تفسير سورة الزخرف

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى :﴿ حم* والكتاب المبين ﴾ أي البيِّن الواضح الجلي، المنزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات، ولهذا قال تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ ﴾ أي أنزلناه ﴿ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾ أي بلغة العرب، فصيحاً واضحاً ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي تفهمونه وتتدبرونه، كما قال عزّ وجل ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ بيّن شرفه في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى ﴿ وَإِنَّهُ ﴾ أي القرآن ﴿ في أُمِّ الكتاب ﴾ أي اللوح المحفوظ ﴿ لَدَيْنَا ﴾ أي عندنا ﴿ لَعَلِيٌّ ﴾ أي ذو مكانة عظيمة، وشرف وفضل ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي محكم بريء من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله، كما قال تبارك وتعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون ﴾ [ الواقعة : ٧٧-٧٩ ]، وقال تعالى :﴿ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [ عبس : ١٣-١٦ ]، ولهذا استنبط العلماء من هاتين الآيتين، أن المحدث لا يمس المصحف، لأن الملائكة يعظمون المصاحف، المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى، لأنه نزل عليهم، وخطابه متوجه إليهم، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم، لقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾، وقوله عزّ وجلّ :﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ ﴾ ؟ اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم، ولم تفعلوا ما أمرتم به، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير، وقال قتادة : والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك، وقول قتادة لطيف المعنى جداً، وحاصله أنه يقول في معناه : أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم وهو ( القرآن ) وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي به من قدّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته، ثم قال جلّ وعلا مسلياً لنبيّه ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه :﴿ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين ﴾ أي في شِيَع الأولين ﴿ وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي يكذبونه ويسخرون به، ﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾ أي فأهلكنا المكذبين بالرسل، وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد، كقوله عزّ وجلّ :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾ [ غافر : ٨٢ ] والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله جلّ جلاله ﴿ ومضى مَثَلُ الأولين ﴾ قال مجاهد : سنتهم، وقال قتادة : عقوبتهم، وقال غيرهما : عبرتهم : أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم، كقوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٦ ]، وكقوله جلَّت عظمته :﴿ سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، وقوله :﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٦٢، الفتح : ٢٣ ].
يقول تعالى : ولئن سألت يا محمد، هؤلاء المشركون بالله العابدين معه غيره ﴿ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم ﴾ أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده، وهم مع هذا يعبدون معه غيره، من الأصنام والأنداد، ثم قال تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً ﴾ أي فراشاً قراراً ثابتة، تسيرون عليها وتقومون وتنامون، مع أنها مخلوقة على تيار الماء، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد، ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾ أي طرقاً بين الجبال والأودية ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي في سيركم من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، ﴿ والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ ﴾ أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم، وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم، ﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ أي أرضاً ميتة، فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ثم نبَّه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها فقال :﴿ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾. ثم قال عزّ وجلّ :﴿ والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا ﴾ أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف، من نبات وزروع وثمار وغير ذلك، ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها، وأصنافها، ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك ﴾ أي السفن ﴿ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ ﴾ أي ذللها لكم وسخَّرها ويسّرها، لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها، ولهذا قال جلّ وعلا ﴿ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ﴾ أي لتستووا متمكنين مرتفقين ﴿ على ظُهُورِهِ ﴾ أي على ظهور هذا الجنس، ﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ﴾ أي فيما سخر لكم ﴿ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ أي مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال ابن عباس :﴿ مُقْرِنِينَ ﴾ أي مطيقين، ﴿ وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ أي لصائرون إليه بعد مماتنا، وإليه سيرنا الأكبر، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى :﴿ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ].
( ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة )
( حديث علي بن أبي طالب ) : عن علي بن ربيعة قال :« رأيت علياً رضي الله عنه أتى بدابة، فلما وضع رجله في الركاب قال : باسم الله، فلما استوى عليها قال : الحمد لله ﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾، ثم حمد الله تعالى ثلاثاً وكبّر ثلاثاً، ثم قال سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي، فاغفر لي، ثم ضحك، فقلت له : مما ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه : رأيت رسول الله ﷺ فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك، فقلت : مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال ﷺ :» يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال : رب اغفر لي، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري « ».
