هذه السورة مكية كلها، وفيها من جليل المعاني والأمثال وألوان التذكير والتحذير والعبر ما فيه للناس من بالغ المزدجر وما به ينبهر أولو النُُّهى ويزداد به النابهون الذاكرون يقينا بأن هذا القرآن معجز وأنه منزّل من لدن حكيم خبير مقتدر.
وتعْرضُ هذه السورة لفيض من الحقائق والمشاهد والعبر المختلفة التي تلتئم فيما بينها وتنسجم لتتكون من مجموعها هذه السورة المباركة الفضلى وهي سورة تفيض بالبركة والعظة والنور، وفيها من بالغ المواعظ ما يمسُّ الحس والوجدان أوقع حس.
وفي بركة هذه السورة وعظيم شأنها أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ يس في ليلة، أصبح مغفورا له " وروى الإمام أحمد عن معقل بن يسار ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوها على موتاكم " يعني يس. والمراد قراءتها عند الاحتضار تسهيلا لخروج الروح ؛ ولهذا قال بعض العلماء : إن من خصائص سورة يس أن لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسَّره الله تعالى ؛ وذلك لأن قراءتها عند الميت تتنزل بها الرحمة والبركة، فيسهل عليه خروج الروح.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ يس ( ١ ) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٣ ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٤ ) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( ٥ ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( ٦ ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾.اختلفوا في المراد بقوله :﴿ يس ﴾ على عدة أقوال منها : أن هذا قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله تعالى. ومنها : أن ﴿ يس ﴾ يعني : يا إنسان بلسان الحبشة، أو يا رجل. ومنها : أنه كنّى به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : يا ياسين. أي يا سيد. ومنها : أنه اسم من أسماء القرآن. ومنها : أنه مفتاح كلام افتتح الله به كلامه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قال الإمام الطبري رحمه الله في ذلك : والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ، فمصيب الصواب.
والمعنى : أن هذا الصراط المستقيم، وهو دين الله المتين ومنهجه الحق للعالمين الذي جاءك يا محمد، لهو تنزيل من الله ﴿ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ أي القوي المنتقم من العصاة والظالمين، الرءوف بالتائبين المنيبين.
وقوله :﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي كانوا أهل فترة لم يأتهم فيها رسول فكانوا في غفلة عن الهدى وملة التوحيد، وكانوا سادرين في الشرك والضلال.
الأغلال جمع غل بالضم وهو الطوق من الحديد في العنق١ فالأغلال بمعنى القيود والأصفاد. والأذقان جمع ذقن وهي مجمع اللحيين. و ﴿ مُقْمَحُونَ ﴾، جمع مقمح من الإقماح وهو رفع الرأس وغض البصر. أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه٢، والمعنى : أن هؤلاء الضالين المشركين الذين ختم الله على قلوبهم مبعدون من الإيمان والرحمة مغلولون عن كل خير فهم كمن جُعل في عنقه غُل فجُمعت به يداه في عنقه تحت ذقنه فصار رأسه مُقحما أي مرتفعا. وهذا مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين المكذبين، في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول من بسط يديه بخير.
٢ مختار الصحاح ص ٥٥٠.
قوله :﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾ يعني أغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة فلا ترى شيئا. أو ألبسنا أبصارهم غشاوة كيلا يروا.
وقيل : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف يراصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه. فخرج عليهم الصلاة والسلام وهو يقرأ ﴿ يس ﴾ وفي يده تراب فرماهم به وقرأ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ﴾ فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام.
وذكر محمد بن إسحق في السيرة عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن. وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دون فجعل يذرّها على رؤوسهم ويقرأ ﴿ يس ( ١ ) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ﴾ حتى انتهى إلى قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾ وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدا. قال : وقد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب.
قوله :﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ أي بشر هؤلاء المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب بأن الله غافر لهم ذنوبهم فساترها وأنه مجزيهم حسن الثواب من في الآخرة.
أما قوله :﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ أي أن الله يحصي عليهم أعمالهم من خير أو شر فيكتبها جميعا.
أما قوله :﴿ وَآَثَارَهُمْ ﴾ أي آثار خطاهم بأرجلهم ؛ فقد روي عن أبي سعد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ ﴾ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن آثاركم تكتب فلم تنتقلون ؟ " ١
وقيل : تكتب لهم أعمالهم بأنفسهم، وما ترتب عليها من آثار بقيت من بعدهم ؛ فإن الله مجازيهم عنها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : " من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن يُنقَصَ من أوزارهم شيء ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم اقطع عمله من ثلاث : من علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده ".
