بسم الله الرحمن الرحيم
سورة محمد صلى الله عليه وسلموتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا
وهي ثمان أو تسع وثلاثون آية، وقيل : هي أربعون آية، والخلاف في قوله :﴿ حتى تضع الحرب أوزارها ﴾. وقوله :﴿ لذة للشاربين ﴾، وهي مدنية قال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل قوله تعالى :﴿ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك ﴾، وهذا مبني على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمشهور أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها. ولو في مكة، فعليه تكون هذه الآية مدنية وهذا كله مبني على هذا النقل الذي نقله الماوردي هنا، ونقله القرطبي أيضا هنا.
والذي نقله الخازن والخطيب وغيرهما بل والقرطبي أنها نزلت لما خرج من مكة إلى الغار مهاجرا، والنقل الثاني هو الصحيح لأنه هو الذي يناسبه التوعد بقوله :﴿ وكأين من قرية ﴾ وأما على النقل الأول فلا يظهر هذا الوعيد لأنه في حجة الوداع فارقها مختارا بعدما صارت دار إسلام وأسلم جميع أهلها، وبدئ فتحها في السنة الثامنة، وقال الثعلبي : أنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير، وهو غلط من القول فالسورة مدنية كما لا يخفى.
قال ابن عباس : نزلت سورة القتال بالمدينة وعن ابن الزبير نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أخرجه الطبراني في الأوسط.
ﰡ
قال الضحاك: المعنى أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم، وقيل: أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق من صلة الأرحام وفك الأسارى، وإطعام الطعام، وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير، وقرى الأضياف، ونحو ذلك، وهذه -وإن كانت باطلة من أصلها- لكن المعنى أنه سبحانه حكم ببطلانها فلا يرون لها في الآخرة ثواباً، ويجزون بها في الدنيا من فضله تعالى، وقال ابن عباس: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً، ولما ذكر سبحانه فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين فقال:
ولا شك أن الإيمان بالقرآن المنزل على محمد من جملة أفراد ما يجب الإيمان به، وخص سبحانه وتعالى الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بالذكر مع الدراجة تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه، وعلو مكانه، وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه، وأنه الأصل فيه، ولذا أكده بقوله:
(وهو الحق من ربهم) ومعنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله، ولا ينسخ والجملة اعتراضية (كفر عنهم سيئاتهم) التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح (وأصلح بالهم) أي شأنهم قاله مجاهد، وقال قتادة: حالهم وقيل: أمرهم، والمعاني متقاربة، قال المبرد: البال الحال ههنا، وقيل: القلب وهو كالمصدر، ولا يعرف منه فعل ولا تجمعه العرب إلا في ضرورة الشعر، قال الجوهري: والبال أيضاًً رخاء العيش، يقال فلان رخيّ البال؛ والبال الحوت العظيم من حيتان البحر وليس بعربي والبالة القارورة والجراب ووعاء الطيب وموضع بالحجاز، وقيل والمعنى أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ونحو ذلك، وقال النقاش: إن المعنى أصلح نياتهم.
(كذلك)؟ أي مثل ذلك البيان (يضرب) يبين (الله للناس أمثالهم) أي أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، قال الزجاج: كذلك يضرب لهم أمثال حسنات المؤمنين وإضلال أعمال الكافرين، يعني أن من كان كافراً أضل الله عمله، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته أو جعل الإضلال، مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار ولما بين سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار فقال:
(حتى إذا أثخنتموهم) غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل
(فشدوا الوثاق) بالفتح القيد والحبل، ويجيء بالكسر اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط، قال الجوهري وأوثقه في الوثاق بكسر الواو لغة فيه والجمع وثق مثل رباط وربط وعناق وعنق، قرأ الجمهور فشدوا بضم الشين؛ وقرىء بكسرها، وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا يفوتوا وينفلتوا أو المعنى إذا بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم فأمسكوا عنهم وأسروهم واحفظوهم بالوثاق.