2288
( حديث عبد الله بن عمر ) : روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :« إن النبي ﷺ كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثاً ثم قال :﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾، ثم يقول :» اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، واطوِ لنا البعد، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم أصبحنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا «. وكان ﷺ إذا رجع إلى أهل قال :» آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون لربنا حامدون «.
2289
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم، وبعضها لله تعالى، وكذلك جعلوا له من الأولاد أخسهما وأردأهما وهو البنات، كما قال تعالى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ]، وقال جلّ وعلا هاهنا :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴾، ثم قال جلّ وعلا :﴿ أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين ﴾ ؟ وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار، ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلَّت عظمته :﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات، يأنف من ذلك غاية الأنفة، وتعلوه كآبة من سوء ما يُنشِّرَ به، ويتوارى من القوم من خجله، من ذلك، يقول تبارك وتعالى : فكيف تأنفون أنتم من ذلك، وتنسبونه إلى الله عزّ وجلّ؟ ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي، منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فهي عاجزة عَيِيّة، أَوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم؟ فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى، فيكمل نقص مظاهرها وصورتها بلبس الحلي، ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض شعراء العرب :
وما الحلي إلا زينة من نقيصه يتمُم من حسن إذا الحسن قَصَّرا
وأما إذا كان الجمال مُوَفَّراً كحسنك لم يحتج إلى أن يُزَوّرا
وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت :« ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة ». وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً ﴾ أي اعتقدوا فيهم ذلك فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال :﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾ ؟ أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثاً؟ ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ﴾ أي بذلك ﴿ وَيُسْأَلُونَ ﴾ عن ذلك يوم القيامة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، ﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام، التي هي على صور الملائكة بنات الله، فإنه علامٌ بذلك وهو يقرنا عليه، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ :( أحدهما ) : جعلهم لله تعالى ولداً، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً، ( الثاني ) : دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ( الثالث ) : عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الآراء والأهواء، والتقليد للأسلاف والكبراء، والخبط في الجاهلية الجهلاء، ( الرابع ) : احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه، قال تعالى :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ وقال جلّ وعلا في هذه الآية :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي بصحة ما قالوه واحتجوا به ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ أي يكذبون ويتقولون، وقال مجاهد : يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
يقول تعالى منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة ﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ﴾ أي من قبل شركهم، ﴿ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾ أي ليس الأمر كذلك، كقوله عزّ وجلّ ﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٥ ] أي لم يكن ذلك، ثم قال تعالى :﴿ بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾ أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على ﴿ أُمَّةٍ ﴾ والمراد بها الدين هاهنا، وفي قوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الأنبياء : ٩٢، المؤمنون : ٥٢ ]، وقولهم ﴿ وَإِنَّا على آثَارِهِم ﴾ أي وراءهم ﴿ مُّهْتَدُونَ ﴾ دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جلّ وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم ﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ] وهكذا قال هاهنا :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾. ثم قال عزّ وجلّ ﴿ قال ﴾ أي يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ أي ولو علموا ويتقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى ﴿ فانتقمنا مِنْهُمْ ﴾ أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم ﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾ أي كيف بادوا وهلكوا، وكيف نجَّى الله المؤمنين.