قوله :﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ﴿ وَكُلَّ ﴾، منصوب بفعل مضمر دلَّ عليه الفعل بعده ﴿ أحْصَيْنَاهُ ﴾ والتقدير : وأحصينا كل شيء أحصيناه. والإمام المبين ههنا يراد به أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وفيه علم الله وعلمه محيط بكل شيء. فما من كائن ولا حدث إلا علمه مسطور في هذا الكتاب. وقيل : المراد بالإمام هنا صحائف الأعمال. وذلك هو كتاب أعمالهم يشهد عليهم بما عملوه من خير أو شر٢.
٢ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٠-١٣ وتفسير الرازي ج ٢٦ ص ٤٦ والكشاف ج ٣ ص ٣١٦ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٩٩-١٠٠.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
قوله :﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ قالوا لهم متوعدين : لئن لم تكفوا عن مقالتكم وعن دينكم الذي جئتمونا به لنقتلنكم أو لنشتمنكم أو لنطردنكم. والرجم في اللغة معناه القتل والقذف والظن والغيب واللعن والشتم والطرد والرمي بالحجارة فقد هددوهم بقتلهم رجما بالحجارة أو بضربهم بها، أو بطردهم وشتمهم أو غير ذلك من احتمالات الرجم.
قوله :﴿ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أرادوا بالعذاب الأليم التحريق في النار وهو أشد العذاب.
٢ القاموس المحيط ص ١٤٣٥
.
قوله :﴿ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ﴾ الهمزة الأولى للاستفهام. والثانية همزة ( إن ) الشرطية. يعني : أئن دعيتم إلى الإسلام، ووعظتم بما في منجاتكم وسعادتكم تطيرتم وتوعدتم. وهذا جواب الشرط المقدر.
قوله :﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ بل أنتم متجاوزون الحد في ضلالكم وعصيانكم. ومن هنا أتاكم الشؤم وليس من قبل رسل الله الذين يدعونكم إلى السعادة والسداد والنجاة١.
ذكر أهل القرية وهي أنطاكية قد همّوا بقتل الرسل الثلاثة فجاءهم رجل مؤمن من أقصى مواضع المدينة ﴿ يسعى ﴾ أي يعدو عدوا ويسرع الخُطا حرصا على هداية قومه ولكي يذب عن أنبياء الله ويدفع عنهم الأذى والشر.
وما ينبغي الإعباء كثيرا بمعرفة من هو هذا الرجل وما هو اسمه ؛ فقد ذكره الله بصيغة التنكير منونا، وذلك للتعظيم. فكفى بذكره على أنه رجل مؤمن غيور على دين الله وعلى أنبيائه. إذا فزع فزعا مما سمعه أو علم به من تمالؤ قومه على رسل الله فخفَّ مسرعا لاستنقاذهم ولنصح قومه بتصديقهم وعدم إيذائهم. وهو قوله تعالى :﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( ٢٠ ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾.
قوله :﴿ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ﴾ أي ما تعبدون من آلهة مزعومة فإنها قاصرة عن كل شيء، وهي لا تنفع ولا تضر. ولئن أرادكم الله بضُر فإن آلهتكم هذه لا تغنيكم من عذاب الله شيئا، إذ لا تملك أن تؤدي لكم نفعا أو تدرأ عنكم شيئا منن العذاب إن حلَّ بكم ﴿ وَلا يُنْقِذُونِ ﴾ أي لا تستطيع أصنامكم وآلهتكم الموهومة أن تستنقذكم مما يحيق بكم من البلاء.
لقد طغى الظالمون المجرمون من أهل أنطاكية فقتلوا ولي الله الذي نصح لهم ودعاهم إلى عقيدة التوحيد مبتغيا بذلك سعادتهم ونجاتهم وصلاح حالهم. قتلوه رحمه الله فكان جزاؤه عند الله عظيما ؛ إذ أدخله الجنة وهو قوله تعالى له :﴿ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ﴾ فلما عاين نعيمها وما فيها من أوجه الخير والرخاء والهناء والسعادة قال ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾.
