تفسير سورة الواقعة

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

(٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (٦) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)
شرح الكلمات:
إذا وقعت الواقعة: أي قامت القيامة وقال فيها لأنها واقعة لا محالة.
ليس لوقعتها كاذبة: أي نفس تكذب بها بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا.
خافضة رافعة: أي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار، ولرفع آخرين بدخولهم الجنة.
إذا رجت الأرض رجا: أي حركت حركة شديدة.
وبست الجبال بسا: أي فتتت تفتيتاً.
فكانت هباء منبثا: أي غباراً منتشراً.
وكنتم أزواجاً ثلاثة: أي في القيامة أصنافاً ثلاثة.
فأصحاب الميمنة: أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ما أصحاب الميمنة: أي تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة.
وأصحاب المشأمة: أي الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.
ما أصحاب المشأمة: أي تحقير لشأنهم بدخولهم النار.
والسابقون: أي إلى الخير وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة في أول الدعوة.
السابقون: تعظيم لشأنهم.
أولئك المقربون: أي هم المقربون الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
في جنات النعيم: في بساتين النعيم الدائم.
238
معنى الآيات:
قوله تعالى في تقرير البعث والجزاء الذي كذب به المشركون وأنكروه في إصرار وعناد ﴿إِذَا ١وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ أي إذا قامت القيامة ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ أي نفس تكذب بها إذ يؤمن بها الجميع، خافضة لأقوام أي مظهرة لحالهم بأنهم أهل النار، رافعة لآخرين مظهرة لحالهم لأنهم من أهل الجنة. وقوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ٢ الْأَرْضُ رَجّاً﴾ أي حركت حركة شديدة، ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ٣ بَسّاً﴾ أي إذا بست الجبال أي فتتت تفتيتاً ﴿فَكَانَتْ٤ هَبَاءً مُنْبَثّاً﴾ أي غباراً منتشراً.
وقوله تعالى ﴿وَكُنْتُمْ﴾ أي أيها الناس ﴿أَزْوَاجاً﴾ أي أنواعاً ثلاثة: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والمقربون فأصحاب الميمنة أو الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم ما أصحاب٥ الميمنة أي أ، شأنهم عظيم وذلك بدخولهم الجنة دار النعيم. وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال أي اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم أي بمياسرهم ما أصحاب المشأمة أي شأنهم حقير وذلك بدخولهم النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة في أول ظهور الدعوة ٦السابقون هذا تعظيم لشأنهم وإعلان عن فوزهم وكرامتهم في جنات النعيم وهي بساتين ذات نعيم دائم جعلنا الله منهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير البعث والجزاء في الآخرة.
٢- الإيمان والتقوى يرفعان والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان.
٣- السابقون إلى الطاعات لهم فضل الأسبقية في كل زمان زمكان.
٤- اليساريون هم أشقياء الدنيا والآخرة. لأنهم عندما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق.
(الواقعة) علم بالغلبة على القيامة، وأصل الواقعة: الحادثة، ومن ذلك قولهم واقعة أحد أو بدر مثلاً، وإذا ظرف ضمن معنى الشرط متعلق بالكون المقدر في قوله: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ و ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا﴾ مستأنفة بيانية.
(إذا رجت الأرض) بدل من (إذا) الأولى، وجواب الشرط (إذا) الأولى والمبدلة منها هو قوله: (فأصحاب الميمنة).. الخ.
٣ البث: بمعنى التفتت للأجزاء المجموعة، ومنه: البسيسة: للسويق ويطلق البث على السوق للماشية، وفي الحديث: "فيأتي قوم فيبسون بأموالهم وأهليهم- أي: يسوقونهم – والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
٤ الهباء: ما يلوح في خيوط شعاع الشمس من دقيق الغبار.
(أصحاب الميمنة) :(ما) مبتدأ والخبر: أصحاب الميمنة، والجملة خبر فأصحاب الميمنة وكذا (ما أصحاب المشأمة).