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال :﴿ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾ أي هذه الكلمة وهي ﴿ لاَ إله إِلاَّ الله ﴾ [ الصافات : ٣٥ ] أي جعلها دائمة في ذريته، يقتدى به فيها من هداه الله تعالى، من ذرية أبراهيم ﷺ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي إليها، قال عكرمة ومجاهد ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾ يعني لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها، وقال ابن زيد : كلمة الإسلام، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة، ثم قال جلّ وعلا :﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء ﴾ يعني المشركين ﴿ وَآبَآءَهُمْ ﴾ فتطاول عليهم العمر في ضلالهم ﴿ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾ أي بَيَّنُ الرسالة والنذارة. ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾ أي كابروه وعاندوه كفراً وحسداً وبغياً، ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس، ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ أي هلاّ كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم؟ ﴿ مِّنَ القريتين ﴾ يعنون مكّة والطائف، وقد ذكر غيرو احد من السلف أنهم أرادوا بذلك ( الوليد بن المغيرة ) و ( عروة بن مسعود الثقفي )، وعن مجاهد : يعنون عتبة بن ربيعة ) بمكّة و ( ابن عبد ياليل ) بالطائف، وقال السدي : عنوا بذلك ( الوليد بن المغيرة ) و ( كنانة بن عمرو الثقفي )، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان، قال تعالى رداً عليهم في هذا الاعتراض :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ ؟ أي ليس الأمر مردوداً إليهم، بل إلى الله عزّ وجلّ والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً، وأشرفهم بيتاً، وأطهرهم أصلاً. ثم قال عزّ وجلّ مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه، فما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة فقال :﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا ﴾ الآية.
وقوله جلَّت عظمته :﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾ أي ليسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ أي رحمة الله بخلقه، خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا، ثم قال سبحانه وتعالى ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة، إن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال ﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ ﴾ أي سلالم ودرجاً من فضة ﴿ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ أي يصعدون ﴿ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً ﴾ أي أغلاقاً على أبوابهم ﴿ وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴾ أي جميع ذلك يكون فضة ﴿ وَزُخْرُفاً ﴾ أي وذهباً، قاله ابن عباس والسدي، ﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما ذلك من الدنيا الفانية، الزائلة الحقيرة عند الله تعالى، أي يجعل لهم بحسناتهم التي يعملونها في لدنيا مآكل ومشارب، ليوافوا الآخرة وليس لهم عنمد الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها.
2292
ثم قال سبحانه وتعالى :﴿ والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم، ولهذا « لما قال عمر بن الخطّاب لرسول الله ﷺ حين رآه على رمال حصير، قد آثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء، وقال : يا رسول لله! هذا كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ وكان رسول الله ﷺ متكئاً فجلس وقال :» أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ « ثم قال ﷺ :» أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا « »، وفي رواية :« أما ترى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة »، وفي « الصحيحين » « أن رسول الله ﷺ قال :» لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة « وإنما خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها، قال رسول الله ﷺ :» لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً « ».
2293
يقول تعالى :﴿ وَمَن يَعْشُ ﴾ أي يتعامى ويتغافل ويعرض ﴿ عَن ذِكْرِ الرحمن ﴾، والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد هاهنا عشا البصيرة، ﴿ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] ولهذا قال تبارك وتعالى هاهنا :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾. ﴿ حتى إِذَا جَآءَنَا ﴾ أي هذا الذي تغافل عن الهدى، إذا وافى الله عزّ وجلّ يوم القيامة، يتبرم بالشيطان الذي وُكِّلَ به ﴿ قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين ﴾ والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب، وإنما استعمل هاهنا تغليباً كما يقال : القمران والعُمَران والأبوان، قال ابن جرير وغيره، ثم قال تعالى :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ أي لا يغني عنكم إجتماعتكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم. وقوله جلت عظمته :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ ؟ أي ليس ذلك إليكم، إنما عليك البلاغ، وليس عليك هداهم، ثم قال تعالى؟ :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴾ أي لا بد من أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت، ﴿ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ أي نحن قادرون على هذا ولم يقبض الله تعالى رسول الله ﷺ حتى أقرّ عينه من أعدائه، وحكّمه في نواصيهم، واختاره ابن جرير، وقال قتادة : ذهب النبي ﷺ : وبقيت النقمة، ولن يُرِيَ اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه ﷺ في أُمته شيئاً يكرهه، حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أُمته إلا نبيكم ﷺ، قال : وذكر لنا أن رسول الله ﷺ أري ما يصيب أُمته من بعده، فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله عزّ وجلّ، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي خذ بالقرآن المنزل على قبلك، فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق، المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم.