وذلك يشير إلى مبلغ إخلاص هذا المؤمن وحسن سيرته وقصده ؛ إذ تمنى لهم الهداية والنجاة بعد قتلهم له، والتحاقه بالرفيق الأعلى، مثل تمنيه لهم في الدنيا من الإيمان والطاعة والاستقامة. وذلك هو شأن المؤمنين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام ؛ فإنهم يبتغون للبشرية الهداية والتوفيق والسعادة في الدارين ويتمنون لهم كل وجوه الخير والسلامة والنجاة، لا يبتغون بذلك من أحد ثناءً ولا شكورا إلا الجزاء الكريم من الله.
والتحسير معناه : الإيقاع في الحسرة١. وحسرة منصوبة على المصدر، والمنادى محذوف، وتقديره : يا هؤلاء تحسَّروا حسرة٢ وهذا نداء للحسرة على هؤلاء الظالمين الخاسرين فهم كأنهم أحقّاءُ بأن يَتَحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهّف عليهم المتلهفون لما يصيرون إليه من شديد الوبال وسوء المآل.
قوله :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ الظالمون الخاسرون أحقاء بالتحسُّر عليهم بما ضيعوا من أمر الله وبما فرَّطوا في جنبه. ويدل على تقصيرهم الشديد، وتفريطهم البالغ أنهم ما كان يأتيهم من رسول يدعوهم إلى الهدى إلا سخروا منه وأذوه وكادوا له أشد الكيد.
٢ الدر المصون ج ٩ ص ٢٥٩.
والمعنى : ألم ير هؤلاء المشركون كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. فقد زعم كثير من جهلة العرب المشركين أنهم راجعون إلى الدنيا. فردَّ الله مقالتهم وافتراءهم بهذه الآية ليبين لهم أنهم ليس لهم أيما كرَّةٍ أو رجعة إلى هذه الدنيا، وإنما هم راجعون إلى الله يوم القيامة حيث الحساب والجزاء.
والمعنى : ما كلٌّ إلا جميع لدينا محضرون. أي : محشورون مجموعون للحساب.
﴿ وََآَيَةٌ ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ لهم ﴾ ويجوز أن تكون ﴿ وآية ﴾ مبتدأ، و ﴿ لهم ﴾ صفتها. وخبرها ﴿ الأرض ﴾ والآية بمعنى : الدلالة. فتلك دلالة لهم على وجود الصانع جل جلاله، وعلى قدرته العظيمة وأنه محيي الموتى. وهي ﴿ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ﴾ الأرض اليابسة القفر يأتيها المطر من السماء فتسري فيها الحياة بإنبات النبات على اختلاف أصنافه.
قوله :﴿ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ : أخرج الله من النبات حبّا مختلف الأنواع والألوان والطعوم، ليكون ذلك رزقا لهم فمنه يأكلون، وتأكل منه أنعامهم.
قوله :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ ما : اسم موصول ؛ أي ومن الذي عملته أيديهم من الغرس والحصاد والقطاف والمعاجلة.
وقيل : ما، هنا نافية ؛ أي : لم يعملوه هم، بل الفاعل له هو الله تعالى١.
قوله :﴿ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ ذلك تحضيض لهم من الله تعالى على شكر أنعُمه.
والمعنى : فهلا يشكرون الله على ما امتنَّ به عليهم من هذه النعم الكثيرة المختلفة التي تزجي بالدليل الظاهر الساطع على أن الله حق وأنه خالق كل شيء ؟
قوله :﴿ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : وخلق الله من أصناف الخلائق والأحياء ما لم تطّلعوا عليه ولم تتوصلوا إلى معرفته مما يستكنّ في جوف الأرض وفي أعماق البحار. ١
هذه جملة بينات كبريات، ودلائل عظيمات على وجود الصانع العليم المقتدر. وهي آيات من الكون والطبيعة تزجي بالبرهان المستبين على أن الله حق، وأنه موجد الوجود وصانع الأشياء جميعا. يتجلّى ذلك في هذه الآيات القليلة ذات النظْم الرصين المعجز في عظيم إيقاعه وبالغ تأثيره، وفي مضمونه العجيب مما انطوى عليه من حقائق كونية ما كانت تتصوره الأذهان الماضية ولا كانت تحلم به الأمم الخالية. لكن القرآن سبق الأجيال والأدهار والأذهان وسائر التصورات في التنبيه على مثل هذه الحقائق العظيمة المركوزة في سن هذا الكون الحافل المنتظم، الكون المعمور الرتيب. لا جرم أن القرآن معجز، وأنه من لدن إله قادر حكيم.
