تفسير سورة المؤمنون

بيان المعاني
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

والدعاء من وظائفه الخاصة. وأضافه ثانيا له ولأصحابه لأنه في معرض طلب العون والغوث والرحمة، وهي من الوظائف العامة به وبهم، وقرىء (يصفون) بالياء أيضا، وفي ذكر صفوة الخلق وما يتعلق به بختام هذه السورة بهذه الجملة التي لا توجد سورة مختومة بها طيب تضوع منه المسك، كما أن ما بدئت به من أحوال القيامة هول تنفطر له الأجساد، وما بينهما آيات وعظات عظيمة وعبر وأخبار فخيمة ما وراءها وراء. أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال إني استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: اقترب للناس حسابهم إلخ. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
تفسير سورة المؤمنين عدد ٢٤- ٧٤ و ٢٣
نزلت بمكة بعد سورة الأنبياء، وهي مئة وثماني عشرة آية، وثمنمئة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمنمئة حرف وحرفان، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به من الجمل، ولا مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» ١ فازوا وظفروا بمطلوبهم وخلصوا ونجوا مما يرهبون، وهؤلاء المفلحون هم «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ٢ لله خاضعون لهيبته خائفون منه متذللون إليه طلبا لقبولها منهم.
مطلب الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها والزكاة ولزوم أدائها والأمانة والعهد والحكم الشرعي فيهما:
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.
339
وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه. ولهذا أجمعت الفقهاء على أن وقوع ثلاث حركات متوالية من المصلي تبطل صلاته.
وقد حذر حضرة الرسول من العبث في الصلاة، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم! فاشتد قوله في ذلك، حتى قال لينتهينّ عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم.
واعلم أن الخشوع هو جمع الهمة والإعراض عن سوى الله والتدبر فيما يجري على لسانه من القراءة والذكر، لأن من لا يتدبر القراءة لا يعرف معناها، ومن لم يعرف معناها لا يخشع لها، ومن لا يخشع لها فكأنه لم يقرأ. وأعلم أن المصلي إذا عرف نفسه أنه واقف بين يدي الله العظيم بالغ في الخشوع والخضوع والخوف، فقد ذكر البغوي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وأخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله عنها قالت: رآني أبو بكر أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف من صلاتي، ثم قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميّل تميل اليهود، فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة. ومن الخشوع عدم كفّ الثوب والتمطي والتثاؤب والتغطية للفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقليب ما يسجد عليه، ومهما أمكن أن لا يخطر في قلبه غير ما هو فيه، وان يتعلق بالآخرة، لأن الخشوع محله القلب ويظهر عدمه بحركات الجوارح وهو من السنن المؤكدة في الصلاة. وقال بعض العلماء بوجوبه وفرضيته. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ» هو كل كلام ساقط من هزل وشتم وكذب وما لا يعتد به من الكلام، والذي يصدر عن غير رويّة وفكر باطلا أو غير باطل. راجع ما بيناه في هذه في الآية ٧٢ من سورة الفرقان ج ١ وفي الآية ٦٧ من سورة الأنعام المارة، وله صلة في الآية ١١ من سورة النور في ج ٣، «مُعْرِضُونَ» ٣ في عامة أوقاتهم وفي الصلاة خاصة ليحصل لهم فيها الفعل والترك الشاقّين على النفس
340
اللذين هما قاعدتا التكليف وبناؤه «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» ٤ مداومون عليها محافظون على أوقاتها وأدائها، ولا محل للقول بأن الزكاة لم تفرض بعد، لأن السورة مكية وقد فرضت في المدينة، وإن القصد هنا هو تزكية النفس من الأفعال المشينة لها وأنها على حد قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) الآية من سورة الأعلى في ج ١، وقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) الآية من سورة والشمس المارة في ج ١ أيضا لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، ولا ينبغي العدول عن ظاهره وعن تفسير بعضه لبعض ما أمكن، وان معنى هذه الآيات على هذا هو فعل ما تزكى به النفس من المناقب واجتناب ما يشينها من المثالب كلها ليستوجبوا تزكية الله تعالى لهم وتطهيرهم من الذنوب والنقائص والعيوب، لأن المراد وصفهم بالزكاة المطلقة التي هي عبادة مالية، وقد ذكرنا غير مرة عند ذكر لفظ الزكاة أي القصد منها ما كان متعارفا عندهم إنفاته قبل الإسلام غير الزكاة المفروضة على هذه الأمة، لأن العرب كانت تزكي زكاة تلقتها عن أوائلهم، قال أمية بن الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون المزكوات
ولم يرد عليه أحد، فلو لم تكن معروفة عندهم لردوا عليه لأنهم لا يسكتون إذا سمعوا غير الواقع، وتفسير ما نحن فيه بمعنى الآيتين المذكورتين آنفا بعيد، لأنهما ليستا مما نحن فيه، ولأن اقتران وصفهم بالصلاة التي هي عبادة بدنية ينادى على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة التي هي عبادة مالية، وعليه يكون المعنى الفاعلون لأدائها لمستحقيها بأوقاتها عن طيب نفس طلبا لثوابها، وعلى هذا فلا يقال أيضا إن حضرة الرسول وأصحابه طيلة وجودهم في مكة لم يزكوا مع توالي نزول الآيات التي هي من هذا القبيل عليهم، بل كانوا يزكون، لأن الرسول كان فيما لم يؤمر به يجري فيه على طريقة إبراهيم عليه السلام وشريعته، وهل يمكن أن يقال لا زكاة في شريعة من الشرائع؟ كلا، ولكنهم كانوا يتصدقون بما يتيسر لهم من جهدهم، لأن أكثرهم فقراء معدمون، ولذلك لم يشتهر عنهم فعل الزكاة في مكة. هذا، ولفظ الزكاة يصرف على إنفاق المال حقيقة، وصرفها لغير هذا المعنى مجاز، ولا يعدل عن الحقيقة إلا إذا تعذرت، وهي غير متعذرة هنا. قال تعالى «وَالَّذِينَ
341
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ»
٥ عن كل ما حرم الله قاصرون على ما أحله لهم والفرج مطلق الشق بين الشيئين، ثم أطلق على سوءتي الرجل والمرأة، وحفظهما التعفف عن الحرام، ثم استثنى جل شأنه فقال «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» من الجواري والإماء ملكا حقيقيا، لأنه من الحلال. وهذه الآية خاصة بالرجال بحسب الظاهر، لأن النساء لا يسوّغ لهن ذلك، فلا يجوز أن يستمتعن بما ملكت أيمانهن من العبيد والإماء بالإجماع. أخرج عبد الرزاق عن قتادة قال:
تسرّت امرأة غلاما، فذكرت لعمر رضي الله عنه، فسألها ما حملك على هذا؟
فقالت كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين، فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا تأولت كتاب الله على غير تأويله (أي لا حدّ عليها لأن التأويل يدرا الحد، وقال صلّى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات) فقال رضي الله عنه لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا. أي أنه جعل عقابها ذلك ودرأ عنها الحدّ وأمر العبد أن لا يقربها. واعلم أن المرأة إذا كانت متزوجة بعبد فملكته وأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعيد ابن عبد الله بن عقبة: يبقيان على نكاحهما. والمراد بما ملكت أيمانهم السريات الأناثي فقط، إذ أجمعوا على عدم حل وطء المملوك الذكر، وإنما عبر عنهن بما دون من إما لعدم اختصاص ما لغير العقلاء لأنهم على الغالب فيهم، أو لأنهن مثل السلع يبعن ويشترين لعدم الاكتراث بهن أو لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن أجرين مجرى غير العقلاء، هذا إذا كن من الروم والجركس ونحوهم، أما إذا كن من الزنج والحبش وشبههم فإنهن من نوع البهائم وما نوع البهائم عنهن ببعيد- إلا إذا زكّتهن الهداية- فلا غرو إذا عبر عنهن بما «فَإِنَّهُمْ» إذا لم يحفظوا فروجهم عن إمائهم وجواريهم الإناث «غَيْرُ مَلُومِينَ» ٦ على جماعهم هذا الصنف من الإماء والجواري للإذن فيه، لأن كل ما أذن فيه لا يلام فاعله عليه «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ» ولم يقتصر على أزواجه وسراريه وتعدى إلى غير ذلك والعياذ بالله «فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» ٧ المبالغون في العدوان المتجاوزون حدود الله، لأن هذه الآية دالة على تحريم ما عدا ذلك من الاستمناء باليد وبالدبر من الصنفين وإتيان الحيوانات وكل ما لم يأذن به الشرع.