(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) قرأ الجمهور بالمد، وقرىء بالقصر أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر وشد الوثاق مناً أو تفدوا فداء، والمن الإطلاق بغير عوض والفداء ما يفدى به الأسير نفسه من الأسر، ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ولهذا كانت العرب تفتخر به كما قال شاعرهم:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم | إذا أثقل الأعناق حمل المغارم |
" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني "، ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال:
(حتى تضع الحرب أوزارها) أوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز والمعنى أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور الأربعة إلى غاية هي أن لا تكون حرب مع الكفار بأن لا تبقى لهم شوكة، قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام، وبه قال الحسن والكلبي، قال الكسائي: حتى يسلم الخلق، وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر، أي: لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، وقيل: المعنى حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة.
وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها
وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، روي ذلك عن عطاء وغيره، وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة وإن الإِمام مخير بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء، وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيدة وغيرهم، وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك، وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، لقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، فإذا أسر بعد ذلك فللإِمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وحكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها "، رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وعن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث قال: " ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج (١) "، رواه ابن مردويه وابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني.
والحاصل أن حتى غاية لأحد الأمور الأربعة أو للمجموع عند الشافعي وأما عند أبي حنيفة فإن حمل الحرب على حرب بدر فهي غاية للمن والفداء
_________
(١) وذلك من علامات الساعة.
(ذلك) أي الأمر ذلك، وقيل: ذلك حكم الكفار، وقيل: افعلوا ذلك (ولو يشاء الله لانتصر منهم) يعني أن الله قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب، كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك بغير قتال (ولكن) أمركم بحربهم (ليبلو بعضكم ببعض) أي ليختبر فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) قرأ الجمهور: قاتلوا مبنياً للفاعل، وقرىء قتلوا مخففاً ومشدداً مبنياً للمفعول، وقرىء قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على الأولى والرابعة أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع وعلى الثانية والثالثة أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في يوم أحد، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل، ثم ذكر سبحانه ما لهم من جزيل الثواب عنده فقال:
ويرده حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا " (١). رواه البخاري وهذا يدل على صحة القول الأول، وقيل: (عرفها لهم) أي طيبها بأنواع الملاذ مأخوذ من العرف وهو الرائحة أو المعنى: حددها لهم بحيث يكون لكل واحد جنة مفرزة، وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم، وقيل: (عرفها لهم) إظهاراً لكرامتهم فيها، وقيل: عرف المطيعين أعمالهم، والأول أولى، ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله:
_________
(١) كذلك رواه الطبراني.
قيل: والتعس في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار يقال للعاثر تعساً إذا دعوا عليه، ولم يريدوا قيامه وضده لعاً إذا دعوا له وأرادوا قيامه، واللام في لهم للبيان كما في قوله هيت لك.
(وأضل أعمالهم) معطوف على ما قبله، داخل معه في خبرية
(ولو نشاء لأريناكم) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية تقول العرب: سأريك ما أصنع أي سأعلمك والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بالإراءة (فلعرفتهم بسيماهم) أي بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيما فلعرفتهم بتلك العلامة قال أنس: ما خفي على رسول الله ﷺ بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد.
(ولتعرفنهم في لحن القول) قال المفسرون: لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك، وأمر المسلمين، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه، قال أبو زيد: لحنت له اللحن إذا قلت له قولاً بفقهه عنك، ويخفى على غيره، وأصل اللحن إمالة الكلام وصرفه إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض بإزالة الإعراب أو التصحيف والأول محمود، والثاني مذموم، قال أبو سعيد الخدري في الآية: لحن القول ببغضهم علي بن أبي طالب.
(والله يعلم أعمالكم) لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها، وفيه وعيد شديد ووعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) أي: لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم علم ظهور من امتثل الأمر بالجهاد، وصبر على دينه ومشاق ما كلف به (ونبلو أخباركم) أي نظهرها ونكشفها إمتحاناً لكم، ليظهر للناس من أطاع الله فيما أمره، ومن عصى ولم يمتثل، وقرىء بالياء والنون في الأفعال الثلاثة، وعن الفضيل رحمه الله أنه كان إذا قرأها بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا.
عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول الجاهلية " (١) فأنزل الله:
_________
(١) رواه أحمد.
أحدها: أنه مبتدأ وخبره مقدر، فقدره النضر بن شميل: ما تسمعون، وقوله: (فيها أنهار) مفسر له، وقدره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة، والجملة بعدها أيضاًً مفسرة للمثل.
الثاني: أن مثل زائدة تقديره الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار.