٦ يجوز أن يكون (السابقون) : خبر عن الأول، وجملة: (أولئك المقربون) مستأنفة، ويجوز أن يكون (السابقون) الثاني: ويجوز أن تكون تأكيداً للأول، والخبر: جملة (أولائك). ً
239
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
شرح الكلمات:
ثلة من الأولين: أي جماعة من الأمم الماضية.
وقليل من الآخرين: أي من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هؤلاء هم السابقون.
على سرر موضونة: أي منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر.
ولدان مخلدون: أي على شكل الأولاد لا يهرمون فيخدمونهم أبداً.
بأكواب وأباريق: يطوف عليهم الولدان الخدم بأكواب وهي أقداح لا عرا لها، وأباريق لها عرا
وخراطيم.
وكأس من معين: أي وإناء لشرب الحمر ومعين بمعنى جارية من نهر لا ينقطع أبداً.
لا يصدعون: أي لا يحصل لهم من شربها صداع.
ولا ينزفون: أي ولا تذهب عقولهم يقال نزف الشارب وأنزف إذا ذهب عقله بالسكر.
وفاكهه مما يتخيرون: أي يختارون منها ما يروق لهم ويعجبهم وإن كانت كلها معجبة.
وحور عين: أي ولهم نساء بيض عين أي واسعة الأعين وشديدات سواد العيون وبياضها.
كأمثال اللؤلؤ المكنون: أي أولئك الحور العين هن في جمالهن وصفائهن كأمثال اللؤلؤ المصون.
240
لغواً ولا تأثيما: أي لا يسمعون في الجنة لغواً أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في
الإثم.
إلا قيلا سلاما سلاما: إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون إلا السلام من الملائكة ومن بعضهم بعضاً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافاً ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين. وهنا يقول في السابقين إنهم ثلة أي جماعة من الأولين أي١ من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإسلام مع أنبيائهم، وقيل من الآخرين٢ أي من هذه الأمة أمة محم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والمجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله الحق: ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر، حال كونهم متكئين عليها متقابلين لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وجهه، ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ أي لللخدمة ﴿وِلْدَانٌ﴾ غلمان ﴿مُخَلَّدُونَ٣﴾ لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبداً يطوفون عليهم بأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له، وأباريق جمع إبريق وهو إناء له عروة وخرطوم، ﴿وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ والكأس هنا إناء شرب الجمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر.
وقوله تعالى ﴿لا يُصَدَّعُونَ٤ عَنْهَا﴾ أي لا يصيبهم صداع من شربها، ولا ينزفون٥ أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالباً وقوله تعالى ﴿وَفَاكِهَةٍ﴾ ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي وهو من سائر الفواكه، مما يتخيرون أي يختارون. ولحم طير مما يشتهون أي مما تشتهيه أنفسهم.
وقوله ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن، واحدة الحور حوراء. وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والحور في العين أن يكون بياضها أكثر من
١ قوله: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) اعتراض بين جملة (في جنات النعيم) وجملة: (على سرر موضونة) وثلة: خبر لمبتدأ محذوف أي هم: ثلة الخ.
٢ من الأولى والثانية تبعيضية.
٣ قيل: إنهم على سن واحدة، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الولدان هم أولاد المسلمين الذين يموتون صغاراً. وقال سلمان: هم أولاد المشركين الذين يموتون صغاراً. والله أعلم.
٤ التصديع: الإصابة بالصداع، وهو وجع الرأس من الخمار الناشيء عن السكر أي لا تصيبهم الخمر بصداع، وعنها بمعنى: لا يصيبهم صداع ناشيء عنها.
٥ قرأ نافع (ينزفون) بفتح الزاي من: أنزفه وقرأها حفص (ينزفون) بكسر الزاي من أنزف القاصر، إذا سكر وذهب عقله.
241
سوادها وهو ضرب من الجمال، وقوله ﴿كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ أي المصون في كنه أو صدفه.
يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقد تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام.
وقوله تعالى ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي جزاهم ربهم جزاهم بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي.
وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم لا يسمعون في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيء فلا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً أي١ كلاماً فاحشاً ولا تأثيما وهو ما يؤثم قائله وسامعه. إلا قيلا أي قولا سلاماً سلاماًُ أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القاريء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير البعث والجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة.
٢- بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم.
٣- بيان أن السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة.
٤-بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة.
٥- تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل.
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (٣٦) عُرُباً أَتْرَاباً (٣٧) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
١ اللغو ن الكلام في الدنيا هو: ما لا يحصل حسنة للمعاد ولا درهما للمعاش وفي الآخرة هو ما لا يسر من كل قول إذ الحياة: حياة سعادة وسور وحبور.
242
شرح الكلمات:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين: هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذكرٌ لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم.
في سدر مخضود: في شجر السدر وثمره النبق ومخضود لا شوك فيه.
وطلح منضود: أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة.
وظل ممدود: أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه.
وماء مسكوب: أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب.
لا مقطوعة ولا ممنوعة: أي غير مقطوعة في زمن، ولا ممنوعة بثمن.
وفرش مرفوعة: أي على السرر العالية الرفيعة.
إنا أنشأناهن إنشاء: أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين. إذ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزاً شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديداً بكراً تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب.
فجعلناهن أبكاراً: الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء.
عرباً: الواحدة عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.
أتراباً: أي مستويات في السن الواحدة يقال لها تربٌ والجمع أتراب.
لأصحاب اليمين: وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها.
ثلة من الأولين: أي من الأمم السابقة.
وثلة من الآخرين: أي من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
243
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ١﴾ وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى: ﴿مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ٢﴾ تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بين ذلك بقوله: ﴿فِي سِدْرٍ٣ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ٤ وَلا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز، والماء المصبوب الجاري، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ ٥ يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون، وقوله ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً﴾ عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان عربا أتراباً العروب٦ هي المتحببة إلى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن، وترب٧ الإنسان من ولد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله لأصحاب اليمين أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن. وقوله ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ﴾ أي من الأمم الماضية ﴿وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأدخلنا الجنة معهم.
١ هذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة على إثر تفصيل شؤون السابقين.
٢ الإخبار ب (ما أصحاب اليمين) : فيه من التفخيم ما فيه!!
٣ خبر محذوف المبتدأ تقديره: هم في سدر.
٤ لا مقطوعة ولا ممنوعة: هذا وصف للفاكهة، والنفي هنا أثبت من الإثبات لأنه بمنزلة وصف وتوكيد.
٥ لما ذكر الفرش قد يخطر بالبال هل هناك نساء يكن بصحبة أهلها؟ فأجيب بقولي: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ﴾ أي: الحور العين ﴿إِنْشَاءً﴾ فكانت الجملة مستأنفة استأنفاً بيانياً، وضمير المؤنث (أنشأناهن) عائد إلى غير مذكور في الكلام لكنه ملحوظ في الأفهام.
٦ العرب: جمع عروب، ويقال: عربة ويجمع على عربات، وهذا اسم خاص بالمرأة المتحببة إلى زوجها كما في التفسير.
٧ الأتراب: جمع ترب وهي المرأة التي تساوى سنها سن من تضاف إليه من النساء، وقيل: إن الترب خاص بالمرأة، وأما المساواة في السن من الرجال فيقال له قرن، ولدة.
244
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين.
٢- بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروباً.
٣- تقرير أن ثمن الجنة الإيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦)
شرح الكلمات:
وأصحاب الشمال: أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا.
في سموم: أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد.
وحميم: أي ماء حار شديد الحرارة.
وظل من يحموم: أي دخان شديد السواد.
245
لا بارد ولا كريم: أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر.
كانوا قبل ذلك: أي في الدنيا.
مترفين: أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله.
يصرون على الحنث العظيم: أي الذنب العظيم وهو الشرك.
وكانوا يقولون أئذا متنا الآن: أي وكانوا ينكرون البعث الآخر.
لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم: أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة.
أيها الضالون المكذبون: أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء.
من شجر من زقوم: أي من أخبث الشجر المر في غاية الكراهة والبشاعة طعماً ولوناً.
فشاربون شرب الهيم: أي شاربون شرب الإبل العطاش، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى.
هذا نزلهم يوم الدين: أي هذا ما أعد لهم من قرىً يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ١ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم ﴿فِي سَمُومٍ٢﴾ أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم ﴿وَحَمِيمٍ﴾ وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم، ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ٣ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ﴾ إنه دخان أسود شديد السواد ﴿لا بَارِدٍ﴾ كغيره من الظلال ﴿وَلا كَرِيمٍ﴾ أي وليس بذي حسن في منظره. وقوله تعالى ﴿إِنَّهُمْ٤ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ ٥ هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم
١ هذا شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التوزيع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين.
(السموم) : الريح الشديدة الحرارة التي لا بلل معها كأنها مأخوذة من السم.
٣ اليحموم: الدخان الأسود مشتق من الحمم على وزن صرد اسم للفحم والحممة: الفحمة. وفي قوله تعالى: ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ﴾ تهكم ظاهر.
٤ الجملة تعليلية إذ هي علة لما أصاب أصحاب الشمال من الهون والدون والعذاب الأليم.
٥ ظاهر اللفظ أن الترف هو سبب كفرهم وإصرارهم على ذلك وجائز أن يكون الترف بعض السبب لا كله، والعبرة بالواقع والإشارة في قوله: (قبل ذلك) عائدة إلى السموم واليحموم والظل من اليحموم.
246
إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون، ﴿وَكَانُوا يُصِرُّونَ١ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ﴾ أي على الإثم العظيم أي الشرك وكبائر الإثم والفواحش.
﴿وَكَانُوا يَقُولُونَ﴾ منكرين للبعث والجزاء جاحدين باليوم الآخر- ﴿أَإِذَا مِتْنَا٢ وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ أي أحياء كما كنا في الدنيا ﴿أَوَآبَاؤُنَا﴾ أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإنكار. وهنا أمر تعالى رسوله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرد عليهم بقوله ﴿قُلْ﴾ أي قل لهم: ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ﴾ أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم إلى نهاية حياة الإنسان ﴿لَمَجْمُوعُونَ٣ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة ﴿ثُمَّ٤ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ﴾ عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبداً وإنكم ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ﴾ وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا﴾ بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد، ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشَارِبُونَ شُرْبَ٥ الْهِيمِ﴾ أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين منه كما تكثر الإبل الهيم٦ التي أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها. قوله تعالى ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ٧ يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي ننزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى: طعام وشراب وفراش.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- أصحاب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف أضعاف السابقين وأصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون.
٢- التنديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود إلى ترك التكاليف الشرعية فيهلك
١ صيغة المضارع (يصرون) دالة على تجدد الإصرار منهم.
٢ قرأ الجمهور ومنهم حفص بإثبات الاستفهام الأول والثاني، وقرأ نافع بالاستفهام في (أإذا متنا) والإخبار في (إنا لمبعوثون).
(مجموعون) : أي: مبعوثون دفعة واحدة جميعاً دفعاً لما قد يتوهم أنهم يبعثون على فترات كما كان وجودهم وموتهم في الدنيا على فترات مختلفة.
٤ هذا من جملة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوله لهم.
٥ الهيم: جمع أهيم وهو البعير الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يصيب الإبل يورثها حمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروى والمؤنث هيمى إذ المذكر أهيم.
٦ قرأ نافع وحفص: (شرب) بضم الشين، وقرأ بعض شرب بفتح الشين مصدر شرب يشرب شرباً.
٧ النزل: بضم النون والزاي: ما يعد للضيف ويقدم له من طعام وشراب وهو هنا تشبيه تهكمي كالاستعارة كما في قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
247
صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافراً وشرابه لذيذاً.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
شرح الكلمات:
نحن خلقناكم: أي أوجدناكم من العدم.
