾ : الذي جميع الكائنات تحت سلطانه، ﴿ الْحَقُّ ﴾ : وعده ووعيده، أو الثابت في ذاته وصفاته، ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ﴾ أي : بقراءته ﴿ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ أي : لا تقرأه حين يقرأ جبريل، بل أنصت فإذا أتم قراءته عليك فاقرأه بعده، وعن بعض : لا تبلغ، ولا تمله على أصحابك حتى يتبين لك معانيه ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ : بالقرآن ومعانيه.
﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ ﴾ : أمرناه، يقال في وصايا الملوك وأوامرهم عهد إليه، وعزم عليه، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي فكذبوك ﴿ فَنَسِيَ ﴾ أي : وصيناه أن لا يقرب الشجرة فترك ما وصى به، وقيل : لم يعتني بالعهد حتى غفل عنه، ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ : تصميم رأي حيث أطاع عدوه، والوجود إن كان بمعنى العلم فله عزما مفعولاه، وإن كان بمعنى الوجود المناقض للعدم فله إما ظرف لغو، أو حال من عزما.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ﴾ أي : اذكر حاله في ذلك الوقت حتى تعلم أنه ترك المأمور ولم يكن ذا عزم، ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾، مستأنفة أي : أظهر الإباءة واستكبر.
﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا ﴾ يعني : كونا على وجه لا يؤثر فيكما غوايته ﴿ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ : فتتعب في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد بلا كلف، وأسند الشقاء إليه وحده لأن طلب الرزق على الرجل.
﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ﴾.
﴿ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا ﴾، من قرأ أنك بالفتح فهو عطف على أن لا تجوع قال أبو البقاء : تقع أن المفتوحة معمولة للمكسورة لما فصل بينهما، نحو : إن عندنا أن زيدا منطلق، وعلى أي حال جاز في المعطوف عليه ما لا يجوز في المعطوف ﴿ وَلَا تَضْحَى ﴾ : لا تصيبك الشمس وأذاها.
﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ﴾ أي : شجرة من أكل منها صار مخلدا لا يموت ﴿ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ﴾ : لا يزول.
﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا ﴾ أي : أخذ يلزقان على سوآتهما للتستر ﴿ مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ عن ابن عباس ذاك ورق التين، ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ ﴾ : بأن خالف أمره، ﴿ فَغَوَى ﴾ : أخطأ طريق الحق، ولم ينل مراده، ويجوز أن يقال " وعصى آدم " ولا يجوز أن يقال آدم عاص لأنه لا يقال عاص إلا لمن اعتاد العصيان كما لا يقال من خاط ثوبه مرة خياط.
﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ ﴾ : اصطفاه، ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ : قبل توبته ﴿ وَهَدَى ﴾ : هداه إلى الثبات على التوبة.
﴿ قَالَ ﴾ الله :﴿ اهْبِطَا مِنْهَا ﴾ : من الجنة والهبوط النزول إلى الأرض ﴿ جَمِيعًا ﴾، لما كانا أصلى البشر خاطبهما مخاطبتهم ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ : متعادين بالحسد وأنواع العداوات ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ : كتاب ورسول ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ ﴾ : في الدنيا، ﴿ وَلَا يَشْقَى ﴾ : في الآخرة الشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول، وما مزيدة أكدت به " إن " التي للشك وعلم منه أن إرسال الرسل غير واجب عقلا.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي ﴾ : عن اتباع القرآن، ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾، المراد عذاب القبر، وقد ورد أن المعيشة الضنك أنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة أو في الدنيا بأن لا طمأنينة له فلا يزال في نصب من خوف القلة وما برح في تعب من هم إلا زيد في الدنيا أخذت بمجامع همه أو في النار، والضنك الضيق مصدر وصف به يستوي فيه الذكر والمؤنث ﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ : أعمى البصر أو لا حجة له.
﴿ قَالَ كَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره فقال :﴿ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ﴾ : تركتها وأعرضت عنها، ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ : مثل تركك إياها ﴿ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ : تترك على عماك.
﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ﴾ : في مخالفة الله، ﴿ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ ﴾ : من ضنك العيش، ﴿ وَأَبْقَى ﴾ قيل : معناه عذاب الآخرة بعد العمى، وهو النار أشد وأبقى.
﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ ﴾، فاعل " يهد " جملة " كم أهلكنا " بواسطة مضمونها أي كثرة إهلاكنا أن كم لا يعمل فيه ما قبله أو فاعله ضمير الله، والجملة في تأويل المفعول أي : أفلم يبين الله لهم مضمون هذه الجملة، وعند البصريين فاعله مضمر يفسره كم أهلكنا ﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾، والحال إنهم يترددون نفي مساكنهم الخالية حين سفرهم إلى الشام فإن ديار ثمود ولوط بين الشام ومكة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴾ : لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ﴾ : حكم بتأخير عذابهم، ﴿ لَكَانَ لِزَامًا ﴾ : لكان العذاب لازما لهم كما لزم الكفار الماضية، وهو مصدر لازم وصف به ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ عطف على كلمة أي لولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، وقيل عطف على ضمير كان أي : لكان العذاب العاجل و أجل مسمى لازمين لهم.
﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ المراد من التسبيح الصلاة، وقيل على ظاهره، وبحمد ربك في موضع الحال ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ﴾ : الصبح، ﴿ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾ : العصر، وقيل الظهر والعصر ﴿ وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ ﴾ : ساعاته ﴿ فَسَبِّحْ ﴾ أي : التهجد أو المغرب والعشاء، وتقديم من آناء الليل لاختصاصه بمزيد مزية فإن أفضل الطاعات أحمزها للاستراحة، والنفس فيه مولعة إلى النوم والعبادة فيه أبعد من الرياء ﴿ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ﴾ يعني التطوع في أجزاء النهار كالتهجد في آناء الليل أو صلاة الظهر فإنها نهاية النصف الأول وبداية النصف الأخير ﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ أي : سبح في تلك الأوقات طمعا في أن تنال ما به رضاك من المقام المحمود.
﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ ﴾ : نظر﴿ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ ﴾ : نظر استحسان وغبطة، ﴿ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ﴾ : أصنافا من الكفرة، وقيل منهم مفعول متعنا، و " أزواجا " حال من ضمير به ﴿ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ﴾ : زينة وبهجة زائلة، نصب على الضم نحو، أتاني زيد الفاسق، أو ثاني مفعولي متعنا لتضمن معنى الإعطاء ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ ﴾ : نختبرهم، ﴿ فِيهِ ﴾ أو لنجعل ذلك فتنة وبلاء لهم لأن يمدوا في طغيانهم ﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ ﴾ : في المعاد أو ما رزقك من علم النبوة ﴿ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾.
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ ﴾ : أهل بيتك أو أمتك ﴿ بِالصَّلَاةِ ﴾، ولا تهتموا بأمر المعيشة ﴿ وَاصْطَبِرْ ﴾ : وداوم، ﴿ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ﴾ : أن نرزق أحدا ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾، ففرغ بالك للصلاة وفي الحديث إذا أصابه عليه السلام خصاصة نادى أهله :" يا أهلاه صلوا وصلوا وفي الحديث القدسي :" يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " ﴿ وَالْعَاقِبَة ﴾ : المحمودة، ﴿ لِلتَّقْوَى ﴾ : لذويه قد نقل أنها نزلت لما استسلف عليه السلام من يهودي فأبى إلا برهن فضاق صدره الأشرف.
﴿ وَقَالُوا ﴾ المشركون :﴿ لَوْلَا ﴾ : هلا، ﴿ يَأْتِينَا ﴾ : محمد ﴿ بِآيَةٍ ﴾ : دالة على رسالته، ﴿ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴾، وهي القرآن المعجز الذي هو أعظم المعجزات المهين على سائر الكتب السماوية فإن القرآن معجز دون سائر الكتب ظهر على يد أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يدارس أهلهما صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ ﴾ : محمد، أو القرآن، ﴿ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ﴾ : بعذاب الدنيا ﴿ وَنَخْزَى ﴾ : بعذاب الآخرة.
﴿ قُلْ كُلٌّ ﴾ أي : كل واحد منا ومنكم ﴿ مُّتَرَبِّصٌ ﴾ : منتظر داوئر الزمان على صاحبه، ﴿ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ﴾ : المستقيم، ﴿ وَمَنِ اهْتَدَى ﴾ : إلى الحق " من " في الموضعين للاستفهام مبتدأ على أن الفعل معلق عن الجملة الاستفهامية، ولو جوزت حذف صدر الصلة وقررت من هو أصحاب الصراط لجاز أن يكون موصولة أي : من هو أصحاب الصراط ؟
والحمد لله رب العالمين