الثالث: أن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله: فيها أنهار، وفيه نظر.
الرابع: أن مثل الجنة مبتدأ خبره كمن هو خالد في النار فقدره ابن عطية أمثل أهل الجنة؟ كمن هو خالد، فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح، وقدره الزمخشري: كمثل جزاء من هو خالد والجملة من قوله: (فيها أنهار على هذا فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: هي حال من الجنة، أي مستقرة فيها أنهار.
الثالث: أن يكون تكريراً للصلة لأنها في حكمها ألا ترى أنه يصح قولك: التي فيها أنهار وإنما عُرِّيَ من حرف الإنكار وحذف ما حذف استغناء، يجري مثله تصويراً لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة، والتابع للهوى بمكابرة من سوى بين الجنة والنار، أفاده السمين.
(من ماء غير آسن) بالمد والقصر سبعيتان ولغتان، وقال الأخفش: إن الممدود يراد به الاستقبال، والمقصور يراد به الحال، يقال: أسن الماء يأسن أسوناً إذا تغيرت رائحته، ومثله الآجن وزناً ومعنى، قال ابن عباس: غير متغير، يعني بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض.
(وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي لم يحمض، كما تتغير ألبان الدنيا، لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر فلا يعود حامضاً ولا قارصاً ولا ما يكره من الطعوم (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: لذيذة لهم، طيبة الشرب لا يتكرهها الشاربون بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب، يقال: شراب لذ ولذيذ، وفيه لذة بمعنى، ومثل هذه الآية قوله: (بيضاء لذة للشاربين)، والمعنى ليس فيها حموضة ولا عفوصة ولا مرارة ولا غضاضة ولم تدنسها الأرجل بالدوس: ولا الأيدي بالعصر، وليس في شربها ذهاب عقل ولا صداع ولا خمار ولا آفة من آفات الخمر، بل هي لمجرد الالتذاذ وتفريح الطبع فقط، تعويضاً بخمور الدنيا كقوله تعالى: (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).
(وأنهار من عسل مصفى) مما يخالطه من الشمع والقذاء والعكر والكدر نقلوا في العسل التذكير والتأنيث، وجاء القرآن على التذكير، وفي المصباح يذكر ويؤنث وهو الأكثر ويصغر على عسيلة على لغة التأنيث ذهاباً إلى
عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد "، أخرجه أحمد والترمذي وصححه، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في البعث.
وعن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ونهر سيحان نهر الماء في الجنة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " (١) أخرجه مسلم.
قال النووي: هما غير سيحون وجيحون واللذان هما من الجنة فهما في بلاد الأرمن فسيحان نهر أردنه وجيحان نهر المصيصة وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان هذا هو الصواب في موضعهما، ثم ذكر بعد هذا كلاماً طويلاً ثم قال: فأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان. الثاني: وهو الصحيح أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة مخلوقة موجودة اليوم هذا مذهب أهل السنة.
(ولهم فيها من كل الثمرات) أي لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، ومن زائدة للتوكيد، وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إلى أن مأكول أهل الجنة للذة لا لحاجة فلهذا ذكر الثمار بعد المشروب لأنها للتفكه واللذة.
_________
(١) رواه مسلم في صحيحه.
وقال الزجاج: أي أفمن كان على بينة من ربه وأعطي هذه الأشياء؟ كمن زين له سوء عمله وهو خالد في النار؟ وقال ابن كيسان: ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم، وليس مثل أهل الجنة في النعيم كمثل أهل النار في العذاب الأليم وقيل: غير ذلك.
(وسقوا ماء حميماً) الحميم الماء الحار الشديد الحرارة والغليان، فإذا شربوه قطع أمعاءهم وهو معنى قوله (فقطع أمعاءهم) أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم لفرط حرارته، والأمعاء جمع معى بالقصر، وألفه مبدل عن ياء لقولهم معيان، وهو ما في البطون من الحوايا
(قالوا للذين أوتوا العلم) وهم علماء الصحابة، وقيل: عبد الله بن
وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة قال ابن عباس: كنت فيمن يسأل، وعنه قال: أنا منهم، وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة لأنه كان إذ ذاك صبياً فإن النبي صلى الله عليه وسلم، مات وهو في سن البلوغ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبي ﷺ (١)، ووصف الله سبحانه للمسؤولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم من أعظم الأدلة على سعة علمه، ومزيد فقهه في كتاب الله وسنة رسوله، مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان.