ثم قال جلّ جلاله :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾، قيل معناه لشرف لك ولقومك، وفي الحديث :« إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبَّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين »، ومعناه أنه أشرف لهم من حيث أنه أنزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به، وأعملهم بقمتضاه، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلّص، من المهاجرين السابقين الأوّلين ومن شابههم وتابعهم، وقيل معناه :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي لَتذكيرٌ لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم، كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ]، ﴿ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾، أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ ؟ أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ].
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله ﴿ موسى ﴾ ﷺ، أنه ابتعثه إلى فرعون ملئه، من الأمراء والوزراء والقادة والأبتاع من القبط وبني إسرائيل، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنه بعث معه آيات عظاماً كيده وعصاه، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها، وضحكوا ممن جاءهم بها، ﴿ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾ ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم، وجهلهم وخبالهم، وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه السلام، ويتلطفون له في العبارة بقولهم :﴿ ياأيه الساحر ﴾ أي العالم، وكان علماء زمانهم هم السحرة ولم يكن السحر في زمانهم مذموماً عندهم، ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل، وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٤- ١٣٥ ].
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وتمرده وعتوه، إنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها :﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي ﴾ ؟ قال قتادة : قد كانت لهم جنات وأنهار ماء ﴿ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ ؟ أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟ يعني وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء، وقوله :﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ ﴾ قال السدي : يقول : بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، وهكذا قال بعض نحاة البصرة : إن ( أم ) هاهنا بمعنى ( بل ) يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى ﷺ، وقد كذب في قوله هذا كذباً بيناً واضحاً، ويعني بقوله :﴿ مَهِينٌ ﴾ حقير، وقال قتادة يعني ضعيف، وقال ابن جرير : يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال، ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عييّ حصر، قال السدي : أي لا يكاد يُفّهم، وقال قتادة : عييّ اللسان، وقال سفيان : يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير، وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، فهو ينظر إلى موسى بعين كافرة شقية، وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء، في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب، وقوله :﴿ مَهِينٌ ﴾ كذب بل هو المهين الحقير، وموسى هو الشريف الصادق البار الراشد، وقوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾ افتراء أيضاً، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله عزّ وجلّ أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله :﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى ﴾ [ طه : ٣٦ ] وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته كما قاله الحسن البصري، وإنما سأل زوالما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد التروج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا قوله :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ﴾ وهي ما يجعل في الأيدي، من الحُليِّ ﴿ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ ﴾ أي يكتنفونه خدمة له، ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشك الظاهر، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم، ولهذا قال تعالى :﴿ فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾.
قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، قال ابن عباس :﴿ أَجْمَعِينَ ﴾ أسخطونا، وعنه : أغضبونا، روى ابن أبي حاتم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال :
2296
« إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له » ثم تلا ﷺ :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾. وقال طارق بن شهاب : كنت عند عبد الله رضي الله عنه فذكر عنده موت الفجأة، فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر، ثم قرأ رضي الله عنه :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : وجدت النقمة مع الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ﴾ قال أبو مجلز :﴿ سَلَفاً ﴾ لمثل من نعمل بعملهم، ﴿ مَثَلاً ﴾ أي عبرة لمن بعدهم.