فلولا تصدقون: أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.
أفرأيتم ما تمنون: أي الذي تصبونه من المني بالجماع في أرحام نسائكم.
248
أأنتم تخلقونه: أي بشراً أم نحن الخالقون له بشراً.
نحن قدرنا بينكم الموت: أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وعجلنا لكل واحد أجلاً معيناً لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.
وما نحن بمسبوقين: أي بعاجزين.
على أن نبدل أمثالكم: أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.
وننشئكم فيما لا تعلمون: أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.
ولقد علمتم النشأة الأولى: أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.
أفلا تذكرون: فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.
أفرأيتم ما تحرثون: أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.
أأنتم تزرعونه: أي تنبتونه.
أم نحن الزارعون: أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.
لو نشاء لجعلناه حطاما: أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاماً يابساً بعد أن أصبح سنبلاً وقارب أن يفرك فتحرمون منه.
فظلتم تفكهون: أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.
إنا لمغرمون: أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.
بل نحن محرومون: أي لسنا بمعذبين به وإنما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.
أفرأيتم الماء الذي تشربون: أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.
أأنتم أنزلتموه من المزن: أي من السحاب في السماء إلى الأرض.
أم نحن المنزلون: أي له إلى الأرض.
لو نشاء لجعلناه أجاجا: أي ملحاً مراً لا يمكن شربه.
249
فلولا تشكرون: أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.
أفرأيتم النار التي تورون: أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.
أأنتم أنشأتم شجرتها: أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.
أم نحن المنشئون: أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.
نحن جعلناها تذكرة: أي جعلنا تلك النار تذكرة أي تذكر بنار جهنم.
ومتاعاً للمقوين١: أي بلغةً للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم أو الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.
معنى الآيات:
السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى ﴿نَحْنُ٢ خَلَقْنَاكُمْ﴾ وأنتم معترفون بذلك إذ لما نسألكم من خلقكم تقولون الله. إذاً ﴿فَلَوْلا ٣تُصَدِّقُونَ﴾ أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولاً ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع ﴿أَأَنْتُمْ٤ تَخْلُقُونَهُ﴾ ولداً ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ والجواب نحن الخالقون إذاً القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم
١ المقوى: من نزل القوى والقواء والقي أيضاً: أي الأرض القفر التي لا شيء فيها ولا أنيس بها يقال: أقوت الدار وقويت أيضاً أي: خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم٢
موقع هذه الجملة: الاستدلال والتعليل لما تضمنه جملة ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ من عقيدة البعث والجزاء وتقريرها.
٣ الفاء للتفريع فالجملة متفرعة عن قوله تعالى ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ وهي متضمنة للتحضيض على التصديق بالبعث الآخر إذ لولا هنا للتحضيض على ذلك.
٤ الاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا الإقرار بأن خالق الجنين من نطفة هو الله.
250
بلى وثالثاً ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ١ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقاً ذميما وقبيحاً كالقردة والخنازير، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذاً عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.
إذاً ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعاً ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ ٢ من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع ﴿أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذاً فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه لو نشاء لجعلناه بعد نضرته وقرب حصاده حطاما يابساً لا تنتفعون منه بشيء٣ فظلتم تفكهون متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به٤ ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن أنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا الماء الذي تشربون وحياتكم متوقفة عليه أخبروني ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ﴾ من السحاب ﴿أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولاً وثانياً لو نشأ لجعلنا الماء ملحاً مراً لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا النار التي تورون وتشعلونها أخبروني ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على
١ السبق: كناية عن الغلبة والتعجيز، لأن السبق يستلزم أن السابق غالب للمسبوق فمعنى: وما نحن (بمسبوقين) أي: غير مغلوبين. قال الشاعر:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
٢ الشبه قوي بين تحويل النطفة إلى جنين، والحبة إلى نبات فهي مناسبة عجيبة بين الدليلين.
