تفسير سورة النّاس

فتح البيان
تفسير سورة سورة الناس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الناس
هي ست آيات، والخلاف في كونها مكية أو مدنية كالخلاف الذي تقدم في سورة الفلق، قال ابن عباس : أنزل بمكة ﴿ قل أعوذ برب الناس ﴾، وعن ابن الزبير قال : أنزل بالمدينة.
وقد قدمنا في سورة الفلق ما ورد في سبب نزول هذه السورة، وما ورد في فضلها، فارجع إليه، وأتى الحافظ ابن القيم في البدائع بفوائد بديعة كثيرة تتعلق بالمعوذتين، وكتب عشرين ورقة في بيان ذلك، لا يتسع هذا المقام لبسطها، إن شئت فراجعه.

(قُلْ أَعُوذُ) قرأ الجمهور بالهمزة وقرىء بحذفها ونقل حركتها إلى اللام (برب الناس) قرأ الجمهور بترك الإمالة في الناس وقرىء بالإمالة، والمعنى مالك أمرهم ومربيهم ومصلح أحوالهم وإنما قال رب الناس مع أنه رب جميع مخلوقاته للدلالة على شرفهم ولكون الاستعاذة وقعت من شر ما يوسوس في صدورهم.
وقوله
(ملك الناس) عطف بيان جيء به لبيان أن رتبته سبحانه ليست كرتبة سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والسلطان القاهر وقد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف بخلاف الفاتحة فاختلفوا فيها كما مضى.
(إله الناس) هو أيضاًً عطف بيان لبيان أن ربوبيته وملكه قد انضم إليهما المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي بالإيجاد والإعدام.
وأيضاًً الرب قد يكون ملكاً وقد لا يكون ملكاً كما يقال رب الدار، ورب المتاع، ومنه قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فبين أنه ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلهاً وقد لا يكون فبين إنه إله لأن اسم الإله خاص به لا يشاركه فيه أحد.
465
وأيضاًً بدأ باسم الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه من أوائل عمره إلى أن صار عاقلاً كاملاً، فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك فذكر أنه ملك الناس.
ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه وأنه عبد مخلوق وإن خالقه إله معبود بين سبحانه أنه إله الناس، وكرر لفظ الناس في الثلاثة المواضع لأن عطف البيان يحتاج إلى مزية الإظهار والبيان، ولأن التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، وقيل أراد بالأول الأطفال، ومعنى الربوبية يدل عليه، وبالثاني الشباب ولفظ الملك المنبيء عن السياسة يدل عليه، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبيء عن العبادة يدل عليه، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه، ذكره النسفي، ولا وجه لهذا التخصيص وإنما هذا الكلام من لطائف البيان.
466
(من شر الوسواس) قال الفراء هو بفتح الواو بمعنى الاسم أي الموسوس وبكسرها المصدر أي الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وقيل هو بالفتح اسم لمعنى الوسوسة، والوسوسة هي حديث النفس يقال وسوست إليه نفسه وسوسة أي حدثته حديثاً، وأصلها الصوت الخفي، ومنه قيل لأصوات الحلى وسواس.
قال الزجاج الوسواس هو الشيطان أي ذي الوسواس ويقال إن الوسواس ابن لإبليس وسمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه، وقد سبق تحقيق معنى الوسوسة في تفسير قوله (فوسوس لهما الشيطان) ومعنى (الخناس) كثير الخنس وهو التأخر يقال خنس إذا تأخر، قال مجاهد إذا ذكر الله خنس وانقبض وإذا لم يذكر انبسط على القلب.
ووصف بالخناس لأنه كثير الإختفاء ومنه قوله تعالى (فلا أقسم بالخنس) يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل الخناس اسم لابن إبليس كما تقدم في الوسواس.
466
وعن ابن عباس في قوله الوسواس الخناس قال مثل الشيطان كمثل ابن عرس واضع فمه على فم القلب فيوسوس إليه، فإن ذكر الله خنس وإن سكت عاد إليه فهو الوسواس الخناس.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسيه التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " أخرجه ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وأبو يعلى وابن شاهين والبيهقي في الشعب.
وعن ابن عباس في الآية قال الشيطان جاث على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس وإذا ذكر الله خنس وعنه قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس، فذلك قوله الوسواس الخناس.
وقد ورد في معنى هذا غيره وظاهره أن مطلق ذكر الله يطرد الشيطان وإن لم يكن على طريق الإستعاذة، ولذكر الله سبحانه فوائد جليلة حاصلها الفوز بخيري الدنيا والآخرة.
467
(الذي يوسوس في صدور الناس) قال قتادة أن الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا غفل ابن آدم عن ذكر الله وسوس له وإذا ذكر العبد ربه خنس.
قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
والجملة في محل الجر على الصفة أو الرفع على تقدير مبتدأ والنصب على الذم، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس.
ثم بين سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي فقال (من الجنة
والناس) أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته، في صدور الناس أنه يرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه (شياطين الإنس والجن) ويجوز أن يكون متعلقاً بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ويجوز أن يكون بياناً للناس.
قال الرازي وقال قوم من الجنة والناس قسمان مندرجان تحت قوله (في صدور الناس) لأن القدر المشترك بين الجن والإنس سمي إنساناً، والإنسان أيضاًً سمى إنساناً فيكون لفظ الإنسان واقعاً على الجنس والنوع بالإشتراك.
والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه لفظ الإنس والجن ما روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم من أنتم قالوا ناس من الجن وأيضاًً قد سماهم الله تعالى رجالاً في قوله (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) وقيل يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، كأنه استعاذ ربه من ذلك الشيطان الواحد ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس.
وقيل المراد بالناس " الناسي " وسقطت الياء كسقوطها في قوله يوم يدع الداع، ثم بين بالجنة والناس لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان.
وأحسن من هذا أن يكون قوله (والناس) معطوفاً على الوسواس أي من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس، قال الحسن أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس مباشرة أما شيطان الإنس فيأتي علانية.
وقال قتادة: إن من الجن شياطين وإن من الإنس شياطين فنعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، وقيل إن إبليس يوسوس في صدور الإنس.
468
وواحد الجنة جني كما أن واحد الإنس إنسي والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا تكون إلا بالمعنى الذي قدمنا ويكون هذا البيان تذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ بالله منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله " أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الحال المرتحل، قيل وما الحال المرتحل، قال الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل "، أخرجه الترمذي.
469
الخاتمة
يقول العبد الضعيف الخامل المتواري، مؤلف هذا التفسير صديق ابن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري، ختم الله له بالحسنى، وأذاقه حلاوة رضوانه الأسنى.
وإلى هنا انتهى هذا التفسير الجامع بين فني الرواية والدراية، الرافع من ألوية التحقيق والتنقيح أعظم راية، وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله التاسع والعشرون من شهر ذي الحجة أحد شهور سنة تسع وثمانين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها الصلاة والسلام والتحية، وقد تم بتمامه، وانتهى بانتهائه الأسبوع والشهر والسنة اللهم كما مننت علي بإكمال هذا التفسير وأعنتني على تحصيله وتفضلت عليّ بالفراغ منه على ما أردت فامنن علي بقبوله واجعله لي ذخيرة خير عندك وأجزل لي المثوبة بما صرفت الوقت في تحريره كما قلت في كتابك (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) وكما قلت في هذا الباب.
كل يجيء بكسبه وكتابه يوم القيامة آخر الأزمان
في حضرة الرحمن جل جلاله عم الورى بالعفو والغفران
ويجيء هذا العبد وهو مقصر بكتابه التفسير فتح بيان
ثم اللهم انفع به من أخلفه من بعدي من ولدي ومن شئت من عبادك المؤمنين ليدوم لي الانتفاع به بعد موتي، فإن هذا هو المقصد الجليل، والمطلب الجميل، من هذا الجمع والتأليف واجعله خالصاً لوجهك الكريم وتجاوز عني إذا خطر لي من خواطر السوء ما فيه شائبة تخالف الإخلاص والتوحيد، واغفر لي ما لا يطابق مرادك، فإني لم أقصد في جميع أبحاثي فيه إلا إصابة الحق وموافقة ما ترضاه، فإن أخطأت فأنت غافر الخطيآت ومسبل ذيل الستر على الهفوات، وإن أصبت فأنت قابل الطاعات، ومانح العطيات يا باريء
471
الباريات، وقد جمعته في زمنٍ أَهْلهُ بغير الكتاب والسنة يفخرون، وصنعته كما صنع نوح عليه السلام الفلك ومنه يسخرون، ولله در من يقول:
إذا رضيت علي كرام عشيرتي فلا زال غضباناً عليّ لئامها
ثم اللهم أحمدك على ما أوليتني من نعمك الوافرة من الأموال والأولاد والعلم النافع من الكتاب العزيز والسنة المطهّرة لا أحصي حمداً لك، وأشكرك على ما رزقتني من خلوص النية في القول والعمل والاعتقاد، لا أحصي شكرك أنت كما أثنيت على نفسك، وقد رويت في صحيح مسلم بن الحجاج بسنده المتصل إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم " إذ مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " اللهم فهذا علم ينتفع به وقد علمت نيتي وعدم انتصاري في تفسير كتابك لمذهب ذاهب أو قول قائل ما عدا قولك وما صحّ عن رسولك (١) صلى الله عليه وآله وسلم فانفعني به في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأجزني بما أنت له أهل يا أهل التقوى وأهل المغفرة، وهذه أولادي فاجعلهم من عبادك الصالحين وممن يدعو لي بعد مماتي ووفقهم للعلم النافع والعمل الصالح، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم مما لا تحبه ولا ترضاه واجعل لي ولهم لسان صدق في الآخرين، رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، وقد طعنت في العشر الخامس من عمري و (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) فاعذرني فلم (أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).
ولنختتم الكلام بالحمد لله رب العالمين كما بدأنا به أول مرة، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على خير خلقه محمد وآله وصحبه كرة بعد كرة.
انتهى الكتاب بعون الله
_________
(١) قوله " وما صحّ عن رسولك " فيه نظر كما تقدم فهناك أحاديث ضعيفة وإسرائيليات.
472
خاتمة الجزء الخامس عشر
تم بعونه تعالى الجزء الخامس عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن وبذلك نكون قد أتممنا الكتاب بأجزائه الخمسة عشر.
473
إن المؤلف رحمه الله وضع بعض الحواشي ثم وضع الأستاذ المطيعي عند طبعه الكتاب الطبعة الأولى في الهند بعض الحواشي ووضعنا قربها كلمة المطيعي.
أما معظم الحواشي وتخريج الآيات والأحاديث من كتب الحديث وبعض التعليقات المفيدة التي وضعت في الكتاب فهي من كتابة فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري وقد قام عدة علماء أجلاء بقراءتها والموافقة عليها.
الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري.
474
Icon