هذه السورة مدنية من غير خلاف، وفي فضلها وعظيم قدرها مع سورة البقرة يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : " تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان١ يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان " ٢.
وقد تضمنت هذه السورة فيضا من المعاني والمشاهد والمواقف والأحكام مما نعرض له بمشيئته الله وعونه وكلاءته في هذا التفسير.
ويأتي في طليعة ذلك كله الحديث عن حروف التهجي، وهي الألف واللام والميم. وهذه واحدة من فواتح السور المبدوءة بها سورتنا هذه.
ومن مضامين هذه السورة أيضا إطراؤها للكتب السماوية الثلاثة وهي التوراة والإنجيل والفرقان. وأن هذه الكتب قد جيء بها لبني البشر من أجل هدايتهم وترشيدهم، وكيما يمضوا في هذه الحياة آمنين سالمين أخيار وقد أظلتهم أفياء الخير والمودة والعيش المطمئن الراغد.
وفي السورة بيان بأن هذا الكتاب الحكيم شطران، أحدهما : آيات محكمات أي واضحات مستبينات. وهذا الشطر الأعظم من كتاب الله لا جرم أنه المتسع الأكبر لكل قضايا الدين والدنيا، وأنه المعين الفياض الذي تستمد منه البشرية على مر الزمن كل معاني الخير والهداية، وعامة قضايا الحكمة والمعرفة والتشريع.
ثانيهما : آيات متشابهات. أي غير واضحات من حيث معناها أو المراد منها، بل هن محتملات مجملات لا يظهر مقصودها إلا بالنظر والتمحيص البالغين، وإنما يناط ذلك بنخبة من أولي العلم والنظر ليبذلوا قصارى تفكيرهم واجتهادهم عسى أن يقفوا على المراد من مثل هذه الآيات المتشابهات.
وفي هذا الصدد يحذر الله سبحانه من فريق متحذلق يصطنع العلم والمعرفة اصطناعا. أولئك الذين يخوضون في كلام الله بغير حق ولا بصيرة، والذين تلوك ألسنتهم مقالات التحريف والفتنة متذرعين بالظواهر لمثل هذه الآيات المتشابهان بقصد أو بغير قصد. وفي ذلك من الفتنة والتضليل وتشويش الأذهان ما لا يخفى.
وتذكر السورة بما جبل عليه الإنسان من ميل للشهوات الحقيقية، الشهوات الأساسية المركوزة التي غالبا ما تأسر أعصاب الإنسان وعقله أسرا، وهو بدوره يجنح خلفها جنوحا إلا أن يكون له زاد ضخم ورصين من اعتصام كإرادة صلبة مكينة، أو عقيدة راسخة متينة تمسك بزمام الإنسان كله لتسلك به مسالك الخير والنجاة، فلا يضل أو يزل أو يتردى.
وفي طليعة هذه الشهوات حب النساء. لا جرم أن ذلك حب راسخ ومفطور، بل إن إحساس بالغ ومستكن لا مندوحة للإنسان عن مراعاته تمام المراعاة، ولكن في غاية من الاهتمام والاتزان ومن غير تسيب في ذلك ولا فوضى، وكلمة الإسلام في ذلك لهي خيرا ما عرفته البشرية في هذا الصدد. وهو ما نعرض له في حينه لدى الكلام عن تفسيره هذه الآية.
وكذلك حب البنين. وهم الأولاد والأحفاد، فلذات الأكباد. وهو بعض آبائهم وأمهاتهم ؛ بل غنهم جزء من كيانهم العضوي والعقلي والروحي، فلا يبرح المرء- ذكرا أو أنثى- حتى تراوده موجة الحب والحنين لولده، فضلا عن استئثار البنين بالاعتبار الظاهر لدى العرب، وهم يجدون في أبنائهم وسيلة للتعضيد والظهور في زحمة الواقع.
وكذلك حب المال. فإنه يستأثر بالنسبة الكبرى لحب البشرية وولعها بالدنيا ولذائذها وزخارفها. لا جرم أن حب المال قد استحوذ على قلب الإنسان وعلى طبعه وأعصابه، فبات بذلك رهين هذه الشهوة الراسخة اللحاحة، بل إن الإنسان على اختلاف أجناسه وتصوراته ومعتقده لا يبرح قلبه حب المال والرغبة المستديمة في الاستزادة من أكداسه الطائلة المركومة.
وتتضمن السورة الكريمة أيضا هذا القرار الرباني الحاسم. القرار الإلهي الأعظم الذي لا يخالطه شيء من ريبة أو زيغ. وإنما هو القرار الكامل الأمثل الذي يضع البشرية على الطريق السوي المتوازن، بل يضعها على المحجة الناصعة المستقيمة، المحجة السليمة من أي خلل أو اعوجاج، وذلك بعد أن استكملت البشرية دورتها في عجلة الحياة السائرة الدائرة، فاستقر بها الشأن إلى حال مكتمل من الثبات والتوازن والاعتدال. وهي في ذلك إنما يصلح حالها كله في ظل الإسلام الذي قرره الله للبشرية دينا كاملا شاملا طيلة حياتها الدنيا هذه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ذلكم هو القرار الكوني المجلجل الذي كتبه الله لعباده إذ جعل لهم الإسلام وحده دينهم المميز الأمثل ليرسم للبشرية من خلاله حياتها الكريمة الفضلى. حياة حافلة بالخير والعدل والنجاة والرحمة. فقال عز من قائل :( إن الدين عند الله الإسلام ).
وتتضمن السورة كذلك جملة اصطفاءات ربانية مميزة، أولها اصطفاء آدم أبي البشر إذ خلقه الله من تراب على نحو مغاير للكيفية التي خلق بها بقية البشر حيث التناكح والإنجاب. ثم نوح، وهو الأب الثاني للبشر بعد أن أهلك الله السالفين لما كفروا ولجوا بالجحود والعناد فأخذهم الطوفان الهادي فغرقهم تغريقا.
ثم آل إبراهيم. هذا النبي العظيم الخليل الذي جعل الله في ذريته النبوة فكان فيهم النبيون والمرسلون من بني إسرائيل. وهذا النبي خاتمهم الأكرم محمد صلى الله عليه و سلم.
وكذلك آل عمران إذ جعل الله من نسله خير نساء العالمين. تلك المرأة الطاهرة البتول الفضلى ( وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) هذه المرأة المبرأة المصون، عنوان الطهر والعفاف، قد كتب الله أن تحقق من خلالها معجزته العجيبة الخالدة بولادتها المسيح من غير أب ليكون نبيا وسيدا وحصورا.
وتتضمن السورة أيضا تقريرا لحقيقة راسخة ثابتة، وهي انتفاء اليهودية والنصرانية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام لتقرر في مقابل ذلك أن خليل الله إنما كان حنيفا مسلما، أي أنه كان على فطرة التوحيد الخالص الذي لا يخالطه ذرة من إشراك، خلافا لليهودية والنصرانية اللتين خالطهما الشرك على اختلاف صورة سواء في ذلك عبادة بعض النبيين أو الأشخاص أو غيرهم من أشكال الهوى.
وتتضمن السورة أيضا إظهارا لشأن البيت الحرام حيث الكعبة المعظمة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا. وفي هذا الصدد من تكريم الكعبة وإطرائها يأتي ذكر الحد إذ جعله الله فرضا على كل مسلم قادر عاقل بالغ مستطيع.
ومما تضمنته هذه السورة كغيرها من السور الكثيرة المدنية قصة بني إسرائيل مع الأمم على امتداد الأحقاب والأدهار. وهي قصة لا جرم أنها طويلة ومريرة ومثيرة للدهش والتعجب، إنها قصة الكيد للبشرية والتآمر عليها في قيمنها ومقوماتها وعظمائها من النبيين والمصلحين. وقد تجلى ذلك في صور شتى من ألوان الكيد ما بين قمع وقتل وتدمير وإبادة. إلى غير ذلك من وجوه السلب للخيرات والثروات واغتصاب الديار والأوطان وتشويه المبادئ والحقائق والأديان ونشر الفوضى والإرهاب والترويع والفساد، يضاف إلى ذلك أيضا كيد الصليبية الحاقدة الظالمة، الصليبية المتربصة المتعصبة التي لا تقيم وزنا لدين من أديان السماء، ولا لقيمة من قيم الحق والإنسانية، إلا التعصب الفاجر الأعمى، والحقد الأسود المركوم، الحق الذي يتخلل النفسية الغربية فيشوبها بشائبة الكراهية المقيتة للإسلام والمسلمين.
وتتضمن السورة أيضا قصة أحد وما حوته هذه المعركة من دروس جليلة مستفادة ما كان ينبغي أن تغيب عن أهان المسلمين في يوم من الأيام، ويأتي في طليعة ذلك أن النصر المنزل من عند الله إنما يكتبه الله لعباده الأبرار الذين أخلصوا دينهم وسائر أعمالهم لله وحده، فلم يخالطهم في ذلك أيما توجه نحو لعاعة من لعاعات الدنيا أو حظوة من حظواتها، كالمال أو الجاه أو السلطان أو غير ذلك من وجوه الشهوة والهوى.
وغير ذلك من المواضيع والمسائل والمعاني كثير نقف عليه غي حينه إن شاء الله.
سبب نزول السورة :
قال المفسرون في نزول صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آية : قدم وفد من نصارى نجران على رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا ستين راكبا وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم. ومن بينهم ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم، وهم : أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه وهو عبد المسيح : ثم إمامهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، ثم أبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم، فقد قدموا جميعا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ودخلوا مسجده حين صلى العصر وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة، ولما حانت صلاتهم قاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال رسول الله : " دعوهم " فصلوا إلى المشرق، فكلم أميرهم عبد المسيح وإمامهم الأيهم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أسلما " فقالا : قد أسلمنا قبلك. قال : " كذبتما منعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير " قالا : إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم : " ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ " قالوا : بلى، قال : " ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى أتى عليه الفناء ؟ " قالوا : بلى. قال : " ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ " قالوا : بلى. قال : " فهل يملك عيسى من ذلك شيئا ؟ " قالوا : لا. قال : " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ؟ " قالوا : بلى. قال : " ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذي الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ " قالوا : بلى. قال : " فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ " فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعة وثمانين آية منها٣.
البيان التفصيلي للسورة
بينا سابقا أن هذا السورة حافلة بالمعاني الزاخرة والمشاهد والأحكام الظاهرة مما نعرض لكل من ذلك في حينه بعون الله.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٣..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٦١، ٦٢..
ﰡ
نبادر هنا بالحديث عن الأحرف الهجائية الثلاثة التي بدئت بها هذه السورة وهي الألف واللام والميم على نحو ما بيناه في سورة البقرة عن هذه المسألة.
وهذه الأحرف الثلاثة واحدة من فواتح السور التي بدئ بها كثير من سور الكتاب الحكيم، على أن الكلام في تفصيل هذه الأحرف الفواتح طويل مما هو موضع تفصيل وخلاف بين العلماء. حتى إن تأويل ذلك قد بلغ من الأقوال بضعا وعشرين وهي أقوال يميزها العمق والتباين والتفاوت١ لكننا نقتضب منها أقوالا ثلاثة هي :
القول الأول : وهو أن مثل هذا العلم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقد ذهب إلى ذلك فريق من الصحابة وآخرين. وفي هذا الصدد يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لله في كل كتاب سر. وسره في القرآن أوائل السور.
وقال علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه. وروي عن ابن عباس قال : عجزت العلماء عن إدراكها. وقال الحسين بن الفضل : هو من المتشابه، لكن أهل الكلام أنكروا هذا القول وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق، واحتجوا على ذلك بالآيات والأخبار والمعقول٢.
القول الثاني : وهو قول قطرب. وهو أن الكفار لما قالوا :( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) وتواصوا بالإعراض عنه، أراد الله تعالى أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبب لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليه من القرآن، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : اسمعوا إلى ما يجيء به محمد صلى الله عليه و سلم : فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سببا لاستماعهم واسترعاء أذهانهن وقلوبهم٣.
ومثل هذا القول معقول وسديد إذا أدركنا ما كان يجده العرب الأقدمون من روعة اللمس والتأثير وهم يتسمعون للقرآن في أول مرة، فما كانوا يتسمعون لهذا الكلام الحكيم الفذ إلا وهو يجدون برد الإيقاع العجيب يمس قلوبهم ومشاعرهم مسا. ومن أجل ذلك تواصوا فيما بينهم أن يبادروا بالتشويش من لغط الكلام الفارغ اللاغي ما يحول بين القرآن وعقولهم، حتى بودروا بمثل هاتيك الفواتح من حروف التهجي فما استوقفهم استيقافا ونشر في قلوبهم وأفكارهم غاشية من الوجوم الغامر المذهل. فما كانوا لينصتوا ويستمعوا حتى تفجأهم ألفاظ القرآن بسحائب كثاف مجلجلة من البهر القارع والجمال المستحوذ الأخاذ٤.
القول الثالث : وهو قول المبرد وكثير من المحققين، إذ قالوا : إن الله تعالى إنما مثل هذه الفواتح احتجاجا على الكفار. وذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيها على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن. فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله وليس من عند البشر٥.
ومثل هذا التأويل لا يقل –في نظري- سدادا ومعقولية عن التأويل الثاني السابق ؛ لما في ذلك من استنهاض للوجدان والحس والذهن جميعا كيما يصحو على الحقيقة الساطعة البلجة الماثلة للفطرة السليمة في هذا الكلام المعجز.
٢ - التفسير الكبير جـ ١ ص ٣، ٤..
٣ - التفسير الكبير جـ١ ص ٧..
٤ - التفسير الكبير جـ ١ ص ٧..
٥ - التفسير الكبير جـ ١ ص ٧..
ذلك إخبار من الله جل جلاله عن ذاته أنه سبحانه متفرد بالإلهية، والكائنات جميعهم مخلوقون، فهو سبحانه الإله المعبود، وما عداه من الخلائق عبيد. وهو في ذاته وجلاله حي لا يأتي عليه موت أو فناء، وهو القيوم. أي القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم، بل القائم على كل نفس بما كسبت، الشهيد على كل شيء، فلا يغيب عنه شيء، ولا يندّ عن علمه وقدرته وإرادته شيء١.
على أن هذه الآية واحدة من محكمات الكتاب الحكيم بما انطوت عليه من صورة جلية للتوحيد الكامل لجلال الله، المتصف بكل صفات الكمال والجلال، المبرأ من كل العيوب والنقصان. وفي اشتمال هذه الآية على اسم الله الأعظم أخرج الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في هاتين الآيتين ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) و ( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) : " إن فيهما اسم الله الأعظم " ٢.
وكذلك في الحديث المرفوع عن أبي أمامة قال : " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب : في ثلاث سور : البقرة وآل عمران وطه. وقد قيل : أما البقرة : ف ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )، وفي آل عمران :( الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ). وفي طه :( وعنت الوجوه للحي القيوم ) ٣.
٢ -تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٠٧..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٠٧..
قوله :( وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ) التوراة والإنجيل كلمتان غير عربيتين في الراجح منهما اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية. ولا وجه للحديث عن أصلهما واشتقاقهما مادام غير عربيين.
والمراد أن الله أنزل هذين الكتابين ترتيبا على موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام ليكون هذان الكتابان هداية للناس من قبل أن يتنزل القرآن، وذلك بما تضمنه هذا الكتاب.
والمراد أن الله أنزل هذين الكتابين ترتيبا على موسى والمسيح عليهما الصلاة والسلام ليكون هذان الكتابان هداية للناس من قبل أن يتنزل القرآن، وذلك بما تضمنه هذا الكتاب.
قوله :( وأنزل الفرقان ) أي القرآن، سمي بذلك تعظيما له ومدحا ؛ لأنه الفارق بين الهدى والضلال، والحق الباطل، والغي والرشاد.
الحكيم المعجز من حجج مستبينات ودلائل واضحات وبراهين ساطعات. وقيل : المراد بالفرقان : جنس الكتب الإلهية كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، فإنها فارقة بين الحق والباطل. ومثل هذا القول ضعيف، والصواب أنه القرآن ؛ لأنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل١.
قوله :( إن الذين كفروا بآيات اللهم لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام ). ذلك وعيد من الله للكافرين الذين كذبوا آياته وجحدوا كتبه وردوها بالباطل. أولئك قد توعدهم الله بعذابه الشديد يوم القيامة حيث الهوان والتحريق والعاقبة الرهيبة البئيسة للمكذبين. ذلك أن الله ( عزيز ) أي منيع الجناب عظيم السلطان ( ذو انتقام ) لا جرم أنه منتقم من المكذبين المخالفين لرسله الكرام٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٤ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤١١..
وفي التنويه بالتصوير في الأرحام تذكير بحقيقة العبودية الكاملة في حق المسيح عليه السلام. وذلك ردّ واضح لافتراء أهل الكتاب بأن عيسى هو الله أو أنه ابن الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل إن عيسى بشر من البشر وإنسان من الأناسي لا يفوق غيره من الناس إلا بفضيلة النبوة الكريمة ومزية النفخ من روح الله١.
يتضمن القرآن صنفين من الآيات. أحدهما : آيات محكمات هن أم الكتاب. أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه، والأم في اللغة تعني الأصل الذي يكون منه الشيء، فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، باتت المحكمات كالأم للمتشابهات١.
وثانيهما : آيات متشابهات، وقد اختلف العلماء في المراد بالمحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة. ولعل أحسن ما قيل في ذلك أن المحكمات من القرآن : ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره. أما المتشابه : فما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعمله دون خلقه، وهو قول كثير من أهل العلم. وجملة ذلك أن الآيات المحكمات، ما أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والإجمال والاشتباه فكانت واضحة مستبية، وذلك كقوله تعالى من سورة الأنعام ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) إلى ثلاث آيات بعدها. وقوله تعالى من سورة الإسراء :( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) إلى ثلاثة آيات بعدها.
أما الآيات المتشابهات، فهي المحتملات أو المجملات التي لا يتضح مقصودها إلا بالفحص الدقيق والنظر العميق من أولي الألباب، ومثال ذلك الحروف التي في فواتح السور كقوله :( الم )، ( الر )، ( حم عسق )، ( كهيعص ). وكذلك كقوله تعالى :( الرحمن على العرش استوى ) وغير ذلك من الآيات المحتملة مما يكون دلالة الألفاظ بالنسبة إليها وإلى غيره على السوية.
ومن أحسن ما قيل في هذا الصدد : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات لكهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد.
قال القرطبي في ذلك : المحكم اسم مفعول من أحكم، والإحكام الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال٢.
قوله :( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) الزيغ معناه الميل عن الحق. زاغ البصر إذا كلّ، وزاغت الشمس، أي مالت. وذلك إذا فاء الفيء٣. ومنه قوله تعالى :( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) والذين في قلوبهم زيغ، أي انحراف عن القصد، وميل عن الحق، وجنوح مريض نحو الباطل بدلا من السبيل المستقيم. هؤلاء المائلون عن جادة الصواب، الجانحون صوب الباطل من أولي الطبائع الضالة والقلوب المريضة يستنكفون عن اتباع الآيات المحكمات الواضحات التي يعوّل عليها في إدراك هذا الدين عقيدة وشريعة، لكنهم تستخفهم قلوبهم الزائغة لاتباع ما تشابه من الكتاب الحكيم. فهم إنما يتمسكون بالمتشابه من الآيات ؛ لما يمكنهم من تحريفه إلى مقاصدهم الفاسدة ؛ نظرا لاحتمال لفظه ما يديرون عليه من تأويل مريب.
أما المحكم فلاحظ لهم فيه ؛ لوضوحه وبيانه فهو دافع لمقاصدهم وحجة عليهم. وهذا الصنف الجانح من الناس إنما يصطنع مثل هذا التأويل ( ابتغاء الفتنة ) أي طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام. وذلك ديدان التائهين المضللين من العباد الذين لا يستمرئون غير طريق الضلال والفساد ولا يستطيبون غير ظواهر المرض والعمه تغشى المجتمع فتطيح به إطاحة أو تنسفه من القواعد نسفا ليظل أشباها من الناس التائهين الشاطحين الحائرين. وأمثال هؤلاء المفسدين المضلين كثير في أوساط المسلمين، بل إن تاريخهم طويل ومرير في زعزعة العقيدة الإسلامية وتشويه العلوم الإسلامية وإشاعة الريبة والفتن بين فئات المسلمين كالزنادقة على اختلاف مقولاتهم وإفرازاتهم الضالة المضلة. ومن جملتهم القرامطة والحشاشون والسبئية والنصيرية ( العلويون ) والبهائية والقاديانية والدروز. وكذا المجسمة والمشبهة والمعطلة، إلى غير هؤلاء من أصحاب الملل والنحل الضالة الفاسدة. كل أولئك من حيث الضلال والانحراف والزيغ في جانب، والجماعة المؤمنة المستقيمة في جانب آخر مميز. وهؤلاء هم أهل السنة الذين لا يتبعون ما تشابه من القرآن وإنما يتبعون آيات المحكمات فهم دوما على جادة الصواب. وفي وسط المحجة اللاحبة البيضاء سائرون ماضون إلى أن يلقوا الله على هذه الحال من الاستقامة والإخبات.
وعلى هذا فإن هذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة متبع لما تشابه من القرآن، وإن كانت الإشارة بهذه الآية في ذلك الوقت إلى نصارى نجران الين حاوروا النبي صلى الله عليه و سلم في قصة عيسى المسيح وجادلوه في ذلك بغير حق متبعين لما تشابه من آيات الكتاب الحكيم في هذه المسألة٤.
وقوله :( وابتغاء تأويله ) التأويل هو التفسير ما يؤول إليه الشيء. وقد أوله تأويلا وتأوله أي دبره وقدره وفسره٥.
قال الرازي في بيان التأويل : اعلم أن التأويل هوالتفسير، وأصله في اللغة المرجع والمصير. من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه. هذا معنى التأويل في اللغة، ثم يسمى التفسير تأويلا. قال تعالى :( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وقال تعالى :( وأحسن تأويلا ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى. واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم ؟ وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون ؟ ٦.
والذين يتبعون ما تشابه من القرآن إنما يطلبون بذلك- فوق طلبهم الفتنة- تأويله. أي يؤولونه التأويل الذي يشتهونه بتحريفه على ما يروق لهواهم الجانف وقلوبهم الزائغة الجانحة٧.
قوله :( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما ذكر إلا أولوا الألباب ).
اختلف العلماء في معنى الواو قبل ( الراسخون ) هل هي للاستئناف ( الابتداء ) أم للعطف ؟ فثمة قولان في ذلك.
أحدهما : أن الواو للاستئناف. فالوقف بذلك على لفظ الجلالة ( الله ) ثم يأتي الكلام بعد ذلك مستأنفا. فالواو هنا لابتداء الكلام بعد تمامه. وعلى هذا فإنه لا يعلم تأويل المتشابه من الكتاب الحكيم إلا الله. وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك ابن أنس والكسائي والفراء والأخفش. ومن المعتزلة قول الجبائي. واختاره الرازي.
ثانيهما : أن الواو تفيد العطف، فالراسخون معطوف على لفظ الجلالة. وعلى هذا يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم. وهو قول أكثر المتكلمين. وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس٨ وفي تقديري أن القول الأول هو الراجح. ووجه ذلك من عدة وجوه منها :
أولا : أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال سبحانه ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى ذلك.
ثانيا : لو كان قوله :( والراسخون في العلم ) معطوفا على قوله ( إلا الله ) لصار قوله :( يقولون آمنا به ) ابتداء كلام، وهذا بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال : وهم يقولون آمنا به. أو ويقولون آمنا به.
ثالثا : ما ذكر عن ابن عباس قوله : التفسير على أربعة أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله.
ويؤيد ذلك ما ذكر أن مالك بن أنس رحمه الله لما سئل عن الاستواء قال : الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة٩.
وقوله :( والراسخون في العلم ) من الرسوخ وهو الثبوت في الشيء. وكل ثابت راسخ. ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا، فالراسخون في العلم هم الذين ثبتوا وتمكنوا فيه. وقال الرازي في هذا الصدد : واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، فإذا رأى شيئا متشابها ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دل عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودا شبهة في الطعن في صحة القرآن١٠.
ثم حكى الله عن الراسخين في العلم قولهم :( آمنا به كل من عند ربنا ) أي أنهم يعلنون عن إيمانهم القاطع أن هذا المتشابه من عند الله أو هو كلام الله ونحن مؤمنون به. وقالوا أيضا :( كل من عند ربنا ) أي أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله فهما ( المحكم والمتشابه ) كلاهما حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ؛ لأن الجميع منزل من عند الله١١.
قوله :( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) أي ما يعي هذا ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لبّ، وهو العقل. ولب كل شيء خالصه١٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٠، ١١ وانظر البيضاوي ص ٦٧ والكشاف للزمشخري جـ ١ ص ٤١٢ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ١٨٧ وما بعدها..
٣ - مختار الصحاح ص ٢٨٠.
٤ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٣، ١٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٤، ٣٤٥ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ١٨٧، ١٨٨..
٥ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ٣٤١ ومختار الصحاح ص ٣٣..
٦ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ١٩١..
٧ - الكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤١٣ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٥..
٨ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ١٩٠ وانظر الكشاف جـ ١ ص ٤١٢ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٦..
٩ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٦ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ١٩١، ١٩٢..
١٠ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ١٩٢..
١١ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٧ وتفسير البيضاوي ص ٦٧..
١٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٧ ومختار الصحاح ص ٥٨٩ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٩..
هذه هي حال الراسخين في العلم. فهم أتقياء مخبتون متواضعون لا تبرحهم خشية الله. وهم دائما يبادرون بالدعاء إلى الله أن لا يزيغ قلوبهم، أي أن لا يميلها أو يحرفها عن دينه القويم وصراطه المستقيم بعد أن أقامها عليه وهداها إليه، وأن لا يجعلهم كالزائغين الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ليفرضوا على أنفسهم وعلى الناس ما يطيب لأنفسهم المريضة من المعتقدات والتصورات والأحكام المصطنعة. أولئك هم الزائغون عن طريق الله المستقيم، الجانفون عن قسطاس الإسلام القويم. وأمثال هؤلاء في كل مكان وزمان كثيرون ممن ابتلى الله بهم عباده المؤمنين الصابرين الذي قدر لهم أن يقطعوا الدهر في جهاد مستديم ضد الضلال بكل صوره وأشكاله، سواء في ذلك ضلال الكافرين والملحدين، أو ضلال المنافقين والخراصين، أو ضلال الزنادقة المارقين، أو ضلال الفسقة من الجاهلين الذين يتحذلقون بعبارة الزيغ والعمه وهم يحسبون أنهم على شيء ولكنهم في الحقيقة أدعياء جهلة، هائمون في غياهب الضلالة والوهم.
قوله :( وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) أي امنحنا من عندك نعيما صادرا عن الرحمة. أما الرحمة عينها فلا توهب ؛ لأنها راجعة إلى إحدى صفات الذات الإلهية فلا يتصور منحها أو هبتها.
يخبر الله تعالى عن عاقبة الكافرين وخسرانهم، فهم لا ريب أن مصيرهم إلى النار، ولن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم، بل لا تدفع عنهم لهيب النار المستعرة، بل إنهم أنفسهم وقود النار حصبها١ الذي تزداد اضطراما وتسجيرا٢ وشأنهم في ذلك شأن آل فرعون من قبلهم لما أتتهم آيات الله كذبوا بها وجحدوا جحودا واستكبروا عنها استكبارا فأخذهم الله- وهو المنتقم الجبار يعذب الطغاة المستكبرين أشد العذاب ويذيقهم من شديد العقاب ما يتجرعون خلاله الويل والهوان، أعادنا الله من ذلك وكتب لنا النجاة والسلامة في هذا الدار ويوم يقوم الأشهاد.
٢ تسجير : سجر التنور أي أحماه. وسجر النهر أي ملأه، ومنه البحر المسجور. انظر مختار الصحاح ص ٢٨٧..
يخبر الله تعالى عن عاقبة الكافرين وخسرانهم، فهم لا ريب أن مصيرهم إلى النار، ولن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم، بل لا تدفع عنهم لهيب النار المستعرة، بل إنهم أنفسهم وقود النار حصبها١ الذي تزداد اضطراما وتسجيرا٢ وشأنهم في ذلك شأن آل فرعون من قبلهم لما أتتهم آيات الله كذبوا بها وجحدوا جحودا واستكبروا عنها استكبارا فأخذهم الله- وهو المنتقم الجبار يعذب الطغاة المستكبرين أشد العذاب ويذيقهم من شديد العقاب ما يتجرعون خلاله الويل والهوان، أعادنا الله من ذلك وكتب لنا النجاة والسلامة في هذا الدار ويوم يقوم الأشهاد.
٢ تسجير : سجر التنور أي أحماه. وسجر النهر أي ملأه، ومنه البحر المسجور. انظر مختار الصحاح ص ٢٨٧..
جاء في سبب نزول هذه أنه لما أصاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا ببدر فقدم المدينة جمع اليهود وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. فقالوا : يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا١. لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله تعالى :( قل للذين كفروا ) يعني اليهود٢. يأمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يخبر اليهود أنهم سوف تحيق بهم الهزيمة لا محالة، وأنهم سوف يغلبون في هذه الدنيا وتحل بدارهم قارعة الخزي، ويوم القيامة لا جرم أن لهم من العذاب ما هو أشد وأنكى. وذلك هو عذاب جهنم ( وبئس المهاد ) المهاد : الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش. قال الله تعالى :( والأرض فرشناها فنهم الماهدون ) وبئس من البأساء وهو الشر والشدة. ذلك هو مصير الكافرين الذين يحاربون الله ورسول ويسعون في الأرض فسادا وتخريبا سواء كانوا من اليهود أو الصليبيين أو الوثنيين أو الماديين الملحدين، لا جرم أن هؤلاء جميعا حصب جهنم، فهم فيها يتحرقون ويتقاحمون في لظاها وسعيرها مثلما تتقاحم القردة.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٦٢..
وتكتمل الدلالة على أن الله مع المسلمين وان قراره بالنصر إنما يكون لهؤلاء المؤمنين بقوله :( يرونهم مثليهم رأى العين ) أي يرى المسلمون المشركين مثيلهم في العدد، مع أنهم كانوا في الواقع ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين بعد أن أراهم إياهم مثلي عدتهم ؛ لتتقوى أنفسهم وليتجاسروا على قتالهم، وفي نفس الوقت قلل الله المسلمين في أعين المشركين، ليتجرأ المشركون على قتالهم فينفذ الله حكمه فيهم- في المشركين- بالقتل والقهر.
والأصل في ذلك أن النصر من عند الله وأنه سينصر الفئة المؤمنة، لا جرم أنه ناصر عباده المؤمنين المخلصين. هذه حقيقة لا تقبل المراء أو الشك، حقيقة ينبغي أن تقف عليها البشرية والمسلمون خاصة، وهي أن النصر من عند الله، وأن العاقبة في النصر والغلبة إنما هي للمسلمين العاملين، وذلك بالرغم مما يحيق بالمسلمين من أهوال وشدائد، وبالرغم من تمالؤ قوى الكفر على الإسلام والمسلمين وإن طال الزمان وتوالت الارزاء والبلايا. وفي تعزيز ذلك يقول الله سبحانه :( والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم، وأصله من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر، وأولوا الأبصار هم أصحاب العقول. كما يقال : لفلان بصر بهذا الأمر، أي علم ومعرفة. وهذا قول الرازي١.
وبذلك فأصحاب البصائر والأفهام الواهية لا جرم أنهم يهتدون إلى حكمة الله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، وذلك بين يدي قيام الساعة.
وفي جملة ذلك مما فيه توثيق لحقيقة النصر من عند الله مهما تمالأ الظالمون أو أعدوه من عتاد وعساكر وأساليب وخطط لتدمير الإسلام والمسلمين ؛ يقول المرحوم الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن : إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة. ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها- قائم كذلك في كل لحظة. وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ، وسنة ماضية لم تتوقف. وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة، وتثق في ذلك الوعد، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة، وتصبر حتى يأذن الله، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله، المدبر بحكمته، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة٢.
٢ - في ظلال القرآن جـ ٣ ص ١٥١..
يستفاد من بناء الفعل الماضي في الآية ( زين ) للمجهول أن الإنسان مزيّن له تزيينا أن يحب هاتيك الشهوات مما ذكر، وبذلك فالتزيين خارج عن إرادة الإنسان. وإنما الإنسان قد جيء به مفطورا على هذه الحال من إركاز الغرائز الفطرية والأهواء الذاتية كحب النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فلا جرم أن المزين للإنسان حب الشهوات من لذائذ وأهواء ومنافع هو الله، مع أنه قيل في المزين خلاف ذلك، لكننا نرجح أن المزين هنا هو الله. ذلك أن ما ذكر في الآية من وجوه الشهوات المختلفة ليس عارضا ولا مكتسبا، بل إنه إحساسات فطرية مركوزة في أعماق الطبيعة البشرية لا يملك حيالها غير الاعتبار والمراعاة.
إن ما ذكرته الآية من لذائذ ورغائب، إن هي الاستعدادات ذاتية أصيلة ضاربة في أغوار النفس البشرية، بل إنها جملة من المركبات الذاتية لطبيعة الإنسان. فهي ليست مصنوعة ولا مستفادة على سبيل الاكتساب، وإنما هي ذخائر فطرية بني عليها الإنسان قدرت في كيانه تقديرا.
إذا تبين لنا ذلك لزم أن نقول إن هذه الغرائز والشهوات لا ينبغي أن تثير في النفسي الاستهجان أو الغضاضة، فهذه الإحساسات ليست مستقبحة ولا نشازا ولا هي مثار للاستخفاف أو الازدراء، بل إن عكس ذلك هو الصحيح، فإن هذه المركبات الفطرية المستحوذة على كيان الإنسان جديرة بالمراعاة والاهتمام ؛ لأنها من خلق الله ومن تقديره. فهي جملة من المركبات النفسية والعضوية الذاتية للإنسان، بل الإنسان كله حصيلة متوازنة متماسكة متكاملة لهاتيك المركبات العديدة المنسجمة، فلا جرم أن مثل هذا التخليق من صنع الله وتقديره.
وإذا كان الأمر كذلك بات من الضرورة الاستفادة من مثل هذا التركيب المتماسك المتوازن المنسجم الذين جاء عليه الإنسان ؛ وذلك من أجل الإصلاح والخير وبناء المجتمع البشري على أحسن حال من الترابط والانسجام والرحمة، شريطة أن تأخذ هذه الغرائز والشهوات والرغائب مجراها السليم المعتدل. وذلك في إطار معقول ومقبول من التوازن والاعتدال، بعيدا عن الإفراط والتفريط. وكلا هذين العنصرين ( الإفراط والتفريط ) مدعاة محققة وخطيرة للتدهور والانهيار، بل إنهما مدعاة شنيعة لإعنات الإنسان بما يفضي به إلى الفساد والتدمير.
وقد كرت الآية جملة من الشهوات المحببة للإنسان والتي زينها الله للإنسان تزيينا لا يملك التنصل منه كليا، ويأتي في طليعة هذه الشهوات والرغائب اللاحاحة حب النساء، ويعبر عن ذلك بغريزة الجنس. وهي غريزة راسخة ومركوزة في النفسية البشرية، يستحيل إنكارها أو التحرر من غلبتها وسلطانها إلا الكبت المرهق الشنيع. الكبت الذي يسوم الأعصاب والجهاز النفسي كله الإرهاق والعنت والاضطراب.
هذه حقيقة مقدرة ومحسوبة، حقيقة قد راعاها الإسلام وحسب لها من التشريع ما يكافؤها من الاهتمام والحرص والرعاية، وذلك بتشريع النكاح. هذا العقد المبارك المقدس الذي يصون للأزواج طبائعهم ونفوسهم ؛ كما تظل مرتاحة مطمئنة لا يعتورها خلل، ولا قلق ولا إرهاق، ويصون للأسر والبيوت حسن العيش في ود ومرحمة من غير شقاق ولا نزاع ولا فوضى، ويصون للمجتمع كله أمنه واستقراره فيظل شامخ البنيان مستديم الصيانة والصلابة والائتلاف.
وكذلك حب الشهوة من ( البنين ) وواحده ابن، والإنسان مفطور على حب الذرية والنسل، لا جرم أن هؤلاء أقرب الخليقة إلى قلب الآباء والأمهات وهم الأصول ؛ لأن الولد فرع الأصل، بل هو بضعة منه وجزء أساسي أصيل منبثق عن كيانه وبذلك فإن الآباء والأمهات لشدّ ما يكون حبهم وتعلقهم بأولادهم عظينا وغامرا.
على أن البنين خاصة تزداد الرغبة لدى الأصول في إنجابهم لإحساسهم المستكن أن ذريتهم من البنين والحفدة هم خير معوان لهم في رحلة العمر هائلة.
وكذلك حب الشهوة من ( القناطر المقنطرة من الذهب والفضة ) يراد بالقناطر المقنطرة – في الجملة- المال الكثير يتوثق به الإنسان في دفع أصناف النوائب. وهو قول الرازي.
أما الذهب والفضة فهما معيار الثمنية للأشياء كلها. قال الرازي في ذلك : الذهب والفضة إنما كانا محبوبين ؛ لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة الكمال، والكمال محبوب لذاته. فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب، لا جرم كانا محبوبين١.
وحب الإنسان للمال حقيقة لا شك فيها. حقيقة تعترف بها الوقائع والاستقراءات المحسوسة التي تشهد على تشبث الإنسان المشبوب بالمال، إن حب المال يكاد يستحوذ كليا على قلب الإنسان وأعصابه وتفكيره إلا أن يستعصم بأهذاب العقيدة والتقوى ليتحرر من طوق هذه الشهوة الغلابة الجامحة.
وليت شعري هل ينجو من أسر هذه الشهوة الطاغية المستحوذة إلا القليل القليل من بني البشر. أولئك الذين استعلت طبائعهم وكراماتهم على المال بكل صوره وأصنافه ما بين ذهب ونقود مختلفة الأنواع والأشكال. نقود مرصودة في صنادق السحت والشنار داخل المصارف الربوية.
وكذلك حب الشهوة من ( الخيل المسومة ) الخيل اسم جمع ليس له واحد من لفظه، واحده فرس كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحو ذلك. والخيل مؤنثة، وسميت خيلا لاختيالها وهو إعجابها بنفسها مرحا. ومنه يقال : اختال الرجل. وبه خيلاء وهو الكبر والإعجاب٢. والمسومة بمعنى الراعية. يقال : أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي. وقيل : الراعية المطهمة الحسان٣ وهذه صنف من المال محبب للنفس ومرغوب في اقتنائه، تحصيلا لاشتهاء النفس لمثل هذا المتاع. وهو واحد من زخارف الدنيا يجد فيها الرجال حظهم من المفاخرة والتلذذ بالمرح والاختيال.
وكذلك حب الشهوة من ( الأنعام والحرث ) الأنعام جمع ومفرده نعم بالفتح، وهي الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للجنس الواحد منها : نعم، إلا للإبل خاصة فإنها فلبت عليها. والحرث معناه الزرع. والمراد به في الآية اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به. نقول : حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة٤.
وهذان صنفان من المال تهوي إليهما النفوس ؛ لما فيهما من استدرار للخير المستفاد من الأنعام من حيث لحومها وألبانها وأشعارها وجلودها وغير ذلك من وجوه المنافع الحيوانية. وكذلك الحرث حيث الأرض وما يستفيض فيها من خيرات ومذخورات وكنوز، ما بين زروع وثمار ومياه ومعادن ونحو ذلك من أصناف المنافع. كل أولئك مجتمع في العبارة القرآنية الوجيزة المعبرة ( والأنعام والحرث ).
وفي جملة هذه الأصناف من ضروب المتاع الزائل قال القرطبي : قال العلماء : ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس، أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق٥.
قوله :( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) الإشارة هنا إلى ما ذكر في الآية من وجوه المنافع والزينة وغير ذلك من أصناف المباهج والخيرات الزائلة مما يؤول إلى الزوال والفناء لا محالة. إن ذلك كله ( متاع الحياة الدنيا ) والمتاع معناه المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج٦. لكن ما عند الله خير وأدوم وأبقى ( والله عنده حسن المآب ) أي المرجع والنعيم المقيم المستديم. ما من متاع في هذه الدنيا إلا ومصيره الزوال القريب، وما يكاد المرء يمارس استمتاعه بمنافع هذه الحياة- على اختلاف هذه المنافع وتفاوتها حتى يجد نفسه قد فرغ منها في عجل من حيث يدري أو لا يدري، وما تمر الأيام أو السنون حتى تنطوي بالمرء صفحات العمر وهو يظن أنه على شيء، ثم تفجأه صرعة الموت الداهم ليستيقن- في حقيقة لا ريب فيها- أنه فارق كل متاع وأنه لم يجن من دنياه ومآله وتطلعاته غير الندامة والإياس المطبق. وهناك الخسران والثبور !.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٢٠٠..
٣ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣١٨ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ٢١٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٢..
٤ - مختار الصحاح ص ١٢٨ والمصباح المنير جـ ١ ص ١٣٨ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ٢١٣ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٣٤، ٣٥..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٣٦ والرساتيق. جمع معرب وهو السواد والقرى أنظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٤٣ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٤٢..
٦ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ٨٦..
قال ابن كثير في بيان الجنات التي تجري من تحتها الأنهار : أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء. وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قوله :( خالدين فيها ) أي ماكثين فيها أبدا الآباد من غير خروج منها ولا تحول عنها.
قوله :( وأزواج مطهرة ورضوان من الله ) هذه واحدة من خير النعم التي يتمتع بها المؤمنون في الجنة، لا جرم أن خير النعم التي يحظى بها المؤمن في حياته هي الزوجة الصالحة، وفي هذا المعنى من لطائف الزوجة الصالحة يقول الرازي : إن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن. ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب فقال :( مطهرة ) ويدخل في ذلك : الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة٢.
قوله :( ورضوان من الله ) الرضوان بكسر الراء وضمها أي رضا الله وهو مصدر والرضاء اسم٣ والرضوان هو أعلى منازل الكرامة لأهل الجنة، بل إن الرضوان من الله يكتبه لعباده المؤمنين الجنة لا جرم أنه خير ما عرفته الكائنات من لذائذ وطيبات، وخير ما حفل به هذا الكون المديد من مباهج وخيرات حسان.
جاء في ظلال القرآن قوله في هذا الصدد : ثم هنالك ما هو أكبر من كل متاع. هنالك ( رضوان من الله ) رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما. ويرجح... رضوان بكل ما في لفظه من نداوة وبكل ما في ظله من حنان٤.
نسأل الله جلت قدرته أن يمن علينا بفيض من رضوانه الكريم الغامر وأن يحشرنا في زمرة الأتقياء الأوفياء.
قوله :( والله بصير بالعباد ) أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا. وفي جملة ذلك وعد ووعيد، فهو وعد من الله لعباده المؤمنين المخلصين بإحلالهم الدرجات من التكريم والنعيم. ووعيد منه للفاسقين والجاحدين والعصاة بإركاسهم في الأذلين ليبوؤوا بسخط الله وعذابه٥.
٢ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ٢١٦ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٢ وتفسير البيضاوي ص ٦٨..
٣ - مختار الصحاح ص ٢٤٦.
٤ - في ظلال القرآن جـ ٣ ص ٣٧٥..
٥ - رواح المعاني للأولوسي جـ ٢ ص ١٠١ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٢٠٧..