٣ أصل (فظلمتم) فظللتم فحذت إحدى اللامين تخفيفاً كما حذفت إحدى التاءين من (تفكهون) إذ الأصل (تتفكهون).
٤ هذا بناء على ا، الغرام: هو العذاب كقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ أو هو من الغرامة التي هي ذهاب مال المرء وأخذه منه بغير عوض.
251
سلوككم ويجزيكم به. وقوله تعالى ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا﴾ أي النار ﴿تَذْكِرَةً﴾ لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضاً متاعاً أي بلغة للمقوين١ المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.
وقوله تعالى ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ٢ الْعَظِيمِ﴾ بعد إقامة الحجة على منكري البعث بالأدلة العقلية أمر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلابد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها إلا سفيه هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.
٣- بيان منن الله تعالى على عباده في طعامهم وشرابهم.
٤- وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.
٥- في النار التي توقدها عبرة، وعظة للمتقين.
٦- وجوب تسبيح٣ الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)
١ المقوى: الداخل في القواء وهو القفر، فالمقوون، الداخلون في القواء الذي هو القفر والقفار وهذه حال المسافر، والمقوى أيضاً: الجائع القفر البطن الخاوي من الطعام، فالنار يتمتع بها المسافرون للاستضاءة والاستدفاء وطبخ الطعام.
٢ الباء في باسم: زائدة لتوكيد اللصوق أي: اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب والتعقيب، واسم الرب هو الله الدال على ذاته سبحانه وتعالى، والتسبيح. التنزيه عما لا يليق ولفظه سبحان الله أي: ننزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.
٣ في الصحيح: "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم" قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجعلوها في ركوعكم" فكان المصلي إذا ركع قال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً أو أكثر امتثالا لأمر الله ورسوله".
252
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
شرح الكلمات:
فلا أقسم: أي فأقسم ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم.
بمواقع النجوم: أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك.
وإنه: أي القسم بها.
لو تعلمون عظيم: أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم هذا القسم.
إنه: أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون.
في كتاب مكنون: أي مصون وهو المصحف.
لا يمسه إلا المطهرون: أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر.
تنزيل من رب العالمين: أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله.
أفبهذا الحديث: أي القرآن.
أنتم مدهنون: أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.
وتجعلون رزقكم: أي شكر الله على رزقكم.
أنكم تكذبون: أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ ١ أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغاربها وإنه أي قسمي هذا لقسم لو تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم عظيم. لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها إنه لقسم بشيء عظيم.
(لا) صلة في قول أكثر المفسرين أي: فأقسم بمواقع النجوم وقيل: هي نفي أي ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف فقال: فأقسم كقول الرجل: لا والله ما كان كذا وكذا، ولا يريد به نفي اليمين بل يريد به نفي كلام سابق وقيل: لا بمعنى ألا أداة تنبيه وشاهده قول الشاعر:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
253
والمقسم عليه هو قوله إنه أي المكذب به لقرآن كريم١، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ أي مصون ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من الأحداث الصغرى٢ والكبرى ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ٣ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلا طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث. وقوله تعالى ﴿أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ أي القرآن أنتم مدهنون تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر وتجعلون رزقكم٤ أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم أنكم تكذبون أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- بيان أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وإن العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.
٢- تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.
٣- وجوب صيانة القرآن الكريم، وحرمة مسه على غير طهارة.
٤- حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئاً من ديته.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
(كريم) لما فيه من كريم الأخلاق، ومعالي الأمور ولأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه ويسعد وينجو العامل به.
٢ قال القرطبي: اختلف في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء وزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي وأحمد.
(تنزيل) بمعنى: منزل من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالرد بمعنى المردود.
٤ صلح وضع لفظ الرزق موضع الشكر لأن شكر الرزق يسبب الزيادة في الرزق فأطلق السبب وأريد المسبب.
254
الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
شرح الكلمات:
فلولا: أي فهلا وهي للحض على العمل والحث عليه.