قوله :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾ ﴿ نَسْلَخُ ﴾، استعارة بديعة ؛ شبَّه فيها انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد عن الشاة١، والسلخ معناه الكشط والنزع. سلخ الله الليل من النهار ؛ أي استله فانسلخ. ٢
والمعنى : وعلامة لهم على عظمة الصانع الحكيم، أنه يخرج النهار من الليل إخراجا حتى لا يبقى مع شيء من ضوء النهار. وذلك كبيت بسراج فإذا غاب السراج أو انطفأ أظلم البيت.
وقوله :﴿ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ﴾ أي : داخلون في الظلام. نقول : أعتمنا وأسحرنا، يعني دخلنا في العتمة وفي السَّحَر.
٢ القاموس المحيط ص ٣٢٣.
قوله :﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ الإشارة بذلك عائدة إلى جري الشمس ؛ أي ذلك الجري على ذلك التقدير المحكم والحساب الدقيق، المنضبط الذي لا يتخلف ولا يتبدل ﴿ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ ﴿ العزيز ﴾، أي القوي القاهر الذي يغلب بقدرته كل شيء. وهو سبحانه محيط علمه بكل شيء.
٢ القاموس المحيط ص ١١٧١ والدر المصون ج ٩ ص ٢٧١.
قوله :﴿ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ لا يسبق الليلُ النهارَ. ويُفهم من ذلك أن الليل مسبوق وليس سابقا. وقيل المراد من الليل هنا سلطان الليل وهو القمر وهو لا يستبق الشمس بالحركة اليومية السريعة، ويُفهم أيضا أنه لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ. فهما مسخران، دائبين إلى قيام الساعة وحينئذ تفضي الكائنات والأجرام وسائر الخلائق إلى نهايتها المحتومة وهي الفناء والانهيار أو الانقلاب الكوني الشامل.
قوله :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ ﴿ وكلّ ﴾، أي وكلهم. والتنوين عوض المضاف إليه. والضمير للشموس والأقمار. فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا في الذات. أو للكواكب، أو الليل والنهار والشمس والقمر، فكلهم ﴿ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ أي يسيرون أو يدورون في فلك السماء. وهو مدار النجوم وجمعه أفلاك. والفلك من كل شيء : مستداره ومعظمه. وتفلَّكَ أي استدار. ومنه فَلْكةُ المغزل١ قال ابن عباس وغيره من السلف : كل يدور في فلِكةٍ كفلكة المغزل٢.
هذه دلائل ظاهرة وآيات بينات تشهد بأن هذا القرآن حق وأنه معجز فلا يقوى على معارضته بشر. وهو بما حواه من مثل هذه الحقائق الكونية التي ما كانت الأذهان في غابر الأزمان لتتصورها – يكشف إعجازه البالغ وعن سمو مستواه الرفيع الذي يفوق الأزمان والأذهان والأحوال. إن هذه الآيات العظيمة التي تتجلى فيها مَزِيَّة الجِدّةِ والنضارة والنصوع وانتفاء البِلى والخُلوق حتى لكأنما أُنزلت الساعة – لهي دليل مجلجل على أن القرآن منزل من لدن إله مقتدر حكيم.
٢ تفسير النسفي ج ٤ ص ٨-٩ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٥ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧٣.
﴿ وَآَيَةٌ ﴾ خبر مقدم للمبتدأ ﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ﴾ ١ وهذا دليل آخر من ظواهر الطبيعة ومكوِّناتها، يسوقه الله لعباده مبينا عظيم قدرته، وهو تسخيره البحر ليحمل على ظهره السفائن المشحونة بالبضائع والأمتعة والأناسي. وقد كان أول السفائن سفينة نوح عليه السلام، التي أنجاه الله فيها وأنجى الذين معه من المؤمنين، وهو قوله :﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ والمراد بذريتهم آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام. وقيل : ذريات جنسهم، على حذف مضاف. وأريد بالذرية كل محتاج للركوب غير مطيق للمشي. وبذلك يمنُّ الله على عباده بما يسَّرهُ لهم من ركوب السفن التي تجري على سطح الماء بقدرته سبحانه ؛ وذلك فضل عظيم من الله خوَّل عباده إياه تسهيلا لهم وتيسيرا عليهم في التنقل والأسفار إلى بلاد الله الواسعة من أجل التجارات أو الزيارات أو غير ذلك من مختلف الحاجات.
قوله :﴿ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ أي السفن الحافلة بالناس والموقرة بمختلف الأمتعة والأشياء.
ويستفاد من عدم تخصيص المراد بالسفن البر والبحر، أن يتسع المراد ب ﴿ مثله ﴾ ليعم كل أنواع الحوافل التي تمخر البحار، أو تقطع البراري والأمصار أو تجوب أجواز الفضاء. كل ذلك من فضل الله ومن تيسيره لعباده ؛ إذ سخَّر لهم صناعة ذلك. والله تعالى أعلم.
والمعنى : إذا ركبوا البحر أحاطت بهم أهواله وأخطاره فإنهم لا ينجون من الغرق إلا لرحمة ما ﴿ وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ أي : وليتمتعوا بالحياة إلى انقضاء الأجل٢.
٢ البحر المحيط ج ٧ ص ٣٢٤ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٩.
ذلك إخبار من الله عن إعراض المشركين وعن تماديهم في الكفر والضلال وما كانوا عليه من العُتوّ والتمرد. وهو قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ﴾ أي إذا قيل لهؤلاء المشركين الضالين : اتقوا ما حلّ بالأمم السابقة من أنواع العقاب وما أعده الله لكم من عذاب أليم منتظر ينزل بكم يوم تقوم الساعة بسبب شرككم وعصيانكم. وقيل : المراد نوازل السماء ونوائب الأرض. والأظهر عموم أنواع البلاء من الله سواء في الدنيا أو في الآخرة. فإن – الله عز وعلا – يخوفهم عقابه في كل الأحوال ويحذرهم سوء المصير يوم القيامة إذا لم يتعظوا ويزدجروا.
قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي اتقوا الله واعبدوه وحده وأطيعوه واجتنبوا معصيته ومخالفة أمره لعله يرحمكم برحمته الواسعة فينجيكم من نوازل الدنيا وأهوال يوم القيامة.
والظاهر أنهم لجوا في الإعراض والضلالة ولم ينتهوا عن الكفر والباطل. ويفهم ذلك من قوله :﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾.
قوله :﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ ذلك من جملة جوابهم للمؤمنين ؛ إذ قالوا : ما أنتم إلا في ضلال ظاهر مكشوف إذ تأمروننا أن نخالف مشيئة الله في إفقار هؤلاء. وقيل : ذلك من قول الله لهم. وهو أنكم بشُحّكم وضَنّكم بالتصدق والإنفاق على الفقراء فإنكم تائهون في الباطل، بعيدون عن الحق والسداد. والمعنى الأول أظهر لموافقته السياق١.
يحكي الله ما يقوله المشركون مستهزئين مستعجلين الوعد بالبعث وقيام الساعة وهو قولهم ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي : متى تقوم الساعة التي تتوعدوننا بها، أو متى هذا العذاب الذي تخوفوننا منه ﴿ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي صادقين فيما تقولونه وتزعمونه. وهم يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التكذيب والاستسخار والتهكم.
وقيل : هذه نفخة الصَّعْق ؛ إذ يهلك الناس والأحياء جميعا ولم يبق إلا الله الواحد القهار. ويعزز الله هذا قوله تعالى :﴿ تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴾ أي تهلكهم صرعى وهم يخصم بعضهم بعضا في معاملاتهم وبياعاتهم.
قوله :﴿ وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ لا يستطيعون الرجوع إلى منازلهم بل إن الموت قد غشيهم بمجرد النفخة الرعيبة ليظلوا جاثمين في قبورهم حتى تؤزهم نفخة البعث للقيام. فنسأل الله النجاة.
الصور معناه البوق أو القرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل إيذانا بالبعث وقيام الساعة. و ﴿ الْأَجْدَاثِ ﴾ جمع جدث وهو القبر. و ﴿ يَنْسِلُونَ ﴾ أي يسرعون١.
الله جل جلاله يخبر عن قيام الساعة عقيب النفخة الثانية أو الأخيرة وهي نفخة الإحياء والبعث، فإذا نفخ إسرافيل في القرن وهو الصور المعَدّ للنفخ أحيا الله العباد من قبورهم ﴿ يَنْسِلُونَ ﴾ أي يعْدون مسرعي لمواجهة الحساب في يوم حافل رعيب مشهود، يجمع الله فيه الخلائق وقد غشيهم من الذعر والفزع والجزع ما غشيهم. وفي هذا الحال من الدهش والذهول والحيرة. يتساءل الناس قائلين ﴿ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾.
٢ تفسير النسفي ج ٤ ص ١٠ وتفسير البيضاوي ٥٨٦.
﴿ فِي شُغُلٍ ﴾ خبر إن. و ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ خبر ثان. و ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي طربون فرحو متنعمون بأنواع اللذائذ والطيبات. والفاكه والفكه بمعنى المتلذذ المتنعم١.
الله جل جلاله يصف حال المؤمنين الذين ارتحلوا عن أرض المحشر حيث الأهوال والعرصات الشداد. فقد فازوا بمرضاة الله وحسن جزائه بدخولهم جنات النعيم ؛ فهم حينئذ في روضات الجنات في شغل عما فيه أهل النار. أو شغلهم النعيم عن كل ما يخطر بالبال فهم مشغولون بالبهجة والنعيم المقيم. وهم فيه ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي مبتهجون محبورون متنعمون.
والمعنى : أن الله جل جلاله يسلِّم على أهل الجنة بواسطة الملائكة أو يسلم عليهم من غير واسطة، تعظيما لهم وتكريما. قال ابن عباس : الملائكة يدخلون على أهل الجنة بالتحية من رب العالمين٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧٦ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١١.
يخبر الله عن حال الظالمين الخاسرين يوم القيامة، إذ يصيبهم من المهانة والإذلال والترعيب ما يصيبهم. ثم يأمرهم الله بالانفصال عن المؤمنين ؛ فقد كانوا هم وإياهم مجتمعين في المحشر دون تمييز. وهو قوله :﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة. وذلك حين يساق المؤمنون إلى الجنة ويبقى الكافرون وحدهم فيزدادون بذلك ذعرا وخشية ويغشاهم مزيد من اليأس والابتئاس فتتقطع قلوبهم من فرط الذعر والفزع واشتداد الكرب.
وينفِّرُه تنفيرا من الإيمان الصحيح وفعل الصالحات لينأى به بذلك عن الهداية والاستقامة والخير فيبوء معه بالخسران ثم يهويان معا في جهنم. لا جرم أن الشيطان على اختلاف صوره عدو ماكر وخبيث للإنسان وهو ظاهر مستبين يعرفه كل ذي عقل.
لقد أغوى الشيطان خلْقا عظيما من ذرية آدم، إذْ أضلهم واجتالهم عن دين الله وأفسدهم أيَّما إفساد. وذلك بمختلف أساليبه من الإيحاءات والوسوسات وكل أسباب الفتة والإغراء والإغواء والتغرير والخداع.
قوله :﴿ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع ؛ أي أفلم تنتفعوا بعقولكم ؛ إذْ خوَّلكم الله إياها لتكشفوا عن وجه الصواب وتميزوا بين الحق والباطل.
إذا بُرِّزت الجحيم يوم القيامة للمجرمين الخاسرين من الكافرين والمنافقين فنظروا إليها وهي تتوقد وتتأجج مضطرمة مستعرة، حينئذ يخاطبهم الله مقرِّعا موبِّخا زيادة لهم في التنكيل والتعذيب ﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ هذه النار التي وُعدتُموها من قبل وأنتم في الدنيا، وقد حذرناكم بالغ التحذير من أهوالها وويلاتها.
والمعنى : لو شاء الله لأعمى هؤلاء المجرمين فأذهب أبصارهم ﴿ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ﴾ أي فاستبقوه إلى الصراط وهو طريقهم الذي اعتادوا أن يسلكوه.
قوله :﴿ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ﴾ أي فكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم وعموا.
﴿ نُنَكِّسْهُ ﴾ من التنكيس وهو القلب. أو جعل الشيء أعلاه أسفله. نكسه، أي قلبه على رأسه. ويقرأ القرآن منكوسا : أي يبتدئ به منن آخره ويختم بالفاتحة، أو من آخر السورة فيقرأها إلى أولها مقلوبا١
ذلك بيان من الله عن بالغ إرادته وعظيم قدرته في الخلق، وهو هنا تنكيس المعمَّر، وهو قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولا ؛ وذلك أن الله – عز وعلا – خلق الإنسان ضعيفا في الجسد خُلوا من العقل والفهم والعلم. ثم جعله يمر في أطوار وينتقل من حال إلى حال حتى يبلغ أشده ويستكمل قوته من بسطة الجسم والعقل ثم يأخذ في تنكيسه في الخلق فيأخذ في التناقص والضعف شيئا فشيئا حتى يعود إلى حال شبيهة بحاله في الصبا من حيث الضعف في الجسد وهوان العقل وبساطة الفهم.
إن ذلك كله دليل ظاهر على أن الله – جلا وعلا – هو القوي المقتدر وأنه الصانع الحكيم الذي يفعل ما يشاء. وهو قوله :﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ أي من نطلْ عمره ﴿ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ يعني نقلبه فلا يزاد ضعفه في تزايد، وقواه في انتقاص حتى يُفْضي إلى الهرم الشديد ثم الموت المحتوم.
قوله :﴿ أَفَلا يَعْقِلُونَ ﴾ أفلا يتدبرون هذه الظاهرة ليعلموا أن الله قادر على كل شيء، وأنهم مخلوقون للحياة الآخرة وهي دار القرار والبقاء عقب رحيلهم عن هذه الدار وهي دار الزوال والفناء.
أما القرآن العظيم نفسه فهو من حيث النَّظْمُ والمعنى فذو شأن عجيب ومميز ؛ فإنه من حيث النَّظْمْ ليس بالشعر ؛ لأنه في مزايا نظمه وأسلوبه مختلف تماما عن الشعر ذي الكلام الموزون المقفى، وليس القرآن كذلك بل إن القرآن لذو أسلوب خاص ليس له في أصناف الكلام نظير. وما عرفت العربية له مثيلا من قبل ولا من بعد. وفي ذلك يذهب فريق من أقطاب البيان والبلاغة ومصاقع الخطابة والفصاحة من أفذاذ العربية إلى أن القرآن ليس على ضرب من ضروب النظم في لغة العرب. فليس هو بالشعر ولا بالنثر ولا بالسجع ولا بالخطابة ولا بالرسالة. وما يستقيم له شيء من ذلك، إنْ هو إلا القرآن وكفى.
أما القرآن من حيث المعنى فإن فيه من روائع الأغراض والمقاصد، ومن عجائب المعاني والأحكام والعبر ما يستثير الخواطر والأذهان، ويشدَهُ الوجدان والجنان لبالغ حججه ودلالاته، وبما حواه من عظيم المشاهد والأخبار والأسرار والحكم، فأين ذلك كله من الشعر في أغراضه المعلومة من الهجاء والرثاء والإطراء والفخر ووصف النساء والخمر ؟ ! وذلك كله تأويل قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ أي لا يستقيم له ولا يليق به ولا يتأتى له إن أراد قرضه. وقد عرفتموه وأخبرتم طبعه ؛ إذ لبث فيكم أربعين سنة فما كان ليقرض الشعر ولا الشعر بمتسهِّل له.
قوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ ﴾ أي ليس القرآن إلا عظة بالغة وإرشادا ونورا تهتدون به إلى سواء السبيل ﴿ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ﴾ أي ليس هو بالشعر ولا غيره من ضروب البيان بل إنه قرآن ظاهر ومعلوم بأسلوبه الخاص ونظمه الفريد، وطريقته المميزة.
قوله :﴿ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ أي يجب العذاب على المكذبين الغافلين الذين لا يتعظون ولا يتفكرون في آيات الله كأنهم ميتون خامدون٢.
٢ تفسير المحيط ج ٧ ص ٣٣٠ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١٢ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٧.
ذلك توبيخ لمشركي قريش والذين على شاكلتهم من الكافرين والمنافقين. وهؤلاء جميعا يقول لهم الله جل جلاله : أو لم يعلم هؤلاء المكذبون الغافلون ما خوَّلناهم من النعم وما مننّا به عليهم من مختلف الأرزاق والمنافع. وهو قوله :﴿ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾ أي خلقنا لهم مما تولينا إحداثه ولم يقدر غيرنا أن يُحْدِثه ﴿ أَنْعَامًا ﴾ أي خلقنا لهم الأنعام من إبل وبقر وغنم ﴿ فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾ أي خولناهم امتلاكها والتصرف فيها تصرّف الملاك. وقد خصّ الأنعام بالذكر ؛ لأنها كانت جلَّ أموالهم.
قوله :﴿ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ ﴿ رَكُوبُهُمْ ﴾ أي مركوبهم. يعني : من هذه الأنعام ما يصلح للركوب فتحملهم وتحمل أثقالهم في أسفارهم إلى مختلف الجهات. وكذلك يأكلون مما خلق الله لهم من هذه الأنعام. فإن شاءوا نحروا وأكلوا حلالا طيبا.