قوله :( الذين ) يحتمل إعرابه ثلاثة وجوه الأول : البدلية من قوله :( للذين اتقوا ). الثاني : خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم : الثالث " مفعول به لفعل مدح محذوف.
هؤلاء المؤمنون المطيعون يقرون لله بالوحدانية المطلقة، ويؤمنون بكتبه وأنبيائه ورسالاته، ويتضرعون لله في كل آن بالدعاء له وحده أن يغفر لهم الذنوب، أي يستر عليهم ما اقترفوه من السيئات والمعاصي، سواء منها الصغائر والكبائر، وأن يدفع عنهم النار بلهيبها الحارق الذي تصطلي فيها الأبدان اصطلاء.
وقوله :( والصادقين ) الذين يصدقون مع الله في نياتهم وأقوالهم سرا وعلانية، وقبل غير ذلك.
وقوله :( والقانتين ) يعني المطيعين.
وقوله :( والمنفقين ) من الإنفاق، وهو بذل المال ونحوه في وجه من وجوه الخير طلبا لمرضاه الله، فهم المؤتون زكوات أموالهم وواضعوها على ما أمرهم الله وبإتيانها، والمنفقون في أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها١.
وقوله :( والمستغفرين بالأسحار ) الأسحار، جمع ومفرده سحر، وهو آخر الليل قبيل الفجر، والمستغفر، من الغفر وهو التغطية. استغفر الله لذنبه أي طلب منه أن يستر ذنبه ويغطيه، وتخصيص هذا الوقت للاستغفار ؛ لما فيه من قرب الإجابة من الله ؛ لما في خصوص هذا الوقت من امتحان للنفس إذ يشدها ثقل الكرى دون النهوض للصلاة في همة ونشاط، فضلا عما يغشى النفس في هذه الساعة الحانية الودود من تخشع وسكون، وما يغمرها من لطائف الإيناس الرفيق إذ تستيقظ فيها الفطرة تماما لتكون عل غاية من البهجة والاستئناس والحبور.
جاء في نزول هذه الآية أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمد ؟ قال : " نعم " قالا : أنت أحمد ؟ قال : " نعم " قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلاني " فقالا له : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى ؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما. وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى عليه السلام١.
وقوله :( شهد ) أي بين وأعلم. والشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه وذلك إعلان من الله كبير، إعلان مجلجل وقارع يبين وحدانية الله، وأن الله خالق الكائنات والخلائق، وبارئ مدبر إلا هو سبحانه. ولا ريب أن هذه شهادة عظمى، بل إنها كبرى الشهادات في هذا الكون كله، شهادة ربانية مثيرة تصدر عن جلال الله وعن كماله الأعظم، على أنه وحده المتفرد بالإلهية من غير نديد له في ذلك أو شريك.
وكذلك الملائكة يشهدون، وأولو العلم. وهم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما من علوم ومعارف.
وبذلك فإن الله جل جلاله يشهد، والملائكة كذلك يشهدون. وأهل العلم يشهدون أيضا على أن الله وحده خالق كل شيء ( قائما بالقسط ) قائما منصوب على الحال. فهو قائم بالعدل، وهذا شأنه جل وعلا، قيوم العالمين بالعدل والفضل والرحمة.
ثم كرر للمشهود به على سبيل التأكيد ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) والعزيز الذي لا يمتنع عليه شيء أراده. والحكيم في تدبيره فلا يدخله خلل٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ٢١٠ وتفسير الألوسي جـ ٢ ص ١٠٥ – ١٠٦ وفتح القدير للشوكاني جـ ١ ص ٣٢٥..
الدين بكسر الدال لغة العادة والشأن. دانه يدينه دينا بالكسر أذله واستعبده وفي الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " والدين أيضا الجزاء والمكافأة. يقال دانه يدينه دينا أي جازاه١.
ومعنى الدين في الآية هنا : الطاعة والذلة، وكذلك الإسلام وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، وفعله أسلم بمعنى دخل في السلم وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. أو الاستسلام لله بالامتثال له بالطاعة والخضوع.
وقيل : الإسلام هو التسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل. ويرادف ذلك كله في الجملة ما قاله قتادة في ذلك وهو أن الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به. وهذا هو مقتضى قوله تعالى في هذه الآية :( إن الدين عند الله الإسلام ) أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام. وهو شهادة أن لا إله إلا الله تعالى، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى مثلما قاله قتادة٢.
وقيل : بل إن الشهادة من الله والملائكة وأولي العلم هي علم ( إن الدين عند الله الإسلام ) وبذلك يكون التقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام، وقيل : التقدير هو : شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام. وذلك يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام. وهذه حقيقة معلومة لا تقبل الشك، ويزيدنا في ذلك يقينا قوله تعالى في آية أخرى :( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ٣.
وكيفما يكون التقدير فإن الأهم من ذلك أن نتصور كون الشهادة من الله والملائكة وأولي العلم قائمة على أن الإسلام دون غيره لهو المعتبر. وهو وحده عنده الله المقبول، ويحمل المسلمون مثل هذه القناعة القطعية لا جرم أن ذلك مبعثه حقيقة التصور المتكامل عن الإسلام. وهو أن الإسلام لهو دين البشرية حقيقة وصدقا. دين البشرية في كل مكان وزمان ؛ وذلك لما يتجلى في الإسلام من خصائص الصلوح المميز بما يراعي طبيعة الإنسان أصدق مراعاة، هذه الطبيعة المركوزة المتشابكة المنسجمة المتكاملة التي لا يناسبها غير هذا الدين... دين الإسلام.
وهذا ما ينطق به الواقع المحس، ويعززه البرهان السليم، وتشهد له الفطرة الراسخة الغلابة.
قوله :( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) المراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى. فقد اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم إذ أنكروها وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ؛ لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب. قالوا ذلك بعد أن ( جاءهم العلم ) وهو البيان الحقيقي والكامل عن صفة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم، وعن نبوته وهو ما وجوده في كتبهم، لكنهم مع ذلك جحدوا نبوته صلى الله عليه و سلم وناصبوه العداء وتصدوا لدعوة الإسلام بالتآمر والخيانة والكيد والتشويه والتشكيك والافتراء، سواء كان ذلك في زمن النبوة الميمونة أو ما بعدها خلال عصور الإسلام حتى زماننا الراهن هذا، فما فتئ أهل الكتاب- يتجشأون- آناء الليل والنهار- سموم التواطؤ والعدوان على الإسلام ؛ لتدميره واستئصاله من القواعد، ولن يفلحوا في ذلك بمشيئة الله، ولسوف ترتد مكائدهم مؤامرتهم ومخططاتهم إلى نحورهم ليزدادوا على مر الزمن قلقا وتغيظا، ولن يقضي بهم ذلك إلا إلى السقوط في مهاوي الفشل والخسران والعار. ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ٤.
قوله :( بغيا بينهم ) بغيا مفعول لأجله منصوب. أي فعلوا ما فعلوه ؛ لما يركم في نفوسهم المريضة من حسد وكراهية للإسلام والمسلمين.
قوله :( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) ذلك وعيد من الله وتهديد لأولئك الجاحدين الذين أعرضوا عن دين الله وجحدوا الإسلام بتعاليمه الوضيئة الزاهرة، وحججه ودلائله الظاهرة الباهرة. لا جرم أن الله سيحصي عليهم أعمالهم الظالمة وتصديهم لدعوة الإسلام بالجحد والصد والتكذيب فيحاسبهم على ذلك بعد أن يصيروا إلى الله سراعا.
٢ - تفسير الألوسي جـ ٢ ص ١٠٦ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٢٦ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٢١٢..
٣ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ٢٢٤ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٤٣.
٤ - سورة يوسف الآية ٢٢..
كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أظهر لأهل الكتاب الحجة الثابتة على صدق نبوته، وكان قد أظهر لهم من المعجزات والبينات والدلائل ما يكشف على التمام أنه رسول أمين.
لكنهم مع ذلك كله قد جحدوا وتمردوا وأبوا إلا اللجوج في الضلال والغي ؛ لذلك يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه و سلم بالقول لهم ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) أي إن خاصموك بعد ذلك أو جادلوك بالأقاويل الفاسدة والافتراءات القائمة على التضليل والتحريض فقل لهم : إنني منقاد لله وحده، منقاد له بكياني كله. وعبر بالوجه في الآية ع بقية الجوارح وأعضاء البدن ؛ لشرف الوجه وتميزه على الجسد كله بتمام الشكل والصورة وانسجام الأعضاء والمركبات التي يتألف منها الوجه، ما بين عين تبصر، ولسان نطاق ذاكر، وقسمات ترسم على الوجه علائم الهشاشة المريحة.
على أن المسلم إنما يسلم لله بكيانه كله. وفي طليعة ذلك كله عناصر أساسية كبرى في كينونة الإنسان وفي شخصيته المتكاملة الملتئمة، وأهمها الذهن والقلب والضمير والمشاعر : لا جرم أن ذلك كله مستسلم لله ومنقاد لأوامره وشرائعه دون إبطاء أو انثناء.
ويأتي الرسول صلى الله عليه و سلم في مقدمة المؤمنين من حيث الاستسلام لله كليا. والنبي عليه السلام هو إمام المسلمين الأول في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة، لا جرم أنه إمامهم وقائدهم إلى طاعة الله والخضوع لمنهج القويم، بل إنه قائدهم إلى الخير والسعادة والنجاة في الدارين.
ثم يأمر الله نبيه صلى الله عليه و سلم بالقول للكافرين – جميعا وهم أكل الكتاب والمشركون الأميون العرب- :( أأسلمتم ) وهو استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر. أي هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة لله رب العالمين دون غيره من الشركاء والأنداد التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم... ( فإن أسلموا )، أي انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة له والألوهية ( فقد اهتدوا ) أي أصابوا الحق وسلكوا محجة الرشد والسداد، لكنهم إن تولوا عن محجة الإسلام وطريق الله القويم ( فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) أي ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة لهم. وهذه رسالة الإسلام إلى الناس. رسالة الحق واليقين وإخلاص العبادة والتوحيد لرب العالمين. وفي ذلك ما يسرّي عن الرسول صلى الله عليه و سلم بما يكفكف عنه الشعور بالأسى أو الحزن لكفرانهم وإدبارهم، فإنما هو مبلغ أمين قد أوفى بما اضطلع به من حمل لأمانة التبليغ تمام الوفاء وكفى.
قوله :( والله بصير بالعباد ) وهذا وعد ووعيد. وعد من الله لعباده المؤمنين المخلصين الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله دون سواه. والذين صبروا على الحق خلال طريقهم الطويل الشاق وخلال جهادهم المرير للظالمين من وثنيين وصليبيين وملحدين وصهيونيين واستعماريين وغيرهم من أولي الملل الضالة الكفارة. لا جرم أن الله منجي عباده الأبرار الصابرين ومهلك الضالين المضلين الذين أبوا غير طريق الشيطان فاتخذوه سبيلا. أولئك ما كان لهم إلا الخسران في هذه الدنيا حيث اللعائن من الله تحيق بهم طيلة الزمان لتحل بديارهم على الدوام قوارع العذاب الدنيوي المهين كالعاهات والمآسي النفسية والاجتماعية والبدنية.
وذلك كله بين يدي الساعة والتلاقي الكوني المحتوم حيث الهوان المريح، والإبلاس المزلزل المطبق !
إن الذين يجترئون على قتل النبيين ودعاة الإسلام العاملين المخلصين. أولئك هم الأشقياء من شر البشر الذين تجترئ طبائعهم الممسوخة وقلوبهم الجاحدة المريضة على مقارفة العدوان والنكر في أبشع صورة. تلك فظاعة العدوان والنكر في أبشع صورة. تلك هي فظاعة العدوان الصارخ على جلال الله وسلطانه الأعظم بقتل أنبيائه الأطهار وأتباعهم من دعاة الحق.. دعاة الإسلام.
على أن الإسلام في حقيقة أبعاده وشموله يعني الاستسلام لسلطان الله، والامتثال لأوامره والوقوف عند حدوده، وأساس ذلك كله عقيدة التوحيد الخالص لله دون سواه من المخاليق. وذلك إنما ينسحب على عامة الأديان السماوية الحقيقية الناصعة من غير أن يعتريها تحريف أو خلط أو تشويه.
وفي ذلك العدوان النكير على النبيين ودعاة الحق روي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال : " رجل قتل نبيا أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم :( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عز وجل " ١.
فإن قيل : ذلك في الذين خلوا من بني إسرائيل إذ كان ديدنهم التقتيل فما جريرة أحفادهم في الأزمان التالية فيما بعد ؟ !
والجواب أنهم رضوا عما ورثوه عن آبائهم من تقتيل للنبيين وأتباعهم من الدعاة إلى الله، فضلا عن براعة يهود في صور التدسس من خلف المجتمعات وهم يتآمرون على البشرية بتدبير المؤامرات والمخططات وأساليب الكيد والإفساد لتدمير القيم والأديان، وإشاعة الفوضى والرعب، وكذلك إثارة الفتن والحروب وغير ذلك من وجوه الإبادة والتخريب.
هؤلاء الذين قتلوا أنبياء الله وكادوا للمؤمنين كيدا قد توعدهم الله بالعذاب الموجع البئيس سواء في الدنيا حيث الذلة والصغار، أو في الآخرة حيث التحريق والاضطرام في السعير الحامية المتأججة، وذلك في قوله تعالى :( فبشرهم بعذاب أليم ) والبشرى إذا أطلقت استعملت في الخير، وإنما تكون للشر إذا قيدت به كهذه الآية والمراد هنا إنذار هؤلاء القوم بالعذاب الأليم٢.
٢ - تفسير الرازي جـ ٧ ص ٢٣٢، ٢٣٣ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ١٤٥ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٥ ومختار الصحاح ص ٥٣..
( بطلانها ) وذلك في الدنيا والآخرة.
وأما حبوط أعمالهم في الدنيا فمقتضاه أن لا ينالوا بها محمدا ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل ولم يرفع الله لهم بها ذكرا، بل لعنهم وهتك أستارهم وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم فأبقى لهم ما بقيت في الدنيا مذمة، وذلك حبوطها في الدنيا، وأما حبوطها في الآخرة فهو بطلانها وذهابها هدرا بغير ثواب فوق ما يصيرون إليه من سوء الجزاء وهو الخلود في الجحيم، وليس لهم في كل أحوالهم من نصير ولا مجير ينفعهم أو يدرأ عنهم شيئا من العذاب٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٤٥ وتفسير الرازي جـ ٧ ص ٢٣٣..
جاء في سبب نزول هذه الآية عدة أقوال نقتضب منها اثنين :
أولهما : إعراض أهل الكتاب اليهود عن دعوة الإسلام وتكذيبهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الحكم عام في كلا الفريقين ؛ وذلك لأن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون.
ثانيهما : المراد بهم في الآية يهود. وهو اختيار ابن جرير الطبري إذ قال : أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده ممن قد أوتي علما بالتوراة أنهم دعوا فيه إلى كتاب الله الذي كانوا يقرون أنه من عند الله وهو التوراة في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسول الله صلى الله عليه و سلم، وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا تنازعوا فيه ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه كان أمر محمد صلى الله عليه و سلم وأمر نبوته، ويجوز أن يكون ذلك كان أمر إبراهيم خليل الرحمن ودينه. ويجوز أن يكون ذلك ما دعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به١.
ويستفاد من ذلك أن شرائع من قبلنا شرع لنا نحن المسلمين إلا ما علمنا من تلك الشرائع أنه منسوخ بشريعة الإسلام. وعلى هذا فالأصل وجوب الحكم بشرائع النبيين السابقين إلا ما خالف منها شرعنا٢ وإذا لزم الاستنكاف عن قراءة التوراة والإنجيل أو العمل بهما أو الاستفادة منهما فلأن هذين الكتابين باتا غير موثوق بهما ؛ لأنهما في أيد غير أمينة. لا جرم أن أهل الكتاب ليسوا مؤتمنين على ديانتهم وما أنزل عليهم من كتب، بل إن هذه الكتب والديانات قد خالطها العبث والتلاعب والتحريف فلم تعد بعد ذلك صالحة لتصديقها أو العمل بها على أن هؤلاء المستنكفين عن شريعة الإسلام، المكذبين لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، والذين تولوا معرضين عن دعوة الحق، كانت تراودهم اوهمامهم المريضة بأنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام فقط. إذ يعذبون يوما واحدا عن كل ألف سنة من سني الدنيا، وقيل : الأيام المعدودات هي أربعون يوما وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجهم الله من النار، لا جرم أن ذلك ضرب من ضروب التخريف الفاضح، التخريف السادر في أطواء الوهم، السابح في أجواز الحلم الشاطح.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٥..
قال ابن عباس وأنس بن مالك في سبب نزول ( قل اللهم مالك الملك ) لما افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قالت المنافقون، اليهود : هيهات هيهات. من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك. ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في فارس والروم ؟ فأنزل الله هذه الآية١.
قوله :( اللهم ) موضع خلاف لدى النحويين، ونختار من أقوالهم ما نجده راجحا وهو أن ( اللهم ) معناه : يا ألله. والميم المشددة عوض عن : يا. وهو قول الخليل وسيبويه. وقيل غير ذلك٢ وبذلك يكون المعنى : يا مالك الملك. أي يا مالك الدنيا والآخرة. يا من له ملكوت الكون كله خالصا لك من غير شريك ولا نديد. أنت ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) أي تعطي من تشاء من عبادك في هذه الدنيا ما تشاء مما تملكه أو تسلطه عليه، وأنت قادر كذلك على انتزاع هذا الملك من مالكه المتسلط عليه من الناس. وكذلك فإن الله يعز بفضله ورحمته من يشاء من عباده إذ يسلبه الملك ويسلط عليه عدوه. وهو جل جلال بيده الخير. واليد بمعنى القدرة، أي أن الخير بقدرة الله يكتبه لمن يشاء من خلقه. وألف التعريف في الخير تفيد الاستغراق. أي أن الخير كله بيد الله وحده لا بيد غيره. على أن الخير كلمة جامعة يلج فيها كل وجوه النعمة والعطاء، سواء في ذلك المال أو الجاه أو الشرف أو السلطان. ويأتي في ذروة ذلك كله نعمة الدين والإيمان. وذلك مقتضى قوله :( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ) فهذه حقائق راسخة عن عظيم شأن الله وعظيم قدرته مما ينبثق عن التصور العظيم لألوهية الله المدبر لأمور الكون جميعا والذي بيده ملكوت كل شيء. فمثل هاتيك الحقائق الثوابت الكبريات تجليها العبارة القرآنية الفذة ( إنك على كل شيء قدير ).
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٢..
قوله :( وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) لمعرفة تأويل ذلك نقول : هل الحياة والموت في هذه الآية على الحقيقة أو من باب الاستعارة ؟
فإن كان ذلك على الحقيقة فمثاله : إخراج السنبلة من الحبة وبالعكس، وكذا النخلة من النواة وبالعكس، وكذا الحيوان من النطفة وبالعكس.
وإن كان ذلك من باب الاستعارة فمثاله : يخرج المؤمن من الكافر، كإبراهيم من أبيه المشرك آزر. والكافر من المؤمن، مثل كنعان المشرك من أبيه نوح عليه السلام. أو يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس. فقد ذكر أن الكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقال تعالى :( أو من كان ميتا فأحييناه ) يريد أنه كان كافرا فهديناه فجعل الموت كفرا والحياة إيمانا، وسمي إخراج النبات من الأرض إحياء بعد أن كانت قبل ذلك ميتة فقال :( يحيي الأرض بعد موتها ) وقال :( فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ).
وقوله :( وترزق من تشاء بغير حساب ) جاء في تأويل ذلك : إن الله تعالى يعطي من يشاء من خلقه فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه ؛ لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه ولا الفناء على ما بيده. وقيل : يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد ؛ إذ ليس فوقه ملك يحاسبه، بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب، وقيل : ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود، بل تبسطه له وتوسعه عليه، كما يقال : فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٤٩-١٥١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٦ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ٢- ١٠ وتفسير البيضاوي ص ٧١ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤٢١..
ورد في سبب نزول هذه الآية جملة أقوال منها قول ابن عباس إنه كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبي الحقيق وقيس بن وزيد، وهؤلاء كانوا من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وذكر عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلى الله عليه
وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ) ١ نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء وأعوانا وأنصارا ليسروا إليهم بالمودة من دون المؤمنين. وقوله :( أولياء ) جمع ومفرده الولي ومعناه : المحب والصديق والنصير والصاحب والحليف والتابع، والولاء والموالاة ضد المعاداة والولاية بالفتح والكسر بمعنى النصرة٢.
وجملة المراد من هذه الآية نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين أو اتخاذهم أعوانا وأنصارا من دون المؤمنين، لا جرم أن موالاة المؤمنين للكافرين واتخاذهم بطانة لهم مع مسارّتهم والدنو منهم في إطار من التحالف والصداقة والحب لهو ضرب من ضروب النفاق المكشوف، وأنه ظاهرة من ظواهر التهافت المسف الذي يفضي إلى تقليد للكافرين في عاداتهم وأخلاقهم وسلوكهم، وتلك مدعاة للانخلاع – في الغالب- من ربقة الإسلام شيئا فشيئا بما يولج المتهافت الخائر في زمرة الشرك والمشركين والعياذ بالله !.
لا مساغ بحال، في الأحوال العادية أن يوادع المسلم الكافرين على حساب المسلمين فيلاطفهم ويظاهرهم على المسلمين.
لا مساغ للمسلم أن يكون على هذا النحو من الضعة والإسفاف والخور، وهو في كل الأحوال يعلم أن العزة لله جميعا، فالله هو المعز والمذل، وأن الملك كله بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده، وأن الله هو الرازق وهو الباسط وهو المانع وإليه يرجع الأمر كله.
قوله :( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) يعني من يوالي الكافرين في دينهم وعقيدتهم عن رضى وطواعية ليظهرهم بعد ذلك على عورات المسلمين وأسرارهم إلى غير ذلك من وجوه الموالاة للكافرين وموادتهم ( فليس من الله في شيء ) أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن ملة الإسلام ودخوله بالكفر.
قوله :( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) تقاة بمعنى تقيّة بفتح التاء الأولى. يقال : أتقي تقية وتقاة. والتوقية يعني الكلاءة والحفظ، واتقيت الشيء وتقيته أتقيه تقيً وتقية وتقاء. ووقاه الله وقاية أي حفظه. والاسم التقوى٣.
والمراد نهي المؤمنين عن موالاة الكافرين إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين. وبعبارة أخرى فإنه ليس لهم أن يلاطفوهم أو يوالوهم إلا أن يكونوا في سلطانهم فيخافوهم على أنفسهم فيظهروا لهم الولاية بألسنتهم، على أن يضمروا لهم العداوة وأن لا يشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا يعينوهم على مسلم٤.
قال ابن كثير في تأويل قوله تعالى :( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال " إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم " ٥ ونكشر بفتح النون من الكشر بفتح الكاف وهو الضحك. نقول : كشر عن أسنانه يكشر كشرا، في الضحك وغيره٦.
وقد ذكر الرازي جملة أحكام للتقية نبينها هنا وهي :
أولا : أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرّض في كل ما يقول، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.
ثانيا : لو أنه أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل. ودليله أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم. نعم. نعم. فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم. وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة، ومحمد رسول قريش، فتركه ودعاة الآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم. قال : أفتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم ثلاثا، فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه ".
ثالثا : أن التقية إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين. فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائر البتة.
رابعا : ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس.
خامسا : التقية جائزة لصون النفس. وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ؛ لقوله صلى الله عليه و سلم : " حرمة المسلم كحرمة دمه " ولقوله صلى الله عليه و سلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد " ٧.
قوله :( ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ) يخوف الله بذلك عباده من انتقامه وعذابه إذا هم خالفوه بموالاتهم أعداءه من المشركين الظالمين ومعاداتهم للمسلمين جريا وراء مكاسب مسفة رخيصة يمتن بها عليهم أعداء الله. إنه لا يلاطف الكافرين على اختلاف مللهم وعقائدهم فيوادهم ويناصرهم على حساب المسلمين إلا كل منافق خائن أو مشرك أثيم تمرد على شريعة الله فباء بالارتداد والزيغ عن ملة الإسلام وانتكس إلى حيث الخسران وسوء المصير.
٢ - القموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠٤ ومختار الصحاح ص ٧٣٦.
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠٣ ومختار الصحاح ص ٧٣٣..
٤ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٥٢..
٥ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٧..
٦ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ١٣٢..
٧ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٣، ١٤..
على أن الأشد من ذلك تأثيما وضلالا وعدوانا على الله ما يقارفه المنافقون الخائنون أو المرتكسون الأشرار من بين صفوف المسلمين وهم يوادون أعداء الله ليطلعوهم على عورات المسلمين وأحوالهم ودخائلهم من غير حاجة إلى ذلك ولا تقية، وهم يظنون أنهم في معزل عن أنظار الناس فلا يدري بهم أحد. وما علم هؤلاء المنافقون الخونة أن الله يعلم سرهم وجهرهم وأنه مطلع على أسرارهم وأغوارهم وما يستكن في صدورهم من خلجات وأستار، بل إن الله جل شأنه يستوي أمام علمه السر والعلن. فما تخفيه الصدور أو تظهره وتجهر به فهو عنده سيان، بل إن الله جلت قدرته عليم بكل شيء، بكل ما في هذه الكلمة من أبعاد العلم، إن علم الله محيط بالكون كله. وهو جل وعلا ( على كل شيء قدير ) وذلك غاية في التركيز على دوام الخوف من الله، الله الذي ينتقم من الأشرار المجرمين الذين يخادعون المؤمنين ويطعنونهم من الخلف طعنا.
وفي هذه الساعة المخوفة من الإياس المطبق تتشبث النفس المشدوهة المذعورة بكل ما تظنه منجاة لها من الخسران والثبور. فإذا أيقنت أن لا منجاة حينئذ ولا مجير غشيتها الأماني الواهمة الخادعة أن لو كان بينها وبين هذا المصير الخاسر أمدا بعيدا من الزمان أو المكان. يعبر عن ذلك أكمل تعبير قوله تعالى :( تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ).
وقوله :( ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ) ذلك تأكيد منه للوعيد الذي خاطب به المسيئين المستنكفين عن أوامر الله ميلا يحل عليهم سخط الله وغضبه. ومع ذلك كله فإن رحمة الله الواسعة مرجوة للعباد، ولهم من المتسع الرحيب ما يبلغ بهم رحاب النجاة والخلاص. يستفاد ذلك من العبارة القرآنية المجيدة التي تتندى منها شآبيب فياضة من الرحمة، وتتدفق من ظواهر أحرفها الشفيفة ما يسكب في النفس الأمن والراحة والشرح.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن أقواما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا أنهم يحبون الله فقالوا : يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن اليهود لما قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها١.
وقيل غير ذلك من الأقوال بما هو شبيه بما ذكر.
وبيان ذلك أنه لا ينبغي التعويل على مجرد الحب لله من غير امتثال لأمره وانتهاء عن زواجره، وإنما الحب الصادق السليم أن تقترن محبة الله بالانقياد لشرعه والامتثال لأمره كله بعيدا عن زيغ القلوب وانحرافها صوب الهوى، وأيما حب كهذا لا جرم أن لا يكون صحيحا أو مقبولا، وكما قيل : ليس الشأن أن تحب الله وإنما الشأن أن يحبك الله، فإنه ربما حسب المرء أنه محب لله وهو في الحقيقة بعيد عن حب الله له ؛ لأن محبة الله للعبد لا تتحقق إلا من خلال الالتزام الأوفى بتعاليم الإسلام كله من غير تقصير ولا تفريط ولا تنطع ولا شطط. ويمكن إجمال ذلك في أمرين.
الأمر الأول : أن يحب المرء ربع مع الامتثال لأمره الذي بينه وشرعه للناس ما بين أوامر وزواجر، أما دعوى الحب لله في معزل عن الامتثال والتطبيق فإنه لا يغني صاحبه شيئا، بل إنه مجرد أخلاط من المشاعر الجياشة السلبية التي لا تنفع ولا تنجي من سخط الله وعذابه. ومثل هذه الظاهرة، كثيرا ما يتشبث بها فريق من الناس إذ يحسبون أنهم بمفازة من عذاب الله وأنهم محظوظون برضوان الله مادموا يكنون لربهم الحب مجردا من كل عمل أو امتثال، لا جرم أن ذلك زعم خاطئ واهم لا يزحزح عن قائليه المساءلة يوم القيامة وعسير الحساب.
الأمر الثاني : ثمة ضرب من الحب المريب يخالج الإنسان في حسه وشعوره بعد أن خالط ذهنه الوهم فبات في تصوره وظنه وسلوكه يهذي هذيان الشاطح الحالم. ذلك صنف من الأناسي غرتهم أمانيهم وأحلامهم الواهمة فانفتلوا بأنفسهم عن حقيقة الحب المنسجم فانساحوا ذاهلين مضللين بعد أن خدعتهم عقولهم التائهة وقلوبهم التي غشيها الزيغ والخلل. إن هذا الصنف من الناس خاطئ وجهول وهو يحسب أنه على شيء يحسب أنه محب لله وأنه مع لفيفه من زمرة الهائمين الحالمين البلهاء يحظون بمحبة الله دون غيرهم، لا جرم أن ذلك ضرب من الهوس الوجداني المنفوش الذي يفضي إلى اشتداد في الهيام والتهاب في المشاعر المصطنعة من غير روية ولا تبصر، المشاعر الهائمة المشبوبة التي لا يسعفها الفكر النير ولا المعرفة الحقيقية الواعية لأمور هذا الدين المتكامل المتسق، الدين الذي تأتلف في خضمه كل مناحي الحياة والسلوك ما بين سياسة واقتصاد واجتماع وجندية ومعاملات، فضلا عن جمال الزهد وصلابة العقيدة وروعة الحب الغامر لله وحده. في ذلك يقول عز من قائل :( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) وعلى هذا فإن من ادعى أنه محب لله وهو ليس على طريق الله وعلى نهج النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كاذب مخادع، أو أنه مضلل تائه مخدوع حتى يؤوب إلى الله في شرعه ومنهاجه ويمتثل في عامة أقواله وأفعاله وسلوكه لتعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة، وإذ ذاك يحظى بحب الله له وبغفرانه ورحمته.
الاصطفاء معناه الاختيار. اصطفاهم أي جعلهم صفوة خلقه. وقد بينت هذه الآية المذكورين وعلو شأنهم ومكانتهم من بين العالمين. على أن المقصود بالاصطفاء فيه قولان : أحدهما : اصطفاء الدين. ففي الكلام محذوف. أي أن الله قد اصطفى دين آدم ودين نوح، وثانيهما : أنه اصطفى آدم نفسه وكذا نوح. واصطفى آل إبراهيم وآل عمران. لقد اصطفى الله هؤلاء أي صفاهم من الصفات الذميمة وزينهم بالخصال الحميدة، وهو ما نميل إليه.
أما اصطفاء آدم فكان لما يتجلى فيه من مزايا وهي : أولا : أن الله خلقه بيده في أحسن صورة. وثانيا : أن الله علمه الأسماء كلها. وثالثا : أنه أمر الملائكة بالسجود له. ورابعا : أنه أسكنه الجنة. وخامسا : أن الله جعله أبا البشر.
أما اصطفاء نوح فإنه لما يتجلى فيه من مزايا، منها : أنه جعله أبا البشر بعد آدم ؛ وذلك أن الناس كلهم- باستثناء من في السفينة- قد غرقوا وصار ذريته هم الباقين ومنها : إن الله حمله على السفينة فنجا ومن معه وهلك الباقون.
ومنها : أن الله استجاب دعاءه على الكافرين لما لجوا في كفرهم وطغيانهم حتى طال عليهم الأمد وهم على حالهم من الشرك والعتو وعبادة الأصنام فأغرقهم الله عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من اتبع نوحا على دينه.
وقوله :( وآل إبراهيم وآل عمران ) ثمة أقوال في تأويل ذلك. فقد قيل : آل إبراهيم وآل عمران هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران. وقيل : آل إبراهيم يعني إبراهيم نفسه. وكذا آل عمران يعني عمران نفسه، وقيل : المراد بعمران أبو موسى وهارون ؛ إذ فضلهما الله بكثير من العطايا كالمن والسلوى وغيرهما. وقيل : عمران أبو مريم. فقد اصطفى الله مريم بولادة عيسى من غير أب وليس لأحد في العالمين.
وعلى هذا فقوله :( ذرية بعضها من بعض ) معناه : ذرية، دين بعضها دين بعض، وكلمتهم واحدة وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته. وأوهم بعضهم من بعض في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
وقوله :( والله سميع عليم ) يحتمل معنيين، أحدهما : أنه يعلم من يصلح للاصطفاء من الناس تبعا لاستقامة أقوالهم وأعمالهم.
ثانيهما : أنه سميع بقول امرأة عمران عليم بنيتها٢ إذ قالت ما في الآية التالية وهي : قوله تعالى :( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) موضع ( إذ ) من الأعراب جاء فيه أقوال كثيرة منها أنها زائدة، ( امرأة عمران ) هي أم مريم كانت لا تحمل فرغبت أن يكون لها ولد كغيرها من النساء، فدعت ربها أن يهبها ولدا فاستجاب لها. فلما حملت به نذرت أن يكون مولودها محررا لله. أي خالصا مفرغا للعبادة لخدمة بيت المقدس. وهذا مقتضى قوله :( إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) ( محررا ) منصوب على الحال. وتدعو امرأة عمران ربها على أنه السميع العلي، أي السميع لدعائي العليم بنيتي.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٢٢-٢٤ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤٢٤ وتفسير البيضاوي ص ٧١ وتفسير الطبي جـ ٣ ص ١٥٦، ١٥٧ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٦٣، ٦٤..
وعلى هذا فقوله :( ذرية بعضها من بعض ) معناه : ذرية، دين بعضها دين بعض، وكلمتهم واحدة وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته. وأوهم بعضهم من بعض في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
وقوله :( والله سميع عليم ) يحتمل معنيين، أحدهما : أنه يعلم من يصلح للاصطفاء من الناس تبعا لاستقامة أقوالهم وأعمالهم.
ثانيهما : أنه سميع بقول امرأة عمران عليم بنيتها٢ إذ قالت ما في الآية التالية وهي : قوله تعالى :( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) موضع ( إذ ) من الأعراب جاء فيه أقوال كثيرة منها أنها زائدة، ( امرأة عمران ) هي أم مريم كانت لا تحمل فرغبت أن يكون لها ولد كغيرها من النساء، فدعت ربها أن يهبها ولدا فاستجاب لها. فلما حملت به نذرت أن يكون مولودها محررا لله. أي خالصا مفرغا للعبادة لخدمة بيت المقدس. وهذا مقتضى قوله :( إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) ( محررا ) منصوب على الحال. وتدعو امرأة عمران ربها على أنه السميع العلي، أي السميع لدعائي العليم بنيتي.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٢٢-٢٤ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤٢٤ وتفسير البيضاوي ص ٧١ وتفسير الطبي جـ ٣ ص ١٥٦، ١٥٧ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٦٣، ٦٤..
قوله :( والله أعلم بما وضعت ) وهذا من كلام الله، لا أم مريم. وهو قول عامة القراء. أي أن ذلك خبر من الله عز وجل عن نفسه أنه العالم بما وضعت. وقيل : إن ذلك على وجه الخبر عن أم مريم أنها هي القائلة. والأول أصوب. وعلى هذه القراءة- وهي أن قائل ذلك هو الله- يكون المعنى أن الله تعالى قال : والله أعلم بما وضعت تعظيما لولدها وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد. ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله ( مريم ) وولده آية للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت.
وفي قراءة ابن عباس ( والله أعلم بما وضعت ) على خطاب الله لها. أي : أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله العالم بما فيه من العجائب والآيات.
قوله :( وليس الذكر كالأنثى ) أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى.
قوله :( وإني سميتها مريم ) أي العابدة في لغتهم.
قوله :( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) أي وإني أجعل معاذها ومعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم بك، وأصل المعاذ الموئل والملجأ المعقل. نقول : عاذ به، واستعاذ به أي لجأ إليه. وهو عياذه، أي ملجؤه. ومعاذ الله، أي أعوذ بالله معاذا. وعذت به معاذا وعياذا، أي اعتصمت١.
أي أن امرأة عمران ما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلا خادما لبيت الله تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها من الشيطان الرجيم وأن يجعلها من الصالحات القانتات٢.
والشيطان : كل عاتٍ متمرد من الإنس أو الجن أو الدواب. والشاطن معناه الخبيث. والعرب تسمي الحية شيطانا٣.
والرجيم. من الرجم وهو القتل، وأصله الرمي بالحجارة. رجم فلانا أي رماه بالفحش من القول، أو لعنه، أو اطرده٤ أي أن امرأة عمران أعوذت ابنتها مريم بالله عز وجل من شر الشيطان، وأعوذ ذرية مريم وهو ولدها عيسى المسيح عليه السلام، أي تضرعت إلى الله أن تكون مريم وولدها في رعاية الله وصنه، وأن يكونا في عياذ الله أي في عصمته وكلاءته.
وقد استجاب الله لها دعاءها. يؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إياه إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ) ٥.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٢٩..
٣ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٤٢ ومختار الصحاح ص ٣٣٨..
٤ - المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٣٣..
٥ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٥٩..
قوله :( وأنبتها نباتا حسنا ) مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين.
قوله :( وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) أي جعل زكريا كافلا وذلك بعد الاستهام فطفا سهمه ورسبت سهام الآخرين. والمحراب هو مقدم كل مجلس ومصلى، وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها، وكذلك هو من المساجد، والمحراب مفرد وجمعه محاريب ومحارب.
قوله :( وجد عندها رزقا ) أي غذاء ميسرا هنيئا لتأكل منه مريم من غير نصب ولا جهد. وقد ذكر أن زكريا كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء. لا جرم أن ذلك دلالة على كرامات الأولياء المقربين وفي السنة لهذا نظائر كثيرة١.
قوله :( قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) سألها زكريا متعجبا : من أين لك هذا الرزق، فأجابته مريم أنه من عند الله. أي أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها ؛ لأن الله ( يرزق من يشاء بغير حساب ) ويحتمل أن يكون هذا من جملة كلام مريم. أو أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى.
وقوله :( بغير حساب ) أي بغير تقدير لكثرته أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٦٧ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤٢٦، ٤٢٧..
لما وجد زكريا ما كتب الله لمريم من كرامة الرزق الحسن على هذا النحو المثير العجيب، طمع حينئذ أن يهبه الله ولدا عسى أن يحظى بمثل الكرامة المفضلة المشهودة. مع أن زكريا كان شيخا، وقد وهن منه العظم واشتغل رأسه شيبا، وكانت امرأته كذلك كبيرة وعاقرا، وبالرغم من ذلك فقد سأل زكريا ربه أن يهب له من عنده ذرية طيبة، أي ولدا صالحا ( إنك سميع الدعاء ) أي تجيب دعاء من دعاك ولا تخيب رجاءه.
بشرت الملائكة زكريا بولد اسمه يحيى ( مصدقا بكلمة من الله ) يعني المسيح عيسى. وهو قول أكثر المفسرين. وسمي عيسى كلمة ؛ لأنه كان بكلمة الله تعالى التي هي " كن " فكان من غير أب. أما يحيى فهو أول من آمن بعيسى عليهما الصلاة والسلام، وصدقه وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين. وقيل : بستة أشهر، وكانا ابني خالة.
والظاهر في اسم يحيى أنه اسم أعجمي فلا يصرف كموسى وعيسى، وقيل عربي من الحياة وسمي بذلك ؛ لأن الله أحياه بالإيمان.
قوله :( وسيدا ) السيد الذي يسود قومه ويُنتهى إلى قوله. أي يفوقهم في الشرف. وقيل : الحليم. وجملة ذلك أنه الشريف في العلم والعبادة والتقى.
قوله :( وحصورا ) من الحصر، وهو الحبس. والحصور الذي لا يأتي النساء. وقيل : المانع نفسه من الشهوات. وقيل : كان معصوما من الذنوب. أي لا يأتيها كأنه حصور عنها.
قوله :( ونبيا من الصالحين ) هذه بشارة أخرى بنبوة يحيى بعد البشارة الأولى بولادته وهي أعلى من الأولى٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٧٢- ١٧٤ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٧٥- ٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦١، ٣٦٢..
قوله :( كذلك الله يفعل ما يشاء ) أي أنه هين على الله أن يخلق ولدا من الكبير الذي يئس من الولد، ومن العاقر التي لا يرجى منها الولد ولا الولادة ؛ لأن الله لا يمتنع عليه فعل شيء شاءه ؛ لأن قدرته لا تشبهها قدرة.
قوله :( قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) لما حملت زوج زكريا بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا مع أنه قادر على قراءة التوراة وذكر الله. فإذا أراد مقالة أحد لم يطقه، أي أنه لم يستطع النطق فأصابه السكوت ولم يكن ذلك من مرض أو خرس أو نحو لك، بل كان ذلك بتقدير الله وحكمته. فقد طلب الآية ( العلامة ) ليستزيد بها من الطمأنينة. فيكون المعنى بذلك : أتمم علي النعمة بأن تجعل لي آية، زيادة نعمة وكرامة فقيل له :( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام ) أي تمنع من الكلام ثلاث ليال. وقيل : بل كان ذلك على سبيل العقاب له إذ سأل ربه الآية بعد مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به ( بيحيى فأخذ بلسانه فبات غير قادر على الكلام ( إلا رمزا ) أي يومئ إيماء. والإيماء الإشارة. وذلك بالشفتين أو الحاجبين والعينين أو اليدين أو نحو ذلك. ورمزا منصوب على الاستثناء المنقطع.
قوله :( واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ) بعد أن قال الله جل ذكره لزكريا :( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا زمرا ) بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، أمره بذكر الله كثيرا فإنه لا يمنع من ذكره ولا يحال بينه وبين تسبيه إذا أمره بالتسبيح عشيا وإبكارا، وذلك بتعظيم ربه بعبادته بالعشي، وذلك من حيث تزول الشمس إلى أن تغيب. وقيل : العشيء والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة، والعشاءان : المغرب والعشاء١.
والإبكار، مصدر بكر يبكر، إذا خرج للأمر في أول النهار. ومنه الباكورة لأول الثمرة. هذا في أصل اللغة، لكن المراد بالإبكار هنا : ما بين طلوع الفجر إلى الضحى٢.
٢ -تفسير الرازي جـ٨ ص ٤٥ والمصباح المنير جـ ١ ص ٦٦..
المراد بالملائكة هنا جبريل وحده ؛ لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل. وهو قوله تعالى :( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) وقيل : بل خاطبتها الملائكة وهو ظاهر الآية.
وعلى أي الحالين فإن المراد هو الإخبار من الله انه جل وعلا قد اختار مريم بنت عمران بأن اختصها بالكرامة والتفضيل ؛ وذلك لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها.
قوله :( وطهرك ) فإنه يحتمل عدة وجوه وجملتها أنه طهرها عن الكفر والمعصية، وطهرها عن مسيس الرجال، وعن جبلة النساء كالحيض ونحو، وطهرها أيضا عن الأفعال والعادات الذميمة.
ثم كرر الاصطفاء في الآية بقوله ( واصطفاك ) أي وهب لك عيسى من غير أب وأنطقه ( عيسى ) حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة وجعلها وابنها آية للعالمين.
أما الاصطفاء الأول هو في جملة أمور ؛ منها أن الله تعالى قبل تحريرها لتكون عابدة خادمة لبيت الله مع أنها كانت أنثى، ومنها أن رزقها كان يأتيها من عند الله خالصا سائغا من غير عناء ولا نصب، ومنها أن الله أسمعها كلام الملائكة شفاها.
وقوله :( على نساء العالمين ) ثمة قولان في تأويل المراد بهذه الآية.
القول الأول : هو أن مريم خير نساء العالمين في زمانها. وفي جملة ذلك وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
" حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون " ١.
القول الثاني : وهو أن مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة " ٢.
وروى الترمذي أيضا عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها قالت عن بكائها وضحكها بعد أن توفي أبوها عليه الصلاة والسلام : أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يموت ؛ فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم ابنة عمران ؛ فضحكت٣.
وعن عمار بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين " ٤.
ويضاف إلى ذلك أن الله قد خص مريم بما لم يؤته أحدا من النساء. ومن جملة ذلك أن روح القدس كلمها وظهر لها ونفخ في درعها ودنا منها للنفخة وليس هذا لأحد من النساء ؛ ولذلك سماها الله في تنزيله صدّيقة فقال :( وأمه صديقة ) وقال :( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق لكلمات البشرى وشهد لها بالقنوت. وغير ذلك من المناقب مما ليس لامرأة من نساء العالمين٥.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٨٣..
٣ - الترمذي جـ ٥ ص ٧٠١..
٤ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٨١.
٥ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٨٢-٨٤ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ١٨٠، ١٨١ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ٤٧، ٤٨..
وقيل : المراد بقنوت مريم أن تطيل القيام في الصلاة، وأن تخلص الطاعة لربها وحده.
وقوله :( واسجدي واركعي مع الراكعين ) أمرها بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها. فقد كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين وإن كانت لا تختلط بهم.
وقوله :( نوحيه إليك ) أي ننزله إليك وحيا، أي عن طريق الوحي، وأصل الإيحاء إلقاء الموحي إلى الموحى إليه، وذلك قد يكون بكتاب أو إشارة أو إيماء أو إلهام.
قوله :( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ) أي ما كنت يا محمد عندهم فتعلم ما نعلمك به من أخبارهم التي لم تشهدها، لكنك إنما تعلم ذلك بإعلامنا لك به كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حيت اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها ؛ وذلك لرغبتهم في الأجر ( إذ يلقون أقلامهم ) أي سهامهم التي استهم بها المستهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم.
قوله :( وما كنت لديهم إذ يختصمون ) كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا بسهامهم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا وكان زوج خالتها، وقيل : زوج أختها، وذلك بعد اختصامهم فيها أيهم أحق بها وأولى١.
وقوله :( بكلمة منه ) أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له " كن " فيكون. وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : بكلمة منه، أي برسالة من الله وخبر من عنده. وهو من قول القائل : ألقى إليّ فلان كلمة سرني بها، بمعنى أخبرني خبرا فرحت به. كما قال تعالى :( وكلماته ألقاها إلى مريم ) يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها. وقيل : بكلمة منه هي اسم لعيسى سماه الله بها. وهو قول ابن عباس وهي أن الكلمة هي عيسى المسيح.
أما كلمة ( المسيح ) فهي اسم مشتق في قول الأكثرين من العلماء وأهل اللغة. وثمة وجوه ذكرها العلماء في سبب تسمية عيسى بالمسيح منها :
أولا : لكثرة سياحته، إذ كان يمسح الأرض أي يقطعها.
ثانيا : لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، أي أنه كان ممسوح الأخمصين. والأخمص هو ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض١.
ثالثا : لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى.
رابعا : لأنه مسح من الأوزار والآثام.
خامسا : لأنه كان ممسوحا بذهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء لا يمسح به غيرهم. وقيل غير ذلك٢.
قوله :( وجيها في الدنيا والآخرة ) أي ذا وجاهة وشرف ومكانة عالية عند الله في الدنيا بفضل النبوة وما كتب الله له من مزايا وخصائص مميزة كخلقة من غير أب وكلامه وهو في المهد ونحو ذلك. وهو في الآخر من أولي العزم من الرسل ( ومن المقربين ).
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٥٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٣، ٣٦٤ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ١٨٥..
.
ذلك خبر من الله جل وعلا لمريم بشارة لها بابنها السيد الحصور أن الله يعلمه الكتاب والحكمة. والمراد به هنا الخط والكتابة، أما الحكمة فهي العلم والتفقه والحلم. وقيل : معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم١.
وبعد أن علمه الله الكتابة والعلم منّ عليه بتعلم الكتابين الكريمين، التوراة التي أنزلت على كليمه موسى، ثم الإنجيل، وهما كلاهما كتابان مقدسان حافلان بعلوم الدين والدنيا، هداية لبني إسرائيل خاصة دون غيرهم من الأقوام والأجناس وترشيدا لهم – لبني إسرائيل- كيلا يضلوا أو يسرفوا أو يطغوا.
والمقصود في الآية أن المسيح عيسى ابن مريم أرسل إلى بني إسرائيل جميعهم وليس إلى فريق منهم دون غيرهم. أجل. بعث الله نبيه المسيح إلى هذا الصنف من البشر كيما تستقيم طبائعهم ونفوسهم فيسيروا في حياتهم على جادة الحق من غير عوج ولا استكبار ولا تمرد. أرسله الله ليقوم في بني إسرائيل اعوجاجهم، وليحملهم على المضي في طاعة الله وفي طريق اللاحب المستقيم، فلا يميلوا مع الهوى، ولا يأخذهم شطط النفس فيوغلوا في الرجس والدنس ويفسدوا في الأرض إفسادا.
قوله :( أنّي قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ) هذه واحدة من المعجزات الحسية الظاهرة احتج بها المسيح عيسى لتكون للناس آية على صدق نبوته ورسالته للناس.
أولها : أنه يخلق من الطين طيرا، والخلق في حق العبد معناه التصوير والتقدير وهو هنا معقول، لكنه في حق الله يعني التكوين والإبداع، والمقصود هنا أنه يصنع من الطين على شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله.
الثانية : إبراء الأكمه. وهو الذي يولد أعمى١.
الثالثة : إبراء الأبرص، وهو من البرص وهو واحد من أمراض الجلد.
الرابعة : إحياء الموتى. وذلك بدعاء الله يدعوه عيسى لهم فيستجيب الله له فيحييهم.
الخامسة : إخبارهم بما أكل أحدهم الآن، وما هو مدخر لنفسه في بيته لغد. وذلك مقتضى قوله تعالى :( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) ٢ هذه خمس آيات معجزات احتج بها نبي الله عيسى ليحمل الناس على تصديقه واتباعه، لا جرم أنه دلائل حسية ومشهودة كان الناس يبصرونها ويشهدونها عيانا من غير شك في ذلك البتة، ولذلك قال سبحانه وتعالى :( إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ).
وفي هذا الصدد من الكلام نقل ابن كثير رحمه الله عن كثير من العلماء قولهم : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداومة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه و سلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا لو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وما ذاك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا٣.
٢ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ١٩١، ١٩٢ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٤ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ٦١ -٦٤ وتفسير البيضاوي ص ٧٤..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٤..
على أن تصديق عيسى عليه السلام للتوراة معناه اعتقاده أن كل ما فيها حق وصواب. وهذه الحقيقة لا ينقضها قوله تعالى :( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) إنه لا تناقض بين المعنيين البتة. فتأويل هذه الآية بأمرين :
الأول : أن أحبار بني إسرائيل كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة مفتراة وكانوا قد نسبوها إلى كليم الله موسى عليه السلام. فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها.
الثاني : أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات.
وقال آخرون : إن عيسى عليه السلام رفع كثيرا من أحكام التوراة، وذلك كله ليس قدحا في كون عيسى مصدقا بالتوراة ؛ لأن المقصود هو التخفيف عن بني إسرائيل مما أثقل كاهلهم وأعنتهم من الأحكام. ١
وجملة القول أن قوله تعالى :( ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ) فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح.
قوله :( وجئتكم بآية من ربكم ) أعاد ذكر المعجزات ليؤثر في قلوبهم وطبائعهم تأثيرا. ثم خوفهم تخويفا إذ قال :( فاتقوا الله وأطيعون ) أي اتقوا الله يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه المنزل إليكم، وأوفوا بعهد الله الذي عاهدتموه فيه وأطيعون فيما دعوتكم إليه.
إن التصور الصادع المطلق على أن المسيح عبد من عباد الله لهو حقيقة كونية كبرى. حقيقة تنطق بها الأذهان والمشاعر السليمة، وتفيض بها طبائع الخلائق كافة، بل يهتف بها الكون برمته من أقصاه إلى أقصاه، وليس على البشرية بعد هذه الحقيقة الراسية البلجة إلا أن تستضيء بتعاليم النبوة فتمضي على الطريق المبين. طريق الله المستقيم ( فاعبدوه هذا صراط مستقيم ).
الإحساس هو وجدان الشيء بإحدى الحواس، والمراد أن عيسى عليه السلام قد استشعر إصرار هؤلاء القوم على الكفر، وأنهم عازمون على قتله فخشي منهم على نفسه واختفى عنهم، عندئذ قال لمن حوله :( من أنصاري إلى الله ) يعني من أعواني على المكذبين الجاحدين، ( إلى الله ) أي مع الله.
قوله :( قال الحواريون نحن أنصار الله ) أي أنصار نبيه ودينه، والحواريون هم أصحاب عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلا.
والحواريون جمع ومفرده الحواري. واختلفوا في تسميتهم بهذا الاسم، فقيل : الحواري أصله من الحور بفتح الحاء والواو وهو شدة البياض، والحور نقاء بياض العين، وتحوير الثياب تبييضها، وحورت الثياب أي بيضتها، فسموا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل : لأنهم كانوا قصارين وهم الذين يبيضون الثياب. وقيل : سموا بذلك ؛ لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة، فسموا بذلك إطراء لهم بما يشير إلى نقاء قلوبهم التي هي كالثياب البيض.
وقيل : الحواري الناصر. فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " لكل نبي حواري، وحواري الزبير " ١.
بعد أن استنصر المسيح بمن يمضي في طريق الله فيناصره ويشد أزره ضد العتاة الظالمين استجاب له الحواريون المؤمنون- وهو ما بيناه آنفا- إذ قالوا :( نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) ذلك إعلان واضح من هذه الفئة المؤمنة الصالحة – أي فئة الحواريين- على مناصرة دين الله ومؤازرة نبيه عيسى المسيح الذي جاءهم بعقيدة التوحيد. وذلك ما يقتضيه إعلانهم الشجاع المجلجل عن الإيمان بالله وعن الإقرار الكامل لله بالوحدانية واستشعار العبودية له دون سواه، وذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام، وهو دين كل الأنبياء بما يعنيه الإسلام من خضوع واستسلام لشريعة.
قوله :( فاكتبنا مع الشاهدين ) أي اكتب أسماءنا مع الذين شهدوا لك بالتوحيد والذين صدقوا أنبياءك فعزروهم وناصروهم، واجعلنا في عداد من تكرمهم به من كرامتك.
ومنها : أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل عليه اليهود، فألقى الله عليه شبه عيسى ورفع إليه عيسى، فأخذوا ذلك المنافق ثم قتلوه وصلبوه ظانين أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهم.
ومنها : أن الله سلط عليهم ملك فارس فقتلهم وسباهم، فهذا هو مكر الله تعالى، وقيل غير ذلك١.
ومما هو قمين ذكره هنا أن المكر هو المكر من حيث حقيقته ومعناه وما يفضي إليه من الويلات والشرور التي تحيق بالبشرية، وبخاصة الفئة المؤمنة السائرة على منهج الله القويم، وهو في الجملة يعني التمحل والتحيل والخداع سعيا لا فتعال الشر وإلحاقه بالآخرين، ولا يحفز إلى ذلك إلا سوء القصد وفساد الطوية، وما برح الزمان أو التاريخ يحدثنا عن وجوه الخداع والتمالؤ الخبيث الذي يقارفه الأشرار من الناس في حق الفئة المؤمنة الصالحة، الفئة التي تمضي على صراط الله وتدعو إلى الحق على بصيرة ويقين.
ما برحت والسنون تحمل في طياتها أكدارا من صور الويلات والقواصم التي تلطخت بها أجبنة الطغاة المجرمين، سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم، لا جرم أن الأشرار والفجار والعتاة الظالمين كثيرون وهم تعج بهم جنبات الأرض عبر زمانها الطويل، يستوي في ذلك الأشرار والفجار من اليهود أو الهنود أو الأوربيين أو العرب أو غيرهم من أصناف البشر. أولئك الذين كادوا للفئة المؤمنة كيدا وتواطأوا فيما بينهم – في الليل والنهار- لتدمير الإسلام وإزالة شوكة المسلمين أو اصطلامهم البتة إن استطاعوا.
لكن الأهم من ذلك كله أن الله لهؤلاء وأمثالهم من الأرجاس والمناكيد بالمرصاد، لا جرم أن الله أكبر من كل كبير. فهو القاهر فوق عباده وهو خير الماكرين، فإنه سبحانه وتعالى يحصي على هؤلاء الأشرار من شياطين البشر كل أفعالهم الشريرة وكل ما جنوه في حق المؤمنين من خداع وتضليل ومكر.
وهو في ذلك إنما يملي لهم ويستدرجهم إلى جحيم الذل والعار والهزيمة استدراجا حتى إذا حان الأجل ودقت ساعة النصر والغلبة للمؤمنين الصابرين من دعاة الإسلام، سقط الظالمون في وهاد الخزي وباءوا بالانتكاس والإياس.
لا جرم أن ذلك مكر الله وأنه من تقديره وتدبيره ! وهو مقتضى قوله عز من قائل :( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ).
وعلى هذا فالمراد من قوله :( متوفيك ) أني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت. وبعبارة أخرى : قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل : توفيت مالي من فلان أي قبضته. ويحتج لذلك بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قوله لليهود : " إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " ١.
والقول الذي نجده صوابا في كيفية الوفاة هو أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وذلك من شأن الله ومن تقديره، فهو القادر على كل شيء ولا يعز عليه أن يفعل أي شيء يريد.
قوله :( ومطهرك من الذين كفروا ) أي مخرجك من بينهم ليندرأ عنك سوء قصدهم وسوء جوارهم.
أما عن كيفية الرفع إلى السماء فقد ورد فيها أقوال عديدة متقاربة من جملتها ما ذكر عن ابن عباس أنه لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا ( الحواريون ) من عين في البيت ثم قال لها : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال الشاب : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال : أنا. فقال عيسى : نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. ورفع الله تعالى عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء. ثم جاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، فتفرقوا ثلاث فرق : قالت فرقة : كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه. وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم فقتلوا٢.
قوله :( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ).
المراد بالذين اتبعوه هم الذين على دينه من عقيدة التوحيد الكامل، العقيدة الصحيحة السليمة المبرأة من كل أوضار الشرك ؛ لا جرم أن أتباعه على هذه الملة السديدة من التوحيد الخالص هم المسلمون وحدهم، سواء كانوا في زمن المسيح. وهم الذين اتبعوه بحث على أنه عبد الله ورسوله، وليس شيئا غير ذلك مما تهرف به ألسن المبطلين والمضللين أو كانوا من المسلمين بعد ظهور محمد صلى الله عليه و سلم. إن هؤلاء المسلمين هم جاعلهم الله فوق الكافرين جميعا على تعدد مللهم وعقائدهم الفاسدة، عقائد الشرك والضلال والانحراف.
على أن المراد بالفوقية هنا يحتمل وجهين : أحدهما : الفوقية المادية : وهي فوقية العزة والسلطان، الفوقية التي يظللها قوة الإعداد والعتاد والقدرة على قتال الضالين المفسدين في الأرض.
ثانيهما : الفوقية الاعتبارية : وهي القائمة على قوة الحجة والبرهان وسطوع الدلائل التي تشكف عن وجه الحق واليقين. والمسلمون في ميزان الله دوما هم الأعلون، وهم الجديرون بريادة البشرية ليسوسوا الناس بالحق والعدل والقسطاس المستقيم.
حتى إذا قامت القيامة صار الناس جميعا إلى الله، سواء فيهم أتباع عيسى من أهل التوحيد الخالص، أو الذين كذبوه أو أشركوا به. وإذ ذاك يقضي الله بين هؤلاء فيما كانوا قد اختلفوا فيه، إذ تفرقوا في حقيقة عيسى طرائق قددا، فأما الذين جحدوا نبوة عيسى عليه السلام أو خالفوا ملته السليمة المبنية على الإقرار لله بالعبودية أو قالوا فيه من الأباطيل الظالمة المفتراة ما لم ينزل الله به من سلطان فلسوف يعذبهم الله عذابا شديدا في الدنيا. وذلك بإخضاعهم لسلطان الإسلام وظهور الغلبة والاستعلاء للمسلمين عليهم. فما يجترئون على قتال المسلمين إلا كتب الله النصر لعباده المؤمنين المخلصين وهم المسلمون الصادقون ماداموا غير مختلفين ولا متفرقين. ومادامت تجمعهم العقيدة الإسلامية الراسخة وتشدهم كلمة الإسلام وحقيقة الإخلاص الكامل لله دون سواه. وإذا ما تحول المسلمون عن هذه الحقائق الراسخة إلى حيث التهاون والضعف والاستكانة أو التشبث بمذاهب غير إسلامية كالاشتراكية والفرعونية والقومية والإقليمية ونحو ذلك فلا جرم أن تحيق بالمسلمين الهزائم والأهوال وأن تدور عليهم دوائر القهر والإذلال.
وأما في الآخرة فإن مردهم إلى النار وبئس القرار، هنالك يجد الظالمون المضلون من عذاب التحريق والاصطلاء ما لا طاقة لهم باحتماله أو الاصطبار عليه. نسأل الله الغفران والرحمة.
وخلافا لأولئك الظالمين الذين باءوا بعذاب الله في كلتا الدارين، يمتدح الله عباده المسلمين الصادقين الذين آمنوا بعيسى المسيح، وصدقوه تمام التصديق، وأقروا له بكل تعاليمه التي بنيت على التوحيد الخالص وعلى تفرد الله وحده بالإلهية من غير شريك له في ذلك البتة، لا جرم أن هؤلاء سينالهم تكريم من الله وسيحظون من الأجر الأوفى ما هم به خليقون.
ذلك كله مقتضى قوله تعالى :( فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ).
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٠٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٦..
وعلى هذا فالمراد من قوله :( متوفيك ) أني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت. وبعبارة أخرى : قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل : توفيت مالي من فلان أي قبضته. ويحتج لذلك بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قوله لليهود :" إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " ١.
والقول الذي نجده صوابا في كيفية الوفاة هو أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وذلك من شأن الله ومن تقديره، فهو القادر على كل شيء ولا يعز عليه أن يفعل أي شيء يريد.
قوله :( ومطهرك من الذين كفروا ) أي مخرجك من بينهم ليندرأ عنك سوء قصدهم وسوء جوارهم.
أما عن كيفية الرفع إلى السماء فقد ورد فيها أقوال عديدة متقاربة من جملتها ما ذكر عن ابن عباس أنه لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا ( الحواريون ) من عين في البيت ثم قال لها : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال الشاب : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال : أنا. فقال عيسى : نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. ورفع الله تعالى عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء. ثم جاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، فتفرقوا ثلاث فرق : قالت فرقة : كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه. وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم فقتلوا٢.
قوله :( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ).
المراد بالذين اتبعوه هم الذين على دينه من عقيدة التوحيد الكامل، العقيدة الصحيحة السليمة المبرأة من كل أوضار الشرك ؛ لا جرم أن أتباعه على هذه الملة السديدة من التوحيد الخالص هم المسلمون وحدهم، سواء كانوا في زمن المسيح. وهم الذين اتبعوه بحث على أنه عبد الله ورسوله، وليس شيئا غير ذلك مما تهرف به ألسن المبطلين والمضللين أو كانوا من المسلمين بعد ظهور محمد صلى الله عليه و سلم. إن هؤلاء المسلمين هم جاعلهم الله فوق الكافرين جميعا على تعدد مللهم وعقائدهم الفاسدة، عقائد الشرك والضلال والانحراف.
على أن المراد بالفوقية هنا يحتمل وجهين : أحدهما : الفوقية المادية : وهي فوقية العزة والسلطان، الفوقية التي يظللها قوة الإعداد والعتاد والقدرة على قتال الضالين المفسدين في الأرض.
ثانيهما : الفوقية الاعتبارية : وهي القائمة على قوة الحجة والبرهان وسطوع الدلائل التي تشكف عن وجه الحق واليقين. والمسلمون في ميزان الله دوما هم الأعلون، وهم الجديرون بريادة البشرية ليسوسوا الناس بالحق والعدل والقسطاس المستقيم.
حتى إذا قامت القيامة صار الناس جميعا إلى الله، سواء فيهم أتباع عيسى من أهل التوحيد الخالص، أو الذين كذبوه أو أشركوا به. وإذ ذاك يقضي الله بين هؤلاء فيما كانوا قد اختلفوا فيه، إذ تفرقوا في حقيقة عيسى طرائق قددا، فأما الذين جحدوا نبوة عيسى عليه السلام أو خالفوا ملته السليمة المبنية على الإقرار لله بالعبودية أو قالوا فيه من الأباطيل الظالمة المفتراة ما لم ينزل الله به من سلطان فلسوف يعذبهم الله عذابا شديدا في الدنيا. وذلك بإخضاعهم لسلطان الإسلام وظهور الغلبة والاستعلاء للمسلمين عليهم. فما يجترئون على قتال المسلمين إلا كتب الله النصر لعباده المؤمنين المخلصين وهم المسلمون الصادقون ماداموا غير مختلفين ولا متفرقين. ومادامت تجمعهم العقيدة الإسلامية الراسخة وتشدهم كلمة الإسلام وحقيقة الإخلاص الكامل لله دون سواه. وإذا ما تحول المسلمون عن هذه الحقائق الراسخة إلى حيث التهاون والضعف والاستكانة أو التشبث بمذاهب غير إسلامية كالاشتراكية والفرعونية والقومية والإقليمية ونحو ذلك فلا جرم أن تحيق بالمسلمين الهزائم والأهوال وأن تدور عليهم دوائر القهر والإذلال.
وأما في الآخرة فإن مردهم إلى النار وبئس القرار، هنالك يجد الظالمون المضلون من عذاب التحريق والاصطلاء ما لا طاقة لهم باحتماله أو الاصطبار عليه. نسأل الله الغفران والرحمة.
وخلافا لأولئك الظالمين الذين باءوا بعذاب الله في كلتا الدارين، يمتدح الله عباده المسلمين الصادقين الذين آمنوا بعيسى المسيح، وصدقوه تمام التصديق، وأقروا له بكل تعاليمه التي بنيت على التوحيد الخالص وعلى تفرد الله وحده بالإلهية من غير شريك له في ذلك البتة، لا جرم أن هؤلاء سينالهم تكريم من الله وسيحظون من الأجر الأوفى ما هم به خليقون.
ذلك كله مقتضى قوله تعالى :( فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ).
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٠٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٦..
وعلى هذا فالمراد من قوله :( متوفيك ) أني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت. وبعبارة أخرى : قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل : توفيت مالي من فلان أي قبضته. ويحتج لذلك بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قوله لليهود :" إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " ١.
والقول الذي نجده صوابا في كيفية الوفاة هو أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وذلك من شأن الله ومن تقديره، فهو القادر على كل شيء ولا يعز عليه أن يفعل أي شيء يريد.
قوله :( ومطهرك من الذين كفروا ) أي مخرجك من بينهم ليندرأ عنك سوء قصدهم وسوء جوارهم.
أما عن كيفية الرفع إلى السماء فقد ورد فيها أقوال عديدة متقاربة من جملتها ما ذكر عن ابن عباس أنه لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلا ( الحواريون ) من عين في البيت ثم قال لها : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم فقال : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال الشاب : أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم فقال : أنا. فقال عيسى : نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام. ورفع الله تعالى عيسى من روزنة كانت في البيت إلى السماء. ثم جاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، فتفرقوا ثلاث فرق : قالت فرقة : كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه. وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم فقتلوا٢.
قوله :( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ).
المراد بالذين اتبعوه هم الذين على دينه من عقيدة التوحيد الكامل، العقيدة الصحيحة السليمة المبرأة من كل أوضار الشرك ؛ لا جرم أن أتباعه على هذه الملة السديدة من التوحيد الخالص هم المسلمون وحدهم، سواء كانوا في زمن المسيح. وهم الذين اتبعوه بحث على أنه عبد الله ورسوله، وليس شيئا غير ذلك مما تهرف به ألسن المبطلين والمضللين أو كانوا من المسلمين بعد ظهور محمد صلى الله عليه و سلم. إن هؤلاء المسلمين هم جاعلهم الله فوق الكافرين جميعا على تعدد مللهم وعقائدهم الفاسدة، عقائد الشرك والضلال والانحراف.
على أن المراد بالفوقية هنا يحتمل وجهين : أحدهما : الفوقية المادية : وهي فوقية العزة والسلطان، الفوقية التي يظللها قوة الإعداد والعتاد والقدرة على قتال الضالين المفسدين في الأرض.
ثانيهما : الفوقية الاعتبارية : وهي القائمة على قوة الحجة والبرهان وسطوع الدلائل التي تشكف عن وجه الحق واليقين. والمسلمون في ميزان الله دوما هم الأعلون، وهم الجديرون بريادة البشرية ليسوسوا الناس بالحق والعدل والقسطاس المستقيم.
حتى إذا قامت القيامة صار الناس جميعا إلى الله، سواء فيهم أتباع عيسى من أهل التوحيد الخالص، أو الذين كذبوه أو أشركوا به. وإذ ذاك يقضي الله بين هؤلاء فيما كانوا قد اختلفوا فيه، إذ تفرقوا في حقيقة عيسى طرائق قددا، فأما الذين جحدوا نبوة عيسى عليه السلام أو خالفوا ملته السليمة المبنية على الإقرار لله بالعبودية أو قالوا فيه من الأباطيل الظالمة المفتراة ما لم ينزل الله به من سلطان فلسوف يعذبهم الله عذابا شديدا في الدنيا. وذلك بإخضاعهم لسلطان الإسلام وظهور الغلبة والاستعلاء للمسلمين عليهم. فما يجترئون على قتال المسلمين إلا كتب الله النصر لعباده المؤمنين المخلصين وهم المسلمون الصادقون ماداموا غير مختلفين ولا متفرقين. ومادامت تجمعهم العقيدة الإسلامية الراسخة وتشدهم كلمة الإسلام وحقيقة الإخلاص الكامل لله دون سواه. وإذا ما تحول المسلمون عن هذه الحقائق الراسخة إلى حيث التهاون والضعف والاستكانة أو التشبث بمذاهب غير إسلامية كالاشتراكية والفرعونية والقومية والإقليمية ونحو ذلك فلا جرم أن تحيق بالمسلمين الهزائم والأهوال وأن تدور عليهم دوائر القهر والإذلال.
وأما في الآخرة فإن مردهم إلى النار وبئس القرار، هنالك يجد الظالمون المضلون من عذاب التحريق والاصطلاء ما لا طاقة لهم باحتماله أو الاصطبار عليه. نسأل الله الغفران والرحمة.
وخلافا لأولئك الظالمين الذين باءوا بعذاب الله في كلتا الدارين، يمتدح الله عباده المسلمين الصادقين الذين آمنوا بعيسى المسيح، وصدقوه تمام التصديق، وأقروا له بكل تعاليمه التي بنيت على التوحيد الخالص وعلى تفرد الله وحده بالإلهية من غير شريك له في ذلك البتة، لا جرم أن هؤلاء سينالهم تكريم من الله وسيحظون من الأجر الأوفى ما هم به خليقون.
ذلك كله مقتضى قوله تعالى :( فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ).
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٠٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٦٦..
قوله :( والذكر الحكيم ) قيل : معناه القرآن فهو حكيم ؛ لأنه ينطق بالحكمة التي تفصل بين الحق والباطل وبين التوحيد والشرك. وقيل : المراد بالذكر الحكيم هنا غير القرآن وهو اللوح المحفوظ التي نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء الكرام١.
قال المفسرون في سبب نزول هذه الآية : إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لك تشتم صاحبنا ؟ قال : " وما أقول " قالوا : تقول إنه عبد. قال : " أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول " فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنسانا قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله. فأنزل الله عز وجل هذه الآية١.
تتضمن هذه الآية قياسا. وهو تشبيه عيسى المسيح الذي خلق من غير أب بآدم أبي البشر إذ خلقه الله من تراب- أي من غير أب ولا أم. فوجه الشبه بينهما خلقهما من غير أب، بل إنه من الوجهة القياسية المعقولة ينبغي القول إن خلق عيسى من غير أب لهو أشد تأكيد على حصول المقصود. وهو ما يحمل الذهن على سرعة التقبل والتصديق في يسر وبساطة من طريق الأحرى والأولى، فلئن كان آدم خلق من غير أب ولا أم وإنما خلق من تراب فلا جرم أن يكون خلْق المسيح من أم بغير أب لا يحتمل غير القطع واليقين.
والأمر جد هين ويسير لو حيل بين المرء وجنوحه للهوى والتعصب، وهذه أم المعضلات ومشكلة التي تصطدم بها البشرية طيلة حياتها... مسألة الهوى المضل والتعصب الذميم وما يرافق ذلك من نكوص عن نداءات اليقين والصواب التي تهتف بالإنسانية في كل آن ؛ كيما تصيخ للحق والصواب، وكيما تتجافى بعقولها وطبائعها وتصوراتها عن الباطل بكل صور وألوانه.
الأمر جد هين ويسير لو حملت البشرة عقولها على استيعاب المدلول الهائل الذي تضنه قوله تعالى :( كن فيكون ) فلسوف لا يبقى بعد ذلك مثار لغرابة ولا متسع لعجب، مادام كل شيء في الوجود رهين من الله بالكاف والنون.
وتأويل الآية أن ما أنبأ الله نبيه صلى الله عليه و سلم عن قصة المسيح وأمه مريم هو الحق، وأن ما دون ذلك ليس إلا الضلال، ومن أجل ذلك يخاطب الله المسلمين في شخص الرسول صلى الله عليه و سلم محذرا من الامتراء في خبر المسيح على أنه عبد الله ورسوله، وأنه جيء به من غير أب نتيجة لكلمة من الله وهي ( كن ) والممترين الشاكين. من الامتراء والتماري والمرية بمعنى الشك.
وسبب نزول هذه الآية أنه جاء راهبا نجران إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال لهما : " أسلما تسلما " فقالا : قد أسلمنا قبلك. فقال : " كذبتما- يمنعكما من الإسلام سجودكما للصليب، وقولكما اتخذ الله ولدا، وشربكما الخمر " فقالا : ما نقول في عيسى ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) إلى قوله :( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الملاعنة. وجاء بالحسن والحسين وفاطمة وأهله وولده عليهم السلام، فلما خرج من عنده قال أحدهما لصاحبه : أقرر بالجزية ولا تلاعنه، فأقر بالجزية، فرجعا فقالا : نقر بالجزية ولا نلاعنك.
وجملة القول أن المباهلة ضرب من الاجتهاد في الدعاء يجعل اللعن على الكاذبين، لكن المشركين أبوا أن يطوقوا أنفسهم بمغبة هذا الدعاء الخطير لما يعرفونه في أعماق أنفسهم وهو أن محمدا صلى الله عليه و سلم صادق، وأنه يأتيه الوحي من السماء، وأن ما جاء به من أنباء المسيح وأمه مريم غاية في اليقين وقطع الثبوت.
ولقد استيقن هؤلاء المشركون أن قبولهم بالمباهلة سيفضي بالضرورة إلى أن تحيق بهم نقمة الله فيبوءوا بالسخط والاصطلام ؛ من أجل ذلك أحجموا عن المباهلة. وتلك حجة ظاهرة تضاف إلى الدلائل الكاثرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
٢ -أسباب النزول للنيسابوري ص ٦٧..
قوله :( وما من إله إلا الله ) هذا تأكيد ومبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى.
قوله :( وإن الله لهو العزيز الحكيم ) العزيز الذي لا يُغلب. وهو القادر على كل شيء كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات. وهو الحكيم. أي العالم بكل شيء وبكل ما تفضي إليه الأمور من عواقب.
أهل الكتاب هم اليهود والنصارى. والمراد بهم هنا في الآية موضع تفصيل. فقد قيل : المراد نصارى نجران. وقيل : المراد يهود المدينة. وقيل : بل نزلت في الفريقين كليهما وهما النصارى واليهود. ويؤيد ذلك ما روي في سبب نزول هذه الآية، وهو أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى : يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ! ! فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله :( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) السواء يعني العدل والنصفة ومعنى الآية : هلموا يا أهل الكتاب إلى الكلمة العادلة المستقيمة نتبعها نحن وأنتم.
وقد فسر الكلمة العدل هذه بقوله تعالى :( ألا نعبد إلا الله ) أي نوحد الله فلا نعبد غيره ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئا، وهو مقتضى قوله :( ولا نشرك به شيئا ) فلا نعبد مع الله وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا غير ذلك، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له.
قوله :( ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) أي لا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه. ويشبه ذلك قوله تعالى :( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله.
قوله :( فإن تولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) أي إن أعرض هؤلاء عما دعوا إليه من الكلمة السواء فلم يستجيبوا فقلوا لهم :( اشهدوا بأنا مسلمون ) يعني اجهروا لهم في إعلان قارع ظاهر لا تردد فيه ولا لبس أننا مستمسكون بدين الإسلام ماضون على صراطه القويم، لا نحيد عنه البتة، ولا نلين في الالتزام بكل شرائعه وتعاليمه٢.
جاء في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده. فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل الله هذه الآية ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ) أي أن اليهود كانوا يقولون إن إبراهيم كان على ديننا، وكذلك النصارى كانوا يقولون : إن إبراهيم كان على ديننا، فأبطل الله مقالتهم بأن التوراة والإنجيل إنما أنزلا من بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك برهان ساطع على كذب دعواهم وفساد خصامهم١.
قوله :( أفلا تعقلون ) أي أفلا تفقهون خطأ ما زعمتم وفساد ما ادعيتم وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية إنما حدثنا بعد موت إبراهيم بحين من الدهر، وفي ذلك من التقريع الشديد ما لا يخفى.
ولقد كان أجدى لهؤلاء المكابرين الحمقى- لو أنهم أخلصوا النية في الحجاج- أن يخاصموا فيما هو مستبين لهم في كتبهم وأن يدعوا ما يعلموه لأمر الله لكي يحكم فيه بما يشاء، والله جلت قدرته أعلم بما ينفع الناس وما يصلح عليه شأن البشر ؛ لأنه العليم بكل شيء الخبير بالأسرار والأستار، بل إنه عز وعلا يستوي في علمه ما كان خافيا أو معلنا ؛ ولهذا قال :( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ).
وكذلك النصارى فقد عبدوا المسيح وقالوا فيه من فرط المغالاة والشذوذ ما يثير النكر والاشمئزاز.
وقوله :( ولكن كان حنيفا مسلما ) لكن حرف استدراك. والحنيف هو المائل عن العقائد الزائغة المنحرفة. أو المتحنف عن الشرك القاصد إلى التوحيد وهو من الحنف بالتحريك وهو يعني الاستقامة واعتزال عبادة الأصنام. ومنه الحنيفية وهي اتباع أمر الله والاستقامة على محجة الهدى١.
أما قوله :( مسلما ) أي خاشعا لله بقليه متذللا له بجوارحه، مذعنا لما فرض عليه. وهو من الاستسلام، أي الانقياد لأوامر الله والامتثال له بالطاعة والخضوع٢.
هكذا كان خليل الرحمن إبراهيم، هذا النبي الأواه الحليم لا جرم أنه غاية في الحنيفية المستقيمة البعيدة أشد البعد عن كل صور الإشراك بالله، ما بين عبادة لصنم أو بشر أو غيرهما من الكائنات وأشكال الهوى والشهوات. ولهذا قال سبحانه :( وما كان من المشركين ).
وربما يهرف حانق مارق أو مجادل خصيم بأن ما اعترضتم به على مقالة اليهود والنصارى في دعواهم أن إبراهيم كان منهم- ينسحب كذلك على الإسلام القائل ( ولكن كان حنيفا مسلما ) مع أن إبراهيم سابق لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم بزمن بعيد !
والجواب عن ذلك أن المراد بالحنيف المسلم ما بيناه آنفا. وجملته أن إبراهيم كان على الحنيفية السمحة المبرأة من كل أدران الوثنية والشرك، الحنيفية التي تعني الميل عن الشرك إلى الإسلام والثبات عليه. وأساس ذلك كله الإقرار الكامل لله بالعبودية وأنه وحده الإله المعبود الديان.
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٣٢ ومختار الصحاح ص ٣١١ وتفسير البيضاوي ص ٧٧ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٧٢.
وأولئك هم أولياء الله، وهو سبحانه وليهم وناصرهم وسيجزيهم الخير والصلاح والحسنى١.
قوله :( لو يضلونكم ) لو للتمني بمعنى أن، وهي مصدرية. فيكون التقدير ودت طائفة من أهل الكتاب إضلالكم أي أن يصدوكم عن الإسلام ويردوكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر. وهذا هو ديدن الحاسدين الحاقدين من شرار البرية الذين تتفطر قلوبهم حسدا وحقدا على المسلمين ؛ وذلك لفرط ما تكنه صدورهم لهم من الغيظ والكراهية لكونهم مسلمين. فهم بذلك يتمالؤون على المسلمين بكل الأسباب والأساليب والمخططات لحرفهم عن ملة الإسلام إلى ملل الكفر إن استطاعوا، بل إنهم ينفقون في ذلك الأموال الطائلة ويبذلون فيه أضخم الجهود من غير كلل ولا ملل لتشويه الإسلام في أذهان المسلمين ولحرف المسلمين إلى ملل الضلال والباطل.
وقوله :( وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ) وإضلالهم أنفسهم معناه إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب وعود الوبال عليهم لقصدهم إضلال غيرهم. ( وما يشعرون ) أي لا يعملون ولا يدرون أن وزر هذا الإضلال إنما يحيق بهم.
وقيل : المراد بآيات الله القرآن الكريم نفسه. هذا الكتاب العظيم الحكيم الحافل بالمعاني وظواهر الإعجاز. كل هذه الحقائق الباهرة كان أهل الكتاب يعلمون بها ؛ إذ قرأوها في كتبهم واستيقنوها لكنهم أنكروها إنكارا. ولا يحفزهم إلى مثل هذا الإنكار الظالم غير الحقد والحسد. لا جرم أن هذه خسيسة من خسائس الطبع المريض. الطبع الموغل في ظلام الباطل والذي لا يستمرئ غير الرذيلة والفساد، ولا يتمل بذاته الملتوية غير سبيل الشر والعدوان. سبيل الشقاء والشيطان.
وإلباس الحق بالباطل معناه خلط الحق بالباطل ليختفي الحق نفسه فلا يظهر. وذلك بإلقاء الشبهات من حول الإسلام فيصار به إلى الخفاء والتعمية ليظهر بعد ذلك في صورة من صور الباطل، بما يثير في النفس الريبة والشك ونحو هذا الدين.
قوله :( وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) أي يكتمون نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وما ورد من صفات له في التوراة والإنجيل بما يقطع أنه رسول الله إل البشرية كافة، لكنكم – أيها اليهود والنصارى- قد جحدتم كل ذلك وجعلتموه طي الخفاء والكتمان ( وأنتم تعلمون ) أي أنتم عالمون بما تقارفونه من خلط وتلبيس وافتراء على الإسلام وعلى نبيه عليه الصلاة والسلام. عالمون بأن هذا النبي حق وأن ما جاءكم به من دين لهو الحق. وعالمون أيضا بفداحة فعلتكم النكراء وهي تلبيس الحق وكتمانه.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن اثني عشر حبرا من يهود خيبر قد تواطأوا فيما بينهم لبعث الريبة والشك في أذهان الضعفة من الناس، فقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه. فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم. وقالوا : إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم والمؤمنين١.
وهذه حيلة خبيثة مما ابتكرته عقول الحاقدين والحاسدين من شرار البرية. أولئك الذين يديمون التواطؤ ويصلون الليل بالنهار وهم يأتمرون بهذا الدين ليجتثوه من جذوره إن استطاعوا، أو يثيروا من حوله الأكاذيب والشبهات ليرتاب المسلمون في دينهم فينقلبوا عنه انقلاب المرتكس المخذول، ولينثنوا عنه انثناء المتردد الحائر :
حيلة خبيثة نكراء بادر أهل الكتاب لاصطناعها والتشبث بها عسى أن تتزلزل العقيدة الإسلامية في نفوس أصحابها، فيكون ذلك مدعاة لانهيار الإسلام وتداعيه كليا- لا قدر الله-.
هكذا يتمنى الحاقدون والحاسدون من أهل الكتاب، لكن هذه مجرد أحلام وأماني تظل تتزاحم في نفوس هؤلاء الأفاكين الدجاجلة لتقضهم قضا ولتؤز نفوسهم أزا. أما الإسلام فلا جرم أنه باق بقاء الدهر والزمان حتى يرث الله الدهر والزمان !
الإسلام باق برعاية الله وكلاءته كيما تستظل البشرية بأفيائه الدفيئة اللطاف.
وإذا كان الأمر بالظالمين كذلك من حيث التواطؤ فيما بينهم وتأمرهم على الإسلام بابتكار هذه الحيلة الماكرة، وهي تظاهر بعضهم باعتناق الإسلام في الظاهر أول النهار ثم ارتدادهم عنه آخر النهار، أو أن يكون الاعتناق فترة من الوقت ثم يعقبه الارتداد ؛ ليرتاب الضعفة من المسلمين في دينهم أو ينثنوا عنه إلى ملل الكفر.. إذا كان الأمر كان كذلك بات لزاما أن يتصدى الإسلام بتشريعه لمثل هؤلاء المخادعين فيوجب إنزال الحد بالقتل في حق المرتدين عن ملة الإسلام ؛ سدا لذريعة الفتنة والغواية التي يثيرها دهاقنة المكر والخيانة والتربص بالإسلام. وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه لدى الحديث عن حد الردة إن شاء الله.
قوله :( قل إن الهدى هدى الله ) هذه جملة اعتراضية. وهي من قول الله. والهدى في اللغة يعني الرشاد والدلالة. هداه الله إلى الطريق أرشده١.
والمراد أن البيان الحق بيان الله والهدى هداه، فليس من هداية ولا رشاد ولا صواب إلا ما كتبه الله وقرره للعالمين. وما كان من دلالة أخر من دلالات البشر لا جرم أنها خلاف الحق وأنها مغايرة لهداية الله، الهداية السوية المستقيمة التي كتبها الله للناس ليعيشوا طيلة الدهر سالمين مطمئنين.
قوله :( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ) هذا الكلام متعلق بما قبله وهو قوله :( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) والمعنى المراد يحتمل أكثر من وجه. فقد قيل : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه و سلم إلا من تبع دينكم وهم اليهود ؛ لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم.
وقيل : لا تصدقوا إلا من تبع دينكم ؛ لئلا يؤتى أحد من الهدى والبينات مثل ما أوتيتم. وقيل : لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من التوراة، والمن والسلوى وفرق البحر وغير ذلك من الآيات والفضائل.
قوله :( أو يحاجوكم ) عطف عل ( أن يؤتى أحد ) أي لا تؤمنوا بنوة محمد وتقروا بما في صدوركم لغير من تبع دينكم فيعلم بذلك المسلمون فيحاجوكم عند ربكم. أي يتخذن ذلك حجة عليكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة٢.