إذا بلغت الحلقوم: أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع.
وأنتم تنظرون: أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه.
ونحن أقرب إليه منكم: أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المحتضر منكم.
ولكن لا تبصرون: أي الملائكة.
فلولا إن كنتم غبر مدينين: أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت.
ترجعونها إن كنتم صادقين: أي ترجعون الروح إلى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في أنكم لا تبعثون ولا تحاسبون.
فأما إن كان: أي الميت.
من المقربين: أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة.
فروح وريحان: أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنة نعيم.
وأما إن كان من أصحاب اليمين: أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين. أي من إخوانك يسلمون عليك فإنهم في جنات النعيم.
فنزل من حميم: أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة.
وتصلية جحيم: أي احتراق بها.
إن هذا لهو حق اليقين: أي إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين.
255
فسبح باسم ربك العظيم: أي نزه وقدس اسم ربك العظيم.
معنى الآيات:
بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم إلى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى ١ ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ﴾ أي الروح٢ ﴿الْحُلْقُومَ﴾ وهو مجرى الطعام ﴿وَأَنْتُمْ﴾ في٣ ذلك الوقت ﴿تَنْظُرُونَ﴾ مريضكم وهو يعاني من سكرات الموت، ونحن أقرب إليه منكم أي رسلنا أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان. وقوله ﴿فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم ترجعونها الروح بعد ما بلغت الحلقوم إن كنتم صادقين في أنكم غير مدينين لله بأعمالكم، أي فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها.
وقوله تعالى ﴿فَأَمَّا إِنْ٤ كَانَ﴾ أي المحتضر من المقربين وهم السابقون ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ ٥ أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك إلى دار السلام.
وأما إن كان المحتضر من المكذبين لله ورسوله المنكرين للبعث الآخر الضالين عن الهدى ودين الحق ﴿فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته وتصلية٦ جحيم أي واحتراق بالجحيم.
وقوله تعالى ﴿إِنَّ هَذَا٧ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ ٨ أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين. وقوله ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم
١ لم يجر للروح ذكر إلا أن المقام دال عليها كما قال حاتم.
أما وي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرت يوماً وضاق بها الصدر٢
(لولا) حرف تحضيض مستعمل هنا في التعجيز، لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حض عليه كان عاجزا (وإذا بلغت) ظرف متعلق ب (ترجعونها) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه.
(وأنتم) الجملة الحالية وكذا جملة (ونحن أقرب إليه منكم) حالية أيضاً.
٤ الفاء للتفريع إذ ما بعدها من بيان حال من مات من سعادة أو شقاء متفرع عن الموت وانتهاء الحياة.
٥ الروح: الراحة أي: هو في راحة ونعيم، وعلى قراءة روح بضم الراء فالمعنى: أن روح المؤمن معها الريحان وهو الطيب والريحان شجر لورقه وقضبانه رائحة ذكية طيبة.
٦ التصلية: مصدر صلاه المشدد: إذا أحرقه وشواه يقال: صلى اللحم تصلية: إذا شواه والجحيم: النار المؤججة، وهو علم على جهنم دار العذاب.
٧ هذه الجملة تذييل لجميع ما تقدم في هذه السورة من وعد ووعيد واستدلال على تقرير النبوة والبعث والتوحيد ويدخل فيه دخولا أولياً الأقرب ذكراً وهو ما ذكر في التفسير.
٨ اشتملت جملة: (إن هذا لهو حق اليقين) على أربع مؤكدات وهي: إن، ولام الابتداء، وضمير الفصل، وإضافة شبه المترادفين وهما: الحق واليقين، وخامس وهو الجملة الاسمية لإفادتها الدوام والثبوت.
256
ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله علي وسلم لأصحابه "اجعلوها في ركوعكم"، والتسبيح التقديس والنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى.
٣- أن في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله.
٤- بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين.
٥- القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.
٦- مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع.
257
سورة الحديد
مدنية
وآياتها تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
257
Icon