2297
يقول تعالى مخبراً عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾. قال ابن عباس أي ( يضحكون ) أعجبوا بذلك، وقال قتادة : يجزعون ويضحكون، وقال النخعي : يعرضون، وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في « السيرة » حيث قال : وجلس رسول الله ﷺ فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله ﷺ، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآيات، ثم قال رسول الله ﷺ وأقبل عبد الله بن الزبعري حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب، وما قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته، سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله الزبعري، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال :« كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته » فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠١ ] أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عزّ وجلّ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى ﷺ وأنه يعبد من دون الله ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله، ثم ذكر عيسى ﷺ فقال :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلاً على علم الساعة يقول :﴿ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ :« » يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير « فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً فقد كان يعبد من دون الله؟ فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ »
2298
، وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾، قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى ( عيسى ) عليه السلام، وقوله :﴿ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ﴾ ؟ مقال قتادة : يقولون آلهتنا خير منه، وقال قتادة : قرأ ابن مسعود رضي الله عنه :﴿ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هذا ﴾ ؟ يعنون محمداً ﷺ.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً ﴾ أي مِراءً وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية لأنها لما لا يعقل وهي قوله تعالى :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] ثم هي خطاب لقريش، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلاً منهم ليسوا يعتقدون صحتها، وقد قال رسول الله ﷺ :« ما ضل قوم بعد هدى كانوا إلا أورثوا الجدل » ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾. وروى ابن جرير، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :« إن رسول الله ﷺ خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب وجهه الخل، ثم قال ﷺ :» لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل «، ثم تلا ﷺ :﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ »، وقوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ يعني عيسى ﷺ ما هو إلا عبد من عباد الله عزَّ وجلَّ أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة ﴿ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ ﴾ أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ﴾ أي بدلكم ﴿ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ ﴾، وقال السدي : يخلفونكم فيها، وقال ابن عباس وقتادة : يخلف بعضهم بعضاً كما يخلف بعضكم بعضاً، وهذا القول يستلزم الأول، وقال مجاهد : يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى ﷺ من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك من الأسقام وفيه نظر. الصحيح أنه عائد على عيسى ﷺ، فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال تبارك وتعالى :
2299
﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ] أي قبل موت عيسى ﷺ، ثُم ﴿ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ [ النساء : ١٥٩ ] ويؤيد هذا المعنى القراءة الأُخْرى ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ أي أمارة ودليل على وقوع الساعة، قال مجاهد :﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾ أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾ أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة، ﴿ واتبعون ﴾ أي فبما أخبركم به ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان ﴾ أي عن اتباع الحق، ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة ﴾ أي بالنبوة، ﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ قال ابن جرير : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية، وهذا الذي قاله حسن جيد، وقوله عزّ وجلّ ﴿ فاتقوا الله ﴾ أي فيما أمركم به ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما جئتكم بهن ﴿ إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ أي وأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه مشتركون في عبادته وحده لا شريك له، ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جلّ وعلا وحده وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ ﴾ أي اختلف الفرق وصاروا شيعاً فيه، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق، ومنهم من يدعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
2300
يقول تعالى : هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل ﴿ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة، وهؤلاء غافلون عنها، فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها، فحينئذٍ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم، وقوله تعالى :﴿ الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين ﴾ أي كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان الله عزّ وجلّ، فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم ﷺ لقومه :﴿ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٥ ] قال ابن عباس ومجاهد : صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين. وروى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة، يقول هذا الذي أحبتته فيَّ » وقوله تبارك وتعالى :﴿ ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ ثم بشرهم فقال :﴿ الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ أي آمنت قلوبهم وبواطنهم، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه : إذا كان يوم القيامة فإن الناس حيث يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي منادٍ ﴿ ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ فيرجوها الناس كلهم، قال : فيتبعها :﴿ الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ قال : فييأس الناس منها غير المؤمنين ﴿ ادخلوا الجنة ﴾ أي يقال لهم : ادخلوا الجنة ﴿ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ﴾ أي نظراؤكم ﴿ تُحْبَرُونَ ﴾ أي تتنعمون وتسعدون، وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم. ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ ﴾ أي زبادي آنية الطعام ﴿ وَأَكْوَابٍ ﴾ وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس ﴾، وقرأ بعضهم تشتهي الأنفس :﴿ وَتَلَذُّ الأعين ﴾ أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر، روى عبد الرزاق عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال :« إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام، في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور، يغدى عليه ويراج بسبعين ألف صفحة من ذهب ليس فها صفحة إلا فيها لون ليس في الأخر مثلهن شهوته في آخرها كشهوته في أولها، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أُعْطي، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً ».
2301
وقوله تعالى :﴿ وَأَنتُمْ فِيهَا ﴾ أي في الجنة ﴿ خَالِدُونَ ﴾ أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولاً، ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان ﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحداً عملُه الجنة ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات. روى ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« كل أهل النار يرى منزله من الجنة فيكون له حسرة فيقول :﴿ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين ﴾ [ الزمر : ٥٧ ]، وكل أهل الجنة يرى منزله في النار فيقول :﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] فيكون له شكراً »، قال : وما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، الكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة « وذلك قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ ﴾ أي من جميع الأنواع ﴿ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ أي مهما اخترتم وأردتم، ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة، والله تعالى أعلم.