قوله :( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ) الفضل في اللغة ضد النقص. أو بمعنى الزيادة. وكذا الفضيلة ضد النقيصة٣ والمراد بالفضل في الآية : الرسالة أو الإسلام. وتقدير المعنى أن الأمور كلها بيد الله وتحت تصرفه فهو المعطي والمانع يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والخير.
قوله :( والله واسع عليم ) يعني والله ذو سعة بتفضله على من يشاء من العباد. وهو ذو علم بمن هو أهل للفضل منهم.
٢ - فتح القدير للشوكاني جـ ١ ص ٣٥١ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١١٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٧٣..
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣١ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١٠٩..
ذلك إخبار من الله عن أهل الكتاب وهم اليهود من بني إسرائيل، بأن منهم أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته الفاجر في يمينه. وجملة ذلك أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى.
أما وجه إخبار الله نبيه صلى الله عليه و سلم بذلك فهو تحذير المسلمين من ائتمانهم على أموالهم وتخويفهم من الاغترار بهم لاستحال كثير منهم أموال المؤمنين.
والمؤمنون لا يستطيعون التمييز بين الخائن والأمين من أهل الكتاب، ومعلوم أن أهل الخيانة فيهم أكثر من أهل الأمانة لخروج الكلام على الغالب فلزم اجتناب جميعهم١.
قوله :( لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ) المراد بالقيام هنا : الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة : ومعنى الآية أن هذا الخائن لهو من الشح وفساد النفس واستمراء الحرام أنك إن تأمنه على دينار واحد لا يؤده إليك إلا بالمطالبة والملازمة والخصومة والتقاضي لاستخلاص الحق منه. وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فإن ما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك.
قوله :( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) ( الأميين ) جمع ومفرده الأمي، وهو من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب وهو باق عل جبلته، والأمي منسوب إلى الأم ؛ لأنها أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب٢.
وذلك إخبار عن اليهود كانوا إذا بايعوا من على غير ملتهم من العرب أو عاملوهم فإنهم لا يجدون حرجا أو غضاضة في دينهم أن يظلموهم أو يجحدوا حقهم أو يكذبوا عليهم من أجل أن يأكلوا أموالهم بغير حق. وذلك مقتضى قوله تعالى عنهم :( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) أي ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب ( سبيل ) أي حرج أو إثم. وذلك شطط فاضح وغاية في الإفراط المتعصب من غير تبصر ولا يقين ولا ضمير بما يبيح للمتعصبين الغلاة أن يعتدوا على غيرهم من أولي الأديان الأخرى بمختلف صور العدوان ما بين تقتيل وتهجير وتنكيل وأكل للأموال بالباطل.
قوله :( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) أي أن هذه المقالة منهم كانت محض افتراء واختلاق، بل إن ذلك غاية في الإفك والضلالة وهي قولهم : لا جناح علينا في أكل أموال غير اليهود، لا جرم أن ذلك بهتان وكذب لا يتورع عن مقارفته من هان عليه دينه فعاث فيه تحريفا وتزييفا، وهانت عليه التوراة فألبسها التزوير والتشويه والخلط، كل ذلك ( وهم يعلمون ) أي لما قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة كانوا كاذبين في ذلك وكانوا عالمين بأنهم كاذبون فيه، بل كانوا عالمين أن الخيانة محرمة وإن الخائن آثم.
ولئن كانت هذه الخليقة هي ديدن يهود وطبيعتهم في التعامل والتقاضي مع الآخرين فلا جرم أن لا يكون هؤلاء خليقين بثقة غيرهم من الناس، ليسوا خليقين بالتصديق في عهد ولا عقد ولا ميثاق. ولا خليقين بالائتمان على الأموال والأنفس والأوطان، فضلا عن عدم ائتمانهم على القيم والأخلاق والعقائد.
أما المسلمون فلا جرم أنهم موضع الثقة والائتمان الكاملين على البشرية في أديانها وعقائدها وأوطانها وأموالها البشرية بكل دياناتها السماوية المعتبرة.
المسلمون مؤتمنون على رعاية الإنسان ليظل آمنا مطمئنا على نفسه وماله وعرضه ودينه، سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس. وأولئك في ظل الإسلام سالمون مكرمون، وليس لأحد من الناس- مسلما أو غير مسلم- أن يعتدي عليهم أو يمسهم بسوء أو أذى ماداموا أهل ذمام وعهد ولهم حق المواطنة الكاملة.
سأل رجل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس. قال : هذا كما قال أهل الكتاب :( ليس علينا في الأميين سبيل ) إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٧٧ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١١٣..
قوله :( ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) أي لا يطهرهم من دنس الذنوب والمعاصي ثم يبوؤون بالعذاب الموجع جزاء عتوهم وفسقهم عن أمر الله الذي أوجب عليهم أن يظهروا للناس ما حوته التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وصدق رسالته.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٧٤..
المراد بالفريق في هذه الآية جماعة من اليهود كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب، وهو من اللّي، وهو عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج. يقال : لوى برأسه أماله وأعرض، ولوى الحبل أي فتله، والتو فلان إذا غير أخلاقه عن الاستواء إلى ضده١.
والمقصود هنا أن اليهود كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب، وهي التوراة، أي يحرفون كلام الله فيها عن مواضعه تحريفا، ويبدلونه تبديلا، ثم ينسبونه ؛ إليه ليوهموا الجهلة أن هذا المحرف المبدل كلام الله، وهو في الحقيقة كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا على الله فيما صنعوا.
وذكر الرازي في تأويل ( يلوون ألسنتهم ) وجهين : أحدهما : أن معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية، وهو قول القفال.
ثانيهما : أنهم كتبوا كتابا شوشوا فيه نعت محمد صلى الله عليه و سلم وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صلى الله عليه و سلم ثم قالوا :( هذا من عند الله ). وهذا تأويل ابن عباس.
قوله :( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) أي ولكن يقول لهم كونوا ربانيين، والرباني المنسوب إلى الرب لكونه عالما به مواظبا على طاعته مثلما يقال رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته. وهو قول سيبويه. وقيل : الربانيون هم أرباب العلم ؛ وهو جمع ومفرده رباني وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي يعلمهم ويصلحهم. وهو قول المبرد.
وقيل : الرباني هو العالم الحكيم٢.
قوله :( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) أي أن الرسول صلى الله عليه و سلم حقيق به على أن يقول للناس : كونوا ربانيين أي علماء حكماء مستمسكين بطاعة الله.
وذلك ( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) أي بسبب كونكم عالمين، فإن حصول العلم والدراسة للإنسان يفضي به إلى تحصيل الربانية له. والربانية هي العلم وطاعة الله، وذلك إذا كانت القراءة بفتح التاء في ( تعلمون الكتاب ) أما إذا كانت القراءة بضم التاء وتشديد اللام، كان المعنى : كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الناس الكتاب، وبسبب دراستكم إياه، أي كونوا علماء بسبب كونكم معلمين وبسبب كونكم تدرسون العلم٣.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٢٣ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٥٥..
٣ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٢٣، ١٢٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٧٧ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٢٣٤ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٥٥..
قوله :( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) الهمزة للاستفهام الإنكاري بما يتضمن نفيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالكفر بعد كونهم مسلمين وهو انقيادهم لله بالطاعة وتذللهم له بالعبودية.
قال صاحب الكشاف : في قوله :( بعد إذ أنتم مسلمون ) دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له١.
اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على وجهين :
الوجه الأول : أن الله تعالى أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا بالإيمان، وأن يأمر بعضهم بعضا بذلك، وذلك معنى النصرة بالتصديق، وهذا ظاهر الآية، وهو قول فريق من أهل العلم فيهم سعيد بن جبير وقتادة وطاووس والحسن البصري وغيرهم. وجملة القول في هذا التأويل أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر. وقوله :( لما ) اللام لام الابتداء. وما بمعنى الذي وهو مبتدأ وخبره : من كتاب وحكمة.
الوجه الثاني : أن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه على أن الذين أخذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين ؛ لأنهم عند بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا في زمرة الأموات، بل إن الذين أخذ عليهم الميثاق هم أمم الأنبياء وهو قول كثير من العلماء. قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
قوله :( لتؤمنن به ولتنصرنه ) أوجب الله الإيمان به ثم الاشتغال بنصرته، واللام لام القسم، كأنه قيل : والله.
قوله :( قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) الإقرار معناه الإذعان للحق١. والإصر : العهد. والمعنى أنه بعد أن أخذ الله ميثاق النبيين بالإيمان والتصديق والنصرة قال لهم :( أأقررتم ) يعني بالميثاق الذي واثقتموني عليه من أنكم لسوف تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو أن يؤمن كل نبي فيكم بكل نبي يأتي بعده. ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي، ثم يستشهدهم الله على ذلك فيشهدون على أنفسهم وعلى أتباعهم بما عاهدوا الله عليه، والله جلت قدرته يشهد معهم على ذلك وهو خير الشاهدين.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم فيه من دين إبراهيم، كل فرقة تزعم أنها أحق بدينه. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم " فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله هذه الآية١.
قوله :( أفغير دين الله يبغون ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، غير مفعول به مقدم للفعل بعده ( يبغون ) وتقدير المعنى في هذه الآية إظهار النكر من الله لهؤلاء العتاة المعاندين الذين لا يروق لهم أن يستمعوا لكلمة الحق فيلجوا في دين الله السوي المستقيم، لا جرم أن ذلك غاية في الفسق والكفران بما يشير إلى فساد هذه الخليقة الجانفة المريضة.
قال الرازي في هذا المعنى : الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك، فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه و سلم في النبوة، فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله، ومعبودا سوى الله سبحانه، ثم بين أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال :( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ). ( أسلم ) من الإسلام وهو يعني الاستسلام والانقياد والخضوع.
و ( أسلم ) أي استسلم وانقاد وخضع وذل.
وتقدير المراد في الآية هو : أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون وله أسلم من في السماوات والأرض، أي وله خشع من في السماوات والأرض فخضع له بالعبودية وأقر بإفراد الربوبية وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية طوعا وكرها.
أما تأويل الاستسلام والخضوع من أهل السماوات والأرض طوعا أو كرها فثمة تفصيل في تأويل. على أن الذي أسلم طائعا من كان إسلامه لله عن رضى وطواعية. وذلك كالملائكة والنبيين والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين مخبتين٢.
أما من أسلم لله كرها فتأويل المراد منه يحتمل عدة وجوه :
منها : من يقر بأن الله خالقه وربه وإن أشرك معه في العباد غيره.
ومنها : من أقر بإسلامه لله حين أخذ الميثاق منه.
ومنها : أن أهل الإيمان أسلموا طوعا وأن الكافر أسلم في حال المعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها. وقيل غير ذلك٣.
٢ - مخبتين: من الإخبات وهو الخشوع. انظر مختار الصحاح ص ١٦٧..
٣ - تفسير الطبري، جـ ٣ ص ٢٣٩، ٢٤٠ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١٣٤، ١٣٥..
( آمنا بالله ) أي صدقنا وأيقنا أن الله هو ربنا وإلهنا لا إله إلا غيره ولا نعبد أحدا سواه، وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وهو القرآن، وكذلك ما أنزل الله من الوحي والصحف على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
والأسباط جمع ومفرده سبط بكسر السين وهو في اللغة ولد الولد٤.
والمراد بالأسباط في الآية ولد يعقوب الاثنا عشر وما تفرع عنهم من بطون بني إسرائيل المتشبعة من أولاد إسرائيل وهو يعقوب.
قوله :( وما أوتي موسى وعيسى ) أن التوراة والإنجيل، فنحن مأمورون بتصديقها والإيمان بهما على أنهما أنزلا من عند الله، وكذلك نؤمن دون ريب بما أنزل على النبيين من الوحي والكتب، لا نشك في ذلك ولا نتردد في تمام اليقين مما أنزله الله على النبيين والمرسلين من الكتب والصحف والرسالات.
قوله :( لا نفرق بين أحد منهم ) أي لا نصدق بعضهم ونكذب بعضهم، ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى إذ صدقوا بعض أنبياء الله وكذبوا بعضهم، أما نحن المسلمين فلا جرم أننا نؤمن بجميع الأنبياء ونصدقهم، وذلك هو ديدن المسلمين في كل مكان وزمان. وهو الإيمان بجميع الأنبياء ونصدقهم، وذلك هو ديدن المسلمين في كل مكان وزمان. وهو الإيمان بجميع الأنبياء ونصدقهم، وذلك هو ديدن المسلمين في كل مكان وزمان. وهو الإيمان بجميع الأنبياء من غير تفريق بينهم في ذلك، يستوي في ذلك إيمان المسلمين بأبي الخليقة آدم وأبي البشر الثاني نوح، أو الإيمان بالنبيين والمرسلين من بني إسرائيل بداء بإسرائيل نفسه وهو يعقوب، وانتهاء بكلمة الله المسيح ابن مريم وغير هؤلاء من أنبياء الله.
المسلمون يؤمنون بهؤلاء جميعا من غير شك في ذلك ولا تردد، يدعوهم إلى ذلك إيمانهم بالله منزل الكتاب الحكيم- القرآن- الذي أمر ألا نعبد إلا الله وأمر أن نؤمن بالنبيين كافة من غير استثناء.
المسلمون مبادرون بالإيمان الكامل والتصديق الأدنى بما أنزل الله على أنبيائه من كتب وصحف ورسالات لا يثنيهم عن ذلك تعصب ولا زيغ ولا هوى، خلافا لأهل الكتاب من النصارى واليهود الذين جعلوا الإيمان والعقيدة عضين٥. إذ آمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعضهم الآخر، لا يحدوهم في ذلك غير التعصب والجحود والتمرد الكامل على الله، لا جرم أن أولئك عتاة ضالون مستنكفون عن الإيمان الصادق والعقيدة الصحيحة، على أن أهل الكتاب جميعا متفقون على ما هو أنك من ذلك وأشد عتوا- متفقون على تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم ! ! هذا الرسول المفضال الأعظم ذو الملة الحنيفية السمحة والديانة الجامعة الشاملة الوسط، الديانة المتوازنة المعتدلة الميسورة التي تراعي فطرة البشر أكمل مراعاة، بخلاف الديانات والكتب السماوية الأخرى ومنها التوراة والإنجيل اللذان خالطهما التغيير والتبديل وغشيهما من التحريف والتزييف ما أسلمهما إلى حمأة التزوير والتشويه، فما يقرأ المرء شيئا من هذين الكتابين حتى تغشاه الريبة وانتفاء الثقة والتصدق.
ذلك هو شأن النصارى واليهود منذ تحريف التوراة والإنجيل، لقد بات حالهما مبينا على التكذيب الفاضح لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعمر الحق وإن ذلكم غاية الهوان والانتكاس، بل غاية الاستخفاف بالعقل السليم وقسطاس الله المستقيم ! !
ذلك هو مقتض قوله تعالى :( لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) أي ونحن له منقادون بالطاعة متذللون بالعبودية مقرون له بالألوهية والربوبية وأنه لا إله غيره٦
وإذا جيء بالأديان والنبيين السابقين على أحقاب متعاقبة من مراحل الزمن، فقد ظلت البشرية تتناوبها الملل والشرائع المحدودة بما ينسجم كل واحد منها مع طور دون غيره من الأطوار، فما يصلح لأمة أو مجتمع لا يصلح لغيره من الأمم والمجتمعات. وذلك هو مقتضى قوله تعالى :( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) فهي شرائع شتى تتناسب كل شريعة منها مع طبيعة الحال للأمة في فترة من الفترات.
ولقد ظل الحال كذلك حتى جيء بالإسلام، هذا الدين المنسجم المتكامل الذي تصلح عليه حياة الإنسان في كل الأحوال والأطوار والظروف، وذلك لما يتجلى في شريعة الإسلام من الخصائص والمزايا، ولما تنبني عليه من المقومات والحقائق بما يجعلها المنهج الكامل المتسق الوحيد الذي يصلح لكل مكان وزمان.
وعلى هذا ليس لأحد البتة أن يبتغي غير ملة الإسلام ملة من الملل، وأيما ابتغاء كهذا فهو الجحود والكفران، بل إنه الضلال والعتو والتمرد على منهج الله، التمرد الذي يكشف عن اعوجاج في التصور الزائغ، أو جهل مطبق يغشى العقل فيحول بينه وبين التمييز والتمحيص. فلا يبتغي أحد دينا غير دين الإسلام إلا كان مسعاه غير مقبول، ولسوف يبوء في الآخرة بالمهانة والارتكاس. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ١.
جاء في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام والتحق بالشرك فندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لي من توبة فإني قد ندمت، فنزلت ( كيف يهدي الله قوما كفروا ) الآية، وقيل : نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد رأوا صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم وأقروا به وشهدوا أنه حق، فلما بعث النبي من غيرهم أنكروه وكفروا به بعد إقرارهم وإيمانهم، وليس ذلك إلا حسدا من عند أنفسهم١.
على أن ظاهر الآية يدل على عموم المقصود الذي تناول كل من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن برسالة الإسلام فصدقها تصديقا، سواء كان ذلك بعد مجيء الإسلام أو كان قبله، إذ صدقه أهل الكتاب من اليهود والنصارى لما وجدوه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل قبل مولد الرسول وبعثه، فما إن ولد وبعثه الله للناس حتى ناصية أهل الكتاب الكيد والجحد.
قوله :( كيف يهدي الله قوما ) استفهام إنكاري، أي كيف يستحق هؤلاء الهداية من الله بعد أن آمنوا وصدقوا وعرفوا ما أنزل من الحق، ثم تلبسوا بعد ذلك بالضلالة والكفر ؟ ! أنى لهم أن يستحقوا الهداية عقيب كفرهم وارتدادهم مع أنهم كانوا قد صدقوا الرسول وشهدوا أنه مرسل من ربه، ووجدوا فيه من الدلائل والبينات ما يشهد على صدق نبوته ؟
ليس لهؤلاء الفسقة أن يحظوا بهداية الله وترشيده وهم على هذه الشاكلة من الظلم.
وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ؛ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنبوته ونعته مما وجدوه عندهم مكتوبا في التوراة والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم عل كفرهم وبارتكابهم للمعاصي والذنوب.
وقيل : نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إل مكة، أما ازديادهم الكفر فهو أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل غير ذلك. ١
قوله :( لن تقبل توبتهم ) أي لن تقبل توبتهم ما داموا مقيمين على الكفر وبذلك تحمل الآية عل من ثاب كافرا غير تائب ؛ لأنه لا تقبل توبته عند الموت.
قوله :( وأولئك هم الضالون ) من الضلال، وهو في اللغة ضد الهدى والرشاد٢ المراد بذلك هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا، لا جرم أنهم ضلوا سبيل الحق وخرجوا عن منهج الله وهداه، فعموا عنه عماية أسلمتهم إل الغي والكفران.
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٥ ومختار الصحاح ص ٣٨٣..
أما الواو في قوله :( ولو افتدى به ) فثمة تفصيل في معناها. فقد قيل : الواو زائدة فيكون المعنى للآية : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به.
وقيل : إنها للعطف، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه. وقيل غير ذلك٢.
قوله :( أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ) بعد أن بين الله حال هؤلاء المرتدين الجاحدين من الإياس المطبق وأنهم لا يرجى لهم غفران أو توبة ولو افتدوا أنفسهم من العذاب بما يملأ الدنيا ؛ فإنه جل ثناؤه يؤكد أنه لا خلاص لهؤلاء من عذابه، وليس لهم من أحد يعينهم أو ينقذهم من الويل الذي حاق بهم أو يدرأ عنهم العذاب الذي يحيط بهم.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٤٥ وتفسير القرطبي جـ٤ ص ١٣٠ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٢٤٥ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٠..
و ( البر ) معناه الجنة. وقيل : العمل الصالح، و ( تنفقوا ) منصوب بأن المضمرة بعد حتى لانتهاء الغاية.
والمعنى الذي دل عليه ظاهر هذه الآية أن أحدا لن يعطى الجنة أو يكون في عداد الأبرار والصالحين حتى يبذل في وجوه الخير والإحسان من أفضل أمواله، فهو بذلك يعمد في همة وسخاء إلى الإنفاق من كرائم أمواله لا يصده عن ذلك شح ولا أثره.
أما المراد بالإنفاق المطلوب، فقيل : أراد به الزكاة المفروضة. وقيل : كل شيء أنفقه المسلم من ماله مبتغيا به وجه الله. وقيل : البر كل عمل صالح وهو في تقديري الصواب، خلافا للقول بأنه الزكاة المفروضة ؛ لأن هذه من أحكامها أن لا تؤخذ من كرائم أموال الناس، أما في الآية هذه فثمة استنهاض للهمة والمشاعر ؛ كيما يسخو المسلم فيبذل مما يحب، أي من خير ما يعجبه ويهواه من ماله.
قوله :( وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) أي مهما تنفقوا من شيء فتصدقوا به من أموالكم فإن الله يعلمه وهو مجازيكم عليه١.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : إنك تدعي أنك عل ملة إبراهيم، فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم، ويريدون بذلك إثارة الشبهة في دعوته عليه الصلاة والسلام، فأجابهم صلى الله عليه و سلم عن هذه الشبهة المصطنعة بقوله : ذلك أن حلا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، إلا أن يعقوب حرمه على نفسه.
والذي حرمه يعقوب على نفسه كلحوم الإبل وألبانها، فقد قيل : كان به عرق النسا وهو شديد الإيجاع، حتى إنه ما كان ينام منه في ليله، فنذر لئن شفي من هذا المرض لا يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء١ لكن اليهود أنكروا ذلك فأمرهم الرسول صلى الله عليه و سلم بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام، فعجزوا عن ذلك، فاستبان أنهم كاذبون وأنهم أهل افتراء وباطل.
على أن يستفاد من ظاهر الآية جواز وقوع النسخ وهو ما ينكره اليهود، فقد كانوا يعولون في إنكار شريعة الإسلام على إنكار تشريع النسخ، فأبطل الله عليهم ذلك لما بين جواز حصول النسخ. وذلك من جملة الدلالات والحجج على صدق الإسلام وصدق رسول الله الأمين عليه الصلاة من الله والتسليم.
وفي بيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه قد وقع في التوراة هو أن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة أباه الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فاتبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك.
وكان الله عز وجل قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك بعد كله. وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا وقد فعله يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين ثم حرم ذلك عليهم في التوراة. هذا كله منصوص عليه في التوراة عند اليهود، وهذا هو النسخ بعينه٢.
قوله :( كل الطعام كان حالا لبني إسرائيل ) الطعام أي المطعومات. والمعنى أن كل المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل وهو يعقوب لم يحرم عليهم منها شيء إلا ما كان يعقوب حرمه على نفسه وهي لحوم الإبل وألبانها. وهذا مقتضى قوله تعالى :( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ).
وقوله :( من قبل أن تنزل التوراة ) أي قبل نزول التوراة كان حلا لبني إسرائيل كل المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل ( يعقوب ) على نفسه. أما بعد التوراة فلم يبق كذلك، بل حرم الله تعالى عليهم أنواعا كثيرة بسبب ظلمهم وبغيهم. وفي ذلك رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه و سلم من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله :( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) الآية. فقد كانوا يقولون كاذبين : لسنا أول من حرمت عليه هذه المطعومات وما ذلك إلا تحريم قديم، فقد كانت هذه المطعومات محرمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهكذا.. إلى أن انته التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وقصدهم من ذلك تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصد عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساوئهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم علي٣هم نوعا من الطيبات عقابا لهم.
قوله :( قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أمر الله نبيه أن يقول للزاعمين من اليهود الذين زعموا أن الله حرم عليهم في التوراة لحوم الإبل وألبانها ( فآتوا بالتوراة ) وذلك لكشف كذبهم في مقالتهم. وبذلك أمر الله أن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم تبكيتا بما هو منطوق به في التوراة من أن تحريم ما حرم عليهم إنما هو تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم وليس هو بالتحريم القديم كما ادعوا ؛ لكن اليهود لم يجسروا على إخراج التوراة، بل إنهم بهتوا وانقلبوا مرتكسين. وفي هذا تقوم الحجة الساطعة على صدق النبي صلى الله عليه و سلم وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه. وهذا مقتضى قوله تعالى :( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ).
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٢ والكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٤٤٦..
٣ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٥٤..
أما المراد بالآية فهو أن من زعم كاذبا أن ذلك كان محرما على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة على أن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله ( فأولئك هم الظالمون ) الساقطون في ظلام الشرك والباطل لشدة جحودهم وكفرهم واستنكافهم عما جاء به الوحي في كتابهم التوراة.
قوله :( وما كان من المشركين ) كان خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام على الحنيفية الكاملة، الحنيفية التي بنيت على التوحيد والمضادة للشرك بكل صوره وأشكاله، فلم يدع مع الله إلها آخر، ولا عبد شيئا سواه كما فعله أهل الكتاب من النصارى واليهود إذ عبدوا المسيح وعزيرا. أو كما فعله العرب بعبادتهم الأوثان أو غيرهم من الوثنيين على اختلاف نحلهم كعبدة النار والأبقار والأحجار.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن المسلمين واليهود تفاخروا، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ؛ لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية١.
يخبر الله تعالى في ذلك أن أول بيت وضع لعموم الناس من أجل عبادتهم لهو الذي ببكة. وليس المراد أنه أول بيت وضع في الأرض ؛ لأنه كانت قبله بيوت كثيرة، يدل على ذلك من الأخبار ما رواه أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ! أي مسجد وضع أول ؟ قال : " المسجد الحرام " قلت : ثم أي ؟ قال : " المسجد الأقصى " قلت : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " قلت : ثم أي ؟ قال : " ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد " ٢.
وقام رجل إلى علي رضي الله عنه فقال : ألا تحدثني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ قال : لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا٣.
إذا ثبت أن هذا البيت ( الكعبة ) أول بيت وضع للناس كيما يعبدوا الله فيه، فإنه ينبغي القول أن هذا البيت خير بيوت العبادة في الأرض طُرّا ؛ وذلك لما يُحف به من الفضل والشرف وعلو المكانة. وذلك مستفاد من ظاهر الآية ( مباركا ) طيبا.
وقد دلل الإمام الرازي على ثبوت الأولية في الفضل والشرف للكعبة خاصة يجعلها تعلو في المنزلة على بيت المقدس. وذلك بجملة دلائل منها : أولا : اتفاق الأمم على أن باني البيت هو إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن باني بيت المقدس هو سليمان عليه السلام. والخليل من حيث الدرجة أعظم من سليمان عليه السلام، فهو ( الخليل ) أحد النبيين الخمسة أولى العزم المفضلين على سائر الأنبياء والمرسلين. فمن هذا الوجه لزم أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس.
ثانيا : خاصية الأمن التي تتجلى في مكة حيث البيت الحرام بما ليس لذلك نظير في سائر بقاع الدنيا. وعلى هذا فإن كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة، لا جرم أن ذلك ببركة دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام ؛ حيث قال :( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) وقال سبحانه فيما يتجلى في هذا البيت من أمن :( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) ولم ينقل البتة أن ظالما هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية ؛ لكن بيت المقدس قد هدمه الطاغية الشقي، الكلداني بختنصر بالكلية.
ثالثا : لما قاد أبرهة الأشرم الجيوش والفيل متوجها صوب مكة لتخريب الكعبة وتدميرها وقد عجزت قريش عن مقاومة أولئك الطغاة المخربين ففارقت مكة لتظل الكعبة وحدها هدفا ميسورا لأبرهة وعساكره المفسدين فأرسل الله عليهم طيرا أبابيل، وكانت صغارا تحمل أحجارا ترميمهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغير، لا جرم أن هذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وهي إرهاص٤ لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم٥.
قوله :( الذين ببكة ) اللام تفيد التوكيد. وبكة المراد بها مكة، أما اشتقاقها فهو موضع خلاف، فقد قيل : من البك وهو التدافع والتزاحم. بكه يبكه بكا إذا دفعه وزحمه. وتباك القوم إذا ازدحموا. وعلى هذا سميت مكة بكة ؛ لأنهم يتباكّون فيها أي يزدحمون في الطواف.
وقيل : البك معناه الدق. وسميت بكة ؛ لأنها تبك أعناق الجبابرة فلا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه وقيل غير ذلك٦.
قوله :( مباركا ) منصوب على الحال، من البركة وهي النماء والزيادة، وقد جعل البيت الحرام مباركا لما يحصل لحاجه ومعتمره والعاكف عنده والطائف من حوله من الخير المضاعف الكثير، لا جرم أن فعل الخيرات وأداء الطاعات في بيت الله الحرام يفوق في كثرته فعل الطاعات والخيرات فيما سواه من الأماكن الأخرى، فضلا عما يسعد به العابد في تلكم الديار من تكفير للخطايا والذنوب واستجابة للدعوات يهتف بها القلب المؤمن، وهو في رحاب الله حيث البيت المفضل العتيق.
قوله :( وهدى للعالمين ) الهدى يعني الرشاد والدلالة. هداه هدى وهديا وهداية، أي أرشده ودله. ومنه هداه الله الطريق٧ وتأويل الآية هو أن الكعبة جعلت قبلة للناس لكي يستدلوا على جهة صلاتهم فحيثما كانوا لزمهم عند أداء الصلاة أن ييمموا شطرها.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٣..
٣ - نفس المصدر السابق..
٤ - الإرهاص: الأمر الخارق للعادة يظهر للنبي قبل بعثته، أرهص على الذنب: أصر عليه. راهصة: راصده وراقبه. بني له مراهص: جعل له ثوابت وأسس، كيلا يميل. أنظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٧٧..
٥ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٥٩، ١٦٠..
٦ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ٣٠٥ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١٦١ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٣٨..
٧ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٤٠٥..
وقيل : مقام عطف بيان لقوله : آيات بينات. فإن قيل : كيف صح بيان الجماعة ( آيات ) بالواحد ( مقام )، قيل : اشتمال المقام على الآيات ؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة آلاف السنين آية. وقيل غير ذلك١.
قوله :( ومن دخله كان آمنا ) الضمير في قوله :( دخله ) يراد حرم مكة : فإذا دخله الخائف فإنه يأمن من كل سوء، كذلك كان الأمر في الجاهلية، كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه أو يزعجه حتى يخرج. قال ابن عباس في تأويل هذه الآية : من عاذ بالبيت، أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه، وهو مذهب الحنفية إذ قالوا : من لزمه القتل في الحل بقصاص أوردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرض له إلا أنه لا يُؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج٢.
ومثل ذلك قوله تعالى :( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ).
وفي تحريم مكة من حيث حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها ونحو ذلك من وجوه التحريم ؛ فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : " لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا " وقال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى٣ خلاها " وكذلك أخرج مسلم عن أبي شريح العدوي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم فتح مكة : " إن مكة حرمها الله ولمي حرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ".
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عدي الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول : " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " ٤.
على أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى :( ومن دخله كان آمنا ) وثم قولان رئيسان في ذلك :
القول الأول : تأويله أن كل من جر في الجاهلية جريرة ثم عاذ بالبيت لم يكن بها مأخوذا، أي لم يؤخذ بجريرته مادام عائذا بالبيت، أما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، فمن سرق فيه قطع، ومن زنا فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل، وبذلك يكون تأويل الآية أن من يدخله من الناس كان آمنا به في الجاهلية دون الإسلام.
القول الثاني : معنى ذلك أن من يدخله يكن آمنا بمعنى الجزاء. كقوله القائل : من قام لي أكرمته. وقد كان ذلك في الجاهلية لما كان الحرم مفزع كل خائف وملجأ كل جانٍ ؛ لأنه لم يكن يهاج به ذو جريرة ولا يعرض فيه الرجل لقاتل أبيه وابنه بسوء، وكذلك هو في الإسلام ؛ لأن الإسلام زاد البيت تعظيما وتكريما. قال ابن عباس في ذلك : إذا أصاب الرجل الحد : قتل أو سرق فدخل الحرم، لم يبايع ولم يؤو حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد. وذكر عنه قوله أيضا : إذا أحدث الرجل حدثا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له ولم يؤو ولم يبايع ولم يجالس ولم يكلم ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج منه أخذ فأقيم عليه الحد.
وعن عطاء بن أبي رباح، في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم قال : لا يبيعه أهل مكة ولا يشترون منه ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه، عدّ أشياء كثيرة- حتى يخرج من الحرم فيؤخذ بذنبه.
وذهب آخرون إلى أنه يٌخرج من الحرام قسرا ليلقى جزاءه خارجه، وهو قول ابن الزبير ومجاهد والحسن. فقد قالوا : معنى ذلك أن من دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذا به كان آمنا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه، وإن كان أصابه فيه أقيم عليه فيه. فتأويل الآية بذلك : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن يدخله من الناس مستجيرا به يكن آمنا مما استجار منه ما كان فيه حتى يخرج منه.
واختلفوا في صفة إخراجه من البيت فقال بعضهم : صفة ذلك معنى المعاني التي يضطر مع منعه منها إلى الخروج من الحرم. وقيل غير ذلك.
وثمة قول ثالث في تأويل الآية، وهو أن من دخله يكن آمنا من النار٥.
قوله :( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) اللام في قوله :( ولله ) لا الإيجاب والإلزام. ثم أكد ذلك بقوله تعالى :( على ) وهي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب. وبذلك ذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته٦.
والحج في اللغة بمعنى القصد، والحج بالكسر الاسم، والحجة بالكسر أيضا المرة الواحدة، والحجة بالكسر أيضا تعني السنة، والجمع الحجج.
أما معناه في الاصطلاح الشرعي فهو : قصد مكة من أجل النسك في وقت معلوم٧.
إذا تبين ذلك نقول : يجب الحج على كل مسلم مكلف ذكرا أو أنثى مرة واحدة في العمر، وذلك بالنص والإجماع. فقد روي الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل : أكلّ عام يا رسول ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال : " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " ٨.
أما تفصيل القول في المناسك من بيان لأحكام الحج والعمرة فقد تعرضنا لكثير من ذلك في سورة البقرة. ومع ذلك نقتضب بعضا من الأحكام عن مناسك الحج فنقول : إن فريضة الحج ثابتة في الكتاب والسنة بما يدل على التراخي وليس على الفور، وهو قول كثير من أهل العلم، منهم الإمام مالك وكذا الشافعي. وقال به بعض الحنفية، ودليلهم في ذلك أن الله تعالى قال في سورة الحج :( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) وسورة الحج مكية. وقال تعالى :( ولله على الناس حج البيت ) وهذه السورة مدنية نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى سنة عشر.
ويدل على كونه على التراخي إجماع العلماء على عدم تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين أو نحو ذلك. وهو عند جميع العلماء ليس كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروجها وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجه فقضاه، ولكنه إذا أدى فريضة الحج خلال عمره يكون مؤديا للفريضة وكفى، وليس عليه بعد بأس أو تقصير. وقد أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاض لما وجب عليك. فيفهم من ذلك أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور. وقد خالف في ذلك فريق من العلماء فيهم أهل الظاهر وبعض المالكية، إذ قالوا بوجوب الحج على الفور لا على التراخي، وبذلك من قدر على الحج فأخره عاما أو أكثر فقد احتمل إثما للتأخير. ولا نجد لهم في هذا القول من احتجاج غير الاعتماد على ظاهر الآية وهو ما ليس فيه استدلال مستبين على الفورية٩ وعلى هذا فالقول الأول هو الصواب والله تعالى أعلم.
وإنما يجب الحج على المكلف، وهو العاقل البالغ الحر المريد، فلا يجب على المجنون ولا الصغير ولا العبد، ولا من كان معدوم الإرادة كما لو كان سجينا أو حبيسا أو مقيدا في الأغلال، فأولئك غير مطالبين بفريضة الحج حتى تزول عنهم موانع الوجوب، وعلى هذا اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكورا وإناثا ما عدا الصغير، فإنه خارج عن دائرة الوجوب بالإجماع ؛ لكونه غير مكلف، وكذلك العبد غير داخل في أصول التكليف ؛ لعدم استطاعته، وكذا الأمة لا تكلف بالحج.
قال ابن المنذر في هذا الصدد : أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا١٠.
قوله :( من استطاع إليه سبيلا ) ( من ) بدل بعض من الكل وهو الناس. وقيل :( مَنِ ) أداة شرط. والأول أظهر.
أما السبيل ففي تأويله تفصيل. على أن جملة القول في ذلك أن استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول. ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن وزوال خوف التلف مما يخشى منه على النفس كسبع أو عدو أو فقدان الطعام والشراب، وكذلك القدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع ما عليه من الدين وأني راد ما لديه من الودائع. وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في الذهاب وفي المجيء١١.
والمراد بالسبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج هو الزاد والراحلة، وقد ذهب إلى ذلك أكثر العلماء، ويحتج لذلك من الخبر بما رواه الحاكم من حديث قتادة بإسناد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن قول الله عز وجل :( من استطاع إليه سبيلا ) فقيل : ما السبيل ؟ قال " الزاد والراحلة " ١٢ قال ابن عباس في تأويل قوله :( من استطاع إليه سبيلا ) : السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به.
المراد بالزاد مؤونة السفر مما يحتاج إليه الحاج في سفره كالطعام والكساء ونحوهما، يضاف إلى ذلك ما يلزمه في هذا العصر من رسوم مالية يؤديها ضريبة للمرور، أو غير ذلك من وجوه المغارم المنكودة مما يعاني منه المسلمون، وخاصة في زماننا هذا، وذلك كلما جاوز بلده إلى غيره من بلدان المسلمين كالحجاز.
أما الراحلة فهي في اللغة الناقة التي تصلح ؛ لأن ترحل١٣وهي أحد الشرطين لتحصيل السبيل من أجل وجوب الحج. وعلى هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهم سقط عنه فرض الحج، وهو قول كثر العلماء، ويؤيد ذلك من الدليل جواب الرسول صلى الله عليه و سلم لما سئل عن السبيل فقال : " الزاد والراحلة " ١٤.
أما إن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في الطريق فلا يلزمه الحج وجوبا، بل يستحب في حقه استحبابا. وإن قدر على تحصيل الزاد بمسألة الناس يتكففهم في الطريق كره له الحج ؛ لأنه يصير بذلك كلا على الناس وهو ما لا يليق بكرامة المسلم وشهامته. وقيل : إذا قدر على المشيء ووجد الزاد فعليه فرض الحج وإن لم يجد الراحلة. وأجد أن في مثل هذا القول حرجا بالغا يصيب المسلم ويكلفه من الت
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٤٠ والكشاف جـ ١ ص ٤٤٨..
٣ - يختلى خلاها: يختلى أي يقطع. خليت الخلى قطعته، والخلى: الرطب من الحشيش. انظر مختار الصحاح ض ١٨٩..
٤ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٤.
٥ - تفسير الطبري جـ ٤ ص ١٠ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٤٠ والكشاف جـ ١ ص ٤٤٨..
٦ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٤٢ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٦٣..
٧ - مختار الصحاح ص ١٢٢ والقاموس المحيط جـ ١ ص ١٨٨ وتفسير البيضاوي ص ٨٢..
٨ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٥..
٩ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٤٤..
١٠ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٤٥..
١١ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٦٨...
١٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٦..
١٣ - مختار الصحاح ص ٢٣٨..
١٤ - تفسير الطبري جـ ٤ ص ١٢..
قوله :( تبغونها عوجا ) أي تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة و ( عوجا ) منصوب في موضع الحال، وكذلك الجملة القرآنية ( تبغونها عوجا ) في محل نصب على الحال، والهاء في ( تبغونها ) عائدة على السبيل، وتأويل الآية أنكم تطلبون لسبيل الله، الذي هو الإسلام، الزيغ والميل والاعوجاج. ذلك أنكم تلبسون على الناس وتوهموا لهم أن فيه عوجا عن الحق والاستقامة وأنكم وحدكم على الطريق المستقيم، مع أنكم تشهدون ما تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة أن الإسلام وهو دين الله وأنه الحق المستقيم، وأنه لا يجحده أو يستنكف عنه إلا ضال أثيم٢.
قوله :( وما الله بغافل عما تعملون ) ذلك وعيد مرعب يتهدد به الله هؤلاء المفسدين الزائغين عن صراطه، إنه تهديد يثير في النفس الذعر والرهب، فما يكاد المرء يتملى إيقاع هذه العبارة حتى يجد نفسه ومشاعره مستجاشة ومذعورة، لكم هو تهديد الله لهؤلاء الضالين المضلين الذين يصدون عن دين الله ويفترون على الإسلام ونبيه الكذب والأباطيل ليثنوا المسلمين عن دينهم الحق وذلك بمختلف الحيل والمخططات في التضليل والتوهيم واصطناع الشبهات والشكوك والفتن.
أجل ! يتوعد الله هؤلاء الأشرار لما قارفوه من الاعوجاج والزيغ والتحريف، بالعقاب الأليم والنكال البئيس، فهو سبحانه عالم بأفعالهم، مطلع على أستارهم وما يكنون ولا تأخذه في ذلك غفلة ولا نسيان.
٢ - الكشاف للزمشخري جـ ١ ص ٤٤٩، ٤٥٠ وفتح القدير للشوكاني جـ ١ ص ٣٦٦ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١٦٨- ١٧٢..
نزلت هذه الآية في يهودي أراد أن يثير الفتنة والعداوة بين الحيين من المسلمين وهما الأوس والخزرج بعد أن غاظ اليهود ما رأوه من اجتماع المسلمين وتآلفهم حول الإسلام، فذكرهم بما كان بينهم في الجاهلية من دماء وثارات وحروب حتى أثار فيهم حمية الجاهلية واستشاط في نفوسهم نزعة الجنوح للتأثر والضلالة فنادى هؤلاء : يا آل أوس، ونادى هؤلاء يا آل خزرج فقاموا للحرب والفتنة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال : " يا معشر المسلمين أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا. ألله ألله١ فأدرك القوم أن الشيطان نزغ بينهم فكادوا يرتكسون في الفتنة لولا ترشيد النبي صلى الله عليه و سلم لهم فرجعوا إلى صوابهم والرشد، وأقبل بعضهم على بعض متعانقين متوادين، فنزلت هذه الآية، وفيها يحذر الله المسلمين من طاعة أهل الكتاب الذين يحسدونهم حسدا شديدا والذين تكن لهم صدروهم من الضغن ما لا يرجون لهم معه غير الشر وسوء العاقبة في الدين والدنيا ؛ وكل ذلك لأن المسلمين على الحق. وهم لا يبتغون لأنفسهم وللبشرية كلها غير الهداية والرشاد والاستقامة.
ذلك هو ديدن المسلمين، وتلك هي سجيتهم المستمدة من روح الإسلام ومن طبيعته السمحة الكريمة التي تقيم الحياة على العدل والخير والطهارة والمعروف، بعيدا عن الشر وكل مسالك الزلل والرذيلة ؛ من أجل ذلك يكرههم الكافرون، سواء فيهم أهل الكتاب أو غيرهم من الوثنيين والملحدين.
أجل ! يحذر الله عباده المؤمنين من الاغترار بأساليب أهل الكتاب في المراوغة والتضليل لكي يردوهم عن دينهم الإسلام إن استطاعوا لينقلبوا بذلك منتكسين كفارا ! !
وذلك استفهام إنكاري. وتقدير الكلام : من أين يأتيكم الكفر والإغواء والفتنة ولديكم ما يمنعكم منه، وهو القرآن الكريم يتلى عليكم، ذلك الكتاب الذي تتقاطر منه نسائم الإعجاز البالغ ما بين حلاوة في النغم وفصاحة في الكلم، وروعة خارقة نفاذة في الأسلوب، لا جرم أن القرآن بإيقاعه المؤثر وجرسه النافذ الساحر وأسلوبه المعبر الباهر بحقيقة المعجزة الربانية المجلجلة من خلال هذا الكلام الحكيم.
وقوله :( وفيكم رسوله ) أي رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهركم ينبهكم ويعظكم ويزيل ما ينتابكم من شبهات المضلين، فضلا عن الشخصية الفذة لهذا النبي الحكيم، الشخصية المتكاملة المثلى التي عز نظيرها في العالمين، وخلال التاريخ كله، الشخصية التي تتندى من سجاياها ومزاياها كل معاني الخير والجمال والرحمة.
وفي مثل هذا الصدد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه يوما : " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ " قالوا : الملائكة، قال : " وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم " قالوا : فنحن قال : " وكيف لا تؤمنون وأنا يبن أظهركم ؟ " قالوا : فأي الناس أعجب إيمانا ؟ قال : " قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " ١
قوله :( ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ) ذلك تحريض من الله للمؤمنين لكي يعتصموا بالله، أي يستمسكوا بدينه القويم ويستنيروا بنور قرآنه العظيم، ومن يستمسك بذلك لا جرم أن مآله الرشاد والاهتداء إلى صراط الله المستقيم وهو الإسلام.
والتقوى في حقيقة مدلولها الإسلامي، هي حالة من كمال الخوف من الله، وما يستتبعه ذلك من كمال الوازع الديني الذي يغشى الجهاز النفسي كله لينشر فيه الشفافية وأقصى الدرجات من رهافة الحس والوجدان. ويستلزم ذلك بالضرورة أن تنقاد الجوارح لعمل الطاعات وتستعصم عن فعل المنهيات والمنكرات، لا جرم أن هذه الصفات النفسية والروحية والبدنية جد عسيرة، حتى إنها لتعز على التطبيق والعمل إلا قليلا، بل إنها لا يطيقها من الناس غير لفيف قليل مميز من الصالحين الأبرار. ويؤيد هذه الحقيقة ما روي عن أنس أنه قال : لا يتقي العبد الله حق تقاته حتى يحزن لسانه١.
وقد روي عن جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :( فاتقوا الله ما استطعتم ) وعن ابن عباس في قوله تعالى :( اتقوا الله حق تقاته ) قال : لم تنسخ. ولكن ( حق تقاته ) أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقوله :( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) النهي في ظاهره واقع على الموت وليس هو المقصود، بل الأمر بالإقامة على الإسلام هو المقصود، أي لا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت.
الله جل جلاله يأمر عباده المسلمين أن يتعصموا، أي يتمسكوا بحبله، والحبل في اللغة فهو السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ؛ ولذلك سمي الأمان حبلا ؛ لأنه سبب يوصل إلى زوال الخوف، والنجاة من الجزع والذعر.
والمراد بحبل الله في الآية العهد. وقيل : الجماعة. وذهب آخرون إلى أنه القرآن وهو عندي الأظهر والأقوى. لما يعزز ذلك من خبر عن علي مرفوعا في صفة القرآن قال : " هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم " وورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ".
وفي حديث آخر عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه " ٢.
قوله :( ولا تفرقوا ) ذلك نهي من الله لمسلمين عن التفرق، وهو التبعثر والشقاق والاختلاف فيما بينهم في الدين. وليس المراد الاختلاف في الأقوال والآراء التفصيلية لأحكام الشريعة، فذلك مرغوب لا بأس فيه، ولكن المراد اختلاف القلوب تبعا لاختلاف الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية بما يفضي إلى زوال الألفة والاجتماع بين المسلمين وما يوقع بينهم العداوة والبغضاء والمشاحنة وإثارة الفتن والحروب.
إن قول الله :( ولا تفرقوا ) يظل نداء مستديما وقائما يهتف بالمسلمين طوال الدهر أن لا تتفرق كلمتهم، وأن لا تتبعثر قلوبهم، وأن لا تتشتت جماعتهم، وأن يحذروا دائما من دعاة السوء والمكر والتخريب من الأعداء الذين يتربصون بهم الدوائر ليوقعوا بينهم الضغائن والفتن فتضعف وحدتهم ويتمزق شملهم ؛ ليسهل على المجرمين والطغاة الطامعين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وصهيونيين- افتراسهم والاستحواذ عليهم. لا جرم أن التفرق داء وبيل ومدمر يوهن المسلمين ويودي بهم إلى التفكك والانهيار والسقوط في براثن الشياطين من شرار البشر، إنه لا مناص للمسلمين إذ ابتغوا لأنفسهم العزة والمنعة والسلطان وتحصيل السعادة في الدارين- من الاجتماع في وحدة حقيقة واحدة. وحدة متماسكة متينة تجتمع فيها قلوبهم وأهواؤهم حول حقيقة واحدة كبرى، وذلكم هو الإسلام، دون غيره من الأديان والملل أو العقائد والفلسفات والمبادئ المختلفة.
وفي التحذير من الافتراق والاختلاف روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة. وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة " فقيل : يا رسول الله وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : " الجماعة واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ".
قوله :( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمة إخوانا ) أي اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم مشركين إذ يقتل بعضكم بعضا ويخاصم الواحد منكم الآخر لا يحفزه أو يثيره إل مثل ذلك غير الحماقة الطاغية، والهوى الجامح الضال.
لقد كنتم على هذه الحال من عصبية الجاهلية برعونتها ومفاسدهاه وحماقاتها حتى قيض الله لكم هذا النبي الكريم للناس هاديا وبشيرا. وقيض لكم الإسلام ليكون لكم فيه الخير والسلامة والنجاة من كل العيوب والأوضار والشرور، ( فأصبحتم ) ( صرتم ) بذلك إخوانا في عقيدة الإسلام متحابين متآلفين متحدين بفعل هذا الدين الذي فيه سر نجاتكم وفلاحكم، والذي حوى من القيم والمعاني ما يغسل القلوب من الأدران وأوشاب الدنيا "، ويغسل الأذهان من شبهات التفكير الضال ؛ لينقلب الإنسان إلى كائن جديد مميز ومفضال يفيض بالعطاء والخير. كائن سليم من الأمراض والعقد والشذوذ.
قوله :( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) شفا الشيء، أي حرفه. وهو اسم مقصور. مثل شفا البئر. أي حده وحرفه، وشفيره أشفى على الشيء، إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حرفه، ومنه : أشفى المريض على الموت٣.
والمقصود أن هؤلاء المؤمنين كانوا قبل إسلامهم على طرف جهنم. وذلك بكفرهم وجاهليتهم الضالة حتى كادوا يكبكبون فيها لولا أن منّ الله عليهم بالإسلام فأنقذهم من النار. وكذلك تكون الحال لكل واحد من الناس أو أمة من الأمم فإنها قائمة موقوفة على شفير جهنم حتى لتوشك أن تهوي فيها إلا أن تفيء إلى كلمة الله. الكلمة الصادقة الأمينة- كلمة الإسلام العظيم. وفي ذلك ما ينتشل الإنسانية من رجس المفسدين ويفضي بها إلى النجاة والسعادة.
قوله :( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) الكاف في اسم الإشارة في محل نصب، نائب مفعول مطلق أو في محل نصب على الحال. والمعنى أنه مثل ذلك البيان البليغ المذكور الذي عرفكم فيه ربكم كيد الكائدين وتربصهم بكم، وعرفكم مواقع نعمه وصنائعه لديكم فإنه يبين لكم ( آياته ) أي دلائله وحججه الساطعة ( لعلكم تهتدون ) أي لتهتدوا إلى سبيل الرشاد فلا تضلوا أو تتعثروا ؛ لأنكم أصبحتم بذلك على جادة الصواب٤.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٨٨ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢١..
٣ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٨٠ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ١٦٥..
٤ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ١٨٠ والكشاف جـ ١ ض ٤٥٢..
أولها : أن " من " هنا للتبيين. وذلك كقوله :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) فيكون تقدير الكلام : كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر. والأصل في المسألة هنا أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة. فإنه ما من مكلف إلا ومنوط به أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر ؛ وذلك للخبر " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان " وفي رواية " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " ١ ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين. وذلك كقوله تعالى :( انفروا خفافا وثقالا ) فالأمر عام، لكنه إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزوال التكليف عن الباقين.
القول الثاني : إن " هنا " للتبعيض. وبذلك فإن المراد بالأمة في الآية جماعة من أمة المسلمين وهم العلماء، فالتكليف مختص بهم، فيكون التقدير : أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذه الوجيبة العظيمة، وهي وجيبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء هم جماعة العلماء ؛ لما يتجلى فيهم من مزية القدرة على فهم المعاني الدينية ووعيها. ومزية التبليغ للناس بما يثير فيهم الحماسة الدينية ويدعوهم إلى سبيل الرشاد، ولا يتسنى مثل هذه الوجيبة لغير الفئة الواعية العالمة من الأمة. الفئة التي أوتيت حظا من المعرفة بكتاب الله الحكيم. وعلى هذا فالواجب هنا على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين. وذلك شديد بالقول السابق الثاني.
القول الثالث : المراد من هذه الآية هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه الصلاة والسلام ويعلمون الناس.
والصواب في تقديري كما قاله ابن كثير في هذا الصدد : والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه. جاء في الخبر مما رواه أحمد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده لم لتدعنه فلا يستجيب لكم " ٢.
قوله :( يدعون إلى الخير ) يراد بالخير الإسلام وشرائعه، بكل ما في هذه العبارة من عظيم المعاني. فالدعوة إلى الخير تتناول كل جوانب هذا الدين الشاسع الرحيب بما فيه من إثبات لذات الله وصفاته وتقديسه جل جلاله عما لا يليق بكماله. إلى غير ذلك من أصول وقواعد وأحكام ودروس ومواعظ مما حواه هذا الدين المتين.
وقوله :( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) عطف بالأمر المعروف والنهي عن المنكر على الدعوة إلى الخير. وذلك عطف للخاص على العام إيذانا بفضلهما وعظيم أهميتهما. ولا غرو فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل المسلمين جميعا لنشر الحق والفضيلة، وتبديد الباطل والرذيلة، بل إنهما سبيل لنشر الإسلام وعقيدة التوحيد بين الناس وفي الآفاق، ولإذهاب كل ظواهر الفسق والفساد والباطل من بين العباد، لا جرم أن البشرية برمتها مستديمة الحاجة اللحاحة لما يقرع آذانها من دعوات الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر. فالإنسان بطبيعته خلق ضعيفا، وهو بذلك يخالطه الضعف في اصطباره واقتداره واحتماله للواجبات ليجنح في الغالب للزلل والنسيان والتقصير. ويعبر النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك خير تعبير ؛ إذ يقول : " كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون " ٣.
من أجل ذلك لا يستغني الإنسان عن تذكيره ومعاودة أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
قوله :( وأولئك هم المفلحون ) الفلاح معناه الفوز والنجاة والبقاء٤. واسم الإشارة يعود على الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، فإن أولئك جميعا الناجون من كل ما يمس الناس من مكروه، والفائزون بالنعيم المقيم لا ينقطع.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٩٠ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ١٨٢..
٣ - رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس. انظر الحامع الصغير للسيوطي جـ ٢ ص ٢٧٨..
٤ - مختار الصحاح ص ٥١٠..
والمقصود تحذير المسلمين مما آلت إليه حال الأمم السالفة في تفرقهم إلى ملل وطوائف شتى، واختلافهم فيما بينهم اختلافا متباينا بسبب ركونهم للهوى وطاعتهم للنفس الجانحة للسوء واستسلامهم للطبع الخسيس الغلاب ألا وهو الحسد. يحذر الله هذه الأمة من الشقاق والفرقة والانقسام والتمزق طمعا في مكاسب دنيوية رخيصة، أو جريا وراء هوى جامح منحدر يهبط بصاحبه إلى أحط الدركات من الإسفاف والضعة والحقار.
يحذر الله من كل ظواهر التدابر والخصام من غير يقين في ذلك ولا برهان إلا محض الثرثرة واللغط واستمراء الجدل العقيم، أو انقيادا للوثة الحسد البغيض.
قوله :( من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لأهم عذاب عظيم ) ذلك شأن أهل الكتاب فقد جاءتهم البينات وهي الآيات الواضحة التي تبين لهم الحق في غير إبهام والتي توجب الألفة والاتفاق وعدم الاختلاف، لكنهم مع ذلك تفرقوا واختلفوا. لا جرم أن عاقبة أولئك السوء وهو العذاب العظيم. فحذار أيها المسلمون أن يصيبكم ما أصابهم إذا نكصتم على أعقابكم فعصفت بكم رياح التفرق والاختلاف١.
أولئك الخاسرون المبثورون يقال لهم حينئذ :( أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) ذلك استفهام بمعنى الإنكار وفيه من التقريع والتوبيخ ما يليق بهذا الصنف الشقي من الناس، وهم الكافرون والمنافقون وغيرهم من المضلين المفسدين الذين زاغوا عن محجة الإسلام وعن طريقه السوي السليم وهم يحسبون أنهم على شيء، لكنهم ليسوا في الحقيقة غير مضللين مخادعين، أولئك عن أهل الأهواء والبدع الكافرة، كالدهرية والسبأية والغرابية والعلوية والباطنية والمجسمة والمشبهة والثنوية والحشاشين والدروز. إلى غير هؤلاء من الزنادقة وأولي الأهواء الجانحة الضاربة في أغوار الضلالة والفسق.
إن هؤلاء جميعا سيقرّعون يوم القيامة تقريعا وسوف يبوءون بالمهانة والتهكم اللاذع ما يزيدهم إيلاما وحسرة.
الأول : أنكم كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة.
الثاني : أن ذلك مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم وهم السابقون الأولون.
الثالث : أن هذه الآية عامة في جميع الأمة الإسلامية كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وهو الراجح والصواب.
وقيل : كان هنا تامة. فيكون المعنى : وجدتم وخلقتم خير أمة١.
وكيفما كان اعتبار " كان " هنا فإنه يجب الاستفادة من مدلول الآية في خيرية أمة الإسلام بما يستثير الانتباه والنظر إلى هذه الحقيقة الكبرى. وهي أن أمة القرآن خير الأمم التي أقلتها هذه الأرض، ولا يقال مثل هذه الكلام من قبيل التعصب للجنس أو العرق أو غير ذلك من مختلف المظاهر النوعية والإقليمية. ولكنها الحقيقة المبنية على الدليل والبرهان. ووجه ذلك أن أمة الإسلام قد صنعها هذا الدين المتكامل المميز الوسط، الدين الذي يتسم بكل مزايا التوازن والتوسط، فضلا عن مراعاته الكاملة لفطرة الإنسان، لا جرم أن مثل هاتيك الخصائص لا تتجلى في ديانة ولا عقيدة ولا ملة ولا فلسفة من الفلسفات أو مبدأ من مبادئ الدنيا، ليس شيء من ذلك إلا مناهض لفطرة الإنسان أو مخالف لطبيعته مهما كان مدى هذه المخالفة، لكن الإسلام وحده جُماع مزايا الصلاح كله. يضاف إلى ذلك ما نبه عنه القرآن في هذه الآية وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذان عنصران أساسيان قد تجليا في أمة الإسلام تجليا مكشوفا وعلى غير مثال ولا نظير في الملل السابقة. وفوق ذلك كله ما يتجلى في هذه الأمة من إيمان صادق وثيق، إيمان حقيقي سليم، مبرأ من كل زيف أو تضليل أو خرافة، إيمان بالله وحده لا شريك له وما يستتبعه ذلك من أسماء لله حسنى وما تقتضيه هذه من صفات الكمال لله جل وعلا.
إذا تبين ذلك أيقنا أن عقيدة الإسلام وحدها المبنية على التوحيد الكامل لله، الخالصة من كل أدران الشرك على اختلاف صوره وأشكاله، البعيدة عن كل صور الزيف والافتراء والباطل.
من هنا لزم القول إن أمة الإسلام وحدها لهي المخولة بقيادة البشرية إلى ما فيه أمنها وسلامتها وسعادتها، ذلك أن هذه الأمة قد صنعها الإسلام لتكون على خير حال من توازن الشخصية واستواء الطبع وجمال العقيدة والفكر، في غير ما خلل ولا شذوذ ولا اضطراب، وبعيدا عن كل صور الإفراط والتفريط. أمة منسجمة ملتئمة متسقة في أفكارها وتصوراتها وتطلعاتها وحضارتها، فهي وحدها معنية بحمل رسالة الإصلاح والهداية والترشيد للبشرية تخليصا لها مما يحيق بها من الأرزاء والملمات والأزمات. أمة الإسلام قائمة على الود والرحمة واليقين، وقد جيء بها لتحمل لواء الرحمة للناس جميعا، فتتبدد من وجه هذه الدنيا كل معالم الشر والفساد والباطل. ولتشعشع في الآفاق أنوار الخير والتعاون والسلام.
قوله :( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) أي لو صدق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه و سلم وما جاءهم في ذلك من عند الله، فآمنوا كإيمان المسلمين، هذا الإيمان الحقيقي الصادق الذي لا يعتوره زيف ولا تضليل ولا خلل، والذي لا يخالطه تحريف ولا تبديل ولا افتراء ( لكان خيرا لهم ) لسوف يفضي بهم هذا الإيمان الصحيح إلى الخير. إذ يصنع منهم أمة سوية رحيمة سليمة من عطب العقيدة وفساد الفكر والتصور.
ومع ذلك فقد آمن بنبي الإسلام نفر قليل من أهل الكتاب، لكن الأكثرين مهم الفاسقون، وذلك من الفسق أي الخروج، فقد خرج أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن دينهم مما في التوراة والإنجيل. وكان هذان الكتابان قد تضمنا ذكر رسالة الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه و سلم وتحريض بني إسرائيل على تصديقه والإيمان به، لكنهم أبوا وعتوا عتوا كبيرا. وما فتئ اليهود والنصارى يزدادون على مرّ الزمن كفرا بدين الإسلام وبنبيه محمد صلى الله عليه و سلم، فضلا عن حمالات الصدر والتضليل والتشويه لهذا الدين العظيم وعما يتفننون فيه من أساليب الإبادة والتدمير والتشريد للمسلمين.
جاء في سبب نزول قوله :( لن يضروكم إلا أذى ) أنه في رؤوس يهود مثل كعب والنعمان وياسر وابن صوريا وغيرهم، فقد عمد هؤلاء إلى مؤمنهم عبد الله ابن سلام وأصحابه ممن آمنوا بدعوة الإسلام فآذوهم وآذوهم بالبذيء من القول مما فيه تنكيد وتنغيض١.
يبين الله للمؤمنين في هذه الآية أنهم ماداموا صادقين مع الله، مستمسكين بعقيدة الإسلام، عاملين بشريعة الله، واقفين عند حدوده سبحانه فلن يستطع يهود إلحاق الضرر بهم إلا ما كان من أذى. والمقصود بالأذى هنا هو الطعن في الإسلام ونبيه والمسلمين وإلصاق العيوب والشبهات بدين الإسلام وفي شريعته الفضلى، مع ما يتخلل ذلك من اختلاق الأكاذيب والأباطيل والشبهات عن المسلمين في تاريخهم، وذلك بالدس والطعن والشتم والتشويه لنشر البلبلة والريبة في نفوس المسلمين وأذهانهم إن استطاعوا، فضلا عما كانوا يفترونه من باطل وهذيان كإشراكهم في عزير وتحريفهم للتوراة.
قوله :( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار لا ينصرون ) ( يقاتلوكم ) فعل الشرط مجزوم بحذف النون. ( يولوكم ) جواب الشرط مجزوم بحذف النون أيضا.
قوله :( ثم لا ينصرون ) وذلك بعد تمام الكلام فأفاد الاستئناف هنا وتقدير الكلام : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، وقيل : ثم تفيد معنى التراخي في المرتبة ؛ لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
أما تأويل قوله :( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. فنقول والله المستعان : إن ذلك ديدن يهود في الحرب، فهم ليسوا أكفاء للمسلمين في القتال : إذ لا يستطيعون الثبات أمام صولتهم ولا يملكون من طاقة على احتمال مواجهتهم في ساحات الوغى. ذلك هو الأصل الذي بينته الآية الكريمة في حسم قاطع وفي إخبار مستبين على أن المسلمين إن صدقوا مع الله واهتدوا بدينه وشرعه ولم يحيدوا عن عقيدة الإسلام ليتشبثوا بعقائد أخرى من عقائد الشرك، لا جرم أنهم هم المنصورون دائما، وأن دائرة الهزيمة والخذلان لسوف تدور على بني صهيون والصليبيين إذا وقعت واقعة الحرب وحمي وطيسها.
المعادلة في هذه المسألة مكشوفة لمن يبغي العلم، وهي أن التوكل على الله حق توكله بعد الأخذ الكامل بالأسباب والمقدمات من إعداد واستعداد كاملين، وذلك في غاية من الروية والدراية والتخطيط والحذر، على أن يكون المسلمون مستنين بسنن الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة من غير تحول في ذلك ولا انفتال ولا تفريط. فإذا كان شأن المسلمين كما ذكر لا جرم أن النصر حليفهم وأن الله لعدوهم بالمرصاد. وخلاف ذلك من تفريط في دين الله واستنادا إلى العباد من الكافرين يتسول المسلمون منهم العون والمساعدة، فضلا عن غياب الإسلام كليا عن ساحة المسلمين وواقعهم، وما يتمخض عن ذلك من استرخاء واضطراب وتردد وخور وفوضى تغشى المسلمين، فلا ينبغي للمسلمين والحالة هذه إلا أن ينتظروا الهزائم تتوالي عليهم تترا.
وإذا أصابت يهود حظا من النصر في حربها مع العرب في العصر الراهن فمرد ذلك تفرق المسلمين وانقسامهم على أنفسهم إلى أشتات ودويلات هزيلة حقيرة.
وفوق ذلك ما أصاب المسلمين من وهن ذاتي غشيهم من الداخل بعد أن اعتزلوا دينهم الإسلام وركنوا إلى ملل الكفر والكافرين واستعاضوا عن شريعة الله ومنهجه في الحياة بمظلة واهية هشة من القومية الخاوية التي لم يجرجر المسلمون من خلالها غير الفرقة والضعف والتبدد والهوان. ذلك كله كان سبيل يهود لكسب المعركة وهزيمة العرب والمسلمين في زماننا هذا.
وقوله :( وحبل من الناس ) المراد به الأمان يعطيه المسلمون لهم كالذي يكون عليه المهادن والمعاهد والأسير.
قوله :( وباءوا بغضب منه الله ) أي رجعوا به ومكثوا فيه. من البوء وهو المكان. تبوأ فلان منزلا أي نزله، وبوأ له منزلا أي هيأه له ومكن له فيه. والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه١.
قوله :( وضربت عليهم المسكنة ) أي كما يضرب البيت على أهله منهم ساكنون في المسكنة وهي الذلة والضعف. وقيل : الجزية. ومنها المسكين وهو الذليل المقهور.
قوله :( ذلك بأهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ) ( ذلك ) اسم إشارة لما ذكر وهو ما حصل لليهود من بلايا وهوان وما حاق بهم من ضرب الذلة عليهم والمسكنة، واستحقاقهم الغضب، فإن ذلك كله بسبب كفرانهم بآيات الله وهي ما أنزل من بينات ودلائل وحجج وبراهين، وكذلك قتلهم الأنبياء بغير حق، يعني ظلما واعتداء. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله في هذا الصدد : كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي.
ولئن كان ذلك علته أفاعيل يهود وجرائرهم فيما مضى من قتل الأنبياء مما اقترفه الآباء السالفون فما جريرة الأبناء المتأخرين فيما بعد ممن لم يصدر عنهم مثل هذا القتل. ؟ ويجاب عن ذلك بأن هؤلاء المتأخرين كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل المشين فعلا لآبائهم وأسلافهم ؛ إذ كانوا مصوبين لأسلافهم فيما فعلوه.
وقوله :( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) اسم الإشارة ( ذلك ) يعود على الكفر وقتل الأنبياء. أي أن علة كفرهم وقتلهم الأنبياء هو عصيانهم لله واعتداؤهم لحدوده.
فجملة القول في معنى الآية أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته وقتلوا أنبياءه. وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية٢.
٢ - الكشاف جـ ١ ص ٤٤٥ وتفسير البيضاوي ص ٨٦ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ٣٣ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ٢٠٢، ٢٠٣..
جاء في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنهما فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم، فقالت أحبار اليهود : ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم. وقالوا لهم " خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره فأنزل الله ( ليسوا سواء من أهل الكتاب ) ١ والوقف على سواء. وبذلك فإن قوله :( ليسوا سواء ) والمراد أنه لما وصف أهل الكتاب في الآية السابقة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك من حيث المذمة والسوء، بل فيهم من يتصف بالصفات الحميدة والخصال الجيدة.
إذا تبين ذلك فقد مدح الله الفئة المؤمنة من أهل الكتاب ممن آمن من اليهود برسالة الإسلام بعدة صفات هي :
أولا : أنها قائمة، أي مستقيمة عادلة. وذلك من قولك : أقمت السيف فقام أي استقام.
ثانيا : التلاوة وذلك في قوله :( يتلون آيات الله آناء الليل ) والمراد بالآيات المتلوة هنا آيات القرآن. وقيل غير ذلك.
وقوله :( آناء الليل ) الآناء بمعنى الأوقات والساعات منصوب على الحال. وواحدها : أنا، وإنْي بكسر الهمز وسكون النون.
ثالثا : السجود. وذلك في قوله :( وهم يسجدون ) في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يحتمل أن تكون الآية ( وهم يسجدون ) حالا من التلاوة كأنهم يقرأون القرآن في السجود مبالغة في الخضوع والخشوع. واستبعد بعضهم ذلك ؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود.
ثانيهما : يحتمل أن يكون ذلك كلاما مستقلا. فيكون تقدير الكلام أن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم وهم مع ذلك يسجدون فيها. فالسجود هو السجود المعروف.
رابعا : الإيمان بالله واليوم الآخر. وذلك في قوله :( يؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي يصدقون بالله وبالبعث بعد الممات ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم.
خامسا : الأمر بالمعروف والنهي عن النكر. وذبك في قوله :( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) أي أنهم يدعون الناس إلى توحيد الله وتصديق محمد صلى الله عليه و سلم وينهونهم عن الشرك بالله وعن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم. فهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف وهو تصديق محمد صلى الله عليه و سلم فيما أتاهم به من عند الله.
سادسا : المسارعة في الخيرات. وذلك في قوله :( ويسارعون في الخيرات ) أي أنهم يبتدرون فعل الخيرات خشية الفوت بالموت.
سابعا : الصلاح. وذلك في قوله :( وأولئك من الصالحين ) أي أن هؤلاء الموصوفين بما وصفوا به من مزايا الخير هم من جملة الذين صلح حالهم في ميزان الله فكانوا من الفائزين، لا جرم أن ذلك غاية في المدح والتكريم.
جاء في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنهما فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم، فقالت أحبار اليهود : ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم. وقالوا لهم " خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره فأنزل الله ( ليسوا سواء من أهل الكتاب ) ١ والوقف على سواء. وبذلك فإن قوله :( ليسوا سواء ) والمراد أنه لما وصف أهل الكتاب في الآية السابقة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك من حيث المذمة والسوء، بل فيهم من يتصف بالصفات الحميدة والخصال الجيدة.
إذا تبين ذلك فقد مدح الله الفئة المؤمنة من أهل الكتاب ممن آمن من اليهود برسالة الإسلام بعدة صفات هي :
أولا : أنها قائمة، أي مستقيمة عادلة. وذلك من قولك : أقمت السيف فقام أي استقام.
ثانيا : التلاوة وذلك في قوله :( يتلون آيات الله آناء الليل ) والمراد بالآيات المتلوة هنا آيات القرآن. وقيل غير ذلك.
وقوله :( آناء الليل ) الآناء بمعنى الأوقات والساعات منصوب على الحال. وواحدها : أنا، وإنْي بكسر الهمز وسكون النون.
ثالثا : السجود. وذلك في قوله :( وهم يسجدون ) في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يحتمل أن تكون الآية ( وهم يسجدون ) حالا من التلاوة كأنهم يقرأون القرآن في السجود مبالغة في الخضوع والخشوع. واستبعد بعضهم ذلك ؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود.
ثانيهما : يحتمل أن يكون ذلك كلاما مستقلا. فيكون تقدير الكلام أن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم وهم مع ذلك يسجدون فيها. فالسجود هو السجود المعروف.
رابعا : الإيمان بالله واليوم الآخر. وذلك في قوله :( يؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي يصدقون بالله وبالبعث بعد الممات ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم.
خامسا : الأمر بالمعروف والنهي عن النكر. وذبك في قوله :( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) أي أنهم يدعون الناس إلى توحيد الله وتصديق محمد صلى الله عليه و سلم وينهونهم عن الشرك بالله وعن إنكار نبوة محمد صلى الله عليه و سلم. فهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف وهو تصديق محمد صلى الله عليه و سلم فيما أتاهم به من عند الله.
سادسا : المسارعة في الخيرات. وذلك في قوله :( ويسارعون في الخيرات ) أي أنهم يبتدرون فعل الخيرات خشية الفوت بالموت.
سابعا : الصلاح. وذلك في قوله :( وأولئك من الصالحين ) أي أن هؤلاء الموصوفين بما وصفوا به من مزايا الخير هم من جملة الذين صلح حالهم في ميزان الله فكانوا من الفائزين، لا جرم أن ذلك غاية في المدح والتكريم.
والمقصود أن ما تعمله هذه الأمة من خير فلن يبطل الله ثواب أعمالهم ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم. ولكنه يجزل لهم الثواب ويكتب لهم الجزاء والكرامة، خلافا لما كان يهدي به أحبار يهود لما قالوا لهم : لقد كفرتم وخسرتم. أو خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره.
قوله :( والله عليم بالمتقين ) الله عليم بأهل التقوى، وهم الذين يؤمنون به في قرارة أنفسهم من غير شك في ذلك ولا فتور ويخافونه خوفا دائما. فهم بذلك يبادرون لله بالطاعة، والانزجار عن المعاصي والموبقات. والله يطمئن عباده الصالحين المخلصين بأن أعمالهم الصالحة لا يأتي عليها حبوط ولا نسيان، بل إن الله عليم بها وهو مجاز عنها في الدين والدنيا، وفي ذلك ما يسكب في قلوب المؤمنين المخلصين البهجة والشرح لما يجدونه من تكريم الله لهو وعدم التفريط فيهم، وأنهم غير مضيعين ولا مهمشين، وإن همشهم الناس وتغافلوا عنهم١.
بعد أن بين الله حال المؤمنين من أهل الكتاب وما أعده لهم من الخير وحسن الجزاء، توعد الله الآخرين الفاسقين من أهل الكتاب الذين كفروا بدعوة الإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه و سلم توعدهم بأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم في الآخرة ولن تدفع عنهم عذاب الله في هذا اليوم العصيب.
ولئن حسب الإنسان أن بماله وولده ناج من البلايا والنوائب لما يجد في ذلك من عون له على دفع ما يصيبه من مكروه، أو حسب وهو يحوطه المال والولد أنه يتفيأ ظلال الأمن والرخاء فلا يعتوره بعد ذلك هم ولا قلق، لئن كان كذلك فلا ريب أنه موغل في الوهم والغفلة، وسادر في الغي وهوان التفكير. إن ذلكم الخاسر لسوف تحيط بهم القواصم الفواقر وهو موقوف على ربه ليناقش الحساب. وإذ ذاك يغيب عنه الأعوان والأموال ويذهل عنه الصحب والخلان فلا يبرح حتى يهوي في النار مع الخالدين.
أما ما ينفقه الكافرون من أموال في وجوه الخير والإصلاح والتعمير بما ينفع الناس فلا جرم أن ذلك كله في ميزان الله باطل وحابط. ولئن كان في إنفاقهم ما يجر للناس نفعا كبناء الجسور وإصلاح الطرقات وإطعام الجياع وإغناء العالة والمحاويج فليس لذلك أيما اعتبار أو قيمة ما دام هؤلاء المنفقون سادرين في الكفر ؛ إذ لا يقبل الله من الكافرين أعمالهم، بل إنهم في زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة. وقد شبه الله إنفاقهم وأعمالهم التي أتى عليها الحبوط برزع قد عصفت به ريح شديد هو جاء فيها صرّ يصرّ صريراً أي صاح صياحا شديدا، والصرة بالفتح تعني الصيحة١. وقيل : الصر بمعنى النار الحارقة وإنما وصف بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب.
وتقدير الكلام أن إنفاق الكافرين والمنافقين لا وزن له ولا قيمة، بل إن ما أنفقوه أشبه بريح باردة أو حارقة أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفران والضلال فأهلكته إهلاكا. وتلك عاقبة المجرمين الذين لم يظلمهم الله ولكنهم ظالمون لأنفسهم بإيرادها في الكفر والحبوط وضلال الأعمال، وهذا هو مقتضى قوله تعالى :( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ).
بعد أن بين الله حال المؤمنين من أهل الكتاب وما أعده لهم من الخير وحسن الجزاء، توعد الله الآخرين الفاسقين من أهل الكتاب الذين كفروا بدعوة الإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه و سلم توعدهم بأن أموالهم وأولادهم لن تنفعهم في الآخرة ولن تدفع عنهم عذاب الله في هذا اليوم العصيب.
ولئن حسب الإنسان أن بماله وولده ناج من البلايا والنوائب لما يجد في ذلك من عون له على دفع ما يصيبه من مكروه، أو حسب وهو يحوطه المال والولد أنه يتفيأ ظلال الأمن والرخاء فلا يعتوره بعد ذلك هم ولا قلق، لئن كان كذلك فلا ريب أنه موغل في الوهم والغفلة، وسادر في الغي وهوان التفكير. إن ذلكم الخاسر لسوف تحيط بهم القواصم الفواقر وهو موقوف على ربه ليناقش الحساب. وإذ ذاك يغيب عنه الأعوان والأموال ويذهل عنه الصحب والخلان فلا يبرح حتى يهوي في النار مع الخالدين.
أما ما ينفقه الكافرون من أموال في وجوه الخير والإصلاح والتعمير بما ينفع الناس فلا جرم أن ذلك كله في ميزان الله باطل وحابط. ولئن كان في إنفاقهم ما يجر للناس نفعا كبناء الجسور وإصلاح الطرقات وإطعام الجياع وإغناء العالة والمحاويج فليس لذلك أيما اعتبار أو قيمة ما دام هؤلاء المنفقون سادرين في الكفر ؛ إذ لا يقبل الله من الكافرين أعمالهم، بل إنهم في زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة. وقد شبه الله إنفاقهم وأعمالهم التي أتى عليها الحبوط برزع قد عصفت به ريح شديد هو جاء فيها صرّ يصرّ صريراً أي صاح صياحا شديدا، والصرة بالفتح تعني الصيحة١. وقيل : الصر بمعنى النار الحارقة وإنما وصف بأنها صر لتصويتها عند الالتهاب.
وتقدير الكلام أن إنفاق الكافرين والمنافقين لا وزن له ولا قيمة، بل إن ما أنفقوه أشبه بريح باردة أو حارقة أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفران والضلال فأهلكته إهلاكا. وتلك عاقبة المجرمين الذين لم يظلمهم الله ولكنهم ظالمون لأنفسهم بإيرادها في الكفر والحبوط وضلال الأعمال، وهذا هو مقتضى قوله تعالى :( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ).
روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أنها نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والخلف والجوار والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم١.
يحذر الله عباده المؤمنين من الاغترار بالمنافقين وأهل الكتاب لما يسري على ألسنتهم من حسن الكلام الخادع المنمق فيتخذون منهم الأولياء والأصدقاء، ويطلعونهم على أسرارهم ودخائلهم، ويظهرونهم على ما خفي من أحوالهم. وذلك في الجملة.
لكن الأعتى من ذلك وأشد خطورة أن يتخذ بعض المتسلطين على رقاب المسلمين والمتحكمين فيهم من القادة والساسة والزعماء الظالمين- أن يتخذوا أصدقاء لهم أعوانا من المنافقين وأهل الكتاب من ذوي البراعة والاقتدار على اصطناع الحديث الفاتن الغرور ليوسدوهم كثيرا من مقاليد الدولة والبلاد ما بين وزراء وخبراء ومستشارين ومستأمنين وقادة عساكر. لا جرم أن هذه فادحة من فوادح الساسة الظالمين الذين يحكمون المسلمين بالحديد والنار والكفر. فادحة خطيرة تفضي بأسرار الدولة والمسلمين إلى الإفشاء والشيوع، وتمكن للأعداء من الوقوف على أسرار الدولة والبلاد. لا جرم أن ذلك مدخل للأعداء والمتربصين ينفذون منه ليكيدوا للمسلمين كيدا وليضعفهم ويدمروهم إن شاءوا. وذلك هو مقتضى قوله :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) البطانة، مصدر يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره. وأصله من البطن خلاف الظهر. ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته٢.
وقوله :( من دونكم ) أي من غيركم من أهل الأديان والمنافقين الذين لا يؤتمنون على أسراركم وأستاركم مخافة أن يفشوها للأعداء والمتربصين، وفي الحديث عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت لهم بطانتان، بطانة تأمر بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه. والمعصوم من عصمه الله " ٣.
وعن ابن أبي الدهقانة قال : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا، فقال : قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المشركين لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم مخافة إفشائها إلى الأعداء والمتربصين، وكذا المنافقون الذي سجيتهم الخداع والخيانة والذين مردوا على التدسس وإخفاء الحقد ليكيدوا للإسلام والمسلمين كيدا.
قوله :( لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم ) يألونكم، فعله : ألا يألو. أي قصر يقصر. لا آلو جهدا بمعنى لا اقصر. والخبال معناه الفساد، ومنه الخبل بسكون الباء وهو فساد الأعضاء. والخبل بالفتح معناه الجن. اختبله أي أفسد عقله أو عضوه. فالمراد من قوله :( لا يألونكم خبالا ) أن هذه البطانة من المشركين والمنافقين لا يقصرون فيما فيه إفسادكم. وجملة ( لا يألونكم ) في محل نصب صفة لبطانة.
قوله :( ودوا ماعنتم ) من العنت وهو المشقة، وما مصدرية، فيكون المعنى : ودوا عنتكم، أي ما يضركم ويشق عليكم.
قوله :( قد بدت البغضاء من أفواههم ) البغضاء : العداوة وأشد البغض والمقصود أن هؤلاء المتدسسين الماكرين الذين اتخذتموهم لكم خاصة وأعوانا، يضمرون لكم بالغ الكراهية والحقد. وهم مهما تكلفوا في اصطناع المجاملة وحسن الحديث، فإن مكنون قلوبهم من الغيظ والخنق يتبدى على قسمات وجوههم وفلتات لسانهم مما يندلق من أفواههم من عبارات لئيمة تفيض بالبغضاء وفساد الضمير. ومع ذلك فإن ما يستكن في أغوار قلوبهم من شدة الغيظ والكراهية لهو أشد وأعظم مما يتفلت من أشداقهم بين الحين والآخر من كلمات مشحونة بالمكر والسوء والحسد ؛ ولذلك قال سبحانه :( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر ).
وقوله :( قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) يعني قد بينا لكم من أمر هؤلاء المشركين المخادعين ما تعتبرون به وتتعظون إن كنتم تفهمون مثل هذه العبر والمواعظ وتتدبرونها وتأخذون بها ؛ لما فيها من تنبيه لكم وترشيد.
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٠٤ وتفسير الرازي جـ ٨ ص ٢١٥..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٩٨..
ذلك تنبيه مؤثر، لمن كان له قلب يعي أو عقل يتدبر من المسلمين. تنبيه يثير النفس ويدير الرأس، قمين بالتدبر والاهتمام مليا، فها أنتم أيها المسلمون تحبون هؤلاء الكفرة والمنافقين ؛ لما بينكم من علائق المصاهرة والرضاع أو الجوار ونحو ذلك. أو لما يظهره لكم هؤلاء من رقة الخطاب والتعامل، وحسن الكلام المنمق المصنوع لتحسبوا بذلك أن هؤلاء قلوبهم، معكم وأنهم قريبون من ملة الإسلام، لكنهم في الحقيقة كما ذكر الله عنهم ( ولا يحبونكم ) لأنكم مسلمون ؛ ولأن الكفر مستقر ومركوز في سويداء قلوبهم فهم على الدوام تهفو قلوبهم ومشاعرهم لرؤية أعلام الصهيونية والصليبية، والنفاق ظاهرة مستعلية مع ما يخفونه في أعماقهم من تمنيات بهزيمتكم وزوال دولتكم لتكون لهم الإدالة والغلبة عليكم.
قوله :( وتؤمنون بالكتاب كله ) الكتاب اسم جنس أي للكتب، والمراد الكتب السماوية المنزلة على النبيين، وتقدير الكلام أنكم أيها المسلمون تؤمنون بكل الكتب السماوية سواء في ذلك التوراة والإنجيل، فضلا عن إيمانكم بالكتاب الحكيم، القرآن.
من غير شك من ذلك ولو بمثقال ذرة، لكن يهود والنصارى لا يؤمنون بالقرآن، بل لا يؤمنون بجميع كتبهم، وإنما يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وهم في ذلك أتباع هوى فاضح ومزاج مضطرب مريض.
قوله :( وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) يبين الله حال هؤلاء المخادعين الماكرين من أهل الكتاب والمنافقين وأهل الأهواء الذين يتخذهم المسلمون بطانة لهم وأعوانا ؛ فإنهم إذا لقوا المسلمين لدى التعامل معهم والخطاب تظاهروا أمامهم أنهم يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم، لكنهم إذا خلا بعضهم إلى بعض وكانوا في معزل عن المسلمين تكاشفوا فيما بينهم من إظهار العداوة للإسلام، وباحوا في صراحة بأسرارهم المخبوءة مما تنثني عليه صدورهم من حقد كثيف بالغ، وبغض لئيم مستكين للمسلمين. ويكشف عن هذه الحقيقة العبارة القرآنية الوجيزة العجيبة ( وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) والأنامل أطراف الأصابع. والعض لغة الإمساك بالأسنان، وهو كناية عن شدة الخنق والضغن، وذلك لما رآه هؤلاء الأنجاس الماكرون من تماسك المسلمين واجتماع كلمتهم وتشبثهم بعقيدة الإسلام والتفافهم حول منهج الله القويم، لا جرم أن ذلك يثير في نفوس الضالين من أهل الكتاب والمنافقين وذوي الأهواء وذوي الكراهية والحقد، ويحرضهم على التربص والتخطيط والتآمر على الإسلام والمسلمين.
قوله :( قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ) خرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود منه الدعاء عليهم من الرسول صلى الله عليه و سلم أن يهلكهم الله كمدا، لفرط ما يركم في نفوسهم من الغيظ على المسلمين. وذلك إيذان بقوة الإسلام وعلو سلطانه، فالمراد من الدعاء عليهم بزيادة غيظهم هو التضرع إلى الله بازدياد قوة الإسلام وعلو شأنه مما فيه إغاظة للكافرين المنافقين الذين لا تخفى على الله حالهم، وذلك مقتضى قوله تعالى :( إن الله عليم بذات الصدور ) ذلك تهديد لهؤلاء الحاقدين المتربصين الذين يعلمهم الله ويعلم ما تكنه صدورهم من الغل والبغضاء والاغتمام والكمد.
قوله :( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) يعني إن تصبروا على طاعة الله وعن معصيته فتجتنبوا نواهيه ولا تتخذوا لكم بطانة من الكافرين والمنافقين فسوف لا يضركم كيدهم شيئا. والمراد بالكيد المكر والخبث وما يبتغيه لكم هؤلاء من غوائل ومفاسد وشرور. و ( شيئا ) نائب مفعول مطلق محذوف.
قوله :( إن الله بما يعملون محيط ) ذلك من مجاز الله. والمقصود بالإحاطة أنه عالم بما يعمله هؤلاء الكافرين في المسلمين من فساد وصد عن سبيل الله، وهو تعالى حافظ لكل ما يجري من قول أو فعل ولا يعزب عنه شيء من ذلك١. وفي ذلك من إيقاظ للحس والخيال، وتنشيط للذهن والقلب ما يجعل المرء دائب الوعي والتبصر والرهافة، ذلكم الإنسان البصير الذي يعي حقيقة الإحاطة الربانية لكل ما حواه الوجود من شيء وموجود.
نزلت هذه الآية في غزوة أحد وهو قول الجمهور من العلماء. فكان المشركون قد قصدوا المدينة في ثلاث آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عن أحد على شفير الوادي مقابل المدينة. وكان ذلك في الأربعاء في الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة. وقد رأى النبي صلى الله عليه و سلم في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة. فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون وأن رجلا من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة المدينة.
قوله :( وإذ غدوت من أهلك ) يعني واذكر إذ خرجت في الصباح من منزلك من عند عائشة ( تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) أي تنزلهم وتهيء لهم. بوأته منزلا وبوأت له منزلا أي أنزلته فيه، وتبوأ منزلا أي نزله، والمباءة والباءة بمعنى التنازل، والجملة الفعلية ( تبوئ المؤمنين ) في محل نصب على الحال. والمعنى : اذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال، أي أماكن يقعدون فيها.
قوله :( والله سميع عليم ) أي أن الله سميع لما قاله المؤمنون للرسول صلى الله عليه و سلم فيما شاورهم فيه من موضع لقاء العدو، فمن قائل : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة، ومن قائل له : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ومما يشير عليهم الرسول صلى الله عليه و سلم بأصلح الآراء وغير ذلك من أمرك وأمورهم.
قوله :( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) الله جل جلاله يدعو عباده المؤمنين أن لا يركنوا إلا إلى جنابه العظيم، وأن يعتمدوا عليه في كل الملمات والأهوال، فهم لا يدهمهم داهم عصيب، ولا تقرعهم نائبة من النوائب إلا توجهوا بقلوبهم إلى الله وحده، فهو وليهم وحافظهم ومثبتهم. وهو الذي يبدد عدوهم ويثير في نفسه الهلع والذعر ليبوء بالهزيمة والفشل، فلا ينبغي للمؤمنين بعد هذا النداء الرباني المجلجل أن يركنوا للبشر كما يركن كثير من المغفلين الفاشلين الذين يذهلون عن الله ذي الملكوت، ليعولوا في أهوائهم وفي وجدانهم على الخلائق من الساسة والطغاة والمتجبرين، حتى إذا سقطوا في عار الهزيمة وذاقوا وبال أمرهم من الانهيار والتداعي عرفوا أنهم ضلوا الطريق والتفكير.
قوله :( وأنتم أذلة ) جملة اسمية في محل نصب على الحال. وإنما كانوا أذلة ؛ لقلة عددهم إذ كانوا ثلاثمائة، وكان عدوهم يبلغ الألف. يضاف إلى ذلك ضعف الحال وقلة المال والسلاح، وفي مقابلة ذلك كان المشركون مدججين بالسلاح ومزودين بكل زاد من زاد الدنيا.
قوله :( فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) يعني اتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه ونواهيه، ليكون ذلك منكم شكرا له سبحانه على ما امتن به عليكم من النصر على عدوكم وإظهار دينكم وإعلان شأن الإسلام وعزه مع أنكم كنتم ضعفة تقاتلون عدوا قويا متمكنا متربصا. لا جرم أن ذلك فضل من الله ومنة، يستوجبان منكم الشكران بالطاعة والانزجار عن المعاصي.
اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر أو يوم أحد. فإن كان ذلك في يوم بدر كان التقدير : إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين. وإذا كان في يوم أحدٍ كان ذلك بدلا ثانيا من قوله :( وإذ غدوت ) ١ على أن أكثر المفسرين على أن هذا الوعد كان يوم بدر، ويستدل على ذلك بأن قلة عدد المسلمين وعتادهم كانت أكثر يوم بدر، فكان الاحتياج إلى تقوية القلب في ذلك اليوم أكثر وذلك بإمدادهم بالملائكة فكان صرف هذا الكلام إلى يوم بدر أولى. وقد كان نزول الملائكة على المسلمين في بدر سببا من أسباب النصر. ومما لا شك فيه أن هذا السبب وغيره من الأسباب لا يحتاج إليه الرب عز وعلا وإنما يحتاج إليه المخلوق إذا أحاط به الأعداء من كل جانب وأحدقت به المكائد والمؤامرات والخيانات وطوقته المخاطر والأهوال تطويقا، لا جرم إذ ذاك أن يجد المرء في نفسه موجدة من الكرب والاضطراب والذعر. وأصل ذلك أن الإنسان خلق ضعيفا، فهو لضعفه دائم الحاجة المدد من الله يفيض عليه بالعون النفسي والمادي. من أجل ذلك أنزل الله ملائكته ليبادروا القتال مع المسلمين أو ليزيدوا من سوادهم فيثيروا في نفوسهم الأمن والرضى والبشرى فتزداد فيهم رباطة الجأش والقدرة على الثبات والاصطبار.
قوله :( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) الهمزة للاستفهام الإنكاري، وذلك إنكار من الله أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة، وقد جيء بلن لتأكيد النفي ؛ وذلك للإشعار بأن المسلمين كانوا لقتلهم وضعفهم وكثرة عدوهم وقوة شوكته كالمستيئسين من النصر. وقوله :( منزلين ) أي منزلين النصر. والنصر هنا مفعول به لاسم الفاعل منزلين.
قوله :( ويأتونكم من فورهم هذا ) يعني والمشركون يأتونكم من فورهم هذا أي من ساعتهم هذه وعندئذ ( يمددكم ) ربكم بالملائكة في حال إتيان المشركين وإمداده سيكون بأكثر من الثلاثة آلاف بل هو خمسة آلاف.
وقوله :( مسوّمين ) صفة للملائكة، أي معلمين أنفسهم وخيلهم بعلامات هي موضع خلاف من حيث نوعها ولونها.
قوله :( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) ذلك قرار رباني ثابت لا يتخلف بعد ما ذكر من أن تقدير المدد من الله للمسلمين كان تطمينا لقلوبهم بما ينسجم مع طبيعة الإنسان المفطور على الضعف. وذلك هو شأن الإنسان ودأبه في رجاء العون والمدد المشهور تثبيتا لقلبه وأعصابه فلا تهون أو تتزعزع.
وبالرغم من ذلك كله فإن الحقيقة الماثلة الكبرى في هذا الصدد، والقيمنة بالاعتبار والوعي والتي ينبغي أن تظل راسخة في الأذهان والقلوب هي أن النصر إنما يكتبه الله لمن يشاء من عباده. فهو سبحانه الناصر القاهر، وهو المعز المذل وهو الذي لا سند عن ملكوته وإحاطته وعلمه شيء. لا جرم أن الله ينصر جنده المؤمنين الأبرار إذا ما اتقوه وأطاعوه ثم توكلوا عليه حق التوكل مع ما يرافق ذلك كله من اتخاذ الأسباب المستطاعة. فإذا ما استتم الحال بالمسلمين على هذا المنوال من التقى والطاعة وتمام التوكل وحسن الإعداد فإنه الله ناصرهم. فهو جل وعلا مصدر النصر وهو الذي يقهر المشركين والمجرمين والظالمين مهما أخذ بهم الاغترار بقوة السلاح وكثرة الحشود من العساكر. وذلك مقتضى قوله س [ حانه :( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) أي أن النصر إنما يصدر من الله وحده وهو سبحانه العزيز الذي لا يقهر ولا يغالب، وهو الحكيم الذي ينصر ويخذل بمقتضى حكمه وعلمه.
قوله :( أو يكبتهم ) الكبت في اللغة معناه الإذلال والإهانة والإخزاء والصرف والغيظ، يكتبه أي صرعه على وجهه١. والمراد إذلالهم وإغاظتهم بالهزيمة ليرجعوا وهم يكابدون الخيبة وهي الحرمان. خاب خيبة إذا لم ينل ما طلب وذلك بعد طول الأمل والتوقع ؛ لذلك قال :( فينقلبوا خائبين ).
وروي أيضا عن سالم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " اللهم العن فلانا وفلانا، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، الله العن صفوان بن أمية " فنزلت هذه الآية ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) فتيب عليهم كلهم١.
قوله :( أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) كلا الفعلين يتوب ويعذب منصوب لكون كل واحد معطوفا على ( ليقطع ) والتقدير : ليقطع طرفا منهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. وقيل :( أو ) هنا بمعنى حتى، فيكون المعنى : حتى يتوب عليهم وحتى يعذبهم. فالفعل منصوب بأن المضمرة بكعد حتى.
وقيل :( أو ) بمعنى إلا أن. فتقدير المعنى : إلا أن يتوب عليهم وإلا أن يعذبهم٢ ومعنى الآية أنه يخاطب نبيه صلى الله عليه و سلم مبينا له أنه عبد مأمور ينر الناس ويبلغهم دعوة الحق وليس له بعد ذلك من مصير الناس أو مردهم شيء، بل إن ذلك كله لله، فهو سبحانه مالك أمر الناس جميعا، يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا أو أن يعذبهم، فإن عذبهم فإنما يعذبهم ؛ لأنهم ظالمون يستحقون التعذيب.
ومما يستقاد في هذا الصدد أن الله نهى نبيه صلى الله عليه و سلم عن لعن القوم أو الدعاء عليهم بالهلاك إشفاء لغليل أو إذهابا لغيظ تراكم من فرط ما فعله المشركون من فضائع الكيد والعدوان على الإسلام والمسلمين، لكن القلب المؤمن الكبير المتميز الموصول بالله والذي لا يضاهيه قلب في القلوب جميعا، ما كان ينبغي أن يكون كبقية القلوب لدى الأناسي في ذلك الزمان ولا في غيره من الأزمان. ولكن هذا القلب الذي يفيض بالإيمان وبالغ التقوى لا جرم أن يكون قمينا بالتسامي في الدرجات المعالي من التسامح والرحمة والبر بالخليقة. فهو أجدر أن يستنكف عن لعن القوم أو الدعاء عليهم بالاستئصال والإبادة. ولئن احتمل وغفر وصابر وعفا لسوف يجد في مقبل الأيام أن هؤلاء الأشرار الظلمة قد انقلبوا مؤمنين خيارا بعد أن فاءا إلى الصواب والرشد فباتوا من أشد الغيورين على دعوة الله.
٢ - تفسير الرازي جـ ٨ ص ٢٣٩ والكشاف جـ ١ ص٤٦٢..
والمقصود من هذه الآية التأكيد على ما ذكر مما اقتضاه قوله سبحانه :( ليس لك من الآمر شيء أو يتوب عليهم ) فالأمر في ذلك كله لله، سواء في ذلك التوبة والغفران أو الحساب أو العقاب أو المخلوقات والكائنات والأشياء جميعا. وإنما ذلك من عداد الملكوت الكبير مما هو منوط بإرادة الله ومشيئته. على أن رحمة الله بالعباد بالغة السعة. لا جرم أن رحمة الله تفيض على الحياة والكائنات جميعا بما ينعكس على الوجود كله بالخير والبركة والنور المشعش، ومن جملة ذلك أن الله جل جلاله غفار للخطايا والذنوب والآثام مهما كثرت أو تراكمت. فقال سبحانه في الآية :( والله غفور رحيم ).
قال الرازي في هذا الصدد : كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال : زد في المال حتى أزيد في الأجل. فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافا فهذا هو المراد من قوله :( أضعافا مضاعفة ). و ( أضعافا ) منصوب على الحال. و ( مضاعفة ) نعته.
قوله :( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) يأمر الله المؤمنين أن يخافوه فيجتنبوا أكل الربا. فإنما يجتنب أكل الربا من دخل في زمرة الفالحين وهم الفائزون الناجون.
على أن الربا واحد من أكبر الكبائر وهو لفظاعته وبشاعته قد خُص من بين سائر المعاصي بشديد الإنكار والتغليظ. فهو الذين أذن الله فيه بالحرب في قوله :( فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله ).
وفي التشديد على بشاعة الربا ونكره روى ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه " ١.
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ". وقال : " هم سواء " ٢.
٢ - نفسه..
طاعة الله بالامتثال لفرائضه. وطاعة الرسول بالاستجابة لما جاء في السنن. وذلك مقتضى قوله :( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) وذلك وعد من الله لعباده بأن رحمته تغشاهم إذا ما أطاعوه وأطاعوا رسوله.
قوله :( وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) ندب الله عباده إلى المسارعة في فعل الخيرات وتقديم الطاعات لتحصيل المغفرة من الله وللفوز بالجنة الواسعة المديدة، الجنة الوارفة الدائمة بكل ما فيها من آلاء وخيرات ومباهج، وبكل ما يتمناه المرء من نعيم وبهجة واستمتاع مما ليس له في تصور الإنسان نظير ولا نديد، لا جرم أن الجنة التي وعد الله عباده المتقين لا يدركه بال قاصر ولا يتصوره ذهن محدود من أذهان البشر، فهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، ومن روائه ما قدره في الوجود تقديرا.
ولا يكشف للحس البشري أو تصوره عن روعة الجنة ومبلغها من الجمال والكمال غير آيات الكتاب الحكيم في ألفاظه الباهرة الفذة من مثل قوله سبحانه :( وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ).
ومع ذلك كل هذا المدى من روعة الكلم الذي حواه القرآن عن وصف الجنة بأسلوبه الخارق الساحر، لا تتردد بعض العقول القميئة في إفراز ما يندلق من سخائم النقد المتهافت مما يدينها بالإفلاس وعقم التفكير. ومن جملة ذلك قول بعضهم : إذا كانت الجنة عرضها مثل عرض السماوات والأرض فأين النار ؟
فقد روى الإمام أحمد في مسنده أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم : " إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟
وذكر أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار ؟ فقال لهم عمر : أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل، وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا : لقد نزعت مثلها من التوراة.
وروي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : أرأيت قوله تعالى :( جنة عرضها السماوات والأرض ) فأين النار ؟ قال : " أرأيت الليل إذا جاء ليس كل شيء فأين النهار " قال : حيث شاء الله. قال : " وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل " ١ قال ابن كثير في تبيين ذلك : وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزمه من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه. وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل.
الثاني : أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى معليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل :( كعرض السماوات والأرض ) والنار في أسفل سافلين. فلا تنتفي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار والله أعلم٢.
قال الإمام الرازي في بيان ذلك : والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم، والليل في ضد ذلك الجانب. فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل٣.
وينبغي التذكير بحقيقة معقولة وهي أن رحابة الوجود أو اتساعه لا يتحدد مداه بسعة السموات والأرض، فإن ما خلقه الله من وجود هائل ممتد لهو أكبر من حجم السماوات والأرض. وليس حجمهما إلا الجزء اليسير من حجم الوجود الكبير الذي تنطوي في خلاله الأشياء والخلائق جميعا ومنها السماوات والأرض.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٠٤.
٣ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ٦..
الصفة الأولى : الإنفاق في السراء والضراء، أي في اليسر والعسر. وقيل : الرخاء والشدة، وقيل : الصحة والسقم. والظاهر ما جملته الغنى والفقر. فهم ينفقون من أموالهم في كل حال من أحوال الغنى والفقر أو الشدة والسعة.
الصفة الثانية : كظم الغيظ، أي رده في الجوف. يقال : كظم غيظه إذا اجترعه أو سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل١ والغيظ هو أصل الغضب. وكاظم الغيظ الذي إذا ثار به الغضب كتمه ولم يعمل به. وذلك من أقسام الصبر والحلم وترفع النفس عن الانزلاق إلى مساءات الغضب.
وفي إطراء الكاظمين الغيظ وامتداحهم روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ".
وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما تعدون الصّرعة فيكم " قلنا : الذي لا تصرعه الرجال، قال : " لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ".
وروى الإمام كذلك عن رجل شهد النبي صلى الله عليه و سلم يخطب فقال : " أتدرون من الصعلوك ؟ " قالوا : الذي ليس له مال. فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم شيئا " ثم قال : " ما الصُّرعة ؟ " قالوا : الصريع الذي لا تصرعه الرجال فقال صلى الله عليه و سلم : " الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه ".
الصفة الثالثة : العفو عن الناس. والعفو معناه المحو والصفح وترك العقوبة٢ وذلك مقتضى قوله :( والعافين عن الناس ) والمراد بالناس العموم في ظاهر الآية سواء فيهم الضعفاء والأقوياء، الأغنياء والفقراء. والمطلوب الصفح عن كل أحد في كل المساءات والمظالم مادام العافي مقتدرا على الانتصار لنفسه وأخذ حقه من المسيء. والأصل في ذلك أن العفو في ذاته شيمة رفيعة من شيم الأبرار المتقين.
وهو درجة مثلى من مقامات الإحسان الذي يستحق الإطراء والثناء ؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى :( والله يحب المحسنين ).
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٦٦..
وهؤلاء صنف دون الصنف الأول ألحقوا بهم وهم التوابون، والفاحشة وصف لموصوف محذوف، وتقدير ذلك : فعله فاحشة، وهي تطلق على كل معصية. وقد كثر اختصاصها بالزنا.
قوله :( أو ظلموا أنفسهم ) أي أذنبوا أي ذنب كان. وقيل : ظلم النفس فعل الصغيرة بخلاف الفاحشة فهي الكبيرة. وقيل : الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما.
قوله :( اذكروا الله ) وذلك بمختلف وجوه الذكرى. ومن جملة ذلك الحياء من الله والخوف منه، ومنه أن يتفكر المذنب في نفسه ما الله سائله عن ذنبه يوم العرض ويوم الحساب، ومنه تصور المذنب أن الله ناظره ورقيبه فيما فعل.
قوله :( فاستغفروا لذنوبهم ) أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار والندامة، ومن أعظم صور الاستغفار الذي تنمحي به الذنوب والخطايا مهما كثرت ما رواه البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعود بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " ٢.
قوله :( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) هذه جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه. فالمعطوف ( ولم يصروا ) والمعطوف عليه ( فاستغفروا لذنوبهم ).
والاستفهام هنا للنفي، والمراد أنه لا أحد يغفر الذنوب سوى الله، فهو سبحانه بواسع رحمته وفضله يغفر الذنوب جميعا.
قوله :( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه. واختلفوا في تأويله هنا. فقيل : يراد به الثبوت على المعاصي وقيل : السكوت على الذنب وترك الاستغفار، وقيل : الإصرار أن ينوي أن لا يتوب فإذا تاب التوبة النصوح خرج عن الإصرار. وفي الخبر " لا توبة مع إصرار ".
وفي جملة المقصود من الإصرار على الفعل يقول ابن كثير رحمه الله في تأويل قوله :( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها. ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه. وأورد في ذلك عن أبي يعلى في مسنده عن أبي بكر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ٣.
وقوله :( وهم يعلمون ) في محل نصب على الحال من فعل الإصرار، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها وبالوعيد عليها٤.
٢ - بلوغ المرام لابن حجر ص ٣٨٤..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٠٧..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٠٦-٤٠٨ والكشاف جـ ١ ص ٤٦٣-٤٦٤ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٨١ -٣٨٢..
فهؤلاء ( جزاؤهم ) أي ثوابهم الذي أعطاهم الله إياه يتجلى في أمرين : أحدهما الأمن من العقاب. وذلك في غفران الله وعفوه عن نوبهم.
ثانيهما : إيصال الثواب. وذلك فيما أعده الله لهؤلاء من جنات. وهي البساتين تجري خلال أشجارها الأنهار. إلى غير ذلك من وجوه الخيرات والثمرات واللذات فضلا عن رضوان الله يغشى أهل الجنة ليذيقهم به كمال البهجة والحبور.
ويكتمل هذا النعيم الرخي الوارف بخير ما تكتمل به النعائم واللذات وذلك بديمومة الحال وبقائه. وذلكم الخلود الذي قال الله فيه :( خالدين فيها ونعم أجر العالمين ).
أما البيان فمعناه الشرح والتفسير أو ما يدل على إزالة الشبهة. والهدى معناه الدلالة على سبيل الحق ومنهج الله. والموعظة هي التذكير بالصواب والرشاد وذلك عن طريق الكلام الذي يفيد الزجر عما هو محظور.
قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بين الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس بعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر " فأنزل الله تعالى هذه الآيات. وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم. فذلك قوله :( وأنتم الأعلون ).
وقوله :( إن يمسسكم قرح ) جاء في سبب نزولها أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم١ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أهكذا يفعل برسولك ؟ " فأنزل الله :( إن يمسسكم قرح ).
وقوله :( وما محمد إلا رسول ) جاء في سبب نزولها أنه لما كان يوم أحد انهزم الناس، فقال بعض الناس : قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم، فإنما هو إخوانكم. وقال بعضهم : إن كان محمد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليكم نبيكم حتى تلحقوا به فأنزل الله تعالى في ذلك ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) ٢.
بعد ذلك نقول : إن الله تعالى يعزي المؤمنين ويسرّي عنهم بما يكفكف عنهم نائبة الحزن والاغتمام فيقول :( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) أي لا تضعفوا ولا يمسنكم الخور أو العجز والفشل، ولا يقعدنكم الحزن عن جهاد أعدائكم ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) وهذه بشارة لهم بالعلو والغلبة. أي وأنتم الأعلون في العاقبة أي الغالبون، ( إن كنتم مؤمنين ) : أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري. ص ٨٢، ٨٣.
قوله :( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( تلك ) في محل رفع مبتدأ. ( الأيام ) صفته. ( نداولها ) جملة فعلية في محل رفع خبر المبتدأ. ويجوز أن تكون تلك مبتدأ، والأيام خبرا.
والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة. ( نداولها ) : من المداولة، وهي نقل الشيء من واحد إلى آخر. يقال : تداولته الأيدي إذا تناقلته. ومنه قوله تعالى :( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيبا. ويقال : الدنيا دول، تنتقل من قوم إلى آخرين ثم عنهم إلى غيرهم. ويقال : دال له الدهر بكذا إذا انتقل إليه. والمعنى أن أيام الدنيا دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك٢.
والمقصود بالآية : أننا نصرف الأيام بين الناس، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء. ومن أمثال العرب في هذا الصدد : الحرب سجال. وعن أبي سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان : يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال٣.
إن ما حصل للمسلمين في أحد جدير بالتدبر الوقوف مليا كيما يستفيد المسلمون كثيرا من العبر والدروس بما يقيم لهم معالم تنير لهم الطريق، وتكشف عن كثير من مواطن الضعف التي تتعثر بها إرادات الناس وهممهم في ساعات الهول والشدة. لا جرم أن انهزام المسلمين في أحد وما آل إليه ذلك من قروح أو أحزان ما فتئت الأقلام ترويه وتتحدث عنه كلما قرعت أسماعنا الذكرى وذلك لفداحة الصورة ومرارة القرح، لكن ذلك كله قد تمخض عن دروس وعبر كانت في أهميتها وعظيم اعتبارها فوق ما خلفته هذه الحرب من خسارة مشهودة في الأرواح واضطرب العزائم، وما حصل للمسلمين في ذلك اليوم أجدر أن ينشر في نفوسهم الثقة واليقين بقدر الله الذي لا يتخلف والذي لا يصدر عن عشوائية بل عن حكمة بالغة قد نعلمها وقد لا نعلمها إلا بعد طول تبصر وإدكار.
لقد تناولت الآيات هنا جملة من المعاني والحكم المقدورة في علم الله والتي تكمن فيما أصاب المسلمين في أحد مما نعرض لذكره هنا في هذا التفصيل وذلك في الحقائق التالية :
الحقيقة الأولى : تمييز الثابتين على الحق، وذلك مستفاد من قوله تعالى :( وليعلم الله الذين آمنوا ) وهو معطوف على علة محذوفة، وتقدير الكلام هنا : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت، وليعلم الله الذين آمنوا، وإنما حذف المعطوف عليه للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة لسليهم عما جرى، وليعفرهم أن ما حصل لهم في هذه الواقعة فيه من المصالح ما لو عرفوه لسرهم.
لكن الإشكال في ظاهر قوله :( وليعلم ) وظاهر ذلك يشي باكتساب العلم في حقه سبحانه. ومثل هذا الفهم باطل، والصحيح ما قاله المتكلمون في هذا الصدد، وهو أن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العلم محال، إلا أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم، والقدرة على المقدور مجاز مشهور. يقال : هذا علم فلان والمراد معلومه. وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره، فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم. إذا عرفت هذا فنقول : في هذه الآية وجوه :
أحدها : ليظهر الإخلاص من النفاق، والمؤمن من الكافر، والثاني : ليعلم أولياء الله، فأضاف إلى نفسه تفخيما٤.
الحقيقة الثانية : اتخاذ الشهداء. وهو مقتضى قوله تعالى :( ويتخذ منكم شهداء ) أي يكرمكم بالشهادة، وهذه درجة عالية وكريمة وبالغة في الرفعة والسمو يكتبها الله لفريق من الأبرار المجاهدين الذين يقتلون بسلاح العدو في معركة النضال والشرف وهم يذودون عن دين الله ويدرأون عن الإسلام والمسلمين كيد الأشرار والأعادي. أولئك هم الأعلون الذين بوأهم الله ذروة التكريم في الجنة.
والشهداء، جمع ومفرده شهيد. وهو القتيل في سبيل الله. وفي تعليل هذه الاسم عدة وجوه : منها : أن ملائكة الرحمة تشهد مقتله.
ومنها : أن الله وملائكته يشهدون له بالجنة.
ومنها : أنه يوم القيامة يشهد على الأمم السابقة مع النبيين والصديقين.
ومنها : سقوطه على الشاهدة وهي الأرض وذلك عقيب إصابته بما يقتل.
ومنها : سمي شهيدا بمعنى حاضر فهو حي عند ربه لم يمت، وبذلك فإن أرواح الشهداء حية وقد حضرت دار السلام أما رواح غيرهم فلا تشهدها٥.
ثم قال بعد ذلك :( والله لا يحب الظالمين ) أي المشركين، وهذه الجملة اعتراض بين بعض التعليل وبعض. وتأويل ذلك أن الله لا يحب المشركين. وهم إن أنالهم الله من المؤمنين فإن ذلك لما فيه من حكم وفوائد. وإنما يحب الله عباده المؤمنين.
٢ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ١٦.
٣ - الكشاف جـ ١ ص ٤٦٦..
٤ - التفسير الكبير للرازي جـ ٩ ص ١٦، ١٧..
٥ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٣١٦ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢١٨..
الحقيقة الرابعة : محق الكافرين. يعني استئصالهم بالهلاك. وهو مقتضى قوله تعالى :( ويمحق الكافرين ) من المحق والتمحيق وهو في اللغة الإبطال والمحو١ وتأويل قوله :( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين، وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم. فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين ؛ لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم. وهذا من قول الزجاج٢.
٢ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ١٩ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٨٥ والكشاف جـ ١ ص ٤٦٦..
( أم حسبتم )، كلام مستأنف. وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها للإنكار، أي بل حسبتم. وجملة ( ولما يعلم ) في محل نصب على الحال. ولما بمعنى لطم إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. ويعلم مجزوم بلما وكسرت فيها الميم لالتقاء الساكنين ( ويعلم الصابرين ) يعلم منصوب بإضمار أن. وقيل : الواو بمعنى حي، أي حتى يعلم الصابرين١.
والمعنى المراد من الآية : أتحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة منكم وصبر. فإنه من البعيد أن تصلوا إلى السعادة والفوز برضى الله والجنة من غير مجاهدة وتضحية وصبر.
ذلك ضرب من العتاب الرقيق يخاطب به الله المؤمنين أولي أحد. أولئك الذين حملوا النبي صلى الله عليه و سلم على القتال وألحوا عليه بالخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة. وقد كانوا يتسوقون لملاقاتهم في وقعة ثانية كوقعة بدر، خصوصا أولئك الذين فاتهم شرف الجهاد في بدر. لقد تمنى هؤلاء القتال والشهادة في سبيل الله من قبل، فلما كان يوم أحد انهزموا ولم يثبت منهم إلا نفر قليل من الخيار الأشاوش من الصحابة مثل أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه لما انكشف المسلمون قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. وباشر القتال وقال : إيْهاً إنها ريح الجنة ! إني لأجدها. ومضى حتى استشهد. قال أنس : فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بضعا وثمانين جراحة. وفيه في أمثاله نزل قوله تعالى :( رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه ).
قوله :( وأنتم تنظرون ) الواو واو الحال، والجملة بعدها في محل نصب حال لرؤية القتال، أي رأيتم القتال أو ما هو سبب للموت ( وأنتم تنظرون ) تكرير بمعنى التأكيد.
قال ابن عباس وآخرون في سبب نزول هذه الآية : لما نزل النبي صلى الله عليه و سلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل، وأن لا ينتقلوا عن سواء كان الأمر لهم أو عليهم.
فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، وشد الزبير والمقداد على المشركين، وحمل النبي ومعه الصحابة فهزموا أبا سفيان. ولما رأى بعض المسلمين انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسلمين، ورمى عبد الله بن قميئة فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد قتلت محمدا. وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قتل، وكان الصارخ هو الشيطان. ففشا في الناس خبر القتل، وحينئذ تعثر المسلمون واضطرب حالهم، فقال بعضهم : ليت عبد الله بن أبي بن سلول يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال : إن كان قد قتل فقد بلّغ، قاتلوا على دينكم. ولما شج ابن قميئة وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكسر رباعيته، احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم١.
قوله :( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) الآية. ( ما ) نافية. ( محمد ) مبتدأ، ( رسول ) خبره. يبين الله في ذلك أن الرسل جميعا ليسوا باقين ولا مخلدين على وجه هذه الأرض، بل إنهم سيرحلون عن هذه الدنيا ليمضوا إلى رحاب الله. وتلك سنة الله في العباد ومنهم رسل الله، ومحمد صلى الله عليه و سلم أحد الرسل الذين خلوا ( مضوا ) وسيخلوا هو مثلما خلوا. وإن كان المرسلون السابقون قد خلوا فإن أتباعهم لم يستنكفوا عن الحق بل ظلوا مستمسكين بدين الله. فعليكم أن تمسكوا بدين نبيكم بعد خلوه ؛ لأن الغرض من بعثه الرسل هو تبليغ الرسالة وإلزام الحجة وليس الغرض وجودهم بين قومهم أبدا.
قوله :( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للسببية. والمعنى : أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل ؟ وانقلابهم على أعقابهم يراد به رجوعهم القهقرى. أو إدبارهم عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من أمر الجهاد وغيره من الدعوة إلى الله. وقيل : معناه الارتداد أي صيرورتهم كفارا بعد أن كانوا مؤمنين. والأعقاب مفرده العقب وهو مؤخر القدم. والمراد بالانقلاب على الأعقاب : الانهزام والتراجع. ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه : انقلب على عقبيه.
قوله :( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) ذلك وعيد من الله للمنقلبين على أعقابهم المدبرين عن القتال أو المرتدين عن الإسلام، فإن هؤلاء لأن يضروا الله شيئا ؛ العالمين بل هؤلاء لا يضرون إلا أنفسهم إذ يوردون أنفسهم موارد العقاب والخسران.
قوله :( وسيجزي الله الشاكرين ) وهم الذين صبروا وقاتلوا ولم ينقلبوا على أعقابهم، فهم بذلك شاكرون ؛ لأنهم شكروا الله على إسلامهم وعلى ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به. وهم من أمثال أبي بكر وأنس بن النضر وعمر وعلي رضي الله عنهم جميعا.
ذلك تحريض من الله للمسلمين على الجهاد في سبيله من غير أن يصدهم عن ذلك خور أو مخافة موت، فإنه ما من إنسان إلا سيموت لا محالة. ولا يأتيه الموت أو القتل إلا إذا حضر الأجل. وهذه حقيقة مسطورة في علم الله ومقدوره لا تحتمل الشك أو الجدل. ويقرر ذلك ويؤكده قوله تعالى :( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) ( كتابا ) مفعول مطلق منصوب. أي كتب الله كتابا مؤجلا. ومؤجلا صفته، والمؤجل معناه المؤقت الذي له أجل معلوم فلا يتقدم على أجله ولا يتأخر. كقوله تعالى :( وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) وقوله :( لكل أجل كتاب ) وذلك تأكيد من الله على أن الحياة أو الموت بتقدير من الله. وإذا لم يحن أجل المرء وكان له من العمر جزء أو بقية فهو لا محالة مستوف ما بقي له من الحظ في هذه الحياة ولو اجتمعت من حوله كل أسباب المنايا ومكائد الإنس والجن. فلا الشجاعة والإقدام في ساحة القتال حتى ما يكون بين المرء وعدوه قيد شبر- ولا غير ذلك من ظواهر الجراءة والجسارة، مدعاة لوقوع الأجل إلا أن يشاء الله. وإذا أيقن المسلم أن كل شيء بقدر وأن الأعمار والآجال مرهونة بقدرة الله وإنه فلا يعبأ بعد ذلك من مواجهة الأهوال والنزول إلى الغمرات والأهوال جهادا في سبيل الله وطلبا لمرضاته سبحانه.
قوله :( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ).
نزلت في الذين انكفأوا عن أماكنهم في أحد طلبا للغنيمة. وهي مع ذلك عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة، فمن ابتغى من مساعيه وجهوده الدنيا حيث المال والجاه وغيرهما من ضروب الشهوات، فإنه يؤتى من ذلك ما قدره له الله، لكنه ليس له في الآخرة من نصيب، أما من ابتغى بذلك الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما يجري عليه من رزقه في دنياه.
وقوله :( وسنجزي الشاكرين ) وهم الذين امتثلوا أمر الله بالقتال فلم يفروا ولم يزعزعهم إرجاف أو وجل، فأولئك سيعطيهم الله من فضله ورحمته ثوابه الأبدي في الآخرة. ولا يحرمهم من عطاء الدنيا إن شاء، كيلا يظن أحد أن المؤمنين محرومون من خير الدنيا ورزقها.
قوله :( وكأين ) بمعنى كم. وأصل الكلمة أي، دخلت عليها كاف التشبيه وتبتت معها فصارت بعد التركيب بمعنى كم، وصورت في المصحف نونا ؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها ثم كثر استعمالها فتصرفت فيها العرب بالقلب والحذف فصار فيها أربع لغات منها قوله :( وكأين ) بالتشديد. والمعنى كثير من الأنبياء قاتل معه العدد الكثير من أصحابه وهم الربيون، فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا ؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله. فكذلك ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد. وهذا المعنى مبني على قراءة " قاتل ". وثمة قراءة أخرى وهي : قتل معه ربيون كثير١ والأولى الراجحة في نظري لاتساق المعنى المقصود. وهو تشجيع المسلمين على القتال وعدم الفرار أو قبول الإرجاف. فإن كثيرا ممن سبقكم من النبيين قاتل معهم جموع كثيرة من أتباعهم فما وهنوا.
قوله :( ربيون كثير ) الربيون الجماعات الكثيرة، وهم ألوف من الناس. والمفرد : ربّي – بكسر الراء وتشديد الباء- وأصله من الربة وهي الجماعة كأنه نسب إلى الربة٢. قال ابن عباس وآخرون : الربيون، الجموع الكثيرة.
قوله :( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) ( وهنوا ) من الوهن وهو الضعف، أو هو انكسار الجد بالخوف. ( وما استكانوا ) من الاستكانة وهي الذلة والتخشع والخضوع. فيكون المعنى أن هؤلاء الربيين ما ضعفوا عن عدوهم ولا عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل الله ولا ذلوا أو تخشعوا لعدوهم بمداهنة عدوهم خيفة منهم ولكنهم مضوا قدما على دينهم الحق وعلى منهاج نبيهم صابرين على ما أصابهم في سبيل الله.
قوله :( والله يحب الصابرين ) أي الصابرين على الجهاد وملاقاة العدو وما يقتضيه ذلك من خوف وآلام وجراح وإزهاق لمهج.
٢ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٧٤ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ٢٨..
والمراد بقوله :( وما كان قولهم ) يعني ما كان قول الربيين وهم الجموع الكثيرة الذين ناصروا النبيين السابقين بعد أن أصابتهم محن القتل والجراح والآلام إلى أن لجأوا إلى الله بالدعاء وهو ( ربنا اغفر لنا ذنوبنا ) فدخل فيه كل الذنوب، سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر، ثم إنهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر وذلك لفظاعتها وعظم عقابها وهو المراد من قوله :( وإسرافنا في أمرنا ) والإسراف في الشيء والإفراط فيه، وما فيه مجاوزة الحد. والمراد بذلك ههنا : الكبائر.
قوله :( وثبت أقدامنا ) أي اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يفر أو ينهزم أو يستكين.
وذلك ترشيد من الله لأمة محمد صلى الله عليه و سلم يدعوهم فيه للثبات على الحق ومحذرا إياهم من التردي والانتكاس والركون للوهن والذلة، أسوة بالربيين السابقين ويحضهم بعد ذلك للاستعانة بالله واستدامة الدعاء والرجاء بالمغفرة وتثبيت الأقدام في الحرب والنصرة على الكافرين.
قوله :( والله يحب المحسنين ) المراد بالمحسنين ههنا أولئك الربيون الذين بينا صفاتهم من المجاهدة والثبات والصبر واشتداد البأس والعزيمة واللجوء إلى الله بالدعاء. وفي ذلك دلالة على أن أولئك محسنون يستحقون أن يكون الله معهم١.
لما أرجف المشركون أن محمد صلى الله عليه و سلم قد قتل، ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين إلى العودة للأصنام والوثنية حذر الله المسلمين من الالتفات إلى كلام هؤلاء المنافقين. وقال لهم :( إن تطيعوا الذين كفروا ) المراد أبو سفيان فقد كان كبير المشركين إذ ذاك. وقيل : المراد عبد الله بن أبي وهو كبير المنافقين حينئذ، وأتباعه من أهل النفاق. فقد أثار هؤلاء الشبهات والفتن وأذاعوا الأراجيف واختلفوا الأخبار الكاذبة التي توهم الهمم وتضعف العزائم. وقيل : بل المراد اليهود فقد كانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ؛ ليرتابوا في عقيدتهم وينقلبوا عن دينهم. من أجل ذلك يحذر الله المسلمين من إطاعة هؤلاء أو الاستماع إلى أراجيفهم وإلا ردوهم على أعقابهم، أي ردوهم إلى الكفر فينقلبون بذلك خاسرين في الدنيا والآخرة. وخسران الدنيا يراد به هنا خضوعهم للكافرين، أما خسران الآخرة فهو الحرمان من الثواب والتردي في العذاب.
وفي هذه الآية يبشر الله المسلمين بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم ليبوءوا بالذلة والهزيمة ؛ وذلك بسبب كفرهم وشركهم، فضلا عما ادخره الله لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال.
على أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد بل هو عام ليشمل كل المواجهات العسكرية التي تقع بين المسلمين والكافرين، فلسوف يلقي الله الرعب في قلوب أعدائه الكافرين الذين يتربصون بالمسلمين الآمنين الدوائر، والذين يحاربون دين الله يوصدونه صدا. وفي هذا أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " نصرت بالرعب على العدو " ٢ والرعب معناه الخوف. وأصله الملء رعبت الإناء أي ملأته. وسمي الفزع رعبا ؛ لأنه يملأ القلب خوفا.
ومقتضى هذه الآية يبين لنا ما يلقيه الله من خوف وذعر في قلوب المشركين الظالمين على اختلاف مللهم ودياناتهم سواء كانوا من عبدة الأوثان أو أهل الكتاب أو الملاحدة أو المنافقين، فإن هؤلاء جميعا يجتمعون على كراهية الإسلام وعلى التآمر عليه، فهم جميعا تفيض صدورهم بالغيظ والحنق على الإسلام والمسلمين، وهم بقدر تغيظهم وحقدهم وكراهيتهم لدين الله وأهله يجعل الله في قلوبهم من الذعر والخوف ما يخالجهم مخالجة تؤرقهم وتؤزهم على الدوام. وليس أدل على ذلك من ديمومة التآمر والكيد الذي يجمع هؤلاء المشركين الظالمين جميعا على نحو ليس له في تاريخ التآمر والكيد والحقد نظير.
وقوله :( بما أشركوا ) الباء للسببية. وما مصدرية، أي بسبب إشراكهم. فيكون المعنى أن السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به ما لم ينزل الله به حجة ولا برهانا، ولذلك قال :( ما لم ينزل به سلطانا ) والسلطان يراد به الحجة والبرهان ولا يجمع ؛ لأنه في مجرى المصدر. رجل سليط أي فصيح حديد اللسان. وامرأة سليطة أي صخابة٣ والمقصود أن هؤلاء الفاسقين الظالمين قد أشركوا بالله إشراكا ليس لهم فيه من الله برهان ولا دليل، إذ لم يرد فيه حجة صادقة لا من كتاب سماوي صحيح، ولا من منطق حقيقي مجرد يصدقه العقل السليم. فكان ذلك سببا في إلقاء الرعب في قلوبهم ليغشاهم من الخوف المستديم ما يقضهم قضا.
قوله :( ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) المأوى المنزل الذي يأوي إليه الشيء ليلا أو نهارا. وهؤلاء المشركون الظالمون إنما يرتدون إلى النار مأواهم، حيث التحريق والاستعار. وحيث العذاب الرهيب الواصب. ويا له من مثوى ( مأوى ) بئيس تاعس يتقاحم في جحيمه الظالمون من أعداء الله والنبيين، أعداء الإسلام والمسلمين.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤١١..
٣ - مختار الصحاح ص ٣٠٩..
روى البخاري في ذلك عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه و سلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال : " لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا " فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يتشددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله بن جبير : عهد إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا، فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : " لا تجيبوه " فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال : " لا تجيبوه " فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : " لا تجيبوه " فقال : إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله أبقى الله لك ما يحزنك. قال أبو سفيان : اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " أجيبوه " قالوا : ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله أعلى وأجل " قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : " أجيبوه " قالوا : ما نقول ؟ قال : " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سجال : وستجدون مثله ( تنكيلا ) لم آمر بها ولم تسؤني١.
ومن رواية الإمام أحمد عن ابن عباس أن المسلمين نظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أكلت شيئا " قالوا : لا. قال : " ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار " ٢
قوله :( ولقد صدقكم الله وعده ) وذلك لما قال بعض المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، فأجابهم الله بأن الغلبة كانت لهم ابتداء فقد قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده، لكنهم بعد ذلك اشتغلوا بالغنيمة، وترك الرماة أماكنهم طلبا للغنيمة، فكان ذلك سببا لهزيمتهم.
وقوله :( إذ تحسونهم بإذنه ) من الحس وهو القتل والاستئصال٣ والمعنى أنكم كنتم تقتلونهم بعلم الله وبتسليطهم عليهم.
وقوله :( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) كلمة حتى للغاية، بمعنى إلى أن. وتقدير الكلام أنكم كنتم غالبين تقتلونهم إلى أن ( فشلتم ) أي ضعفتم وفررتم ( وتنازعتم في الأمر ) أي اختلفتم- أي الرماة حين قال بعضهم لبعض : نلحق الغنائم. وقال بعضهم : بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم بالثبوت فيه. ثم خالفتم أمر الرسول صلى الله عليه و سلم بالثبوت فيه وذلك من بعد الغلبة التي كانت لكم أول الأمر في أحد. وفي ذلك قال سبحانه :( وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) أي أن فريقا منكم جنح للدنيا وهي الغنيمة. قال ابن مسعود في هذا : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد، لكن آخرين ثبتوا في أماكنهم ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه و سلم مع أميرهم عبد الله بن جبير، فحمل عليه خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل مع المشركين فقتلوه مع من بقي رحمهم الله.
قوله :( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) أي ردكم الله عنهم بالانهزام بعد أن ظفرتم بهم وغلبتموهم ؛ وذلك ليمتحنكم.
قوله :( ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة لما علمه من ندمكم. والله تعالى متفضل على المؤمنين بالعفو والمغفرة، بل إنه متفضل عليهم في كل الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤١٢..
٣ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢١٤..
وقوله :( ولا تلون على أحد ) أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب، أو لا تعرجون، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته. فيكون المعنى أنكم توليتم صاعدين في الجبل مدبرين لا يقف أحد على أحد ولا ينتظره وذلك لفرط ما أصابكم من دهش وخوف١.
وقوله :( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي آخركم. والمعنى أنه صلى الله عليه و سلم كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم ؛ لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه.
قال ابن كثير رحمه الله في تأويل قوله تعالى :( والرسول يدعوكم في أخراكم ) أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى الرجعة والعودة والكرة. قال السدي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه و سلم يدعو الناس : " إليّ عباد الله " ٢ وقال ابن عباس وغيره : كان دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : " أي عباد الله ارجعوا ".
قوله :( فأنبئكم غما بغم ) أثابكم بمعنى جزاكم. وهو من الثواب، وأصله كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا. بيد أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير. والغم في اللغة بمعنى التغطية والستر٣ والمراد به هنا الكرب.
أما الباء فتحتمل معنيين : المعنى الأول : أن تكون بمعنى المعارضة. كما يقال : هذا بهذا، أي هذا عوض عن هذا، وعلى هذا الوجه يكون المعنى أنكم لما أذقتم الرسول صلى الله عليه و سلم غما بسبب عصيانكم أمره، فالله تعالى قد أذاقكم غما حصل لكم عقيب الانهزام والقتل. أي أن الله جزاكم من ذلك الغم بهذا الغم.
المعنى الثاني : أن تكون بمعنى على. أي جزاكم غما على غم أو جزاكم غمّاً بعد غم، أو غمّا متصلا بغم، فالغم الأول هو القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه و سلم إذا صاح به الشيطان. وقيل : الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة. والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة٤.
قوله :( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) اللام في لكيلا متعلقة بقوله :( فأثابكم غما بغم ) فيكون المعنى : أن هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة لتتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال النوائب والمصائب.
قوله :( والله خبير بما تعملون ) الله جل وعلا عالم بما يستكن في صدوركم من نوايا وقصود. وهو كذلك عالم بسائر أعمالكم من خير أو شر، لا جرم أن هذه الحقيقة تفيض على النفس إحساسا غامرا بعظيم قدرة الله وتمام الشعور برقابته الدائمة التي تتجلى في سلطانه على القلوب.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤١٤..
٣ - المصباح المنير جـ ٢ ص ١٠٧..
٤ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ٤٢ والكشاف جـ ١ ص ٤٧١ والبيضاوي ص ٩٢ والقرطبي جـ ٤ ص ٢٤٠..
ذلك إخبار من الله عن امتنانه على عباده فيما أنزله عليهم من الأمن والنعاس بعد ما غشيهم من الغم ما غشيهم. وفي مثل هذه الحال من الكرب والهم تهفو نفس المغتم إلى شيء من الراحة والسكينة. وإنما يتجلى ذلك تماما في نعيم الأمن يستظل به الإنسان المكروب مع غمرة ظليلة من النعاس الرخي يغشاه فيستشعره بذلك نداوة الطمأنينة وسكينة الأعصاب. فقال سبحانه :( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) الأمنة بمعنى الأمن والسكينة. ونعاسا بدل من أمنةً. وقيل مفعول لأجله. وفيما امتن الله به على المؤمنين من الأمن والنعاس بعد ما غشيهم الخوف والقلق والحزن- في ذلك روى البخاري عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه١. والمراد بالطائفة هذه المؤمنون الذين خرجوا للقتال مع النبي صلى الله عليه و سلم قاصدين أن تعلو راية الإسلام مبتغين بذلك مرضاة الله، أولئك هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله.
قوله :( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وهذه الطائفة الثانية هم المنافقون. وهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما. فكان هؤلاء قد خرجوا طمعا في الغنيمة وخشية من المؤمنين، فهؤلاء قد اشتد جزعهم وخوفهم فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ويقولون الأقاويل وينشرون الأراجيف، وأهمتهم أنفسهم، يعني حملتهم على الهمّ. فكان همهم خلاص أنفسهم. أهمني الأمر أي اقلقني. وهمني الشيء أي كان من همي وقصدي. والمقصود أن هؤلاء المرجفين المضطرين لم يعبأوا بغير أنفسهم. وهم لفرط فزعهم وهلعهم تملكهم الذعر فذهلوا عن كل شيء سوى أنفسهم.
قوله :( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) الجملة في محل نصب حال. والمقصود أن هؤلاء المنافقين أهل جبن وخور وإرجاف. فقد اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا في أحد لن تقوم للإسلام بعد ذلك قائمة، وإن المسلمين صائرون إلى الإبادة. إلى غير ذلك من الظنون والأراجيف الباطلة.
وقوله :( ظن الجاهلية ) بدل من غير الحق. وهو الظن الذي دأب عليه أهل الجاهلية، وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم باطل وأن دينه لن يكتب له النصر.
قوله :( يقولون هل لنا من الأمر شيء ) ذلك إخبار عما حكاه المنافقون بعد الذي أصاب المسلمين في أحد. والاستفهام هنا للإنكار والجحد. ومعناه : ما لنا شيء من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها فرد الله عليهم ذلك بقوله :( قل إن الأمر كله لله ) أي أن القدر كله خيره وشره بيد الله فينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقوله :( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) أي يضمرون التكذيب والجحد ولا يظهرونه لك. وفسر ذلك بقوله :( يقولولن لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) أي لو كان لنا اختيار أو رأي عند محمد لما برح المدينة كما كان رأي عبد الله بن أبي وغيره. ولما غلبنا فقتل منا من قتل. وفي هذا الصدد ذكر عن عبد الله بن الزبير أن أباه الزبير قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره. قال : فوالله إني لأسمع قول معتب بن فشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول :( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههانا ).
وقوله :( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) أي لو كنتم جالسين في بيوتكم ولم تشهدوا القتال مع المؤمنين فلسوف يخرج الذين كتب عليهم القتل للموضع الذي كتب عليهم فيه مصرعهم ؛ ذلك أن الحذر لا يغني من القدر وأن التدبير لا يدفع التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا مناص لهم من قدر الله المحتوم.
قوله :( وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) الابتلاء معناه الاختبار والإمتحان. وجملة التعليل ( وليبتلى الله ) على لفعل محذوف. أي فعل ذلك مما حصل لكم في أحد ليمتحن ما في صدوركم فيظهر سرائر المنافقين، ويكشف عن مكنون قلوبهم من الغش والمرض والنفاق فيطلع عليها المؤمنين. وكذلك ( ليمحص ما في قلوبكم ) أي لتطهركم من الذنوب والمعاصي. أو لتطهر قلوبكم من الوساوس والشبهات.
قوله :( والله عليم بذات الصدور ) أي أن الله يعلم بما يستكن في ضمائر العباد من خير وشر أو من إيمان وكفر. فإنه جل جلاله لا يخفى عليه شيء من أمور الخليقة ويستوي في ذلك عنده ما كان خافيا أو معلنا.
وتأويل الآية أن الذين انهزموا من أمام المشركين في أحد كان السبب في توليهم ( فرارهم ) أنهم كانوا أطاعوا الشيطان ؛ إذ ( استزلهم ). أي دعاهم إلى الزلة بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب ومنها أن زين لهم الهزيمة فانهزموا ؛ إذ تركوا المكن الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالثبات فيه فجرهم ذلك إلى الهزيمة، لكن الله جلت قدرته قد عفا عن كهؤلاء القوم إذ تجاوز لهم عن توليهم يوم التقى الجمعان. وذلكم شأن الله مع عباده، فهو بفضله ومنه يعفو عن المذنبين ويمحو الخطايا ويتجاوز عن ذنوب المسلمين المسيئين. وهذا مقتضى قوله :( إن الله غفور حليم ) أي عظيم المغفرة لمن تاب وأناب، وحليم لا يعجل بالعقوبة١.
البيان الإجمالي لهذه الآية أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار، فكانوا يقولون في ذلك : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا وربما أفضى ذلك إلى تثبيط بعض المسلمين وفتور هممهم في الجهاد فوقع ما وقع في أحد ؛ من أجل ذلك نهى الله عن أن يقول أحد المؤمنين مثل هذه المقالة المغرضة المريبة. وعلى المؤمنين أن يستيقنوا أن الأجل بيد الله فمن كتب الله له البقاء فلا شك في بقائه إلى أن يشاء الله وإن تكالبت عليه أسباب المنون من كل مكان أو كان الموت أقرب إليه من حبل الوريد. ومن كتب الله له حينونة الأجل فلا مناص ولا محيد عن قدر الله وإن أحاطت بالمرء كل أسباب الحراسة والرعاية أو الاستكنان في غياهب الصياصي والحصون.
قوله :( لا تكونوا كالذين كفروا ) وهم المنافقون الذين يثيرون الإرجاف بين المؤمنين فيحولون بينهم وبين الجد والعمل سواء في الجهاد أو السعي لطلب الرزق ونحوه.
وقوله :( وقالوا لإخوانهم ) أي في النفاق أو في النسب وإن كانوا مسلمين. لا جرم أن الأخوة ضروب فمنها الأخوة في الدين والأخوة في الكفر والأخوة في النفاق ثم الأخوة في النسب. ونظير ذلك قوله تعالى :( وإلى عاد أخاهم هودا ) ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) أما الأخوة في هذه الآية فتحتمل ما كان منها في النفاق وما كان منها في النسب.
قوله :( إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) الضرب في الأرض معناه السفر للتجارة أو غيرها. و ( غزى )، أي غزاة، ومفرده الغازي، ويجوز أن يجمع على غزاة١.
والمعنى أن هؤلاء المنافقين كانوا يقولون عن إخوانهم في النفق أو النسب :( لو كانوا عندنا ) مقيمين في البلد ( ما ماتوا وما قتلوا ) أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو.
قوله :( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) الحسرة بمعنى التلهف والتأسف والندامة. ومعنى الآية أنهم قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليثير الحزن والألم والندامة في قلوب أقاربهم ؛ ذلك أن أقارب المقتول إذا سمعوا مثل هذا الكلام ازدادت الحسرة والحزن والاغتمام في نفوسهم مما يحملهم على الظن أن السبب في موتم هو خروجهم للسفر في تجارة أو من أجل الجهاد. لا جرم أن هذه مدعاة للتثبيط البالغ يلج في نفوس الضعفة من المسلمين ليثنيهم عن الخروج النافع سواء من أجل الارتزاق أو الجهاد في سبيل الله.
قوله :( والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ) لا مجال للحذر من القدر. فكل ما هو مسطور في علم لا محالة قادم، ولكل أجل كتاب. وما الحياة والآجال إلا بيد الله وحده، فهو سبحانه يكتب الحياة للعبد حتى يحين أجله، وإذا حان لا يبطّئه ضرب في الأرض ولا خوض للوغى أو تقحم للأهوال والمخاطر.
وبعد ذلك يخاطب الله عباده ليحذرهم التحذير المؤثر القارع وليثير في نفوسهم دوام اليقظة والتخوف من بطشه وعذابه، فإنه سبحانه علام الغيوب بصير بالأعمال ما ظهر منها وما بطن.
.
والمعنى المقصود، أن الموت لا محالة واقع. ولا ريب أنه المصير المحتوم لكل إنسان سواء كان ذلك في ساحة القتال أو كان حتفا على الفراش أو على غير ذلك من صور الموت.
فإذا تبين ذلك لزم أن يعلم الإنسان أنه إذا مات قتلا أو حتف أنفه وكان ذلك في سبيل الله وابتغاء مرضاته فلا جرم أن يكون ذلك خيرت من الدنيا وما فيها، بل إن ذلك خير مما يجمعه الإنسان طيلة حياته من أموال كاثرة يركم بعضها فوق بعض. وليست الأموال ولا الشبهات ولا الأهواء في هذه الدنيا غير حطام مركوم لا يلبث أن يزول أو يتبدد حتى لا يبقى منه عين ولا أثر.
( ما ) صلة زائدة للتأكيد. وذلك كقوله :( فيما نقضهم ميثاقهم ) فيكون التقدير : فبرحمة من الله. أي أن محمدا صلى الله عليه و سلم صار رحيما بالمؤمنين لينا لهم بفضل من الله ورحمة. فالله سبحانه قد صنع هذه النبي العظيم على عينه ليكون على طبيعته الفذة وسجيته المميزة من فرط الرقة والعطف واللين، فما كان قاسيا ولا فظا ولكن كان يخاطب الناس في غاية من الهشاشة والبشاشة التي لا تتجلى بهذه الدرجة العليا في غير نبي أوتي العصمة.
قوله :( ولو كنت فظا غليظ القلب ) الفظ : الشديد الغليظ. والفظ من الرجال يعني الغليظ الجافي، السيء الخلق. نقول : فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ. والغليظ القلب أي القاسي. أو قليل الإشفاق والرحمة.
قوله :( لانفضوا من حولك ) أي تفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم. وذلك درس بليغ جدير بالدعاة إلى دين الله أن يعوه وأن يقفوا عليه في تدبر واستبصار. وأصل ذلك خطاب الله لرسوله الكريم أن يا محمد لو كنت جافيا قاسي القلب مع هؤلاء المؤمنين لتفرقوا عنك هيبة لك واستحياء منك بعد الذي كان من توليهم، لكنك كنت معهم رحيما رفيقا حانيا. ولا عجب في ذلك، فإن ذلكم كان خلق الرسول صلى الله عليه و سلم. كان خلقه ودأبه الرفق والرحمة والتواضع والعفو عن زلات المسيئين، كان عليه الصلاة والسلام غاية في اللين وطيب العشرة وطهارة القلب. لا جرم أنه أكمل الخليقة طرا في حميد خصاله وشرف محاسنه التي يعز على الكون أو الكائنات أن تضاهيها.
قوله :( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ) الفاء تدل على التعقيب. وذلك بعد أن بين الله مدى ما يتجلى في نبيه الكريم من خصال الرحمة واللين، وانتفاء الغلظة والفظاظة يكلف الله نبيه بما يتضمن ثلاثة أمور :
الأول : أن يعفو عنهم فيما يتعلق بحقه. أي ما له في خاصته عليهم من تبعة.
الثاني : أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة. أي فيما يختص بحق الله عليهم.
الثالث : أن يستشيرهم فيما يستشار فيه من قضايا الحرب ونحوها مما لم ينزل فيه وحي. وفي اللغة يقال : شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة، والاسم الشورى. والمشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته. وقيل : مأخوذة من قولهم شرت الدابة شورا، إذا عرضتها في المشوار. وتشاور القوم واشتوروا ( وأمرهم شورى بينهم ) أي لا يستأثر أحد بشيء دون غيره١.
لما أمر الله نبيه بمشاورة المسلمين في أمور الحياة مما يعرض لهم من قضايا ومشكلات، كان عليه الصلاة والسلام أحرص الناس على العمل بمبدأ المشاورة، فكان يستشير أصحابه في قضايا الحرب وغيرها من أمور الدنيا مما لم ينزل فيه وحي. فقد شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا على برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.
وكذلك شاورهم أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم وكذلك وشاورهم في أحد في أن يعقد في المدينة أو يخرج إلى العدو. فأشار جمهور المسلمين بالخروج إليهم فخرج إليهم.
وكلك شاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك.
وكذلك شاورهم يوم الحديبية في أني ميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق : إنا لما تجيء لقتال وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال : وقال صلى الله عليه و سلم في قصة الإفك : " وأشيروا علي معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم. و أيم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت إلا خيرا ". ٢ وقوله :( أبنوا ) بفتح الباء أي اتهموا. أبنه بشيء يأبنه فهو مأبون بخير أو شر. فإن أطلقت فقلت مأبون فهو للشر. وابنه تأبينا أ ] عابة في وجهه. وأبن فلان يؤبن بكذا أي يذكر بقبيح٣.
وكذلك استشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها، إلى غير ذلك من وجوه المشاورة في مختلف الأحوال والوقائع مما ليس فيه شرع ؛ لما في ذلك من تطيب لقلوب المسلمين وترويضهم على المشاورة وإسداء النصائح والسديد من الأقوال في صراحة مكشوفة لا تعرف اللبس أو المداهنة أو المصانعة، عسى أن يكون في ذلك ما ينتفع به المسلمون فيجتنبون مواطن التعثر والزلل.
ولئن كان ذلك شأن النبي في مشاورة القوم لاتنزاع الأصلح من الرأي، وهو عليه السلام في القمة الرفيعة من درجات الذكاء والفطنة والعبقرية، وهو المؤيد أيضا من الله بالوحي والعصمة والكلاءة، فلا جرم أن يكون المسلمون من بعده أشد حاجة للمشاورة كيما يكون مبدأ الشورى راسخا في أذهانهم، فيطبقونه في كل الأحوال. وفي ذلك من نشر المودة وتبديد المباغضة والأثرة ما يثير في المسلمين النزوع للتفاهم والتآخي ومبادلة الثقة. وبخلاف ذلك تشيع فيهم علائم الريبة وانتفاء الثقة والاستبداد والجنوح للطغيان والتسلط.
قوله :( فإذا عزمت فتوكل على الله ) العزم معناه قصد الإمضاء، عزم على الأمر يعزم عزما وعزمه واعتزمه وتعزم أي أراد فعله وقطع عليه أو جدّ في الأمر٤.
أما التوكل فمعناه الاعتماد على الله مع إظهار العجز. والاسم التكلان. ٥ والمعنى المراد أنه إذا حصل الرأي المشفوع بالمشورة فلا ينبغي الاعتماد عليه، بل يجب الاعتماد في كل حال على الله. فهو سبحانه يكتب لعباده السداد والتوفيق، ويجنبهم مزالق الضر والشر والعثرات. وعلى هذا لا ينبغي لمسلم أن يعتمد على أحد غير الله من المخاليق، بل المسلم مكلف أن يتخذ من الأسباب ما يجده موصلا لمراده من غير أن يكون في ذلك توكل أو اعتماد على شيء أو أحد سوى الله. وما كان لمسلم أن يعتمد على ذاته وما أوتي من عزائم وقدرات ومواهب، ولا أن يعتمد على عظيم ولا ملك ولا جبار ولا غير هؤلاء من مشاهير الدنيا وذوي الجاه والسلطان. ومع ذلك فإن المسلم مكلف بالسعي والجد والعزم مهما تكن النتائج. والله جلت قدرته يتعبد عباده بوجيبة الأخذ بالأسباب كيلا يؤخذ معليهم مثلبة التقصير والتفريط، أو العجز والكسل.
قوله :( إن الله يحب المتوكلين ) ذلك أن التوكل على الله من غير عجز ولا تواكل ولا تفريط، إنما يشير إلى صدق الإيمان بالله، وإلى تمام الثقة واليقين بكمال قدرته، وأنه يجبر عبادة المخلصين المخبتين، وهو سبحانه خير مجير ومعوان٦.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٢٠..
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٦ ومختار الصحاح ص ٣..
٤ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٥١.
٥ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٦٧..
٦ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ٦٩ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٥٣ وفتح القدير جـ ١ ص ٣٩٣..
ذكر عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين. فقال أناس : لعل النبي صلى الله عليه و سلم أخذها. فأنزل الله تعالى ( وما كان لنبي أن يغل ) ١ وقوله ( يغل ) أي يخون، من الغلول بمعنى الخيانة، والمراد بها هنا من لغنيمة. وأصل الغلول أخذ الشيء خفية٢.
وتأويل الآية أنه ما صح لنبي أن يخون شيئا من المغنم فيأخذه لنفسه من غير إطلاع أصحابه. وفي ذلك تنزيه للأنبياء عن الغلول. فإن النبوة والغلول لا يجتمعان لا جرم أن النبوة أعلى مراتب الشرف والجلال، بل إنها أعلى المراتب الإنسانية في الدنيا والآخرة. فما يليق بنفس كريمة عالية فضلى أن تغل. وما يليق بأحد ولا طائفة من البشر أن تقدح في مقام النبوة المقدس الميمون فتتهمها بالغلول.
ولقد توعد الله الخائنين أهل الغلول بالعذاب الشديد يوم القيامة مما يدل على أن ذلك كبيرة من الكبائر. فقال سبحانه :( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) أي يأتي الغال حاملا ما غله على ظهره وعنقه معذبا بحمله وثقله، مرعوبا بصوت ما يحمله، وهو تحيط به الفضيحة والعار على رؤوس الأشهاد. وفي فداحة الغلول وهول ما يجده الغال يوم القيامة روى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض- أو في الدار- فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا، فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة ".
وروى أحمد عن المستور بن شداد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليس له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال ".
وروى أحمد أيضا عن أبي حميد الساعدي قل : استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء قال : هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي : أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر " ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة٣ إبطيه، ثم قال : " اللهم هل بلغت " ثلاثا.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ردوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة " ٤.
ويستفاد من هذه الآية جملة أحكام، منها : أن أخذ الطعام وأخذ علف الدابة أو ما تيسر به الحوافل في حال القتال جائز، على أن يكون ذلك بقدر الحاجة.
ومنها : إذا غل الرجل في المغنم ووجد ما غل أخذ منه وعوقب تعزيرا.
ومنها : أن الغال له أن يرد جميع ما غل قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، فإذا فعل ذلك كانت هذه توبة له وخروجا عن ذنبه.
ومنها : أن هدايا الولاة والقضاة والحكام غلول، أي خيانة. وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال٥.
قوله :( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) أي تعطى كل نفس جزاء ما كسبت من خير أو شر عطاء وافيا غير منقوص. وهذه الآية تعم كل الكاسبين من خير أو شر. وهي تتضمن بمفهومها الغال على الأولى ؛ لأن سياق الكلام هنا في الغلول. فما من غلول في المغنم وسائر وجوه الكسب الباطل والحرام إلا سيجزى مقارفة الغال ما يستحقه من الجزاء يوم القيامة. وحينئذ يجازي الله كل نفس بما كسبت من غير أن يحيق بأحد في ذلك ظلم.
٢ - مختار الصحاح ص ١٩٧..
٣ - العفرة : البياض..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٢١- ٤٢٣..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٥٢ -٢٥٨ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ٧٣..
الهمزة في قوله :( أفمن ) للاستفهام الإنكاري. والفاء للعطف على محذوف. فيكون تقدير الكلام : أمن اتقى فاتبع رضوان الله.
ومعنى الآية أن من اتبع رضوان الله بالامتثال لأوامره واجتناب زواجره، ليس كمن رجع بسخط من الله بسبب ما قارفه من المعاصي والآثام.
واتباع رضوان الله من مقتضياته فعل الطاعات والصبر على الجهاد وترك الغلول وهو الخيانة في المغنم وغيره من وجوه السحت وأكل الحرام.
أما الرجوع بسخط من الله فمن مقتضياته السقوط في العصيان بكل صوره وأشكاله، ومنه التولي عند الزحف وتخذيل المسلمين وإشاعة الأراجيف بينهم لينكفئوا عن الجهاد وملاقاة العدو. والسخط بفتحتين أو بالفتح والسكون، ضد الرضا، نقول سخط أي غضب، فهو ساخط. أسخطه أغضبه.
والذي يستوجب سخط الله إذا لم يتب فلسوف يكون مأواه جهنم والمرجع البئيس. وهو تأويل قوله :( ومأواه جهنم وبئس المصير ).
والأصل في هذا التأويل أن الضمير ( هم ) عائد إلى الكل وهو المتبعون رضوان الله والذين باؤوا بسخط منه. فدرجات أهل الثواب متفاوتة. ودرجات أهل العقاب متفاوتة أيضا تبعا لتفاوت أعمال الناس.
وقيل : الضمير ( هم ) عائد إلى قوله :( أفمن ابتع رضوان الله ) فيكون تقدير الكلام : أفمن اتبع رضوان الله سواء ؟ إنهم ليسوا سواء، بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم فهي متفاوتة. واحتجوا لذلك بأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، واستعمال الدركات في أهل العقاب١.
قوله :( والله بصير بما يعملون ) أي لا يخفى على الله شيء مما يعمله المتبعون لرضوان الله أو المستوجبون لسخطه. لا جرم أن الله عليم بما يصدر عن الفريقين من قول أو عمل.
قوله :( منَّ ) من المنة بكسر الميم والجمع منن. منّ عليه أو امتن عليه بكذا، أي أنعم عليه به. مننت عليه منّا، أي عددت له ما فعلت له من الصنائع، كأن تقول : أعطيتك، وفعلت لك١.
الله جل جلاله يمتن على عباده المؤمنين بأن بعث فيهم محمدا صلى الله عليه و سلم. هذا النبي المفضل الفذ. الذي خلب بسيرته وخصاله وفعاله العظيمة كل الألباب، وأدهش بسداده وبراعته الأذهان والنهي، وبهر الطبائع والبصائر لحسن أخلاقه وجمال فطرته الناصعة البيضاء. لا جرم أن محمدا صلى الله عليه و سلم خير العالمين وإمام البشرية في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة حيث البقاء والقرار والديمومة.
يمتن الله على المؤمنين ببعث هذا النبي المكرم المفضال. أما وجه الامتنان ببعث هذا النبي عليه السلام فهو يتجلى في كونه ( من أنفسهم ) أي من جنسهم. وعلى هذا كان لسانه كلسانهم، فسهل عليهم أن يقفوا على ما يحدثهم به ؛ لما في ذلك من قرب للقلوب والعقول.
ولكونه من جنسهم فهم أعلى الناس بأحواله وسلوكه وحقيقة شخصيته من الصدق والأمانة والسجاحة وسلامة الطبع والفطرة. فكان ذلك مدعاة لهم أن يصدقوه ويثقوا به.
قوله :( يتلو عليهم آياته ) الجملة في محل نصب نعت لرسول. والمراد بآيات الله هنا القرآن الكريم. فقد تلاه النبي الكريم على العرب بعد أن كانوا أهل جاهلية بكل ما في الجاهلية من حماقات وضلالات.
وقوله :( ويزكيهم ) أي يطهرهم من خطايا الجوارح وفساد القلوب والنوايا.
وقوله :( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) أي القرآن والسنة.
وقوله :( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) أي لقد كانوا من قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم لفي غي وجهالة وعمه ظاهر لا شك فيه.
الألف في ( أو ) للاستفهام. والواو للعطف. والمراد بالمصيبة ما حاق بالمسلمين في أحد من هزيمة إذ قتل منهم سبعون.
وقوله :( قد أصبتم مثليها ) أي يوم بدر فقد قتل المسلمون من المشركين سبعين وأسروا سبعين آخرين. فهذان مثلان ؛ إذ الأسير في حكم المعدوم.
وقوله :( قل أنى هذا ) أي من أين أصابنا هذا الانهزام وما فيه من قتل مع أننا مسلمون وهم مشركون ؟ ! وجواب ذلك قوله سبحانه :( قل هو من عند أنفسكم ) أي أنكم وقعتم في هذه المصيبة بمعصيتكم فقد عصوا الرسول صلى الله عليه و سلم في جملة أمور منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم قد بين لهم أن المصلحة في عدم الخروج من المدينة بل البقاء فيها لكنهم أبوا إلا الخروج فلما خالفوه توجه نحو أحد.
ومنها : اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول صلى الله عليه و سلم إذ أمرهم بعدم المبارحة مهما تكن الظروف ؛ لكنهم نسوا ذلك وانحازوا صوب الغنيمة تاركين مواقفهم ليلج منها المشركون فيطعنوا المسلمين من ورائهم.
قوله :( إن الله على كل شي قدير ) ما من شيء يعز على اللهف عله. فالله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومنه النصر يكتبه لعباده إن أراد وذلك وفق حكمة ربانية عليا لا تضل ولا تضطرب.
قوله :( وليعلم المؤمنين ) أي ليميزهم فيتبين المؤمن من المنافق.
قوله :( أو ادفعوا ) أي كثروا سواد المسلمين وإن لم تقاتلوا معهم، فإن في السواد ما يرهب العدو ويدفعه.
قوله :( قالوا لو نعلم قتالا لأتبعنكم ) أي لو نعلم أنكم تلقون حربا أو تواجهون قتالا لجئنا معكم نقاتل، ولكننا نعلم أنكم لا تلقون قتالا.
وحدث كثير من الصحابة قالوا : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه. حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبد الله ابن أبي سلول بثلث الناس فقال : أطاعهم فخرج وعصاني ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن تبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب. وأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا انصراف عنهم قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم١.
قوله :( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) كان هؤلاء المنافقون قبل يوم أحد يتظاهرون بالإيمان. ولم تظهر منهم إذ ذاك أمارة تدل على كفرهم لكنهم لما انحازوا عن المسلمين وخذلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بينوا حالهم وكشفوا عن نفاقهم ونواياهم الخبيثة فصاروا بذلك أقرب إلى الكفر. وقال كثير من أهل العلم : إن هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار.
قوله :( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) أي أنهم أظهروا الإيمان بألسنتهم وأضمروا الكفر في قلوبهم. ذلك أن الإيمان ما تجاوز في هؤلاء المنافقين أفواههم ولا تجاوز منطوق الكلام الذي تهرف به ألسنتهم من غير أن يستقر شيء من ذلك في قلوبهم.
قوله :( والله أعلم بما يكتمون ) أي ما يخفونه في أنفسهم من النفاق. وما يدور بينهم من أحاديث في ذم المسلمين وفي تسفيههم والتعبير عن الشماتة بهم وغير ذلك من وجوه الكيد والتربص، لكن الله سبحانه عالم بالأسرار. ومطلع على ما يركم في قلوب هؤلاء من حقد وما يدور بينهم من أحاديث في الإرجاف والتهكم والشماتة بالمسلمين.
والمراد بالذين قالوا، عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين. فقد ( قالوا لإخوانهم ) أي لأجل إخوانهم. وهي الأخوة في النسب أو الأخوة بسبب المشاركة في الدار أو في عداوة الرسول صلى الله عليه و سلم أو في عبادة الأوثان- قالوا لهم حال كونهم قاعدين عن الجهاد :( لو أطاعونا ما قتلوا ) أي أن هؤلاء الذين قتلوا لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا بالتخلف عن القتال لنجوا ولم يقتلوا.
لكن الله تعالى رد مقالتهم هذه بقوله :( قل فادرءوا عن أنفسهم الموت إن كنتم صادقين ) أي إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم لو أطاعنا إخواننا في عدم الخروج للجهاد لما قتلوا، فجدوا إلى دفع الموت عنكم سبيلا. والحقيقة أن هذا الدرء ( الدفع ) لا يغني شيئا في الموت المحتوم. فمن لم يمت بهذا السبب فأسباب الموت الأخرى ككثيرة ولسوف يحيق بالهاربين المتخلفين عن الجهاد سبب من أسباب الموت ليلاقوا أجلهم المقدور إذا حان.
يبين الله أن الذين يقتلون مجاهدين في سبيل الله قد أعد لهم كرامة خاصة لا تتسنى لغير الشهداء. فالناس بالقتل تزهق أرواحهم ليكونوا في عددا الموتى، لكن قتلى الجهاد لا يموتون، بل يكونون أحياء ينعمون بالحياة الخاصة الحافلة بالنعيم والتكريم. والآية في شهداء أحد. وقيل : نزلت في شهداء بئر معونة. وقيل : بل هي عامة في جميع الشهداء. وفي الكشف عن طبيعة الحال التي يكون عليها الشهداء وما أعد الله لهم من الحياة الخاصة عقب القتل، أخرج مسلم بإسناده عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القنادل ".
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة " ١.
قوله :( لا تسحبن الذين قتلوا ) الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم فهو الحاسب. وقيل : كل أحد. فيكون ( الذين ) في محل نصب مفعول به أول. و ( أمواتا ) مفعول به ثان منصوب وقوله ( أحياء ) خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره هم. وتقدير الكلام : بل هم أحياء.
والمراد أن الشهداء أحياء يرزقون في الجنة. وهم وإن فارقوا الحياة الدنيا وأجسادهم في التراب فإن أرواحهم حية لم يأت عليها الموت. وقد فضلهم الله بالرزق في الجنة عقب القتل مباشرة.
قوله :( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلقهم ) أي يسرون بالبشارة بلحوق إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا ليشركوهم فيما أعطاهم الله من ثواب ونعيم. وقوله :( من خلفهم ) أي الذين بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم بالاستشهاد.
قال السدي في هذا الصدد : يؤتى الشهيد بكتاب فيه : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا. ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغبائهم إذ قدم.
وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة. فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير. فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة. وأخبرهم أي ربهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم. قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع " أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ١.
قوله :( ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي أن هؤلاء الشهداء مستبشرون بإخوانهم، فرحون أنهم إذ صاروا مثلهم شهداء فإنهم :( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي لا خوف عليهم من عقاب الله فهم آمنونا مطمئنون ولا يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ؛ إذا لا يمسهم في ذلك أيما حزن على فراق الحياة وما فيها.
الأولى : استبشارهم بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم.
والثانية : استبشارهم بأحوال أنفسهم خاصة.
وثمة تفصيل يتعلق بأحكام الشهيد نبينه في اقتضاب فنقول :
إن الشهيد لا يغسل إذا قتل في المعترك وهو يواجه العدو. وهذا قول الجمهور. لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم. أما الشهيد غير قتيل المعترك فإنه يغسل. وهو قول الحنفية والشافعية والمالكية وآخرين. فقد ذهب هؤلاء جميعهم إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة. أما من قتل مظلوما كقتيل الخوارج واللصوص وقطاع الطريق وشبه ذلك فإنه يغسل في قول المالكية والشافعية، خلافا للحنفية إذ قالوا : كل من قتل مظلوما لم يغسل ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد.
أما إذا حمل الشهيد حيا ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه كما صنع بعمر رضي الله عنه.
أما الصلاة على الشهيد فموضع خلاف كذلك. فقد ذهبت المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر إلى أنه لا يصلي على الشهيد المقتول في المعركة ؛ وذلك لحديث جابر قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. أما الحنفية فقالوا بوجوب الصلاة على الشهيد، لكنه لا يغسل لما ورد في ذلك من آثار أكثرها مراسيل على النبي صلى الله عليه و سلم على حمزة وعلى سائر شهداء أحد. وهذا ما لا خلاف فيه.
ولو دهم العدو المسلمين بغتة فقتل منهم، فهل يكون حكم القتيل منهم محكم قتيل المعترك ؟ ثمة قولان في ذلك، أصحهما : أنه يغسل ويصلي عليه ؛ لأنه لم يقتل في المعترك بين الصفين١.
ويستفاد من هذه الآية ما أعده الله للشهيد من عظيم الثواب فضلا عن تكفير الخطايا والذنوب جميعا إلا الدين ؛ وذلك للخبر " القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين، كذلك قال جبريل عليه السلام ".
والتنصيص هنا على الدين تنبيه على ما في معناه من حقوق الناس المتعلقة بالذمم. وذلك كالسرقة والغصب وأخذ المال بالباطل ونحو ذلك من التبعات الثقال. فذلك كله أولى ألا يغفر بالجهاد والاستشهاد من الدين ؛ لأن ذلك أشد وُبوقا من الدين.
على أن الدين يحول بين الشهيد ودخول الجنة هو الذي يترك له المدين وفاء ولم يوص به. أو قدر على الوفاء حال حياته ولم يؤده ولم تحدثه نفسه بالوفاء ولا بالتوصية بالأداء بعد موته. أما إذا أدانه في حق بسبب من فاقة أو عسر ونحو ذلك ومات من غير أن يترك وفاء فإن الله لا يحول بينه وبين الجنة بمنته وفضله٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٧٣، ٢٧٤..
قوله :( الذين استجابوا ) في إعراب ( الذين ) ثلاثة وجوه، الأول : في موضع جر نعت للمؤمنين. الثاني : في موضع جر يدل من المؤمنين. الثالث : في محل رفع مبتدأ. وخبر ( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ).
ومقالة ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) خ هذه المقالة قالها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار. وقالها محمد صلى الله عليه و سلم حين :( قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) كذلك روى البخاري عن ابن عباس.
وقوله :( فزادهم إيمانا ) ضمير الفعل ( فزادهم ) يعود إلى مقالة المثبطين. والتقدير هو : فزادهم ذلك القول إيمانا. وعلى هذا تكون الزيادة في الإيمان هنا هي في الأعمال.
أما هل يزداد الإيمان أو ينقص ؟ فقد قيل : الإيمان الذي هو ذات وجوهر، أو هو الذي يعني التصديق، وإنما هو معنى فرد لا يحتمل الزيادة أو النقصان، بل إن الزيادة في ذات الإيمان تذهبه وكذا النقصان، فأيما زيادة أو نقصان في معنى الإيمان أو في ذاته إنما تزول معه حقيقة الإيمان نفسه. وهو ما ذهب إليه جمع من العلماء. وقالوا : الزيادة أو النقصان إنما يكون في متعلقات الإيمان دون ذاته. وذلك في الطاعة والأعمال الصادرة عنه. أي أن الإيمان ليس المقصود به التصديق بل الطاعات.
وقيل : الإيمان يزيد وينقص وذلك في مراتبه وفي شعائره. وذلك إذا أريد بالإيمان أعمال القلوب كالنية والإخلاص والتقوى. لا جرم أن هذه مشاعر وإحساسات قلبية تتفاوت مقادريها لدى الناس مثلما تتفاوت أقدار البشر كالنبيين والصديقين والعلماء وسائر المسلمين. فإن المسلمين تتفاوت مراتب الإيمان فيما بينهم تفاوتا عظيما فإنه ربما انحدر مدى الإيمان في قلب المسلم حتى يكون في مثقال حبة الخردل. وربما علا في قلبه حتى يكون في حجم الراسية الشماء.
وثمة أسباب تفضي إلى زيادة الإيمان، منها : سماع الموعظة البالغة التي تلج في سويداء القلب والمشاعر فتهزها هزا. ومنها : الحجج والبراهين الساطعة التي تحمل الذهن حملا لينا على التثبت والاستيقان. ومنها : طول التأمل في آيات الله الباهرة من كتابه الحكيم المعجز. فلا ريب أن التفكر مليا في آي القرآن، وفي عباراته وكلماته وما يجلل ذلك ويتخلله من إيقاعات وجرس وحلاوة نغم- يؤثر في الإنسان أشد تأثير، ويسكب في قلبه من برد الجمال والروعة والعذوبة ما يزيده إيمانا على إيمان. إلى غير ذلك من أسباب تفضي إلى زيادة الشحنات الإيمانية في قلوب الناس، لكن انعدام ذلك أو بساطته لا جرم يفضي إلى نضوب الإيمان في الصدور أو هوانه حتى ما يبقى منه غير القدر اليسير.
ويستدل على زيادة الإيمان ونقصانه بظاهر الكتاب الحكيم، ومن جملة ذلك قوله تعالى :( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) ١ وكذلك قوله تعالى :( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) ٢ وقوله تعالى :( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ٣.
وفي الأثر عن ابن عمر قلنا : يا رسول الله ! إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : " نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار ".
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيمانا. فيذكرون الله تعالى.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها٤ وهو ما يدل بظاهره على أن الإيمان يزيد وينقص. وهو ما نرجحه والله تعالى أعلم.
قوله :( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) حسبنا أي كافينا الله. نقول : حسبك درهم أي كفاك، وشيء حساب أي كاف. ومنه عطاء حسابا أي كافيا.
ونقول : حسيبك الله، أي انتقم الله منك. وكفي بالله حسيبا أي محاسبا أو كافيا٥.
وقوله :( ونعم الوكيل ) ( نِعْمَ ). فعل ماض جامد لإنشاء المد. ( الوكيل ) فاعل نعم مرفوع. و ( الوكيل ) بمعنى الكفيل. وقيل : الكافي. أو الموكول إليه.
والمؤمنون دائما مطمئنون إلى قدر الله وحكمته وأنه جل وعلا لا يظلم الناس مثقال ذرة. وهم إذ يلوذون إلى الله يتضرعون إليه بالدعاء ويبثون إليه شكواهم وحزنهم كلما ضاقت بهم الحياة الدنيا أو ألمت بهم الإحن والشدائد قائلين :( حسبنا الله ونعم الوكيل ) حقا إنها خير ما يتفجر من الأفواه والقلوب المكلومة حين اشتداد البأس وتكالب العدوان والباطل. فالله جل جلاله كاف عباده المؤمنين المظلومين وهو كفيل بكشف البلاء والضر عنهم ودفع الطغاة والمتجبرين ليذيقهم نكال الدنيا وهوانها قبل أن تفجأهم صعقة القيامة بأهوالها المذهلة العظام.
٢ - سورة المدثر الآية رقم ٣١..
٣ - سورة الفتح الآية رقم ٤..
٤ - الكشاف جـ ١ ص ٤٧٩-٤٨١ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١٠٢، ١٠٣ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٧٩-٢٨١ وشرح العقيدة الطحاوية ص ٣٨٢-٣٨٦.
٥ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٥٦..
قوله :( والله ذو فضل عظيم ) فقد تفضل الله عليهم بالتوفيق فيما فعلوا فصرف عنهم عدوهم الذي همَّ بالكرَّة إليهم ليقضي عليهم. وذلك شأن الله في عون عباده المؤمنين وإمدادهم بالعزيمة والعون والصبر.
قوله :( يخوف أولياءه ) أي يخوفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه من المشركين. وقيل : يخوف بأوليائه. فيكون تقدير الكلام : ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه.
قوله :( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) أي لا تخافوا أولياء الشيطان، أولا تخافوا المشركين الذين جمعوا لكم، بل خافوا الله وحده فامضوا مع رسوله للجهاد ولا يصدنكم عن ذلك تخويف المفسدين من شياطين الإنس والجن ولا تثبيطهم١.
ونزلت هذه الآية في قوم أسلموا ثم ارتدوا، وقيل : المراد بذلك المنافقون ورؤساء اليهود فقد كتموا صفة النبي صلى الله عليه و سلم ؛ إذ كان مذكورا ومبينا في كتابهم.
وقيل : المراد أصناف الكافرين جميعهم. فقد كانوا يسارعون في الكفر، ويظاهرون على النبي صلى الله عليه و سلم والمسلمين بالكيد والعدوان. ومن أجل هذه المسارعة في الكفر من الكافرين الحاقدين كان النبي صلى الله عليه و سلم يغتم وينتابه الحزن، فنهاه الله عند ذلك مع أن الحزن والاغتمام والغضب من كفر الكافرين ومعاصيهم ومكائدهم عبادة يثاب عليها المسلم، فكيف يأتي النهي عن ذلك. وتأويل ذلك أن النهي يقع على الإفراط أو الإسرف في الحزن والاغتمام مما يفضي إلى لحوق الضرر بالمحزون المغتم. كقوله تعالى :( فلا تذهب نفسك عليهم حسارات ) أي لا تهلك نفسك عليك من فرط تحسرك على غيهم وإصرارهم على العتو والتمرد والتكذيب. وعلى هذا فإن النهي هنا عن الإفراط في التحسر المفضي إلى ضرر المحسر. لا جرم أن الإفراط المغالي في كظم الحزن والحسرة يودي بالمحزون المغموم إلى الاعتلال أو الهلاك. وهو ما وقع عليه النهي في الآية ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ) هؤلاء الناكبون عن دين الله لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، فهم لا يضرون الله بذلك، والله سبحانه منزه عن طبائع البشر الين يضرهم الأذى والكيد، لكن الله خالق كل شيء وخالق الحياة والأحياء جميعا لا يضره كفران الكافرين ولا ضلال الضالين المضلين.
إن هؤلاء الناكبين التعساء الذين يسارعون في الكفر لا يضرون سوى أنفسهم ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم دون غيرهم. وكيفية ذلك في قوله :( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ) أي نصيبا من الثواب العظيم الذي أعده الله لعباده المؤمنين ؛ إذ كتب لهم الجنة، لكن أولئك التعساء المتنكبين عن منهج الله لا جرم أنهم محرومون من نعيم الله في الجنة، وفوق حرمانهم هذا أعد الله لهم النار يتعذبون فيها لزاما ودون مبارحة. وهو مقتضى قوله :( ولهم عذاب عظيم ).
وقرئت " يحسبن " بالياء. وهي فعل يقتضي مفعولين. ( الذين ) في محل رفع فاعل. والمقصود بالذين الكفار. وجملة ( أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) سد مسد مفعولين للفعل يحسبن.
وقوله :( نملي ) أي نطيل ونؤخر، من الإملاء وهو الإمهال والتأخير. ومنه قوله ( واهجرني مليا ) أي حينا طويلا. والملا معناه الدهر. والملون يعني الليل والنهار.
ومعنى الآية : لا يظنن هؤلاء الناكبون المكذبون أن إملاءنا لهم بإطالة العمر والإنساء في الأجل وإمدادهم براغد العيش أو بما أصابوا من ظفر يوم أحد، كان خيرا لهم، بل إن هذا الإملاء ليس لهم فيه خير وإنما يزدادون به بغيا وطغيانا ليكون مآلهم العذاب المهين.
وذلك كقوله تعالى :( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) وقوله :( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) وقوله :( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) وقوله :( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ).
المخاطب في قول أكثر المفسرين هم الكفار والمنافقون. أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صلى الله عليه و سلم، ذلك أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه و سلم : تزعم محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرتا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك ؟ فأنزل الله ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ).
وقيل : الخطاب للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق. فيكون المعنى : ما كان ليدع المؤمنين المخلصين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن منكم بالمنافق فلا يعرف هذا من هذا حتى يميز الخبيث وهو المنافق الذي يستسر الكفر من الطيب وهو المؤمن الصادق.
أما كيفية التمييز بين المخلصين والمنافقين فثمة وجوه في ذلك :
منها : إلقاء المحن والمصائب كالقتل والهزيمة ونحوهما : وعندئذ يظهر المنافق ويستبين المؤمن الصادق.
ومنها : الهجرة والجهاد، وهذان امتحنانا يعز على المنافق أن يحتملهما حتى تنكشف حاله للناس واضحا معزولا. بخلاف المؤمن الصادق فإنه مطوع لأوامر الله ورسوله لا يميل عنهما ولا يتردد في الاضطلاع بهما.
ومنها : أن المؤمنين الصادقين يغمرهم الفرح والبهجة عند كل نصر يظفر به المسلمون، لكن المنافقين يغشاهم بسبب ذلك اغتمام وتنغيص.
قوله :( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) المخاطب المؤمنون. والمعنى أن الله لا يطلعكم على الغيب المستور فيقول لكم إن فلانا منافق وفلانا مؤمن. فلا يتسنى مثل هذا الإطلاع للناس. ولا سبيل للمؤمنين للوقوف على النفاق وتمييز المنافقين إلا بالمحن والابتلاءات يمتحن الله بها عباده. وقد ظهر ذلك في يوم أحد إذا تخلف المنافقون عن الجهاد. بل شمتوا بالمسلمين وفرحوا لما أصابهم من قتل وهزيمة.
قوله :( ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) أي أن الله يختص أو يستخلص لرسالته من يشاء من عباده فيطلعه على بعض المغيبات.
وقوله :( فآمنوا بالله ورسله ) لما سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبين لهم من هو مؤمن منهم ومن هو كافر أنزل الله قوله :( فآمنوا بالله ورسله ) أي لا يشغلنكم ما ليس يعنيكم فإن الخوض في مثل هذه المساءلات لا جدوى منه لكم، لكن اشتغلوا بما يعنيكم وينفعكم وفيه النجاء لكم وهو الإيماء فآمنوا، أي صدقوا وأيقنوا وامتثلوا، فإنكم صدقتم واتقيتم ربكم بطاعته فيما أمر، وفيما نهى فإن لكم بذلك من الله عظيم الثواب ؛ لذلك قال :( وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ).
وقوله :( ولا يحسبن الذين ) ( الذين ) فاعل. والمفعول به الأول محذوف. فيكون التقدير : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم. والضمير ( هو )، مبتدأ وشر خبره.
والآية تتضمن ذما للبخل ووعيدا للبخلاء. والمعنى : لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم فيه خير لهم فيدفع عنهم غائلة الفاقة والعوز ويحقق لهم البحبوحة واليسر، له عكس ذلك صحيح. فإن البخل شر أيما شر. إنه شر الحرمان في هذه الدنيا، الحرمان من محبة الناس ودعائهم الرقيق الحاني المستجاب، وامتعاض نفوسهم من الأشحة المنبوذين، الأشحة الذين تنفر منهم طبائع الخليقة وتتقزز منهم نفوس البشر سواء فيهم الأقارب والأباعد، أما في الآخرة فهنالك الخسران الأكبر ؛ لما يلاقيه البخلاء الأشحة من ضروب الويل والتنكيل. وفي ذلك يأتي التعبير القرآني على غاية ما يكون فيه الكلام المؤثر الزاجر ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) أي ( سيطوقون ) ما بخلوا به من نار. أو أن هذه الأموال التي بخلوا بها تصير أطواقا حول أعناقهم. ويمكن أن يكون الطوق من نار أو من حبات تلتوي في أعناقهم. وفي هذا أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزيمه – يعني شدقيه- يقول : أنا مالك أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية ( ولا يحسبن الذين يبخلون ) ١.
قوله :( ولله ميراث السماوات والأرض ) الله جلت قدرته هو مالك الأولين والآخرين، وهو مالك كل شيء، بل ما في الوجود كله من أملاك وأشياء. وفي ذلك السماوات والأرض، الله تعالى مالكهما. ولئن ملك الناس من كراع الدنيا ولعاعتها شيئا فإنما ذلك ملك مؤقت إلى حين وعلى سبيل المجاز. لكن مالك ذلك على الحقيقة والديمومة هو الله. حتى إذا أزفت الساعة ووقعت الواقعة ذهب الناس المالكون وبقي المال من ورائهم. وبقي المالك الحقيقي وحده. المالك الإله المتفرد الديان. وذلك مقتضى قوله :( ولله ميراث السماوات والأرض ).
وقيل في تأويل الآية : إن الله له ما في السماوات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فما لهم يبخلون على الله بملكه ولا ينفقونه في سبيله. وذلك كقوله :( وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ).
قوله :( والله بما تعلمون خبير ) الله يعلم هؤلاء الأشحة الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله فيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من جزاء٢.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٨٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٣٢ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ١٢٥ – ١٢٨ والكشاف جـ ١ ص ٤٨٣، ٤٨٤ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١١٣- ١٢٠..
جاء في سبب نزول هذه الآية أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل ذات يوم بيت مدارس اليهود فوجد ناسا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، فقال أبو بكر لفنحاص : اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فآمنْ وصدّق وأقرضْ الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. فقال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء. ولو كان غنيا ما استقرضنا أموالنا. فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد انظر إلى ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر : " ما الذي حملك على ما صنعت ؟ " فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن عدو الله قال قولا عظما، زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله عز وجل ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر ( لقد سمع الله قول الذين قالوا ) ١.
والمراد هنا فداحة الاجتراء الأثيم على الله بمقالة السوء يتعثر بها لسان فريق من يهود، وهي أن الله فقير وهم أغنياء. وذلك لما سمعوا قول الله :( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ). على أن مقالة يهود هذه إنما قيلت على سبيل السخرية أو التهكم والاستخفاف بدين الله وكتابه الحكيم. لا جرم أن ذلك غاية في الجحد والكفران يستحقون بموجبه من الله أشد العذاب ؛ لذلك قال سبحانه :( سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ) اسم الموصول ( ما ) في محل نصب مفعول به. ( وقتلهم ) معطوف على الاسم الموصول وهو منصوب. الأنبياء مفعول به للمصدر ( وقتلهم ).
والمعنى أن سيكتب مقالتهم هذه في كتاب أعمالهم ليجدوه أمامهم مسطورا يوم القيامة. وقيل : سيحفظ ما قالوه ليجازيهم عليه.
قوله :( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) أي وسنكتب قتلهم الأنبياء. وذلك أنهم رضوا بما فعله أجدادهم السالفون ؛ إذ قتلوا الأنبياء ظلما. ومن يرض بالمعصية يكن شريكا في الإثم وإن لمي فعل ولم ير، مادام رضاه حاصلا بما حصل من منكر.
قوله :( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) يقال لهم ذلك عند الموت أو في جهنم. ومثل هذه المقولة الربانية لهؤلاء الماكرين الكفرة في ذلك الوقت الموئس الرهيب. يضيف إلى عذابهم مزيدا من التنكيل والإيلام.
على أن هذا العقاب الأليم الذي سيحيط بهم لا ريب أنه عدل لا جور فيه البتة ولذلك قال :( وأن الله ليس بظلام للعبيد ).
نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وفنحاص بن عازوراء ووهب بن يهوذا ومالك بن الصيف، فقد أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى هذه الآية١.
وفي إعراب ( الذين ) ثلاثة وجوه، الأول : أنه في محل جر نعت للعبيد.
والثاني : أنه في محل جر بدل من الذين في قوله :( لقد سمع الله قول الذين قالوا ).
والثالث : أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم الذين.
قوله :( إن الله عهد إلينا ) أي أمرنا في التوراة وأوصانا أن لا نؤمن لرسول الله حتى يرينا قربانا، تنزل نار من السماء فتأكله. وقد كانت هذه آية أنبياء بني إسرائيل على زعمهم. وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله. ولو كان ما زعموه صحيحا لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان. والصحيح أن الأمر ما كان كذلك. فقد كانت معجزان موسى عليه السلام عند فرعون أشياء سوى هذا القربان.
قوله :( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ).
وهذا دحض وتكذيب لزعمهم. فقد جاءهم أنبياؤهم بالبينات أي الدلائل الظاهرة والحجج البلجة التي تستلزم منهم التصديق، وجاءوهم أيضا بما طلبوه وهو القربان تأكله النار، لكنهم كذبوهم وقتلوهم. فقد قتلوا زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم من أنبياء الله. وبذلك ما كان هؤلاء القوم جادين فيما طلبوه من أنبيائهم، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التعنت والمكابر والعناد. وهو مقتضى قوله تعالى مستنكرا على هؤلاء قتلهم الأنبياء ( فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ) أي إن كنتم صادقين في زعمكم أن الله عند إليكم أن تؤمنوا بمن أتاكم من رسله بقربان تأكله النار حجة له على نبوته٢.
٢ -تفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٩٥، ١٩٦ وتفسير القرطبي جـ ٥ ص ١٣٠-١٣٢.
والحقيقة الكونية المذهلة أن الناس كافة لا مناص في حقهم من معاينة الموت. فما من إنسان حيثما كان وكيفما كان لا جرم أنه مفض إلى الأجل المحتوم... الموت ! وهذه حقيقة أو نهاية لا مفر منها البتة. فلسوف تفجأ هذه كل الأحياء من البشر سواء فيهم العظماء والحكماء والسلاطين، أو كانوا من الضعاف والمحكومين والعالة، أو كانوا من الصغار أو الكبار أو اليافعين، أو كانوا من المؤمنين والصالحين والأبرار، أو من المضلين والأشقياء والفجار. إنهم جميعا ملاقوا مصيرهم الذي لا يتخلف. مصير الرحيل عن هذه الدنيا إلى حيث المساءلات والمكاشفات والحساب.
وقوله :( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) يُوفى المؤمنون الصالحون أجورهم على ما قدموه من طاعات وأعمال صالحات يوم القيامة وليس في الدنيا. فإنه لا قيمة ولا وزن لكل مكارم الدنيا و درجاتهما وخيراتها. وإنما الأجر الثابت الباقي لهو في الآخرة حيث الخير والفضل والجزاء السرمد، وحيث النعيم المقيم الواصب.
وقوله :( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) زُحزح من الزحزحة وهي التنحية والإبعاد. والزحزحة في الأصل : تكرير الزح، وهو معناه الجذب بعجلة. وزحه، أي نحاه عن موضعه وجذبه في عجلة١.
قوله :( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) المتاع : المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج. وجمعه أمتعة. وبالضم معناه : الدول والسقاء والزاد القليل والبلغة وما يتمتع به. والمقصود بالمتاع هنا : ما ينتفع به الإنسان ثم يزول فلا يبقى٢.
والغرور، بالضم وهو الأباطيل والخداع. وهو جمع ومفرد. الغار بالتشديد، ومعناه الغافل اغتر بالشيء، أي خدع به. غره غرور، أي خدعه. والغرور بالفتح معناه الشيطان٣.
ذلك هو شأن الدنيا كما وصفها الله على أنها متاع الغرور. فهي ما يستمتع به المرء في هذه الحياة القصيرة من لذة وزينة، ما بين طعام يأخذ منه بلغته، أو شراب يحتسيه فيطفئ غلته، أو لباس يحويه فيستر جسده وعورته، إلى غير ذلك من وجوه الملذات والشهوات التي تمضي سراعا والتي تمر مرّ السحاب أو مرّ الزمن بساعاته المتتابعة السريعة. لا جرم أن ذلك هو الغرور، أي الخداع بذاته، الخداع الذي يغتر به الإنسان وهو يطوقه الوهم وإعجابه بنفسه، وتغشى قلبه وفكره سحائب مركومة كثاف من الغفلة والنسيان والاغترار حتى إذا دهمته فاقرة الموت أيقن أن الدنيا سراب وأن كل شيء إلى زوال وتباب.
وبعد ذلك نعرض لجملة أحكام سريعة عن الميت بدءا باحتضاره حتى الدفن في الثرى، فنقول : يستحب أن يلقن الميت المسلم عند الاحتضار شهادة أن لا إله إلا الله ؛ وذلك للخبر : " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله " ٤ لتكون هذه آخر كلامه من الدنيا فيختم له بالشهادة. ويستحب أن يقرأ عنده في هذه الساعة سورة " يس " ؛ وذلك للخبر : " أقرؤوا يس على موتاكم " ٥ فإذا قضي وأسلم الروح لباريها كان على الناس ممن حوله إغماض عينيه، وإعلام الصلحاء من المسلمين بموته. ثم يؤخذ بغسله وهو سنة لجميع المسلمين عدا الشهيد في المعترك فإنه لا يغسل. وقيل : غسل الميت واجب، والأول المشهور.
أما التكفين فهو واجب بغير خلاف. وعلى هذا يكفن الميت من ماله فإن لم يكن له مال قام بتكفين من تلزمه نفقته حال حياته وإلا كفن من بيت المال.
والأصل في وجوب التكفين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية وكذلك كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الأذخر " واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنه لا يغطي رأسه ولا يمس طيبا. وهو قول الشافعية، خلافا للحنفية والمالكية إذ قالوا : المحرم كغير المحرم في تغطية رأسه وتطييبه.
ويستحب الإسراع في المشي مع الجنازة. وصفة الإسراع ما كان فوق السجية قليلا، والعجلة أفضل من الإبطاء. ويكره الإسراع بما يشق على ضعاف الناس ممن يتبعها. وقد سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن صفة المشي مع الجنازة فقال : " أسرعوا بجنائزكم فإنما وهو خير تقدمونه إليه، أو شر تلقونه عن رقابكم " ٦.
أما حكم الصلاة على الجنازة فإنها واجب على الكفاية كالجهاد وصفتها أن يكبر المصلي أربع تكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وهو المشهور من أقوال الفقهاء. وأصل ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم " نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات " ٧.
أما دفن الميت في التراب فهو واجب بالإجماع. ودليل ذلك قوله تعالى :( ألم تجعل الأرض كفانا أحياء وأمواتا ) وقوله تعالى :( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه ).
على أنه يكره تجصيص القبور. وهو قول الشافعية والمالكية خلافا للحنفية فقد أجازوا ذلك، إلى غير ذلك من أحكام الموتى مما يقع تفصيله في مظانه من كتب الفقه٨.
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ٨٦..
٣ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ١٠٤ ومختار الصحاح ص ٤٧١..
٤ - رواه مسلم عن أبي هريرة. انظر بلوغ المرام ص ٩٢..
٥ رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار انظر بلوغ المرام ص ٩٢..
٦ - أخرجه الموطأ بإسناده عن أبي هريرة ص ١٠٩..
٧ -أخرجه الموطأ عن أبي هريرة ص ١١٢..
٨ - بداية المجتهد لابن رشد جـ ١ ص ١٩١ -٢٠٦ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٢٩٨- ٣٠١..
جاء في سبب نزول هذه الآية أن كعب بن الأشرف اليهودي – وكان شاعرا، وكان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود. فأراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يستصلحهم، فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى. فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه و سلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب ) ١.
قوله :( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) اللام للقسم. والنون للتوكيد.
والابتلاء معناه الاختبار والامتحان. والمعنى : لتمتحنن في أموالكم وذلك بتكليفكم بإنفاقها في سبيل الله ووجوه الخير أو بما يصيبها من إتلاف وآفات.
أما الابتلاء في الأنفس، فهو بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والأرزاء.
وقوله :( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ).
يبين الله لرسوله صلى الله عليه و سلم والمسلمين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما ينالهم من أذى أهل الكتاب والمشركين. وفي ذلك ترويض لهم مسبق ؛ كيما يوطنوا أنفسهم فتحتمل البلاء والمصاعب وما تهذي به حناجر المشركين وأهل الكتاب من ضروب التشويه والتحريض والفتنة. فقد كانوا يطعنون في الرسول صلى الله عليه و سلم بكل ما استطاعوا. وقد هجاه كعب بن الأشرف اليهودي، وكان شاعرا وكانوا يحرضون الناس على مخالفته، وكذلك المشركون كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه و سلم ويؤلبون العساكر على محاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته. وذلك هو ديدن الكافرين من المشركين وأهل الكتاب في كل زمان ومكان. فما كان دأبهم على الدوام غير تشويه الإسلام، وتخويف المسلمين، والطعن في عقيدتهم وقرآنهم، والتشكيك في نبوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و سلم وذلك بسائر الأساليب والأسباب القائمة على الافتراء والدجل وفساد الفطرة والضمير.
قوله :( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) الصبر هنا يراد به احتمال المكروه. والتقوى هي الاحتراز عن فعل المعاصي والعزم على إتيان الطاعات. والمعنى أن الصبر والتقوى ( من عزم الأمور ) أي من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها. وعلى هذا فتأويل الآية التحريض على المصابرة على الابتلاء في النفس والمال، والمصابرة على تحمل الأذى والطعن والتجريح بفاسد القول من أعداء الرسالة الإسلامية. فمثل هذه المصابرة وما يشفعها من تقوى ( من عزم الأمور ) أي مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه. والعزم من جملة الحزم أو الاجتهاد والجد في الأمر.
ذلك تنديد بأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد والالتزام أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم ويتبعوه ويمضوا على طريقه ودينه وأن يبينوا للناس صدق رسالة الإسلام وصدق نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وأن لا يكتموا ذلك عن الناس بل يبينوه تبيينا كما وجوده مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، لكنهم كتموا خبر الإسلام عن الناس وكذبوا نبوة محمد صلى الله عليه و سلم. وهو قوله :( فنبذوه وراء ظهورهم ) أي نبذوا الميثاق، من النبذ وهو الإلقاء والطرح ونبذت العهد، أي نقضته. والنبذ وراء الظهر، مبالغة في النقض وعدم الاعتداد.
وقوله :( واشتروا به ثمنا قليلا ) أي أخذوا بدلا عن كتمان الحق وتحريف كتبهم ما أخذوه من عرض خسيس من أعراض الدنيا وحطامها المهين الفاني. فبئس البيع وبئست الصفقة التي ينقض فيها الميثاق وتؤخذ فيها الخسائس من حقارات الدنيا ولعاعاتها الدائرة عوضا عن دين الله وعن كشف الحقيقة للناس. وهو تأويل قوله :( فبئس ما يشترون ).
على أن هذا التنديد بالمكذبين الكاتمين من أحبار يهود الذين أخفوا عن الناس ما وجدوه في كتابهم من تنويه بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه و سلم، ينسحب بالضرورة على العلماء في كل ملة من ملل السماء. أولئك الذين يخفون ما علموا عن الناس طمعا في جاه رخيص أو حظوة هابطة مهينة يتزلفون من أجلها لدى أعتبة الحكام والسلاطين، بل على العلماء – ومنهم المسلمون خاصة- أن يجهروا بالدعوة إلى الله وأن يصدعوا بالحق ليعلنوا للبشرية في كل الآفاق وفي سائر أنحاء الدنيا أن الإسلام حق وأن فيه البلسم الشافي لكل المجتمعات ومن كل المعضلات الإنسانية، النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية وغير ذلك من مختلف القضايا. وإذا لم يضطلع علماء الإسلام بهذه الوجيبة العظيمة فلسوف يبوءون بعذاب الله والمساءلة العسيرة يوم الحساب حيث الخزي والافتضاح والمهانة لكل المنافقين الخائرين الذين باعوا دينهم بدنياهم. وفي هذا أخرج أحمد في مسنده وآخرون من أصحاب السنن وكذا الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " ١.
وروى البخاري أيضا عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا قام رسول الله صلى الله عليه و سلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلت الآية ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أني حمدوا بما لم يفعلوا ) اسم الموصول ( الذين ) في محل نصب مفعول به أول. والمفعول الثاني :( بمفازة ) والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه و سلم والمعنى المقصود : لا تحسبن يا محمد أولئك الماكرين والمنافقين الخبثاء الذين يفرحون بما فعلوه من تدليس وكتم للحق ليخفوه عن الناس، والذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الوفاء والصدق وإظهار الحق ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) وهو تأكيد. والمعنى لا تحسبنهم ( بمفازة ) أي بمنجاة من العذاب. أي فائزين بالنجاة منه، بل إن لهم العذاب الأليم ؛ لسوء طبعهم وفساد قلوبهم وأخلاقهم إذ يأتون بالفعل الذي لا ينبغي ويفرحون به ثم يحبون من الناس الإطراء والثناء فيصفون بسداد السيرة والاستقامة.
ذلك نداء رباني مجلجل يحرض الله فيه الإنسان على حسن التفكر وإدامة التملي والنظر في مركبات هذا الكون الهائل المديد. الكون الشاسع المخوف الذي يستوقف الذهن والحس ويشده البال والنفس، ويهتف بالفطرة لتظل رهيفة مستجاشة لا جرم أن الكون الهائل المذهل حافل بعجائب الأشياء والخلائق، ومترع بغرائب الدقائق والحقائق. فلا يبرح المرء وهو يديم النظر والتبصر والتفكر حتى تأخذه غمرة غاشية مثيرة من الدهش الذي يخلب اللب خلبا. وما سيتزيد المرء من ساعات التدبر والادكار في صفحات هذا الكون المريع حتى تتعاظم في أطوائه العقلية والروحية حقيقة اليقين الجازم على أن الله حق وأنه جل في علاه خالق كل شيء.
وهذه حقيقة مكينة وراسخة في أذهان أولي العقول البصيرة المستنيرة، وهم يتدبرون ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ما بين شموس وأقمار ونجوم ضخام ثوابت، أو كواكب دائرة سيارة تمضي في أفلاكها ومداراتها دورانا منتظما رتيبا من غير خلل ولا تخلف ولا اضطراب. وما بين أجرام كونية عظام تعدل من أحجام الأرض والشمس والقمر ملايين المرات، فضلا عن أنواع الأجرام الكاثرة المتناثرة في هضم هذا الكون الذي لا تعي مداه أو اتساعه مدارك البشر. وفوق ذلك كله هذا الناموس الإلهي الراسخ المطرد الذي يضرب في أغوار الخليقة برمتها سواء في ذلك الأرض والسماء. الناموس الإلهي الذي تسير بمقتضاه الحياة والكائنات والخلائق والأجرام على غاية من التوازن والانسجام والإحكام. فلا خلل أو تعثر أو فوضى. ولا اضطراب أو اختلاف أو تفاوت، وإنما هو النظام الرباني الثابت المتسق الذي تأخذه بموجبه عجلة الحياة والكائنات في المسير والحركة على أتم صورة وأكمل نظام. وذلكم هو الناموس أو القانون الذي يقوم عليه بنيان السماوات والأرض.
وذلك كله يسترعي الثلة الواعية البصيرة من البشر ليتدبروا ما خلق الله. فقال سبحانه :( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) : وقوله ( واختلاف الليل والنهار ) أي تعاقبهما، إذ يأتي الواحد منهما عقب الآخر، وكذلك تقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر الآخر، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا. وهو قول ابن كثير رحمه الله.
وقوله :( لآيات لأولي الألباب ) أي أن في ذلك دلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وعلى كمال علمه وقدرته. إن ذلكم الله الحق المبدع المقتدر الحكيم.
وقوله :( قياما وقعودا ) منصوب على الحال. وكذلك قوله :( وعلى جنوبهم ) في محل نصب على الحال عطفا على ما قبله. والمعنى أنهم يذكرون الله دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين. فهم في كل الحالات يذكرون جلال الله وعظمته وسلطانه. فلا تبرح الذكرى عقولهم وقلوبهم لتظل مشدودة إلى بارئ الكون ومبدع الخلق والخلائق لا يأتي عليها نسيان أو غفلة. وفي الخبر : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ".
وقيل : المراد الصلاة على الهيئات الثلاث ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) وذلك بحسب الطاقة والإمكان كيلا يضيع المسلم الصلاة في أي حال من الأحوال، فكيفما تكن حاله من العافية أو المرض تجب في حقه الصلاة على الهيئة التي يستطيع أن يؤدي الصلاة فيها سواء كان قائما أو قاعدا أو على الجنب أو مستلقيا، فقد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فأن لم تستطع فعلى الجنب " ١.
وعلى هذا فإن المسلم يؤدي الصلاة قائما، فإن لم يستطع أداها قاعدا، فإن لم يستطع أداها على الجنب.
وثمة خلاف في كيفية صلاة المريض، مع التذكير بإجماع العلماء على أن المريض مخاطب بأداء الصلاة، لكنه إذا لم يستطع القيام سقط عنه فرضه- أي فرض القيام- وكذلك يسقط عنه فرض الركوع والسجود إذا لم يستطعهما أو أحدهما ويومئ مكانهما إيماء. أي إشارة بحاجب أو يد أو نحو ذلك.
والذي يصلي جالسا هو الذي يشق عليه القيام بسبب المرض. وهو مذهب مالك. وقيل : لا يصلي جالسا إلا الذي لا يستطيع القيام أصلا.
أما صفة صلة الذي لا يقدر على القيام ولا القعود فإنه يصلي على الجنب مضطجعا ووجهه إلى القبلة وهو قول الشافعي، وقد احتج بظاهر الآية ( وعلى جنوبهم ) فقد مدح الله من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب مادام غير مستطيع القيام أو القعود.
وقيل : إذا لم يستطع على جنبه صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة.
وهو قول مالك وأبي حنيفة٢ إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بصفة الصلاة عند عدم التمكن من القيام أو القعود.
قوله :( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) هذه عبارة أخرى تناط بأولي الألباب. وهي عبادة التفكر في خلق الله. والتفكر من الفكر وهو إعمال النظر في الشيء٣.
والكلام هنا عن أولي الألباب، وهم أولوا العقول النيرة والبصائر الواعية والأذهان المنبسطة التي تمتد لتبلغ الآفاق في سائر أنحاء العالمين لنقف على كثير من الحقائق والعلوم. ولتطلع على ما لا يدركه القاصرون والجهلة من أولي العقول الصفيق.
الله جل جلاله يمتدح الفئة المؤمنة الواعية من الذين يتفكرون في خلائق الله والذين يلجون ببصائرهم في ملكوت السماوات والأرض بما يثير فيهم حاسية الإيمان بخالق كل شيء وبقدرته البالغة المطلقة التي تكشف عن كمال الله وعن روعة الصانع المتعال.
والإنسان السوي ذو اللب إنما يناط به التفكير في خلق الله ليصل بالضرورة وفي اذكار مطرد إلى أن الله هو الخالق المبدع. ومن العبث الخاسر أن يذر الإنسان هذه الخلائق من مركبات هذا الكون العجيب ليتجاوز مداه المحدود ومقدوره القاصر فيتفكر في ذات الله. إن ذلك لهو الخطل الفادح الذي تتعثر فيه تصورات كثير من الواهمين والمغترين. وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه و سلم : " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره " وهو مروي عن ابن عباس٤.
وقال صلى الله عليه و سلم :" تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا " وهو مروي عن أبي ذر " ٥.
وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال محذرا الناس أني تفكروا في ذات الله بل في خلقه : " تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله " ٦ فذلك نهي واضح عن التفكير في ذات الله جلت قدرته. فإن التفكر في ذات الله ضرب من العبث والضلال والمكابرة ؛ لأن الإنسان بفطرته الأساسية الراسخة غير مخول ولا مقتدر على التفكر في حقيقة الله سبحانه. فإن الله في حقيقته وذاته فوق كل طاقات البشر، بل إنه فوق الكون والكائنات كافة، وفوق كل مقدور ومستطاع. فلا يقوى الإنسان مهما جهد في النظر على أن يجاوز الخلق ليتطاول في النظر فيفكر في ذات الله. لا جرم أن ذلك من صفاقات الذهن الشاطح التائه الذي ركب صاحبه متن الغرور والضلالة حتى ما يلبث بعد ذلك أن يهوي في الأذلين أو يوغل في الغواية والتردد والارتياب. وذلكم لسوف يفضي في الغالب إلى التخسير والتباب.
وقوله :( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) ( هذا )، إشارة إلى المتفكر فيه وهو الخلق والمراد به السماوات والأرض ويعرب ( باطلا ) على ثلاثة وجوه، الأول : مفعول لأجله منصوب.
الثاني : منصوب على الحال من ( هذا ).
الثالث : نعت لمصدر محذوف، أي خلقا باطلا، والباطل، ضد الحق، ومعناه الزائل الذاهب٧ والمعنى أن هؤلاء المتفكرين في خلق السماوات والأرض يقرون بعد يقينهم وإدكارهم أن الله ما خلق هذا الخلق العجيب ( باطلا ) أي عبثا وهزلا، بل خلقه ليحمل الأذهان والقلوب على التصديق والتثبت واليقين بوجود الله الأحد المتعال.
قوله :( سبحانك فقنا عذاب النار ) ( سبحانك )، اسم مصدر أقيم مقام المصدر. وذلك تنزيه لله تعالى عن أن يخلق شيئا باطلا، فالله جل وعلا منزه عن النقائص والعيوب والعبث. وهو وحده المرجو والمقصود أن يدرأ عنا عذاب النار.
٢ - بداية المجتهد جـ ١ ص ١٥٢ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٣١٢ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١٤٠..
٣ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ١١٥..
٤ - أنظر الجامع السغير للسيوطي جـ ١ ص ٥١٤..
٥ - نفسه..
٦ - رواه الطبري في الأوسط وكذا البيهقي عن ابن عمر. انظر الجامع الصغير للسيوطي جـ ١ ص ٥١٤.
٧ - البيان للأنباري جـ ١ ص ٢٣٥، وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١٤٣ والقاموس المحيط جـ ٣ ص ٣٤٥..
المنادي الذي ذكره الله هنا هو الرسول صلى الله عليه و سلم. وهو قول أكثر المفسرين ويؤيد ذلك من الكتاب مثل قوله تعالى :( ادع إلى سبيل ربك ) وقوله :( وداعيا إلى الله بإذنه ).
وقيل : المراد به القرآن فليس كل الناس قد سمع الرسول صلى الله عليه و سلم، أما القرآن فقد سمعه كل أحد وفهمه. ودليل ذلك ما أخبره الله تعالى عن مؤمني الجن إذ قالوا :( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ) والجملة الفعلية من قول :( ينادي للإيمان ) في محل نصب صفة للمنادي. وقوله :( للإيمان ) يعني إلى الإيمان.
وتأويل الآية هو : ربنا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو التصديق بك والإقرار بوحدانيتك ونبذ الشرك والشركاء واتباع رسولك الأمين وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه ( فآمنا ) أي فصدقناه واستجبنا له واتبعناه.
قوله :( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ) الغفر والكفر ( بفتح الكاف ) بمعنى واحد. وأعيد ذكر الثاني بعد الأول في الآية على سبيل المبالغة والإلحاح في الدعاء، فإن الله يحب العبد اللحاح في الدعاء.
والمعنى : يا ربنا استر علينا خطايانا ومعاصينا ولا تفضحنا بها على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، بل امحها بفضلك ورحمتك.
قوله :( وتوفنا مع الأبرار ) ( الأبرار ) جمع ومفرده : بار، وبر، بالفتح. والبر بالكسر معناه الخير والفضل والطاعة. ورجل بار، أي صادق أو تقي، وهو خلاف الفاجر. ١ والمعنى : توفنا يا ربنا معدودين في جملة الأبرار كالنبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وقيل : توفنا على مثل أعمالهم حتى نكون في درجاتهم يوم القيامة.
قوله :( ولا تخزنا يوم القيامة ) والخزي معناه الذل والمهانة والفضيحة وذلك تضرع من المؤمنين لله العلي القدير أن يدرأ عنهم الخزي يوم القيامة فيبعثهم غير خزايا ولا مفضوحين.
وقوله :( إنك لا تخلف الميعاد ) سألوا ربهم وهم يعلمون أنه لا يخلف الميعاد. وكان ذلك منهم على سبيل العبادة والدعاء. فإن الدعاء مستحب، بل إنه مخ العبادة.
روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله ! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله ( فاستجاب لهم ربهم ) الآية١. والفاء في قوله :( فاستجاب ) تفيد التعقيب.
والمعنى أن الله قد استجاب للمؤمنين المخبتين بعد ما دعوه وتضرعوا إليه وسألوه ما سألوه من الغفران والستر على الذنوب، والتوفي مع الأبرار، وأن يؤتيهم ما وعدهم به من الفضل والثواب، وأن لا يخزيهم يوم القيامة- استجاب الله لهم أنه لا يضيع ثواب عمل لأحد سواء كان ذكرا أو أنثى. فإنه لا تفاوت بين ذكر وأنثى في الأجر والثواب على العمل، والاستجابة لأدعية الداعين ما داموا مؤمنين مستمسكين بدين الله. ولا وزن في ذلك لاعتبارات البشر من الحسب والنسب والمال وغير ذلك. ويؤكد ذلك قوله سبحانه :( بعضكم من بعض ) حرف الجر ( من ) بمعنى الكاف. أي بعضكم كبعض، أو مثل بعض في الثواب على الطاعة على المعصية. فأصلكم واحد فالذكر من الأنثى والأنثى من الذكر. أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. وعلى هذا رجالكم مثل نسائكم في الأحكام والنصرة والدين. وليس من مجال بعد ذلك للتفاوت أو التفضيل بين ذكوركم وإناثكم.
قوله :( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأودوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ).
ذلك إطراء من الله للذين هجروا وطنهم مكة فارين إلى الله بدينهم، راحلين من دار الفتنة حيث التعذيب والإذلال والصدر عن دين الله، بعد أن أخرجهم الظالمون من أرضهم حيث الأهل والأحباب والخلان والأقارب، وبعد أن آذوهم بالقهر والتنكيل وكل ألوان الأذى، وذلك كله في طاعة الله. أو بسبب إيمانهم بالله إيمانا حقيقيا صادقا بعيدا عن الشرك والأوثان وسفاهة الجاهلية وضلالاتها. وهو مقتضى قوله :( في سبيلي ).
وقوله :( وقاتلوا وقتلوا ) وذلك ضرب من ضروب الطاعة لله، وهو أن ينبري المؤمنون الأوائل لقتال الكافرين الظالمين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويتصدون للمسلمين بالقهر والتنكيل والفتنة ليحرفوهم عن دينهم إن استطاعوا، فلا مناص إذن من قتال هؤلاء الظالمين الفجار. لا جرم أن قتالهم من جليل الأعمال وخيرها. وقد كان ذلك شأن المسلمين الأوائل لدى المهاجرة من مكة فقد قاتلوا المشركين المعتدين وبعضهم قتل فكتبت له الشهادة.
قوله :( لأكفرن عنهم سيئاتهم ) أي لأسترنها عليهم فلا أفضحهم بها يوم القيامة. وفوق ذلك يدخلون الجنة ومن حولها الأنهار الجارية السائحة، ليجدوا هنالك من الخير والنعيم ما لم يطرأ لهم على بال ؛ ولذلك قال :( ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ).
قوله :( ثوابا من عند الله ) ( ثوابا )، مصدر مؤكد لما قبله، لأن قوله :( ولأدخلنهم جنات ) يعني لأثيبنهم ثوابا. أي إثابة أو تثويبا من عند الله. وقيل : منصوب على التمييز. وقيل غير ذلك٢.
قوله :( والله عنده حسن الثواب ) أي حسن الجزاء الذي يستحقه العامل بعمله الصالح
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ٢٣٧..
نزلت هذه الآية في مشركي مكة. وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله يتنعمون فيما نرى من الخير، ونحن قد هلكنا من الجوع والجهد، فنزل قوله تعالى :( لا يغرنك تقلب الذين كفروا ) ( يغرنك )، من التغرير والغرور وهو الخداع، اغتر بالشيء خدع به، وغرته الدنيا غرورا أي خدعته١. والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه و سلم أول كل أحد من المكلفين والمراد بالتقلب تصرف هؤلاء المشركين المفسدين في أصناف الأموال والتجارات والثمرات.
والمعنى هو : لا تغتر بظاهر ما تراه من تبسيط هؤلاء المشركين في مكاسبهم وأموالهم وتجاراتهم وما يتمتعون به من خيرات وأرزاق وثمرات. لا تنظر إلى كل هاتيك الحظوظ من مباهج الدنيا وزينتها وما يتراءى لك من ألوان المتعة والسرور. فإن ذلك كله ( متاع قليل )
قوله :( ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) ما يلبث هؤلاء المشركون المغترون يتمتعون بمنافع الدنيا الفانية ويتقلبون في نعيمها ولذاتها وشهواتها حتى تفجأهم داهية الموت فيبوءوا بالخسران العظيم، إذ يفضون إلى جهنم، فئس ما مهدوه لأنفسهم من سوء الفراش حيث النار المستعرة تحيط بهم وتطبق عليهم وتصلي جلودهم وأبدانهم صليا.
قوله :( خالدين فيها نزلا من عند الله ) ( خالدين )، منصوب على الحال. و ( نزلا ) منصوب على المصدر المؤكد، والتقدير : انزلوها نزلا. وقيل : منصوب على الحال من جنات. ٢
ويراد بالنزل، ما يهيأ للنزيل من طعام وشراب وإتحاف. والنزيل أو النازل بمعنى الضيف. خير للأبرار- وهم المؤمنون الأتقياء- مما يجمعه الفجار ويتقلبون فيه من المتاع الدنيوي القليل الزائل.
٢ - تفسير البيضاوي ص ١٠١ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٢٣٨..
وقيل : نزلت في مسلمة أهل الكتاب. وهم فريق من اليهود والنصارى آمنوا بالله وحده لا شريك له، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه و سلم وبما أنزل إليه وهو الكتاب الحكيم، وآمنوا بما أنزل على المرسلين السابقين من الكتب وهي التوراة والإنجيل والزبور. هذا الفريق من أهل الكتاب آمنوا إيمانا صحيحا وصدقوا نبوة محمد صلى الله عليه و سلم فكانوا في زمرة المؤمنين الصادقين الأبرار.
وقوله :( خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) ( خاشعين ) منصوب على الحال من فاعل يؤمكن. والمعنى أنهم خاضعون لله بالطاعة مستكينين لها بها متذللين.
وقوله :( لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) أي لا يحرفون ما في كتبهم من ذكر محمد صلى الله عليه و سلم ونعته فلا يكتمون خبره الذي جاءت به كتبهم طمعا في كسب مهين خسيس يعطونه على ذلك التحريف والكتمان كما فعله أكثر أهل الكتاب من اليهود والنصارى إذ كذبوا نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وكتموا ما جاءت به كتبهم من ذكر وتصديق للنبي الخاتم صلى الله عليه و سلم.
قوله :( أولئك لهم أجرهم عند ربهم ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب الذين جهروا بما جاء في كتبهم عن نبوة محمد صلى الله عليه و سلم، لهم عوض إيمانهم وتصديقهم وطاعتهم لله ورسوله خير الجزاء يصيرون إليه يوم القيامة.
قوله :( إن الله سريع الحساب ) أي أن ما أعده الله لهؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب من الجزاء العظيم الموعود لهو سريع الوصول إليهم ؛ لأن سرعة الحساب تقتضي سرعة الجزاء، والله جل وعلا غني عن التأمل والنظر، بل إن علمه نافذ في كل شيء.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٩٣ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ١٤٦..
ويأمرهم الله أيضا أن يصابروا أعداء دينه في الجهاد، أي يغالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ولا يكونون أقل صبرا وثباتا منهم. والمصابرة باب من الصبر، وقد ذكر بعض الصبر تخصيصا لشدته وصعوبته. قال الحسن البصري في ذلك : أن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم.
ويأمروهم أيضا أن يرابطوا. والمرابطة الإقامة في الثغور، أو هي مرابطة الغزو في نحر العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين١.
وثمة أخبار في الترغيب في المرابطة منها ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " ٢ وروى الإمام أحمد عن أبي ريحانة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " حرمت النار على عين دمعت- أو بكت- خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " ٣.
وقيل في معنى الرابط أو المرابطة : انتظار الصلاة بعد الصلاة. وهو قول ابن عباس وآخرين. واحتجوا بالخبر من رواية مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط٤.
وقوله :( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) أي خافوه واحذروا مخالفة أمره فاجتنبوا القبائح والمنكرات لكي تفوزوا برضوانه وجناته٥.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٤٥..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٤٧..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٤٤..
٥ - تفسير البيضاوي ص ١٠٠، ١٠١ وتفسير الطبري جـ ٤ ص ١٤٥- ١٤٩ وتفسير الرازي جـ ٩ ص ١٣٧- ١٦١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٤٣٧-٤٤٧ والكشاف جـ ١ ص ٤٨٧- ٤٩١ وفتح القدير جـ ١ ص ٤١٠ -٤١٥ وتفسير القرطبي جـ ٤ ص ٣١٠-٣٢٦ والبيان للأنباري جـ ١ ص ٢٣٧- ٢٣٩..