342
واعلم أن من قال إن هذه الآية ناسخة لآية المتعة المزعومة في الآية ٢٤ من سورة النساء لا ثقة بقوله، لأن هذه مكية متقدمة عليها بالنزول، وتلك الآية مدنية متأخرة عنها، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا. وكذلك القول في الآية ١٠ من سورة المعارج الآتية لا تكون ناسخة لها للعلة ذاتها والسبب نفسه. وعلى من يدعي العلم ويقول بالنسخ أن يتثبت من معرفة أحواله وقواعده ثم يقول، لا انه رجما بالغيب بادىء الرأي، فيعرض نفسه للقدح والوصم بجرأته على كتاب الله المنزه عن كل ثلب. ولنا بحث في المتعة نبديه إن شاء الله في تفسير آية النساء المذكورة أعلاه فراجعه. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» ٨ محافظون لما ائتمنوا عليه من مال وغيره مراعين به حق الله مؤدين له لأربابه حال طلبهم كما استلموه منهم، إذ لا يجوز لهم التصرف بالأمانة، وموفون بما عاهدوا الله عليه قبل وبعهدهم لرسوله صلّى الله عليه وسلم، ولما عقدوا ويعقدوا بينهم من العهود للمؤمنين وغيرهم مهما كان دينهم، لأن الوفاء بالعهد واجب لأي كان، راجع الآية ٣٤ من سورة الإسراء ج ١ والآية ٩١ فما بعدها من سورة النحل المارة، وأصل الرعي حفظ الحيوان، ثم استعير للحفظ مطلقا. والأمانة منها ما يكون بين العبد وربه كالوضوء والصلاة والصوم وغسل الجنابة وغيرها مما أوجبه الله تعالى على عباده مثل البر باليمين، وما يتعلق بالأقوال التي تحرم بها النساء والإماء ويعتق بها الجواري والعبيد لأنه مؤتمن في ذلك فيما بينه وبين ربه، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية ٣٧ من الأنفال في ج ٣، وقال عليه الصلاة والسلام أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته. وجاء عن ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة. ومنها ما يكون بين الناس أنفسهم كالودائع والعقود والضائع والأسرار فيجب المحافظة عليها والوفاء بها، إذ لا فرق بين من يفشي سرا ائتمن عليه، وبين من يختلس مالا استودعه. الحكم الشرعي:
وجوب حفظ الأمانة بالمحل الذي يحفظ به ماله من جنسها، وإذا لم يفعل وطرأ عليها طارئ فإنه يعد مقصرا شرعا ويضمنها إذا سرقت أو تلفت، ويصدق بردّها بقوله دون حاجة لإقامة حجة، وإن أقامها براءة لذمته جاز، وليس للمودع تكليف
343
الوديع بينة على الردّ لأنه استلمها بلا بينة، ولأن المقصود منه الأمانة، إذ لا ينبغي لصاحب المال أن يودع ماله إلا عند من اشتهر بالأمانة والديانة وحصلت له الثقة به، فإذا أودعها عند من ليس من أهلها وأنكرها عليه فلا يلومن إلا نفسه، لأنه هو الجاني عليها، وليس للوديع أن يودعها عند غيره بغير إذن المودع أو تفويضه، فإن فعل ضمن أيضا. قال تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» ٩ بأن يؤدوها بأوقاتها بطهر كامل ويتموا أركانها وشروطها بوجه أكمل، ولا يعد هذا تكرارا لأنه تعالى وصف أولا الصلاة بالخشوع وأخيرا بالمحافظة، والمحافظة غير الخشوع، ولأنها أعظم أركان الدين خصت بمزيد الاعتناء فذكرت مرتين.
الحكم الشرعي: في تاركها كلا الحبس والتفسيق، وعمدا تهاونا وجحودا لفرضيتها الكفر والقتل حدا، ولا عذر في تركها ما قدر العبد أن يؤديها ولو بالإيماء، ويكفي في ذلك لعن تاركها من قبل حضرة الرسول ونفي الأمانة عنه، ومن لم يحافظ على أركانها وشروطها كان كمن لم يقمها ولم يحافظ عليها، قال عليه الصلاة والسلام إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي وشفعت لصاحبها، وإذا أضاعها (أي لم يقم بشروطها) قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها. أي يوم القيامة إذ تمثل العبادات والأعمال وتجسم «أُولئِكَ» الذي هذه صفاتهم وهذا شأنهم «هُمُ الْوارِثُونَ» ١٠ الأخلاق الحميدة والأفعال المجيدة في الدنيا
وهم «الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ» أعلى مراتب الجنة «هُمْ فِيها خالِدُونَ» ١١ أبدا، أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وأخرج أيضا عن عمر بن الخطاب قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فأنزل الله عليه يوما فمكث ساعة ثم سرّي عنه، فقرأ (قد أفلح المؤمنون) إلى عشر آيات من أولها وقال من أقام هذه العشر آيات دخل الجنة. ثم استقبل القبلة
344
ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا.
مطلب مراتب الخلق، وتعداد نعم الله على خلقه:
قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» آدم عليه السلام بدليل قوله «مِنْ سُلالَةٍ» أي خلاصة «مِنْ طِينٍ» ١٢ معجون من أنواع تراب الأرض، ولذلك ترى أولاده الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وما بينهما، والمؤمن والمنافق والكافر والمرائي والمداهن وما بينهما «ثُمَّ جَعَلْناهُ» أي الإنسان «نُطْفَةً» ماء قليلا نحو النقطة من مائي الرجل والمرأة والمراد نسل آدم، لأنه المخلوق من النطفة لا آدم نفسه «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» ١٣ حصين وهو الرحم لا يتسرب إليه غيرها «ثُمَّ خَلَقْنَا» وسط ذلك الرحم المحرز المصون بتلك «النُّطْفَةَ» فصيرناها «عَلَقَةً» قطعة دم جامد «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ» المذكورة وصيرناها في مقرها «مُضْغَةً» قطعة لحم صغيرة «فَخَلَقْنَا» تلك «الْمُضْغَةَ» نفسها بأن أحلناها «عِظاماً» وعروقا داخل مقرها المذكور «فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً» سترناها به، ولذلك قال كسونا لأن اللحم كالكسوة للعظم والعرق، إذ تتداخل به وتمتد لربط المفاصل بصورة محكمة من فعل الحكيم القدير «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» بسبب نفخ الروح فيه وصيرورته حيوانا سميعا بصيرا ناطقا بعد أن كان جمادا، فهو مباين لحالته الأولى، ولذلك قال تعالى (خَلْقاً آخَرَ) وفي العطف بثم المفيدة للتراخي إعلام بأن ما بين كل حالة وأخرى احتياج إلى الزمن، وهو كذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة (فيما يبدو للناس) حتى ما يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار (فيما يبدو للناس)
345
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. واعلم أن جملة فيما يبدو للناس لم تكن في هذا الحديث، وإنما هي في حديث آخر رواه البخاري، ولذلك جعلناها بين قوسين، ورويا عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقها، قال يا رب أذكرا أم أنثى أسقي أم سعيد، في الرزق، في الأجل، فيكتب له ذلك في بطن أمه قال تعالى «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» ١٤ المبدعين المصورين المقتدرين الموجدين، وقد ذكرنا مراتب الخلق في الآية ٦٤ من سورة المؤمن والآية ١٤ من سورة الأحقاف المارتين فراجعهما. «ثُمَّ إِنَّكُمْ» أيها الناس «بَعْدَ ذلِكَ» الخلق وخروجكم من الرحم واستيفاء آجالكم في الدنيا «لَمَيِّتُونَ» ١٥ ومفارقون هذه الأرض التي نشأتم عليها فتدفنون فيها أو فيما فيها «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» بعد انقضاء أجلكم في البرزخ كما هو مقدر أزلا «تُبْعَثُونَ» ١٦ أحياء كما كنتم في الدنيا فتساقون إلى الوقف وتحشرون فيه فتحاسبون وتجازون على ما عملتموه الخير بأحسن منه والشر بمثله، فعلى العاقل أن يتهيأ للموت لأن أمرا لا تدري متى يغشاك يجب أن تستعد له قبل أن يفاجئك قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ» سموات سميت طرائق لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» ١٧ لاهين ولا ساهين عن أقوالهم وأفعالهم، بل كنا ولا نزال متيقظين لحفظ أعمالهم ونحصيها عليهم كما نحفظهم في حياتهم حتى يبلغوا أجلهم وما قدر إليهم في الدنيا ويستوفونه كاملا. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ» لحاجة البشر وزروعهم وأنعامهم ومنافعهم «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» وجعلناه ينابيع عيونا وأنهارا متنوعة، ونظير هذه الآية بالمعنى الآية ٢٢ من الزمر المارة «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ»
١٨ كقدرتنا على إنزاله وإسلاكه في الأرض والإعادة أهون من الابتداء لأنه إبداع على غير مثال سابق والإعادة إرجاع الشيء لأصله وهو سهل على كل مبدع «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها
346
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ»
١٩ شتاء وصيفا رطبا ويابسا «وَشَجَرَةً» أنشأناها لكم أيضا «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» جبل بفلسطين ملتف بالأشجار وكل ما هو كذلك يسمى سينا «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» الزيت لأن ثمرها الزيتون والدهن يعصر منه فكأنها نبتت به «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» ٢٠ أدام يصبغ الخبز بصفاره الصافي البديع، قالوا
إن أول شجرة ثبتت في الأرض بعد الطوفان هي الزيتون، وقالوا إنها تعيش ثلاثة آلاف سنة، ويدل على هذا تأخر إعطائها الثمر، والزيتون الموجود الآن بقضاء الزوية يسمّونه الروماني، ويقولون إنهم تلقوه عن أجدادهم الذين لا يعرفون تاريخ زرعه، وإذا أنعم الإنسان النظر فيه يصدق عقلا بأنه من زرع الرومان الذين كانوا في تلك المنطقة لما يرى من كبر أشجاره وتعميرها، ومن موقعه وأرضه والله أعلم.