2302
لما ذكر تعالى حال السعداء ثنَّى بذكر الأشقياء، فقال :﴿ إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ أي ساعة واحدة ﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ أي آيسون من كل خير، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد، ﴿ وَنَادَوْاْ يامالك ﴾ وهو خازن النار، ﴿ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه، فإنهم كما قال تعالى :﴿ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا ﴾ [ الأعلى : ١٣ ]، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك ﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ قال ابن عباس : مكث ألف سنة، ثم قال :﴿ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها، ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتم للحق ومعاندتهم له فقال :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ﴾ أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه ﴿ ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه، وتصد عن الحق وتأباه، فعودوا على أنفسكم بالملامة، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة، ثم قال تبارك وتعالى :﴿ أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾، قال مجاهد : أرادوا كيد شر فكدناهم، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه، فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم، ولهذا قال :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾، أي سرهم وعلانيتهم ﴿ بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ أي نحن نعلم ما هم عليه، والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
يقول تعالى :﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك، لأني من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به، وليس عندي استكباراً ولا إباء عن عبادته، فلو فرض هذا لكان هذا، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى : والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار ﴾ [ الزمر : ٤ ]، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى :﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ أي الآنفين، وقال ابن عباس :﴿ قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ ﴾ يقول : لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين، قال قتادة : هي كلمة من كلام العرب أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي، وقال أبو صخر ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ أي فانا أول من عبده بأن لا ولد له، وأول من وحده، وقال مجاهد : أي أول من عبده وحده وكذّبكم، وقال البخاري ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين ﴾ ألآنفين وهما لغتان : رجل عابد وعبد، والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع، وقال السدي : معناه ولو كان ولد كنت أول من عبده بأن له ولداً، ولكن لا ولد له، وهو اختيار ابن جرير، ولهذا قال تعالى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء، عن أن يكون له ولد، فإنه فرد صمد، لا نظير له، ولا كفء له، فلا ولد له، وقوله تعالى :﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ ﴾ أي في جهلهم وضلالهم ﴿ وَيَلْعَبُواْ ﴾ في دنياهم ﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ وهو يوم القيامة، أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله ﴾ أي هو إله من في السماء، وإله من في الأرض يعبده أهلهما، وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه، ﴿ وَهُوَ الحكيم العليم ﴾ وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣ ] أي هو المدعو لله في السماوات والأرض ﴿ وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي هو خالفهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة، فسبحانه وتعالى عن الولد ﴿ وَتَبَارَكَ ﴾ أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص، لأن الرب العلي العظيم المالك للأشياء، الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً، ﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ أي لا يجليها لوقتها إلا هو، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي فيجازي كلاًّ بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي من الأصنام والأوثان ﴿ الشفاعة ﴾ أي لا يقدرون على الشفاعة لهم ﴿ إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا استثناء منقطع، أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له، ثم قال عزَّ وجلَّ :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ ﴾ أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره ﴿ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾ أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لاشريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل، ولهذا قال تعالى :﴿ فأنى يُؤْفَكُونَ ﴾ ؟.
2304
وقوله جلّ وعلا :﴿ وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي وقال محمد ﷺ ﴿ وَقِيلِهِ ﴾ أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال : يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الأُخْرى :﴿ وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ]، وقال مجاهد في قوله :﴿ وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ قال : يؤثر الله عزّ وجلّ قول محمد ﷺ، وقال قتادة : هو قول نبيكم ﷺ يشكو قومه إلى ربه عزّ وجلّ، وقوله تعالى :﴿ فاصفح عَنْهُمْ ﴾، أي عن المشركين، ﴿ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾ أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً، ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا تهديد من الله تعالى لهم، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب، والله أعلم.
2305
Icon