وعن عكرمة قال: " كانوا يدخلون على رسول الله ﷺ فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس: ماذا قال آنفاً فيقول كذا وكذا وكان ابن عباس أصغر القوم فأنزل الله الآية ". فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم، وعن ابن بريده قال: هو ابن مسعود، وعن ابن عباس قال: هو ابن مسعود والإشارة بقوله: (أولئك) إلى المذكورين من المنافقين، وهو مبتدأ وخبره (الذين طبع الله على قلوبهم) أي بالكفر فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير.
_________
(١) وهو ترجمان هذه الأمة.
(وآتاهم تقواهم) أي ألهمهم إياها، وأعانهم عليها بمعنى خلق التقوى فيهم أو أعطاهم ثواب تقواهم وجزاءها، والأول أولى وأوفق لتأليف النظم لما سبق أن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيه التقابل، فقوبل الطبع بزيادة الهدى، لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، وقوبل اتباع الهوى بإيتاء التقوى فيحمل على كمال التقوى، وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشر أشره، وهو التقي الحقيقي المعني بقوله: (اتقوا الله حق تقاته)، فإن المزيد على مزيد الهدى، مزيد، لا مزيد عليه، وقال الربيع: التقوى هي الخشية، وقال السدي: هي ثواب الآخرة، وقال مقاتل: هي التوفيق للعمل بما يرضاه، وقيل: العمل بالناسخ وترك المنسوخ، وقيل: ترك الرخص والأخذ بالعزائم.
وعن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً؛ أو مرضاً مفسداً،
قال ابن عباس في الآية: أول الساعات. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما " من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالوسطى والسبابة " (٢)، ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد، وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة وبيان ما قد وقع منها، وما لم يكن قد وقع وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل بذكرها، وفي هذا الباب كتاب الاشاعة لأشراط الساعة، وهو نفيس جداً.
(فأنى لهم إذا جاءتهم)؟ الساعة بغتة (ذكراهم) أي: فمن أين لهم التذكر والإتعاظ والتوبة والخلاص، كقوله: (يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى)؟.
_________
(١) رواه الترمذي.
(٢) البخاري ومسلم.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " (١) رواه مسلم، وقيل: ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقينياً، وقيل: المعنى: فاذكر أنه لا إله إلا الله فعبر عن الذكر بالعلم، وقيل: الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال.
(واستغفر لذنبك) أي: استغفر الله أن يقع منك ذنب أو استغفر الله ليعصمك، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى، قال القاضي عياض: إن المراد به الفترات والغفلات من الذكر الذي كان شأنه ﷺ الدوام عليه، فإذا فتر وغفل عد ذلك ذنباً واستغفر منه، وقيل: يحتمل أن يكون استغفاره شكراً ويأباه قوله لذنبك، وقيل: استغفر لذنوب أهل بيتك، وهذا تكلف بلا موجب، وقيل: لتستن به أمته وليقتدوا به في ذلك، وقيل: الخطاب له والمراد الأمة ويأبى هذا قوله (وللمؤمنين والمؤمنات) فإن المراد به استغفاره لذنوب أمته، بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم، وهذا إكرام من الله عز وجل لهذه الأمة، حيث أمر نبيه ﷺ أن يستغفر لذنوبهم، وهو الشفيع المجاب فيهم إن شاء الله تعالى.
" عن ابن عمرو عن النبي ﷺ قال: أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الاستغفار، ثم قرأ فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية " (٢) رواه الطبراني وابن مردويه والديلمي.
" وعن أبي هريرة في قوله (واستغفر لذنبك) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " (٣)، رواه عبد الرزاق
_________
(١) رواه مسلم في صحيحه.
(٢) صحيح الجامع الصغير.
(٣) ضعيف الجامع الصغير.
" وعن عبد الله بن سرجس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأكلت معه من طعام فقلت: غفر الله لك يا رسول الله قال ولك، فقيل استغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم ولكم، وقرأ: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (١) أخرجه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، وروى مسلم عن الأغر المزني قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إنه ليغان على قلبي حتى استغفر الله في اليوم مائة مرة " (٢) وللعلماء في هذا الغين كلام طويل لا يسعه هذا الموضع، وقد وردت أحاديث في استغفاره ﷺ لنفسه ولأمته وترغيبه في الاستغفار.