قال تعالى بعد أن عدد هذه الصفات العشر التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان وبيّن أحوال خلقه ومآلهم وعودهم إلى خالقهم وأفهمهم بأنه كما كان أصل الإنسان من الماء فكذلك الأشجار أصلها من الماء، وبين ما أودعه في السموات والأرض من منافع إليه، ذكر ما خلقه أيضا لأجله فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها» إذ نخرج لكم منها لبنا خالصا، راجع الآية ٦٦ من سورة النحل المارة وقد بين فيها سبب تذكير الضمير هناك وتأنيثه هنا «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ» جليلة من ثماد ودثار وظلال ولباس وزينة ورياش «وَمِنْها تَأْكُلُونَ» ٢١ وتشربون أيضا، وقد حذف الشرب لدلالة الأكل عليهَ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
٣٢ برا وبحرا، وتقدم أيضا في الآية ٦ من سورة النحل ما يتعلق بهذا فراجعه، كما بينّا ما يتعلق بالسماوات في الآية ٤٥ من سورة الذاريات المارة، وسيأتي لها بحث في الآية ١٢ من سورة النبأ الآتية والآية ٢٥ من سورة النازعات والآية ٥ من سورة والشمس الآتيتين وفيها ما يرشدك إلى المواضع الأخرى. قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» ١٣ عقابه، تأكلون رزقه وتعبدون غيره «فَقالَ الْمَلَأُ» أشراف قومه لأن أكثر ما يصيب الضعفاء
347
بذنوب الأكابر لأنهم القادة والسادة وإليهم الأمر والنهي طلبا لما عندهم من المال والجاه، ثم فسر الملأ بقوله «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا» نوح وقومه الذين يدعونكم إلى عبادة ربهم «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» بدعوته لتكون الرياسة له عليكم وتكونوا أتباعا له «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ» أن يرسل أحدا لدعوة خلقة إلى عبادته كما يزعم نوح «لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً» يدعونهم إليه لا بشرا مثلنا «ما سَمِعْنا بِهذا» الذي يدعو إليه نوح «فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» ٢٤ ولم ينقل لنا عنهم أحد شيئا من هذا «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» فلا تسمعوا قوله أيها الناس اتركوه وشأنه «فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» ٢٥ موته أو إلى أن يتبين لكم حاله عند صحوه من جنونه فإذا أصر على قوله قتلناه، فلما سمع هذا منهم ويس من إيمانهم دعا ربه بإهلاكهم، فأهلكهم كما قدمنا في القصة الواردة في الآية ٢٦ من سورة نوح المارة. وفيها ما يرشدك إلى توضيحها في الآية ٣٥ من سورة هود، وقال تعالى حاكيا عن نبيه بما معناه بالآية ٣٧ من سورة الفرقان في ج ١ «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ٢٦ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا «وَوَحْيِنا» بكيفية صنع السفينة «فَإِذا جاءَ أَمْرُنا» بعذاب قومك غرقا «وَفارَ التَّنُّورُ» تقدم بيانه ومكانه وكيفية الغرق ومدته ومكان السفينة ومرساها في الآية المذكورة في سورة هود فما بعدها «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أصناف الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ» ومن آمن بك احملهم معك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ» فلا تحمله معك وهم زوجته واعلة وابنه كنعان كما مر أيضا هناك «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» ٢٧ جميعا حيث حق القول عليهم مر تفسير مثلها في الآية ٣٧ من سورة هود أيضا «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ٢٨ أنفسهم بكفرهم وعصيانهم «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» ٢٩ لأنا ضيوفك فهيئ لنا مكانا، من خيراتك، وكثر لنا نسلنا
348
فيه نكثر من عبادتك، وإنما وصفه بالأخيرية لأن المضيف يكرم أضيافه ويحتاط بأمرهم، ولكن لا يقدر أن يكلأهم في سائر أحوالهم ويدفع عنهم المكاره في تقلّباتهم مثل الإله القادر على ذلك وغيره «إِنَّ فِي ذلِكَ» إنجاء نوح ومن معه وإغراق قومه وابنه وزوجته «لَآياتٍ» عظيمات دالات على كمال القدرة وموجبات العظة والعبرة «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» ٣٠ الناس ومختبريهم وممتحنيهم بإرسال الرسل لتنظر هل يسمعون لهم او يعرضون عنهم، وهذا بالنسبة للخلق، وأما الخالق فهو عالم بذلك قبل كونه. وإن هنا مخففة من الثقيلة، واللام فيها بعدها اللام الفارقة بين النافية والمخففة، وما قيل إنها نافية فليس بشيء، لأن النافية لا يليها اللام والجملة حالية
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» ٣١ هم قوم عاد «فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ» هود عليه السلام فقال لهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» ٣٢ الله ولا تخافون أن يهلككم كما أهلك قوم نوح قبلكم «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ» وحضورهم لدينا بالموقف العظيم وجحدوا الحساب والعقاب «وَأَتْرَفْناهُمْ» نعّمناهم ووسعنا عليهم «فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» وبلغناهم آجالهم وما قدر لهم فيها، ومقول القول «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ» ٣٣ منه حذف من الثاني بدلالة الأول يريدون أن الرسل لا تكون من البشر بل من الملائكة كما قال من قبلهم إذ تشابهت قلوبهم، فكل ما نطق به الأوائل تدرج إلى الأواخر فتكلموا به، ولهذا قالوا الكفر ملّة واحدة، أي من حيث الأصول، وقال أيضا بعضهم لبعض «وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» ٣٤ مكانتكم وسطوتكم، وهذا هو المانع الحقيقي لهم ولغيرهم من الإيمان بالله ورسله، أعماهم الله أنفوا من الانقياد إلى من هو مثلهم في الأصل وقد شرفه الله بالرسالة وعبدوا أعجز منهم لأجل الدنيا، ولو اهتدوا بهدى أنبيائهم لربحوا الدنيا والآخرة، لأن الأنبياء لا يريدون الرياسة التي هي من شأنهم، ولم يقصدوا بدعوتهم التفوق عليهم،
وقال أيضا بعضهم لبعض غافلين عن كيفية إيجادهم «أَيَعِدُكُمْ» هذا الرسول
349
«أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» ٣٥ من قبوركم أحياء كما كنتم في الدنيا «هَيْهاتَ هَيْهاتَ» أي بعد بعدا بعيدا «لِما تُوعَدُونَ» ٣٦ من البعث بعد الموت وإكسابكم حياة ثانية، خذلهم الله نسوا خلقهم من العدم على طريقة الإبداع وجحدوا إعادتهم لحالتهم الأولى وقالوا عتوا وعنادا «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» لا حياة بعدها أبدا «نَمُوتُ وَنَحْيا» أي أيعقل أن نموت ثم نحيا؟ كلا لا صحة لهذا، والمعنى على ما ذكره المفسرون نحيا ونموت على أن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، للعلم بأن الإحياء أولا ثم الإماتة، وأرى أن الأول أولى لقولهم «وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» ٣٧ بعد موتنا أبدا «إِنْ هُوَ» وقالوا أيضا ما هذا الذي يدعوكم إلى هذه الدعوة المبتدعة «إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» بقوله بوجود حياة أخرى «وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» ٣٨ بمصدقين اختلاقه وافتراءه ولا نسمع لقوله، ولما أيس منهم دعى عليهم «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» ٣٩ فأجاب الله دعاءه «قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» ٤٠ على تكذيبهم لك «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ» من السيد جبريل عليه السلام فتصدعت لهولها قلوبهم فأهلكوا جميعا، قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
قال تعالى «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» بتخفيف الثاء أي يابسين كالأوراق والعيدان التي يجرفها السيل وبالتشديد أيضا، قال امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السيل والغثّاء فلكة مغزل
والمجيمر جبل من جبال بني أسد «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ٤١ أي هلاكا، من المصادر المنصوبة بأفعال لا ينطق بها ولا تكتب ولا يستعمل إظهارها. «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ» ٤٢ أيضا وأرسلنا إليهم رسلا فكذبوهم، وهذه كالتسلية لحضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم لئلا يضيق صدره من تكذيب قومه ليتأسى بمن قبله وقبلهم، وكل من هذه القرون أهلكت بأجلها المعين لها في علم الله المقدر على تكذيبهم لرسلهم أيضا، لقوله تعالى «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» المقدر
350
لإهلاكها «وَما يَسْتَأْخِرُونَ» ٤٣ عنه لحظة واحدة «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا» واحدا بعد واحد متتابعين غير متواصلين إذ جعلنا بين كل رسول وآخر فترة، بأن كان إرسال كل رسول متأخرا عن إنشاء قرن مخصوص به كما يدل عليه قوله «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً» بالإهلاك «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» لمن بعدهم يتسامرون بشأنهم «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ٤٤ بالله ولا يصدقون رسله «ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» ٤٥ واضح بقوة وحجة وبرهان عظيم
«إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا» عليهما وأنقوا منهما وتعاظموا «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» ٤٦ بزعمهم على غيرهم وذى سلطان أكبر من غيرهم «فَقالُوا» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» ٤٧ أي كيف يكون ذلك وهل يتبع الأعلى الأدنى منه؟ كلا، وهذه الجملة حالية، وكان عندهم أن كل من دان لملك فهو عابد له، وعند العرب كذلك «فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» ٤٨ غرقا، وتقدمت قصص هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم، وكيفية دعوتهم وإهلاكهم في الآية ٥٩ فما بعدها من سورة الأعراف ج ١ فراجعها، «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ» أي قومه «يَهْتَدُونَ» ٤٩ فمنم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» دالة على قدرتنا لأنا أوجدناه من غير أب، ولم يقل آيتين للسبب الذي أشرنا إليه في الآية ٩١ من سورة الأنبياء المارة، ولما عرب هو وأمه إلى مصر خشية تسلط أعدائه عليه حفظناهما منهم «وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ» مكان مرتفع في مصر قرب النيل.
مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر الله به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية:
وذلك أنه عليه السلام بعد أن أتت به أمه من بيت لحم محل ولادته إلى قريتها الناصرة وأظهر الله له المعجزات، كان الجبار هيدروس أمر بقتل الأطفال الذين ولدوا في بيت لحم، لما أخبر أن منهم من يصير سببا لخراب ملكه، كما فعل قبله
351
النمروذ وفرعون، وعلمت أمه أنه يريد قتله انتدبت الرجل الصالح يوسف النجار وهربها إلى مصر. وليس المراد بهذه الربوة بيت لحم إذ لا ماء جار فيها كما أشرنا إليه في الآية ٢٤ من سورة مريم في ج ١، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى (وَآوَيْناهُما) إلخ يعني لمصر، لأنها خزائن الأرض كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض) الآية ٥٥ من سورته المارة، ففعل فأغات الناس بمصر وخزائنها. ولم يذكر الله تعالى مدينة بعينها بمدح إلا مكة ومصر، وهذا هو الصحيح، والله أعلم. إذ ليس المراد هنا محل الولادة، بل محل الهجرة، لأن الله تعالى أخبر في هذه الآية بأنه هو وأمه، وأنها لما ذهبت به إلى بيت لحم لم يكن مولودا حتى ينوه به وبقي في مصر حتى بلغ أشده أتى به وأمه إلى الأرض المقدسة ليبث دعوته في قريته الناصرة وما حولها. قالوا إن قرية الناصرة وصخرة بيت المقدس أقرب مواقع الأرض المقدسة من السماء بثمانية عشر ميلا، ومن هذه القربة اشتق اسم النصارى «ذاتِ قَرارٍ» من الأرض «وَمَعِينٍ» ٥٠ ماء جار هو نهر النيل، ومن ظن أن هذه الآية تدل على محل الولادة لا على محل الهجرة، فسر (السرى) في سورة مريم بجدول ماء من حيث لا جدول ماء هناك كما ذكرناه فيها، وإنما هذا المعين في المحل الذي آواهما إليه كما أشرنا إليه أعلاه. هذا ولما أنهى ما قصه الله على رسوله من أخبار بعض الأنبياء وأممهم، شرع يخاطبه ضمن الرسل كافة بأن يداوم على ما هو عليه بقوله «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً» لأنفسكم وأممكم والناس أجمعين، وهم لا شك يعملون ذلك كله، وإنما المراد أمرهم بالدوام على ما هم عليه، وعدم الالتفات لتكذيب أقوامهم ومخالفتهم لهم «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» ٥١ ويجوز أن يراد بهذا الخطاب أقوامهم أيضا لما فيه من معنى التحذير، على أن الخطاب للرسل خطاب لأقوامهم. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) الآية، وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل
352
يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ بصره إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب؟. وذلك لأن أكل الخلال من شروط الاستجابة التي لا بد منها، كما سيأتي في الآية ١٨٦ من سورة البقرة في ج ٣، فكيف إذا كان كلّه حراما أيستجاب له؟ كلا ثم كلا.
إلا أن يشاء الله القائل «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» تقدم مثلها في الآية ٩٢ من سورة الأنبياء المارة، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ١٣ من سورة الشورى المارة، وقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية ١٦٣ من سورة النساء في ج ٣، فيفهم من هذا ومما قدمناه في آية الأنبياء، أن الشرائع كلها من حيث أصول الإيمان كالاعتراف بالوحدانية لله وإرسال الرسل والمعاد واحدة لا فرق بينها أصلا، وهو كذلك، لأن الاختلاف الحاصل عبارة عما يتعلق في هذه الأصول مما هو رحمة وتخفيف للأمة بما يوافق العصور وأهلها، وفي الفروع المتعلقة بأنواع العبادات المالية والبدنية والمشتركة، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) الآية ١٠٧ من البقرة في ج ٣، ومن هنا أخذت قاعدة: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، ومنها قاعدة تعديل القوانين الموقتة بما يوافق المصلحة للدولة والأمة، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ١٣ من سورة الشورى فراجعها. «وَأَنَا رَبُّكُمْ» الإله الواحد الذي لا رب غيره «فَاتَّقُونِ» ٥٢ لا تخالفوا أمري وأمر النبي المرسل إليكم من قبلي إذ يبلغكم كلامي الذي هو من حيث الأس واحد أيضا، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً» قطعا مختلفة وأديانا متفرقة وصار «كُلُّ حِزْبٍ» منهم «بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» ٥٣ لزعمهم أن ما هم عليه هو الحق، وما سواء باطل، لأنهم لم يتفقوا على ما أمروا به من قبل الرسل مما هو متعلق بأمر الدين، فتفرقوا وتعادوا من أجل هذا التحزب، وهكذا مصير كل أمة تتحزّب وتتفرق، ولهذا أمر الرسول بجمع الكلمة، وقال: الجماعة رحمة والفرقة عذاب، راجع الآية ٣٠ من سورة المؤمن المارة، لأن الدين في الأصل كله واحد كما أن الرب واحد، وما يأتيهم من قبل الرسل واحد، لأنه من الرب
353
الواحد، وهذه الآية تشعر بذمّهم لأنهم آمنوا ببعض ما في كتبهم وكفروا ببعض، فسببوا تشتيت الكلمة وانحاز كل منهم إلى جهة ترمي بخلاف ما عليه الحزب الآخر.
وتؤذن هذه الآيات بأن قوم محمد صلّى الله عليه وسلم تقولوا فيه الأقاويل، واختلفوا فيما بينهم بشأنه وشأن كنابه وربه عز وجل، فاتبعوا الباطل وعملوا عن الحق الذي جاءهم به.
وإذا كان هذا شأنهم يا حبيبي «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ» غفلتهم وجهلهم وعماهم «حَتَّى حِينٍ» ٥٤ انقضاء الأجل المضروب لهم «أَيَحْسَبُونَ» المؤمنون من قومك «أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ» نمنح به هؤلاء الكفرة «مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» ٥٥ في هذه الدنيا هو خير لهم؟ كلا، قال تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الآية ٥٥ من سورة التوبة ج ٣، وإذا كان هذا شأنهم فاعلم يا سيد المرسلين أنا نحن إله الكل وإنّا كنا ولا زلنا
«نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لا لرضانا عنهم بل لنستدرجهم بها ولينهمكوا في معاصيهم ونزداد سخطا عليهم (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الآية ١٧٨ من آل عمران في ج ٣ «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» ٥٦ أن ذلك لشرهم لأنهم أشباه البهائم يصرفون وجودهم لشهواتهم ولا يتأملون فيما ينفعهم ويضرهم، والاستدراك في قوله أيحسبون أي لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتدبروا عاقبة أمرهم ويعملوا ما ندر لهم من الخير، هل هو استدراج أو مسارعة في الخير؟ وهذه الآية على حدّ قوله تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الآية المكررة في سورة التوبة من ج ٣، وهي حجة على القائلين أن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح للعبد، لأنها تصرح أن هذا العمل الذي أراده الله لهؤلاء ليس بأصلح لهم في دينهم؟
وقد ألمعنا لهذه الآية في الآية ١٩ من سورة الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك لمراجعة المواضع المفصل بها هذا البحث فراجعها، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» ٥٧ خائفون وجلون «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» ٥٨ إيمانا تاما محصنا لا يجادلون فيها ولا يشكون ولا يحصل لهم ريب أو مرية في شيء منها «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» ٥٩ به أحدا ولا شيئا «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ» يفعلون «ما آتَوْا» من الأعمال «وَقُلُوبُهُمْ
354
وَجِلَةٌ»
خائفة من الله أن يعذبهم عليها لأنهم موقنون «أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» ٦٠ وأنه يجازيهم على أفعالهم فتبقى قلوبهم مشغولة بخوف الله من تلك الأفعال التي علموا أنها غير مرضية، وشكهم في عدم قبول أعمالهم الصالحة وشوبها بالرياء، وخوفهم هذا ندم وتوبة، فلا يبعد أن يتجاوز عنهم ولا يعاقبهم عليها بمنه وفضله «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحسنة لا المتقدمون الموسومون بضدها هم «يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ» الأعمال الصالحة التي تعود عليهم بالخير من ربهم «وَهُمْ لَها سابِقُونَ» ٦١ لأنها توصلهم إلى الجنة مقر أهل الخير، ولهذا فإنهم مبادرون لها «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» لأن الدّين الذي كلفتم به لا حرج به عليكم، وإنما تعملون منه ما تستطيعون فمن لم يكن ذا مال لا يكلف بالصدقة والحج، والعاجز لا يكلف بالجهاد والصوم، ومن لا يقدر على القيام في الصلاة فيصلي قاعدا أو مضطجعا، ومن كان في سفر فله أن يفطر في الصوم ويقصر في الصلاة وأركان الدين، عبارة عن هذه لا غير، وكلها لا حرج فيها، أما أصل الدين وهو كلمة الشهادة والاعتراف بالرسل والمعاد فلا عسر فيها على أحد البتة، لأنها عبارة عن النطق باللسان والإيقان في القلب، وإذا عجز عن النطق اكتفى بالإيقان القلبي، والإشارة من الأخرس كافية، وقد شرع الله تعالى الرخص لعباده فيما يأتون ويذرون، راجع الآية ١٠٥ من سورة النحل المارة «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» بينا فيه الأعمال الصالحة الخالصة من المشوبة والقادر من العاجز والمكلّف من غيره بيانا كافيا شافيا، فلا حجة لكم أيها الناس بعده، وعندنا كتاب مثبت فيه ما يقع منكم من المناقب والمثالب، وسينال ما فيه من ثواب وعقاب «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ٦٢ شيئا فلا يزاد في عمل عامل ولا ينقص منه، ولا يعاقب العاجز فيما يسبقه به القادر من الأعمال الحسنة. قال تعالى «بَلْ قُلُوبُهُمْ» هؤلاء الكفرة «فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» الكتاب المنزل إليك يا سيد الرسل غافلون عما تتلوه عليهم من أحكامه جاهلون معناه عمون عن مغزاه، فهم عن كتاب أعمالهم أغفل وأجهل وأعمه «وَلَهُمْ أَعْمالٌ» أخر خبيثة غير ما ذكرناه «مِنْ دُونِ ذلِكَ» الذي ذكر
355
وأسفل منه وهي فنون كفرهم ومعاصيهم العظيمة كطعنهم بالقرآن والنبوة وإنكارهم البعث والسخرية بنا بجعلهم لنا شريكا وولدا وصاحبة، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفر والشك وان ذلك إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى أن لهم أعمالا دون الكفر. وأخرج ابن جرير عن قتادة إن ذلك كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنين من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون، أي أهذا وما وصفوا به مما وقع في حيّز الصلاة فما بعدها، وهذا غاية في الذم «هُمْ لَها عامِلُونَ» ٦٣ معتادون عليها لا يتركونها لسابق شقائهم، وهم لا يزالون على أحوالهم القبيحة لا يتذكرون عاقبة أمرهم «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ» المترفون والرؤساء والأغنياء والقادة «يَجْأَرُونَ» ٦٤ يستغيثون ويضجّون جزعا، فإذا ذاك يحسون بما يراد بهم ويقال لهم «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ» ولا تجزعوا وتضجروا فإنه لا ينفعكم، لأنكم لم تعملوا خيرا لتجدوا من ينصركم لأجله «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» ٦٥ لعدم تقديمكم لنا عملا يوجب نصرتكم، ولم تطلبوا النّصر منا في الدنيا لنغيثكم ونرحمكم في هذه الدار، وإذ لم تفعلوا فاطلبوها من أوثانكم الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم
«قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» من قبل رسلي أنه لا إله غيري فاعبدوني واسمعوا قول رسلي، فأبيتم وأرادت رسلنا تقديمكم إلينا بالأعمال الصالحة «فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ» ٦٦ ترجعون القهقرى لا تلتفتون إليهم ولا إلى ما جاءوكم به، والنكوص المشي إلا الوراء وهي أقبح مشية، إذ لا يرى ما ورائه، الذي هو أمامه، والمعنى أنكم كنتم تتأخرون عن قبول الإيمان حال كونكم «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ» متعظمين بالبيت الحرام، لأنكم سكانه وأهله، وذلك أنهم كانوا يقولون نحن سكان بيت الله وجيرانه وأهل حرمه، لا يظهر علينا أحد، ولا نخاف من أحد، ولو كانوا لم يستكبروا وأطاعوا وأذعنوا لمن أرسلنا إليهم لما خافوا، ولكنهم استكبروا وكفروا فلم ينفعهم البيت، لأنه قد يشفع لمن آمن بربه وصدق رسله. هذا وعود الضمير إلى غير مذكور جائز إذا كان مشهورا متعارفا راجع (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية ٣٢ من
356
سورة ص ج ١ فإن الضمير يعود في الأول للقرآن، وفي الثاني للشمس لمعلوميتهما مع عدم سبق ذكرهما استغناء بالمشهور المتعارف دون حاجة للتبينة إليهما. وقيل إن الضمير في هذه الآية يعود إلى القرآن المشتمل على الآيات الوارد ذكرها في قوله (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أول الآية ٦٦ المارة، والأول أظهر، وهو مروي عن ابن عباس. وان افتخارهم بالبيت وترنمهم بأنهم خدامه وقوامه، وأنهم الآمنون به من الناس، والناس يخافون من غيرهم أشهر من أن يذكر. وقال بعض المفسرين بعود الضمير لحضرة الرسول وليس بشيء، لأنهم لا يعترفون به، فكيف يعتزون به ويستكبرون، ولو كان مرادا هو أو القرآن لقالوا عنه لا به والله أعلم. ولأنهم نافرون من الله ورسوله وكل منهم يمضي نهاره وليله «سامِراً» لأنهم كانوا طيلة أوقاتهم يسمرون بالطعن في آيات الله ورسوله ويتحازرون عليها أهي سحر أم شعر أم كهانة إلى غير ذلك. والسمر يطلق على حديث الليل فقط، ولفظ سامر جاء حالا ثانية بعد مستكبرين «تَهْجُرُونَ» ٦٧ الأيمان بها وبمن جاءكم بها من هجر إذا هذر وتكلم بما لا يعلم، أو ترك وأعرض، أو من أهجر إذا أفحش بالقول، وخير الثلاث الوسط، لأنه أكثر مناسبة بالمعنى.
مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب:
قال تعالى «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ» الذي ذكر في تلك الآيات ويستدلوا بها على صدق الذي جاءهم بها؟ والاستفهام لإنكار الواقع واستقباحه، أي فعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر لأنهم لم يتدبروا معاني تلك الآيات المنزلة لخيرهم، ولم يعلموا ما فيها من الإعجاز حتى يؤمنوا بأنها الحق من ربهم. «أَمْ» منقطعة بمعنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى توبيخ آخر، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي بل «جاءَهُمْ» من الآيات «ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» ٦٨ ولذلك استبعدوها وأنكروها فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال، مع أن إرسال الرسل وإنزال الآيات على البشر سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر، وان ما جاءهم به محمد من جنس ما جاء به الأنبياء قبله لأممهم. ثم انتقل إلى توبيخ
357
ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ» وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة «فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» ٦٩ أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة. وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار، ولولا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي الله عنها بحضور رؤساء قريش، إذ قال فيها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا خدمة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوازن يرجل إلا رجح به، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقال وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ.
ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها. قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ» أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما، وإنما «جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته، وقد اشتهر عندهم بالأمين «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ٧٠ لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية ١٤ من سورة فصلت المارة، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» فيما يعتقدون من الشرك وغيره «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية ٢٢ من
358
سورة الأنبياء المارة «وَمَنْ فِيهِنَّ» لفسد أيضا، وقد خص العقلاء لأن غيرهم تبع لهم، وهذا أيضا انتقال التوبيخ خامس. قال تعالى «بَلْ» لم نتّبع أهواءهم ولكن «أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ» قرآنهم على يد رسولهم، وقد أضافه إليهم لأنه منزل لهم «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ» المختص بهم «مُعْرِضُونَ» ٧١ وهو فخرهم وشرفهم، قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الآية ٤٤ من الزخرف المارة، وفيها معنى الاستفهام، أي المعرضون عن ذكرهم الذي آتيناه إباهم وهو مجدهم وعزهم، كيف يكون ذلك منهم بل يجب أن يتمسكوا به ويعضوا عليه بالنواجذ، لا أن يعرضوا عنه، وهذا انتقال سابع لتوبيخ آخر. قال تعالى «أَمْ» متعلق بقوله (أم يقولون به جنّة) أي يزعمون أنك يا محمد «تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً» أجرا وجعلا على أداء الرسالة بمقابل نصحك لهم وإرشادهم إلى الحق ولذلك لا يؤمنون بك، كلا لا نطلب منهم شيئا على أداء وحي ربك «فَخَراجُ رَبِّكَ» يا محمد أي رزقه «خَيْرٌ» لك من الدنيا، وثوابه في الآخرة أخير مما يتصورونه لسعته ودوامه وعدم وجود المنّة فيه. والخراج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غير ذلك، وهو في الأصل ضريبة الأراضي المعطاة إلى الدول، ففيه إشعار بالكثرة واللزوم بالنسبة إليه تعالى، ولذلك عبّر الله به عنه، وقرىء خرجا وهما في المعنى سواء «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ٧٢ لك في الدنيا والآخرة «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ» يا سيد الرسل بلا مقابل «إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ٧٣ بوصلهم إلى الجنة دائمة النعيم «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» وينكرون البعث والحساب والعقاب والثواب، كقومك وأمثالهم لا يميلون إلى دعوتك السامية المستقيمة لأنهم «عَنِ الصِّراطِ» المؤدي الدين الحق المنتهي لرضاء الله القائد لجنانه «لَناكِبُونَ» ٧٤ عادلون عنه مائلون إلى الاعوجاج «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا» لتمادوا لأن اللجاج التناهي في الخصومة والتمادي في العناد أي لبقوا «فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» ٧٥ لم ينزعوا عنه ولم يتركوه، والعمه عمى القلب والتردد في الأمر والحيرة في الهوى، كمن يضل عن الطريق لا يدري أين يتوجه، فلا رأي له ولا دراية.
359
مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات، واعترافهم بقدرة الله وإصرارهم على عبادة غيره، ومتعلقات برهان التمانع:
قال تعالى «وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ» قريشا قوم محمد «بِالْعَذابِ» القحط ليرجعوا إلى الله وهو أشد عذاب الدنيا «فَمَا اسْتَكانُوا» ما خضعوا ولا لجأوا «لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» ٧٦ إليه ليكشفه عنهم بل أصروا على كفرهم.
وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة في الحرم الشريف فألقى عليه بعض المشركين سلى جزور، فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فأصابهم القحط، فقال أبو سفيان تزعم يا محمد أنك بعثت رحمة للعالمين، فقال بلى، فقال أنشدك الله والرحم، فإن قومك أكلت القد والعظام وأنهكهم الضر، فادع الله أن يكشف عنهم، فدعا فأنزل الله هذه الآية استشهادا على عدم خضوعهم وعلى دوامهم على حالتهم لقوله تعالى (وَما يَتَضَرَّعُونَ) وهذا القحط غير القحط الذي وقع بمكة بعد الهجرة كما ذكره السيد برهان الدين الحلبي في سيرته، وهذا غير الجوع الذي أصابهم بسبب منع ثمامة بن أثال الحنفي الميرة عنهم حينما جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها صلّى الله عليه وسلم إلى بني بكر بن كلاب، فأسلم بعد أن امتنع ثلاثة أيام، ثم خرج معتمرا فلما قدم بطن مكة لبّى، وهو أول من دخلها ملبيا. ومن هنا قال الحنفي:
ومنا الذي لبّى بمكّة معلنا برغم أبى سفيان بالأشهر الحرم
فأخذته قريش وأتبوه على تغيير دينه، فقال لهم اتبعت خير دين، دين محمد الأمين صلّى الله عليه وسلم. ثم قال والله لا يصلكم حبة من اليمامة حتى يأذن رسول الله، ثم منع الميرة عن أهل مكة. فكتبت قريش إلى رسول الله وهو في المدينة تستغيث به مما أصابها من الجوع، فأذن لثمامة أن يمتاروا، وهذه الحادثة قبل الفتح، وعلى هذا يكون القحط أصاب قريشا ثلاث مرات والله أعلم. قال تعالى «حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ» فيما يستقبل من الزمن وهو إنزال السيف فيهم وأمر الرسول بقتالهم وقسرهم وإجلائهم «إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» ٧٧ آيسون خائبون متحيّرون. وفي هذه الآية دلالة على قرب الهجرة وفتح الباب
360
الذي سيكون بعدها، إذ أشار الله عنها ثلاث مرات، وسيأتي الإذن بها في ذكرها رابعا كما ستعلمه بعد. قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ولكنكم «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» ٧٨ الله على نعمه ولم تصرفوها لما خلقت لها ولم تقدروها حق قدرها ولم تؤدوا شكرها لخالقها، وإذ نفى عنهم قليل الشكر، فالكثير منتف من باب أولى. ولفظ ما يدل على أنهم يشكرون شكرا لا يذكر لقلته «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ» خلقكم وبثكم «فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» ٧٩ يوم القيامة للحساب والجزاء «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ» لا لغيره «اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» في الزيادة والنقص، والظلمة والضياء، والحر والقر، ونعمة الاستراحة في الأول وطلب العمل في الثاني «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ٨٠ صنائع الله ومنافعه التي أسداها إليكم فتستدلوا بها على عظمته، وتشكروه حق شكره، وتؤمنوا بالله ورسوله «بَلْ قالُوا» وهذا انتقال ثمن، أي قال هؤلاء الكفرة مع توالي نعمنا عليهم «مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ» ٨١ وهو أي قول الأقدمين «قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» ٨٢ بعد ذلك، استفهام إنكار وتعجب معرضين عن التفكر والتدبر جانحين عن الاتعاظ والاعتبار قائلين كيف يكون هذا؟ وإنما «لَقَدْ وُعِدْنا» بالحياة بعد الموت «نَحْنُ» من قبلك يا محمد «وَآباؤُنا» من قبل وعدوا من قبل أمثالك «هذا» الوعد نفسه «مِنْ قَبْلُ» أن توعدنا أنت، وإذ لم نقف له على حقيقة فنقول لك «إِنْ هذا» الوعد ما هو بالوعد الحق وما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ٨٣ وخرافاتهم الواهية لا غير، ومن هنا يقال في ضرب المثل حديث خرافة. ونظير هذه الآية الآية ٦٧ من سورة النمل في ج ١. وخرافة هذا قيل إنه استهوته الجن سنين فلما تركته صار يحدث قومه بما رأى من عجائبهم بما لا تصدقه عقولهم، ولهذا صاروا كلما سمعوا شيئا لا يعقلونه يقولون حديث خرافة. هذا وبالنظر لظاهر الآية قد يفهم أنه جاء لآبائهم رسل وردوا عليهم بما ردوا به على محمد مع أنه لم يأتهم رسول ما بعد إسماعيل الذي لم يره آباؤهم، وإنما قالوا ما قالوا بالنسبة لما سمعوه من أخبار الأمم الماضية المكررة
361
سيرهم لديهم، لأن شأنهم في الأخذ والرّد شأنهم. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل على طريق الاستفهام لقومك «لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها» من الخلائق والنبات والمعادن والمياه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ٨٤ وتدعون العلم؟ فإنهم لا شك «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ» لهم بعد إقرارهم هذا «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ٨٥ أنكم من جملة من عليها، وإنكم مملوكون لله، وأنه قادر على إبادتها كما خلقها، فتعلمون أنه قادر على إعادتكم بعد موتكم فتتعظون وتؤمنون
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ٨٦ فإنهم مضطرون وملجئون بأن «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» مربوبة ومملوكة «قُلْ» لهم بعد اعترافهم «أَفَلا تَتَّقُونَ» ٨٧ خالقها أن يسلط عليكم من فيها من الملائكة وما فيها من الصواعق والبرق والبرد، فيهلككم دفعة واحدة، لعبادتكم غيره، أفلا تستدلون بأن من يقدر على خلق ذلك يقدر على إعادة الأموات أحياء «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك على طريق التعجيز ثالثا «مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» في السموات والأرض من نام وغيره «وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» يؤمن كل أحد من خوفه ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه ولا يخيف من آمنه، وهو يغيث من استجار به، ويكشف ضره إن شاء «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ٨٨ أحدا يقدر على مثل هذا، فاذكروه لنا أيها الناس، وانهم حتما «سَيَقُولُونَ» ان هذه الخصوصية «لِلَّهِ» وحده فقط «قُلْ» لهم إذا كنتم تعترفون بذلك كله «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» ٨٩ وتخدعون وكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل، وما ذلك إلا لأنكم لا تنتفعون بحواسكم إذ لا تحسنون استعمالها والوقوف على ما تدل عليه، ولا تعلمون إلا مظاهر الأشياء.
وقرىء في الآيتين الأخيرتين (الله) بلا حرف الجر وهي قراءة على الظاهر، وباللام على المعني، وكلاهما جائز، فلو قيل لك من صاحب هذه الدار فقلت زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قلت لزيد كان على المعنى، لأن معنى من صاحب هذه الدار لمن هي فيصح المعنى، وقد أنشد الزجاج على الأول:
وقال السائلون لمن حضرتم فقال المخبرون لهم وزير
وأنشد صاحب المطالع للثاني:
362
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد
وتشير هذه الآيات الثلاث لتقريعهم وتوبيخهم على عبادة غير الله المالك لهذه الأشياء المتصرف بها القادر على كل شيء، وتنبيه على أن الفاعل لتلك قادر على إحيائهم بعد موتهم، وأن إنكارهم وجحودهم ما هو إلا محض عناد وعتو بعد اعترافهم بأن الله تعالى الخالق المالك للسموات والأرض ومن فيهما وعليهما وتحتها وفوقهما.
قال تعالى «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ» هذا إضراب عن قولهم أن الإخبار بإيجاد البعث من أساطير الأولين، أي إننا يا سيد الرسل لم نأتهم بما فاهوا به، وإنما أتيناهم بالصدق وأخبرناهم بما أخبرناهم بالحق «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» ٩٠ في جحودهم ونسبة الولد والصاحبة والشريك، ولهذا أكد فريتهم هذه بقوله «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ» فكيف ينسبون إليه الملائكة بأنها بناته كما نسب اليهود والنصارى بنوة عزيز والمسيح إليه من تلقاء أنفسهم أيضا، تعالى عن ذلك، ثم أكد الجهة الأخرى بقوله «وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ» آخر قط فهو المتفرد بتدبير ملكه المبرأ عن المعين، فكيف ينسبون له الشريك؟ وقد قال إنما هو إله واحد، وقال وأمتكم واحدة، ونهى عن التفرق في الدين، ونهى عن الاختلاف فيما جاءت به الرسل، لأن طريقتهم واحدة، وأصل الدين الذي أمروا باتباعه واحد، والمرسل والشارع الحقيقي هو الواحد واحد، راجع الآية ٥٢ المارة والآية ٥٩ من سورة الأنعام المارة وما ترشدك إليه والآية ٥٩ من سورة الأنبياء المارة أيضا، ثم علل ذلك بقوله جل قوله «إِذاً» لو كان كما يزعمون من وجود الشريك «لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ» ليختص به منفردا عن الآخر ولا يشركه فيه، ولا يرضى الانقياد لغيره، ولامتاز ملك كل منهما عن الآخر ومنعه من الاستيلاء عليه «وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» في الخلق والقدرة والعظمة وغالبه عليها ليكون أكبر منه ولبسط سلطانه عليه كما يفعل ملوك الدنيا، وإذ لم ير شيئا من ذلك ولا أثر للتمايز والتغالب والتعاظم في الملك مما يقع لملوك الدنيا. فاعلموا أيها الناس أنما هو إله واحد بيده ملكوت كل شيء في السماء والأرض، راجع الآية ٢٢ من الأنبياء المارة في برهان التمانع، ثم نزّه ذاته الطاهرة عن تقولاتهم هذه كلها بقوله
363
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» ٩١ الحضرة الإلهية المقدسة مما هو من شأن البشر. وهذه الآية في معرض الجواب لمن حاجّ حضرة الرسول من المشركين، فلا محل للقول بأن (إذا) لا تدخل إلا على كلام مشتمل على الجواب والجزاء، لأن قوله لذهب وقع جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، لأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله (وما كان معه من إله) تأمل. ثم وصف الله نفسه المقدسة عن تفوهاتهم بقوله «عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» ٩٢ وتبرأ عما لا يليق به، ويا خاتم الرسل «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي» في حياتي الدنيا «ما يُوعَدُونَ» ٩٣ به من العذاب الذي ستنزله عليهم يا «رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ٩٤ منهم فتعذبني بعذابهم، أي إذا أردت أن توقع بهم عذابك فنجني من بينهم كما نجيت أنبياءك ومن آمن بهم من بين أقوامهم الكافرين، وهذا إظهار للعبودية، لأن النبي له أن يسأل ربه ما علم أنه يفعله ويستغيث به مما علم أنه لا يفعله تواضعا، قال تعالى مجيبا لنبيّه «وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» ٩٥ وهو جواب أيضا على إنكارهم موعد نزول العذاب وضحكم منه
ولكن يا سيد الرسل «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» بالخصلة التي هي أرفق وأوفق، وذلك بأن تصبر على أذاهم وتعرض عن معاداتهم وتصفح عن طلب تعذيبهم الآن، ومفعول ادفع «السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» ٩٦ به ألوهيتنا وينعتون نبوّتنا، وهذه الآية ليست منسوخة بآية السيف الآتية بعد كما قاله بعض المفسرين، لأن المداراة مطلوبة في مثل هذا، ومحثوث عليها في كل الأحوال، ما لم تثلم بالدين، لا سيما إذا كان هناك أمل مرتقب بقبولهم النصح ورجوعهم عن الغي، أي اجعل يا محمد جواب إساءتهم لك إحسانا، ولا يهمنّك شأنهم. ولما أن أشار الله تعالى لنبيه بأن يقابل إساءتهم بالإحسان وهو بمثابة النهي عن مقابلة السيئة بالسيئة، أتبعه بما يقوي لبّه، وزيادة على ذلك الالتجاء إليه بقوله عزّ قوله «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ» ٩٧ نزعاتهم ووساوسهم، لأنهم يحثون الناس على السيئات والهمز الدفع والتحريك كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، أي أن الشيطان يهمز
364
الناس على فعل الشر كما تهمز الراضة الدواب حثالها على الشيء. وقيل أيضا يا سيد الرسل «وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» ٩٨ أمرا من أموري كي لا تساق نفسي إلا إلى الخير كما خلقت له، وهذا إخبار من الله بأن يكف عن قومه ويصبر على أذاهم ويديم لهم النصح حتى حين الوقت المقدر لإيمان من يؤمن وإصرار من يصر.
ثم أخبره بما يكون مصيرهم فقال «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» ٩٩ إلى الدنيا وقد جمع الضمير لما هو شائع لدى العرب أن يخاطبوا الواحد بلفظ الجمع تعظيما وتبجيلا كيف والمخاطب هو رب المخاطبين. وعلى هذا قوله:
ألا فارحموني يا آل محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ الماء البارد، والبرد النوم. ثم علل طلبه بقوله «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» الفرصة بالدنيا وضيعتها فأعدني يا رب إلى المحل الذي تركته في الدنيا لأتدارك ما فات مني، وهيهات، قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى ان رجع ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأ عمل في دنياه ما يتمناه الكافر إذا نزل به العذاب. قال تعالى «كَلَّا» لا سبيل لك للرجوع. وكلا أداة زجر وردع، راجع بحثها مفصلا في الآية ١٤ من سورة الشعراء في ج ١، وهذه الكلمة التي يطلب فيها الرجعة «إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» لا محالة، وكل كافر سيقولها في ذلك الوقت بسبب استيلاء الحسرة والندم على أمثالهم، ولكنهم لا يجابون، لأن الوقت ليس بوقت إجابة، ولو أجابهم لما بقي للنار نصيب من أحد، لأن كل أهلها يقولها، وكيف يرجعون إلى الدنيا «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» حاجز حائل بينهم وبين الرجوع، باق مستقر «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ١٠٠ من قبورهم، وليس معنى الغاية أنهم يرجعون إلى الدنيا بعد البعث، وإنما هو إقناط كلي للعلم أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا، وإنما مصيرهم بعده إلى الآخرة «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ» تقدم ما فيه في الآية ٦٧ من سورة الزمر المارة.
365
مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:
«فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ» بل فيه يفر المرء من أخيه وابنه وأبيه وصاحبته، ولا ينفع فية أحد أحدا إلا من يؤهله الله للشفاعة فإنه يشفع لمن يشاء «وَلا يَتَساءَلُونَ» ١٠١ سؤال تواصل وتوادد وتحابب وتخالل كما كانوا في الدنيا لأن كلّا مشغول بنفسه. وقد يقع سؤال عتاب وخصام ومجادلة بين العابدين والمعبودين والشيطان وأتباعه واخوان السوء، راجع الآية ٦٧ من سورة الزمر والآية ٢١ من سورة إبراهيم والآية ٤٧ من سورة الزخرف في هذا البحث. وهذه النفخة هي النفخة الثانية التي يقع بعدها البعث والنشور والحساب بدليل سياق الآية نفسها والآيات بعدها. قال ابن مسعود إنها النفخة الثانية، قال يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه، فيفرح المؤمن أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه، ثم قرأ (فلا أنساب بينهم) الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى إنها النفخة الثانية (فلا أنساب بينهم) الآية، أي لا يتفاخرون يومئذ بالأنساب كما كانوا يتفاخرون في الدنيا بها ولا يتساءلون سؤال تواصل أو سؤال تعرف، كقول الإنسان للآخر من أنت؟ ومن أي قبيلة أو قرية؟ راجع الآية ٦٦ من سورة الزخرف والآية ٣١ من سورة إبراهيم المارتين.
وحكم هذه الآية عام، وقيل خاص بالكفرة بدليل سياق الآية. وما أخرجه البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي. وأخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة مرفوعا. وأخرج نحوه ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا. وهو خبر مقبول لا يرده إلا من في قلبه شائبة، ونسبه بالنسبة للمؤمنين فقط. وإذا كان المراد نفي الالتفات إلى الأنساب بعد النفخة الثانية فتكون للعموم، لأن كلا فيها مشغول بنفسه، أما بعدها فخاصة بالكفرة لأن المؤمنين يشفع بعضهم لبعض كما مر، أما آية الصافات ٢٧ المارة وهي قوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فلا ترد على هذه، لأن ذلك السؤال
366
سؤال محاججة وجدال كما مر، وقد أرشدناك إلى المواقع الموجود فيها هذا البحث فراجعها.
واعلم أن يوم القيامة طويل وله أحوال مختلفة ومواطن متباينة بعضها مع بعض، يشتد فيه الخوف والفزع فيشتغلون بها عن السؤال، وفي بعضها يتخاصمون، وفي بعضها يسكتون.
وقد ألمعنا إلى ذلك هناك أيضا بصورة مفصلة فراجعها. قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» في ذلك اليوم «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ١٠٢ الفائزون الناجحون فيه «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» وغبنوا فيه فهم «فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ» ١٠٣ لا خروج لهم منها «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» ١٠٤ بادية أسنانهم كاشرون لتقلص شفاههم من الإحراق عابسون والعياذ بالله، وعند ما يستغيثون يقال لهم «أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ» على لسان رسلي في الدنيا يحذرونكم فيها من هول هذا اليوم «فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» ١٠٥ ولم تلتفتوا إليها ولا إلى الرسل ولم تصغوا لإرشادهم ونصحهم،
فاعترفوا واعتذروا بما ذكره الله بقوله «قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا» بسبب أعمالنا السيئة «وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» ١٠٦ في الدنيا مجانبين الحق معرضين عن الهدى، غير ملتفتين إلى الرسل «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها» من جهنم «فَإِنْ عُدْنا» إلى ما كنا عليه من الضلال بعد الآن «فَإِنَّا ظالِمُونَ» ١٠٧ أنفسنا مستحقون هذا العذاب، فيجيبهم الربّ جل جلاله بقوله العظيم الزاجر «قالَ اخْسَؤُا فِيها» أيها الكفرة وابعدوا عن هذا القول كما تقول للكلب إذا تبعك أو نبح عليك اخسأ، والمعنى اسكتوا وابقوا فيها أذلاء مهانين لا سبيل لكم إلى الخروج، فانزجروا عن هذه المقالة «وَلا تُكَلِّمُونِ» ١٠٨ بعدها في رفع العذاب، لأنكم مخلدون فيه، وهذا آخر كلام أهل النار إذ انقطع رجاؤهم.
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن جهنم أربعين يوما (يا مالك ليقض علينا ربك) فلا يجيبهم، ثم يقول بعد تلك المدة وهم ينتظرون جوابه (إنكم ما كثون) فيها كما في الآية ٧٧ من سورة الزخرف المارة، ثم ينادون ربهم يقولون بنفس الآية، فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين، ثم يردّ عليهم (اخسؤا فيها) الآية، فما ينبس القوم بعد ذلك بكلمة ان كان إلا الزفير
367
والشهيق. أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي داود، وذكره البغوي بغير سند.
قال تعالى ناعيا على هؤلاء الكفرة بعض ما كانوا يعملونه في الدنيا وهو «إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ» أمامكم في الدنيا «رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ١٠٩ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا» على مقالتهم هذه واستهزأتم بهم «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» بتشاغلكم بالهزء بهم فتركتموني ولم تذكروني ولم تنتبهوا وتتيقظوا وتهابوا عذابي وتخافوا عقابي في مثل هذا اليوم «وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ» ١١٠ استهزاء بهم، نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين الموصوفين في هذه الآية. قال تعالى «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا» على أذاكم وإهانتكم لهم في الدنيا «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» ١١١ اليوم برضائي وجنتي، ثم التفت جل شأنه يخاطب الكفرة بعد اجتماعهم في الموقف «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ» أحياء في الدنيا وأمواتا في البرزخ الذي دفنتم فيه «عَدَدَ سِنِينَ» ١١٢ كم هنا منعوتة بلبثتم وعدد تمييز «قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» وهذا بالنظر لطول يوم القيامة وعظم هوله وشدة فزعه وإلا فلبثهم في الدنيا أعواما كثيرة وفي البرزخ أكثر وأكثر، ثم انهم لما رأوا قولهم هذا غير موافق للواقع قالوا لا نعلم «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» ١١٣ الحفظة الموكلين بنا وإنما عرفوهم عادين لمدتهم لما تبين لهم من الصحف التي نشروها بإحصاء أعمالهم فقالوا هؤلاء الذين جمعوا أقوالنا وأفعالنا يعرفون مدة لبثنا «قالَ» تعالى قوله «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» في الدنيا والبرزخ في جنب ما ستلبثونه اليوم «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ١١٤ قدره أو تعلمون عاقبة أمركم لما اغتررتم في الدنيا لأنها لا تعد كمية ولا كيفية بجنب الأخرى، ثم طفق يوبخهم فقال «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً» لعبا أو باطلا ولهوا «وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» ١١٥ بل تكونون هباء سبهللا، كلا، بل خلقناكم لحكمة وليكون مصيركم إلينا. روى البغوي بسنده عن الحسن قال: إن رجلا مصابا مرّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه (أفحسبتم) الآية إلى آخر السورة، فبرىء فقال صلّى الله عليه وسلم بماذا رقيته في أذنه، فأخبره فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا
368
موقنا قرأها على جبل لزال.
ثم نزه نفسه المنزهة عما وصفه به المشركون فقال «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» ١١٦ وصفه بالكريم، لأن الرحمات تنزل على عباده من قبله وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، راجع الآية ٧ من سورة يونس المارة «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» ولا حجة ولا دليل، وإنما هو اختلاق من نفسه، وهذا الكافر الذي يقول هذه المقالة القبيحة «فَإِنَّما حِسابُهُ» عليها وجزاؤه يكون في الآخرة «عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» ١١٧ بها بل يخيبون ويشقون ويخسئون «وَقُلْ» يا سيد الرسل «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» ١١٨ لأن من أدركته رحمتك أغنته عن رحمة من سواك ورحمة الغير لا تغني عن رحمتك. واعلم أنه تعالى بعد أن بين أنه هو الملك الحق وأن لا رب غيره أردفه ببيان أن من ادعى ربا غيره فقد افترى باطلا، ثم أتبعه بأن من جرؤ على ذلك الذي لا بينة له عليه فجزاؤه العقاب الأليم، إذ قال (إنما حسابه عند ربه) إلخ وناهيك به محاسب. أخرج البخاري ومسلم والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعوه في صلاتي، قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة السجدة عدد ٢٥ و ٧٥- ٣٢
نزلت بمكة بعد سورة المؤمنين عدا الآيات ص ١٦ إلى ٢٠ فإنهن نزلن بالمدينة.
وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وتسمى سورة المضاجع، ومثلها في عدد الآي سورة تبارك وسورة الفجر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الم» ١ تقدم ما فيه والله أعلم بما فيه، راجع أول سورة لقمان المارة، وعلى أنه اسم للسورة يكون
369
مبتدأ خبره قوله تعالى «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ٢ لجميع العالمين المدركين «أَمْ» استفهام إنكار، ويفيد الانتقال من كونه منزلا من الله بلا شك ولا شبهة إلى ما يتفوه فيه الكفرة مما حكى الله عنهم بقوله عز قوله «يَقُولُونَ افْتَراهُ» محمد من تلقاء نفسه واختلقه كلا «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» يا سيد الرسل لا يقدر أحد أن يبتدع مثله وقد أنزلنا عليك «لِتُنْذِرَ» به «قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم قومك إذ لم ينذروا من قبل أحد بعد إسماعيل عليه السلام الذي اندرست شريعته وتفادم عهده ولم يترك لهم كتابا يرجعون إليه من بعده، راجع الآية ٤٤ من سورة سبا المارة وأول سورة يس في ج ١، «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ٣ به.
مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا.
قال ابن عباس هذا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا حجة في هذه الآية على عدم عموم رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم أو أنها قاصرة على العرب لعدم وجود حجة القصر، والآيات في التعميم كثيرة، إلا أنه لما كانت الأمم غير العرب تتهافت عليها الرسل واحدا بعد واحد- كما مر في الآية ٤٤ من سورة المؤمنين المارة- دون العرب، قال تعالى (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) الآية، ولأنهم أمّيّون ولا كتاب لديهم يقتدون بما فيه من أمور دينهم، بخلاف اليهود والنصارى فإنهما بعد انقطاع الرسل عنهم ملزمون باتباع شرائع من قبلهم ورسلهم الذين كانوا يدعونهم بمقتضاها، إذ أن دعوتهم منحصرة بهم، وقد جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام (إني حقا أرسلت إلى بني إسرائيل) وفي نسخة (إلى خراف إسرائيل) فثبت من هذا أن العرب لم تدعهم إلى الله رسل بني إسرائيل، ولما كان كل نبي تنقطع أحكام نبوته بعد موته إلا محمدا صلّى الله عليه وسلم لأنه خاتم النبيين والمرسلين ورسالته عامة إلى الخلق كافة، وكانت ذرية كل نبي ملزمة باتباع شريعته، كان على قريش أن تلتزم شريعة إسماعيل عليه السلام كما كان أوائلهم متمسكين بها، إلا أنه فشت فيهم عبادة الأوثان التي أحدثها عمرو الخزاعي وعكفوا عليها إلا ما ندر منهم كزيد بن عمرو بن نوفل العدوي والد سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد عاصر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقالوا إنه آمن به
370
قبل بعثته وقد مات إبان بناء الكعبة عام ٢٥ من ولادته صلّى الله عليه وسلم الواقعة عام الفيل سنة ٥٧٠ من ولادة عيسى عليه السلام، وكان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله، وقس بن ساعدة الإيادي كان مؤمنا بالله وعاصر حضرة الرسول أيضا، وتوفي أوائل البعثة الشريفة، وخالد ابن سنان العيسي كذلك كان مؤمنا. وما قيل إنهم رحمهم الله كانوا أنبياء لا صحة له البتة، أما ورقة بن نوفل فقيل إنه تنصر. هذا، ولا تعارض بين هذه الآية وآية فاطر ٢٤ وهي (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) كما أوضحناه في تفسيرها، فراجعها يتبين لك أنه خلا أول العرب أي سلف نذير فيهم وهو إسماعيل عليه السلام، إلا أنه لم يرسل إليهم رسول بعده وبقوا طيلة هذه المدة العظيمة مهملين دون رسول ولا كتاب، بيد أن الأمم الأخرى تتابعت عليهم الرسل.
وقال بعض المفسرين إن (ما) هنا في هذه الآية اسم موصول، وعليه يكون المعنى لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، يريد بهذا النذير إسماعيل، وهو ليس بشيء، لأن أكثرهم لا يعرفون أنه كان هناك نبي أم لا، وما جرينا عليه بأن (ما) نافية أنسب بالمقام وأولى بالمعنى وأقوى حجة وبرهانا. هذا وإذا علمت نفي مجيء رسول إليهم تعلم أنهم لم يؤاخذوا على عدم القيام بالشرائع، لأنها لا تدرك إلا من قبل الرسول ولكنهم يؤاخذون بعدم معرفة الله وتوحيده، لأن العقل السليم قد يوصل إلى ذلك من غير واسطة الرسل، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ١٥ من سورة الإسراء في ج ١ فراجعها. أما ما يتعلق في عموم رسالته فقدمناه أيضا في الآية ٢٨ من سورة سبأ المارة. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» هو المستحق للعبادة وحده، راجع الآية ١١٦ من سورة المؤمنين المارة وما ترشدك إليه تقف على معنى العرش وعظمته. واعلموا أيها الناس أنكم «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم وينصركم غيره «وَلا شَفِيعٍ» دون أمره ورضاه فزعمكم بشفاعة الأصنام باطلة «أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» ٤ بمواعظ الله وتتعظون بعبره وهو الذي «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» في الدنيا على وجه الحكمة والإتقان فينزله «مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» مدة دوامها «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ» ذلك الأمر كله ليحكم فيه وقت
371
فصل القضاء بين الناس في الآخرة، قال تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) الآية ٤ من سورة المعارج الآتية. واعلم أن هذه المسافة ما بين الأرض وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام. قال ابن عباس لعبد الله بن فيروز حين سأله عن هذه الأيام: أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية المذكورة إن شاء الله فراجعه «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ» بالنسبة لتقدير أيامكم أيها الناس «أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» ٥ الآن وذلك أن مسافة ما بين الأرض وسماء الدنيا على ما جاءت به الآثار خمسمائة سنة، فيكون صعوده ونزوله ألف سنة، بحيث لو كانت هذه المسافة موجودة وسار عليها ابن آدم فلا يقطعها إلا بألف سنة.
هذا إذا كان العروج لسماء الدنيا فقط، أما إذا كان لمحل صدور الأمر فهو أكثر بكثير كما سيأتي في الآية ٤ المذكورة آنفا، «ذلِكَ» الإله العظيم الذي صنع ما ذكر هو «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» أي ما غاب عن هذا الكون في الآخرة وما عاينوه في الدنيا «الْعَزِيزُ» الغالب أمره كل شيء «الرَّحِيمُ» بأهل طاعته «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» في الدارين «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ» آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ» ٧ وقرأ بعضهم وبدى، وعليه قول ابن رواحه:
باسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا
«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ» نطفة سيّالة من الإنسان مكونة «مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ٨ حقين ضعيف قليل «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» أي جعل فيه الشيء الذي اختص به تعالى ولذلك أضافه لنفسه المقدسة تشريفا له وإظهارا بأنه مخلوق كريم على ربه وإعلاما بأن له شأنا بنسبته إلى الحضرة الإلهية يؤيد هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته، وفي رواية على صورة الرحمن.
وهذه الرواية الأخيرة لم تبق مجالا للتأويل والتفسير، أما الأول فقد قال بعضهم إن الضمير يعود إلى آدم أي على صورته نفسه التي هو عليها وليس بشيء والنفخ على حقيقته، وقدمنا ما يتعلق فيه في الآية ٨ من سورة المؤمنين والآية ٦٦ من سورة النحل المارتين، وفيهما ما يرشدك إلى غيرها مما هو مشبع فيه بحثه. واعلم
372
Icon