قوله :﴿ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ يعني أفلا يعبدون الله وحده دون غيره من الأنداد والشركاء، فيذكروا أنعُمَهُ عليم وما منَّ به عليهم من وجوه الرزق والفضل١
ذلك تنديد بالمشركين السفهاء الذي ركبوا الضلالة وسدروا في العماية والتيه وذلك بعبادتهم أصناما جامدة خاوية لا ترى ولا تسمع ولا تفقه، فاتخذوها من دون الله آلهة لهم لتنصرهم إذا حزبتهم الشداد، ولتدرأ عنهم النوازل والنائبات.
قوله :﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴾ ما كان يعبده المشركون من أصنام وأوثان، كل أولئك مُحضرون يوم القيامة ليتبرؤوا ممن عبدوهم من الضالين والسفهاء، زيادة في تعذيبهم واستيئاسهم والتنكيل بهم.
قوله :﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ ذلك تهديد من الله للضالين المكذبين في كل زمان، مبينا لهم أنهم لا يخفون عليه ؛ بل إنه سبحانه عليم بما يخفونه في قلوبهم من مقاصد السوء ونوايا الشر والظلم. وعليم بما يظهرونه من الأفعال والأقوال، والله جلت قدرته يستوي عنده الباطن والظاهر، والسر والعلن.
جاء أبيّ بن خلف وفي يده عظم رميم وهو يفُتّهُ ويذروه في الهواء ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي من ماء قليل مستقذر خارج من الإحليل وهو قناة النجاسة ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ أي فإذا هو ظاهر الخصومة بالرغم من مهانة أصله وقذارة أوله، ويجترئ على الجحود وإنكار البعث وإحياء الموتى بعد أن صاروا رفاتا، وقد أتى عليهم البلى وهو قوله :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾.
قوله :﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ الله يعلم تفاصيل المخلوقات، ويعلم أجزاءها المتفتتة المبعثرة في ذرات الثرى، ويعلم كيفية خلقها من جديد.
وقيل : المراد بذلك شجر المرْخ١ والعفار٢، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه نار فيأخذ منه عودين مثل السِّواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيَسْحَقُ أحدهما الآخر فتتولد النار من بينهما بإذن الله. فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قادر على إحياء الموتى وبعثهم من جديد.
٢ العَفار: شجر يُتخذ منه الزناد. أو تقدح منه النار. انظر القاموس المحيط ص ٥٦٨.
ذلك برهان من الله للمشركين والمرتابين والمنافقين الذين يكذبون بيوم القيامة، وما فيها من بعث للموتى وتلاقيهم في الحشر للحساب. برهان ظاهر ومعقول تعيه القلوب والفِطَر وتستيقنه الأذهان والمدارك. برهان ساطع وميسور لا لبس فيه ولا تعسير ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ ومعلوم لكل ذي عقل أن السماوات والأرض شيء عظيم. بل إنهما في غاية السعة والضخامة وذلك بما فيهما وما بينهما من خلائق وكائنات وأشياء لا تحصى عددا. وكذلك ما يشدهما ويجمعهما ويؤلف بينهما من نظام كوني مذهل ونواميس أساسية مركوزة لا تتخلف. كل أولئك يدل على عظمة السماوات والأرض وأن خلقهما يفوق تصور البشر. أفليس الذي خلق ذلك بقادر على خلق الإنسان من جديد، وإعادته كرة ثانية بعد الموت. بل إن خلْقَ الإنسان مرة أخرى وإحياؤه من الرميم والرفات يوم المعاد لهو أهون وأصغر من خلْق هذا الكون الهائل الشامل المديد.
قوله :﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ﴾ ذلك جواب من الله يدفع فيه تخريص الكافرين المكذبين بيوم الدين، ويؤكد فيه قدرته على الإعادة في يوم المعاد. فهو سبحانه ﴿ الْخَلاَّقُ ﴾ صيغة مبالغة لكثرة مخلوقاته ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ عليم بكل شيء وعليم بخلق الكائنات وخلْق الإنسان ولا يفوت علمه من ذلك شيء.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ كل شيء هالك إلى الله الواحد القهار. والناس حين تقوم الساعة صائرون إلى البعث والحشر من بعد ممات فهم جميعا عائدون إلى الله لملاقاة الحساب والجزاء، وحينئذ ينجو المؤمنون المصدقون، ويبوء المكذبون الجاحدون بالوبال والخسران١.