(والله يعلم متقلبكم) في الدنيا في أعمالكم ومعايشكم ومتاجركم (ومثواكم) في الدار الآخرة، قاله ابن عباس، وقيل: متقلبكم في أعمالكم نهاراً، ومثواكم في ليلكم نياماً، وقيل: متقلبكم في أصلاب آبائكم إلى أرحام أمهاتكم، ومثواكم في الأرض أي: مقامكم فيها، قال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا، ومثواكم في القبور، وقيل: منصرفكم في أعمالكم، ومثواكم أي مصيركم إلى الجنة أو النار، والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها، وإن دق وخفى، ومثله حقيق بأن يتقي ويخشى، وأن يستغفر، وسأل المؤمنون ربهم عز وجل أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار، حرصاً منهم على الجهاد، ونيل ما أعده الله للمجاهدين من جزيل الثواب فحكى الله عنهم ذلك بقوله:
_________
(١) مسلم وأحمد.
(٢) مسلم والبخاري.
(رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي شك، وهم المنافقون، أو ضعف في الدين، وأصل المرض الفتور، فمرض القلوب فتورها عن قبول الحق، والأول هو الأظهر الموافق لسياق النظم الكريم (ينظرون إليك) يعني
(فأولى لهم) قال الجوهري: أولا لك تهديد ووعيد، وكذا قال مقاتل والكلبي وقتادة، قال الأصمعي: معنى قولهم في التهديد: أولى لك أي وليك وقاربك ما تكره. وهو فعل ماض، قال ثعلب: ولم يقل في أولى أحسن مما قاله الأصمعي، وقال المبرد: يقال لمن همّ بالغضب ثم أفلت أولى لك أي قاربت الغضب، وقال الجرجاني: هو مأخوذ من الويل، أي: فويل لهم وكذا قال في الكشاف. قال قتادة أيضاًً: كأنه قال العقاب أولى لهم، وعلى هذا يكون إسماً لا فعلاً وعليه الأكثر، وفي إعرابه أوجه ذكرها السمين.
(في عزم الأمر) عزم الأمر، جد الأمر، أي جد القتال ووجب وفرض، وأسند الأمر إلى العزم -وهو لأصحابه- مجازاً، وجواب إذا قيل هو قوله الآتي: (فلو صدقوا الله)، وقيل: محذوف تقديره كرهوه، قال المفسرون: معناه إذا جد الأمر ولزم فرض القتال، خالفوا وتخلفوا، فلو
(أن تفسدوا في الأرض) بأنواع الفساد، قال الكلبي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا فيها بالظلم، وقال كعب: أن يقتل بعضكم بعضاً وقال قتادة: إن توليتم عن طاعة كتاب الله عز وجل أن تفسدوا فيها بسفك الدماء وقال ابن جريج: إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي، وقبل أعرضتم عن القتال وفارقتم أحكامه، فتعودوا إلى جاهليتكم، أو توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض، بأخذ الرشا، قرأ الجمهور: توليتم مبنياً للفاعل، وقرىء مبنياً للمفعول فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرون أن يخرجوا عليكم في الفتنة وتحاربوهم.
(وتقطعوا أرحامكم) بالبغي والظلم والقتل، قرأ الجمهور تقطعوا بالتشديد على التكثير، وقرىء بالتخفيف من القطع.
" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحِقْوِ الرحمن فقال: مه؟ قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك؟ وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأوا إن شئتم فهل عسيتم الآية " (١) أخرجه
_________
(١) البخاري ومسلم.
(أم) هي المنقطعة بمعنى بل، والهمزة التي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ أي بل أ (على قلوب أقفالها) فهم لا يفهمون ولا يعقلون قال مقاتل: يعني الطبع على القلوب، والتنكير إما لتهويل حالها أو تفظيع شأنها. كأنه قيل على قلوب منكرة لا يعرف حالها. وإما لأن المراد بها قلوب بعضهم وهم المنافقون
ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها قرىء أقفالها بالجمع، وإقفالها بكسر الهمزة على أنه مصدر، كالإقبال، والآية بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن، ولا يتأسى به، ويدخل فيه من نزلت فيه دخولاً أولياً، وأما المقلدة التاركة للتدبر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهؤلاء هم الذين على قلوبهم أقفالها.
(من بعد ما تبيّن لهم الهدى) بما جاءهم به رسول الله ﷺ من المعجزات الظاهرة والآيات القاهرة والدلائل الواضحة، والبراهين الباهرة (الشيطان سول لهم) أي زين لهم خطاياهم، وسهل لهم الوقوع فيها، وإقتراف الكبائر، والجملة خبر إن.
(وأملى لهم) أي مد لهم في الآمال والأماني ووعدهم طول العمر وقيل: إن الذي أملى لهم هو الله عز وجل على معنى أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، قرأ الجمهور أملى على البناء للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول، أي أمهلوا ومد في عمرهم، واختار القول بأن الفاعل هو الله الفراء والمفضل والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريباً.
وقيل: إن القائلين اليهود والذين كرهوا المنافقون ويؤيد كون القائلين المنافقين والكارهين اليهود قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السر بينهم قال الله سبحانه:
(والله يعلم إسرارهم) بكسر الهمزة على المصدر، أي إخفاءهم، وبها قرأ الكوفيون وقرأ الجمهور بفتحها على أنه جمع سر
(يضربون وجوههم وأدبارهم) في محل نصب على الحال من فاعل توفتهم، أو من مفعوله أي ضاربين وجوههم، وضاربين أدبارهم وفي الكلام تخويف وتشديد، والمعنى أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه، قيل: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب الملائكة في وجهه ودبره، وقيل: ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله، وقيل ذلك يوم القيامة والأول أولى.
(إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) قد تقدم تفسير الآية في غير موضع، وتقدم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين وثمرتها الأخروية (والذين كفروا يتمتعون) بمتاع الدنيا أياماً قلائل، وينتفعون به غير متفكرين في العاقبة.
(ويأكلون كما تأكل الأنعام) في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح، والمعنى كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة لا هون بما هم فيه، لا يلتفتون إلى الآخرة (والنار مثوى لهم) أي مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه، ومصير يصيرون إليه، والجملة في محل نصب على الحال أو مستأنفة.
ثم خوف الله سبحانه الكفار بأنه قد أهلك من هو أشد منهم فقال:
(وكأين من قرية) قد قدمنا أن كأين مركبة من الكاف وأي، وأنها بمعنى كم الخبرية أي وكم من قرية، والمعنى كم من أهل قرية كذبت رسلها (هي) أي هم (أشد قوة من) أهل (قريتك التي أخرجتك) أي أخرجوك منها (أهلكناهم) فكذلك نفعل بأهل قريتك فاصبر كما صبر رسل أهل هؤلاء القرى قال مقاتل: أي أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسلهم.
(فلا ناصر لهم) فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم قريش الذين
﴿ ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ قال المفسرون : لحن القول فحواه ومقصده ومغزاه، وما يعرضون به من تهجين أمرك، وأمر المسلمين، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلا عرفه، قال أبو زيد : لحنت له اللحن إذا قلت له قولا بفقهه عنك، ويخفي على غيره، وأصل اللحن إمالة الكلام وصرفه إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض بإزالة الإعراب أو التصحيف والأول محمود، والثاني مذموم، قال أبو سعيد الخدري في الآية : لحن القول ببغضهم علي بن أبي طالب.
﴿ والله يعلم أعمالكم ﴾ لا تخفي عليه منها خافية فيجازيكم بها، وفيه وعيد شديد ووعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين
هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مكة، فالكلام على حذف المضاف كما في قوله { واسأل القرية )، والجملة بيان لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على عدم ما بالذات، وهو حكاية حال ماضية إذ كان الظاهر أن يقال فلم ينصرهم ناصر لأن هذا إخبار عما مضى.
(وسيحبط أعمالهم) أي يبطلها، والمراد بهذه الأعمال ما صورته صورة أعمال الخير، كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل، لأن الكفر مانع، وقيل: المراد بالأعمال المكايد التي نصبوها لإبطال دين الله والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته
(ولا تبطلوا أعمالكم) قال الحسن: أي لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي، وقال الزهري: بالكبائر وهو الأولى، وقال الكلبي وابن جريج: بالرياء والسمعة، وقال مقاتل: بالمن، وقال عطاء: بالنفاق والشرك، قلت: والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال، كائناً ما كان، من غير تخصيص بنوع معين، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل، وفي لفظ فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم.
" وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي ﷺ نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات، والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاًً منها قلنا قد هلك حتى نزلت هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئاًً خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاًً رجوناه (١).
واستدل بهذه الآية من لا يرى إبطال النوافل، حتى لو دخل في صلاة تطوع، أو صوم تطوع، لا يجوز له إبطال ذلك العمل والخروج منه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال الشافعي بخلافه، ولا دليل لهم في الآية، ولا حجة، لأن السنة مبينة للكتاب.
_________
(١) انظر زاد المسير.
_________
(١) صحيح البخاري.
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة، وأنها ناسخة لقوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وقيل:
(والله معكم) بالنصر والمعونة عليهم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي لن ينقصكم شيئاًً من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وتراً إذا أنقصه حقه، وأصله من وترت الرجل إذا قتلت له قريباً أو نهبت له مالاً، ويقال: فلان مأتور إذا قتل له قتيل، ولم يؤخذ بدمه، قال الجوهري: أي لن ينقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت وأنت تريد في البيت، قال الفراء: هو مشتق من الموتر وهو الذحل وقيل: مشتق من الموتر وهو الفرد، فكأن المعنى ولن يفردكم بغير ثواب قال ابن عباس: يتركم يظلمكم.
(ولا يسألكم أموالكم) أي: لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها غيضاً من فيض، أي ربع العشر وهو الزكاة، وبه قال ابن عيينة وغيره، وقيل: المعنى ولا يسألكم
(ويخرج أضغانكم) الأضغان الأحقاد، والمعنى أنها تظهر عند ذلك قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان لدين الإسلام من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.
(ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي: يمنعهما الأجر والثواب، وبخل وضن يتعديان تارة بعلى، وبعن أخرى، لتضمينهما معنى الإمساك، والتعدي قال السمين: والأجود أن يكونا حال تعديهما بعن مضمنين معنى الإمساك وقيل: المعنى يبخل عن داعي نفسه، لا عن داعي ربه (والله الغني)
(وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم) معطوف على الشرطية المتقدمة وهي وإن تؤمنوا، والمعنى إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، يستبدل قوماً آخرين يكونوا مكانكم، هم أطوع لله منكم.
" عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هم الفرس هذا وقومه "، وفي إسناده مسلم الزنجي، قد تفرد به، وفيه مقال معروف، ولهذا الحديث طرق في الصحيح (١).
" وعن أبي هريرة قال: تلا رسول الله ﷺ هذه الآية فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله ﷺ على منكب سلمان، ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس " أخرجه الترمذي وابن مردويه من حديث جابر والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل، وعبد بن حميد وعبد الرزاق وفي إسناده أيضاًً مسلم ابن خالد الزنجي نحوه.
وقال عكرمة: هم فارس والروم، وقال الحسن: هم العجم، وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن وقيل الأنصار وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس، وقال الكلبي: هم كندة والنخعي عن عرب اليمن، وقال المحاسبي: فلا أحد يعد من جميع أجناس الأعاجم أحسن ديناً، ولا كانت منهم العلماء إلا الفرس.
_________
(١) الطبراني ٢٦/ ٦٦.
(ثم لا يكونوا أمثالكم) في التولي عن الإيمان والتقوى، بل مطيعين له عز وجل، قال ابن جرير في البخل بالإنفاق في سبيل الله، وكلمة ثم للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطبون لتقارب الناس في الأحوال واشتراكهم في الميل إلى المال.
(هي تسع وعشرون آية، وهي مدنية)
قال القرطبي: بالإجماع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وعن المسور بن مخرمة ومروان قالا نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها، وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية، لأن المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله ابن مغفل قال، قرأ رسول الله - ﷺ - عام الفتح في مسيرة سورة الفتح على راحلته فرجع فيها.
وفي الصحيحين، عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن رسول الله - ﷺ - كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب هلكت أم عمر نزرت رسول الله - ﷺ - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيب فقال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت لقد خشيت أن
وفي صحيح مسلم: عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) إلى قوله (فوزاً عظيماً) مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال " لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها " (١).
_________
(١) مسلم في صحيحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦)