تفسير سورة البقرة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
سورة البقرة مدنية
مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية

﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾
قال الشعبي وجماعة :﴿ ألم ﴾ وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء، والأنبياء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء، والعلماء استأثروا بعلم لا تقدر عليه عقول العامّة، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : في كل كتاب سرّ وسرّ الله في القرآن أوائل السور. وقال عليّ رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، قال داود بن أبي هند : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال : يا داود إنّ لكل كتاب سرّاً وإنّ سرّ القرآن فواتح السور فدعها واسأل عما سوى ذلك، وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : معنى ﴿ ألم ﴾ أنا الله أعلم ومعنى ﴿ الر ﴾ ( يونس : ١ ) أنا الله أرى ومعنى ﴿ المر ﴾ ( الرحمن، ١ ) أنا الله أعلم وأرى، قال الزجاج : وهذا حسن فإنّ العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم :
قلت لها قفي فقالت : قاف***
أي : وقفت. وقيل : هي أسماء السور وعليه إطباق أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط قدرتهم عند معارضتها، ونقضه الإمام الرازي بأنها لو كانت اسماً لها لوجب اشتهارها بها وقد اشتهرت بغيرها كسورة البقرة وآل عمران وقيل : أسماء للقرآن قاله قتادة. والحكمة في الإتيان بهذه الأحرف الثلاثة أنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفة وهي آخرها، جمع الله تعالى بينها إيماء إلى أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى ولما تكاثر وقوع الألف واللام في تراكيب الكلام جاءتا في معظم الفواتح مكرّرتين وهي فواتح سورة البقرة وأوّل آل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة.
فإن قيل : هلا عددت هذه الأحرف بأجمعها في أوائل القرآن وما لها جاءت مفرّقة على السور ؟ أجيب : بأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الإسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرّة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرّر في النفوس وتقريره.
فإن قيل : هلا جاءت على وتيرة واحدة ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص وق ون على حرف، وطه وطس ويس وحم على حرفين، وألم وألر وطسم على ثلاثة أحرف، وألمص وألمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحمعسق على خمسة أحرف ؟ أجيب : بأنّ هذا على عادة افتنانهم في أساليب الكلام وتصرّفهم فيه على طرق شتى ومذاهب عدّة، وكما أنّ أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك سلك بهذه الفواتح تلك المسالك.
فإن قيل : ما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها ؟ أجيب : بأنه لما كان الغرض هو التنبيه والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو ؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل بذلك.
فإن قيل : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب ؟ أجيب : بأنّ لها محلاً عند من جعلها أسماء لأنها عنده كسائر الأعلام محلها يحتمل ثلاثة أوجه : إمّا الرفع بأنها مبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف أي : هذه ألم، أو النصب بفعل مقدّر كاذكر أو اقرأ أو اتل ألم، أو الجرّ بتقدير حذف حرف القسم.
﴿ ذلك الكتاب ﴾ الذي تقرؤه يا محمد على الناس ﴿ لا ريب فيه ﴾ لا شك في أنه من عند الله تعالى.
فإن قيل : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ؟ أجيب : بأن الإشارة وقعت فيه للتعظيم ولذلك قال الطيبي : أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول صاحب «المفتاح » قال ذلك الكتاب ذهاباً إلى بعده درجة وقيل : وقعت الإشارة إلى ﴿ ألم ﴾ بعدما سبق التكلم به وتقضى، والمنقضي في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا وقال تعالى :﴿ لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ﴾ ( البقرة، ٦٨ ) وقال نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم ﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي ﴾ ( يوسف، ٣٧ ) ولأنه لما وصل من المرسل سبحانه وتعالى إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم وقع في حدّ البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك أي : تمسك به، وقيل : معناه ذلك الكتاب الموعود إنزاله بقوله تعالى :﴿ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ﴾ ( المزمل، ٥ ) أو في الكتب المتقدّمة لأن سورة البقرة مدنية كما مرّ وأكثرها احتجاج على اليهود وعلى بني إسرائيل وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام إن الله يرسل محمداً وينزل عليه كتاباً فقال تعالى :﴿ ذلك الكتاب ﴾ أي : الذي أخبر الأنبياء المتقدّمون بأن الله سينزله على النبيّ المبعوث من ولد إسماعيل وقيل : إنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله : وإنه في أمّ الكتاب لدينا وقد كان صلى الله عليه وسلم أخبر أمته بذلك فغير ممتنع أن يقول تعالى :﴿ ذلك الكتاب ﴾ ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. والكتاب مصدر سمي به المفعول للمبالغة أو فعال بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب، وأصل الكتب الضمّ والجمع، سمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى حرف والكتاب جاء في القرآن على وجوه، أحدها : الفرض قال تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ ( البقرة، ١٧٨ ) ﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ ( البقرة، ١٨٣ ) ﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ ( النساء، ١٠٣ ) وثانيها : الحجة والبرهان قال تعالى :﴿ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ﴾ ( الصافات، ١٥٧ ) أي : برهانكم، وثالثها : الأجل قال تعالى :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ﴾ ( الحجر، ٤ ) أي : أجل، ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد رقيقه، قال تعالى :﴿ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ﴾ ( النور، ٣٣ ).
فإن قيل : كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق وكم من مرتاب فيه ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى ما نفى أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ﴾ ( البقرة، ٢٣ ) فإنه لم ينف عنهم الريب بل أرشدهم إلى الطريق المزيح للريب وهو أن يجتهدوا في معارضة سورة من سوره ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة وقيل : هو خبر بمعنى النهي أي : لا ترتابوا فيه كقوله تعالى :﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ﴾ ( البقرة، ١٩٧ ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيه الريبة وهي قلق النفس واضطرابها سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، وفي الحديث :( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الشك ريبة والصدق طمأنينة )، رواه الترمذي لكن بلفظ فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة وصححه، ومعناه : اترك ما فيه شك إلى ما لا شك فيه فإذا ارتابت نفسك في شيء فاتركه أو اطمأنت إليه فافعله فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب وهذا مخصوص بذوي النفوس الشريفة القدسية الطاهرة.
تنبيه : جملة النفي خبر مبتدؤه ذلك و﴿ هدى ﴾ خبر ثانٍ أي هادٍ ﴿ للمتقين ﴾ الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. وتخصيص المتقين بالذكر تشريفاً لهم ولأنهم هم المنتفعون بالهدى كما قال تعالى :﴿ إنما أنت منذر من يخشاها ﴾ ( النازعات، ٤٥ ) وقال تعالى :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر ﴾ ( يس، ١١ ) وقد كان صلى الله عليه وسلم منذراً لكل الناس لأنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره.
ولها ثلاث مراتب :
الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري عن الشرك وعليه قوله تعالى :﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾ ( الفتح، ٢٦ ).
والثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهذا التجنب هو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى :﴿ ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا ﴾ ( المائدة، ٦٥ ) ( الأعراف، ٩٦ ) وعلى هذا قول عمر بن عبد العزيز : التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير.
والثالثة : أن يتنزه عما يشغل سرّه عن الحق تعالى وهذه هي التقوى الحقيقية المطلوبة بقوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ﴾ ( آل عمران، ١٠٢ ) وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. قرأ ابن كثير : فيه هدى، فيصل الهاء من فيه بياء في الوصل لأنها مكسورة وقبلها ساكن فإن كانت هاء الكناية مضمومة وقبلها ساكن وصلها بواو فإن كان قبلها متحرّك وبعدها متحرّك فجميع القرّاء يصلونها مكسورة بياء ويصلونها مضمومة بواو، فمثال المكسورة به أن يوصل، ومثال المضمومة قال له صاحبه وهو وما أشبه ذلك، فإن كان قبلها متحرّك وبعدها ساكن فالجميع على عدم الصلة مثال ذلك به الله وله الملك وما أشبه ذلك، ويدغم أبو عمرو الهاء في الهاء بخلاف عنه، وكذا كل مثلين ما لم يكن الحرف المدغم تاء متكلم مثل : كنت تراباً أو تاء مخاطب مثل أفأنت تكره الناس أو منوّناً مثل : سميع عليم أو مشدّداً مثل : فتمّ ميقات ربه.
ثم وصف المتقين بما هو شأنهم بقوله :﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ أي : يصدّقون بما غاب عنهم من البعث والجزاء والجنة والنار والصراط والميزان، والإيمان لغة التصديق وشرعاً قيل : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوّة والبعث والجزاء ومجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدّثين والمعتزلة والخوارج والأصح أنه التصديق وحده، ويدل له أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال :﴿ كتب في قلوبهم الإيمان ﴾ ( المجادلة، ٢٢ ) وقال :﴿ وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ ( النحل، ١٠٦ ) وقال :﴿ ولم تؤمن قلوبهم ﴾ ( المائدة، ٤١ ) وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ ( الحجرات، ٩ ) ﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ ( البقرة، ١٧٨ ) فلو لم يكن الإيمان التصديق فقط بل هو وترك المعاصي لم يكونوا مؤمنين.
فإن قيل : قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وغيره : إنّ الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، أجيب : بأن ذلك محمول على الإيمان الكامل. وقرأ ورش والسوسي بإبدال الهمزة الساكنة في يؤمنون واواً وكذا يقرأ حمزة في الوقف ﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهآتها يقال : قام بالأمر وأقامه إذا أتى به يعطي حقوقه لأنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة كالخشوع والإقبال على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولذلك ذكر في سياق المدح ﴿ والمقيمين الصلاة ﴾ ( النساء، ١٦٢ ) وفي معرض الذمّ ﴿ فويل للمصلين ﴾ ( الماعون، ٤ ) والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الوحدان كقوله تعالى :﴿ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ﴾ ( البقرة، ٢١٣ ) يعني : الكتب، والصلاة في اللغة : الدعاء، قال الله تعالى :﴿ وصل عليهم ﴾ ( التوبة، ١٠٣ ) أي : ادع لهم، وفي الشرع إسم لأفعال وأقوال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. وقرأ ورش بتغليظ اللام في الصلاة حيث جاء ﴿ ومما رزقناهم ﴾ أي : أعطيناهم ﴿ ينفقون ﴾ يخرجون المال في طاعة الله فرضاً كان أو نفلاً، ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانها بالصلاة لأنهما يذكران معاً في القرآن ويحتمل أن يراد به الإنفاق مما منحهم الله من النعم الظاهرة والباطنة، ويؤيده ما رواه الطبرانيّ في «الأوسط » مرفوعاً :( مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه ) وإلى هذا ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. والرزق بالكسر في اللغة : الحظ، قال الله تعالى :﴿ وتجعلون رزقكم ﴾ أي : حظكم ونصيبكم من القرآن ﴿ أنكم تكذبون ﴾ ( الواقعة، ٨٢ ) وأمّا بالفتح فهو مصدر بمعنى إعطاء الحظ كما أنه بالكسر يكون مصدراً أيضاً كما قيل به في قوله تعالى :﴿ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ﴾ ( النحل، ٧٥ ) وفي العرف اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والرقيق، والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام لأنه تعالى منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا : الرزق لا يتناول الحرام ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال الصرف الطيب وأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله تعالى :﴿ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ﴾ ( يونس، ٥٩ ) وأجاب أهل السنة عما ذكر بأن الإسناد التعظيم والتحريض على الإنفاق والذم بتحريم ما لم يحرم واختصاص ما رزقهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق له بما رواه ابن ماجة وغيره من حديث صفوان بن أمية قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه عمرو بن قرّة فقال : يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفّي بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال :( لا آذن لك ولا كرامة، كذبت أي عدوّ الله لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلّ الله لك من حلاله ) وبأنه لو لم يكن رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً وليس كذلك لقوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ ( هود، ٦ ).
تنبيه : تقديم رزقناهم على ينفقون للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه في حق من لم يصبر على الإضاقة وإلا فليس بإسراف فقد تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ أي القرآن بأسره والشريعة عن آخرها، وإنما عبر عنه بلفظ المضيّ وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد فيكون مجازاً باعتبار تسمية الكل باسم البعض أو تنزيلاً للمنتظر منزلة الواقع فيكون استعارة باعتبار تشبيه غير المتحقق بالمتحقق، وفي كل من هذين الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الإمام الشافعي رضي الله عنه ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ أي : التوراة والإنجيل وغيرهما من سائر الكتب السابقة على القرآن والإيمان بالإنزالين جملة فرض عين وبالأوّل دون الثاني تفصيلاً من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ولكن على الكفاية لأنّ وجوبه على كل أحد يوجب الحرج ويشوش المعاش، وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله.
فائدة : الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب أنزل على السيد شيث ستون صحيفة وعلى السيد إبراهيم ثلاثون وعلى السيد موسى قبل التوراة عشر فهذه مائة والأربعة الأخرى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، واختلف القرّاء في مدّ وقصر ما أنزل فقالون والدوري عن أبي عمر يمدّان ويقصران، وابن كثير والسوسي يقصران بلا خلاف وباقي القرّاء وهم ورش وعاصم وحمزة والكسائي يمدُّون بلا خلاف ويتفاوتون في طول المدّ فأطولهم مدّاً ورش وحمزة ودونهما عاصم ودونه ابن عامر والكسائي وهكذا كل مدّ منفصل ﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ أي : يعلمون أنها كائنة لأنّ اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه قاله الإمام الرازي، ولذلك لا يوصف به العلم القديم ولا العلوم الضرورية فلا يقال تيقن الله كذا ولا تيقنت أنّ الكل أكبر من الجزء.
فائدة : سميت الدنيا دنيا لدنوّها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا وهي تأنيث الآخر صفة الدار وبدليل قوله تعالى :﴿ تلك الدار الآخرة ﴾ ( القصص، ٨٣ ) قرأ ورش الآخرة بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث جاء وكذا الأرض، وقد أفلح، ومن آمن، وما أشبه ذلك.
﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿ على هدى ﴾ أي : رشد ﴿ من ربهم ﴾ ونكر هدى للتعظيم فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره وأكد تعظيمه بأنّ الله مانحه والموفق له.
تنبيه : جميع القرّاء يمدّون أولئك بلا خلاف لأنه متصل لكن مرتبة ابن كثير وأبي عمرو دون مرتبة ابن عامر والكسائي في المتصل والمنفصل، وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة والكاف للخطاب كما في حرف ذلك ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون بالجنة والناجون من النار كرّر فيه اسم الإشارة تنبيهاً على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحد من الاختصاصين وأن كلاً منهما كافٍ في تمييزهم بها عن غيرهم فلا يحتاجون فيه إلى مجموعهما.
فإن قيل : لم وسط العاطف بين هاتين الجملتين دون قوله تعالى :﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ﴾ ( الأعراف، ١٧٩ ) ؟ أجيب : بأن الجملتين هنا مختلفتان باختلاف المسندين فيهما إذ على هدى من ربهم والمفلحون وإن تناسبتا تعلقاً مختلفتان مفهوماً ووجوداً ومقصوداً لأن الهدى في الدنيا والفلاح في العقبى وإثبات كل منهما مقصود في نفسه بخلاف كالأنعام والغافلون فإنهما وإن اختلفا مفهوماً قد اتحدا مقصوداً ووجوداً إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة في الغفلة في الدنيا فناسب العطف في الأوّل دون الثاني.
تنبيه : تأمّل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتى بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسط الفصل لإظهار قدرهم والترغيب في اقتضاء أثرهم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض فهم المقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر الله تعالى خاصة عباده وخاصة أوليائه بصفاتهم التي أهلتهم للهدى والفلاح عقبهم بذكر أضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا تغني عنهم الآيات والنذر بقوله تعالى :
﴿ إن الذين كفروا ﴾ الكفر لغة : ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح وهو الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر ولكمام الثمر كافور، وفي الشرع إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، وينقسم إلى أربعة أقسام : كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق، فكفر الإنكار هو أن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به، وكفر الجحود هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقرّ بلسانه ككفر إبليس واليهود قال الله تعالى :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ ( البقرة، ٨٩ ) وكفر العناد هو أن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وأمّا كفر النفاق فهو أن يقرّ باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الأقسام من لقي الله تعالى بواحد منها لا يغفر له قال الله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾ ( النساء، ٤٨ ١١٦ ).
تنبيه : احتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي نحو :﴿ إن الذين كفروا ﴾ ( البقرة، ٦ ) ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر ﴾ ( الحجر، ٩ ) ﴿ إنا أرسلنا نوحاً ﴾ ( نوح، ١ ) على حدوث القرآن لاستدعاء ما جاء فيه بلفظ الماضي سابقية المخبر عنه والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره فأجاب أهل السنة : بأن ما جاء فيه بلفظ الماضي مقتضى تعلق الحكم بالخبر عنه وحدوث مقتضى التعلق لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله كما في عمله تعالى فإنه قديم ومقتضى تعلقه بغيره حادث والحاصل أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق وهو الكلام اللفظيّ حدوث الكلام النفسيّ. ﴿ سواء عليهم ﴾ أي متساوٍ لديهم ﴿ أأنذرتهم أم لم تنذرهم ﴾ أي : خوّفتهم وحذرتهم أم لا والإنذار إعلام مع تخويف وتحذير فكل منذر معلم وليس كل معلم منذراً وإنما اقتصر عليه دون البشارة لأنه أوقع في القلب وأشدّ تأثيراً في النفس من حيث أن دفع الضرر أهمّ من جلب النفع فإذا لم ينفع فيهم الإنذار كانت البشارة بعدم النفع أولى ﴿ لا يؤمنون ﴾ بما جئت به وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله تعالى كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما فلا تطمع في إيمانهم، واحتجّ بهذه الآية من جوّز تكليف ما لا يطاق فإنه سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان فلو آمنوا وقع الخلف في كلامه تعالى وهو محال والحق أن التكليف بالممتنع لذاته جائز عقلاً غير واقع بخلاف التكليف بالممتنع لغيره كالذي تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه فإنه جائز وواقع اتفاقاً.
تنبيه : هاهنا همزتان مفتوحتان من كلمة فقالون وأبو عمرو يسهلان الثانية ويدخلان بينهما ألفاً وكذا ورش وابن كثير إلا أنهما لم يدخلا ألفاً بينهما ولورش وجه آخر وهو أن يبدل الثانية حرف مدّ، وهشام له وجهان : تسهيل الهمزة الثانية وتحقيقها مع إدخال ألف بينهما والباقون بالتحقيق والقصر وجميع القرّاء يحققون الأولى.
ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ أي : طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير، والختم : الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له ﴿ وعلى سمعهم ﴾ أي : مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق، وقوله تعالى :﴿ وعلى أبصارهم ﴾ أي : أعينهم ﴿ غشاوة ﴾ مبتدأ وخبر أي : على أعينهم غطاءً من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى :﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ﴾ ( النحل، ١٠٨ ) وبالإغفال في قوله تعالى :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾ ( الكهف، ٢٨ ) وبالإقساء في قوله تعالى :﴿ وجعلنا قلوبهم قاسية ﴾ ( المائدة، ١٣ ) وهذه الهيئة من حيث أنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث أنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى :﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم ﴾ ( النساء، ١٥٥ ) وقوله تعالى :﴿ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ﴾ ( المنافقون، ٣ ) وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.
فإن قيل : لم وحد السمع دون القلوب والأبصار ؟ أجيب : بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازاً على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع، قال البيضاويّ : ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة، كما قال الله تعالى :﴿ إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ ( ق، ٣٧ ) أي : عقل، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير ﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ أي : قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه، والعذاب كلّ ما يعيي الإنسان ويشق عليه، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير، وإذا كان الحقير مقابلاً للعظيم والصغير، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيراً والكبير قد يكون حقيراً كما أنّ الصغير قد يكون عظيماً، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعاً عظيماً منه أي : على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.
ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى :﴿ ومن الناس ﴾ أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح ﴿ من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ﴾ أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين، قالوا : صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلاً للتقسيم، وهذا الصنف أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى لأنهم مع مشاركتهم للكفار الأصليين في أنهم جاهلون بالقلب كاذبون باللسان من حيث أنهم ينسبون إلى الله تعالى ما هو بريء منه كالولد، والزوجة، والشريك زادوا عليهم بأمور منكرة منها أنهم قصدوا التلبيس ورضوا لأنفسهم بسمة الكذب ولبسوا الكفر على المسلمين فخلطوا به خداعاً واستهزاءً ولذلك طوّل الله في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم أنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار. واللام في الناس للجنس ومن موصوفة لا للعهد وكأنه قال تعالى : ومن الناس ناس يقولون، وقيل : للعهد والمعهود، هم الذين كفروا، ومن موصولة مراد بها ابن أبيّ وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث أنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس.
فإن قيل : خصت من بالموصوفة على تقدير الجنس، وبالموصولة على تقدير العهد، أجيب : بأنّ الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة لتنكيرها، والعهد لتعيينه يناسب الموصولة لتعريفها واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادّعاء بأنهم اختاروا الإيمان من المبدأ والمعاد وإئذان بأنهم منافقون فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق وهو عدم التصديق بالقلب لأنّ القوم كانوا يهوداً وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وأنّ الجنة لا يدخلها غيرهم، وأنّ النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة وغير ذلك، ويرون المسلمين أنهم آمنوا مثل إيمانهم، وفي تكرير الباء ادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام، والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة بطرفين ﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ لإبطانهم الكفر، وهذا إنكار لما ادّعوا إثباته، ووحد الضمير في يقول نظراً إلى لفظة من لأنها صالحة للتثنية والجمع والواحد وجمع فيما بعدها نظراً إلى معناها.
فإن قيل : كيف طابق قوله وما هم بمؤمنين قولهم : آمنا بالله فإنّ الأوّل في ذكر شأن الفعل لا الفاعل والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل فكان المطابق له وما آمنوا، أجيب : بأنه إنما عدل إلى ذلك لردّ كلامهم بأبلغ وجه وآكده لأنّ إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء ونظيره قوله تعالى :﴿ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ﴾ ( المائدة، ٣٧ ) هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها، وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به وهو قوله تعالى :﴿ بالله وباليوم الآخر ﴾ لأنّ وما هم بمؤمنين جوابه، والآية تدل على أنّ من ادّعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمناً لأنّ من تفوّه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمناً.
﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ إذ أظهروا خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية ويحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع، فالمخادع أظهر خلاف ما يضمر والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إمّا مخادعة رسوله أو أوليائه على حذف المضاف لأنهم لم يعتقدوا أنّ الله بعث الرسول إليهم فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله تعالى فعلم أنّ خداعهم مع الله ليس المراد ظاهره كما في قوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ ( يوسف، ٨٢ ) أي : أهلها أو على أنّ معاملة الرسول معاملة الله تعالى من حيث أنه خليفته كما قال تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( النساء، ٨٠ ) ﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾ ( الفتح، ١٠ ) وأمّا أنّ صورة صنيعهم مع الله تعالى من إظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنيع الله معهم من إجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجاً لهم وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام مجاراة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين، ويحتمل أن يراد بيخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمغالبة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مغالبة معارض استصحبت الزنة ما ذكر من المبالغة وقال الجلال المحلى : والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها تحسين. ﴿ وما يخدعون إلا أنفسهم ﴾ لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم فيفتضحون في الدنيا باطلاع نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة والنفس ذات الشيء وحقيقته. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال، وقرأ الباقون وهم عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وما يخدعون بفتح الياء وسكون الخاء ولا ألف بعدها وفتح الدال ولا خلاف بين القرّاء في الكلمة الأولى وهي يخادعون الله فالجميع قرؤوا بضمّ الياء وفتح الخاء وألف بعدها وكسر الدال وأمّا الرسم في الموضعين فبغير ألف ﴿ وما يشعرون ﴾ أي : لا يحسون بمعنى لا يعلمون أنّ خداعهم لأنفسهم لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على موؤف الحواس وهو المصاب بآفة.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾ أي : شك ونفاق لأن ذلك يمرض قلوبهم أي : يضعفها، والمرض حقيقة هو فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمال أفعالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والبغض وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل الفضائل أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، والآية تحتمل الحقيقة والمجاز وعلى المجاز اقتصر أكثر المفسرين لأنه أبلغ من الحقيقة ﴿ فزادهم الله مرضاً ﴾ بما أنزل من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكاً ونفاقاً وإسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه خلقها وأوجدها وإلى السورة في قوله تعالى :﴿ فزادتهم رجساً ﴾ ( التوبة، ١٢٥ ) لكونها سبباً، وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف التي بعد الزاي محضة، والباقون بالفتح ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم بفتح اللام وصف به العذاب للمبالغة إذ الألم إنما هو للمعذب حقيقة لا للعذاب فنسبة الألم إلى العذاب مجاز ويجوز كسر لام مؤلم كسميع بمعنى مسمع وعليه فنسبة الأليم إلى العذاب حقيقة ﴿ بما كانوا يكذبون ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمّ الياء وفتح الكاف وتشديد الذال أي : بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الكاف وتخفيف الذال أي : بكذبهم في قولهم : آمنا لأنّ الإيمان التصديق بالقلب والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، قال البيضاويّ تبعاً للزمخشري : وهو حرام كله لأنه علل به استحقاق العذاب حيث رتب على الكذب وما روي أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات أي : لما روى البخاريّ ومسلم في حديث الشفاعة ( فيقول إبراهيم : إني كذبت ثلاث كذبات ) وذكر قوله في الكوكب : هذا ربي، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا، وقوله : إني سقيم، فالمراد التعريض أي : وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر، وقيل : هو خلاف التصريح وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وسمي تعريضاً لما فيه من التعريض عن المطلوب، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به، انتهى. وهذا ليس على إطلاقه فإن من الكذب ما هو مباح وما هو مندوب وما هو واجب وما هو حرام لأن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق، فالكذب فيه حرام، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحاً، ومندوب إن كان المقصود مندوباً، وواجب إن كان المقصود واجباً، وفي حديث الطبرانيّ في «الكبير » ( كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثاً، الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما )، وفي حديث في «الأوسط » ( الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دينه )
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي : لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفاً على خبر كان، فيكون جزءاً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم، أو على يقول، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفاً على صلة من فلا يكون جزءاً من السبب، والقائل هو الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو بعض المؤمنين، ﴿ لا تفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر والتعويق عن الإيمان، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح ضدّه، والفساد يعمّ كل ضارّ، والصلاح يعمّ كل نافع، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسداً وصنيعهم لم يكن كذلك، فقوله تعالى :﴿ لا تفسدوا في الأرض ﴾ مجاز باعتبار المآل أي : لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة، نبه على ذلك السعد التفتازاني ﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن ﴿ إنما ﴾ تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ﴾ ( فاطر، ٨ }.
قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ :﴿ ألا إنهم هم المفسدون ﴾ أي : بما ذكر ﴿ ولكن لا يشعرون ﴾ أي : لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي : لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح، وقيل : لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقاً وبأنّ المقرّرة للنسبة وتعريف الخبر وتوسط ضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا ﴾ هذا من تمام النصح والإرشاد فإنّ كمال الإيمان بمجموع أمرين : الإعراض عما لا ينبغي وهو المقصود بقوله : لا تفسدوا والإتيان بما ينبغي وهو المطلوب بقوله :﴿ آمنوا ﴾. ﴿ كما آمن الناس ﴾ أي : كإيمان الناس الكاملين في الإنسانية الموافق باطنهم فيه لظاهرهم العاملين بقضية العقل، فاللام في الناس للجنس فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسماه مطلقاً يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة منه، أو للعهد، والمراد به الرسول ومن معه، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. وقرأ هشام والكسائي : قيل، بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الباء، ولورش في الهمزة من آمنوا وآمن المدّ والتوسط والقصر ﴿ قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ﴾ أي : الجهال، فاللام في السفهاء للعهد وهم من تقدّم، أو لجنس السفهاء بأسرهم وإنما سفهوهم لاعتقاد فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأشياعه.
قال الله تعالى رداً عليهم أبلغ رد :﴿ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ﴾ أنهم سفهاء بما فعلوه من إبطان غير ما أظهروه، ووجه الأبلغية في تجهيلهم أنّ الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة وأتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فإنه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.
فإن قيل : كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ أجيب : بأنّ هذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك والسفه خفة وسخافة رأي يقتضيهما نقصان العقل والعلم يقابله.
فإن قيل : لم عبر في هذه الآية بلا يعلمون وفي التي قبلها بلا يشعرون ؟ أجيب : بأنّ التعبير بلا يعلمون أكثر مطابقة لذكر السفه لأن السفه جهل فطابقه العلم ولأنّ أمر الإيمان أخروي يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يعلمون، وأمر البغي والفساد دنيوي فهو كالمحسوس لا يحتاج إلى دقة نظر، فعبر في الآية التي اشتملت عليه بلا يشعرون، ويشعر مضارع شعر، يقال : شعرت كذا، أي : حسست به أو أدركته، أي : فطنت له، وقد استعمل بالمعنى الأوّل في قوله :﴿ وما يشعرون ﴾ وفي الثاني بقوله :﴿ لا يشعرون ﴾ كما يعلم مما به قررته في الآيتين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : السفهاء ألا، بتحقيق الهمزتين، وكذا كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وبإبدال الثانية واواً خالصة.
﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا ﴾ اللقاء المصادقة وهي الاجتماع من غير مواعدة يقال : لقيته ولاقيته إذا صادفته واستقبلته، وأصل لقوا لقيوا حذف الضمة للاستثقال ثم الياء لالتقائها ساكنة مع الواو ﴿ قالوا آمنا ﴾ أي : كإيمانكم ﴿ وإذا خلوا ﴾ منهم ورجعوا ﴿ إلى شياطينهم ﴾ أي : الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم المظهرون كفرهم وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم ﴿ قالوا إنا معكم ﴾ أي : في الدين والاعتقاد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية ومماثلي الشياطين بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، وقصدوا بالثانية تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه، ولأنه لم يكن لهم باعث من عقيدة وصدق ورغبة فيما خاطبوا به المؤمنين ولا توقع رواج ادّعاء الكمال في الإيمان على المؤمنين من المهاجرين والأنصار بخلاف ما قالوه مع الكفار ﴿ إنما نحن مستهزئون ﴾ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي : نسخر بهم بإظهارنا الإسلام لأنّ المستهزئ بالشيء المستخف به مصرّ على خلافه فهذا تأكيد لما قبله أو بدل منه لأنّ من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف فكأنّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا : إنا معكم، إن صح ذلك : فما بالكم توافقون المؤمنين وتدّعون الإيمان فأجابوا بذلك.
تنبيه : بين سبحانه وتعالى بهذه الآية معاملة المنافقين مع المؤمنين والكفار، روى الواحديّ وغيره ولكن بسند ضعيف ( أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة فقال لقومه : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال : مرحباً بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : مرحباً بسيد بني عديّ الفاروق القويّ في دينه الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عليّ رضي الله تعالى عنه فقال : مرحباً بابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ) أي : زوج بنته عند العامّة وعند العرب كل من كان من قبل المرأة وكل منهما صحيح هنا، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وما صدّر به قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يقول آمنا ﴾ فمسوق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير.
﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ أي : يجازيهم على استهزائهم، سمي جزاء الاستهزاء باسمه كما سمي جزاء السيئة بسيئة، إما لمقابلة اللفظ باللفظ أو لكونه مماثلاً له في القدر ومثل هذا يسمى مشاكلة أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء والغرض منه أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ، أما في الدنيا فبإجراء أحكام الإسلام عليهم واستدراجهم بالإمهال والزيادة في النعمة مع التمادي في الطغيان، وأمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم وهم في النار باباً إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى :﴿ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ﴾ ( المطففين، ٣٤ ) وإنما استؤنف به ولم يعطف ليدل على أنه تعالى تولى مجازاتهم ولم يحوج المؤمنين أن يعارضوهم وأنّ استهزاءهم لا يبالي به لحقارتهم ﴿ ويمدّهم في طغيانهم ﴾ أي : في ضلالاتهم ﴿ يعمهون ﴾ يتردّدون متحيرين، والطغيان بالضم والكسر تجاوز الحدّ في العصيان والغلوّ في الكفر، وأصله تجاوز الشيء عن مكانه، قال تعالى :﴿ إنا لما طغى الماء حملناكم ﴾ ( الحاقة، ١١ ) قال البيضاوي : والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر يقال : رجل عامه وعمه وأرض عمهاء لا منار لها اه. وظاهر كلامه اختصاص العمه بالبصيرة والعمى بالبصر وهو ما ذكره ابن عطية فبينهما تباين، وقال الإمام وغيره : العمه في البصيرة والعمى عام فيها وفي البصر، فبينهما عموم مطلق وأمال الدوري عن الكسائي ألف طغيانهم إمالة محضة وفتحها الباقون.
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ أي : اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصل الشراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضاً تعين من حيث أنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعاً في غيره، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح ﴿ فما ربحت تجارتهم ﴾ أي : ما ربحوا فيها. والتجارة : التصرف بالبيع والشراء، والربح الفضل على رأس المال، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث أنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعداهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.
﴿ مثلهم ﴾ أي : شبههم وصفتهم في نفاقهم ﴿ كمثل الذي ﴾ بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره ﴿ والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون ﴾ ( الزمر، ٣٣ )، وقوله تعالى :﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ ( التوبة، ٦٩ ) أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي ﴿ استوقد ﴾ أي : أوقد ﴿ ناراً ﴾ في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم، قال البيضاوي : والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود ﴿ فلما أضاءت ﴾ أي : أنارت النار، وأضاء لازم ومتعدّ، يقال : أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره ﴿ ما حوله ﴾ أي : المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه ﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ أي : أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى :﴿ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية، وكيف جمع الظلمة، وكيف نكرها، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله :﴿ لا يبصرون ﴾ وظلماتهم : ظلمة الكفر ؛ وظلمة النفاق ؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم، أو ظلمة الضلال وظلمة سخط الله وظلمة العقاب السرمدي، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمات متراكمة، والآية وهي قوله :﴿ مثلهم ﴾ إلخ مثل ضربه الله لإيمان المنافقين من حيث أنه يعود عليهم بحقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، هذا هو الوارد، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وقيل : مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى وأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً تقريراً وتوبيخاً لما تضمنه قوله تعالى :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ الخ. . ويدخل تحت عموم ما تضمنته الآية هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة أو ارتدّ عن دينه بعدما آمن. وقرأ ورش بترقيق راء يبصرون.
هم ﴿ صم ﴾ عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وأصل الصمم صلابة من اجتماع الأجزاء ومنه قيل : حجر أصم وقناة صماء وصمام القارورة سمي به فقدان حاسة السمع لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مجتمعاً لا تجويف فيه يشتمل على هواء يسمع الصوت بتموّجه ﴿ بكم ﴾ خرس عن الخير فلا يقولونه، والخرس في الأصل عدم القدرة على النطق ﴿ عمي ﴾ عن طريق الهدى فلا يرونه، والعمى في الأصل عدم البصر عما من شأن أن يبصر، وقد يقال لعدم البصيرة ﴿ فهم لا يرجعون ﴾ أي : لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اشتروها.
﴿ أو ﴾ مثلهم ﴿ كصيب ﴾ فهو معطوف على الذي استوقد أي : كمثل أصحاب صيب لقوله :﴿ يجعلون أصابعهم في آذانهم ﴾ و﴿ أو ﴾ في الأصل للتساوي للشك، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وقوله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ﴾ ( الإنسان، ٢٤ ) فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله :﴿ أو كصيب من السماء ﴾ ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري، قال : لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول، يقال للمطر وللسحاب، والآية تحتملهما، أي ينزل ﴿ من السماء ﴾ ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحداً وجمعاً ﴿ فيه ﴾ أي : الصيب، وقيل : السماء ﴿ ظلمات ﴾ جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل ﴿ ورعد ﴾ وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي : والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد ﴿ وبرق ﴾ وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضاً فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث، ففي بعضها : أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع، وفي بعضها : أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها : أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه، وفي بعضها : أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته ﴿ يجعلون ﴾ أي : أصحاب الصيب ﴿ أصابعهم ﴾ أي : أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فراراً من شدّة الصوت ﴿ في آذانهم ﴾ وقوله :﴿ من الصواعق ﴾ متعلق بيجعلون أي : من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك : صاعقة وقيل : الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال :( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى :﴿ حذر الموت ﴾ نصب على العلة كقول الشاعر :
وأغفر ( أي :
أستر ) عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
قال البيضاوي : والموت زوال الحياة، زاد في «الطوالع » : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً، والأظهر كما في «شرح المواقف » أن يقال : عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين، وقيل : عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى :﴿ خلق الموت والحياة ﴾ ( الملك، ٢ ) فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم، حيث قيل في بعضها : إنه كبش، وفي بعضها : إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما ( أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ) الخ. . . ﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ علماً وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل، وقيل : مهلكم دليله قوله تعالى :﴿ إلا أن يحاط بكم ﴾ ( يوسف، ٦٦ ) أي : تهلكوا، والجملة اعتراضية لا محل لها، قال أبو حيان : لأنها دخلت بين هاتين الجملتين، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء، والباقون بالفتح.
﴿ يكاد البرق ﴾ يقرب لأن كاد من أفعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لحصول سببه لكنه لم يوجد إما لفقد شرط أو لعروض مانع وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب ﴿ يخطف أبصارهم ﴾ يختلسها، والخطف : الأخذ بسرعة ﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه ﴾ أي : ضوئه ﴿ وإذا أظلم عليهم قاموا ﴾ أي : وقفوا متحيّرين فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفاتها أنّ الساري لا يمكنه المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم في آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدّة توقده، فهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر : القرآن، لأنه حياة القلوب كما أنّ المطر حياة الأبدان، والظلمات : ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك، والرعد : ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار، والبرق : ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة، والكافرون والمنافقون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه ولإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وإنما قال الله تعالى مع الإضاءة : كلما ومع الإظلام : إذا، لأنهم حرّاس على المشي كلما صادفوا منه فرصة مما يحبون انتهزوها ولا كذلك التوقف فيما يكرهون. ومعنى قاموا : وقفوا، كما مرّ، ومنه قامت السوق إذا ركدت، أي : سكنت، ويقال : قامت السوق بمعنى : نفقت، فهو من الأضداد. ﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم ﴾ بمعنى : أسماعهم ﴿ وأبصارهم ﴾ الظاهرة كما ذهب بالباطنة، أي : ولو شاء أن يذهب بسمعهم بشدّة صوت الرعد وأبصارهم بلمعان البرق لذهب بهما فحذف المفعول وهو أن يذهب لدلالة الجواب وهو لذهب عليه، ولقد تكاثر حذف المفعول في شاء وأراد إذا وقعا في حيز الشك كما هنا لدلالة الجواب على ذلك المحذوف حتى لا يكاد يذكر إلا في الشيء المستغرب، كقول القائل :
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليك ولكن ساحة الصبر أوسع
وأتى فيه بالمفعول لأنّ بكاء الدم مستغرب ونصب دماً لتضمنه معنى الصب ولو من حروف الشرط، قال البيضاوي : وظاهرها الدلالة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. اه. وهذا مذهب ابن الحاجب، وأمّا مذهب الجمهور وهو الأصح فإنها في الأصل لانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل، فمعنى لو جئتني أكرمتك أن انتفاء الإكرام لانتفاء المجيء، وقيل : إنها لمجرّد الربط كان ومن ثم قال التفتازاني أنّ لو هنا لمجرّد الشرط بمنزلة أن لا بمعناها الأصلي وفائدة هذه الجملة الشرطية إبداء المانع لذهاب سمعهم وأبصارهم مع قيام ما يقتضيه وهو أنه تعالى أمهل المنافقين فيما هم فيه ليتمادوا في الغيّ والفساد ليكون عذابهم أشدّ وللتنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبباتها مشروط بمشيئة الله تعالى وأنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، وقوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء ﴾ أي : يشاؤه، ﴿ قدير ﴾ كالتصريح بما ذكر والتقرير له والشيء يختص بالموجود فلا يطلق على المعدوم.
فإن قيل : لو اختص الشيء بالموجود لما تعلقت به القدرة لأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة وتأثيرها الإيجاد وإيجاد الموجود محال فالذي تعلقت به القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء، أجيب : بأن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم، واللازم إيجاد موجود هو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال، والقدرة هو التمكن من إيجاد الشيء، وقيل : صفة مقتضى التمكن، وقيل : قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل وقدرة الله تعالى عبارة عن نفي العجز عنه، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، والقدير الفعال لما يشاء ولذلك قلما يوصف به غير الباري تعالى، واشتقاق القدير من القدرة لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدرار قوّته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وفي ذلك دليل على أنّ الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران، وأنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم لأنه شيء وكل شيء مقدور، واحتج بعض الفرق بأن هذه الآية تدل على أن الله تعالى ليس بشيء، قال : لأنها تدل على أنّ كل شيء مقدور لله تعالى والله سبحانه وتعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئاً، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ( الشورى، ١١ ) قال : لو كان هو تعالى شيئاً فهو تعالى مثل مثل نفسه فكان يكذب قوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا يناقض هذه الآية.
واعلم أنّ هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، واحتج أصحابنا بوجهين : الأوّل قوله تعالى :﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ﴾ ( الأنعام، ١٩ ) والثاني قوله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ ( القصص، ٨٨ ) والمستثنى داخل في المستثنى منه فوجب أن يكون شيئاً، وأجيب عن قوله : إنّ هذه الآية تدل على أن الله تعالى قادر على نفسه بأنّ تخصيص العام جائز في الجملة وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل.
فإن قيل : إذا كان اللفظ موضوعاً للكل ثم إنه تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً وذلك يوجب الطعن في القرآن، أجيب : بأنّ لفظ الكل كما أنه مستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازاً في الأكثر فإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً. ورقق ورش الراء من قدير وصلاً ووقفاً، وباقي القراء بالترقيق وقفاً لا وصلاً.
ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى :
﴿ يأيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ تحريكاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها وجبراً لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد، إمّا لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد، أو لغفلته وقلة فهمه، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي : الأقرب أنه لا يتناوله لأن ﴿ يا أيها الناس ﴾ صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.
فإن قيل : روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه ﴿ يا أيها الناس ﴾ فمكي و﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ فمدني، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت بالمدينة ؟ أجيب : بأنّ المراد بقولهم : السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها :﴿ يا أيها الناس ﴾ وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره ﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا ﴾ ( الحج، ٧٧ ) ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها. وإنما قال الله تعالى :﴿ ربكم ﴾ تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية، وقوله تعالى :﴿ الذي خلقكم ﴾ أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء، وأصله التقدير، يقال : خلق النعل، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس. وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه ﴿ و ﴾ خلق ﴿ الذين من قبلكم ﴾ وهذا متناول لكل ما يتقدّم الإنسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله ﴾ ( الزخرف، ٨٧ ) ﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله ﴾ ( الزمر، ٣٨ ) أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر، وقوله تعالى :﴿ لعلكم تتقون ﴾ إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال : اعبدوا، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء، كما قال تعالى :﴿ يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ﴾ ( السجدة، ١٦ ) ﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ ( الإسراء، ٥٧ )، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله :﴿ لعلكم ﴾ على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل.
وقوله تعالى :﴿ الذي جعل ﴾ أي : خلق ﴿ لكم الأرض فراشاً ﴾ أي : بساطاً تفرش صفة ثانية، أو منصوب بتقدير أمدح، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة ﴿ و ﴾ جعل لكم ﴿ السماء بناء ﴾ أي : قبة مضروبة عليكم. والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار والدرهم وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ومنه : بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديداً، وقوله تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾ معطوف على ﴿ جعل ﴾ والمراد بها، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدئ إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى :﴿ وأنزلنا من السماء ماء ﴾ ( لقمان، ١٠ ) وقوله تعالى :﴿ أنزل من السماء ماءً فسلّكه ينابيع في الأرض ﴾ ( الزمر، ٢١ )، وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً. ﴿ فأخرج به من ﴾ أنواع ﴿ الثمرات رزقاً لكم ﴾ تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشائها مرتقياً من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.
تنبيه :﴿ من ﴾ الأولى للابتداء و﴿ من ﴾ الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى :﴿ فأخرجنا به ثمرات ﴾ ( فاطر، ٢٧ ) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقاً كأنه تعالى قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق، ويصح أن تكون ﴿ من ﴾ الثانية للتبيين ورزقاً مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل : أنفقت من الدراهم ألفاً، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفاً.
فإن قيل : المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة ؟ أجيب : بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات ﴾ ( الدخان، ٢٥ ) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى :﴿ ثلاثة قروء ﴾ ( البقرة، ٢٢٨ ) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة ﴿ فلا تجعلوا أنداداً ﴾ أي : شركاء في العبادة.
فإن قيل : لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله ؟ أجيب : بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه :
أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
أدين أي : أطيع، من دان أي : انقاد، إذا تقسمت أي : تفرّقت :
تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير
ألم تعلم بأن الله أفنى رجالاً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببرّ قوم فيربو منهم الطفل الصغير
وقوله تعالى :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ حال من ضمير ﴿ فلا تجعلوا ﴾ ومفعول تعلمون متروك، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، كقوله تعالى :﴿ هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ﴾ ( الروم، ٤٠ ) وعلى كون ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ حالاً فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكاً أو مقدراً وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به «الكشاف » لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أنداداً بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف.
تنبيه : قال البيضاوي : واعلم أنّ مضمون الآيتين أي ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ﴾ و﴿ الذي جعل لكم ﴾ إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الاشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى. وبيانه أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي : الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي : فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أموراً لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به. ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي : اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي : اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حدّ مطلعاً. اه.
هذا روي عن الحسن مرفوعاً مرسلاً، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص، وقيل : ظاهرها تلاوتها، وباطنها فهمها، والحدّ أحكام الحلال والحرام، والمطلع الإشراف على معرفتها.
ولما قرّر سبحانه وتعالى وحدانيته وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقبه ما هو الحجة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كل بليغ مع كثرتهم وإفراطهم في المضادّة وتهالكهم على المغالبة بقوله تعالى :
﴿ وإن كنتم في ريب ﴾ أي : شك ﴿ مما نزلنا على عبدنا ﴾ محمد من القرآن أنه من عند الله ﴿ فأتوا بسورة ﴾ وإنما قال تعالى :﴿ مما نزلنا ﴾ لأنّ نزوله نجماً فنجماً بحسب الوقائع على ما يرى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ﴾ ( الفرقان، ٣٢ ) فكان الواجب تحدّيهم على هذا الوجه إزالة للشبهة وإلزاماً للحجة، فإن أهل الشعر والخطابة يأتون بأشعارهم وخطبهم على قدر الحاجة شيئاً فشيئاً ولما كان القرآن منزلاً كذلك طعنوا فيه بأنه مثل كلامهم فقيل لهم : إن ارتبتم في نزوله منجماً فأتوا بنجم منه لأنهم إذا عجزوا عن نجم منه فعجزهم عن كله أولى، وأضاف العبد إلى نفسه تنويهاً بذكره وتنبيهاً على أنه مختص به منقاد لحكمه. والسورة من القرآن الطائفة منه المترجمة التي لها أوّل وآخر أقلها ثلاث آيات. والحكمة في تقطيع القرآن سوراً إفراد الأنواع وتلاحق الأشكال وتجاوب النظم وتنشيط القارئ وتسهيل الحفظ والترغيب فيه، فإنّ القارئ إذا ختم سورة فرّج ذلك عنه بعض كربه، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى بريداً، أو الحافظ إذا حفظ سورة اعتقد أنه أخذ من القرآن حظاً تامّاً وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غيرها من الفوائد، وقوله تعالى :﴿ من مثله ﴾ صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله، والضمير لما نزلنا ومن للتبعيض، أو للتبيين، وزائدة عند الأخفش، أي : بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم، وقيل : الضمير لعبدنا، ومن للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله من كونه بشراً أميّاً لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم، والوجه الأول أولى لأنه المطابق لقوله تعالى في سورة يونس :﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ ( يونس، ٣٨ ) ولسائر آيات التحدي، ولأنّ الكلام في المنزل لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم إذ المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن
منزل من عند الله فأتوا بقرآن من مثله ولأنّ مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جنسهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أتى به عبدنا آخر مثله ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ ( الإسراء، ٨٨ ) ولأن عود الضمير إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ولا يلائمه قوله تعالى :﴿ وادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ فإنه تعالى أمر أن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم سواء كان مثله أم لا والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، ومنه قيل للمقتول في سبيل الله : شهيد، لأنه حضر ما كان يرجوه أو الملائكة حضروه، ومعنى دون : أدنى مكان من الشيء، ومنه تدوين الكتب لأنه أدنى البعض، من البعض ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للرتب فقيل : عمرو دون زيد، أي : في الشرف، ومنه الشيء الدون، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى آخر وتخطي أمر إلى آخر وإن خلى عن الرتبة قال تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾ ( آل عمران، ٢٨ ) أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين، ومن متعلقة بادعوا فهي لابتداء الغاية، والمعنى : وادعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وادعوا آلهتكم التي تعبدونها غير الله وتزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة، أي : استعينوا بهم في الإتيان بما ذكر ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه، وأن آلهتكم تشهد لكم بذلك.
وجواب هذا الشرط محذوف تقديره فافعلوا أي : ما ذكر من الإتيان بسورة دل عليه قوله تعالى :﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ ذلك والصدق الإخبار المطابق وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو إمارة لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم :﴿ إنك لرسول الله ﴾ ( المنافقون، ١ ) لما لم يعتقدوا مطابقته، ورد هذا القول بصرف التكذيب إلى قولهم : نشهد لأنّ الشهادة إخبار عما عمله وهم ما كانوا عالمين به.
وقوله تعالى :﴿ ولن تفعلوا ﴾ جملة معترضة أي : لا يقع منكم ذلك أبداً لإعجاز القرآن ﴿ فاتقوا النار التي وقودها ﴾ أي : ما تتقد به ﴿ الناس والحجارة ﴾ التي نحتوها واتخذوها أرباباً من دون الله طمعاً في شفاعتها والانتفاع بها ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ( الأنبياء، ٩٨ ) عذبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذب الكانزون بما كنزوه أو حجارة الكبريت، كما رواه الطبراني عن ابن مسعود، والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعليه أكثر المفسرين، وإن قال البيضاوي : إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضاً حجارة الكبريت أشدّ حرّاً وأكثر التهاباً وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل : جميع الحجارة.
تنبيه : تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال : فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتض المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل : إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذٍ، وقيل : كل منهما على حقيقته، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع، وقيل : أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم :﴿ ناراً وقودها الناس والحجارة ﴾ ( التحريم، ٦ ) وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة.
فإن قيل : الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبراً ولهذا قالوا : إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب : بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه ناراً موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به ﴿ أعدّت ﴾ أي : هيئت ﴿ للكافرين ﴾ وجعلت عدّة لعذابهم، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا.
تنبيه : قال البيضاوي : في الآيتين أي : آية ﴿ إن كنتم في ريب ﴾ وآية ﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ ( البقرة، ٢٤ ) ما يدل على النبوّة من وجوه : الأوّل : ما فيهما أي : في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم أنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية، والثاني : تضمنهما أي : مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية، والثالث : أنه عليه الصلاة والسلام لو شك في أمره أي : نفسه لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته، وهذا راجع إلى الآية الأولى.
عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب بالترهيب تنشيطاً لاكتساب ما ينجي وتثبيطاً عن اقتراف ما يردي بقوله تعالى :﴿ وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : الطاعات ﴿ أن لهم جنات ﴾ أي : حدائق ذات شجر ومساكن، وإنما أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عالم كل عصر، أو كل أحد يقدر على البشارة أن يبشر الذين آمنوا ولم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنؤوا بما أعد لهم، والبشارة : الخبر الصدق السار أوّلاً فإنه يظهر أثر السرور في البشرة لأن النفس إذا سرت انتشر الدم انتشار الماء في الشجرة ولذلك قال الفقهاء : البشارة هو الخبر الأوّل حتى لو قال الرجل لعبيده : من يبشرني بقدوم ولدي فهو حرّ فأخبروه فرادى عتق أوّلهم ولو قال : من أخبرني عتقوا جميعاً.
فإن قيل : ما الجواب عن قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ؟ أجيب : بأنّ ذلك ورد على سبيل التهكم كقوله تعالى :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ ( الدخان، ٤٩ ) وعطف سبحانه وتعالى العمل على الإيمان مرتباً للحكم عليهما إشعاراً بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة مجموع الأمرين والجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الذي هو عبارة عن التيقن والتصديق أس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا نفع تام بأس لا بناء عليه، ولذلك قلما ذكرا مفردين وفي عطف العمل على الإيمان دليل على أنّ الصالحات خارجة عن مسمى الإيمان إذ الأصل أنّ الشيء لا يعطف على نفسه ولا على ما هو داخل فيه، وجمع سبحانه وتعالى الجنة لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عباس سبع : جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون، وفي كل واحدة من هذه السبع مراتب ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال. واللام في الصالحات للجنس لا للاستغراق إذ لا يكاد المؤمن أن يعمل جميع الصالحات، واللام في لهم تدل على استحقاقهم إياها لأجل ما ترتب عليه من الإيمان والعمل الصالح لا لذاته فإنه لا يكافئ النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضي ثواباً وجزاءً فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده ولا على الإطلاق بل بشرط أن يستمرّ عليه حتى يموت وهو يؤمن لقوله تعالى :﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ ( البقرة، ٢١٧ ) ولعله سبحانه وتعالى لم يقيدها هنا استغناء بهذه الآية وأشباهها ﴿ تجري من تحتها ﴾ أي : من تحت أشجارها ومساكنها ﴿ الأنهار ﴾ كما تراها جارية تحت الأشجار الثابتة على شواطئها، وعن مسروق : أنهار الجنة تجري في غير أخدود، قال الجوهري : الأخدود شق مستطيل في الأرض واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري، قال البيضاوي : أو للعهد والمعهود هي الأنهار المذكورة في قوله تعالى :﴿ أنهار من ماء غير آسن ﴾ ( محمد، ١٥ ) الآية. اه.
قال التفتازاني : إنما يصح هذا لو ثبت سبق قوله تعالى :﴿ أنهار من ماء غير آسن ﴾ في الذكر. اه. والنهر بالفتح والسكون : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات، والمراد بالأنهار ماؤها على حذف مضاف أو تسمية للماء باسم مجراه مجازاً وإسناد الجري إليها مجازا كما في قوله تعالى :﴿ وأخرجت الأرض أثقالها ﴾ ( الزلزلة، ٢ ) ﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً ﴾ أي : أطعموا من تلك الجنات ثمرة، ومن صلة ﴿ قالوا هذا الذي رزقناكم ﴾ أي : أطعمنا ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل هذا في الدنيا جعل الله تعالى ثمر الجنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما يرى فإنّ الطبائع مائلة إلى المألوف مستنفرة من غيره أي : هذا من نوعه لتشابه ما يؤتون به في الصورة كما قال تعالى :﴿ وأتوا به متشابهاً ﴾ أي : في اللون والصورة مختلفاً في الطعم وذلك أبلغ في باب الإعجاز، والداعي لهم إلى ذلك فرط استغرابهم وافتخارهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة، وقيل : في الجنة لأن طعامها متشابه الصورة كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل كل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :( والذي نفس محمد بيده إنّ الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدّل الله مكانها مثلها ) وعن مسروق : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى والعنقود اثنا عشر ذراعاً.
فإن قيل : على الأوّل التشابه هو التماثل في الصفة وهو مفقود بين ثمرات الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء. أجيب : بأن التشابه، بينهما حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم دون المقدار والطعم وهو كاف في إطلاق التشابه، وللآية كما قال البيضاوي محمل آخر وهو أنّ مستلذات أهل الجنة في مقابلة ما رزقوا في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتة في اللذة بحسب تفاوتها فيحتمل أن يكون المراد من هذا الذي رزقنا أنه ثوابه ومن تشابههما تماثلهما في الشرف والرتبة وعلوّ الطبقة، فيكون هذا في الوعد نظير قوله تعالى :﴿ ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾ ( العنكبوت، ٥٥ ) في الوعيد ﴿ ولهم فيها ﴾ أي : الجنات ﴿ أزواج ﴾ من الحور العين والآدميات ﴿ مطهرة ﴾ مما يستقذر من النساء ويذم من أحوالهنّ كالحيض والدرن أي : الوسخ ودنس الطبع وسوء الخلق فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال ومعنى تطهيرهنّ مما ذكر كما قال التفتازاني : إنها منزهة عن ذلك مبرأة عنه بحيث لا يعرض لهنّ لا التطهر الشرعي بمعنى إزالة النجس الحسي أو الحكمي، كما في الغسل عن الحيض والزوج يقال : للذكر والأنثى، قال تعالى :﴿ وأصلحنا له زوجه ﴾، وهو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخف.
فإن قيل : فائدة المطعوم هو التقوى ودفع ضرر الجوع وفائدة المنكوح التوالد وحفظ النوع وهذه الفوائد مستغنى عنها في الجنة. أجيب : بأن مطاعم الجنة ومناكحها وسائر أحوالها إنما تشارك نظائرها الدنيوية في بعض الصفات والاعتبارات وتسمى بأسمائها على سبيل الاستعارة والتمثيل ولا تشاركها في تمام حقيقتها حتى تستلزم جميع ما يلزمها وتفيد عين فائدتها ﴿ وهم فيها خالدون ﴾ أي : دائمون أحياء، لا يموتون ولا يخرجون، والأصل في الخلود الثبات المديد دام أو لم يدم إذ لو كان وضعه للدوام لكان التقييد بالتأبيد في قوله تعالى :﴿ خالدين فيها أبداً ﴾ ( الأحزاب، ٦٥ ) تأكيداً لا تأسيساً والأصل خلافه لكن المراد به الدوام في الآية عند الجمهور لما يشهد له من الآيات والسنن.
فإن قيل : الأبدان مركبة من أجزاء متضادّة الكيفية معرضة للاستحالات المؤدّية إلى الانفكاك والانحلال فكيف يعقل خلودها في الجنات ؟ أجيب : بأنه تعالى يعيدها بحيث لا تعتريها الاستحالة بأن يجعل أجزاءها مثلاً متقاومة في الكيفية متساوية في القوّة لا يقوى شيء منها على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض كما يشاهد في بعض المعادن، ولما كان معظم اللذات الحسية مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح على ما دلّ عليه الاستقراء وكان مآل ذلك كله الثبات والدوام وأنّ كل نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزوال كانت منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بالمساكن والمطاعم والمناكح فبشر بالأوّل بقوله تعالى :﴿ جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ وبالثاني بقوله تعالى :﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً ﴾ الآية وبالثالث بقوله تعالى :﴿ ولهم فيها أزواج مطهرة ﴾ ومثل ما أعدّ لهم في الآخرة بأحسن ما يستلذ منها، وأزال عنهم خوف الفوات بوعد الخلود ليدل على كمالهم في التنعم والسرور.
ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى :﴿ وإن يسلبهم الذباب ﴾ ( الحج، ٧٣ ) وقوله تعالى :﴿ كمثل العنكبوت ﴾ ( العنكبوت، ٤١ ) قالت اليهود : ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّاً عليهم.
﴿ إن الله لا يستحيي ﴾ أي : لا يترك ﴿ أن يضرب مثلاً مّا بعوضة ﴾ وهي صغيرة البق ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذف من عند سيبويه، ويجوز كما في «الكشاف » نصبه بإفضاء الفعل إليه بنفسه فإن استحيا يتعدّى بنفسه أيضاً، يقال : استحييت منه واستحييته، وما إمّا إبهامية تزيد النكرة قبلها إبهاماً وإمّا مزيدة لتأكيد معنى مضمون الجملة قبلها كالتي في قوله تعالى :﴿ فبما رحمة من الله ﴾ ( آل عمران، ١٥٩ ) ولا يراد بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل المراد بالمزيد ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيده وثاقة وقوّة وهو زيادة في الهدى غير قادح في القرآن، وبعوضة عطف بيان أو بدل من مثلاً أو مفعول ثان ليضرب بمعنى يجعل، والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً فإذا وصف به الباري سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث «إنّ الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه » «إنّ الله حييّ كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » فالمراد به الترك كما قدّرته اللازم للانقباض كما أنّ المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيء الحياء فيها للمشاكلة وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ولو تقديراً كما هنا وهو قول الكفرة : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم. وفي الثاني : قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح. وفي الثالث : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم، وجاء في كلام العرب ( اسمع من قراد ) لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها، وقيل : من مسيرة سبع ليال ( وأعز من مخ البعوض ) يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة ﴿ فما فوقها ﴾ أي : ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي :( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء ) ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره : أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة ) فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة كقرصة النملة، والطنب حبل الخباء، والفسطاط بيت من شعر. ﴿ فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه ﴾ أي : ضرب المثل بذلك ﴿ الحق ﴾ أي : الواقع موقعه ﴿ من ربهم ﴾ لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. وهم يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم : حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق، أي : محكم النسج، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء، قال سيبويه : أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب أي : هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظاً ﴿ وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا ﴾ يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما، وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى أيّ شيء ﴿ أراد الله بهذا ﴾ فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف » في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقاً وقوله تعالى :﴿ مثلاً ﴾ نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى :﴿ يضلّ به كثيراً ﴾ بأن يكذبوا به ﴿ ويهدي به كثيراً ﴾ بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي : لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ ( سبأ، ١٣ )
ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار :
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا قليل إذا عدّوا كثيراً إذا شدوا
وقال : إن الكرام كثير ( أي : كرماً ) في البلاد وإن قلوا ( أي : عدداً )، كما غيرهم ( قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرماً ) وإن كثروا.
أي : عدداً ﴿ وما يضلّ به إلا الفاسقين ﴾ أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى :﴿ إنّ المنافقين هم الفاسقون ﴾ ( التوبة، ٦٧ ) وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ ( الحجرات، ٩ ) والمعتزلة جعلوا الفاسق قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.
ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله :﴿ الذين ينقضون عهد الله ﴾ وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى :﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ ( الأعراف، ١٧٢ ) وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه وعليه يدل قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ ( آل عمران، ١٨٧ ) الآية وقيل : عهود الله ثلاثة : عهد أخذه بواسطة العقل على جميع ذرّية آدم بأن يقروا بربوبيته، وعهد أخذه بواسطة الملك على النبيين بأن يقيموا الدين ولا يتفرّقوا فيه، وعهد أخذه بواسطة الرسل على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه، وقوله تعالى :﴿ من بعد ميثاقه ﴾ أي : توكيده، يحتمل عود الضمير للعهد فهو من إضافة المصدر إلى المفعول أو لله فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، قال البيضاويّ : ويحتمل أن يكون بمعنى المصدر واعترض : بأنّ النحويين لم يذكروا مفعالاً في صيغ المصادر، وأصله أن يكون وصفاً كمطعام ومسقام. وأجيب : بحمل ذلك على أنه اسم واقع موقع المصدر كما يشير إليه قوله بمعنى المصدر :﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ وهو الرحم لأنهم قطعوا رحم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعاداة معه، ويحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكتب في التصديق وترك الجماعات وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل، وقيل : مع العلوّ، وقيل : مع الاستعلاء، وأن يوصل بدل من الهاء، وقرأ ورش بتغليظ اللام وصلاً وإذا وقف رقق وغلظ وأدغم خلف النون في الياء بغير غنة ﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ بفوات التوبة والمصير إلى العقوبة بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاة، والعقاب بالثواب.
وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله :﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ أي : أخبروني على أي حال تكفرون ﴿ وكنتم أمواتاً ﴾ أي : نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم ﴿ فأحياكم ﴾ في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي، وقرأ الكسائي بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. ﴿ ثم يميتكم ﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ ثم يحييكم ﴾ للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور.
قال التفتازاني : ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه.
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب : بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.
فإن قيل : كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ أجيب : بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى :﴿ وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾ ( العنكبوت، ٦٤ ) يعني : الحياة، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي : جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث إنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى :﴿ قل الله يحييكم ثم يميتكم ﴾ ( الجاثية، ٢٦ ) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى :﴿ اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها ﴾ ( الحديد، ١٧ ) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى :﴿ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ﴾ ( الأنعام، ١٢٢ ) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى.
أومأ إلى مشيئته وقدرته فقال :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض ﴾ أي : لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط كالأدوية المركبة، أو غير وسط كالثمرة والأدوية المفردة، وفي دينكم بالاستدلال على موجدكم ففي ذلك نعمة على عباده سبحانه وتعالى وما نعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إن أريد بالأرض جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو وقوله تعالى :﴿ جميعاً ﴾ حال من الموصول الثاني وهو ما وهي حال مؤكدة لما لاتحادهما في العموم وهذا أقرب من جعله حالاً من ضمير لكم لأنّ سياق الآيات إنما هو في تعداد النعم لا في تعداد المنعم عليهم، ولأنّ المنة بتعداد النعم أظهر من المنة بتعداد المنعم عليهم لأنّ مقدار النعم يصل إلى كل أحد ﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ أي : قصد إلى خلقها بإرادته، وأصل الاستواء طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ولا يمكن حمله على الله تعالى لأنه من خوّاص الأجسام وقيل : استوى استولى كما قيل :
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية أو جهات العلو ليطابق قوله تعالى :﴿ فسوّاهنّ سبع سموات ﴾ فجمع الضمير العائد إلى السماء لإرادة الجنس، وقيل : لأنّ السماء جمع سماءة أي : جعلهنّ مستويات لا شقوق فيهنّ ولا تفاوت، قال البيضاويّ : وثم لعله لتفاوت ما بين الخلقين أي : في القدر والعظم وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ ( البلد، ١٧ ) لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ ( النازعات، ٣٠ ) فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدّم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها. اه، وأجيب : بأنه لا يدل على ذلك لأن تقدّم خلق جرم الأرض على خلق جرم السماء لا ينافي تأخر دحوها عنه وهو بسطها، وردّه التفتازانيّ بأنه ليس على ما ينبغي لأن ثم تدل على تأخر خلق السماء عن خلق ما في الأرض من عجائب الصنع حتى أسباب اللذات والآلام وأنواع الحيوانات حتى الهوام لا عن مجرّد خلق جرم الأرض قال : وسنذكر في حم السجدة ما يدل على تأخر خلق السماء عن خلق الأرض ودحوها جميعاً حتى قيل : إنه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء وما فيها في يومين وكثر ذلك في الروايات فلا يفيد حمل ثم على تراخي الرتبة، اه.
والأوجه كما قاله بعض المفسرين الموافق لظاهر ما هنا وما سيأتي في فصلت تأويله مع الإيضاح أن يقال : إنّ خلق جرم الأرض مقدّم على خلق جرم السماء، وخلق وصفها أعني : دحوها مقدّم على خلق وصف السماء أعني تسويتها سبعاً، فمرجع الإشارة في قوله تعالى بعد ذلك جرم السماء لا وصفها وبذلك علم أن جعل ثم للتراخي في الوقت لا يخالف ما ذكر خلافاً لما زعمه البيضاويّ.
فإن قيل : أليس أنّ أصحاب الأرصاد أثبتوا بالبراهين تسعة أفلاك وهي كرة القمر، فكرة عطارد، فكرة الزهرة، فكرة الشمس، فكرة المريخ، فكرة المشتري، فكرة زحل، فالفلك الذي فيه الكواكب الثابتة، فالفلك الأعظم وهو متحرّك كل يوم وليلة على التقرب دورة واحدة ؟ أجيب : بأنّ ما ذكروه ليس مستنداً إلى دليل شرعي فلا ينبغي اعتباره. قال البيضاويّ : وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضمّ إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف وقوله تعالى :﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ أي : مجملاً ومفصلاً فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالماً بكيفية الأشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع واستدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الأنيق كان عليماً فإنّ إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلا من عالم حكيم رحيم أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداءً وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم. وقرأ حمزة والكسائي ثم استوى وفسوّاهنّ بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ وهو بسكون الهاء، والباقون بضمها.
﴿ و ﴾ اذكر يا محمد ﴿ إذ قال ربك للملائكة ﴾ وقيل : إذ زائدة أي : وقال ربك : وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر، قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى :﴿ وإذ يمكر ﴾ ( الأنفال، ٣٠ ) يعني : وإذ مكروا، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله ﴾ ( الفتح، ١ ) أي : سيجيء، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه، والباقون بالإظهار، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساماً لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء يعني الفلاسفة أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة أي : المتصفة بفضائل العلم والعمل، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم : الشياطين البشرية الناطقة. قوله : البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني : ما دامت في الأبدان تسمى النفوس، فإذا فارقتها كانت الملائكة، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل : ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهراً طويلاً ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جنداً من الملائكة يقال له : الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال : ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه، أي : جاعله بدلاً منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى الله عليه وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً ﴾ ( الأنعام، ٩ ) أي : في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، وقيل : إنه خليفة من سكن الأرض قبله، وقيل : المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك ﴿ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ﴾ بالمعاصي ﴿ ويسفك الدماء ﴾ أي : يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى :﴿ بل عباد مكرمون ٢٦ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ﴾ ( الأنبياء، ٢٦ ) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب ﴿ ونحن نسبح ﴾ متلبسين ﴿ بحمدك ﴾ أي : نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ ( الإسراء، ٤٤ ) أي : يقول : سبحان الله وبحمده.
روي عن أبي ذرّ :( أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده ) وقيل : ونحن نصلي بأمرك، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة ﴿ ونقدّس لك ﴾ ننزهك عما لا يليق بك، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج، والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر، وقيل : نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام ﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، وقيل : إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده، وقيل : إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ.
﴿ وعلم آدم الأسماء ﴾ أي أسماء المسميات ﴿ كلها ﴾ حتى القصعة والمغرفة، وقيل : علمه اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وقيل : صيغة كل شيء. قال أهل التأويل : إنّ الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم كل واحد من أولاده بلغة فتفرّقوا في البلدان واختص كل فرقة منهم بلغة وذلك إمّا بخلق علم ضروري بها فيه أو ألقى في قلبه علمها أو بإرسال ملك أو بخطاب الله له أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً، ولذلك يقال : علمته فلم يتعلم. وآدم اسم أعجمي كسائر الأنبياء إلا صالحاً وشعيباً ولوطاً ومحمداً بل قيل : إنّ آدم أيضاً عربي وعلى هذا فاشتقاقه من الأدمة بضم الهمزة وسكون الدال بمعنى السمرة، أو الأدمة بفتح الهمزة والدال بمعنى الأسوة أي : القدوة أو من أديم الأرض أي : ظاهر وجهها.
روى الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الله قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها ) وهو بفتح الحاء المهملة ما غلظ من الأرض وصلب أي : وعجنت بالمياه المختلفة فخلق منها آدم ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً فلذلك يأتي بنوه مختلفين في الألوان والأخلاق والهيئات، وأمّا على الأوّل فلا اشتقاق له لأنّ ذلك إنما يأتي في الأسماء العربية والأعجمي لا اشتقاق له، وكنيته أبو محمد وأبو البشر والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباعدة مستعدّاً لإدراك أنواع المدركات والمعقولات والمحسوسات والمخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقرأ ورش في الهمزة من آدم بالمدّ والتوسط والقصر حيث جاء، وقوله تعالى :﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً في قوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء ﴾ إذ التقدير أسماء المسميات كما مرّ تقريره فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام في الأسماء كقوله تعالى :﴿ واشتعل الرأس شيباً ﴾ ( مريم، ٤ ) لأنّ العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء إذ العرض لا يصح فيها لأنها من المسموعات والعرض يختص بالمحسوسات بالعين تقول : عرضت الجند عرض العين إذا مررتهم عليك ونظرت ما حالهم.
فإن قيل : لم قال عرضهم ولم يقل عرضها ؟ أجيب : بأنّ الأسماء إذا جمعت جمع من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور، وقال مقاتل : خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة، والكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال :﴿ عرضهم على الملائكة ﴾ ﴿ فقال ﴾ لهم سبحانه وتعالى تبكيتاً لهم وتنبيهاً على عجزهم عن أمر الخلافة ﴿ أنبئوني ﴾ أي : أخبروني ﴿ بأسماء هؤلاء ﴾ المسميات ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل وأعلم منه وذلك أنّ الملائكة قالوا لما قال :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ : ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم، وجواب الشرط دل عليه ما قبله.
﴿ قالوا ﴾ أي : الملائكة إقراراً بالعجز وإشعاراً بأنّ سؤالهم كان استفساراً ولم يكن اعتراضاً وأنه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان والحكمة في خلقه وإظهاراً لشكر نعمته بما عرفهم وكشف لهم ما التبس عليهم ﴿ سبحانك ﴾ تنزيهاً عن الاعتراض عليك ﴿ لا علم لنا إلا ما علمتنا ﴾ إياه وفي هذا مراعاة للأدب بتفويض العلم كله إليه سبحانه وتعالى وتصدير الكلام بسبحان اعتذار عن الاستفسار والجهل بحقيقة الحال فإنه تعالى منزه عن أن يفعل ما يخرج عن الحكمة، ولذلك جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه الصلاة والسلام :﴿ سبحانك تبت إليك ﴾ ( الأعراف، ١٤٣ ) وقال يونس عليه الصلاة والسلام :﴿ سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ ( الأنبياء، ٨٧ ).
تنبيه : اجتمع في قوله تعالى :﴿ أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ﴾ أربع مدّات، الأولى : أنبئوني، والثانية بأسماء، والثالثة والرابعة هؤلاء إن، فالأول مدّ بدل، والثاني مدّ متصل، والثالث مدّ منفصل، والرابع مخير لا متصل قطعاً ولا منفصل قطعاً عند من يقول بإسقاط إحدى الهمزتين، فأمّا الأوّل فلورش فيه المدّ والتوسط والقصر، وأمّا الثاني فبالمدّ للجميع لأنه متصل، وأمّا الثالث ففيه المدّ والقصر كما تقدّم لأنه منفصل، وأمّا الرابع وهو أولاء إن ففيه همزتان مكسورتان من كلمتين فقالون والبزي يسهلان الأولى مع المدّ والقصر، وورش وقنبل يسهلان الثانية ويجعلانها حرف مدّ، وأبو عمرو يسقط الأولى والثانية فمن قال بإسقاط الأولى مدّ وقصر، ومن قال بإسقاط الثانية فبالمدّ فقط، وباقي القرّاء يحققون الهمزتين وهم على مراتبهم في المدّ ﴿ إنك أنت العليم ﴾ الذي لا يخفى عليه خافية ﴿ الحكيم ﴾ المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة، وأنت ضمير فصل، وقيل : تأكيد للكاف كما في قولك : مررت بك أنت وإن لم يجز مررت بأنت إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع، وقيل : مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر إن.
﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ يا آدم أنبئهم ﴾ أي : أخبر الملائكة ﴿ بأسمائهم ﴾ أي : المسميات فسمى آدم كل شيء باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق ﴿ فلما أنبأهم بأسمائهم قال ﴾ الله تعالى لهم موبخاً ﴿ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ﴾ أي : ما غاب فيها ﴿ وأعلم ما تبدون ﴾ أي تظهرون من قولكم :﴿ أتجعل فيها ﴾ الخ :﴿ وما كنتم تكتمون ﴾ أي : تسرون من قولكم : لن يخلق أكرم عليه منا ولا أعلم، وقيل : ما أظهروا من الطاعة وأسره إبليس من المعصية، والهمزة في ﴿ ألم أقل ﴾ للإنكار بمعنى النفي دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير.
تنبيه : هذه الآيات وهي آية ﴿ وعلم آدم ﴾ وآية ﴿ سبحانك ﴾ وآية ﴿ قال يا آدم ﴾ تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة وإلا لأظهر فضل آدم بها، وأن العلم بما يستخلف فيه شرط في الخلافة بل العمدة فيها، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به وأنّ اللغات توقيفية، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم من الملائكة والجنّ فيكون من الله وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله :﴿ إنك أنت العليم الحكيم ﴾، وأنّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنّ آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم والأعلم أفضل لقوله تعالى :﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ ( الزمر، ٩ ) وأن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها لأنه أخبر عن علمه تعالى بأسماء المسميات جميعها ولم تكن موجودة قبل الإخبار.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ لما أنبأهم بالأسماء وعلمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له واعترافاً بفضله وأداء لحقه واعتذاراً عما قالوا فيه أو أمرهم به قبل أن يسوي خلقه لقوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ﴾ ( الحجر، ٢٩ ) ( ص، ٧٢ ) امتحاناً لهم وإظهاراً لفضله، وقضية الأوّل تأخير الأمر به عن تسوية خلقه بدليل تأخيره عن أنبائهم وتعليمهم المستلزمين لتسوية خلقه، وعلى الثاني اقتصر بعض المفسرين وهو الظاهر، وأجيب عن دليل الأوّل بأنّ الواو في قوله : وإذ قلنا لا تقتضي الترتيب والسجود في الأصل تذلل مع تطامن وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة، والمأمور به إمّا المعنى الشرعي فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة والصلاة لله فمعنى اسجدوا له أي : إليه وكأنه تعالى لما خلقه بحيث يكون أنموذجاً أي : مثالاً للمبدعات كلها بل الموجودات بأسرها ومجمعاً لما في العالم الروحاني والجثماني وذريعة للملائكة إلى استيفاء ما قدّر لهم من الكمالات ووصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللاً لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكراً لما أنعم عليهم بواسطته، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيماً له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى :﴿ وخروا له سجداً ﴾ ( يوسف، ١٠٠ ) ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ ﴿ فسجدوا ﴾ أي : الملائكة ﴿ إلا إبليس أبى واستكبر ﴾ أي : امتنع عما أمر به استكباراً من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه، وقال : أنا خير منه، والإباء امتناع واختيار، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل ﴿ وكان من الكافرين ﴾ أي : في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقاداً بأنه أفضل منه، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى :﴿ أنا خير منه ﴾ جواباً لقوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين ﴾ ( ص، ٧٥ ) لا بترك الواجب وهو السجود وحده، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى :﴿ إلا إبليس كان من الجنّ ﴾ ( الكهف، ٥٠ ) لجواز أن يقال : كان من الجنّ فعلاً ومن الملائكة نوعاً.
فإن قيل : له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب : بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعاً يتوالدون يقال لهم : الجن ومنهم إبليس، وقيل : إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنياً نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى :﴿ إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه ﴾ ( الكهف، ٥٠ ) وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، قال البغوي : والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى :﴿ كان من الجنّ ﴾ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة، وقال قوم : من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلى الجنة وقيل : إنّ الجنّ أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضاً أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضاً والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال : فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس. g
تنبيه : من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمنا.
﴿ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾ أي : اتخذ الجنة مسكناً لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلاً بأن يقول اسكنا تنبيهاً على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء بالمدّ من ضلعه الأقصر من جانبه الأيسر وهو نائم فلما استيقظ من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال : من أنت ؟ قالت : زوجتك خلقني الله لك أسكن إليك وتسكن إليّ. وسميت حوّاء لأنها خلقت من حيّ خلقها الله من غير أن يحس بها آدم ولا وجد لخلقها ألماً ولو وجد له ألماً لما عطف رجل على امرأة قط، وإنما صح العطف على المستكن مع أنّ المعطوف لا يباشر فعل الأمر لأنه وقع تابعاً ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، والجنة دار الثواب لأنّ اللام للعهد ولا معهود غيرها، ومن زعم أنها لم تخلق بعد قال : إنّ الجنة بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقه الله تعالى امتحاناً لآدم وحمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند كما في قوله تعالى :﴿ اهبطوا مصراً ﴾ ﴿ وكلا منها ﴾ أكلاً ﴿ رغداً ﴾ أي : واسعاً لذيذاً لا حجر فيه فرغداً صفة مصدر محذوف وقيل : مصدر في موضع الحال ﴿ حيث ﴾ أي : أي مكان من الجنة ﴿ شئتما ﴾ وسع الأمر عليهما إزالة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهي عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر. وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الشين بخلاف عنه وأبدل السوسي الهمزة وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة ﴾ بالأكل منها وهي شجرة الحنطة أو الكافور أو شجرة العنب و التين شجرة من أكل منها أحدث والأولى كما قال البيضاوي : أن لا تعين من غير دليل قاطع أو ظاهر كما لم تعين في الآية لعدم توقف ما هو المقصود على التعيين ﴿ فتكونا ﴾ أي : فتصيرا ﴿ من الظالمين ﴾ أي : العاصين.
تنبيه : في هذه الآية مبالغتان : الأولى : تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود :( حبك الشيء يعمى ) ويصم أي : يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه.
الثانية : جعل قربانهما إلى الشجرة سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي.
﴿ فأزلهما الشيطان ﴾ أي : إبليس سمي به لبعده عن الخير والرحمة وقرأ حمزة بألف بعد الزاي وتخفيف اللام أي : نحاهما والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد اللام أي : أذهبهما ﴿ عنها ﴾ أي : الجنة وإزلاله قوله : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته إياهما بقوله : إني لكما لمن الناصحين واختلف في أنه تمثّل لهما فقال لهما ذلك أو ألقاه إليهما على طريق الوسوسة وكيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له : اخرج منها فإنك رجيم فقيل : إنه منع من الدخول بعد خروجه.
الأول : على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة ولم يمنع أن يدخل لوسوسة ابتلاء لآدم وحواء فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة، وكان آدم لما رأى ما في الجنة من النعيم قال : لو أن خلدا فاغتنم الشيطان ذلك منه فأتاه الشيطان من قبل الخلد فوقع قوله في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال : يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ؟ فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فاغترّا وما قلنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت حواء آدم حتى أكلها وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر فأدّته إليه فأكل وقيل : قام عند الباب فناداهما وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم تعرفه الخزنة وقيل : دخل في فم الحية حتى دخلت به وكانت صديقاً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسألها إبليس أن تدخله الجنة في فمها فأدخلته ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة وقيل : أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم في ذلك كما قال البيضاوي عند الله ﴿ فأخرجهما مما كانا فيه ﴾ من الكرامة والنعيم. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قال الله تعالى لآدم : أليس فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة ؟ قال : بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كداً، فاهبطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم من صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم درسه ثم ذرّاه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله.
قال إبراهيم بن أدهم أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً، وقال سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنّ آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل : يا آدم ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رب زينته لي حوّاء، قال : فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حوّاء عند ذلك، فقيل : عليك الرنة وعلى بناتك فلما أكلا منها سقطت عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأُخرجا من الجنة فذلك قوله تعالى :﴿ وقلنا اهبطوا ﴾ خطاب لآدم وحوّاء لقوله تعالى :﴿ قال اهبطا منها جميعاً ﴾ ( طه، ١٢٣ ) وجمع الضمير لأنهما أصل الإنس فكأنهما الإنس كلهم أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً بعدما كان يدخلها للوسوسة أو دخلها مسارقة أو من السماء لا من الباب على الخلاف المتقدّم، وقيل : هما وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب بأرض الهند على جبل يقال له : نود وحوّاء بجدّة وإبليس بالإبلة وقيل : ببيسان بالبصرة على أميال والحية بأصبهان، وقوله تعالى :﴿ بعضكم لبعض عدوّ ﴾ حال استغنى فيها عن الواو بالضمير والمعنى متعادين، فإن كان الخطاب لآدم وحوّاء فقط فالمراد ببعضكم : بعض الذرّية أي : بعض ذرّيتكم لبعض عدوّ من ظلم بعضهم بعضاً، وإن كان الخطاب لهما ولإبليس والحية فالمراد العداوة بين المؤمنين من ذرّية آدم والحية وبين إبليس، قال الله عز وجل :﴿ إنّ الشيطان لكما عدوّ مبين ﴾ ( الأعراف، ٢٢ )، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال : من تركهنّ خشية أو مخافة تأثر فليس منا، وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ، وروي أنه نهى عن ذوات البيوت.
وروي عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ( أنّ بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان ) ﴿ ولكم في الأرض مستقرّ ﴾ أي : موضع قرار ﴿ ومتاع ﴾ ما تتمتعون به من نباتها ﴿ إلى حين ﴾ أي : وقت انقضاء آجالكم
﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾ أي : استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها وهي ﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾ ( الأعراف، ٢٣ ) الآية، وقيل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :( قال آدم : يا رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى، قال : يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك ؟ قال : بلى، قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى، قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم )، رواه الحاكم وصححه. وقول آدم أراجعي بتخفيف الياء اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعل لاعتماده على الاستفهام، أو مبتدأ خبره ما قبله، وقرأ ابن كثير بنصب الميم من آدم ورفع التاء من كلمات على أنها تلقته، والباقون برفع الميم وكسر التاء والكسر هذا علامة النصب لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة ﴿ فتاب عليه ﴾ أي : قبل توبته وإنما رتب تاب عليه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمن تلقي الكلمات معنى التوبة وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه وردّ المظالم إن كانت واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن ﴿ إنه هو التوّاب ﴾ الرجاع على عباده بالمغفرة، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة، وإذا وصف بها البارىء أريد بها الرجوع من العقوبة إلى المغفرة ﴿ الرحيم ﴾ البالغ في الرحمة، وفي الجمع بين التوبة والرحمة وعد للتائب بالإحسان مع العفو.
﴿ قلنا اهبطوا منها ﴾ أي : من الجنة ﴿ جميعاً ﴾ كرّر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإنّ الأوّل دل على هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى لهذا نجا ومن ضله هلك، وقيل : الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء الدنيا، والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض ﴿ فإمّا ﴾ فيه إدغام إنّ الشرطية في ما المزيدة ﴿ يأتينكم ﴾ يا ذرّية آدم ﴿ مني هدى ﴾ أي : رشد وبيان شريعة، وقيل : كتاب ورسول ﴿ فمن تبع هداي ﴾ بأن آمن بي وعمل بطاعتي وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر إمّا لإظهار شأنه وفخامته خصوصاً مع إضافته إليه، أو لأنه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه راعياً فيه ما يشهد به العقل ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ فضلاً من أن يحل بهم مكروه ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ بفوات محبوب عنهم وهو النظر إلى وجهه تعالى فيحزنوا عليه بل يتنعمون بالنظر إلى وجهه تعالى فإنه المقصود الأعظم فالخوف على الواقع نفى عنهم العقاب فأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه، وقيل : لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. وأمال الدوري عن الكسائي ألف هداي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وإنما جيء بحرف الشك وإتيان الهدى واقع كائن لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلاً.
﴿ والذين كفروا ﴾ أي : جحدوا ﴿ وكذبوا بآياتنا ﴾ أي : كتبنا ﴿ أولئك أصحاب النار ﴾ يوم القيامة ﴿ هم فيها خالدون ﴾ ماكثون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، والآية في الأصل العلامة الظاهرة وتقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل.
تنبيه : في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية، وأنّ التوبة مقبولة، وأنّ متبع الهدى مأمون العاقبة، وأن عذاب النار دائم، وأن الكافر فيه مخلد، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى :﴿ هم فيها خالدون ﴾ ( المجادلة، ١٧ ) واستدلّ بعض الخوارج كالحشوية وهم قوم جوّزوا الخطاب بما لا يفهم بها على عدم عصمة الأنبياء بوجوه : الأوّل : أنّ آدم عليه السلام كان نبياً وارتكب المنهي والمرتكب له عاص، والثاني : أنه جعله بارتكابه من الظالمين، والظالم ملعون لقوله تعالى :﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ ( هود، ١٨ )، والثالث : أنه أسند إليه العصيان وألغي وقال :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ ( طه، ١٢١ )، والرابع : أنه تعالى لقنه التوبة وهي الرجوع عن الذنب والندم عليه، والخامس : اعترافه بأنه خاسر لولا مغفرة الله له بقوله :﴿ وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ﴾ ( الأعراف، ٢٣ ) والخاسر من يكون ذا كبيرة، والسادس : أنه لو لم يذنب ما جرى عليه ما جرى. وأجيب عن ذلك بوجوه :
الأوّل : أنه لم يكن نبياً حينئذٍ والمدّعي مطالب بالدليل ولا دليل.
الثاني : أن النهي للتنزيه، وإنما سمي ظالماً وخاسراً لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى وإنما أجرى الله تعالى ما جرى معاتبة على ترك الأولى ووفاء بما قاله تعالى للملائكة قبل خلق آدم :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ( البقرة، ٣٠ ) ولا يكون خليفة في الأرض إلا بالإهباط إليها، وأمر بالتوبة تلافياً لما فاته.
الثالث : أنه فعله ناسياً لقوله تعالى :﴿ فنسي ولم نجد له عزماً ﴾ ( طه، ١١٥ ) ولكن عوقب بترك التحفظ عن أسباب النسيان إذ رفع الإثم بالنسيان من خصائص هذه الأمّة كما ثبت في الأخبار الصحيحة كخبر الشيخين :( رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان ).
وروى الترمذيّ وصححه :( أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ) رواه الحاكم بلفظ ( أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون ).
الرابع : أنه عليه الصلاة والسلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظنّ أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها، وكان المراد بالإشارة الإشارة إلى النوع لا إلى شجرة معينة كما روى أبو داود وغيره ( أنه عليه الصلاة والسلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : هذان حرام على ذكور أمّتي حلّ لإناثها ).
فإن قيل : المجتهد إن أخطأ لا يؤاخذ. أجيب : بأنه إنما عوتب على ذلك تعظيماً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده. وقرأ ورش بإمالة ألف النار بين بين، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالامالة المحضة، والباقون بالفتح.
﴿ يا بني إسرائيل ﴾ أي : أولاد يعقوب وإسرائيل لقبه، ومعنى إسرا بالعبرانية عبد وإيل الله فمعناه : عبد الله، وقيل : صفوة الله صلى الله عليه وسلم ﴿ اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ أي : بالتكثر فيها والقيام بشكرها، والذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، وتقييد النعمة بهم لأن الإنسان غيور حسود بالطبع فإذا نظر إلى ما أنعم الله على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط وإن نظر إلى ما أنعم به عليه حمله حب النعمة على الرضا والشكر لله، وقيل : أراد بها ما أنعم على آبائهم من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من النعم التي لا تحصى قال الله تعالى :﴿ وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ﴾ ( إبراهيم، ٣٤ ) ( النحل، ١٨ ) ﴿ وأوفوا بعهدي ﴾ أي : بامتثال أمري ومنه ما عهدت إليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أوف بعهدكم ﴾ أي : الذي عهدته إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة.
تنبيه : للوفاء بالعهد درجات كثيرة : فأوّل مراتبه منا هو الإتيان بكلمتي الشهادتين، ومن الله تعالى حقن الدماء والمال، وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلاً عن غيره، ومن الله تعالى الفوز بالغنى الدائم، وأمّا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن ﴿ أوفوا بعهدي ﴾ في اتباع محمد ﴿ أوف بعهدكم ﴾ في رفع الآصار أي : الأثقال والأغلال، وعن غير ابن عباس : أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوف بالمغفرة والثواب، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة والنعيم المقيم فبالنظر إلى الوسايط ﴿ وإياي فارهبون ﴾ فيما تأتون وتذرون وخصوصاً في نقض العهد، والرهبة خوف مع تحرز.
تنبيه : الآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحداً إلا الله.
﴿ وآمنوا بما أنزلت ﴾ من القرآن، وقوله تعالى :﴿ مصدّقاً ﴾ حال مؤكدة مما أنزلت أو من ضميره المحذوف ﴿ لما معكم ﴾ من التوراة بموافقته له ولغيره من الكتب الإلهية في القصص ونعت النبيّ صلى الله عليه وسلم والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أن كل واحد منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدّم في أيام المتأخر لنزل على وفقه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد وغيره :( لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ) وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه ولذلك عرّض بقوله :﴿ ولا تكونوا أوّل كافر به ﴾ أي : بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه.
فإن قيل : كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب ؟ أجيب : بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر، كقولك لمن أساء : أمّا أنا فلست بجاهل، أو ولا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة.
تنبيه : أوّل كافر به وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير أوّل فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقولك : كسانا حلة أي : كل واحد منا ﴿ ولا تشتروا ﴾ تستبدلوا ﴿ بآياتي ﴾ التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ثمناً قليلاً ﴾ أي : عوضاً يسيراً من الدنيا أي : لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم وذلك أنّ رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل سنة شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن يفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة فنهوا عن ذلك فإنّ حظوظ الدنيا وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت من حظوظ الآخرة ﴿ وإياي فاتقون ﴾ خافون في ذلك دون غيري.
﴿ ولا تلبسوا ﴾ أي : تخلطوا ﴿ الحق ﴾ الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بالباطل ﴾ الذي تخترعونه وتكتبونه بأيديكم من تغيير صفته ﴿ و ﴾ لا ﴿ تكتموا الحق ﴾ أي : تكتموا نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم لابسون الحق بالباطل كاتمون فإنه أقبح إذ الجاهل يعذر.
﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ أي : الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ أي : أدوا زكاة أموالكم المفروضة. أمرهم بفروع الإسلام بعدما أمرهم بأصوله وفيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بها والزكاة مأخوذة من زكا الزرع إذا نما وكثر أو من الزكاة بمعنى الطهارة وكلا المعنيين موجود في الزكاة فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم ويطهر المال من الخبث والنفس من البخل ﴿ واركعوا مع الراكعين ﴾ أي : صلوا مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعتهم فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ أي : الفرد بسبع وعشرين لما فيها من تظاهر أي : تعاون النفوس، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود لأنّ صلاتهم لم يكن فيها ركوع أي : صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع، وقيل : الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع، قال الشاعر :
لا تذلّ الضعيف ( وروي لا تهين الفقير ) علك ( أي : لعلك )***
أن تركع يوماً والدهر قد رفعه***
فتركع من الركوع بمعنى الانحناء والميل وأراد به الانحطاط من الرتبة.
ونزل في علماء اليهود وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين سراً : اثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق ولا يتبعونه.
﴿ أتأمرون الناس بالبرّ ﴾ أي : بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك تقريع مع توبيخ وتعجيب، والبرّ شرعاً التوسع في الخير من البرّ بالفتح وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير ولذلك قيل : البر ثلاثة : برّ في عبادة الله، وبر في معاملة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب ﴿ وتنسون أنفسكم ﴾ أي : تتركونها من البرّ كالمنسيات، وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدّقون ﴿ وأنتم تتلون الكتاب ﴾ أي : التوراة وفيها الوعيد على العناد وترك البرّ ومخالفة القول العمل ﴿ أفلا تعقلون ﴾ سوء فعلكم فيصدّكم عنه، أو فلا عقل لكم يمنعكم عما تعملون من عدم موافقة عاقبته لكم والآية ناعية على من يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظاً غير متعظ نفسه، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ) وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي : فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) وقال شعبة عن الأعمش : فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه.
﴿ واستعينوا ﴾ أي : اطلبوا المعونة على أموركم ﴿ بالصبر ﴾ أي : الحبس للنفس على ما تكره ﴿ والصلاة ﴾ أفردها بالذكر تعظيماً لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع.
روى الإمام أحمد وغيره ( أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ) أي : لجأ إليها، وحزبه بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة : أهمه ونزل به، وقيل : الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة، وقيل : الواو بمعنى على أي : واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ ( طه، ١٣٢ ) ويحتمل أن يراد بالصلاة : الدعاء ﴿ وإنها ﴾ أي : الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروباً من الصبر كما قال تعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ ( التوبة، ٦٢ ) ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل أو لأنها أعم، كما في قوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ﴾ ( التوبة، ٣٤ ) ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل : ردّ الكناية إلى كل منهما وأن كل خصلة منهما كما قال تعالى :﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ﴾ ( الكهف، ٣٣ ) أي : كل واحدة منهما، وقيل : معناه : واستعينوا بالصبر وإنه لكبير والصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصاراً، وقال الحسين بن الفضل : ردّ الكناية إلى الاستعانة ﴿ لكبيرة ﴾ أي : ثقيلة شاقة كقوله تعالى :﴿ كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ﴾ ( الشورى، ١٣ ) ﴿ إلا على الخاشعين ﴾ أي : الساكنين إلى الطاعة، والخشوع : السكون، قال تعالى :
﴿ وخشعت الأصوات للرحمن ﴾ ( طه، ١٠٨ ) والخضوع : اللين والانقياد، ولذا يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.
﴿ الذين يظنون ﴾ أي : يستيقنون وأطلق الظنّ على العلم لتضمنه معنى التوقع ﴿ أنهم ملاقو ربهم ﴾ بالبعث ﴿ وأنهم إليه راجعون ﴾ في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم، وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم لأنّ نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجل مشاقها وتستلذ بسببه متاعبها ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام :( وجعلت قرّة عيني في الصلاة ).
﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ﴾ بالشكر عليها بطاعتي، كرره للتوكيد وتذكير التفضل الذي هو أجل النعم خصوصاً، وربطه بالوعيد الشديد تخويفاً لمن غفل عنها وأخلّ بحقوقها وعطف على نعمتي ﴿ وأني فضلتكم ﴾ أي : آباءكم الذين كانوا في عصر موسى صلى الله عليه وسلم وبعده قبل أن يغيروا ﴿ على العالمين ﴾ أي : عالمي زمانهم بما منحهم الله من العلم والإيمان والعمل وجعلهم أنبياء وملوكاً مقسطين وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف في الأبناء. واستدل بذلك على أن الأصلح لا يجب على الله لأنّ تفضيلهم لو وجب عليه لم يجز جعله منة عليهم لأنّ من أتى بما وجب عليه لا منة له به على أحد.
﴿ واتقوا ﴾ خافوا ﴿ يوماً ﴾ أي : ما فيه من الحساب والعقاب وهو يوم القيامة ﴿ لا تجزى ﴾ أي : لا تقضى ﴿ نفس عن نفس ﴾ فيه ﴿ شيئاً ﴾ أي : حقاً لزمها.
تنبيه : قول البيضاوي وإيراده أي : شيئاً منكراً مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي تبع فيه صاحب «الكشاف » وهو جار على مذهب المعتزلة من أنهم ينكرون الشفاعة للعصاة وسيأتي الجواب عن مذهبهم. ﴿ ولا تقبل ﴾ بالتاء على التأنيث كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو بالياء على التذكير كما قرأ به الباقون ﴿ منها شفاعة ﴾ أي : من النفس الثانية لقوله تعالى :﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾ أي : فداء ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي : يمنعون من عذاب الله إذ الضمير في الجملتين للنفوس العاصية ويصح رجوعه للنفس الأولى لأنها المحدّث عنها في قوله تعالى :﴿ لا تجزى نفس عن نفس ﴾ والثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة وتذكير ضمير ولا هم ينصرون مع أنّ الضمير راجع للنفوس، وكان المناسب هنّ بالتأنيث لأنه بمعنى العباد أو الأناس كما تقول ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال والنصرة أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضرر وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها : أن الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ويؤيد هذا أنّ الخطاب معهم وعلى هذا يتمشى قول البيضاوي المارّ ويكون المراد حينئذٍ أنه ليس لها شفاعة فتقبل كما قال تعالى حاكياً عنهم ﴿ فما لنا من شافعين ﴾ ( الشعراء، ١٠٠ ).
ومنها : أنّ الآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم.
ومنها : أنها لا تشفع إلا بإذن الله.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ نجيناكم ﴾ أي : آباءكم الخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله ليؤمنوا ﴿ من آل فرعون ﴾ أي : أتباعه وأهل دينه، والمشهور أن أصل آل : أهل، لأن تصغيره أهيل، وقال الكسائيّ وغيره : أصله أول من آل يؤل أي : رجع، قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وتصغيره أويل.
فإن قيل : يردّ الأوّل اختلاف أهل وآل معنى إذ الأهل القرابة والآل من يؤول إليك بقرابة أو رأي أو مذهب ولأن الألف يثبت إبدالها من الهاء. أجيب : بأن القائل بالأول جرى على القول بأن اللفظتين بمعنى، أو أراد بالأهل أحد معاني آل وأبدل الواو من الهاء لتقاربهما مخرجاً، وخص بالإضافة إلى أولي القدر والشرف كالأنبياء والملوك، وإنما قيل آل فرعون لتصوره بصورة الأشراف أو لشرفه في قومه عندهم، وفرعون هو الوليد ابن مصعب بن ريان وكان من القبط من العمالقة وعمر أكثر من أربعمائة سنة ﴿ يسومونكم ﴾ يولونكم ويذيقونكم ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : أشدّه، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من آل فرعون، أو منهما جميعاً لأنّ فيها ضمير كل واحد منهم ﴿ يذبحون أبناءكم ﴾ المولودين ﴿ ويستحيون نساءكم ﴾ أي : يتركونهنّ أحياء، هذا بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف وذلك أنّ فرعون لعنه الله رأى في منامه كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرّض لبني إسرائيل فهاله ذلك، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا : يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن : لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قيل : إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبيّ، وقال وهب : بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألفاً، قالوا : وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها ﴿ وفي ذلكم بلاء ﴾ إن أشير به إلى صنيعهم فهو محنة أو إلى الإنجاء فهو نعمة فإنّ البلاء يكون بمعنى الشدّة وبمعنى النعمة ويجوز أن يشار بذلكم إلى الأمرين فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدّة بالصبر قال تعالى :﴿ ونبلوكم ﴾ ( الأنبياء، ٣٥ ) أي : نختبركم بالشرّ والخير فتنة ﴿ من ربكم ﴾ أي : بتسليطهم عليكم، أو ببعثة موسى وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما، وقوله تعالى :﴿ عظيم ﴾ صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من الله تعالى فعليه أن يشكر عند مسارّه ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ فرقنا ﴾ فلقنا ﴿ بكم ﴾ أي : بسببكم ﴿ البحر ﴾ حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم وذلك أنّ فرعون لما دنا هلاكه أمر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب عليه الصلاة والسلام اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم ثم علم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك، قال ابن مسعود رضي الله عنه : فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة ثم خرج فرعون في طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سائر الشيات، قال محمد بن كعب : وكان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشيات وكان فرعون في الدهم، وقيل : كان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ناشب ومائة ألف أصحاب حراب ومائة ألف أصحاب الأعمدة فسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر والماء في غاية الزيادة ونظروا فإذا هم بفرعون حين أشرقت الشمس فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى كيف نصنع وأين ما وعدتنا هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، قال الله تعالى :﴿ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إنّ معي ربي سيهدين ﴾ ( الشعراء، ٦١ ) فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال : انفلق يا أبا خالد بإذن الله، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، فظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبساً، فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم
بعضاً فخافوا وقال كل سبط : قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى جبال الماء أن تشبكي فصارت شبكاً كالطاقات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين فذلك قوله تعالى :﴿ فأنجيناكم ﴾ أي : من آل فرعون ﴿ وأغرقنا آل فرعون ﴾ وذلك أنّ فرعون لما وصل البحر فرآه منفلقاً قال لقومه : انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوه، وقيل : قالوا له : إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل يعني : موسى وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم وخاض البحر فلما شمّ أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر، في أثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من أمره شيئاً وهو لا يرى فرس جبريل واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم ويقول لهم : الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم البحر وخرج جبريل من البحر وهمّ أوّلهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم وفرّقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم طرف من بحر فارس. قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له : أسان وذلك بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ إلى مصارعهم، أو إطباق البحر عليهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة، أو جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل، أو ينظر بعضكم بعضاً، واعلم أنّ هذه الواقعة من أعظم ما أنعم الله به على بني إسرائيل، ومن الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى الكليم، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ ( البقرة، ٥٥ ) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل القرآن والتحدّي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم دقيقة يدركها الأذكياء.
﴿ وإذ وعدنا موسى ﴾ بغير ألف بين الواو والعين، كما قرأ به أبو عمرو، والباقون بألف بين الواو والعين لأنه تعالى وعد موسى الوحي ووعد موسى ربه المجيء للميقات إلى الطور، وقيل : هذا من المفاعلة التي تكون من الواحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وأمال حمزة ألف موسى محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿ أربعين ليلة ﴾ أن يعطيه عند انقضائها التوراة ليتعلموا بها وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور، وقيل : لأنّ الظلمة أقدم من الضوء وخلق الله تعالى الليل قبل النهار قال الله تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ﴾ ( يس، ٣٧ ) وقول البيضاوي : إنّ ذلك الوعد لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون تبع في ذلك «الكشاف » ولم يعرف ذلك لغيرهما وإنما كانوا بالشام لأن إتيان موسى للمقيات كان بطور سينا وهو بالشام لا بمصر وقد قال البهاء بن عقيل في «تفسيره » لم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرّخين بأنهم دخلوا مصر بعد خروجهم منها.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فأخرجناهم من جنات ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ وأورثناها بني إسرائيل ﴾ ( الشعراء، ٥٩ ) يقتضي أنهم عادوا إليها. أجيب : بأن المعنى أن الله تعالى أورثهم وملكهم إياها ولم يردّهم إليها وجعل مساكنهم الشام. ﴿ ثم اتخذتم ﴾ قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم اتخذتم بإظهار الذال قبل التاء، والباقون بإدغام الذال في التاء. ﴿ العجل ﴾ الذي صاغه لكم السامريّ إلهاً ومعبوداً ﴿ من بعده ﴾ أي : بعد ذهابه إلى ميقاتنا، وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوّهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتمون إليها فوعد الله تعالى موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه : إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون واستخلف أخاه هارون فلما أتاه الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له : فرس الحياة، لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه، فلما رآه السامريّ وكان رجلاً صائغاً من قبيلة يقال لها : سامرة، ورأى موضع قدم الفرس يخضر من ذلك وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعمل عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وقومه فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل قال السديّ : فأمرهم هارون أن يلقوها في حفرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامريّ عجلاً من ذهب في ثلاثة أيام مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ثم ألقى فيه القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبريل فصار يخور ويمشي فقال السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أي : فتركه ههنا، وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة، وقيل : كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة قال تعالى :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر ﴾ ( الأعراف، ١٤٢ ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في محله فكانت فتنتهم في تلك العشرة، فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى ورأوا العجل وسمعوا قول السامريّ عكف منهم ثمانية آلاف رجل على العجل يعبدونه، وقيل : كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل، قال البغويّ : وهو الأصح، وقال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون، ولذلك قال تعالى :﴿ وأنتم ظالمون ﴾ أي : باتخاذه لوضعكم العبادة في غير محلها.
﴿ ثم عفونا ﴾ محونا ﴿ عنكم ﴾ ذنوبكم حين تبتم، والعفو محو الجريمة من عفى إذا درس ﴿ من بعد ذلك ﴾ أي : الاتخاذ ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي : لكي تشكروا نعمتنا عليكم.
تنبيه : إنما قدرت لعل بكي أخذاً مما قيل : إن لعل في القرآن بمعنى كي غير قوله تعالى في الشعراء :﴿ لعلكم تخلدون ﴾ ( الشعراء، ١٢٩ ) فإنها بمعنى كأنّ أي : كأنكم تخلدون.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ آتينا موسى الكتاب ﴾ أي : التوراة، وقوله تعالى :﴿ والفرقان ﴾ عطف تفسير أي : الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقيل : أراد بالفرقان معجزات موسى كانفلاق البحر الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى وبين الكفر والإيمان ﴿ لعلكم تهتدون ﴾ أي : لكي تهتدوا بتدبر الكتاب والتفكر في الآيات من الضلال.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ قال موسى لقومه ﴾ الذين عبدوا العجل ﴿ يا قوم إنكم ظلمتم ﴾ قرأ ورش بتغليظ اللام والباقون بالترقيق
﴿ أنفسكم باتخاذكم العجل ﴾ إلهاً قالوا : فأيّ شيء نصنع ؟ قال :﴿ فتوبوا ﴾ أي : ارجعوا عن عبادة العجل.
﴿ إلى بارئكم ﴾ أي : خالقكم، وقرأ أبو عمرو بإسكان الهمزة، وروي عن الدوري باختلاس الحركة، وروي عن السوسي إبدالها ياء ساكنة، وأمال الدوري عن الكسائي الألف بعد الباء الموحدة، وإذا وقف حمزة على بارئكم سهل الهمزة بين بين.
قالوا : كيف نتوب ؟ قال :﴿ فاقتلوا أنفسكم ﴾ أي : ليقتل منكم البريء من عبادة العجل من عبده، وقيل : المراد بالقتل قطع الشهوة كما قيل : من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها، وردّ هذا جماعة بإجماع المفسرين على أنّ المراد هنا القتل الحقيقيّ.
﴿ ذلكم ﴾ أي : القتل ﴿ خير لكم عند بارئكم ﴾ من حيث أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا : نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم : من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته وأسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه فلم يمكنه المضيّ لأمر الله فقالوا : يا موسى كيف نفعل ؟ فأرسل الله عليهم ضبابة تشبه سحابة تغشى الأرض كالدخان وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وبكيا وتضرّعا وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فكشف الله تعالى السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل فكشفت عن ألوف من القتلى.
روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال : عدد القتلى سبعون ألفاً فاشتدّ ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة ؟ فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى :﴿ فتاب عليكم ﴾ أي فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أي : فتجاوز عنكم وقبل توبتكم.
تنبيه : ذكر البارئ في قوله تعالى :﴿ فتوبوا إلى بارئكم ﴾ وترتيب الأمر بالقتل عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثلهم في الغباوة وأنّ من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن يستردّ منه ما أنعم به عليه ولذلك أمروا بفك تركيب ذواتهم بالقتل ﴿ إنه هو التوّاب ﴾ أي الذي يكثر قبول التوبة من المذنبين ﴿ الرحيم ﴾ أي : البالغ في الإنعام على خلقه.
﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين رجلاً من خيار قومه وقال لهم : صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا ذلك فخرج موسى إلى طور سيناء لميقات ربه فقالوا لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال لهم : أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام فغشي الجبل كله فدخل في الغمام وقال للقوم : ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجداً وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله تعالى : إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل عليهم فقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة عياناً وذلك أنّ العرب تجعل العلم بالقلب رؤية فقالوا جهرة : ليعلم أنّ المراد منه العيان، روي عن السوسي إمالة الألف بعد الراء في نرى وترقيق اللام من اسم الله، وروي عنه تفخيم اللام مع الإمالة وله وجه ثالث كالجماعة وهو عدم الإمالة مع تفخيم اللام.
فإن قيل : كيف تمال الألف وهي تسقط عند التقاء الساكنين ؟ أجيب : بأنه لولا إمالتها ما أميلت الراء لأنّ القارئ إذا أراد أن يميل الألف لا يتمكن من الإمالة إلا بإمالة ما قبله ﴿ فأخذتكم الصاعقة ﴾ أي : الصيحة فمتم، وقيل : جاءت نار من السماء فأحرقتهم وذلك لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال بل المراد أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا ﴿ وأنتم تنظرون ﴾ أي : ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت، وقيل : تعلمون ويكون النظر بمعنى العلم.
فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع ويقول : ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا. فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا ليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما قال تعالى :
﴿ ثم بعثناكم ﴾ أي : أحييناكم، والبعث إثارة الشيء عن محله يقال : بعثت البعير فانبعث وبعثت النائم فانبعث.
﴿ من بعد موتكم ﴾ بسبب الصاعقة. قال قتادة : أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، وقيد البعث بعد الموت لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف ﴾ ( الكهف، ١١ ) إلى أن قال :﴿ ثم بعثناهم ﴾ أي : من النوم. ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ نعمة لبعث أو ما كفرتموه من النعم المتتابعة.
﴿ وظللنا عليكم الغمام ﴾ في التيه يقيكم حرّ الشمس، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم عليه فأرسل الله غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر يسيرون في ضوئه، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلي وغلظ ورش اللام المفتوحة بعد الظاء.
﴿ وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى ﴾ في التيه، والأكثرون على أنّ المنّ هو الترنجبين، قال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد وكان يقع كل ليلة على أشجارهم مثل الثلج لكل إنسان منهم صاع، فقالوا : يا موسى قتلنا هذا المنّ بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم، فأنزل الله عليهم السلوى جمع سلواة وهو الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جمع سماناة وهو الطير المعروف، وقيل : هو طائر يشبهه بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض فكان الله تعالى ينزل عليهم المنّ والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت. وقرأ السلوى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين.
فإن قيل : لم قدّم في الآية المنّ على السلوى مع أنها غذاء والمنّ حلواء والعادة تقديم الغذاء على الحلواء ؟ أجيب : بأنّ نزول المنّ من السماء أمر مخالف للعادة فقدم لاستعظامه بخلاف الطيور المأكولة وأيضاً هو مقدّم في النزول عليهم ﴿ كلوا ﴾ على إرادة القول أي : قلنا لهم كلوا ﴿ من طيبات ﴾ حلالات ﴿ ما رزقناكم ﴾ ولا تدخروا لغد فكفروا النعمة وادّخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروه وقوله تعالى :﴿ وما ظلمونا ﴾ أي : بذلك فيه اختصار وأصله فظلموا بأن كفروا بهذه النعم وما ظلمونا ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ لأنّ وباله عليهم.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر ).
﴿ وإذ قلنا ﴾ لهم بعد خروجهم من التيه ﴿ ادخلوا هذه القرية ﴾ أي : بيت المقدس كما قاله مجاهد، أو أريحاء بفتح الهمزة وكسر الراء وبالحاء المهملة كما قاله ابن عباس وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم : العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، قال ابن الأثير وهي قرية بالغور قريبة من بيت المقدس، وقيل : البلقاء، وقيل : الرملة والأردن وفلسطين، وقيل : الشام. سميت القرية قرية لأنها تجمع أهلها ومنه المقرّة للحوض لأنها تجمع الماء ﴿ فكلوا منها حيث شئتم رغداً ﴾ أي : واسعاً لا حجر فيه ﴿ وادخلوا الباب ﴾ أي : باب من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب ﴿ سجداً ﴾ أي : متطامنين منحنين أو ساجدين السجود الشرعيّ لله شكراً على إخراجكم من التيه ﴿ وقولوا ﴾ مسألتنا ﴿ حطة ﴾ أي : أن تحط عنا خطايانا، قال قتادة : أمروا بالاستغفار، وقال ابن عباس : بلا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب، وقيل : معناه أمرنا حطة أي : شأننا أن نحط في هذه القرية ونقيم فيها حتى ندخل الباب سجداً مع التواضع ﴿ نغفر لكم خطاياكم ﴾ بسجودكم ودعائكم. وقرأ نافع بباء مضمومة على التذكير مع فتح الفاء، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة على التأنيث مع فتح الفاء أيضاً، وقرأ الباقون بالنون مفتوحة مع كسر الفاء، وقرأ الكسائي خطاياكم بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
﴿ وسنزيد المحسنين ﴾ بالطاعة ثواباً جعل الله تعالى امتثال قوله :﴿ قولوا حطة ﴾ توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسنين.
فإن قيل : كيف عطف وسنزيد مع أنه مرفوع على نغفر مع أنه مجزوم جواباً للأمر ؟ أجيب : بأنه أخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد إيهاماً بأنّ المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وإنه يفعل لا محالة، وسبب إخراج ما ذكر عن صورة الجواب إلى الوعد أنّ الزيادة إذا كانت من وعد الله كانت أعظم مما إذا كانت مسببة عن فعلهم.
﴿ فبدّل الذين ظلموا ﴾ منهم ﴿ قولاً غير الذي قيل لهم ﴾ فقالوا : حبة من شعرة ودخلوا يزحفون على أستاههم مخالفة في الفعل كما بدلوا القول.
روى معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة ) وفي رواية : في شعيرة. وقوله تعالى :﴿ فأنزلنا على الذين ظلموا ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعاراً بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم بوضع غير المأمور به موضعه أو على أنفسهم بأنهم تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها ﴿ رجزاً ﴾ أي : عذاباً مقدراً ﴿ من السماء ﴾ وقيل : أرسل الله عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً، وقيل : أربعة وعشرون ألفاً ﴿ بما كانوا يفسقون ﴾ أي : بسبب فسقهم، أي : خروجهم عن الطاعة.
﴿ وإذ استسقى موسى ﴾ طلب السقيا ﴿ لقومه ﴾ وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال :﴿ فقلنا اضرب بعصاك الحجر ﴾ وكانت من آس الجنة بالمدّ أي : شجرها وهو المرسين.
وروي عن ابن عباس أنها كانت من عوسج طولها عشرة أذرع على طول موسى وكان لها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً واسمها عليق، وقال مقاتل : اسمها بنفة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى. واللام في الحجر للعهد على ما روي أنه كان حجراً طورياً مكعباً حمله معه كان له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين تسيل كل عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألف وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً أو حجراً أهبطه آدم من الجنة ودفع إلى شعيب فأعطاه لموسى مع العصا أو الحجر الذي فرّ بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل وهو حجر خفيف مربع كرأس الرجل رخام أو كذان وبرأه الله تعالى به عما رموه به من الأدرة وهي بضمّ الهمزة كبر الأنثيين فلما وقف أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : إنّ الله تعالى يقول : ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة أو للجنس.
قال البيضاويّ : وهذا أظهر في الحجة ويدل له قول وهب : لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان فينفجر عيوناً لكل سبط عين ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة فيها حمل حجراً في مخلاته وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ويضربه بها إذا ارتحل فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله تعالى إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون وقوله تعالى :﴿ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ﴾ متعلق بمحذوف أي : فضربه فانفجرت أي : سالت، قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست : عرقت وانفجرت : سالت، وقال عطاء : كان يضربه موسى اثنتي عشرة ضربة فيظهر على كل موضع ضربة مثل ثدي المرأة فيعرق ثم تنفجر الأنهار ثم تسيل ﴿ قد علم كل أناس ﴾ أي : سبط منهم ﴿ مشربهم ﴾ أي : عينهم التي يشربون منها لا يدخل سبط على غيره في شربه وقلنا لهم :﴿ كلوا واشربوا من رزق الله ﴾ أي : كلوا من المنّ والسلوى واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ﴿ ولا تعثوا ﴾ أي : لا تعتدوا ﴿ في الأرض مفسدين ﴾ أي : حال إفسادكم وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ومنه ما يتضمّن صلاحاً راجحاً على الفساد كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة.
تنبيه : من أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله تعالى وقلة تدبره في عجائب صنعه فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر كالنورة ويجذب الحديد كالمغناطيس وينفر الخل كالكهربان فإنه إذا وضع في إناء لا يحصل الخل في ذلك الإناء لم يمتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض أو لجذب الهواء من الجوانب الأربعة ويصيره ماء بقوّة التدبير ونحو ذلك.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ﴾ وذلك أنهم سئموا من أكل المنّ والسلوى، وإنما عبّر عنهما بطعام واحد لعدم تبدّلهما كقول العرب : طعام مائدة الأمير واحد يريدون أنه لا يتغير ألوانه أو لأنّ العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى :﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ﴾ ( الرحمن، ٢٢ ) وإنما يخرج من الملح دون العذب أو لأنهم كانوا يعجنون المنّ بالسلوى فيصيرا واحداً أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعام واحد أو ضرب واحد لأنهما معاً طعام أهل التلذذ وهم كانوا أهل فلاحة أي : أهل زراعات فاشتاقوا إلى أصلهم الرديء وعادتهم الخبيثة ولذا قالوا :﴿ فادع لنا ربك ﴾ أي : فسل لأجلنا ربك، ﴿ يخرج لنا ﴾ يظهر لنا ويوجد، وجزمه بأنه جواب فادع فإنّ دعوة موسى تسبب الإجابة.
وقوله تعالى :﴿ مما تنبت الأرض ﴾ من الإسناد المجازي وإقامة القابل وهي الأرض لأنها قابلة للنبات مقام الفاعل ومن في قولهم :﴿ مما تنبت ﴾ للتبعيض ومن في قولهم :﴿ من بقلها ﴾ للبيان والبقل ما تنبته الأرض من الخضر وهو ما ليس له ساق، والمراد به أطايبه التي تؤكل كالكرفس والنعناع والكرّاث، ﴿ وقثائها وفومها ﴾ وهو الخبز كما قاله ابن عباس ومنه فوّموا لنا أي : اخبزوا، أو الحنطة كما قاله عطاء، أو الثوم كما قاله الكلبي، ﴿ وعدسها وبصلها ﴾.
﴿ قال ﴾ أي : الله أو موسى ﴿ أتستبدلون الذي هو أدنى ﴾ أي : أخس وأردأ، وأصل الدنوّ القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف والرفعة فقيل : بعيد الهمة بعيد المحل ﴿ بالذي هو خير ﴾ أي : أشرف وهو المنّ والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي أي : أتأخذون هذا بدل هذا والهمزة للإنكار فأبوا أن يرجعوا فدعا موسى ربه فقال تعالى :﴿ اهبطوا ﴾ أي : انزلوا، فإن هبط يستعمل متعدّياً بنفسه كما هنا فيكون بمعنى النزول ويستعمل متعدّياً بمن فيكون بمعنى الخروج من مكان إلى آخر مساو له أو أعلى منه.
﴿ مصراً ﴾ من الأمصار، والمصر البلد العظيم لا العلم بفتح اللام، وقيل : أراد به العلم وهي مصر موسى وفرعون، قال البيضاويّ : ويؤيده أي : القول بأن المراد بمصر العلم أنه غير منوّن في مصحف ابن مسعود أي : وهي قراءة شاذة وإنما صرفه على هذا مع أنّ فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في هند ودعد لمعادلة أحد سببي منع الصرف بخفة الاسم لسكون وسطه أو على تأويل مصر بالمكان فذكره فيبقى فيه سبب واحد فانصرف.
﴿ فإنّ لكم ﴾ فيه ﴿ ما سألتم ﴾ من نبات الأرض ﴿ وضربت عليهم ﴾ أي : أحيطت إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط.
﴿ الذلة ﴾ أي : الذل والهوان، وقيل : الجزية، ﴿ والمسكنة ﴾ أي : الفقر وسمي الفقير مسكيناً لأنّ الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة وفعل بهم ذلك مجازاة لهم على كفران النعمة ولذلك تجد اليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين إمّا على الحقيقة أو على التكلف مخافة أن تضاعف جزيتهم، وقيل : الذلة فقر القلب فلا ترى في أهل الملل أذل وأحرص على المال من اليهود. وقرأ حمزة والكسائي : عليهم بضمّ الهاء والميم وصلاً، وفي الوقف حمزة على أصله، والكسائي بكسرها، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم وقفاً ووصلاً، وباقي القرّاء بكسر الهاء وضم الميم وصلاً وفي الوقف بكسر الهاء وسكون الميم.
﴿ وباؤوا ﴾ رجعوا ﴿ بغضب من الله ﴾ ولا يقال باء إلا بشر، وأصل البوء المساواة، وقال أبو عبيدة : احتملوه وأقروا به ومنه الدعاء :«أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي » أي : أقرّ، وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما مرّ من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ كانوا يكفرون بآيات الله ﴾ بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن وبالمعجزات التي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر وإظلال الغمام وإنزال المنّ والسلوى وانفجار العيون من الحجر ﴿ ويقتلون النبيين بغير الحق ﴾ أي : ظلماً فإنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم. روي
أن اليهود قتلوا سبعين نبياً في أوّل النهار وقامت سوق بقلهم آخر النهار.
فإن قيل : لم قال :﴿ بغير الحق ﴾ وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق ؟ أجيب : بأنه ذكره وصفاً للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وتارة بغير الحق وهو مثل قوله تعالى :﴿ قل رب احكم بالحق ﴾ ( الأنبياء، ١١٢ ) ذكر الحق وصفاً للحكم لا أنّ حكمه ينقسم إلى الجور والحق، أو أنه بغير الحق عندهم إذ لم يروا منهم ما يعتقد به جواز قتلهم.
فإن قيل : إنّ الله تعالى قد أخبر بقتل الأنبياء ونصر الرسل فكيف الجمع ؟ أجيب : بأن المحل مختلف إذ الرسول غير النبيّ وبأنّ المراد بالنصر الغلبة بإظهار الحجة لا العصمة من القتل وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى وحب الدنيا كما أشار إليه تعالى بقوله :﴿ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ أي : جرهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات وقتل النبيين، فإنّ صغار الذنوب أسباب تؤدّي إلى ارتكاب كبارها كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحرّي كبارها، وكرر الإشارة للدّلالة على أنّ ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله، وقيل : الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع وعلى هذا إنما جوّزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين فصاعداً على تأويل ما ذكر والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع، وقرأ النبيئين نافع بالهمزة، والباقون بالياء، وورش على أصله في الهمز بالمدّ والتوسط والقصر.
﴿ إنّ الذين آمنوا ﴾ بالأنبياء من قبل ﴿ والذين هادوا ﴾ أي : اليهود سموا به لقولهم : إنا هدنا إليك أي : ملنا إليك، وقيل : لأنهم هادوا أي : تابوا من عبادة العجل وكأنهم سموا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهوّدون أي : يتحرّكون عند قراءة التوراة ويقولون : إنّ السموات والأرض تحرّكت حين آتى الله موسى التوراة ﴿ والنصارى ﴾ جمع نصراني كندامى، والياء في نصراني للمبالغة سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح، ﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ ( آل عمران، ٥٢ ) ( الصف، ١٤ ).
فإن قيل : هذا ليس جارياً على قواعد الاشتقاق فإنه يقال للواحد : ناصر وفاعل لا يجمع على فعالى. أجيب : بأنّ ذلك كاف في الاشتقاق وإن لم يجمع المفرد على فعالى أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة، فسموا باسمها على الأول أو من اسمها على الثاني ﴿ والصابئين ﴾ هم طائفة من النصارى، وقيل : من اليهود، وقيل : قوم بين النصارى والمجوس، وقيل : أصل دينهم دين نوح عليه الصلاة والسلام، وقيل : هم عبدة الملائكة أو الكواكب، وقرأ نافع وحده بالياء إمّا لأنه خفف الهمزة، أو لأنه من صبا إذا مال لأنهم مالوا عن سائر الأديان إلى دينهم، أو من الحق إلى الباطل، والباقون بالهمزة بعد الباء الموحدة ﴿ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ﴾ أي : من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدّقاً بقلبه وبالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه، وقيل : من آمن من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً ودخل الإسلام دخولاً صادقاً ﴿ فلهم أجرهم ﴾ أي : ثواب أعمالهم ﴿ عند ربهم ﴾ بأن يدخلهم الجنة ﴿ ولا خوف عليهم ﴾ في الدنيا ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ في الآخرة أو حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.
تنبيه : روعي في ضمير آمن وعمل لفظ من وفيما بعده معناها ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر إن، أو بدل من اسم إن وخبرها فلهم أجرهم والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط وقد منع سيبويه دخولها في خبر إن من حيث أنها لا تدخل الشرطية ورد بقوله تعالى :﴿ إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ﴾ ( البروج، ١٠ ).
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ أخذنا ميثاقكم ﴾ أي : عهدكم باتباع موسى والعمل بما في التوراة ﴿ و ﴾ قد ﴿ رفعنا فوقكم الطور ﴾ أي : الجبل حتى أعطيتم الميثاق.
روي أنّ موسى عليه الصلاة والسلام لما جاءهم بالتوراة ورأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم لأنها كانت شريعة ثقيلة وأبوا قبولها فأمر الله تعالى جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم وكان على قدر عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة رجل كالظلة وقال لهم : إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم، وقال عطاء عن ابن عباس : رفع الله فوق رؤوسهم الطور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم، وقيل لهم : فإن قبلتم وإلا رضختكم بهذا الجبل أو أغرقتكم في هذا البحر أو أحرقتكم بهذه النار، فلما رأوا أن لا مهرب لهم من ذلك قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت سنة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ويقولون : بهذا السجود رفع العذاب عنا ﴿ خذوا ﴾ هو على إرادة القول أي : وقلنا خذوا ﴿ ما آتيناكم ﴾ من الكتاب ﴿ بقوّة ﴾ بجدّ وعزيمة ﴿ واذكروا ما فيه ﴾ بالعمل فيه أو تفكروا فيه فإنه تذكر بالقلب كما أنّ الدرس ذكره باللسان أو ادرسوه ولا تنسوه ﴿ لعلكم تتقون ﴾ لكي تتقوا النار أو المعاصي.
﴿ ثم توليتم ﴾ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق ﴿ من بعد ذلك ﴾ أي : بعد أخذه ﴿ فلولا فضل الله عليكم ورحمته ﴾ أي : بتوفيقكم للتوبة أو بالإمهال وتأخير العذاب عنكم أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه ﴿ لكنتم من الخاسرين ﴾ أي : من المغبونين بالانهماك في المعاصي أو بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.
تنبيه : لو في الأصل لامتناع الشيء لامتناع غيره فإذا دخل على لا أفاد إثباتاً أو هو امتناع الشيء لثبوت غيره والاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسد الجواب مسدّه وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف.
﴿ ولقد علمتم ﴾ اللام موطئة للقسم أي : عرفتم.
﴿ الذين اعتدوا ﴾ تجاوزوا الحدّ.
﴿ منكم في السبت ﴾ بصيد السمك وذلك أنهم كانوا زمن داود عليه الصلاة والسلام بأرض يقال لها إيلة حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكان إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه حتى لا يرى الماء من كثرتها فإذا مضى تفرّقت ولزمت قعر البحر فذلك قوله تعالى :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ ( الأعراف، ١٦٣ ).
ثم إنّ الشيطان وسوس إليهم وقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر، وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تقدر على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل عليهم عقوبة فتجرؤوا على الذنب وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأكلوا وملحوا وباعوا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية وكانوا نحواً من سبعين ألفاً ثلاثة أصناف : صنف أمسك ونهى، وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفاً فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قالوا : والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار.
﴿ فقلنا لهم ﴾ لإصرارهم على المعصية ﴿ كونوا قردة خاسئين ﴾ أي : مبعدين فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد ولم يفتحوا بابهم فلما أبطؤوا تسوروا على الحائط فإذا هم جميعاً قردة لها أذناب يتعاوون، قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث ممسوخ فوق ثلاثة أيام ولم يتوالدوا، وقال مجاهد : ما مسخت صورتهم ولكن قلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار كما في قوله تعالى :﴿ كمثل الحمار يحمل أسفاراً ﴾ ( الجمعة، ٥ ) رواه عنه ابن جرير وردّه وقال : إنه مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار وإجماع المفسرين وقوله تعالى :﴿ كونوا ﴾ ليس بأمر إذ لا قدرة لهم عليه وإنما المراد به سرعة التكوين وإنهم صاروا كذلك كما أراد بهم.
﴿ فجعلناها ﴾ أي : تلك العقوبة ﴿ نكالاً ﴾ أي : عبرة تنكل المعتبر بها أي : تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع.
﴿ لما بين يديها وما خلفها ﴾ أي : للأمم التي في زمانها وبعدها أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها.
﴿ وموعظة للمتقين ﴾ الله من قومهم أو لكل متق سمعها وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم ﴾ قرأ أبو عمرو بسكون الراء.
وروي عن الدوري اختلاس الحركة، والباقون بالحركة الكاملة، والحركة ضمة ﴿ أن تذبحوا بقرة ﴾ أوّل هذه القصة قوله تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها ﴾ ( البقرة، ٧٢ ) وإنما فكت عنه وقدّمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته أنه كان فيهم رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه ببابها ثم أصبح يطلب ديته وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى ليدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فدعا فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله فقال موسى : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
﴿ قالوا أتتخذنا هزواً ﴾ أي : أتستهزئ بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك استبعاداً لما قاله واستخفافاً به، قرأ حمزة بسكون الزاي في الوصل وإذا وقف قال : هزواً بنصب الزاي من غير همز، وروي عنه الإدغام، وهو أن يشدّد الزاي، وقرأ حفص هزواً بضم الزاي بعدها واو مفتوحة وقفاً ووصلاً والباقون بضم الزاي بعدها همزة مفتوحة.
﴿ قال أعوذ ﴾ أي : أمتنع ﴿ با ﴾ من ﴿ أن أكون من الجاهلين ﴾ لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وكان تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهمّ إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل فسارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته فكان يقسم الليل أثلاثاً يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمّه يوماً : إنّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع الله إله إبراهيم وإسماعيل وإسحق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى الذهبية لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى إليه حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك، فقال الفتى : إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها، فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن يتقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمّك، فسار الفتى بها إلى أمّه فقالت له : إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، فقال : بكم أبيعها ؟ قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيراً، فقال الملك له : بكم تبيع هذه البقرة ؟ فقال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثمن، فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمّك ؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال الملك : إني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك، فقالت : إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ؟ ففعل فقال الملك له : اذهب إلى أمّك وقل لها : امسكي هذه البقرة فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها أي : جلدها ذهباً دنانير فأمسكوها وقدّر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه تعالى ورحمة فذلك قوله عز وجل :
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبيّن لها ما هي ﴾ أي : ما سنها وكان من حقه أن يقولوا أيّ بقرة هي أو كيف هي لأن لفظ ما يسأل به عن الجنس غالباً لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ إنه ﴾ أي ربي ﴿ يقول إنها بقرة لا فارض ﴾ أي : مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي : قطعته وبلغت آخره ﴿ ولا بكر ﴾ أي : صغيرة ﴿ عوان ﴾ أي : نصف أي : وسط قال الشاعر :
نواعم بين أبكار وعون***
جمع عوان ﴿ بين ذلك ﴾ أي : بين ما ذكر من الفارض والبكر.
فإن قيل : بين يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك ؟ أجيب : بأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر كما تقرّر وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنّ المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب بالأمر ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من جانب البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص إبطال التخيير الثابت بالنص والحق جواز تأخير البيان عن الوقت المذكور والنسخ قبل الفعل ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام :( لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ) وتقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله :﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾ به من ذبحها.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال ﴾ موسى ﴿ إنه ﴾ أي : ربي ﴿ يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها ﴾ أي : شديد الصفرة ولذلك تؤكد به الصفرة فيقال : أصفر فاقع كما يقال : أسود حالك، وعن الحسن : سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى :﴿ جمالات صفر ﴾ ( المرسلات، ٣٣ ) قال البيضاويّ : ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنه من مقدّماته، قال البغويّ : والأوّل أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال : أصفر فاقع، وأسود حالك وأخضر ناصح ﴿ تسرّ الناظرين ﴾ إليها أي : يعجبهم حسنها وصفاء لونها، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
﴿ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ﴾ أي : أسالمة أم عاملة ؟ وعلى هذا فليس تكراراً للسؤال الأوّل ﴿ إنّ البقر ﴾ أي : جنسه المنعوت كما ذكر ﴿ تشابه ﴾ أي : التبس واشتبه أمره ﴿ علينا ﴾ لكثرته فلم يهتدوا إلى المقصود.
تنبيه : لم يقل تشابهت علينا لأنّ المراد الجنس كما مرّ أو لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى :﴿ أعجاز نخل منقعر ﴾ ( القمر، ٢٠ ) ﴿ وإنا إن شاء الله لمهتدون ﴾ إلى وصفها وفي الحديث :( لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ). واحتجّ به أصحابنا على أنّ الحوادث بإرادة الله تعالى وأنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة لأنها وقعت شرطاً والشرط أمر يحدث في المستقبل، وأجيب : بأنّ تعليق الاهتداء بالمشيئة التي هي الإرادة باعتبار تعلق المشيئة بالاهتداء وهذا التعلق هو الحادث ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث به تعالى لأن التعلق أمر اعتباري.
﴿ قال ﴾ موسى ﴿ إنه ﴾ أي : ربي ﴿ يقول إنها بقرة لا ذلول ﴾ أي : غير مذللة بالعمل ﴿ تثير الأرض ﴾ أي : تقلبها للزراعة، والجملة صفة ذلول داخلة في النفي ﴿ ولا تسقي الحرث ﴾ أي : الأرض المهيأة للزراعة، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قال : لا ذلول مثيرة وساقية ﴿ مسلمة ﴾ من العيوب وإثارة العمل ﴿ لا شية ﴾ أي : لا لون ﴿ فيها ﴾ سوى لون جميع جلدها، قال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد ﴿ قالوا الآن جئت ﴾ أي نطقت ﴿ بالحق ﴾ أي : بالبيان التامّ الشافي الذي لا إشكال فيه فطلبوها فوجدوها عند الفتى البارّ بأمّه فاشتروها بملء مسكها أي : جلدها ذهباً كما قال له الملك، وقوله تعالى :﴿ فذبحوها ﴾ فيه اختصار، والتقدير فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها ﴿ وما كادوا ﴾ أي : ما قاربوا ﴿ يفعلون ﴾ لتطويلهم وكثرة مراجعتهم، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها ولا ينافي قوله :﴿ وما كادوا يفعلون ﴾ قوله :﴿ فذبحوها ﴾ لاختلاف وقتيهما إذ المعنى ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.
﴿ وإذ قتلتم نفساً ﴾ خطاب للجمع لوجود القتل فيهم ﴿ فادّارأتم ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي تخاصمتم وتدافعتم ﴿ فيها ﴾ أي : في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهم بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه ﴿ والله مخرج ﴾ أي : مظهر ﴿ ما كنتم تكتمون ﴾ فإن القاتل كان يكتم القتل.
وقوله تعالى :
﴿ فقلنا اضربوه ﴾ أي : القتيل، عطف على ادّارأتم وما بينهما اعتراض، والضمير للنفس وتذكير الضمير على تأويل الشخص أو القتيل ﴿ ببعضها ﴾ أي : ببعض البقرة واختلفوا في ذلك البعض فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين : ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو ما لان من العظام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : بعجب الذنب لأنه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق، وقال الضحاك : بلسانها، قال الحسين بن الفضل : لأنه آلة الكلام، وقال عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن، وقيل : بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك فقام القتيل حياً بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فحرم قاتله الميراث وقتل وفي الخبر «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة » وفيه إضمار تقديره : فضرب فحيي، قال تعالى :﴿ كذلك ﴾ الإحياء ﴿ يحيي الله الموتى ﴾ والخطاب مع من حضر حياة القتيل أو نزول الآية ﴿ ويريكم آياته ﴾ دلائل قدرته ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ لكي يكمل عقلكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها فتؤمنون.
قال البيضاويّ : ولعله تعالى إنما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما فيه من التقرّب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل أي : توكل أبي اليتيم والشفقة على الأولاد وأن من حق الطالب أن يقدم قربة والمتقرّب أن يتحرّى الأحسن ويغالي بثمنه كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضحى بنجيبة أي : من الإبل بثلثمائة دينار، وأن المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى إلى إذ لا يتصوّر حياة ميت من غيره تعالى والأسباب أمارات لا أثر لها وأن من أراد أن يعرف أعدى عدوّه الساعي في إماتته الموت الحقيقي فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التي هي القوّة الشهوية حين زال عنها أثر الصبا أي : عدم التكليف، وهو نظير لا بكر ولم يلحقها ضعف الكبر أي : وهو نظير لا فارض، وكانت معجبة رائقة المنظر أي : وهو نظير تسرّ الناظرين غير مذللة في طلب الدنيا أي : وهو نظير لا ذلول تثير الأرض مسلمة من دنسها، ﴿ لا شية ﴾ أي : لا علامة بها من قبائحها بحيث يصل أثره أي : الذبح إلى نفسه فتحيا حياة طيبة، ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والنزاع أي : لأن العقل يأمر بالخير والوهم يأمر بالشهوات.
﴿ ثم قست قلوبكم ﴾ أيها اليهود أي : ضلت عن قبول الحق لأن القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر وقساوة القلب مثل في بعده عن الاعتبار، وثم لاستبعاد القسوة عن الأحياء لا للتراخي في الزمان بل للاستبعاد مجاز القرينة ما قبلها بمعنى أنه يبعد من العاقل قسوة القلب بعد ظهور تلك الآية العظيمة ﴿ من بعد ذلك ﴾ المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات فإن ذلك مما يوجب لين القلب ﴿ فهي كالحجارة ﴾ في قسوتها، قرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها ﴿ أو أشدّ قسوة ﴾ من الحجارة، وقيل : أو بمعنى الواو كقوله تعالى :﴿ مائة ألف أو يزيدون ﴾ ( الصافات، ١٤٧ ) وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنّ الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة، لا تلين قط ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال :﴿ وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ﴾ أي : من بعض الحجارة وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط ﴿ فإنّ منها لما يشقق ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الشين ﴿ فيخرج منه الماء ﴾ أي : عيوناً دون الأنهار ﴿ وإنّ منها لما يهبط ﴾ أن ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله ﴿ من خشية الله ﴾ وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود.
فإن قيل : الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى ؟ أجيب : بأنّ الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه، قال البغويّ : ومذهب أهل السنة أنّ لله تعالى علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح كما قال جلّ ذكره :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ ( الإسراء، ٤٠ ) وقال تعالى :﴿ والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ﴾ ( النور، ٤١ ) ( الحج، ١٨ ) وقال تعالى :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر ﴾ ( الحج، ١٨ ) الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلعونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ عليّ فيعاقبني الله بذلك، فقال له جبل حرا : إليّ إليّ يا رسول الله.
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن ).
وروي عن عليّ أنه قال :( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر فلم يمرّ بشجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ).
وروي عن جابر أنه قال :( كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت، وقال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله ويشهد لذلك قوله تعالى :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله ﴾ ( الحشر، ٢١ ) ﴿ وما الله بغافل ﴾ أي : بساه ﴿ عما تعملون ﴾ وعيد وتهديد، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ أفتطمعون ﴾ أي : أفترجون أيها المؤمنون ﴿ أن يؤمنوا ﴾ أي : اليهود ﴿ لكم ﴾ أي : لأجل دعوتكم أو يصدّقوكم بما تخبرونهم به ﴿ وقد كان فريق ﴾ أي : طائفة ﴿ منهم ﴾ أي : أحبارهم ﴿ يسمعون كلام الله ﴾ أي : التوراة ﴿ ثم يحرّفونه ﴾ يغيرونه كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، وقيل : هؤلاء من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله حين كلم موسى عليه الصلاة والسلام بالطور ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا ﴿ من بعد ما عقلوه ﴾ أي : فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم مفترون والهمزة للإنكار أي : لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة في الكفر.
﴿ وإذا لقوا ﴾ أي : منافقو اليهود ﴿ الذين آمنوا قالوا آمنا ﴾ بأنكم على الحق وإنّ رسولكم هو المبشر به في التوراة ﴿ وإذا خلا ﴾ أي : رجع ﴿ بعضهم إلى بعض قالوا ﴾ أي : رؤساؤهم الذين لم ينافقوا ككعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا لمن نافق ﴿ أتحدّثونهم ﴾ أي : المؤمنين ﴿ بما فتح الله عليكم ﴾ بما بين لكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ليحاجوكم ﴾ أي : ليخاصموكم ﴿ به عند ربكم ﴾ أي : بما أنزل ربكم في كتابه ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه جعلوا محاجتهم بكتاب الله محاجة عند الله كما يقال : عند الله كذا، ويراد به أنه في كتابه وحكمه، وقيل : بين يدي رسول ربكم، وقيل : عند ربكم في الآخرة، وقوله تعالى :﴿ أفلا تعقلون ﴾ إمّا من تمام كلام اللائمين وهم خلص اليهود وتقديره أفلا تعقلون أنهم يحاجونكم فيحجونكم، وإمّا من خطاب الله للمؤمنين متصل بقوله تعالى :﴿ أفتطمعون ﴾ والمعنى : أفلا تعقلون حالهم وأنه لا مطمع لكم في إيمانهم.
﴿ أولا يعلمون ﴾ أي : اللائمون أو المنافقون أو كلاهما ﴿ إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ﴾ من إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم وإظهار غيره وغير ذلك فيرعووا عن ذلك.
﴿ ومنهم ﴾ أي : اليهود ﴿ أمّيون ﴾ أي : عوام جهلة ﴿ لا يعلمون الكتاب ﴾ أي : لا يعرفون التوراة أو الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما، فيها، وقوله تعالى :﴿ إلا أمانيّ ﴾ استثناء منقطع، أي : لكن أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها ﴿ وإن هم ﴾ أي : ما هم ﴿ إلا ﴾ قوم ﴿ يظنون ﴾ ظناً لا علم لهم وقد يطلق الظنّ بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع وإن جزم به صاحبه كاعتقاد المقلد وكالزائغ عن الحق بسبب شبهة قامت عنده.
﴿ فويل ﴾ أي : واد في جهنم كما رواه الترمذيّ، قال سعيد بن المسيب : لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدّة حرّه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو شدّة العذاب ﴿ للذين يكتبون الكتاب ﴾ أي : المحرف من التأويلات الزائغة، وقوله تعالى :﴿ بأيديهم ﴾ تأكيد كقولك : كتبته بيميني ﴿ ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ﴾ من الدنيا وهم اليهود غيروا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة : وآية الرجم وغيرها وكتبوها على خلاف ما أنزل الله فكانت صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة : أكحل العينين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فكتبوها طويلاً : أزرق العينين، سبط الشعر، وغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي : تسويد الوجه ﴿ فويل لهم مما كتبت أيديهم ﴾ من المحرف
﴿ وويل لهم مما يكسبون ﴾ من الرشا.
﴿ وقالوا ﴾ أي : اليهود لما وعدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم النار ﴿ لن تمسنا ﴾ أي : تصيبنا ﴿ النار إلا أياماً معدودة ﴾ محصورة قليلة. روي أنّ بعضهم قالوا : نعذب بعدد أيام عبادتنا العجل أربعين يوماً وبعضهم قالوا : مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً واحداً ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام.
فإن قيل : لم وصف الأيام مع أنها جمع بالمفرد ؟ أجيب : بأنها في معنى الجماعة فتكون مفرداً تقديراً ولأنّ جمع القلة كما قاله الرضي في حكم المفرد فيوصف بالمفرد كما هنا يوصف المفرد به كما في قوله تعالى :﴿ نطفة أمشاج ﴾ ( الإنسان، ٢٠ ) وقيل : الأمشاج مفرد وعلى هذا فلا إشكال ثم كذبهم الله تعالى بقوله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ أتخذتم ﴾ حذف منه همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام ﴿ عند الله عهداً ﴾ أي : ميثاقاً منه بذلك، وقوله تعالى :﴿ فلن يخلف الله عهده ﴾ جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده وفيه دليل على أن الخلف في خبر الله تعالى محال ﴿ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ أم إما منقطعة بمعنى بل أتقولون على التقرير والتقريع، وإمّا معادلة بهمزة الاستفهام بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما.
وقوله تعالى :
﴿ بلى ﴾ إثبات لما نفوه من مساس النار لهم فإن بلى وبل حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل أي : بل تمسكم وتخلدون فيها ﴿ من كسب سيئة ﴾ أي : قبيحة ﴿ وأحاطت به خطيئته ﴾ وقرأ نافع وحده خطيئاته بالجمع أي : استولت عليه وشملت جميع أحواله حتى صار كالمحتاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأنّ غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه لم تحط الخطيئة به ولذلك فسرها السلف بالكفر، وقيل : السيئة الكبيرة، والإحاطة أن يصرّ عليها لأنّ من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجرّه إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها كما قال تعالى :﴿ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله ﴾ ( الروم، ١٠ ) الآية، والفرق بين السيئة والخطيئة أنّ السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ، والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على التهكم كقوله تعالى :﴿ فبشره بعذاب أليم ﴾ ( لقمان، ٧ ) ( يس، ١١ ) ( الجاثية، ٨ ) ﴿ فأولئك أصحاب النار ﴾ أي : ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمو أسبابها في الدنيا ﴿ هم فيها خالدون ﴾ أي : دائمون روعي فيه معنى من، والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة لأنها في الكافر كما مرّ.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده لترجي رحمته ويخشى عذابه.
تنبيه : عطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ﴾ في التوراة وقلنا لهم :﴿ لا تعبدون إلا الله ﴾ هذا إخبار في معنى النهي كقوله تعالى :﴿ ولا يضارّ كاتب ولا شهيد ﴾ ( البقرة، ٢٨٢ ) وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أنّ المنهي سارع إلى الانتهاء فهو مخبر عنه، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. ﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾ أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى. قال البيضاويّ : وهذا متعلق بمضمر تقديره : وتحسنون أو أحسنوا، انتهى. ويلزمه أنّ إحساناً في الآية منصوب على المصدر المؤكد لعامله المحذوف مع أن حذف عامل المؤكد ممنوع أو نادر وقوله تعالى :﴿ وذي القربى ﴾ أي : القرابة ﴿ واليتامى والمساكين ﴾ عطف على الوالدين، ويتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له كنديم وندامى وهو قليل، ومسكين مفعيل من السكون كأنّ الفقر أسكنه ﴿ وقولوا للناس حسناً ﴾ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم، وقيل : هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، والباقون بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾، قال البيضاوي : يريد أي : الله بهما ما فرض عليهم في ملتهم ﴿ ثم توليتم ﴾ في هذا التفات عن الغيبة، قال البيضاوي : ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب أي : أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه ﴿ إلا قليلاً منكم ﴾ أي : وهو من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم ﴿ وأنتم ﴾ قوم ﴿ معرضون ﴾ أي : عادتكم الإعراض عن المواثيق والتولية كإعراض آبائكم.
﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ أخذنا ميثاقكم ﴾ وقلنا ﴿ لا تسفكون دماءكم ﴾ أي : تريقونها بقتل بعضكم بعضاً ﴿ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ أي : لا يخرج بعضكم بعضاً من داره وإنما جعل غير الرجل نفسه لاتصاله به نسباً أو ديناً، وقيل : لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقيّ ﴿ ثم أقررتم ﴾ بهذا العهد أنه حق وقبلتم ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ على أنفسكم، هذا توكيد كقولك أقر فلان شاهداً على نفسه، وقيل : أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً.
﴿ ثم أنتم ﴾ يا ﴿ هؤلاء تقتلون أنفسكم ﴾ فيه استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار والشهادة عليه أي : ثم بعد ذلك يقتل بعضكم بعضاً
﴿ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الطاء، والباقون بتشديدها، أي : تتعاونون ﴿ عليهم بالإثم ﴾ أي : المعصية ﴿ والعدوان ﴾ أي : الظلم ﴿ وإن يأتوكم أسارى ﴾ قرأ حمزة بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعد السين، والباقون بضمّ الهمزة وفتح السين وألف بعدها ﴿ تفادوهم ﴾ قرأ عاصم والكسائيّ بضمّ التاء وفتح الفاء وألف بعدها، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء ولا ألف بعدها، أي : تنقذوهم من الأسر بالمال أو غيره، وقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : الشأن ﴿ محرّم عليكم إخراجهم ﴾ متعلق بقوله تعالى :﴿ وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم ﴾ وما بينهما اعتراض، ومعنى الآية قال السدي : إنّ الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه في بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت قريظة حالفوا الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم وكانوا إذا سئلوا : لم تقاتلونهم ؟ وتفدونهم قالوا : أمرنا بالفداء، فيقال : فلم تقاتلونهم ؟ فيقولون : حياء أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب ﴾ وهو الفداء ﴿ وتكفرون ببعض ﴾ وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي ﴾ أي : هوان وعذاب ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ فكان خزي قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام ﴿ ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب ﴾ أي : عذاب جهنم وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب لأنّ عصيانه أشدّ ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ قرأ نافع وابن كثير وشعبة بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على
الخطاب.
﴿ أولئك الذين اشتروا ﴾ أي : استبدلوا ﴿ الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ بأن آثروها عليها ﴿ فلا يخفف عنهم العذاب ﴾ في الدنيا بنقصان الجزية والتعذيب في الآخرة ﴿ ولا هم ينصرون ﴾ أي : بدفعها عنهم.
﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : أعطينا ﴿ موسى الكتاب ﴾ أي : التوراة جملة واحدة ﴿ وقفينا من بعده بالرسل ﴾ أي : أتبعناهم رسولاً في إثر رسول كقوله تعالى :﴿ ثم أرسلنا رسلنا تترى ﴾ ( المؤمنون، ٤٤ ) يقال : قفاه إذا أتبعه إياه ﴿ وآتينا عيسى بن مريم البينات ﴾ أي : المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل، وعيسى بالعبرانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم ﴿ وأيدناه ﴾ أي : قويناه ﴿ بروح القدس ﴾ قرأ ابن كثير بإسكان الدال حيث جاء، والباقون بضمها، وهذا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : الروح المقدسة وهو جبريل وصف به لطهارته وتأييده به أن أمر أن يسير معه حيث سار حتى يصعد به إلى السماء، وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي : الحيض، وقيل : اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً فقال الله تعالى :﴿ أفكلما جاءكم ﴾ يا معشر اليهود ﴿ رسول بما لا تهوى ﴾ أي : تحب ﴿ أنفسكم ﴾ من الحق، وقوله تعالى :﴿ استكبرتم ﴾ أي : تكبرتم عن اتباعه، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ ﴿ ففريقاً ﴾ أي : طائفة ﴿ كذبتم ﴾ كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل ﴿ وفريقاً تقتلون ﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام.
فإن قيل : هلا قال : وفريقاً قتلتم ؟ أجيب : بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري : أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي : الآن، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته :( ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري ).
﴿ وقالوا ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً :﴿ قلوبنا غلف ﴾ جمع أغلف أي : مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم :﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ﴾ ( فصلت، ٥ )، وقيل : أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول أي : فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى :﴿ بل ﴾ للإضراب ﴿ لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي : بسبب كفرهم، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى :﴿ فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾ ( محمد، ٢٣ ) أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ﴿ فقليلاً ما يؤمنون ﴾ ما مزيدة لتأكيد القلة أي : إيمانهم إيمان قليل جدّاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل : أراد بالقلة العدم.
﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله ﴾ هو القرآن ﴿ مصدّق لما معهم ﴾ من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه ﴿ وكانوا ﴾ أي : اليهود ﴿ من قبل ﴾ أي : من قبل مجيئه ﴿ يستفتحون ﴾ أي : يستنصرون ﴿ على الذين كفروا ﴾ أي : مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون : اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ﴿ فلما جاءهم ﴾ أي : اليهود ﴿ ما عرفوا ﴾ من الحق وهو بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ كفروا به ﴾ حسداً أو خوفاً على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية ﴿ فلعنة الله ﴾ أي : عذابه وطرده ﴿ على الكافرين ﴾ أي : عليهم، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولاً أولياً أو قصدياً لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان فقلت : ألا لعنة الله على الظالمين كان ذلك الظالم أوّلياً أو مقصوداً في الدعاء والباقون تبعاً.
﴿ بئس ما اشتروا ﴾ أي : باعوا ﴿ به أنفسهم ﴾ أي : حظها من الثواب، وما نكرة بمعنى شيئاً مميزة لفاعل بئس المستكن أي : بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم ﴿ أن يكفروا ﴾ أي : كفرهم ﴿ بما أنزل الله ﴾ من القرآن ﴿ بغياً ﴾ أي : حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة يكفروا كما قال البيضاوي دون اشتروا، وإن قاله الزمخشري لفصل المخصوص بين ﴿ بغياً ﴾ الذي هو العلة وبين المعلول وهو ﴿ اشتروا ﴾. وحسدوه على ﴿ أن ينزل الله من فضله ﴾ أي : الوحي ﴿ على من يشاء ﴾ للرسالة ﴿ من عباده ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون نون ينزل وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿ فباءوا ﴾ أي : رجعوا ﴿ بغضب على غضب ﴾ أي : مع غضب، واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس ومجاهد : الغضب الأوّل : بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني : بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال السديّ : الأوّل : كفرهم بعبادة العجل، والثاني : الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة : الأوّل : بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. ﴿ وللكافرين عذاب مهين ﴾ أي : ذو إهانة بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه.
﴿ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله ﴾ من القرآن وغيره فيعم سائر الكتب المنزلة ﴿ قالوا نؤمن بما أنزل علينا ﴾ أي : التوراة يكفينا ذلك ﴿ ويكفرون ﴾ الواو للحال ﴿ بما وراءه ﴾ أي : بما سواه من الكتب كقوله تعالى :﴿ فمن ابتغى وراء ذلك ﴾ ( المؤمنون، ٧ ) أي : سواه وقال أبو عبيدة : بما بعده أي : من القرآن. وقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : ما وراءه ﴿ الحق ﴾ حال، وقوله :﴿ مصدّقاً لما معهم ﴾ أي : من التوراة حال ثانية مؤكدة تتضمن ردّ مقالهم فإنهم كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض الله تعالى عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فلم تقتلون ﴾ أي : قتلتم ﴿ أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴾ بالتوراة، والتوراة لا تسوغه بل نهيتم فيها عن قتلهم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به وعزمهم عليه، قرأ نافع وحده : أنبياء الله، بالهمز في كل القرآن، والباقون بالبدل، وليس لورش إلا المدّ فقط لأنه متصل.
﴿ ولقد جاءكم موسى بالبينات ﴾ أي : الآيات التسع في قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات كالعصا ﴾ ( الإسراء، ١٠١ ) واليد وفلق البحر ﴿ ثم اتخذتم العجل ﴾ أي : إلهاً ﴿ من بعده ﴾ أي : من بعد ذهابه إلى الميقات، وقوله تعالى :﴿ وأنتم ظالمون ﴾ أي : باتخاذه، حال أي : اتخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات الله، أو اعتراض أي : وأنتم عادتكم الظلم.
﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ﴾ على العمل بما في التوراة ﴿ و ﴾ قد ﴿ رفعنا فوقكم الطور ﴾ أي : الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم، وقلنا :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوّة ﴾ أي : بجد واجتهاد ﴿ واسمعوا ﴾ ما تؤمرون به سماع قبول ﴿ قالوا سمعنا ﴾ قولك ﴿ وعصينا ﴾ أمرك وقيل : سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا بالآذان وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعاً ﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل ﴾ أي : خالط حبه قلوبهم كما يتداخل الشراب أعماق البدن، وفي قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى :﴿ إنما يأكلون في بطونهم ناراً ﴾ ( النساء، ١٠ ).
فائدة : قال البغويّ في «القصص » : إنّ موسى عليه الصلاة والسلام أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذر في النهر وأمر بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. ﴿ بكفرهم ﴾ أي : بسبب كفرهم وذلك أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسماً أعجب منه فتمكن من قلوبهم ما سوّل لهم السامري ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ بئسما ﴾ أي : شيئاً ﴿ يأمركم به إيمانكم ﴾ بالتوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب :﴿ أصلواتك تأمرك ﴾ ( هود، ٨٧ ) وكذلك إضافة الإيمان إليهم في قوله تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ بعبادة العجل.
﴿ قل ﴾ لهم ﴿ إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ﴾ أي : خاصة ﴿ من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴾ في قولكم وذلك أنّ اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم :﴿ لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ﴾ ( البقرة، ٨٠ ) ﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴾ ( البقرة، ١١١ ) وقولهم :﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾ ( المائدة، ١٨ ) فكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال : قل لهم يا محمد ذلك لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب. كما روي عن المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم فقد كان علي رضي الله تعالى عنه يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن : ما هكذا نرى المحاربين، فقال له : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال : حبيب أي : الموت جاء على فاقة، أي : وقت حاجتي إليه. وقيل : بل أراد بالحبيب لقاء الله لا أفلح من ندم يعني على التمني أراد به أنه كان يتمنى الموت وما ندم على التمني حين جاء الموت. وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة محمداً وحزبه. وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :" لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلا مات ".
تنبيه : خالصة نصبها على الحال من الدار، أو من الضمير في خبر كان العائد إلى الدار، وتعلق بتمنوا الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني.
﴿ ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم ﴾ من موجبات النار من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر أنواع الكفر والعصيان، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة كما هنا وعن القدرة أخرى كما في قوله تعالى :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ ( الفتح، ١٠ ) وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان أخبر به كقوله تعالى :﴿ ولن تفعلوا ﴾ ( البقرة، ٢٤ ).
فإن قلت : من أعلمك أنهم لم يتمنوا ؟ أجيب : بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل ذلك.
فإن قيل : التمني من أعمال القلوب وهو سرّ لا يطلع عليه أحد فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا ؟ أجيب : بأنّ التمني ليس من أعمال القلوب إنما هو قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا، فإذا قاله قالوا : تمنى. وليت كلمة تمنّ ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب ولو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا : قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.
فإن قيل : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب : بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ أي : الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم.
﴿ ولتجدنهم ﴾ اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره : والله لتجدنهم يا محمد أي : اليهود ﴿ أحرص الناس على حياة ﴾ هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين ومفعولاه هم أحرص.
فإن قيل : لم قال على حياة بالتنكير ؟ أجيب : بأنه أريد حياة مخصوصة هي فرد من أفرادها وهي الحياة المتطاولة ﴿ و ﴾ أحرص ﴿ من الذين أشركوا ﴾ أي : المنكرين البعث عليها لعلمهم بأنّ مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له.
فإن قيل : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس ؟ أجيب : ببلى، ولكنهم أفردوا بالذكر ؛ لأنّ حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم ؛ لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ﴿ يودّ ﴾ يتمنى ﴿ أحدهم لو يعمر ألف سنة ﴾ لو مصدرية بمعنى أن وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول، يودّ يقول الله تعالى : اليهود أحرص الناس على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك ؛ لأنّ تحية المجوس فيما بينهم عش ألف سنة ﴿ وما هو ﴾ أي : أحدهم
﴿ بمزحزحه ﴾ أي : مبعده ﴿ من العذاب ﴾ أي : النار وقوله تعالى :﴿ أن يعمر ﴾ فاعل مزحزحه أي : تعميره ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ فيجازيهم به.
( وسأل عبد الله بن صوريا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ينزل عليه ؟ فقال : جبريل فقال : ذاك عدوّنا عادانا مراراً وأشدّها أنه لما نزل على نبينا أخبرنا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يجيء فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه وكبر بختنصر وقوي فنزل.
﴿ قل ﴾ لهم { من كان عدواً لجبريل ).
روي أنه كان لعمر رضي الله تعالى عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرّه على مدارس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أحبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّ لنا يطلع محمداً على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام أي : السلامة، فقال عمر : وما منزلتهما من الله ؟ قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال : لئن كان كما تقولون فليسا بعدوّين أي : لقرب منزلتهما عند الله ولأنتم أكفر من الحمير أي : لأنّ الكفر نتيجة الجهل والبلادة والحمار مَثل فيهما، ومن كان عدوّ أحدهما فهو عدّو الله تعالى ثم رجع فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال عليه الصلاة والسلام :( لقد وافقك ربك يا عمر ) قال عمر : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر.
وقال مقاتل : قالت اليهود إنّ جبريل عدوّنا ؛ لأنه أمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا ومعنى جبريل عبد الله، فجبر هو الله وإيل هو العبد، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ممدودة أي : بعدها ياء لفظية وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ﴿ فإنه ﴾ أي : جبريل ﴿ نزله ﴾ أي : القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لا يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ﴿ على قلبك ﴾ يا محمد وقوله تعالى :﴿ بإذن الله ﴾ أي : بأمره حال من فاعل نزل ﴿ مصدقاً ﴾ أي : موافقاً ﴿ لما بين يديه ﴾ لما قبله من الكتب ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة ﴿ وبشرى ﴾ بالجنة ﴿ للمؤمنين ﴾ هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي ؛ لأنه نزل كتاباً مصدّقاً للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وقيل : الجواب محذوف مثل فليمت غيظاً أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له.
كما قال تعالى :
﴿ من كان عدوّاً وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين ﴾ والمراد بمعاداة الله مخالفته عناداً أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾ ( التوبة، ٦٢ ).
فإن قيل : لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة ؟ أجيب : بأنّ ذلك لفضلهما، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّاً لأحد هؤلاء ؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل، وقدم جبريل لشرفه، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع ؛ لأنّ عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب، قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همز ولا ياء بين الألف واللام وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة والباقون بهمزة بعد الألف وياء وهم على مراتبهم في المدّ. ونزل في ابن صوريا لما قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية أي زائدة فنتبعك.
﴿ ولقد أنزلنا إليك ﴾ يا محمد ﴿ آيات بينات ﴾ واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام ﴿ وما يكفر بها إلا الفاسقون ﴾ أي : المتمرّدون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظميته كأنه متجاوز عن حدّه.
﴿ أو كلما عاهدوا عهداً ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهداً على الإيمان بالنبيّ أو إن خرج النبيّ أن لا يعاونوا عليه المشركين وقوله تعالى ﴿ نبذه ﴾ أي : طرحه ﴿ فريق منهم ﴾ أي : اليهود بنقضه جواب كلما وهو محل الاستفهام الإنكاري وإنما قال فريق ؛ لأنّ بعضهم لم ينقض وقوله تعالى :﴿ بل ﴾ للانتقال ﴿ أكثرهم لا يؤمنون ﴾ ردّ لِما يتوهم أنّ الفريق هم الأقلون.
وقوله تعالى :
﴿ ولما جاءهم رسول من عند الله ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مصدّق لما معهم ﴾ من التوراة ﴿ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ﴾ أي : التوراة ؛ لأنّ كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدّقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل : كتاب الله هو القرآن نبذوه بعدما ألزمهم تلقيه بالقبول وقوله تعالى :﴿ وراء ظهورهم ﴾ أي : لم يعملوا بما فيها من الآيات بالرسل وغيره مثل لإعراضهم عنه بالكلية بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه ﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ ما فيها من أنه نبيّ حق أو فيه شك يعني أنّ علمهم بذلك رصين ولكنهم كابروا وعاندوا. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه.
وقوله تعالى :﴿ واتبعوا ﴾ عطف على نبذ ﴿ ما تتلو ﴾ أي : ما تلت ﴿ الشياطين ﴾ والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل، وقيل : ما كانت تتلو أي تقرأ ﴿ على ﴾ عهد ﴿ ملك سليمان ﴾ من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملَككم سليمان بهذا فتعلموه، فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان عليه الصلاة والسلام، وأمّا سفلاؤهم فقالوا : هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وبقيت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه براءة سليمان هذا قول الكلبيّ.
وقال السديّ : كانت الشياطين تسترق السمع فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال : لا أسمع أنّ أحداً يقول : إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ؟ قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وأقام ناحية فقالوا : أُدن فقال : لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان : إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والإنس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله سليمان من ذلك وأنزل تكذيباً لمن زعم ذلك ﴿ واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ﴾ إذ لم يعمل السحر وعبر عنه بالكفر ليدلّ على أنه كفر إذا استحله أو احتيج فيه إلى تقدّم اعتقاد مكفر هذا مذهب الشافعيّ وعند أحمد يكفر مطلقاً ﴿ ولكنّ الشياطين ﴾ هم الذين ﴿ كفروا ﴾ باستعمال السحر وتدوينه، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر النون من ولكن مخففة ورفع نون الشياطين والباقون بنصب النون من ولكن مشدّدة ونصب نون الشياطين ﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ يقصدون به إغواءهم وإضلالهم والجملة حال من ضمير كفروا.
تنبيه : السحر لغة صرف الشيء عن وجهه يقال : ما سحرك عن كذا أي : ما صرفك عنه واصطلاحاً مزاولة النفوس الخبيئة لأقوال وأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة.
واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة ؟ قال بالأوّل المعتزلة واستدلوا بقوله تعالى :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ ( طه، ٦٦ ) وقال بالثاني أهل السنة ويدلّ لذلك الكتاب والسنة الصحيحة، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض أو يموت منه ويفرّق به بين المرء وزوجه ويحرم تعليمه أو تعلمه، قال إمام الحرمين : ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ولا تظهر الكرامة على يد فاسق ويحرم أيضاً تعليم أو تعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل والحصى والشعير والشعبذة ويحرم إعطاء العوض أو أخذه عنها بالنص الصريح في حلوان الكاهن والباقي بمعناه، والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل بخلاف العرّاف فإنه الذي يخبر عن المغيبات الواقعة كعين السارق ومكان المسروق والضالة قال في «الروضة » : ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب إلى علم.
وأمّا الحديث الصحيح ( كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ) فمعناه من علمتم موافقته له فلا بأس ونحن لا نعلم الموافقة فلا يجوز لنا ذلك. وقول البيضاويّ : وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات كالأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحراً على التجوّز لما فيه من الدقة ؛ لأنه أي : السحر في الأصل أي : اللغة لما خفي سببه مردود بل هو مذموم أي : حرام كما صرّح به النوويّ في «الروضة » وغيرها، وقوله تعالى :﴿ وما أنزل على الملكين ﴾ عطف على السحر أي : ويعلمونهم ما أنزل على الملكين وقيل : عطف على ما تتلو أي : واتبعوا ما أنزل أي : ما ألهماه وتعلماه من السحر فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم.
قال البيضاويّ : وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزاً بينه وبين المعجزة. قال : وما روي أي : في كتب السير أنهما مثلا بشرين وركب فيهما الشهوة فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكيّ عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله أي : الرمز أو ما روي لا يخفى على ذوي البصائر اه.
قال شيخنا شيخ الإسلام زكريا : بأن يقال عُبر عن العقل والنفس المطمئنة بالملكين وعن النفس الأمّارة بالسوء بالزهرة وعن مفارقتها بالموت بالصعود إلى السماء وقيل : هما رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر تكذيباً لليهود في هذه القصة، وقد طوّل البغوي في هذه القصة. واعتمد ما ردّه البيضاويّ، وقال شيخنا المذكور عن شيخه ابن حجر إنّ لها طرقاً تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقيّ وغيرهم وموقوفة على عليّ وابن مسعود وابن عباس وغيرهم بأسانيد صحيحة والبيضاويّ لما استبعد ما روي ولم يطلع عليه، قال ولعله الخ. .
وقوله تعالى :﴿ ببابل ﴾ ظرف أو حال من الملكين أو الضمير في أنزل وهي بلد في سواد العراق وقوله تعالى :﴿ هاروت وماروت ﴾ بدل أو عطف بيان للملكين ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ومن جعل ما فيما أنزل نافية أبدل هاروت وماروت من الشياطين بدل البعض وما بينهما اعتراض ﴿ وما يعلمان ﴾ أي : الملكان ﴿ من أحد ﴾ أي : أحداً ومن صلة ﴿ حتى ﴾ ينصحاه و﴿ يقولا ﴾ له ﴿ إنما نحن فتنة ﴾ أي : ابتلاء من الله تعالى للناس لنمتحنهم بتعليمه وأصل الفتنة الاختبار والامتحان من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار لتميز الجيد من الرديء، وإنما وحد الفتنة لأنها مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع ﴿ فلا تكفر ﴾ بتعليمه أي : فلا تتعلمه معتقداً حله فتكفر على ما تقدّم، فإن أبى إلا التعليم علماه قيل : إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرّات، قال عطاء والسديّ فإن أبى إلا التعليم ؟ قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى وعلى القول بأنهما رجلان فلا يعلمانه حتى يقولا له : إنا مفتونان فلا تكن مثلنا ﴿ فيتعلمون منهما ﴾ الضمير لما دل عليه من أحد أي : فيتعلم الناس من الملكين ﴿ ما ﴾ أي : سحراً ﴿ يفرّقون به بين المرء وزوجه ﴾ بأن يبغض كلاً منهما في الآخر بسبب حيلة أو تمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله تعالى عنده الفراق ابتلاءً منه لا أنّ السحر له أثر في نفسه بدليل قوله تعالى :﴿ وما هم ﴾ أي : السحرة ﴿ بضارّين به ﴾ أي : السحر ﴿ من أحد ﴾ أي : أحداً ومن صلة ﴿ إلا بأذن الله ﴾ أي : إرادته ؛ لأنّ الأسباب غير مؤثرة بالذات بل بإرادته تعالى :﴿ ويتعلّمون ما يضرّهم ﴾ في الآخرة ﴿ ولا ينفعهم ﴾ وهو السحر ؛ لأنهم يقصدون به العمل أو لأنّ العلم يجرّ إلى العمل غالباً ﴿ ولقد ﴾ اللام لام القسم ﴿ علموا ﴾ أي : اليهود ﴿ لمن ﴾ اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل ومن موصولة ﴿ اشتراه ﴾ أي : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى ﴿ ما له في الآخرة من خلاق ﴾ أي : نصيب في الجنة ﴿ ولبئس ما ﴾ أي : شيئاً ﴿ شروا ﴾ أي : باعوا ﴿ به أنفسهم ﴾ أي : الشارين أي : حظها من الآخرة أن يتعلموه حيث أوجب لهم النار ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه.
وقيل : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم فإنّ من لم يعمل بما علم كان كمن لم يعلم.
﴿ ولو أنهم ﴾ أي : اليهود ﴿ آمنوا ﴾ بالنبيّ والقرآن ﴿ واتقوا ﴾ عقاب الله بترك معاصيه كنبذ كتاب الله تعالى واتباع السحر وجواب لو محذوف أي : لأثيبوا دلّ عليه ﴿ لمثوبة ﴾ أي : ثواب وهو مبتدأ واللام فيه للقسم وقوله تعالى :﴿ من عند الله خير ﴾ خبره أي : خير مما اشتروا به أنفسهم ﴿ لو كانوا يعلمون ﴾ أنّ ثواب الله تعالى خير لما آثروه عليه فجهلهم الله تعالى لترك التدبر والعمل بالعلم.
﴿ يأيها الذين آمنوا لا تقولوا ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ راعنا ﴾ أمر من المراعاة و( كانوا يقولون ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين وكانت كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهو راعنا قالوا فيما بينهم : كنا نسب محمداً سراً فأعلنوا به الآن فكانوا يأتون ويقولون : يا محمد راعنا وهم يعنون به تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربنّ عنقه فقالوا : أو لستم تقولونها فأنزل الله تعالى النهي عن ذلك لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمروا بما هو في معناها وهو قوله تعالى :﴿ وقولوا انظرنا ﴾ ) أي : انظر إلينا وقيل : اسمع منا قاله مجاهد وقيل : لا تعجل علينا قاله ابن زيد ﴿ واسمعوا ﴾ ما تؤمرون به سماع قبول لا كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا أو واسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قولكم : راعنا ﴿ وللكافرين ﴾ أي : الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه ﴿ عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم وهو النار.
ونزل في تكذيب جمع من اليهود يظهرون مودّة المؤمنين ويزعمون أنهم يودّون لهم الخير.
﴿ ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ وقوله تعالى :﴿ ولا المشركين ﴾ أي : من العرب عطف على أهل الكتاب ومن للبيان ؛ لأنّ الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون كقوله تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ﴾ ( البينة، ١ ) والمودّة محبة الشيء مع تمنيه ولذلك تستعمل في كل منهما ﴿ أن ينزل عليكم من خير من ربكم ﴾ فسر الخير بالوحي والمعنى أنهم يحسدونكم به وما يحبون أن ينزل عليكم من شيء منه وفسر بالعلم والنصرة والمراد به ما يعمّ ذلك كما قاله البيضاويّ : ومن الأولى مزيدة للاستغراق ومن الثانية لابتداء الغاية ﴿ والله يختص برحمته ﴾ أي : بنبوّته كما قاله عليّ رضي الله تعالى عنه ومجاهد، أو بالإسلام كما قاله ابن عباس ومقاتل ﴿ من يشاء ﴾ ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة ولا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق ﴿ والله ذو الفضل ﴾ وهو ابتداء إحسانه بلا علة وقوله تعالى :﴿ العظيم ﴾ فيه إشعار بأن إتيان النبوّة والإسلام من الفضل العظيم ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿ إنّ فضله كان عليك كبيراً ﴾ ( الإسراء، ٨٧ ). ولما طعن الكفار في النسخ وقالوا : إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً كما أخبر الله تعالى بقوله :﴿ وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ﴾ ( النحل، ١٠١ ).
﴿ ما ننسخ من آية ﴾ فبين وجه الحكمة في النسخ بهذه الآية والنسخ في اللغة شيئان، أحدهما : بمعنى التحويل والنقل ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحوّل من كتاب إلى كتاب فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ ؛ لأنه نسخ من اللوح المحفوظ، والثاني : بمعنى الرفع يقال : نسخت الشمس الظل أي : ذهبت به وأبطلته فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخاً وبعضه منسوخاً وهو المراد من الآية وهذا على وجوه :
أحدها : أن تثبت التلاوة وينسخ الحكم كآية الوصية للأقارب وآية عدّة الوفاة بالحول، والثاني : أن ترفع التلاوة ويبقى الحكم كآية الرحم والثالث : أن يرفع الحكم والتلاوة كما روي : أنّ قوماً من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم ( تلك سورة رفعت بتلاوتها وأحكامها ) وقيل : كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكماً ثم من نسخ الحكم ما يرفع ويقام غيره مقامه كما أنّ القِبلة نسخت من بيت المقدس إلى الكعبة، والوصية للأقارب نسخت بالميراث، وعدّة الوفاة نسخت من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ومصابرة الواحد للعشرة بمصابرته للاثنين. قال البغويّ : والنسخ إنما يعترض على الأوامر والنواهي دون الإخبار اه.
والنسخ اصطلاحاً رفع تعلق حكم شرعيّ بدليل شرعيّ ويفارق التخصيص بأنّ التخصيص لا يرد إلا على متعدّد وبأنه غير مشروط بالنص بخلاف النسخ فيهما وبأنه يفيد عدم إرادة المخرج في الأصل والنسخ يفيد إرادة المنسوخ في الأصل لكن غير مستمرّ.
وقرأ ابن عامر : ننسخ بضمّ النون الأولى وكسر السين من أنسخ أي : نأمرك أو جبريل بنسخها والباقون بفتح النون والسين وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية ﴿ أو فنسأها ﴾ أي : نؤخرها فلا نزل حكمها ولا نرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون الأولى وفتح السين وهمزة ساكنة بعد السين ولم يبدل هذه الهمزة أحد من السبعة وقرأ الباقون بضم النون وكسر السين ولا همزة بعد السين أي : ننسها أي : نمحها من قلبك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه نتركها لا ننسخها قال الله تعالى :﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾
( التوبة، ٦٧ ) أي : تركوه فتركهم وجواب الشرط ﴿ نأت بخير منها ﴾ أي : بما هو أنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم وإن كان كلام الله كله خيراً ﴿ أو مثلها ﴾ في التكليف والثواب والمنفعة وتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار ﴿ ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير ﴾ فيقدر على النسخ والإتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير والآية دلت على جواز النسخ وتأخير الإنزال ؛ إذ الأصل اختصاص أن وما يتضمنها بالأمور المحتملة وذلك ؛ لأنّ الأحكام شرعت والآيات نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلاً من الله ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كأسباب المعاش، فإن النافع في عصر قد يضرّ في غيره.
واحتج بها من منع النسخ بلا بدل أو ببدل أثقل، ومن منع نسخ الكتاب بالسنة فإنّ الناسخ هو المأتي به بدلاً والسنة ليست كذلك، قال البيضاويّ : والكل ضعيف إذ قد يكون عدم الحكم والأثقل أصلح والنسخ قد يعرف بغيره والسنة ما أتى به الله واستدل بهذه الآية المعتزلة على حدوث القرآن فإنّ التغير والتفاوت من لوازم الحدوث وأجاب أهل السنة بأنهما من عوارض الأمور المتعلق بها المعنى القائم بالذات القديم لا من عوارض هذا المعنى.
وقوله تعالى :﴿ ألم تعلم ﴾ هنا وفيما مرّ خطاب لمنكري النسخ فالهمزة للإنكار وقيل : خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته فالهمزة للتقرير ﴿ أنّ الله له ملك السموات والأرض ﴾ يفعل فيهما ما يشاء ويحكم ما يريد فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ وهذا كالدليل على قوله :﴿ إنّ الله على كلّ شيء قدير ﴾ أو على جواز النسخ، ولذلك ترك العاطف
﴿ وما لكم من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ من وليّ ﴾ أي : وليّ يحفظكم ومن صلة ﴿ ولا نصير ﴾ يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليّ والنصير بأنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه.
ونزل لما سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يوسعها لهم وأن يجعل الصفا ذهباً.
﴿ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى ﴾ أي : سأله قومه ﴿ من قبل ﴾ أي : من قولهم له ﴿ أرنا الله جهرة ﴾ ( النساء، ١٥٣ ) وقيل قالوا له لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا وفجر لنا أنهاراً حتى نتبعك، وقال عبد الله بن أمية : لن نؤمن لك حتى تأتي بكتاب فيه من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية، أعلم أني أرسلت محمداً إلى الناس. وأم إمّا معادلة للهمزة في ألم تعلم أي ألم تعلموا أنه مالك الأمور قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه الصلاة والسلام، وإمّا منقطعة والمراد أن يوصيهم بالثقة وترك الاقتراح عليه ﴿ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان ﴾ أي : يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها ﴿ فقد ضلّ سواء السبيل ﴾ أي : أخطأ الطريق الحق والسواء في الأصل الوسط. وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار قد عند الضاد حيث جاء، وأدغمها الباقون ونزل في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلاً منكم فقال لهم عمار : كيف نقض العهد فيكم ؟ قالوا : شديد قال : فإني قد عاهدت الله أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت، فقالت اليهود : أمّا هذا فقد صبا، وقال حذيفة : وأمّا أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال :" أصبتما الخير وأفلحتما ".
﴿ ودّ ﴾ أي : تمنى ﴿ كثير من أهل الكتاب ﴾ من اليهود ﴿ لو يردونكم ﴾ أي : يردّوكم يا معشر المؤمنين فلو مصدرية بمعنى إن، فإنّ لو تنوب عن أن في المعنى دون اللفظ ﴿ من بعد إيمانكم كفاراً ﴾ مرتدّين وقوله :﴿ حسداً ﴾ مفعول له كائناً ﴿ من عند ﴾ أي : من تلقاء ﴿ أنفسهم ﴾ أي : لم يأمرهم الله بذلك وإنما حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة ﴿ من بعدما تبين لهم ﴾ في التوراة ﴿ الحق ﴾ في شأن النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فاعفوا ﴾ عنهم أي : اتركوهم ﴿ واصفحوا ﴾ أي : أعرضوا عنهم فلا تجازوهم وكان هذا قبل آية القتال، ولهذا قال تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فيهم من القتال وقد أذن في قتالهم وضرب الجزية عليم.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ الآية ( التوبة، ٢٩ )، وأبى النسخ جماعة من المفسرين والفقهاء واحتجوا بأنّ الله تعالى لم يأمر بالعفو والصفح مطلقاً وإنما أمر به إلى غاية وما بعد الغاية يخالف ما قبلها وما هذا سبيله لا يكون من باب النسخ بل يكون الأوّل قد انقضت مدّته والآخر يحتاج إلى حكم آخر ﴿ إنّ الله على كل شيء قدير ﴾ فهو يقدر على الانتقام من الكفار :
وقوله تعالى :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ عطف على قوله : فاعفوا كأنه تعالى أمرهم بالصبر والمخالفة واللجوء إليه بالعبادة والبرّ ﴿ وما تقدّموا لأنفسكم من خير ﴾ أي : طاعة كصلاة وصدقة ﴿ تجدوه ﴾ أي : ثوابه ﴿ عند الله ﴾ فيجازيكم به ﴿ إنّ الله بما تعملون بصير ﴾ لا يضيع عنده عمل عامل.
﴿ وقالوا ﴾ أي : كثير من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿ لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ﴾ جمع هائد كعائد وعود ﴿ أو نصارى ﴾ قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية، فجمع الله بين القولين ثقة بأنّ السامع يرد إلى كلّ فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كلّ واحد منهما لصاحبه ونحوه ﴿ تلك ﴾ أي : القولة ﴿ أمانيهم ﴾ أي : شهواتهم الباطلة التي تمنوها على الله تعالى بغير حق ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ هاتوا برهانكم ﴾ أي : حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم إذ كل قول لا دليل عليه فهو غير صحيح وهذا متصل بقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض.
وقوله تعالى :
﴿ بلى ﴾ إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ﴿ من أسلم وجهه ﴾ أي : انقاد لأمره وخص الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة فغيره أولى ﴿ وهو محسن ﴾ في عمله وقيل : مخلص وقيل : مؤمن ﴿ فله أجره ﴾ أي : ثواب عمله ثابتاً ﴿ عند ربه ﴾ لا يضيع ولا ينقص والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط فيكون الردّ بقوله : بلى وحده ويحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله : من أسلم فاعل فعل مقدّر مثل بلى يدخلها من أسلم فلا يحسن الوقف عليه ويصح أن يكون قوله فله أجره عند ربه كلاماً معطوفاً على يدخلها من أسلم ﴿ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ في الآخرة.
ولما قدم نصارى نجران على النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت لهم اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل وقالت النصارى لليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بموسى والتوراة أنزل الله تعالى.
﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ﴾ أي : يعتدّ به وكفروا بعيسى والإنجيل ﴿ وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ أي : يعتدّ به وكفروا بموسى والتوراة ﴿ وهم ﴾ أي : الفريقان ﴿ يتلون الكتاب ﴾ أي : المنزّل عليهم، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى، وفي كتاب النصارى تصديق موسى، والجملة حال وأل في الكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب ﴿ كذلك ﴾ أي : كما قال هؤلاء ﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ كعبدة الأصنام، والمعطلة وهم الذين لا يثبتون الصانع وقوله تعالى :﴿ مثل قولهم ﴾ بيان لمعنى ذلك أي : قال كلّ ذي دين ليسوا على شيء وبخهم الله تعالى على المكابرة والتشبه بالجهال.
فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء أجيب : بأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد به كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه كما مرّ، مع أن ما لم ينسخ حق واجب القبول والعمل به.
تنبيه : إذا وقف حمزة وهشام على شيء فلهما أربعة وجوه : السكون، والروم، والإدغام، والروم معه وسكن حمزة قبل الهمزة بخلاف عن خلاد في الوصل وأدغم أبو عمرو الكاف في القاف بخلاف عنه ﴿ فالله يحكم بينهم ﴾ أي : بين الفرق الثلاثة وهم : اليهود والنصارى والذين لا يعلمون
﴿ يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ من أمر الدين فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه، وعن الحسن حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار. وقرأ أبو عمرو يحكم بسكون الميم عند الباء والإخفاء بخلاف عنه.
﴿ ومن أظلم ﴾ أي : لا أحد أظلم ﴿ ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ﴾ بالصلاة والتسبيح ﴿ وسعى في خرابها ﴾ بالهدم أو التعطيل هذا عام لكل من خرب مسجداً أو سعى في تعطيله وإن نزل في أهل الروم الذين خربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير فكان خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أو في المشركين لما صدّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن البيت.
فإن قيل : قد قال مساجد الله وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام أجيب : بأنه لا يمنع أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وكما قال الله تعالى :﴿ ويل لكل همزة لمزة ﴾ ( الهمزة، ١ ) والمنزول فيه الأخنس بن شريق ﴿ أولئك ﴾ أي : المانعون ﴿ ما كان لهم أن يدخلوها ﴾ أي : مساجد الله ﴿ إلا خائفين ﴾ أي : على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها أو يخربوها أو يمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انهمك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وروي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة وقيل :
( نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان ) وقيل : إن هذا خبر بمعنى الأمر أي أخيفوهم بالجهاد فلا يدخلها أحد آمناً.
واختلف في جواز دخول الكافر المسجد، فجوّزه أبو حنيفة ومنعه مالك، وفرق الشافعيّ بين المسجد الحرام وغيره فمنع من الأوّل، وجوّز في الثاني بشرط إذن المسلم والحاجة، وغلّظ ورش اللام من أظلم بعد الظاء ﴿ لهم في الدنيا خزي ﴾ أي : هوان بالقتل والسبي والجزية ﴿ ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ بكفرهم وظلمهم وهو النار.
ونزل لما عيرت اليهود المؤمنين في نسخ القبلة وقالوا : ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هذا وتارة هذا كما قاله عكرمة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت به راحلته كما قاله ابن عمر.
﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾ أي : ناحيتا الأرض أي : له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام والأقصى فقد جعلت لكم الأرض كلها مسجداً ﴿ فأينما تولوا ﴾ وجوهكم أيّ جهة وهو الصدر في الصلاة ﴿ فثم ﴾ أي : هناك ﴿ وجه الله ﴾ أي : قبلته كما قاله مجاهد، وقال الكلبيّ : فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ ( القصص، ٨٨ ) أي : إلا هو ﴿ إن الله واسع ﴾ أي : غنيّ يعطي من السعة يسع فضله كلّ شيء ﴿ عليم ﴾ بتدبير خلقه.
ونزل لما قالت اليهود : عزير ابن الله، وقالت النصارى : المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله.
﴿ وقالوا اتخذ الله ولداً ﴾ فقال الله تعالى ردّاً عليهم :﴿ سبحانه ﴾ تنزيهاً له عن ذلك فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء وقرأ ابن عامر قالوا : بغير واو قبل القاف والباقون بالواو وقبل القاف ﴿ بل له ما في السموات والأرض ﴾ ملكاً وخلقاً ومن جملة ذلك العزير والمسيح والملائكة والملكية تنافي الولدية وعبر بما تغليباً لما لا يعقل لكثرته ﴿ كلّ له قانتون ﴾ أي : منقادون كلّ بما يراد منه لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وفي ذلك تغليب للعاقل لشرفه والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه الأول : قوله : سبحانه والثاني : قوله : بل له ما في السموات والأرض والثالث : كل له قانتون واحتج بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه ؛ لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك وذلك يقتضي تنافيهما.
﴿ بديع السموات والأرض ﴾ أي : موجدهما لا على مثال سبق وهذا وجه رابع يشعر بفساد ما قالوه أيضاً ؛ لأنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها فاعل على الإطلاق منزه عن الصفات فلا يكون والداً ﴿ وإذا قضى أمراً ﴾ أي : أراد إيجاد شيء وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً كان كقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ﴾ ( الإسراء، ٢٣ ) أو فعلاً كقوله تعالى :﴿ فقضاهنّ سبع سموات ﴾ ( فصلت، ١٢ ) وأطلق على تعليق الإرادة الإلهية وجود الشيء من حيث أنه يوجبه ﴿ فإنما يقول له كن فيكون ﴾ وهذا مجاز من الكلام وتمثيل وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء، وفيه تقرير لمعنى الإبداع دائماً وهذا وجه خامس يشعر بفساد ما قالوه أيضاً ؛ لأن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة وفعله تعالى مستغن عن ذلك، وقرأ ابن عامر بنصب النون : من يكون جواباً للأمر والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.
فإن قيل : المعدوم لا يخاطب أجيب : بأنه لما قدّر وجوده وهو كائن لا محالة كان كالموجود فُصحّ خطابه.
﴿ وقال الذين لا يعلمون ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهم اليهود كما قاله ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد أو مشركو العرب كما قاله قتادة ونفى عنهم العلم ؛ لأنهم لم يعملوا به ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ﴿ يكلمنا الله ﴾ كما يكلم الملائكة أو يوحى إلينا بأنك رسوله ﴿ أو تأتينا آية ﴾ أي : علامة مما اقترحناه على صدقك ﴿ كذلك ﴾ أي : كما قال هؤلاء :﴿ قال الذين من قبلهم ﴾ من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم ﴿ مثل قولهم ﴾ من التعنت وطلب الآيات فقالوا : أرنا الله جهرة وهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ﴿ تشابهت قلوبهم ﴾ أي : قلوب هؤلاء ومن قبلهم في الكفر والعناد، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ الحقائق ولا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم قالوا ذلك لا لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد يقين وإنما قالوه عتوّاً وعناداً.
﴿ إنا أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ بالحق ﴾ أي : القرآن كما قاله ابن عباس كما قال تعالى :﴿ بل كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾ ( ق، ٥ ) أو الإسلام وشرائعه كما قاله ابن كيسان قال تعالى :﴿ وقل جاء الحق ﴾ ( الإسراء، ٨١ ) ﴿ بشيراً ﴾ أي : مبشراً من أجاب إلى ذلك بالجنة ﴿ ونذيراً ﴾ أي : منذراً من لم يجب إليه بالنار أي : إنما أرسلناك ؛ لأن تبشر وتنذر لا لتجبر الناس على الإيمان وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر ﴿ ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ﴾ أي : النار وهم الكفار ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بيّنت وبلغت جهدك في دعوتهم كقوله تعالى :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ ( الرعد، ٤٠ ) وقرأ نافع : تسأل بفتح التاء وسكون اللام على النهي.
قال عطاء عن ابن عباس : وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت هذه الآية فنهى عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله تعالى لكن الخبر ضعيف والمختار أنها نزلت في كفار أهل الكتاب، وقرأ الباقون بضم التاء واللام على النفي أي : ولست بمسؤول عنهم كما قال تعالى :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ ( الرعد، ٤٠ ).
﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ أي : دينهم أي : لن ترضى عنك اليهود إلا باليهودية ولا النصارى إلا بالنصرانية. وفي هذا مبالغة في إقناطه صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم وذلك أنهم كانوا يسألونه الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه فأنزل الله تعالى هذه الآية. فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فكيف يتبعون ملته ؟ قال البيضاوي : ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله تعالى ذلك عنهم ولذلك قال :﴿ قل ﴾ تعليماً للجواب ﴿ إنّ هدى الله ﴾ الذي هو الإسلام ﴿ هو الهدى ﴾ أي : هو الذي يصح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدي إنما هو أهواء ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ ولئن ﴾ اللام لام القسم ﴿ اتبعت أهواءهم ﴾ أي : آراءهم الزائغة التي يدعونك إليها الخطاب معه صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته كقوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطنّ عملك ﴾ ( الزمر، ٦٥ ) ﴿ بعد الذي جاءك من العلم ﴾ أي : من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة ﴿ ما لك من الله من وليّ ﴾ يحفظك ﴿ ولا نصير ﴾ يمنعك منه.
ونزل في جماعة من أهل الكتاب قدموا من الحبشة وأسلموا.
﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾ وهو مبتدأ ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ أي : يعرفونه كما أنزل لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والجملة حال مقدّرة وحق نصب على المصدر والخبر ﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ أي : بكتابهم دون المحرفين ﴿ ومن يكفر به ﴾ أي : بالكتاب المؤتى بأن يحرفه ﴿ فأولئك هم الخاسرون ﴾ لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.
ولما صدر قصة بني إسرائيل بالأمر بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف من الساعة وأحوالها في قوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ﴾ ( البقرة، ٤٠ ) الخ. . كرر ذلك بقوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ﴾ أي : عالمي زمانهم.
﴿ واتقوا ﴾ أي : خافوا ﴿ يوماً لا تجزى ﴾ أي : لا تغني ﴿ نفس عن نفس ﴾ فيه ﴿ شيئاً ولا يقبل منها عدل ﴾ أي : فداء ﴿ ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ﴾ أي : يمنعون من عذاب الله وختم بالمكرّر الكلام معهم مبالغة في النصح.
تنبيه : اتفق القراء على قراءة يقبل هنا بالياء على التذكير.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ ابتلى ﴾ أي : اختبر ﴿ إبراهيم ربّه بكلمات ﴾ أي : بأوامر ونواه وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء لأنه عالم بهم ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً. واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال عكرمة عن ابن عباس : هي ثلاثون من شرائع الإسلام : عشر في براءة ﴿ التائبون العابدون ﴾ ( التوبة، ١١٢ ) الخ. . وعشر في الأحزاب، ﴿ إن المسلمين والمسلمات ﴾ ( الأحزاب، ٣٥ ) الخ. . وعشر في المؤمنين إلى قوله :﴿ والذين هم على صلواتهم يحافظون ﴾ ( المؤمنون، ٩ ) وفي سأل سائل إلى قوله تعالى :﴿ والذين هم بشهاداتهم قائمون ﴾ ( المعارج، ٣٣ ).
وقال طاووس عن ابن عباس : ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي : الفطرة خمس في الرأس أي الشامل للوجه قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، وفي الخبر :( أن إبراهيم أوّل من قص الشارب وأوّل من اختتن وأوّل من قلم الأظافر وأوّل من رأى الشيب، فلما رآه قال : يا رب ما هذا ؟ قال : الوقار قال :«يا رب زدني وقاراً » وقال قتادة : هي مناسك الحج أي فرائضه وسننه كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهنّ، وقال الحسن : ابتلاءه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أنّ ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها. وبالختان وبذبح ولده وبالهجرة فصبر عليها وقال مجاهد : هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إماماً ﴾ إلى آخر القصة.
وقرأ ابن عامر إبراهام بفتح الهاء وألف بعدها جميع ما في هذه السورة وهي خمسة عشر حرفاً، وفي النساء ثلاثة أحرف وهي الأخيرة، وفي الأنعام الحرف الأخير، وفي التوبة الحرفان الأخيران، وفي إبراهيم حرف، وفي النحل حرفان، وفي مريم ثلاثة أحرف، وفي العنكبوت حرف، وفي الشورى حرف، وفي الذاريات حرف، وفي النجم حرف وفي الحديد، حرف، وفي الممتحنة الحرف الأوّل، فذلك ثلاثة وثلاثون حرفاً، وقرأ ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين.
وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك كان غير منصرف وهو ابن آزر كما في سورة الأنعام وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل : بابل وقيل : حران ولكن نقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان، والضمير في ربه لإبراهيم وحسن لتقدمه لفظاً وإن تأخر رتبة، لأنّ الشرط تقدمه لفظاً أو رتبة ﴿ فأتمهنّ ﴾ أي : أداهنّ تامات وقام بها حق القيام لقوله :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾ ( النجم، ٣٧ ) ﴿ قال إني جاعلك للناس إماماً ﴾ يقتدى بك في الخير وجاعل من جعل الذي له مفعولان، والإمام اسم من يؤتم به وإمامة إبراهيم عامة مؤبدة ؛ إذ لم يبعث من بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباعه ﴿ قال ﴾ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن ذريتي ﴾ أي : أولادي أجعل أئمة يقتدى بهم في الخير ﴿ قال ﴾ الله تعالى :﴿ لا ينال ﴾ أي : لا يصيب ﴿ عهدي ﴾ بالإمامة ﴿ الظالمين ﴾ منهم ففي ذلك إجابة إلى مطلوبه.
وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة وإنهم لا ينالون الإمامة ؛ لأنها إمامة من الله تعالى وعهد، والظالم لا يصلح لها وإنما ينالها البررة والأتقياء منهم وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوّة وأنّ الفاسق لا يصلح للإمامة وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدّم للصلاة، وقرأ حفص وحمزة عهدي بسكون الياء وفتحها الباقون، ومن سكن الياء أسقطها في الوصل لفظاً لالتقاء الساكنين.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ جعلنا البيت ﴾ أي : الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا وأدغم أبو عمرو وهشام ذال إذ في الجيم وأظهرها الباقون ﴿ مثابة ﴾ أي : مرجعاً ﴿ للناس ﴾ من الحجاج والعمار وغيرهم يثوبون إليه من كل جانب ﴿ وأمناً ﴾ أي : مأمناً لهم من الظلم وإيذاء المشركين والإغارة الواقعة في غيره قال تعالى :﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم ﴾ ( العنكبوت، ٦٧ ) كان الجاني يأوي إليه فلا يتعرّض له حتى يخرج وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط، فلا ينافي ذلك الوقوع، قال القاضي أبو يعلى وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم كما قال تعالى :﴿ هدياً بالغ الكعبة ﴾ ( المائدة، ٩٥ ) والمراد الحرم كله ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام ﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ وهذا أمر استحباب ومقامه الحجر وهو بفتح الحاء والجيم الذي فيه أثر قدميه كان يقوم عليه عند بناء البيت أو عند دعاء الناس إلى الحج وهو موضعه اليوم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر فقال :( هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ؟ فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت ) وعن ابن عباس أنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : وافقت الله تعالى في ثلاث، ووافقني ربي في ثلاث فقلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر لو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وقال : وبلغني معاتبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهنّ وقلت لهنّ : إن انتهيتن أو ليبدلنّ الله تعالى لرسوله خيراً منكنّ فأنزل الله تعالى ﴿ عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ ﴾ ( التحريم، ٥ ).
وفي الخبر :( الركن والمقام يا قوتتان من يواقيت الجنة ولولا ما مسهما من أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ) وقيل : المراد باتخذوا الخ. . الأمر بركعتي الطواف لما روى جابر ( أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )، وللشافعيّ في وجوبهما قولان أرجحهما عدم الوجوب وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله وقيل : مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرّب إلى الله تعالى.
تنبيه : من في ﴿ من مقام إبراهيم ﴾ للتبعيض.
وقيل : بمعنى في وقيل زائدة وقرأ نافع وابن عامر واتخذوا بفتح الخاء بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي : واتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى والباقون بكسرها بلفظ الأمر ﴿ وعهدنا ﴾ أي : أمرنا ﴿ إلى إبراهيم وإسماعيل ﴾ قيل : سمي به ؛ لأنّ إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول : اسمع يا إيل، وإيل هو الله فلما رزق الولد سماه به ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ طهرا بيتي ﴾ من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به أو أخلصاه ﴿ للطائفين ﴾ حوله ﴿ والعاكفين ﴾ المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ﴿ والركع السجود ﴾ جمع راكع وساجد وهم المصلون وقرأ نافع وهشام وحفص بيتي بفتح الياء والباقون بالسكون.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قال إبراهيم رب اجعل ﴾ هذا أي مكة أو الحرام ﴿ بلداً آمناً ﴾ أي : ذا آمن كقوله تعالى :﴿ في عيشة راضية ﴾ ( القارعة، ٧ ) أو آمناً أهله كقول القائل ليل نائم ﴿ وارزق أهله من الثمرات ﴾ إنما دعا بذلك ؛ لأنه كان بواد غير ذي زرع. وفي القصص أنّ الطائف كانت من مدائن الشام بأردن فلما دعا إبراهيم هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة.
وقوله تعالى :﴿ من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ بدل من أهله قاس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه الرزق على الإمامة حيث قيده بالمؤمن كما قيدت به ﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ و ﴾ أرزق ﴿ من كفر ﴾ لأنّ الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين ﴿ فأمتعه ﴾ في الدنيا بالرزق.
وقرأ ابن عامر بسكون الميم وتخفيف التاء والباقون بفتح الميم وتشديد التاء، وأمّا الهمزة بعد الألف فالجميع اتفقوا على ضمها ﴿ قليلاً ﴾ أي : مدّة حياته والكفر وإن لم يكن يسبب التمتع لكنه يسبب تقليله بأن يجعله مقصوراً بحظوظ الدنيا غير متوصل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه ﴿ ثم أضطرّه ﴾ أي : ألجئه في الآخرة ﴿ إلى عذاب النار ﴾ فلا يجد عنها محيصاً ﴿ وبئس المصير ﴾ أي : المرجع والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العذاب قال مجاهد : وجد عند المقام أنا الله ذو بكة أي : صاحبها صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة أملاك حنفاء يأتيها رزقها مباركة لأهلها في اللحم والماء.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ يرفع إبراهيم القواعد ﴾ أي : الأسس والجدر ﴿ من البيت ﴾ حكاية حال ماضية كأنه قال إذ كان يرفع.
فإن قلت : وأي فرق بين العبارتين ؟ أجيب : بأنّ في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين، وقوله تعالى :﴿ وإسماعيل ﴾ عطف على إبراهيم يقولان يا ﴿ ربنا تقبل منا ﴾ بناءنا ﴿ إنك أنت السميع ﴾ للقول فتسمع دعاءنا ﴿ العليم ﴾ بالفعل فتعلم بنياتنا.
روت الرواة أنّ الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى حول عرشي وأنزل الحجر الأسود وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله تعالى له ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك.
قال ابن عباس : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وبعث جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثم إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه اسمه تعالى فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، قال ابن عباس فبعث الله له سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت به مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل : أرسل الله تعالى جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى :﴿ وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت ﴾ ( الحج، ٢٦ ).
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ولما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب. قال ابن عباس : بني البيت من خمسة أجبل : طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشام، والجوديّ وهو جبل بالجزيرة، وبنيا قواعده من جبل حراء وهو جبل بمكة، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل : ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل : أوّل من بنى الكعبة آدم ثم اندرس من الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه وقيل : بنته الملائكة قبل آدم وقد بني إلى يومنا هذا سبع مرّات : المرّة الأولى هل كان الباني الملائكة أو آدم ؟ ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قريش وقد حضر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا البناء وكان ينقل معهم الحجارة ثم ابن الزبير في خلافته ثم الحجاج الثقفي وهو الموجود اليوم.
﴿ ربنا واجعلنا مسلمين ﴾ أي : منقادين مخلصين خاضعين ﴿ لك ﴾ والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ﴿ و ﴾ اجعل ﴿ من ذريتنا ﴾ أي : أولادنا ﴿ أمّة ﴾ أي : جماعة ﴿ مسلمة ﴾ خاضعة منقادة ﴿ لك ﴾ ومن للتبعيض أي : واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء ؛ لأنهم أحق بالشفقة ؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ ( البقرة، ١٢٤ ) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل : لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم ﴾ ( النور، ٥٥ ) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في قوله تعالى :﴿ خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ ﴾ ( الطلاق، ١٢ ) وقيل : أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وأرنا ﴾ علّمنا ﴿ مناسكنا ﴾ شرائع ديننا وإعلام حجنا، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم قال : نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة ﴿ وتب علينا ﴾ سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة ﴿ إنك أنت التوّاب ﴾ لمن تاب ﴿ الرحيم ﴾ به.
﴿ ربنا وابعث فيهم ﴾ أي : الأمة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسماعيل ﴿ رسولاً منهم ﴾ أي : من أنفسهم.
روي أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم إذ لم يبعث من ذرّيتهما غير محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يأت نبيّ من ولد إسماعيل إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم والكل من ولد إسحق، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام :( إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأوّل أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أميّ التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام ) وأراد بدعوة إبراهيم هذا.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ﴿ يتلو ﴾ أي : يقرأ ﴿ عليهم آياتك ﴾ القرآن ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد والنبوّة ﴿ ويعلمهم الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : ما تكمل به نفوسهم من المعارف والأحكام، وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل ولا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما.
وقال أبو بكر بن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، وقيل : هي فهم القرآن، وقيل : الفقه في الدين، وقيل : السنة ﴿ ويزكيهم ﴾ أي : يطهرهم من الشرك وقيل : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذ اشهدوا هم للأنبياء بالتبليغ والتعديل ﴿ إنك أنت العزيز ﴾ الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد، وقيل : هو الذي لا يوجد مثله وقيل : هو المنيع الذي لا تناله الأيدي ولا يصل إليه شيء
﴿ الحكيم ﴾ في صنعه.
﴿ ومن ﴾ أي : لا ﴿ يرغب ﴾ أحد ﴿ عن ملة إبراهيم ﴾ فيتركها لظهورها ووضوحها ﴿ إلا من سفه نفسه ﴾ أي : جهل أنها مخلوقة لله تعالى يجب عليه عبادته، وذلك أنّ عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أنّ الله عز وجل قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله البيضاوي وغيره.
قال السيوطي : لم أقف على ذلك في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المسندة والمثبت مقدّم على غيره وقد جاء : من عرف نفسه فقد عرف ربه. وفي الأخبار أنّ الله أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام : اعرف نفسك واعرفني فقال : يا رب كيف أعرف نفسي وأعرفك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوّة والبقاء، وهذا معنى من عرف نفسه فقد عرف ربه ﴿ ولقد اصطفيناه ﴾ أي : اخترناه ﴿ في الدنيا ﴾ بالرسالة والخلة ﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ الذين لهم الدرجات العلا وفي هذا حجة وبيان لخطأ من رغب عن ملته ؛ لأنّ من جمع الكرامة عند الله في الدارين وكان مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة كان حقيقاً بالاتباع لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر.
تنبيه : قال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
وقوله تعالى :﴿ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ إمّا ظرف لاصطفيناه أي : اخترناه في ذلك الوقت، وإمّا منصوب بإضمار أذكر كأنه قال : اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدّم وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين دعاه ربه فكأنه قال له كما قال عطاء : أسلم نفسك إلى الله عز وجل وفوّض أمرك إليه قال : أسلمت أي : فوّضت، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
﴿ وصى بها ﴾ أي : بالملة المتقدّم ذكرها أو بأسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة وقيل : بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله، وقرأ نافع وابن عامر وأوصى بسكون الواو الثانية وهمزة مفتوحة بين الواوين، والباقون بواوين مفتوحتين ولا همزة بينهما وهذا أبلغ قال الزجاج : لأنّ أوصى يصدق بالمرة الواحدة، ووصى لا يكون إلا لمرّات كثيرة، وأمال ورش بينَ بينْ، وحمزة والكسائي محضة، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿ إبراهيم بنيه ﴾ قال مقاتل : وهم أربعة : إسماعيل وإسحق ومدين ومدان، وقد ذكر غير مقاتل أنهم ثمانية وقيل : أربعة عشر ﴿ و ﴾ وصى بها أيضاً ﴿ يعقوب ﴾ بنيه وهم اثنا عشر : روبيل وشمعون ولاوا ويهوذا ويشنيوخور وزبويلون وودّان ويفتوني وكودا وأوشير وبنيامين ويوسف وسمي بذلك ؛ لأنه والعيص كانا توءمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب عقبه، وقوله تعالى :﴿ يا بنيّ ﴾ على إضمار القول عند البصريين متعلق بوصّى عند الكوفيين ﴿ إنّ الله اصطفى لكم الدين ﴾ أي : دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان لقوله تعالى :﴿ فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ﴾ نهى عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى مصادقة الموت، وعن الفضيل بن عياض أنه قال : إلا وأنتم مسلمون أي : محسنون بربكم الظن لما روى جابر رضي الله عنه أنه قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول :( لا يموتنّ أحد إلا وهو يحسن الظن بربه ).
ولما قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية نزل.
﴿ أم كنتم شهداء ﴾ جمع شهيد بمعنى الحاضر أي : ما كنتم حاضرين وقول الأسيوطي : لم أقف على ذلك فيه ما مرّ ﴿ إذ حضر يعقوب الموت ﴾ أي : حين احتضر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى :﴿ إذ ﴾ بدل من إذ قبله ﴿ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ﴾ أي : بعد موتي أي : أيّ شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات فليس الاستفهام على حقيقته قال عطاء : إنّ الله تعالى لم يقبض نبياً حتى يخيره بين الموت والحياة فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به فجمع ولده وولد ولده وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي ؟ ﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ﴾ وقوله تعالى :﴿ إبراهيم وإسماعيل وإسحق ﴾ عطف بيان لآبائك وجعل إسمعيل وهو عمه من جملة آبائه تغليباً للأب إسحق والجدّ إبراهيم أو لأن العم أب والخالة أمّ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوّة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :( عم الرجل صنو أبيه ) أي : لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنو النخلة وقال في العباس :( هذا بقية آبائي ) وقال :( ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل بي قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود ) وقوله تعالى :﴿ إلهاً واحداً ﴾ بدل من إله آبائك كقوله تعالى :﴿ بالناصية ١٥ ناصية كاذبة ﴾ ( العلق، ١٩ ) وقوله تعالى :﴿ ونحن له مسلمون ﴾ حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أو منهما وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيه للإنكار أي : لم يحضروه وقت موته فكيف ينسبون إليه ما لا يليق به أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شهداء. وقيل : الخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
وقوله تعالى :﴿ تلك ﴾ مبتدأ والإشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، وأنت لتأنيث خبره وهو ﴿ أمّة قد خلت ﴾ أي : سلفت وقوله تعالى :﴿ لها ما كسبت ﴾ أي : من العمل جزاؤه استئناف ﴿ ولكم ﴾ الخطاب لليهود ﴿ ما كسبتم ﴾ والمعنى أنّ أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدّماً كان أو متأخراً فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما كسبتم وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ) ﴿ ولا تسئلون عما كانوا يعملون ﴾ كما لا يسئلون عن عملكم والجملة تأكيد لما قبلها.
﴿ وقالوا ﴾ أي : أهل الكتاب ﴿ كونوا هوداً أو نصارى ﴾ أي : قالت اليهود : كونوا هوداً وقالت النصارى : كونوا نصارى فأو للتفصيل. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : نزلت في رؤوس يهود المدينة وفي نصارى نجران وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن. وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقال كل من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذاك، وقوله تعالى :﴿ تهتدوا ﴾ جواب الأمر وهو كونوا. قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ بل ﴾ نتبع ﴿ ملة إبراهيم ﴾ وقال الكسائي : وهو نصب على الإغراء كأنه يقول : اتبعوا ملة إبراهيم، وقيل معناه بل تكون على ملة إبراهيم فحذف على فصار منصوباً وقوله تعالى :﴿ حنيفاً ﴾ حال من المضاف إليه كقولك : رأيت وجه هند قائمة لكن هذا جزء حقيقة وملة كالجزء والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق وقوله تعالى :﴿ وما كان من المشركين ﴾ تعريض لأهل الكتاب وغيرهم ؛ لأنّ كلاً منهم يدّعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك.
﴿ قولوا آمنا با ﴾ خطاب للمؤمنين وقول «الكشاف » : ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين أي : قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل وكذلك قوله تعالى :﴿ قل بل ملة إبراهيم ﴾ يجوز أن يكون على تأويل اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته يرده قوله تعالى :﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ ( البقرة، ١٣٧ ) ﴿ وما أنزل إلينا ﴾ أي : من القرآن وإنما قدّم ذكره ؛ لأنه أوّل الكتب بالنسبة إلينا أو لأنه سبب للإيمان بغيره ﴿ وما أنزل إلى إبراهيم ﴾ من الصحف العشرة ﴿ وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ﴾ جمع سبط وهو الحاقد وكان الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد حفدة يعقوب أو أبناؤه وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق.
فإن قيل : الصحف إنما أنزلت على إبراهيم أجيب : بأنهم لما كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها كانت أيضاً منزلة إليهم كما أنّ القرآن منزل إلينا ﴿ وما أوتي موسى ﴾ من التوراة ﴿ و ﴾ ما أوتي ﴿ عيسى ﴾ من الإنجيل.
فإن قيل : لم أفرد التوراة والإنجيل بحكم أبلغ وهو الإيتاء ؛ لأنه أبلغ من الإنزال لكونه مقصوداً منه ولم يقل والأسباط وموسى وعيسى أجيب : بأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى وعيسى مغاير لما سبق والنزاع وقع فيهما فلهذا أفردا بالذكر ﴿ وما أوتي ﴾ أي : أعطى ﴿ النبيون ﴾ أي : المذكورون ﴿ من ربهم ﴾ من الكتب والآيات، وقرأ نافع بالهمزة، والباقون بالياء، ولورش في الهمز المدّ والتوسط والقصر ﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ كاليهود والنصارى فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بجميعهم.
فإن قيل : كيف صح إضافة بين إلى أحد وهو مفرد ؟ أجيب : بأنه في معنى الجماعة وعلله السعد التفتازاني بأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث قال : ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل أو في كلام غير موجب ﴿ ونحن له ﴾ أي : لله
﴿ مسلمون ﴾ أي : مذعنون أي : مخلصون.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ) الآية.
وقوله تعالى :﴿ فإن آمنوا ﴾ أي : اليهود والنصارى ﴿ بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ﴾ من باب التعجيز والتبكيت كقوله تعالى :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ ( البقرة، ٢٣ ) لأنّ دين الحق واحد لا مثل له وهو دين الإسلام قال تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ ( آل عمران، ٨٥ ) وأمّا أن مثل صلة أي : آمنوا بما آمنتم به كقوله تعالى :﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ( الشورى، ١١ ) أي : ليس كهو شيء وكما في قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾ ( الأحقاف، ١٠ ) أي : عليه وقيل : الباء صلة كما في قوله تعالى :﴿ وهزي إليك بجذع النخلة ﴾ ( مريم، ٢٥ ) وقيل : معناه فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم فقد اهتدوا.
﴿ وإن تولوا ﴾ أي : أعرضوا عن الإيمان به ﴿ فإنما هم في شقاق ﴾ أي : في خلاف ومنازعه معكم يقال شاق مشاقة إذا خالف كان كل واحد من المتخالفين يحرص على كل ما يشق على صاحبه ﴿ فسيكفيكم الله ﴾ يا محمد شقاقهم في ذلك تسلية وتسكين للمؤمنين ووعد لهم بالحفظ والنصر على من عاداهم وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية على اليهود والنصارى وقوله تعالى :﴿ وهو السميع العليم ﴾ إما من تمام الوعد بمعنى أنه يسمع أقوالكم ويعلم إخلاصكم وهو مجازيكم لا محالة، وإمّا وعيد للمعرضين بمعنى أنه يسمع ما يبدون ويعلم ما يخفون وهو معاقبهم عليه ولا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً.
﴿ صبغة الله ﴾ أي : دينه الذي فطر الناس عليه بظهور أثره على صاحبه كالصبغ للثوب أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم أصفر يقال له المعمودية ويقولون هو تطهير لهم مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا : الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : قولوا آمنا بالله وصبغَنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيركم، أو يقول المسلمون : صبغَنا الله بالإيمان صبغة ولا نصبغ صبغتكم وهو مصدر مؤكد لآمنا ونصبه بفعل مقدر أي : صبغنا الله تعالى وقيل : نصب على البدل من ملة إبراهيم وقيل : نصب على الإغراء ﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أحسن من الله صبغة ﴾ أي : لا صبغة أحسن من صبغته أي : لا دين أحسن من دينه وصبغة تمييز وقوله تعالى :﴿ ونحن له عابدون ﴾ عطف على آمنا بالله قال الزمخشري : وهذا العطف يردّ قول من زعم أنّ صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول : ما قالت حذام اه.
نعم إن قدر قولوا في ﴿ ونحن له عابدون ﴾ معطوفاً على ألزموا بتقدير الإغراء أو اتبعوا ملة إبراهيم بتقدير البدل لم يلزم ما قاله. ولما قالت اليهود للمسلمين : نحن أهل الكتاب الأول، وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ؛ لأنهم عبدة الأوثان ولو كان محمد نبياً لكان منا ؛ لأنا أهل الكتاب.
نزل ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ أتحاجوننا ﴾ أي : تجادلوننا أو تخاصموننا ﴿ في الله ﴾ أي : في شأنه أن اصطفى النبيّ صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم ويقولون : لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترون أنكم أحق بالنبوّة منا ﴿ وهو ربنا وربكم ﴾ نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشأ من عباده هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة ﴿ ولنا أعمالنا ﴾ نجازي بها ﴿ ولكم أعمالكم ﴾ تجازون بها أي : كما أنّ لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، فالعمل هو أساس الأمر وبه العبرة ﴿ ونحن له مخلصون ﴾ في الدين والعمل دونكم فنحن أولى بالاصطفاء فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة والهمزة للإنكار، والجمل الثلاث أحوال، وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام بخلاف عنه وله فيه الروم والإشمام.
وقوله تعالى :﴿ أم يقولون ﴾ قرأه ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالتاء، والباقون بالياء على الغيبة، فعلى القراءة الثانية أم منقطعة والهمزة للإنكار، وعلى القراءة الأولى يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في أتحاجوننا بمعنى أيّ الأمرين تأتون المحاجّة وادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء في قولكم :﴿ إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ أأنتم أعلم أم الله ﴾ الله أعلم، وقد نفى الله تعالى الأمرين عن إبراهيم بقوله تعالى :﴿ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلمًا ﴾ ( آل عمران، ٦٧ ) واحتج تعالى على ذلك بقوله تعالى :﴿ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ﴾ ( آل عمران، ٦٥ ) والمذكورون معه تبع له، فهم أتباعه في الدين وفاقاً.
﴿ ومن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ممن كتم ﴾ أي : أخفى عن الناس ﴿ شهادة عنده ﴾ كائنة ﴿ من الله ﴾ أي : شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية وهم أهل الكتاب ؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وكتموا شهادة الله تعالى لمحمد بالنبوّة في كتبهم وغيرها، ومن للابتداء كما في قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ ( التوبة، ١ ) أي : شهادة كائنة من الله، فمن الله صفة لشهادة وقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ تهديد لهم.
وقوله تعالى :﴿ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾ تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطبائع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم وقيل : الخطاب فيما سبق لهم، وفي هذه الآية لنا تحذيراً عن الاقتداء بهم وقيل : المراد بالأمة في الأوّل الأنبياء، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى.
﴿ سيقول السفهاء ﴾ أي : الجهال الذين خفت أحلامهم ﴿ من الناس ﴾ وهم اليهود ؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ﴿ ما ولاهم ﴾ أي : أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين ﴿ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ وهي بيت المقدس وقيل : هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، وقيل : المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب.
فإن قيل : ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب : بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ المشرق والمغرب ﴾ أي : الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه ﴿ يهدي من يشاء ﴾ هدايته ﴿ إلى صراط ﴾ أي : طريق ﴿ مستقيم ﴾ وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
وقوله تعالى :﴿ وكذلك ﴾ الكاف فيه للتشبيه أي : كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم ﴿ جعلناكم ﴾ يا أمة محمد ﴿ أمة وسطاً ﴾ أي : خياراً عدولاً قال تعالى :﴿ قال أوسطهم ﴾ ( القلم، ٢٨ ) أي : خيرهم وأعدلهم، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها ؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن ؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة.
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال :( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال : أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل ) وقوله تعالى :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ أي : يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم ﴿ ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ أي : يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي : لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم.
روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم : ألم يأتكم نذير، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق، على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ ( النساء، ٤١ ).
فإن قيل : هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم أجيب : بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى :﴿ والله على كل شيء شهيد ﴾ ( المجادلة، ٦ ).
فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً أجيب : بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ﴿ وما جعلنا ﴾ أي : صيرنا لك ﴿ القبلة ﴾ الآن وقوله تعالى :﴿ التي كنت عليها ﴾ ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل أي : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها أولاً وهي الكعبة وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إليها، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفاً لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهراً ثم حوّل إلى الكعبة ﴿ إلا لنعلم من يتبع الرسول ﴾ فيصدّقه ﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ أي : يرجع إلى الكفر شكاً في الدين وظناً أنّ النبيّ في حيرة من أمره، وفي الحديث :( أنّ القبلة لما حوّلت ارتدّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا : رجع محمد إلى دين آبائه ).
فإن قيل : كيف : قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها أجيب : بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد، ومعناه أي : لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى :﴿ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ ( آل عمران، ١٤٢ ) وقيل : ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى ؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل : معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ ( الأنفال، ٣٧ ) فوضع العلم موضع التمييز التابع ؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز، فالعلم سبب والتمييز مسبب، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز.
تنبيه : العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي : ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب.
فإن قيل : على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها ؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب : بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، بل قال الوليّ العراقي : قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى :﴿ وإن ﴾ هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وإنها ﴿ كانت ﴾ أي : التولية ﴿ لكبيرة ﴾ شاقة على الناس ﴿ إلا على الذين هدى الله ﴾ منهم وهم الثابتون على الإيمان ﴿ وما كان الله ليضيع أيمانكم ﴾ أي : ثباتكم على الإيمان، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه ؛ لأنّ سبب نزولها ( أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون : إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله لقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى هذه ﴿ إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاتهم ).
فإن قيل : لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ ؟ أجيب : بأنه قدم محافظة على الفواصل، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي لرؤوف بقصر الهمزة، والباقون بمدّها ولورش في الهمزة المدّ والتوسط والقصر على أصل.
﴿ قد ﴾ للتحقيق ﴿ نرى تقلب ﴾ أي : تردّد ﴿ وجهك في السماء ﴾ أي : في جهتها متطلعاً إلى الوحي ومتشوّقاً إلى الأمر باستقبال الكعبة، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدّمة في المعنى، فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدونه من نعته في التوراة، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، لأنها كانت قبلة إبراهيم أبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد : كان يحب ذلك من أجل أنّ اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام : وددت لو حوّلني الله تعالى إلى الكعبة، فإنها قبلة أبي إبراهيم، فقال جبريل : إنما أنا عبد ملك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان، فعرج جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل، فنزل قوله تعالى :﴿ فلنولينك ﴾ أي : فلنحوّلنك ﴿ قبلة ﴾ أي : إلى قبلة ﴿ ترضاها ﴾ أي : تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته ﴿ فول ﴾ أي : اصرف ﴿ وجهك شطر ﴾ أي : نحو ﴿ المسجد الحرام ﴾ أي : الكعبة أي : استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيداً عنها. وقول البيضاوي : والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإنّ في استقبال عينها حرجاً عليه وجه ضعيف، والحرام المحرم فيه القتال وممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه.
وقوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم ﴾ من بحر أو برّ، شرق أو غرب خطاب للأمة ﴿ فولوا وجوهكم ﴾ في الصلاة ﴿ شطره ﴾ وكان تحويل القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقول البيضاوي : وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمي المسجد مسجد القبلتين فيه تحريف، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان إماماً في قصة بني سلمة وأنه تحول في الصلاة وليس كذلك، فقد روى البخاريّ عن ابن عمر أنه قال :( بينما الناس يصلون في صلاة الصبح إذ أتاهم آت أي : من بني سلمة فقال : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ).
ولما تحوّلت القبلة قالت اليهود : وما هو إلا شيء يبتدعه محمد من تلقاء نفسه، فتارة يصلي إلى بيت المقدس، وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله تعالى ﴿ وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه ﴾ أي : التولي إلى الكعبة ﴿ الحق ﴾ أي : الثابت ﴿ من ربهم ﴾ لما في كتبهم من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه يحوّل إليها وقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب للمؤمنين أي : وما أنا بغافل عن جزائكم وثوابكم، والباقون بالياء على الغيب أي : عما يعمل اليهود أي : فأجازيهم في الدنيا والآخرة، ففي الآية وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، ولما قالت اليهود والنصارى ائتنا بآية على أنّ الكعبة قبلة.
﴿ ولئن ﴾ اللام موطئة للقسم ﴿ أتيت الذين أوتوا الكتاب ﴾ أي : اليهود والنصارى ﴿ بكل آيةٍ ﴾ أي : برهان وحجة على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق وقوله تعالى :﴿ ما تبعوا قبلتك ﴾ جواب للقسم المضمر والمعنى أن تركهم اتباعك ليس على شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو على مكابرة وعناد مع علمهم لما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
تنبيه : كان مقتضى الظاهر ما يتبعون لكن أتى بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ ( النحل، ١ ) وقوله تعالى :﴿ وما أنت بتابع قبلتهم ﴾ قطع لأطماعهم، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره تغريراً منهم له وطمعاً في رجوعه ﴿ وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ ﴾ أي : أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة، فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك لتصلب كل حزب فيما هو فيه.
فإن قيل : كيف قال تعالى :﴿ وما أنت بتابع قبلتهم ﴾ ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة ؟ أجيب : بأن كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق فكانتا لحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة وقوله تعالى :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة أو على سبيل الفرض والتقدير ﴿ من بعدما جاءك ﴾ بين لك ﴿ من العلم ﴾ بالوحي في القبلة ﴿ إنك إذاً ﴾ إن اتبعتهم ﴿ لمن الظالمين ﴾ أي : من المرتكبين الظلم الفاحش، وفي هذا لطف للسامعين وزيادة تحذير واستفظاع لحال من ترك الدليل بعد إنارته وتتبع الهوى وتهييج للثبات على الحق، وقد أكد سبحانه وتعالى التهديد في ذلك وبالغ فيه ).
قال البيضاوي من سبعة أوجه : الأوّل : الإتيان باللام الموطئة للقسم، الثاني : القسم المضمر، الثالث : حرف التحقيق أي : التأكيد وهي أن الرابع تركيبه من جملة اسمية، الخامس : الإتيان باللام في الخبر أي : وهو من الظالمين، السادس : جعله من الظالمين أي : تعريف الظالمين الدال على المعروفين ولم يقل إنك ظالم، فإن في الاندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم ؛ لأنّ أل في الظالمين للاستغراق، السابع : التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم وتحريضاً على اقتضائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستفظاعاً لظهور الذنب عن الأنبياء.
﴿ الذين أتيناهم الكتاب ﴾ أي : علماؤهم ﴿ يعرفونه ﴾ أي : محمداً صلى الله عليه وسلم لسبق ذكره بلفظ الرسول مرّتين، وقول البيضاويّ تتبعاً للزمخشري وإن لم يسبق ذكره ممنوع، وقيل : القرآن وقيل : التحويل، ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿ كما يعرفون أبناءهم ﴾ أي : من بين الصبيان، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه : كيف هذه المعرفة ؟ قال عبد الله : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني فقال عمر : وكيف ذلك ؟ قال : لست أشك في محمد أنه نبي وأمّا ولدي فلعل والدته خانت فقال عمر : وفقك الله تعالى يا ابن سلام فقد صدقت.
فإن قيل : لم خص الأبناء من الأولاد ؟ أجيب : بأنّ الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ﴿ وإنّ فريقاً منهم ﴾ أي : أهل الكتاب ﴿ ليكتمون الحق ﴾ أي : صفته صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة ﴿ وهم يعلمون ﴾ ولا يظهرونه عناداً.
وقوله تعالى :﴿ الحق من ربك ﴾ كلام مستأنف، والحق إما مبتدأ خبره من ربك والمعنى أنه الحق أي : ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي : هذا الحق ومن ربك حال أو خبر، بعد خبر والمعنى أنّ ما جاءك من العلم أو ما يكتمونه هو الحق لا ما يزعمون ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي : من الشاكين في أنه من ربك أو في كتمانهم الحق عالمين به أي : فلا تكونن من هذا النوع وهو أبلغ من لا تمتر وليس فيه نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه ؛ لأنه غير متوقع منه بل إما لتحقيق الأمر، وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر، وإمّا أنّ المراد به أمته.
﴿ ولكل ﴾ أي : أمة من الأمم ﴿ وجهة ﴾ أي : قبلة أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة ﴿ هو موليها ﴾ وجهه في صلاته، وقرأ ابن عامر وحده مولاها بفتح اللام وألف بعدها أي : هو مولى تلك الجهة قد وليها، والباقون بكسر اللام وياء بعدها وعلى هذا فأحد المفعولين محذوف أي : هو موليها وجهه كما مرّ تقديره أو الله تعالى موليها إياه ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ أي : بادروا إلى الطاعات وقبولها من أمر القبلة وغيره مما تنالوا به سعادة الدارين ﴿ أين ما تكونوا ﴾ أنتم وأهل الكتاب ﴿ يأت بكم الله جميعاً ﴾ يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم ﴿ إنّ الله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على الإحياء والجمع.
تنبيه : رقق ورش الراء المفتوحة بعد الياء الساكنة. واتفق المصاحف على قطع أين من ما هنا.
﴿ ومن حيث خرجت ﴾ أي : من أيّ مكان خرجت للسفر ﴿ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ إذا صليت ﴿ وإنه ﴾ أي : هذا الأمر ﴿ للحق من ربك ﴾ وقوله تعالى :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ قرأه أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾.
تنبيه : ما مقطوعة من حيث في موضعي هذه السورة، وكرر سبحانه وتعالى التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة وتشديده ؛ لأنّ النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، فكرر عليهم ليثبتوا ويقوموا ويجدّوا ؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ؛ لأنه تعالى علق بكل آية فائدة، ففي الأولى أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر محمد أو أمر القبلة حق لمشاهدتهم له في التوراة والإنجيل، وفي الثانية أنه تعالى شهد أنه حق وشهادة الله تعالى مغايرة لعلم أهل الكتاب، وفي الثالثة بيان العلة وهي قطع حجة اليهود أو لأن الأحوال ثلاثة أوّلها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام وثانيها : أن يخرج عنه ويكون في البلد وثالثها : أن يخرج عن البلد، فالآية محمولة على الأوّل والثانية على الثاني والثالثة على الثالث وقوله تعالى :﴿ لئلا يكون الناس ﴾ أي : اليهود والمشركين ﴿ عليكم حجة ﴾ أي : مجادلة في التولي علة لقوله : قولوا والمعنى أن التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، وأن محمداً يجحد ديننا ويتبعنا في قبلتنا ويدفع احتجاج المشركين بأنه يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، وقرأ ورش بإبدال الهمزة من لئلا ياء مفتوحة وقفاً ووصلاً وحمزة يبدلها وقفا لا وصلاً، والباقون بهمزة مفتوحة وصلاً ووقفاً وقوله تعالى :﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ بدل واستثناء متصل أي : لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا المعاندين منهم، فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحبه لبلده أو بدا له فرجع إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم ﴿ فلا تخشوهم ﴾ أي : فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم، فإنهم لا يضرونكم ﴿ واخشوني ﴾ بامتثال أمري فلا تخالفوا ما أمرتكم به.
تنبيه : الياء هنا ثابتة في الرسم وهي في القراءة ثابتة وقفاً ووصلاً.
فإن قيل : أي حجة تكون لغير الذين ظلموا لو لم تحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟ أجيب : بأنهم كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة.
فإن قيل : كيف أطلق الحجة على قول المعاندين ؟ أجيب : بأنّ المراد بالحجة ما يتمسك به حقاً كان أو باطلاً كما قال تعالى :﴿ حجتهم داحضة ﴾ ( الشورى، ١٦ ) وقوله تعالى :﴿ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ﴾ أي : إلى الحق علة لمحذوف أي : وأمرتكم بذلك لإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أو عطف على علة مقدرة كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم، قال «الكشاف » : وقيل : هو معطوف على لئلا يكون، وجرى عليه البيضاوي والسيوطي. قال البيضاويّ : تبعاً «للكشاف » وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة » أي : ورؤية الله تعالى وعن علي رضي الله تعالى عنه تمام النعمة الموت على الإسلام، قال شيخنا القاضي زكريا : روى الحديث الترمذيّ وذكره مع الأثر بعده ربما يرجح العطف على المقدر.
وقوله تعالى :﴿ كما أرسلنا ﴾ إما متعلق بما قبله وهو أتم أي : ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة أو في أمر الآخرة إتماماً كإتمامها بإرسالنا ﴿ فيكم رسولاً منكم ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم وإما متعلق بما بعده وهو فاذكروني أذكركم أي : كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني ﴿ يتلو عليكم آياتنا ﴾ أي : القرآن ﴿ ويزكيكم ﴾ أي : يطهركم من الشرك ﴿ ويعلمكم الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : ما فيه الأحكام.
تنبيه : قدم هنا يزكيكم على يعلمكم باعتبار القصة وأخر في دعوة إبراهيم يزكيكم على يعلمكم باعتبار الفعل ﴿ ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ أي : بالتفكر والنظر إذ لا طريق لمعرفته سوى الوحي.
﴿ فاذكروني ﴾ بالطاعة كالصلاة والتسبيح ﴿ أذكركم ﴾ قال ابن عباس : بمعونتي، وقال سعيد بن جبير : بمغفرتي وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدّة والبلاء كما قال تعالى :﴿ فلولا أنه كان من المسبحين ١٤٣ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ﴾ ( الصافات، ١٤٤ ). وفي الحديث عن الله تعالى :( أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ). وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الله تعالى يقول : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منه، وإن دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن مشيت إليّ هرولت إليك، وإن سألتني أعطيتك، وإن لم تسألني غضبت عليك ). وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله عزّ وجلّ : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه ). وفي رواية : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل ؟ قال :( أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله ). وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ ﴿ واشكروا لي ﴾ نعمتي بالطاعة ﴿ ولا تكفرون ﴾ بجحد النعم وعصيان الأمر، فإن من أطاع الله فقد شكره، ومن عصاه فقد كفره.
﴿ يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر ﴾ على الطاعة والبلاء وعلى المعاصي وحظوظ النفس ﴿ والصلاة ﴾ خصها بالذكر ؛ لأنها أم العبادات لاشتمالها على فعل القلب وغيره ومناجاة رب العالمين ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالنصر وإجابة الدعوة.
﴿ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ﴾ هم ﴿ أموات بل ﴾ هم ﴿ أحياء ولكن لا تشعرون ﴾ أي : لا تعلمون كيف حالهم في حياتهم.
قال البيضاويّ : وهو تنبيه على أنّ حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل بل بالوحي اه.
وهذا ما عليه أكثر المفسرين، قال ابن عاد : ويحتمل أنّ حياتهم بالجسد وإن لم تشاهد وأيد بأن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات بالاتفاق، فلو لم تكن حياة الشهيد بالجسد لاستوى هو وغيره ولم تكن له مزية اه.
وقد يرد بأنّ الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم من المؤمنين منعمون بما دون ذلك. وفي الحديث :( أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش ) وعن الحسن : أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح أي : الاستراحة أي : التلذذ والتنعم والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدّواً وعشياً، فيصل إليهم الوجع والغم. وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله ومزيد السرور والكرامة والأرواح جواهر قائمة بأنفسها تبقى بعد الموت دراكة كما عليه جمهور الصحابة والتابعين ونطقت به الآيات والسنن.
﴿ ولنبلونكم ﴾ أي : ولنختبرنكم يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم واللام لجواب القسم تقديره والله لنبلونكم والابتلاء إظهار المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به ﴿ بشيء ﴾ أي : بقليل ﴿ من الخوف ﴾ أي : خوف العدوّ ﴿ والجوع ﴾ أي : القحط وإنما قلله بالنسبة لما وقاهم عنه فيخفف عنهم ويريهم أنّ رحمته لا تفارقهم أو بالنسبة إلى ما يصيب به معانديهم في الآخرة وإنما أخبرهم قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم ﴿ ونقص من الأموال ﴾ بالخسران والهلاك ﴿ والأنفس ﴾ بالقتل والموت وقيل : بالمرض والشيب ﴿ والثمرات ﴾ بالجوائح.
وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه : الخوف خوف الله، والجوع صوم رمضان، ومن الثمرات موت الأولاد. وعن أبي سنان قال : دفنت ولدي سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني، فقال : ألا أبشرك ؟
حدّثني الضحاك بن عروب عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد ). وقوله تعالى :﴿ وبشر الصابرين ﴾ أي : على ما يصيبهم من المكروه عطف كما قال التفتازاني على ولنبلونكم عطف المضمون على المضمون أي : الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر.
ثم بينهم بقوله :
﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله ﴾ عبيداً وملكاً ﴿ وإنا إليه راجعون ﴾ في الآخرة والمصيبة تعمّ ما يصيب الإنسان من مكروه لقوله صلى الله عليه وسلم «كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة » وعن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما من مصيبة تصيب عبداً فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهمّ اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف عليه خيراً منها ) قالت : فلما توفي أبو سلمة استرجعت الله لي فقلت : اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها قالت : فأخلف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية :( من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه )، وقال سعيد بن جبير : ما أعِطي أحد ما أعطيت هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطيها أحد لأعطي يعقوب في قصة فقدِ يوسف ألا تسمع إلى قوله :﴿ يا أسفاً على يوسف ﴾ ( يوسف، ٨٤ ) وليس الصبر بالإسترجاع باللسان بل باللسان مع القلب بأن يتصوّر ما خلق لأجله، فإنه راجع إلى ربه ويتذكر نعم الله عليه، فيرى ما أبقى عليه أضعاف ما استردّه منه، فيهوّن على نفسه ويستسلم لربه، والمبشر به محذوف دلّ عليه.
﴿ أولئك عليهم صلوات ﴾ أي : مغفرة ﴿ من ربهم ورحمة ﴾ أي : لطف وإحسان والصلاة في الأصل من الآدمي أي : ومن الجنّ تضرّع ودعاء، ومن الملائكة استغفار، ومن الله تعالى رحمة مقرونة بتعظيم وجمع الصلاة للتنبيه على كثرتها كالتثنية في لبيك بمعنى لا انقطاع لمغفرته ﴿ وأولئك هم المهتدون ﴾ إلى الصواب حيث استرجعوا وسلّموا لقضاء الله تعالى.
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : نِعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان الصلاة والرحمة، والعلاوة : الهداية، وقد ورد أخبار في ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين منها أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من يرد الله به خيراً يصب منه ) ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ) ومنها : أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبها لمم، فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يشفيني فقال :( إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك قالت : بل أصبر ولا حساب عليّ ). ومنها :( أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أشدّ الناس بلاءً قال :( الأنبياء والأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً ابتلى على قدر ذلك، وإن كان في دينه رقة هوّن عليه، فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ما له ذنب ) ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ). ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئ ). ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :( مثل المؤمن كمثل الزرع لا يزال الريح يثنيه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد ). ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :( عجب للمؤمن إن أصابه خير حمد الله
وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل أمره ).
﴿ إن الصفا والمروة ﴾ هما على جبلين بمكة في طرفي المسعى، قال القرطبيّ : وذكر الصفا ؛ لأن آدم وقف عليه، وأنث المروة ؛ لأنّ حوّاء وقفت عليها ﴿ من شعائر الله ﴾ أي : أعلام دينه جمع شعيرة وهي العلامة أي : من أعلام مناسكه ومتعبداته ﴿ فمن حج البيت أو اعتمر ﴾ أي : تلبس بالحج أو العمرة، والحج لغة : القصد. والاعتمار : الزيارة، فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين ﴿ فلا جناح ﴾ أي : لا إثم ﴿ عليه أن يطوّف ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء ﴿ بهما ﴾ أي : بأن يسعى بينهما سبعاً.
فإن قيل : كيف أنهما من شعائر الله، ثم قيل لا جناح عليه أن يطوف بهما ؟ أجيب : بأنه كان على الصفا آساف، وعلى المروة نائلة وهما صنمان، يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين، فلما طالت المدّة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسخوهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية، فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله، والإجماع على أنّ السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنه سنة وبه قال أنس وابن عباس لقوله تعالى :﴿ فلا جناح عليه ﴾ فإنه يفهم منه التخيير.
قال البيضاويّ وهو ضعيف ؛ لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بدم. وعن مالك والشافعيّ أنه ركن لقوله صلى الله عليه وسلم ( اسعوا فإنّ الله تعالى كتب عليكم السعي ) رواه البيهقيّ وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم ( ابدؤوا بما بدأ الله به ) يعني : الصفا رواه مسلم ﴿ ومن تطوّع خيراً ﴾ أي : فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة أو طواف، ونصب خيراً على أنه صفة مصدر محذوف أي : تطوّعاً أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه أي : بخير.
وقرأ حمزة والكسائيّ يطوّع بالياء على التذكير وتشديد الطاء والواو وسكون العين وأصله يتطوّع فأدغم مثل يطوف، والباقون بالتاء على الحضور وتخفيف الطاء وفتح العين ﴿ فإنّ الله شاكر ﴾ لعمله بالإثابة عليه ﴿ عليم ﴾ بنيته.
تنبيه : الشكر من الله أن يعطى العبد فوق ما يستحقه فإنه يشكر اليسير ويعطي الكثير.
ونزل في علماء اليهود :
﴿ إن الذين يكتمون ﴾ الناس كأحبار اليهود ﴿ ما أنزلنا من البينات ﴾ كآية الرحم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والهدى ﴾ أي : ما يهدي إلى وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان به ﴿ من بعدما بيناه ﴾ أوضحناه ﴿ للناس في الكتاب ﴾ أي : التوراة أي : لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم، فعمدوا إلى ذلك المبين الواضح، فكتموه ولبسوا على الناس ﴿ أولئك يلعنهم الله ﴾ وأصل اللعن الطرد والبعد ﴿ ويلعنهم اللاعنون ﴾ أي : يسألون الله أن يلعنهم ويقولون : اللهمّ الَعنهم.
تنبيهان : أحدهما : اختلف في هؤلاء اللاعنين، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هم جميع الخلائق إلا الجنّ والإنس، وقال عطاء : هم الجنّ والإنس، وقال الحسن : هم جميع عباد الله، وقال مجاهد : البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر وتقول : هذا من شؤم ذنوب بني آدم.
ثانيهما : هذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة ومستنبطة وتدل على امتناع أخذ الأجرة على ذلك. وقد روى الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : إنكم تقولون أَكثر أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً وتلا :﴿ إنّ الذين يكتمون ﴾ الآية ).
﴿ إلا الذين تابوا ﴾ أي : رجعوا عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب منه ﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم ﴿ وبينوا ﴾ ما بيّنه الله تعالى في كتابهم فكتموه ﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم ﴿ وأنا التوّاب ﴾ أي : الرجّاع لقلوب عبادي المنصرفة عني إليّ ﴿ الرحيم ﴾ بهم بعد إقبالهم عليّ.
﴿ إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار ﴾ أي : من لم يتب من الكاتمين حتى مات ﴿ أولئك عليهم لعنة الله و ﴾ لعنة ﴿ الملائكة و ﴾ لعنة ﴿ الناس أجمعين ﴾ لعنهم الله أحياء، ثم لعنهم أمواتاً، وقال أبو العالية : هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم تلعنه الناس.
فإن قيل : قد قال الله تعالى :﴿ والناس أجمعين ﴾ وفي الناس المسلم والكافر وأهل دينه لا يلعنونه ؟ أجيب بأجوبة :
منها : أنّ المراد منهم من يعتد بلعنه وهم المؤمنون، قاله ابن مسعود : وعلى هذا فيكون من العام الذي أريد به الخاص.
ومنها : أنهم يلعنونه في القيامة قال تعالى :﴿ يلعن بعضكم بعضاً ﴾ ( العنكبوت، ٢٥ ) وقال :﴿ كلما دخلت أمّة لعنت أختها ﴾ ( الأعراف، ٣٨ ).
ومنها : أنّ اللعنة من الأكثر يطلق عليها لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقلّ.
ومنها : أنهم يلعنون الظالمين والكافرين، ومن لعن الظالمين أو الكافرين وهم منهم، فقد لعن نفسه، ومعنى لعنة الله لهم تبرّؤه منهم وطردهم وتبعيدهم عن الرحمة والثواب أو دعاؤه عليهم بذلك.
﴿ خالدين فيها ﴾ أي : اللعنة أو النار المدلول بها عليها ﴿ لا يخفف عنهم العذاب ﴾ طرفة عين ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ من الإنظار أي : لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينظرون ليتعذروا كقوله تعالى :﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ( المرسلات، ٣٦ ) أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.
ولما قال كفار قريش : يا محمد صف لنا ربك وانسبه لنا.
نزل ﴿ وإلهكم إله واحد ﴾ وسورة الإخلاص، والواحد هو الذي لا نظير له ولا شريك وقوله تعالى :﴿ لا إله إلا هو ﴾ تقرير للوحدانية ودفع ؛ لأن يتوهم أنّ في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة وقوله تعالى :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ كالدليل على الوحدانية، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها بقوله : الرحمن، فإنه مولى جلائل النعم وفروعها بقوله : الرحيم، فإنه مولى لطائف النعم ودقائقها وما سواه تعالى. إما نعمة أو منعم عليه، فلم يستحق العبادة أحد غيره وهما خبران آخران لقوله : إلهكم أو لمبتدأ محذوف. وعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنّ في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وإلهكم إله واحد ) الخ. . ﴿ والله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولما سمع المشركون هذه الآية وكان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك، فأنزل الله تعالى ﴿ إن في خلق السموات والأرض ﴾ إلى آخر الآية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ولما سمع المشركون هذه الآية وكان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقك، فأنزل الله تعالى ﴿ إن في خلق السموات والأرض ﴾ إلى آخر الآية.

فإن قيل : لم جمع السموات وأفرد الأرض ؟ أجاب البيضاويّ : بأنّ السموات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين اه. وهذا إنما يأتي على قول بعض الحكماء أنّ المراد بالأرضين الأقاليم، والأولى ما أجاب به البغوي من أنّ كلاً منها جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب أي : فهي طبقات كالسموات، والآية في السموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة، وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك والآية في الأرض مدّها أو بسطها وسعتها وما يرى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات وغير ذلك.
﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ أي : تعاقبهما في المجيء والذهاب يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي : بعده قال تعالى :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ﴾ ( الفرقان، ٦٣ ) قال عطاء : أراد اختلافهما في النور والظلمة، والزيادة والنقصان، والليل : جمع ليل، والليالي : جمع الجمع، والنهار : جمع نهر. وقدّم الليل على النهار في الذكر ؛ لأنه أقدم قال تعالى :﴿ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ﴾ ( يس، ٣٧ ) ﴿ والفلك ﴾ أي : السفن ﴿ التي تجري في البحر بما ينفع الناس ﴾ من التجارة والحمل، والآية فيها تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقورة لا ترسب تحت الماء.
تنبيه : أنث الفلك ؛ لأنه بمعنى السفينة ؛ لأنّ واحد السفن وجمعه سواء إذ لو كانت بمعنى المركب لذكرها مع أنها في اللغة تذكر وتؤنث، قال تعالى :﴿ إذ أبق إلى الفلك المشحون ﴾ ( الصافات، ١٤٠ ) وضمة الجمع غير ضمة الواحدة تقديراً ؛ إذ هي في الجمع كالضمة في حمر، وفي الواحد كالضمة في قفل، قال البيضاوي : والقصد به أي : الفلك إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر ؛ لأنه سبب الخوض فيه أي : البحر والاطلاع على عجائبه، ولذلك قدّمت على ذكر المطر والسحاب ؛ لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر اه. فجعل الآية في البحر لا في السفن، والأولى جعل الآية فيها وقوله ؛ لأنّ منشأهما البحر هو قول الحكماء والإشارة على خلافه وهو الذي دلت عليه الأخبار. قال شيخنا القاضي زكريا : وحاصله : أنّ السحاب من شجرة مثمرة في الجنة، والمطر من بحر تحت العرش ﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ أي : مطر.
تنبيه : من الأولى للابتداء، والثانية للبيان، قال البغويّ : قيل : أراد بالسماء السحاب يخلق الله الماء في السحاب، ثم من السحاب ينزل. وقيل : أراد بالسماء المعروفة يخلق الله الماء في السماء، ثم ينزل من السماء إلى السحاب ؛ ثم من السحاب ينزل إلى الأرض اه. وفيه ما مرّ ﴿ فأحيا به الأرض ﴾ بالنبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها وجدوبتها ﴿ وبث ﴾ أي : فرّق ونشر بالماء ﴿ فيها ﴾ في الأرض ﴿ من كلّ دابة ﴾.
فإن قيل : هل بث عطف على أنزل أو أحيا ؟ أجيب : بأنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة ؛ لأن قوله : فأحيا به الأرض عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة، ويجوز عطفه على أحيا على معنى، فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ؛ لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا أي : المطر ﴿ وتصريف الرياح ﴾ إلى قبول ودبور، وجنوب وشمال، فالقبول : الصبا وهي التي تهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، والدبور : تقابلها، والشمال : التي تهب من جانب القطب، والجنوب : تقابلها. قال ابن عباس : أعظم جنود الله الريح والماء، وسميت الريح ريحاً ؛ لأنها تريح النفوس. قال شريح القاضي : ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم أو لسقم صحيح.
فائدة : البشارة في ثلاث : من الرياح في الصبا، والشمال والجنوب. أمّا الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها، وقيل الرياح ثمانية : أربعة للرحمة وهي : المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات، وأربعة : للعذاب وهي العقيم والصرصر في البر، والعاصف والقاصف في البحر. وقرأ حمزة والكسائيّ : الريح بالتوحيد، والباقون بالجمع.
فائدة أخرى : كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها، وما فيها ألف ولام كما هنا، اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا الحرف الأوّل في سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها، والريح تذكر وتؤنث ﴿ والسحاب ﴾ أي : الغيم ﴿ المسخر ﴾ أي : المذلل بأمر الله يسير حيث شاء الله ﴿ بين السماء والأرض ﴾ بلا علاقة لا ينزل ولا يرتفع مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله. وقيل : تسخير السحاب تقليبه في الجوّ بمشيئة الله واشتقاقه من السحب ؛ لأنّ بعضه يجر بعضاً ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحات على وحدانية الله تعالى ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي : ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وقول البيضاويّ : وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها ). أي : لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. قال الوليّ العراقيّ : لم أقف عليه. وقال السيوطي : لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ، ثم قال عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :( أنزل عليّ الليلة { إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) » ثم قال :( ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ). قيل : للأوزاعيّ ما غاية التفكر فيهنّ ؟ قال : يقرأهنّ وهو يعقلهنّ انتهى ولا ينافي هذا أنه ورد أيضاً في هذه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال البيضاويّ : وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه انتهى.
ولا ينافي هذا قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ؛ لأنه محمول على التوغل فيه، فيصير فلسفياً.
﴿ ومن الناس ﴾ وهم المشركون ﴿ من يتخذ من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ أنداداً ﴾ أي : أصناماً يعبدونها ﴿ يحبونهم ﴾ بالتعظيم والخضوع ﴿ كحبّ الله ﴾ أي : كحبهم له كما قال الزجاج : يحبون الأصنام كما يحبون الله ؛ لأنهم أشركوها مع الله، فسووا بين الله وبين أصنامهم في المحبة أو يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله ﴿ والذين آمنوا أشدّ حباً ﴾ أي : أثبت وأدوم على حبه ؛ لأنهم لا يختارون على الله ما سواه، والمشركون محبتهم لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا إذا اتخذوا صنماً أحسن منه طرحوا الأوّل واختاروا الثاني، وربما يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عند المجاعة، ويُعرضون عن معبودهم في وقت البلاء، ويقبلون على الله كما أخبر الله تعالى عنهم فقال :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ ( العنكبوت، ٦٥ ) والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء.
وقيل : إنما قال الله تعالى :﴿ والذين آمنوا أشدّ حباً لله ﴾ لأنّ الله أحبهم أولاً ثم أحبوه، ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتمّ قال الله تعالى :﴿ يحبهم ويحبونه ﴾ ( المائدة، ٥٤ ) فمحبة العبد لله طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي ﴿ ولو يرى الذين ظلموا ﴾ أي : باتخاذ الأنداد ﴿ إذ يرون ﴾ أي : يبصرون ﴿ العذاب ﴾ يوم القيامة وإذ بمعنى إذا أو أجري المستقبل وهو يرى مجرى الماضي لأنّ إذ موضوعة للماضي ؛ والمعنى هنا على الاستقبال لتحققه كقوله تعالى :﴿ ونادى أصحاب الجنة ﴾ ( الأعراف، ٤٤ ) ﴿ أنّ ﴾ أي : بأنّ ﴿ القوّة ﴾ أي : القدرة والغلبة ﴿ لله ﴾ وقوله تعالى :﴿ جميعاً ﴾ حال ﴿ وأنّ الله شديد العذاب ﴾ وجواب لو محذوف، والتقدير لو يعلمون أنّ القدرة لله جميعاً ؛ إذ عاينوا العذاب لندموا أشدّ الندم، والفاعل ضمير السامع أو الذين ظلموا، ويرى بمعنى يعلم، وأنّ وما بعدها سدّت مسدّ المفعولين.
وقرأ نافع وحده بالتاء على الخطاب أي : ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وأمال السوسي الألف المنقلبة بعد الراء في الوصل بخلاف عنه، وغلظ ورش اللام بعد الظاء، وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، والباقون بفتحها.
﴿ إذ ﴾ بدل من إذ قبله ﴿ تبرأ الذين اتبعوا ﴾ وهم الرؤساء ﴿ من الذين اتبعوا ﴾ وهم الأتباع أي : ينكر الرؤساء إضلال الأتباع يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع ﴿ و ﴾ قد ﴿ رأوا العذاب ﴾ أي : رائين له فالواو للحال، وقد مضمرة كما قدرتها وقيل : عطف على تبرأ، وقوله تعالى :﴿ وتقطعت ﴾ عطف على تبرأ، وقوله تعالى :﴿ بهم ﴾ بمعنى عنهم ﴿ الأسباب ﴾ أي : الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصدقات وصارت مخالفتهم عداوة.
﴿ وقال الذين اتبعوا ﴾ أي : الأتباع ﴿ لو أنّ لنا كرّة ﴾ أي : رجعة إلى الدنيا ﴿ فنتبرأ منهم ﴾ أي : الرؤساء ﴿ كما تبرّأوا منا ﴾ اليوم، ولو للتمني ولذلك أجيب بالفاء ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الإراء الفظيع ﴿ يريهم الله أعمالهم ﴾ أي : السيئة وقوله تعالى :﴿ حسرات ﴾ أن تنقلب ندمات ﴿ عليهم ﴾ ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب والإفحال، وقوله تعالى :﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾ أصله وما يخرجون ؛ لأنّ المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
﴿ يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً ﴾ فقال البيضاويّ : نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي : لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ﴾ ( المائدة، ٨٧ ) وأمّا هذه الآية، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيا أيها الناس وثم بيا أيها الذين آمنوا.
تنبيه : حلالاً مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى :﴿ طيباً ﴾ إمّا صفة مؤكدة وإما طاهراً من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال «الكشاف » : ومن للتبعيض ؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالاً حالاً، فإن جعلنا مفعولاً فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني ؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي : كلوا بعض ما في الأرض ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ أي : طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقتيل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون ﴿ إنه لكم عدوّ مبين ﴾ أي : بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم.
ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله :
﴿ إنما يأمركم بالسوء ﴾ أي : القبيح شرعاً ﴿ والفحشاء ﴾ أي : ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السُديّ : الفحشاء هي الزنا وقيل : البخل.
قال البيضاوي : واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا : ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره ؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه ﴿ و ﴾ يأمركم أيضاً ﴿ أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد.
وقوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ﴾ من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ﴾ عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل : مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ قالوا ﴾ لا نتبعه ﴿ بل نتبع ما ألفينا ﴾ أي : وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله ﴿ عليه آباءنا ﴾ من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى :﴿ أولو كان ﴾ أي : أيتبعونهم ولو كان ﴿ آباؤهم لا يعقلون شيئاً ﴾ أي : من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص ﴿ ولا يهتدون ﴾ أي : الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
﴿ ومثل ﴾ أي : صفة ﴿ الذين كفروا ﴾ ومن يدعوهم إلى الهدى ﴿ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ﴾ أي : صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال : نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل :
فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا
وأمّا ت الغراب فبالغين المعجمة والمعنى أنهم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهم. وقيل : معنى الآية مثل الذين كفروا في دعاء الأصنام التي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بالغنم ولا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه في عناء من الدعاء والنداء، كذلك الكافر ليس له من دعاء الآلهة إلا العناء والدعاء كما قال تعالى :﴿ وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ﴾ ( فاطر، ١٤ ) ثم وصف سبحانه وتعالى الكفار بصفات ذم فقال :﴿ صمّ ﴾ أي : هم صم عن سماع الحق، تقول العرب لمن يسمع ولا يعقل ما يقال له إنه أصم ﴿ بكم ﴾ عن الخير لا يقولونه ﴿ عمي ﴾ عن الهدى لا يبصرونه ﴿ فهم لا يعقلون ﴾ الموعظة لإضلال نظرهم
﴿ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ﴾ أي : حلالات { ما رزقناكم.
روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يا أيها الناس إنّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :﴿ يأيها الرسل كلوا من الطيبات ﴾ ( المؤمنون، ٥١ ) وقال :﴿ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ؟ ). ولما وسع الله تعالى الأمر على الناس كافة، وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرّم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحرّوا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال :﴿ واشكروا ﴾ على ما رزقكم وأحل لكم ﴿ إن كنتم إياه تعبدون ﴾ أي : إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم، فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه وهو يعدم عند عدمه. روى البيهقيّ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري ).
ثم بيّن سبحانه وتعالى المحرّمات بقوله :
﴿ إنما حرّم عليكم الميتة ﴾ أي : أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية وألحق بها بالسنة ما أبين من حيّ وخص منها السمك والجراد والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرّف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل كالتصرّف في المدبوغ ﴿ والدم ﴾ أي : المسفوح كما قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ أو دماً مسفوحاً ﴾. روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ) وهو في حكم المرفوع بل رفعه ابن ماجه وغيره لكن بسند ضعيف ﴿ ولحم الخنزير ﴾ أي : جميع أجزائه وعبر عن ذلك باللحم ؛ لأنه معظم المقصود منه وغيره تبع له ﴿ وما أهلّ به لغير الله ﴾ أي : ذبح على اسم غيره، والإهلال : رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم ﴿ فمن اضطرّ ﴾ أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله.
﴿ غير باغ ﴾ أي : خارج على المسلمين وقيل : مجاوز للمقدار الذي أحلّ له ﴿ ولا عاد ﴾ أي : متعدٍ على المسلمين بقطع الطريق وقيل : لا يقصر فيما أبيح له فيدعه، وقال سهل بن عبد الله : غير باغ مفارق للجماعة، ولا عاد مبتدع مخالف للسنة فلم يرخص للمبتدع في تناول المحرّم عند الضرورة. وقال مسروق : من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار. واختلف العلماء في قدر ما يحل للمضطرّ أكله من الميتة على قولين : أحدهما أن يأكل مقدار ما يمسك رمقه وهو قول ابن أبي حنيفة، والراجح عند الشافعيّ والقول الآخر يجوز أن يأكل حتى يشبع وبه قال مالك :﴿ فلا إثم ﴾ أي : لا حرج ﴿ عليه ﴾ في أكل ما ذكر وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر نون، فمن اضطرّ في الوصل والباقون يضمها.
فائدة : قال البغويّ ﴿ غير ﴾ نصب على الحال وقيل على الاستثناء وإذا رأيت غير تصلح في موضعها لا فهي حال، وإذا صلح في موضعها إلا فهي استثناء ﴿ إنّ الله غفور ﴾ لمن أكل في حال الاضطرار ﴿ رحيم ﴾ حيث رخص للعباد في ذلك.
فإن قيل : إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من محرّم لم يذكر أجيب : بأنّ المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحله الكفار لا مطلقاً وقصر ما ذكر على حال الاختيار كأنه قيل : إنما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها.
تنبيه : ألحق بالباغي والعادي كل عاص بسفره كالآبق والمكاس فلا يحلّ لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا وعليه الشافعيّ.
ونزل في علماء اليهود ورؤسائهم الذين كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المنعوت منهم، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه.
﴿ إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ﴾ المشتمل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ويشترون به ﴾ أي : بالمكتوم ﴿ ثمناً ﴾ أي : عوضاً ﴿ قليلاً ﴾ أي : يسيراً أي : المآكل التي يصيبونها من سفلتهم ﴿ أولئك ما يأكلون في بطونهم ﴾ أي : ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه ﴿ إلا النار ﴾ أي : ما يؤدّيهم إلى النار وهو الرشوة وثمن الدين، ولما كان يقضي بهم إلى النار ؛ لأنها عقوبة عليهم فكأنهم أكلوا النار، وقيل : معناه أنه يصير ناراً في بطونهم ﴿ ولا يكلمهم الله يوم القيامة ﴾ أي : لا يكلمهم بالرحمة ربما يبشرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ أو يكون عليهم غضبان كما يقال : فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان لما ثبت بالنصوص أنه تعالى يسألهم والسؤال كلام، فحمل نفي الكلام على الغضب فهو كناية ويجوز بقاء الكلام على ظاهره وتحتمل نصوص السؤال على أنه يقع بألسنة الملائكة ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي : ولا يطهرهم من دنس الذنوب ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم وهو النار.
﴿ أولئك الذين اشتروا ﴾ أي : استبدلوا ﴿ الضلالة بالهدى ﴾ فأخذوها بدله في الدنيا ﴿ و ﴾ استبدلوا ﴿ العذاب بالمغفرة ﴾ أي : المعدّة لهم في الآخرة لو لم يكتموا الحق للمطامع والأغراض الدنيوية ﴿ فما أصبرهم على النار ﴾ أي : ما أشدّ صبرهم وهو تعجب للمؤمن من ارتكاب موجباتها من غير مبالاة وإلا فأيّ صبر لهم كما قال الحسن : والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار. وقال الكسائي : فما أصبرهم على عمل أهل النار أي : ما أدومهم عليه.
روي عن الكسائي أنه قال : قال لي قاضي اليمن بمكة : اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال : ما أصبرك على عذاب الله تعالى.
﴿ ذلك ﴾ أي : الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده ﴿ بأنّ ﴾ أي : بسبب أنّ ﴿ الله نزل الكتاب ﴾ وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ متعلق بنزل فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان وقوله تعالى :﴿ وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب ﴾ اللام فيه إما للجنس واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعضها، وإما للعهد وحينئذٍ الإشارة إما للتوراة واختلافهم حيث آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها بكتمه، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم : سحر وتقوّل وكلام علمه بشر وأساطير الأوّلين ﴿ لفي شقاق ﴾ أي : خلاف ﴿ بعيد ﴾ عن الحق.
واختلف في المخاطب بقوله تعالى :
﴿ ليس البرّ ﴾ أي : وهو كلّ فعل مرضي ﴿ أن تولّوا وجوهكم ﴾ أي : في الصلاة ﴿ قبل المشرق والمغرب ﴾ على قولين : أحدهما أنهم المسلمون، والثاني أهل الكتابين، فعلى الأوّل معناه ليس البرّ كله في الصلاة ولكن البرّ ما في هذه الآية، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء. وعلى الثاني ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب وصلاة النصارى إلى المشرق، فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كل طائفة أنّ البرّ هو التوجه إلى قبلته، فردّ الله تعالى عليهم وقال : ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما في هذه الآية قاله قتادة والربيع ومقاتل، وقال قوم هو عام لهم وللمسلمين أي : ليس البرّ مقصوراً بأمر القبلة. وقرأ حفص وحمزة بنصب البر على أنه خبر مقدّم، والباقون برفعه وقوله تعالى :﴿ ولكنّ البر من آمن ﴾ على تأويل حذف المضاف أي : بر من آمن أو بتأويل البرّ بمعنى ذي البر أي : ولكن البرّ الذي ينبغي أن يهتمّ به بر من آمن أو لكن ذا البرّ من آمن ﴿ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب ﴾ أي : الكتب إن أريد به الجنس وإلا فالقرآن ﴿ والنبيين ﴾ والتأويل الأوّل أولى ؛ لأن السابق في الآية إنما هو نفي كون البر، تولية الوجه والذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى. وقرأ نافع وابن عامر بكسر نون ولكن مخففة ورفع راء البر والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب الراء والنبيين تقدّم أنّ نافعاً يقرؤه بالهمزة والباقون على البدل وورش على أصله من المدّ والتوسط والقصر.
﴿ وآتى المال على ﴾ أي : مع ﴿ حبه ﴾ له كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أيّ الصدقة أفضل ؟ :( أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش أي الحياة وتخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ). قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وقيل : الضمير لله أي : على حب الله ﴿ ذوي القربى ﴾ أي : القرابة قال صلى الله عليه وسلم ( الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة ) ﴿ واليتامى ﴾ جمع يتيم وتقدّم تعريفه ﴿ والمساكين ﴾ جمع مسكين وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه بخلاف الفقير، فإنه من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من كفايته وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في سورة براءة ﴿ وابن السبيل ﴾ أي : المسافر يقال للمسافر : ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل : هو الضيف ينزل بالرجل، قال صلى الله عليه وسلم :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) ﴿ والسائلين ﴾ أي : الطالبين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، قال صلى الله عليه وسلم :( للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه ) رواه الإمام أحمد. وفي رواية :( ردّوا السائل ولو بظلف محرق ) ﴿ وفي الرقاب ﴾ أي : فكها معاونة المكاتبين وقيل : فرض الأسراء وقيل : ابتياع الرقاب لعتقها ﴿ وأقام الصلاة ﴾ المفروضة ﴿ وآتى الزكاة ﴾ المفروضة.
فإن قيل : قد ذكر إتيان المال في هذه الوجوه ثم ثنى بإتيان الزكاة، فقد دل ذلك على أنّ في المال حقاً سوى الزكاة أجيب : بأنّ المتقدّم في التطوّع، وإن قال الشعبي : إنّ في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية، ففي الحديث :«نسخت الزكاة كل صدقة ». رواه الدارقطني والبيهقيّ أي : نسخت الزكاة وجوب كل صدقة. وروي ليس في المال حق سوى الزكاة ﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾ فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا أو نذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدّوا.
تنبيه : الموفون عطف على من آمن وقيل : رفع على المبتدأ والخبر أي : وهم الموفون وقوله تعالى :﴿ والصابرين في البأساء ﴾ أي : شدة الفقر ﴿ والضرّاء ﴾ أي : المرض ﴿ وحين البأس ﴾ أي : وقت شدّة القتال في سبيل الله تعالى نصب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال.
وروي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال : كنا إذا حمي البأس أي : اشتدّ الحرب ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه ﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بما ذكر ﴿ الذين صدقوا ﴾ في الدين واتباع الحق وطلب البر ﴿ وأولئك هم المتقون ﴾ الله التاركون للكفر وسائر الرذائل.
قال البيضاويّ رحمه الله تعالى : والآية كما ترى جامعة للكمالات الإنسانية بأسرها دالة عليها صريحاً أو ضمناً، فإنها بكثرتها وتشعبها منحصرة في ثلاثة أشياء : صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس، وقد أشير إلى الأوّل بقوله تعالى :﴿ من آمن ﴾ إلى ﴿ والنبيين ﴾ وإلى الثاني بقوله تعالى :﴿ وآتى المال ﴾ إلى ﴿ وفي الرقاب ﴾ وإلى الثالث بقوله :﴿ وأقام الصلاة ﴾ إلى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظراً إلى إيمانه واعتقاده وبالتقوى اعتباراً بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام :( من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ).
ونزل في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهما قتلى وجراحات يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام وكان لأحد الحيين طول على الآخر في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، فأقسموا لنقتلنّ بالعبد الحرّ منهم وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ يأيها الذين آمنوا كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليكم القصاص ﴾ وهو المساواة والمماثلة ﴿ في القتلى ﴾ وصفاً وفعلاً ﴿ بالحرّ ﴾ يقتل ﴿ الحرّ ﴾ ولا يقتل بالعبد ﴿ و ﴾ يقتل ﴿ العبد بالعبد و ﴾ يقتل ﴿ الأنثى بالأنثى ﴾ وبينت السنة أنّ الذكر يقتل بالأنثى وأنّ المماثلة تعتبر في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر. وللأئمة في ذلك خلاف وأدلة مذكورة في الفقه، وكلهم على هدى من ربهم ﴿ فمن عفي له ﴾ أي : من القاتلين ﴿ من ﴾ أي : دم ﴿ أخيه ﴾ المقتول ﴿ شيء ﴾ بأن ترك القصاص منه، وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ولو من بعض الورثة. وفي ذكر أخيه تعطف على العفو وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان. ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخبر ﴿ فاتباع ﴾ أي : فعلى العافي اتباع للقاتل ﴿ بالمعروف ﴾ بأن يطالبه بالدية بلا عنف، وترتيب الاتباع على العفو يفيد أنّ الواجب أحدهما، وهو أحد قولي الشافعيّ، والثاني وهو الأصح عنده الواجب القصاص عيناً، والدية بدل عنه، فلو عفا ولم يسمها فلا شيء.
فإن قيل : إن عفا يتعدّى بعن لا باللام فما وجه قوله فمن عفي له أجيب : بأن عفا يتعدّى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه قال تعالى : عفا الله عنك وقال : عفا الله عنها، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل : عفوت لفلان عما جنى كما تقول : غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل : فمن عفي له عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية ﴿ وأداء ﴾ أي : وعلى القاتل أداء الدية ﴿ إليه ﴾ أي : العافي وهو الوارث ﴿ بإحسان ﴾ أي : بلا مطل ولا بخس ﴿ ذلك ﴾ الحكم المذكور في العفو والدية ﴿ تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ لما فيه من التسهيل والنفع ؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث : القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً. ﴿ فمن اعتدى ﴾ أي : ظلم القاتل بأن قتله ﴿ بعد ذلك ﴾ أي : العفو على الدية أو مجاناً ﴿ فله عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بالقتل أو أخذ الدية إن عفى عنها.
وقوله تعالى :
﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ كلام في غاية الفصاحة والبلاغة حيث جعل الشيء محل ضدّه وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. قال الزمخشريّ : وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة ويقع بينهم التشاجر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لأنّ القاصد للقتل ؛ إذا علم أنه إن قتل يقتل يمتنع فيكون فيه بقاؤه وبقاء من يهتم بقتله. . وفي المثل :( القتل أنفى للقتل ) وقيل في المثل :( القتل قلل القتل ) وقيل : المراد بالحياة، الحياة الأخروية، فإنّ القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة. هذا بالنسبة للآدميّ وأمّا بالنسبة لله تعالى، فإن تاب فكذلك وإلا فهو تحت المشيئة، ثم نادى ذوي العقول الكاملة بقوله :﴿ يا أولي الألباب ﴾ للتأمّل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، ثم بين سبحانه وتعالى مشروعية ذلك بقوله :﴿ لعلكم تتقون ﴾ القتل مخافة القود، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.
﴿ كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ أي : حضرت أسبابه وظهرت أماراته ﴿ إن ترك خيراً ﴾ أي : مالاً نظيره قوله تعالى :﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ ( البقرة، ٢٧٢ ) وقيل : مالاً كثيراً لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رجلاً أراد الوصية فسألته : كم مالك ؟ فقال : ثلاثة آلاف، فقالت : كم عيالك ؟ قال : أربعة قالت : إنما قال الله تعالى إن ترك خيراً، وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك.
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم فمنعه وقال : قال الله تعالى :﴿ إن ترك خيراً ﴾ والخير هو المال الكثير وقوله تعالى :﴿ الوصية ﴾ مرفوع بكتب. وذكر فعلها للفاصل. ولأنها بمعنى أن يوصي ولذلك ذكر الراجع في قوله : فمن بدّله بعدما سمعه، والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدّمه عليها، وجواب أنّ أي : فليوص ﴿ للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾ بالعدل فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث لما روي عن سعيد بن مالك رضي الله تعالى عنه قال :( جاءني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله أوصي بمالي كله قال : لا قلت : فالشطر قال : لا قلت : فالثلث قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس بأيديهم ) أي : يسألون الناس الصدقة بأكفهم، وقوله تعالى :﴿ حقاً ﴾ مصدر. قال البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وغيره مؤكد لمضمون الجملة قبله أي : حق ذلك حقاً، وردّه أبو حيان بأنّ قوله تعالى على المتقين متعلق بحقاً أو صفة له، وكل منهما يخرجه عن التأكيد، أما الأوّل فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل إلى حرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل، وأمّا الثاني فلأنّ حقاً مصدر مخصص بالصفة فلا يكون مؤكداً. وقيل : حقاً نعت لمصدر كتب أوأوصى، أي : كتباً أو إيصاء حقاً، وقيل : حال من مصدر أحدهما معرّفاً، وقيل : نصب على المفعولية، أي : جعل الوصية حقاً ﴿ على المتقين ﴾ الله وهذا منسوخ بآية المواريث وبقوله : صلى الله عليه وسلم ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) بناءً على الأصح من أن الكتاب ينسخ بالسنة وإن لم تتواتر، وبذلك ظهر ما في قول بعضهم : إنّ الكتاب لا ينسخ بالسنة وإن الحديث من الآحاد.
﴿ فمن بدّله ﴾ أي : غيره من الأوصياء والشهود ﴿ بعدما سمعه ﴾ أي : وصل إليه علمه وتحقق عنده ﴿ فإنما إثمه ﴾ أي : الإيصاء المبدل ﴿ على الذين يبدّلونه ﴾ والميت بريء منه، وفي هذا إقامة الظاهر مقام المضمر ﴿ إنّ الله سميع ﴾ لما وصى به الموصي ﴿ عليم ﴾ بفعل الوصي فيجازيه عليه، وفي هذا وعيد للمبدّل بغير حق.
﴿ فمن خاف من موص ﴾ أي : توقع وعلم كقوله تعالى :﴿ فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ﴾ ( البقرة، ٢٢٩ ) أي علمتم وقرأ حمزة بإمالة الألف بعد الخاء من خاف حيث جاء، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الواو من موص وتشديد الصاد، والباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد ﴿ جنفاً ﴾ أي ميلاً عن الحق بالخطأ في الوصية ﴿ أو إثماً ﴾ بأن تعمد الحيف في الوصية ﴿ فأصلح بينهم ﴾ بين الوصي والموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع ﴿ فلا إثم عليه ﴾ في هذا التبديل ؛ لأنه تبديل ؛ باطل إلى الحق بخلاف الأوّل ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ فيه وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليكم الصيام ﴾ هو لغة : الإمساك عما تنازع فيه النفس ومنه قوله تعالى :﴿ فقولي إني نذرت للرحمن صوماً ﴾ ( مريم، ٢٦ ) أي : صمتاً ؛ لأنه إمساك عن الكلام. وفي الشرع : الإمساك عن المفطرات مع النية فإنها معظم ما تشتهيه النفس ﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله تعالى عنه : أوّلهم آدم يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم.
وفي قوله تعالى :﴿ كتب عليكم ﴾ الخ. . توكيد للحكم، وترغيب على الفعل، وتطييب على النفس. وفي موضع التشبيه في كاف كما كتب قولان : أحدهما أنّ التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده. قال سعيد بن جبير : كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم أنه لم يحل له أن يطعم إلى الليلة القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت، وقد أرخص لكم هذا، فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث ﴾ ( البقرة، ١٨٧ ) الآية فإنها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين، والثاني : إنه كصومهم في عدد الأيام، لما روي أنّ رمضان كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان أي : وهو بضم الميم موت يقع على الماشية فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده، فجعلوه خمسين وقيل : كان يقع في الحرّ الشديد وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرّهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع وقالوا : نزيد عشرين يوماً تكفر ما صنعنا. قال السديّ عن مشايخه، وقيل : زادوا فيه عشرة أيام أولاً كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوماً ثم أن ملكهم اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو شفي من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال : أتموه خمسين يوماً وعلى هذا تكون الآية محكمة لا منسوخة.
﴿ لعلكم تتقون ﴾ بصومكم للمعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام :" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة أي : مؤن ) النكاح فليتزوّج ؛فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "، أي : قاطع لشهوته أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ؛ لأن الصوم شعارهم.
وقوله تعالى :
﴿ أياماً ﴾ نصب بصوموا مقدّراً بينهما لدلالة الصيام عليه بالصيام لوقوع الفصل بينهما ﴿ معدودات ﴾ أي : قلائل كقوله تعالى :﴿ دراهم معدودة ﴾ ( يوسف، ٢٠ ) وأصله أنّ المال القليل يقدر بالعدد ويحكر فيه، والكثير يهال هيلاً ويحثى حثياً، أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي، وقلله تسهيلاً على المكلفين وقيل : هي عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر كتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر ثم نسخت بشهر رمضان ﴿ فمن كان منكم مريضاً ﴾ مرضاً يضرّه الصوم ويعسر معه ﴿ أو على سفر ﴾ أي : مسافراً سفر قصر ﴿ فعدّة من أيام أخر ﴾ أي : فعليه صوم عدّة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط وهو إن أفطر، والمضاف وهو صوم والمضاف إليه وهو أيام المرض والسفر للعلم بها.
واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر، والأصح فيه ما قدّرناه. وذهب أهل الظاهر إلى أنّ ما ينطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر، وهو قول ابن سيرين : فقد دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه، وفي السفر الذي يباح فيه الفطر والأصح فيه أيضاً ما قدّرناه وهو مرحلتان.
وقال الأوزاعي : أقله مرحلة، وقال أبو حنيفة وأصحابه : ثلاثة أيام ﴿ وعلى الذين يطيقونه ﴾ أي : إن أفطروا ﴿ فدية ﴾ هي ﴿ طعام مسكين ﴾ أي : قدر ما يأكله في يوم وهو مدّ على الأصح من غالب قوت بلده وقال بعضهم : نصف صاع من القمح أو صاع من غيره وقال بعضهم : ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره وقال ابن عباس : يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها، فذهب أكثرهم إلى أنها منسوخة، وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا وإنما خيرهم الله تعالى ؛ لأنهم كانوا لم يتعوّدوا الصيام ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ قال ابن عباس : إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد، فإنها باقية بلا نسخ في حقهما، وذهب جماعة منهم إلى أن لفظة لا مقدّرة في الآية أي : وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فدية وهو قول سعيد بن جبير وجعل الآية محكمة، وقرأ نافع وابن ذكوان بغير تنوين في فدية وخفض الميم من طعام والباقون بتنوين فدية ورفع الميم من طعام، وقرأ نافع وابن عامر مساكين بفتح الميم والسين وألف بعد السين وفتح النون، والباقون بكسر الميم وسكون السين ولا ألف بعدها وكسر النون منونة ﴿ فمن تطوّع خيراً ﴾ بالزيادة على القدر المذكور في الفدية ﴿ فهو ﴾ أي : التطوع ﴿ خير له ﴾ فيثيبكم الله عليه ﴿ وأن تصوموا ﴾ أي : أيها المطيقون مبتدأ خبره ﴿ خير لكم ﴾ أي : من الإفطار والفدية ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي : ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمّة وجواب : إن كنتم محذوف دلّ عليه خير لكم أي : فالصوم خير لكم.
وقوله تعالى :
﴿ شهر رمضان ﴾ مبتدأ خبره ما بعده أو بدل من الصيام في قوله :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن قدر مضاف أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان أو الشهر من الشهور، ورمضان مصدر رمض إذا أحرق فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون.
فإن قيل : إذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله صلى الله عليه وسلم :( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه ) وقوله صلى الله عليه وسلم :( من أدرك رمضان فلم يغفر له ) أجيب : بأنّ ذلك على حذف المضاف لأمن اللبس، قال التفتازاني : وجاز الحذف من الإعلام وإن كان من قبيل حذف بعض الكلمة ؛ لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف والمضاف إليه حيث أعربوا الجزأين. وإنما سماه العرب بذلك إمّا لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، وإمّا لارتماض الذنوب فيه. وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمضان الحر قال أئمة اللغة : كان أسماء الشهور في اللغة القديمة : مؤتمر ناجر خوان وبصان حنين ورنه الأصم وعل ناتق عادل هواع يراك، فغيرت إلى محرّم صفر ربيع الأوّل ربيع الثاني جمادى الأول جمادى الثانية رجب شعبان رمضان شوّال ذي القعدة ذي الحجة على الترتيب. وسمي المحرم لتحريم القتال فيه وصفر لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، والربيعان لارتباع الناس فيهما أي : إقامتهم، وجماديان لجمود الماء فيهما، ورجب لترجيب العرب إياه أي : تعظيمهم له، وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان لرمض الفصال فيه، وشوّال لشول أذناب اللواقح فيه، وذو القعدة للقعود فيه عن الحرب، وذو الحجة لحجهم فيه ﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم تنزل منجماً إلى الأرض وقيل : ابتدىء فيه إنزاله، وكان ذلك ليلة القدر. وقيل : أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم ( نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ) رواه الإمام أحمد وغيره.
تنبيه : قال ابن عادل : يروى أنّ جبريل عليه السلام نزل على آدم اثنتي عشرة مرّة، وعلى إدريس أربع مرّات، وعلى إبراهيم اثنين وأربعين مرّة، وعلى نوح خمسين مرّة، وعلى موسى أربعمائة مرّة، وعلى عيسى عشر مرّات، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرّة، وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الراء وتصير الراء مفتوحة وألف بعدها في المعرف والمنكر حيث جاء وكذا يقرأ حمزة في الوقف وقوله تعالى :﴿ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾ حالان من القرآن أي : أنزل وهو هداية للناس لإعجازه من الضلالة إلى الحق وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحق ويفرق بينه وبين الباطل مما فيه من الحكم والأحكام.
فإن قيل : فما معنى قوله : وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس ؟ أجيب : بأنه تعالى ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق به الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال ﴿ فمن شهد ﴾ أي : حضر ﴿ منكم الشهر فليصمه ﴾ وقوله تعالى :﴿ ومن كان مريضاً أو على سفر ﴾ أي : فأفطر ﴿ فعدّة من أيام أخر ﴾ تقدّم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ أي : يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر، ولذلك أباح لكم الفطر في المرض والسفر. واختلفوا هل الفطر في السفر أفضل أو الصوم ؟ والأصح أنه إن شق عليه الصوم فالفطر أفضل وإلا فالصوم. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا : لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء، واحتجوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم ( ليس من البرّ الصيام في السفر ) وأجاب الأوّل عن الحديث بأنه محمول على من يشق عليه الصوم، فقول جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا صائم فقال صلى الله عليه وسلم :( ليس من البرّ الصيام في السفر ) والدليل على جواز الصوم في السفر قول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه :( كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ). وقوله تعالى :﴿ ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ﴾ أي : الله على نعمه، علل لفعل محذوف دلّ عليه ما سبق، أي : وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بالقضاء، وبمراعاة عدّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله تعالى :﴿ ولتكملوا العدّة ﴾ علّة الأمر بمراعاة العدّة، وقوله تعالى :﴿ ولتكبروا ﴾ علّة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، وقوله تعالى :﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ علّة الترخيص من تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدّ نوعاً من اللف والنشر لطيف المسلك. ومعنى التكبير تعظيم الله تعالى بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدّي بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، وقيل : تكبير عيد الفطر وقيل : التكبير عند الإهلال، وقرأ شعبة ولتكملوا بفتح الكاف وتشديد الميم والباقون بسكون الكاف وتخفيف الميم.
تنبيه : ورد في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين أخبار منها ما رواه أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ومردة الجنّ وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ) ومنها ما رواه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه ).
ومنها ما رواه سلمان قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال :( أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه الرزق ؛ من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، قالوا : يا رسول الله ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذْقَة لبن أو تمرة أو شربة من ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله عز وجل من حوضِي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى لكم عنهما فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأمّا اللتان لا غنى لكم عنهما : فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار ).
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى :( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، الصوم جنة ).
وعن سهل بن سعد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( في الجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون ) وعن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصائم : رب إني منعت الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ).
وسأل جماعة النبيّ صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ أي : فقل لهم إني قريب، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، ونحوه قوله تعالى :﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾ ( ق، ١٦ ) وقوله تعالى :﴿ أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ أي : بإنالته ما سأل تقرير للقرب، ووعد للداعي بالإجابة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، واختلف عن قالون فيهما والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل : ما وجه قوله تعالى :﴿ أجيب دعوة الداع ﴾ وقوله :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ ( غافر، ٦٠ ) وقد يدعى كثيراً فلا يجيب ؟ أجيب : بأنهم اختلفوا في معنى الآيتين فقيل : معنى الدعاء هنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب، وقيل : معنى الآيتين خاص وأن لفظهما عام، تقديره : أجيب دعوة الداع إن شئت كما قال تعالى :﴿ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ ( الأنعام، ٤١ ) أو أجيب دعوة الداع إن وافق القضاء، أو أجيبه إن كانت الإجابة خيراً له، أو أجيبه إن لم يسأل محالاً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل ) قالوا : وما الاستعجال يا رسول الله ؟ قال : يقول قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي فيتحسر عند ذلك فيدع، أي : يترك الدعاء ) وقيل : هو عام، ومعنى قوله أجيب أي : أسمع ويقال : ليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة، فأما إعطاء الأمنية فليس بمذكور فيها، وقد يجيب السيد عبده، أو الوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله، فالإجابة لا محالة عند حصول الدعوة، وقيل : معنى الآية : أنه لا يخيب دعاءه، فإن قدر له ما سأل أعطاه، وإن لم يقدر له ادخر الثواب له في الآخرة، أو كف عنه به سوءاً لقوله صلى الله عليه وسلم :( ما على الأرض رجل مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء بمثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ). وقيل : إنّ الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته، ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته. وقيل : إنّ للدعاء آداباً وشرائط، وهي أسباب الإجابة، فمن استكملها كان من أهل الإجابة، ومن أخلّ بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الجواب. ﴿ فليستجيبوا لي ﴾ إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني بمهماتهم، وقوله تعالى :﴿ وليؤمنوا بي ﴾ أمر بالثبات والمداومة على الإيمان ﴿ لعلهم ﴾ أي : لكي ﴿ يرشدون ﴾ والرشد إصابة الحق.
﴿ أحل لكم ليلة الصيام ﴾ أي : الليلة التي تصبحون منها صائمين ﴿ الرفث إلى نسائكم ﴾ الرفث : كناية عن الجماع ؛ لأنه لا يكاد يخلو عن رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ الوطء والجماع، فإنه يجب أن يكنى عنه بلازم من لوازمه كالرفث وعُدّي بإلى لتَضَمُّنه معنى الإفضاء، وكني عن الجماع هنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله :﴿ وقد أفضى بعضكم إلى بعض ﴾ ( النساء، ٢١ ) استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذلك سماه فيما يأتي خيانة قال : ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ الله تعالى حيّ كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول، فالرفث إنما عني به الجماع، وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والنساء إلى أوان العشاء الآخرة، أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة، ثم إنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسوّلت لي نفسي، فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( ما كنت جديراً بذلك يا عمر ) فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه هذه الآية، وفي تجويز المباشرة في جميع الليل دليل على جواز تأخير الغسل إلى الفجر وصحة صوم الصبح جنباً.
﴿ هن لباس ﴾ أي : سكن ﴿ لكم وأنتم لباس ﴾ أي : سكن ﴿ لهنّ ﴾ كما قال تعالى :﴿ وجعل منها زوجها ليسكن إليها ﴾ ( الأعراف، ١٨٩ ) وكما قيل : لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا
والضجيع : المضاجع، وما زائدة، وثنى عطفها : أمال شقها، وتثنت مالت، والشاهد في قوله : فكانت عليه لباساً وقيل : إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور، كما جاء في الخبر :( من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه ).
﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ أي : تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره، وقال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية.
﴿ فتاب عليكم ﴾ أي : قبل توبتكم ﴿ وعفا عنكم ﴾ أي : محا ذنوبكم، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي ﴿ فالآن ﴾ أي إذا نسخ عنكم التحريم ﴿ باشروهن ﴾ أي : جامعوهنّ حلالاً، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه ﴿ وابتغوا ﴾ أي : واطلبوا ﴿ ما كتب الله لكم ﴾ أي : ما قسم لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي : لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، أو قصد العفة، وقال مجاهد : ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه، وقال مقاتل : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع. في اللوح المحفوظ، وقيل : وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل : هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر.
فقوله تعالى :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ﴾ أي : الصادق، نزل في رجل من الأنصار، قال عكرمة : اسمه أبو قيس، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، فقال لامرأته : قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال :( يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحاً، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ).
وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : من الفجر عن بيان الخيط الأسود ؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض، فإنما يبدو بعض الفجر، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر.
فإن قيل : كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال :( إن كان وسادك إذاً لعريضاً ) وروي :( إنك لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل ) أجيب : بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر.
فإن قيل : كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد ؟ أجيب : بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم. ﴿ ثم أتموا الصيام ﴾ من الفجر ﴿ إلى الليل ﴾ أي : إلى دخوله بغروب الشمس، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ) أي : دخل وقت إفطاره.
تنبيه : إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط، وهو ينقضي كذلك، وفي الآية دليل على نفي الوصال ؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه، وما بعدها يخالف ما قبلها. ﴿ ولا تباشروهنّ ﴾ أي : نساءكم ﴿ وأنتم عاكفون ﴾ أي : مقيمون ﴿ في المساجد ﴾ بنية الاعتكاف، والمراد بالمباشرة الوطء، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وأن يكون في المسجد لا في غيره ؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها فيها، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده ؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) ﴿ تلك ﴾ الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى :﴿ الآن باشروهنّ ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ في المساجد ﴾ ﴿ حدود الله ﴾ حدها لعذابه ليقفوا عندها ﴿ فلا تقربوها ﴾ نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل ؛ لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى عنه، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى ﴿ فلا تعتدوها ﴾ ( البقرة، ٢٢٩ )، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له ؛ ليصح النهي عن قربانها، ويجوز أن يراد بحدود الله محارمه ونواهيه. وعلى هذا فالنهي عن القربان ظاهر كما قال عليه الصلاة والسلام :( إنّ لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) رواه الشيخان ﴿ كذلك ﴾ أي : كما بيّن لكم ما ذكر ﴿ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾ أي : لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي فينجوا من العذاب.
﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم ﴾ أي : لا يأكل بعضهم مال بعض ﴿ بالباطل ﴾ أي : الحرام شرعاً كالغصب والسرقة وقوله تعالى :﴿ وتدلوا ﴾ مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار أن، والإدلاء الإلقاء ؛أي : ولا تلقوا ﴿ بها ﴾ أي : بحكومتها وبالأموال رشوة ﴿ إلى الحكام لتأكلوا ﴾ بالتحاكم ﴿ فريقاً ﴾ أي : طائفة ﴿ من أموال الناس بالإثم ﴾ أي : بما يوجب إثماً كشهادة الزور واليمين الكاذبة أو متلبس بالإثم، فالباء إمّا للسببية فتكون متعلقة بتأكلوا، أو للمصاحبة فتتعلق بمحذوف، وتكون مع مدخولها حالاً من فاعل تأكلوا ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم مبطلون، فإن ارتكاب المعصية مع العلم أقبح.
روي ( أن عبدان الحضرمي ادّعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بينة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهمّ بالحلف فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ﴾ ( آل عمران، ٧٧ ) فارتدع عن اليمين، وسلّم الأرض لعبدان ) فنزلت، وهو دليل على أنّ حكم القاضي لا ينفذ في باطن الأمر وفيه خلاف ظاهر، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لخصمين اختصما إليه :( إنما أنا بشر وأنتم تختصمون لديّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته أي : أقوم وأقدر عليها من بعض فأقضي له على ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار ) قبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي، فقال :( اذهبا وتواخيا ثم استهما ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه ) و( سأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ويستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود دقيقاً كما بدا ولا يكون على حالة واحدة كالشمس ؟ فنزل :
﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن الأهلة ﴾ جمع هلال مثل رداء وأردية، والهلال اسم له : أوّل الليلة الأولى والثانية والثالثة، وبعدها يسمى قمراً، وهنا سماه بأوّل حالاته لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم : استهل الصبيّ إذا صرخ حين يولد ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ هي مواقيت ﴾ جمع ميقات أي : معالم ﴿ للناس ﴾ يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصيامهم وإفطارهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدّة حملهنّ وغير ذلك.
وقوله تعالى :﴿ والحج ﴾ عطف على الناس أي : يعلمون بها وقته أداء وقضاء، هذه هي الحكمة الظاهرة في ذلك، ولهذا خالف بين الأهلة وبين الشمس فلو استمرّت الأهلة على حالة لم يعرف حال ما ذكر، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج، أو يتخذ سلماً فيه فيصعد منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً، إلا أن يكون من الحمس وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة، وبنو نضر بن معاوية، سموا حمساً لشدّتهم في دينهم، والحماسة : الشدّة والصلاة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لم دخلت من الباب وأنت محرم ؟ ) قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني أحمس » فقال الرجل : فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى ﴿ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر ﴾ أي : ذا البر ﴿ من اتقى ﴾ الله، بترك مخالفته، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام، ويختص بعلم النبوّة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك، ويهتموا بالعلم بها، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله.
﴿ وائتوا البيوت من أبوابها ﴾ في الإحرام كغيره ؛ إذ ليس في العدول برأ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
﴿ واتقوا الله ﴾ في تغيير الأحكام ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ لكي تفوزوا بالهدى والبرّ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيُوت بضمّ الباء حيث جاء معرفاً كان أو منكراً، وكسرها الباقون، ولا خلاف في وليس البرّ هنا، أنّ الراء مرفوعة للجميع، وقرأ نافع وابن عامر : ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء، ولما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون من البيت الحرام، وصالحوه على أن يرجع من قابل، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم، والإحرام والشهر الحرام، وكره المسلمون ذلك نزل.
﴿ وقاتلوا ﴾ أي : جاهدوا ﴿ في سبيل الله ﴾ لإعلاء كلمته وإعزاز دينه ﴿ الذين يقاتلونكم ﴾ من الكفار ﴿ ولا تعتدوا ﴾ عليهم بالابتداء بالقتال ﴿ إنّ الله لا يحب المعتدين ﴾ أي : لا يريد بهم الخير ؛ لأنه غاية المحبة إذ المحبة حقيقتها محال في حقه تعالى ؛ لأنها ميل النفس، وسبب ذلك أنهم كانوا منعوا من قتال الكفار وأمروا بالصبر على أذاهم بقوله تعالى :﴿ لتبلون في أموالكم ﴾ ( آل عمران، ١٨٦ ) الآية، ثم أمروا به إذا ابتدؤوا به بهذه الآية، ثم أبيح لهم ابتداؤه في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ ( التوبة، ٥ ) الآية.
أمروا به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى :﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ أي : وجدتموهم في حل أو حرم، وقرأ أبو عمرو بإدغام الثاء في الثاء بخلاف عنه، حيث جاء ﴿ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ أي : من مكة، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم عام الفتح ﴿ والفتنة ﴾ أي : الشرك منهم ﴿ أشدّ ﴾ أي : أعظم ﴿ من القتل ﴾ لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان : كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. قيل لبعض الحكماء : ما أشدّ من الموت ؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت. وقال القائل :
لقتلٌ بحد السيف أهون موقعاً على النفس من قتل بحدّ فراق
وقيل : الفتنة عذاب الآخرة كما قال تعالى :﴿ ذوقوا فتنتكم ﴾ ( الذاريات، ١٤ ).
﴿ ولا تقاتلوهم ﴾ أي : لا تبدؤوهم ﴿ عند المسجد الحرام ﴾ أي : في الحرم ﴿ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم ﴾ فيه ﴿ فاقتلوهم ﴾ فيه فإنهم هم الذين هتكوا حرمته، وقرأ حمزة والكسائي :﴿ ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم ﴾ بفتح التاء الفوقية من تقتلوهم والياء من يقتلوكم وسكون القاف ولا ألف بعد القاف وضم التاء فيهما، والباقون بفتح التاء والياء وفتح القاف وبعد القاف ألف وكسر التاء، وأمّا ﴿ فإن قاتلوكم ﴾ فحذف حمزة والكسائي الألف وأثبتها الباقون، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : حتى يقتلوا بعضكم، جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم كقول بعض العرب : قتلنا بني أسد أي : بعضهم، وقال بعضهم : وإن تقتلونا نقتلكم.
﴿ كذلك ﴾ أي : القتل والإخراج ﴿ جزاء الكافرين ﴾ أي : يفعل بهم مثل ما فعلوا.
﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الكفر وأسلموا ﴿ فإنّ الله غفور ﴾ يغفر لهم ما قد سلف ﴿ رحيم ﴾ بهم فلا يؤاخذ بذلك.
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون ﴾ أي : توجد ﴿ فتنة ﴾ أي : شرك ﴿ ويكون الدين ﴾ أي : العبادة ﴿ لله ﴾ وحده لا يعبدون سواه ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الشرك فلا تعتدوا عليهم. دل على هذا ﴿ فلا عدوان ﴾ أي : اعتداء بقتل أو غيره ﴿ إلا على الظالمين ﴾ أي : فلا تعتدوا على المنتهين ؛ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم، والفاء الأولى للتعظيم والثانية للجزاء وسمي جزاء الظالمين عدواناً للمشاكلة كقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ﴾.
﴿ الشهر الحرام ﴾ أي : المحرم مقابل ﴿ بالشهر الحرام ﴾ وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج معتمراً في ذي القعدة سنة ست، وصدّه المشركون عن البيت بالحديبية، ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع واستعظم المسلمون قتالهم في الشهر الحرام نزلت هذه الآية، أي : هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى :﴿ والحرمات قصاص ﴾ احتجاج عليه أي : كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، أي : فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، أي : كما قال تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم ﴾ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام ﴿ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ ( الشورى، ٤٠ ).
﴿ واتقوا الله ﴾ في الانتصار لأنفسكم منهم، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم ﴿ واعلموا أنّ الله مع المتقين ﴾ بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.
﴿ وأنفقوا في سبيل الله ﴾ أي : طاعته سواء الجهاد وغيره ﴿ ولا تلقوا بأيديكم ﴾ أي : بأنفسكم، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى :﴿ فبما كسبت أيديكم ﴾ ( الشورى، ٣٠ ) أي : بما كسبتم والباء زائدة ﴿ إلى التهلكة ﴾ أي : الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.
روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله، تعالى قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول : قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى :﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ ( يوسف، ٨٧ ) ﴿ وأحسنوا ﴾ أي : بالنفقة وغيرها ﴿ إنّ الله يحب المحسنين ﴾ أي : يثيبهم.
﴿ وأتموا الحج والعمرة ﴾ أي : أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما، إذ الأصل في الأمر الوجوب وما روي عن جابر أنه قال :( يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال : لا ) معارض بما روي أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه : إني وجدت أي : علمت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعاً، فقال : هديت لسنة نبيك، ولا يقال إنه فسر وجدانهما مكتوبين بقوله : أهللت بهما ؛ لأنه رتب الإهلال بهما على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس وقيل : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، روي ذلك عن عليّ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وقيل :( إن تفرد لكل واحد منهما سفراً، وقيل : أن تكون النفقة حلالاً وقيل : أن تخلصهما للعبادة ولا تشوبهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية.
﴿ فإن أحصرتم ﴾ أي : منعتم عن إتمامهما يقال : حصره وأحصره العدوّ إذا منعه قال تعالى ﴿ الذين أحصروا في سبيل الله ﴾ ( البقرة، ٢٧٣ ) وقال القائل :
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا إن أحصرتك شغول.
لكن الأشهر : أن يقال في العدوّ وحصره وفي المرض أحصره، والمراد هنا حصر العدوّ لقوله تعالى :﴿ فإذا أمنتم ﴾ ولنزول الآية في الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا حصر إلا حصر العدوّ، أما ما روي عنه عليه الصلاة والسلام :( من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل ) فمحمول على من شرطه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : لضباعة بنت الزبير :( حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني ) ومحِلي بكسر الحاء : محل الحبس والحصر ويجوز أن يكون مصدر اسمياً.
﴿ فما استيسر من الهدي ﴾ أي : فإن أردتم التحلل فعليكم ما استيسر أو فالواجب، أو فأهدوا ما استيسر من الهدي، وهو بدنة أو بقرة أو سبع من أحدهما أو شاة يذبحها، حيث أحصر في حل أو حرم عند الأكثر ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وقيل : لا بدّ أن يبعث بها إلى الحرم لقوله تعالى :﴿ ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله ﴾ ( البقرة، ١٩٦ ) أي : لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي : مكانه الذي يجب أن يذبح فيه، وحمل الأوّلون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلاً كان أو حرماً، لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجاً من خلاف أبي حنيفة واقتصاره تعالى على الهدي دليل عدم القضاء كما قاله الشافعيّ، وذهب أبو حنيفة إلى وجوب القضاء، ولا بدّ من نيّة التحلل عند الذبح أو الحلق أو التقصير بعده مع نية التحلل، وبذلك يحصل التحلل والمحل بالكسر يطلق للمكان والزمان.
﴿ فمن كان منكم مريضاً ﴾ أي : مرضاً يحوجه إلى الحلق ﴿ أو به أذى من رأسه ﴾ كقمل وصداع فحلق في الإحرام ﴿ ففدية ﴾ أي : فعليه فدية إن حلق ولو بعض شعر رأسه، ثلاث شعرات فأكثر ولاء ﴿ من صيام ﴾ وهو ثلاثة أيام ﴿ أو صدقة ﴾ وهي ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين، لكل واحد نصف صاع ﴿ أو نسك ﴾ وهو بدنة أو بقرة أو سبع واحد منهما أو شاة، وعن كعب بن عجرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :( لعلك آذاك هوامّ رأسك قال : نعم يا رسول الله قال : احلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة ) وكان كعب يقول : أنزلت فيّ هذه الآية، وللتخيير وألحق بالمعذور من حلق لغير عذر ؛ لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب والدهن واللبس لعذر أو غيره.
﴿ فإذا أمنتم ﴾ من العدوّ بأن ذهب أو كنتم في حال سعة وأمن ﴿ فمن تمتع بالعمرة ﴾ أي : بسبب فراغه منها بمحظورات الإحرام ﴿ إلى الحج ﴾ أي : الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره ﴿ فما استيسر ﴾ أي : فعليه ما تيسر ﴿ من الهدي ﴾ وهو ما تقدّم بذبحه بعد الإحرام بالحج ويجوز تقديمه على الإحرام به بعد الفراغ من العمرة ﴿ فمن لم يجد ﴾ أي : الهدي لفقده أو فقد ثمنه ﴿ فصيام ﴾ أي : فعليه صيام ﴿ ثلاثة أيام في الحج ﴾ أي : في حال إحرامه به، ولا يجوز له أن يقدّمه على الإحرام ؛ لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمه على وقته ولا تأخيره عنه، والأفضل أن يحرم قبل السادس لكراهة صوم عرفة، ولا يجب عليه أن يحرم قبل زمن يسع الصوم بل يستحب له لكن إذا أحرم وجب عليه الصوم، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر ولا أيام التشريق على أصح قولي الشافعيّ وهو ما عليه الأكثر.
﴿ وسبعة ﴾ من الأيام ﴿ إذا رجعتم ﴾ إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل : إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه النفقات عن الغيبة، وفائدة قوله تعالى :﴿ تلك عشرة ﴾ أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو كقولك جالس الحسن وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً ؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب. وفي أمثال العرب : علمان خير من علم، وأنّ المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما، وقوله تعالى :﴿ كاملة ﴾ صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد بأن لا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلة الله الله لا تقصر. أو مبينة كمال العشرة فإنه أوّل عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها وقيل : كاملة في وقوعها بدلاً من الهدي، بحيث لا يقصر ثواب الصوم عن ثواب الهدي.
﴿ ذلك ﴾ أي : الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع ﴿ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ﴾ وهم من مساكنهم دون مرحلتين من الحرم لقربهم منه والقريب من الشيء يقال : إنه حاضره قال تعالى :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ ( الأعراف، ١٦٣ ) أي : قريبة منه، وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن وتمتع فعليه ذلك، وهو أصح قولي الشافعيّ والثاني لا، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن : وهو من يحرم بالعمرة والحج معاً أو يدخل الحج عليها قبل الطواف.
﴿ واتقوا ﴾ بالمحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج ﴿ واعلموا أنّ الله شديد العقاب ﴾ لمن خالفه ليكون عملكم بشديد عقابه لطفاً لكم في التقوى.
﴿ الحج أشهر ﴾ أي : وقته كقولك البرد شهران ﴿ معلومات ﴾ وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عندنا، والعشر كله عند أبي حنيفة وذو الحجة كله عند مالك، وعلى الأوّلين إنما سمي شهرين وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكلّ، وإطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى :﴿ فقد صغت قلوبكما ﴾ ( التحريم، ٤ ) لحفصة وعائشة.
﴿ فمن فرض ﴾ على نفسه ﴿ فيهنّ الحج ﴾ بالإحرام به عندنا أو بالتلبية أو بسوق الهدي عند أبي حنيفة، وفيه دليل على أنّ من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد إحرامه بالحج، وهو قول ابن عباس وجماعة من الصحابة، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعيّ، وقال : ينعقد إحرامه عمرة ؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأشهر بفرض الحج فيها، فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص فائدة، كما أنه تعالى علق الصلاة بالمواقيت، ثم من أحرم بفرض الصلاة قبل دخول وقته لم ينعقد إحرامه عن الفرض، وإنما انعقد عمرة لأنّ الإحرام شديد التعلق، وذهب جماعة إلى أنه ينعقد إحرامه بالحج وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة، أما العمرة فجميع السنة وقت لها إلا أن يكون عليه بقية من أعمال الحج كالرمي.
﴿ فلا رفث ﴾ أي : جماع فيه كما قال ابن عباس وجماعة من الصحابة، وقيل : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقيل : هو الفحش والقول القبيح.
﴿ ولا فسوق ﴾ أي : ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات وقيل : هو السباب والتنابز بالألقاب ﴿ ولا جدال ﴾ أي : خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما ﴿ في الحج ﴾ أي : في أيامه، فنفى الثلاث على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون وما كان منها مستقبحاً في نفسه، ففي الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب بقراءة القرآن، وهو مدّ الصوت وتحسينه بحيث يخرج الحروف عن هيأتها، فإنه يقبح في كل كلام لكنه في قراءة القرآن أقبح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الثاء من رفث والقاف من فسوق، والتنوين فيهما على معنى لا يكون رفث ولا فسوق والباقون بنصبهما ولا خلاف في ﴿ ولا جدال ﴾ فالجميع بالنصب ولا تنوين على معنى الإخبار، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج، وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج، واستدل على أنّ المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم :( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه ) فإنه لم يذكر الجدال ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ كصدقة ﴿ يعلمه الله ﴾ فيه حث على الخير حيث عقب به النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق : البر والتقوى، ومكان الجدال : الوفاق والأخلاق الجميلة ﴿ وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى ﴾ أي : وتزوّدوا لمعادكم التقوى فإنها خير زاد، روى البخاري وغيره أنّ أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون، ونحن نحج بيت الله تعالى أفلا يطعمنا فيكونون كلاً على الناس فيسألونهم، وربما يفضي الحال بهم إلى النهب والغصب، فقال الله جل ذكره :﴿ وتزوّدوا ﴾ أي : ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم، قال أهل التفسير : الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها، ﴿ فإن خير الزاد التقوى ﴾ أي : ما يتقي به سؤال الناس وغيره.
﴿ واتقون يا أولي الألباب ﴾ أي : يا ذوي العقول فإن قضية اللب خشية الله تعالى وتقواه وحثهم على التقوى، ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل العريّ عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب.
﴿ ليس عليكم جناح ﴾ في ﴿ أن تبتغوا ﴾ أي : تطلبوا ﴿ فضلاً ﴾ أي : رزقاً ﴿ من ربكم ﴾ بالتجارة، في الحج نزلت ردعاً لناس من العرب كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة : الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج.
وروى البخاري : أنه كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية، يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم.
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج. وعكاظ سوق لقيس ومجنة، وهي بفتح الميم أشهر من كسرها وبفتح الجيم وتشديد النون، سوق لكنانة بمرّ الظهران، وذو المجاز وهو بفتح الميم وبالزاي سوق لهذيل.
﴿ فإذا أفضتم ﴾ دفعتم ﴿ من عرفات ﴾ وأصله أفضتم أنفسكم، فحذف المفعول كما حذفوه من دفعوا من موضع كذا، أي : دفعوا أنفسهم، واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات واليوم عرفة، فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه الصلاة والسلام المناسك ويقول : عرفت فيقول : عرفت فسمي المكان لذلك عرفات واليوم عرفة. وقال الضحاك : كان آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط وقع في الهند وحوّاء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا فسمي المكان واليوم بما ذكر. وقال السدي : لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوا بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله تعالى أن يخرج إلى عرفات ونعتها له، فلما بلغ الجمرة الأولى استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر، فطار ووقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فسمي ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي المكان واليوم بما ذكر.
فإن قيل : هلا منعت الصرف وفيها السببان : العلمية والتأنيث أجيب : بأن التأنيث لا يخلو : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :( الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج ).
﴿ فاذكروا الله ﴾ بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات وقيل : بصلاة المغرب والعشاء ﴿ عند المشعر الحرام ﴾ وهو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح، وفي الحديث ( أنه صلى الله عليه وسلم وقف به يذكر الله تعالى ويدعو حتى أسفر جدّاً ) رواه مسلم. وقال جابر ( دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بالمزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفاً حتى أصبح جداً ).
وقوله تعالى :﴿ عند المشعر الحرام ﴾ معناه مما يلي المشعر الحرام قريباً منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ويسمى مشعراً من الشعار وهي : العلامة ؛ لأنه من معالم الحج، ووصف بالحرام لحرمته وتسمى المزدلفة جمعاً ؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون، وقيل : سميت جمعاً لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء عليهما الصلاة والسلام وازدلف إليها أي : دنا منها وقيل : وصفت بفعل أهلها لأنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي : يتقرّبون بالوقوف فيها.
﴿ واذكروه كما هداكم ﴾ لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل. ﴿ وإن كنتم من قبله ﴾ أي : الهدى ﴿ لمن الضالين ﴾ أي : الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وقيل : إن هي النافية واللام بمعنى إلا كقوله تعالى :﴿ وإن نظنك لمن الكاذبين ﴾ ( الشعراء، ١٨٦ ) أي : ما نظنك إلا من الكاذبين.
﴿ ثم أفيضوا ﴾ يا قريش ﴿ من حيث أفاض الناس ﴾ وذلك أنهم وحلفاءهم ومن دان بدينهم وهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم، ويقولون : نحن أهل الله وقطان حرمه، ولا نخرج منه، فأمروا أن يساووهم، وثم للترتيب في الذكر، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : فمن فرض فيهن الجمع فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وقيل : لتفاوت ما بين الإفاضتين أي : لتراخي الثانية عن الأولى رتبة إذ الأولى هي الصواب والثانية خطأ كما في قولك : أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإنك تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم وإلى غيره وبعد ما بينهما وقيل : ثم بمعنى الواو كما في قوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ ( البلد، ١٧ ) ﴿ واستغفروا الله ﴾ من ذنوبكم في تغيير المناسك وغيره ﴿ إنّ الله غفور رحيم ﴾ يغفر ذنوب المستغفر وينعم عليه.
﴿ فإذا قضيتم ﴾ أي : أديتم ﴿ مناسككم ﴾ أي : عبادات حجكم كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، وأدغم أبو عمرو الكاف في الكاف بخلاف عنه، ولم يدغم مثلين من كلمة في القرآن إلا هنا وفي سورة المدثر وهو قوله تعالى :﴿ ما سلككم في سقر ﴾ ( المدثر، ٤٢ ).
﴿ فاذكروا الله ﴾ بالتكبير والتحميد والثناء عليه ﴿ كذكركم آباءكم ﴾ وذلك أنّ العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم، فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، وذلك أنّ الصبيّ أولّ ما يتكلم يلهج بذكر أبيه ولا يذكر غيره، فقال الله تعالى :﴿ فاذكروا الله ﴾ لا غير كذكر الصبيّ أباه.
﴿ أو أشد ذكراً ﴾ من ذكركم إياهم ونصب أشدّ على الحال المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له ﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا ﴾ نصيبنا ﴿ في الدنيا ﴾ وهم المشركون كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا، يقولون : اللهمّ أعطنا غنماً وإبلاً وبقراً وعبيداً وكان الرجل يقوم فيقول : اللهمّ إنّ أبي كان عظيم الفئة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ﴿ وما له في الآخرة من خلاق ﴾ أي : نصيب لأنّ همَّه مقصور على الدنيا.
﴿ ومنهم ﴾ أي : الناس ﴿ من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ بعدم دخولها، وهم المؤمنون، واختلفوا في معنى الحسنتين فقال عليّ رضي الله تعالى عنه : الحسنة في الدنيا : المرأة الصالحة، والحسنة في الآخرة : الجنة، يدل له قوله صلى الله عليه وسلم «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ).
وروي عنه أيضاً أنه قال :( الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء ). وقال الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، والحسنة في الآخرة الجنة. وقال السدي : الحسنة في الدنيا الرزق الحلال، والحسنة في الآخرة المغفرة والثواب، وأدغم أبو عمرو اللام في الراء بخلاف عنه.
﴿ أولئك ﴾ الداعون بالحسنتين ﴿ لهم نصيب ﴾ أي : ثواب ﴿ مما كسبوا ﴾ أي : من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، أو من أجل ما كسبوا كقوله تعالى :﴿ مما خطاياهم أغرقوا ﴾ ( نوح، ٢٥ )، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين جميعاً، وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا ﴿ والله سريع الحساب ﴾ أي : إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا وعي صدر ولا روية فكر، قال الحسن : أسرع من لمح البصر، وفي الحديث :( يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ).
﴿ واذكروا الله ﴾أي : كبروه أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها، ﴿ في أيام معدودات ﴾ أي : أيام التشريق الثلاثة وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى :﴿ دراهم معدودة ﴾ ( يوسف، ٢٠ )، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة آخرهن يوم النحر، والتكبير في الأيام المعدودات عقب كل صلاة ولو فائتة ونافلة مشروع في حق الحاج وغيره، لكن غير الحاج يكبر من صبح يوم عرفة إلى عقب عصر آخر أيام التشريق للاتباع، رواه الحاكم وصحح إسناده. وأما الحاج فيكبر من ظهر يوم النحر لأنها أوّل صلاته بمنى، ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد الفطر لعدم وروده.
﴿ فمن تعجل ﴾ أي : استعجل بالنفر من منى ﴿ في يومين ﴾ أي : في ثاني أيام التشريق بعد رمي جماره بعد الزوال عند الشافعيّ وأصحابه قال في «الكشاف » وعند أبي حنيفة وأصحابه ينفر قبل طلوع الفجر ﴿ فلا إثم عليه ﴾ بالتعجيل ﴿ ومن تأخر ﴾ حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره بعد زواله عندنا، أو قال في «الكشاف » : يجوز تقديم الرمي على الزوال عند أبي حنيفة ﴿ فلا إثم عليه ﴾ بذلك أي : هم مخيرون في ذلك.
فإن قيل : أليس التأخير أفضل ؟ أجيب : بأنّ التخيير يقع بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل عند عدم المشقة، وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً، فورد القرآن بنفي الإثم عنهما جميعاً، وذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر ﴿ لمن اتقى ﴾ الله تعالى في حجه، لأنه الحاجّ على الحقيقة عند الله تعالى، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
﴿ واتقوا الله ﴾ في مجامع أموركم ليعبأ بكم ﴿ واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.
﴿ ومن الناس من يعجبك قوله ﴾ أي : يعظم في نفسك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس، وهو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة واسمه أبيّ وسمي الأخنس، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان منافقاً حلو المنظر، حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم يحلف أنه مؤمن به ومحب له، ويقول : يعلم الله أني صادق، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه.
وقوله تعالى :﴿ في الحياة الدنيا ﴾ متعلق بالقول، أي : يعجبك ما يقول في أمور الدنيا وأسباب المعاش أو في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما يراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه إذاً في الدنيا لا في الآخرة أو يعجبك قوله في الحياة الدنيا حلاوة وفصاحة، ولا يعجبك في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الدهشة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه.
﴿ ويشهد الله على ما في قلبه ﴾ أنه موافق لكلامه ﴿ وهو ألدّ الخصام ﴾ أي : شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك وقال الحسن : ألدّ الخصام أي : كاذب بالقول، وقال قتادة : شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وفي الحديث :( إن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم ).
﴿ وإذا تولى ﴾ أي : انصرف عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ﴿ سعى ﴾ أي : مشى ﴿ في الأرض ليفسد فيها ﴾ قال ابن جرير بقطع الرحم وسفك دماء المسلمين ﴿ ويهلك الحرث والنسل ﴾ وذلك أنّ الأخنس كان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم، وقيل : وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل، وحكى الزجاج عن قوم : أنّ الحرث النساء والنسل الأولاد قال : وهذا ليس بمنكر لأنّ المرأة تسمى حرثاً أي : ويدل له قوله تعالى :﴿ فائتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ ( البقرة، ٢٢٣ ) ﴿ والله لا يحب الفساد ﴾ أي : لا يرضى به ؛ لأنّ المحبة وهي ميل القلب محالة في حقه تعالى : فهي مستعملة في حقه تعالى في معنى الرضا.
﴿ وإذا قيل له اتق الله ﴾ في فعلك ﴿ أخذته العزة ﴾ أي : حملته الأنفة والحمية على العمل ﴿ بالإثم ﴾ الذي يؤمر باتقائه ﴿ فحسبه ﴾ أي : كافيه ﴿ جهنم ﴾ جزاء وعذاباً، وهي علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار، وسميت بذلك لبعد قعرها، وأصلها من الجهم وهو الكراهة والغلظ فالنون زائدة، وقيل : معرّب نقل من العجمية إلى العربية وتصرف فيه، وأصله كهنام أبدلت الكاف جيماً وأسقطت الألف وقوله تعالى :﴿ ولبئس المهاد ﴾ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به تقديره : جهنم، والمهاد الفراش.
﴿ ومن الناس من يشري ﴾ أي : يبيع ﴿ نفسه ﴾ أي : يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ﴿ ابتغاء مرضاة الله ﴾ أي : طلباً لرضاه، وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم، فقال لهم : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله، ثم خرج إلى المدينة، فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في رجال فقال له أبو بكر :«ربح بيعك أبا يحيى » فقال : وما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك قرآناً وقرأ عليه هذه الآية، فعلى هذا يكون يشري بمعنى يشتري لا بمعنى يبيع ويبذل.
وقيل : نزلت في الزبير والمقداد بن الأسود وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة : إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة : عشرة ومن جملتهم خبيب فقتلوهم وأسروا خبيباً قال آسره : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب، والله وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً، ثم أرادوا قتله فخرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال : دعوني أصلي ركعتين فتركوه حتى صلاهما ثم قال : لولا أخشى أن تحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :
ولست أبالي حين أُقْتَل مسلماً على أيّ شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم صلبوه حياً فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، ثم قام عقبة بن الحارث فقتله فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال :( أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟ ). فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده، فقال : يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ حيث أرشدهم لما فيه رضاه.
ونزل في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه :﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم ﴾ أي : الإسلام وقوله تعالى :﴿ كافة ﴾ حال من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، كما قال القائل :
أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع
في السلم تأخذ منا ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جزع
أي : ادخلوا في جميع شرائعه، وذلك أنهم يعظمون السبت، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأمروا أن يدخلوا في جميع شرائعه.
﴿ ولا تتبعوا خطوات ﴾ أي : طرق ( الشيطان )، أي تزيينه من تحريم السبت ولحوم الإبل وألبانها. وقرأ نافع وابن كثير والكسائي : السَّلْم بفتح السين، والباقون بكسرها، وتقدم الكلام في خطوات لابن عامر، وقنبل وحفص والكسائي بضم الطاء ﴿ إنه لكم عدوّ مبين ﴾ ظاهر العداوة.
﴿ فإن زللتم ﴾ أي : مِلْتم عن الدخول في جميعه ﴿ من بعد ما جاءتكم البينات ﴾ أي : الحجج الظاهرة أنه حق ﴿ فاعلموا أن الله عزيز ﴾ لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم ﴿ حكيم ﴾ في صنعه.
تنبيه : قول البيضاوي : حكيم لا ينتقم إلا بحق تبع فيه الزمخشري، وهو مذهب المعتزلة فإنهم يقولون : لا ينتقم إلا بقدر ما يستحقه العاصي، ومذهب أهل السنة أنه ينتقم ويعاقب من شاء بما شاء وإن كان مطيعاً ؛ إذ هو متصرّف في ملكه يفعل ما يشاء بمن شاء وإن لم يقع منه الانتقام إلا ممن أساء. وروي أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم بدل عزيز حكيم فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل ؛ لأنه إغراء عليه.
قوله تعالى :﴿ هل ينظرون ﴾ استفهام في معنى النفي أي : ما ينظرون ﴿ إلا أن يأتيهم الله ﴾ أي : أمره أو بأسه كقوله تعالى :﴿ أو يأتي أمر ربك ﴾ ( النحل، ٣٣ ) أي : عذابه وقوله تعالى :﴿ جاءهم بأسنا ﴾ ( الأنعام، ٤٣ ) أو ﴿ يأتيهم الله ببأسه ﴾ فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله تعالى :﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾.
﴿ في ظلل ﴾ جمع ظلة وهي ما أظلك ﴿ من الغمام ﴾ أي : من السحاب الأبيض سمي غماماً لأنه يغم أي : يستر، وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة وهي نزول المطر فإذا جاء منه العذاب كان أفظع ؛ لأنّ الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير.
﴿ و ﴾ تأتيهم ﴿ الملائكة ﴾ فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه. قال البغويّ : والأولى في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله تعالى منزه عن سمات الحوادث وعلى ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة انتهى.
وأما أئمة الخلف فإنهم يؤوّلون هذه الآية بنحو ما أوّلنا به وأمثالها، بحسب المقام وهو أحكم، ومذهب السلف أسلم، وكان مكحول ومالك والليث وأحمد يقولون في هذا وأمثاله : أمرّوها كما جاءت بلا كيف.
﴿ وقضي الأمر ﴾ أي : أمر هلاكهم وفرغ منهم ووضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه وتيقن وقوعه ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ في الآخرة فيجازيهم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضمّ التاء وفتح الجيم وقوله تعالى :
﴿ سل ﴾ أمر للرسول أو لكل أحد ﴿ بني إسرائيل ﴾ توبيخاً ﴿ كم آتيناهم ﴾ كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعولي آتيناهم ومميزها ﴿ من آية ﴾ أي : معجزة ﴿ بينة ﴾ أي : ظاهرة في الدلالة على صدق من جاء بها كقلب العصا حية، وإبراء الأكمه والأبرص وفلق البحر وإنزال المنّ والسلوى فبدّلوها كفراً.
﴿ ومن يبدّل نعمة الله ﴾ أي : ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية التي هي أجل النعم كفراً ﴿ من بعدما جاءته ﴾ أي : وصلته وتمكن من معرفتها ﴿ فإنّ الله شديد العقاب ﴾ فيعاقبه أشدّ عقوبة لأنه ارتكب أشدّ جريمة وهي التبديل.
﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ﴾ أي : حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية، وما خلق الله فيها من الأمور البهيمية والأشياء الشهية مزين بالعرض، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقيل : نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه وكانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد ﴿ ويسخرون من الذين آمنوا ﴾ أي : يستهزئون بالفقراء من المؤمنين قال ابن عباس : أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وخباباً وأمثالهم، وقال قتادة : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ويقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم، وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال.
﴿ والذين اتقوا ﴾ أي : الشرك وهم هؤلاء الفقراء ﴿ فوقهم يوم القيامة ﴾ لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين، أو حالهم غالبة لحالهم ؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان أو هم غالبون عليهم متطاولون يضحكون منهم، كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا، ويرون الفضل لهم عليهم، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون.
روي عن أسامة بن زيد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين، ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء، وإذا أهل الجدّ محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار ).
وروي عن سهل سعد الساعدي أنه قال : مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس :«ما رأيك في هذا ؟ » قال رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما رأيك في هذا ؟ » فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري أي حقيق إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).
﴿ والله يرزق من يشاء ﴾ في الدارين ﴿ بغير حساب ﴾ أي : رزقاً واسعاً بغير تقدير في الدنيا للكافر استدراجاً، كما وسع على قارون، وللمؤمن ابتلاء كما وسع على عبد الرحمن بن عوف، وفي الآخرة للمؤمن خاصة تفضلاً.
﴿ كان الناس أمّة واحدة ﴾ أي : متفقين على الحق.
روي عن أبي العالية عن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره، وأقرّوا بالعبودية أمّة واحدة مسلمين، ولم يكونوا أمّة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم، وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح، وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، وقال مجاهد : أراد آدم وحده كان أمّة واحدة سمي الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل وهابيل فاختلفوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمّة واحدة كافرين كلهم، فبعث الله، إبراهيم وغيره من النبيين عليهم السلام كما قال تعالى :﴿ فبعث الله النبيين ﴾ أي : اختلفوا فبعث الله وإنما حذف لدلالة فيما اختلفوا فيه عليه، وجملة الأنبياء، كما رواه الإمام أحمد مرفوعاً في حديث ورد عن كعب ( مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر ) والمذكور منهم في القرآن باسمه العلم الموضوع له ثمانية وعشرون نبياً، وهم : آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، وموسى، وهرون، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذو الكفل، وأيوب، ويونس، ومحمد، عليهم أجمعين، وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوّة الثلاثة.
﴿ مبشرين ﴾ من آمن وأطاع بالجنة ﴿ ومنذرين ﴾ من كفر وعصى بالنار ﴿ وأنزل معهم الكتاب ﴾ المراد به الجنس فهو بمعنى الكتب لكنه تعالى لم ينزل مع كل واحد كتاباً يخصه، فإنّ أكثرهم لم يكن له كتاب يخصه، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وقوله تعالى :﴿ بالحق ﴾ حال من الكتاب أي : متلبساً بالحق شاهداً به ﴿ ليحكم بين الناس ﴾ أي : الله، أو الكتاب، أو النبيّ المبعوث، ورجح الثاني التفتازاني، وقال : لا بدّ في عوده إلى الله من تكلف في المعنى أي : ليظهر حكمه، وإلى النبيّ من تكلف في اللفظ حيث لم يقل : ليحكموا، ورجح أبو حيان الأوّل، وهو الظاهر قال : والمعنى أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز كما أن إسناد النطق إليه في قوله تعالى :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ﴾ ( الجاثية، ٢٩ ) كذلك ﴿ فيما اختلفوا فيه ﴾ من الدين ﴿ وما اختلف فيه ﴾ أي : الدين ﴿ إلا الذين أوتوه ﴾ أي : الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي : عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيلاً للاختلاف سبباً لاستحكام الخلاف، فآمن بعض وكفر بعض.
﴿ من بعدما جاءتهم البينات ﴾ أي : الحجج الظاهرة على التوحيد، ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدّم على الاستثناء في المعنى ﴿ بغياً ﴾ من الكافرين ﴿ بينهم ﴾ حسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ﴿ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه ﴾ وقوله تعالى :﴿ من الحق ﴾ بيان لما اختلفوا فيه أي : فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف ﴿ بإذنه ﴾ أي : بإرادته قال ابن دريد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى المقدس، فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود : كان يهودياً وقالت النصارى : كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعله النصارى إلهاً فهدانا الله للحق فيه.
﴿ والله يهدي من يشاء ﴾ هدايته ﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ هو طريق الحق لا يضل سالكه.
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل ﴾ أي : شبه ﴿ الذين خلوا من قبلكم ﴾ من المؤمنين من المحن فتصبروا كما صبروا، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فقال قتادة : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد وشدّة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى، كما قال تعالى :﴿ وبلغت القلوب الحناجر ﴾ ( الأحزاب، ١٠ ) وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدّ عليهم الأمر ؛ لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطميناً لقلوبهم. وقيل : نزلت في حرب أحد، واختُلف في معنى أم فقال الفرّاء : الميم صلة أي : أحسبتم، وقال الزجاج : هي بمعنى بل أي : بل حسبتم، ولما بمعنى لم أي : ولم يأتكم. وقوله تعالى :﴿ مستهم البأساء ﴾ أي : شدّة الفقر ﴿ والضرّاء ﴾ أي : المرض والجزع، جملة مستأنفة مبينة لما قبلها ﴿ وزلزلوا ﴾ أي : أزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد ﴿ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه ﴾ لتناهي الشدّة واستطالة المدّة، بحيث تقطعت حبال الصبر ﴿ متى ﴾ يأتي ﴿ نصر الله ﴾ الذي وعدناه استطالة لتأخره، فأجيبوا من قبل الله ﴿ ألا إنّ نصر الله قريب ﴾ إتيانه وفي هذا إشارة إلى أنّ الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات، كما قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان وغيرهما :( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ).
وفي رواية لهم : حجبت أي : جعلت المكاره حجاباً دون الجنة فمن خرقه دخلها. والشهوات حجاب دون النار فمن اقتحمه دخلها وقرأ نافع يقول : بالرفع على أنها حكاية حال ماضية، وفائدته تصوّر تلك الحال العجيبة واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها وقرأ الباقون بالنصب.
﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ ماذا ﴾ أي : الذي ﴿ ينفقون ﴾، والسائل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخاً فانياً ذا مال عظيم، فقال : يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها ؟ فنزل :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ ما أنفقتم من خير ﴾ أي : مال قليلاً كان أو كثيراً، ﴿ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ أي : هم أولى به سأل عن المنفق فأجيب : ببيان المصرف ؛ لأنه أهمّ فإنّ اعتداد النفقة باعتباره، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكوراً في الآية، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ إنفاق وغيره ﴿ فإن الله به عليم ﴾ فيجازيكم به.
تنبيه : ليس في الآية ما ينافي فرض الزكاة لينسخ به كما قيل ؛ لأنّ الزكاة لا تعطى للوالدين ولا للأقربين من الأولاد وأولاد الأولاد، فالآية محمولة على الإنفاق على من ذكر تطوّعاً أو على الإنفاق على الفقراء من الوالدين والأولاد وأولاد الأولاد، وذلك ليس بمنسوخ.
﴿ كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليكم القتال ﴾ للكفار ﴿ وهو كره ﴾ أي : مكروه ﴿ لكم ﴾ طبعاً للمشقة ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ﴾ وهو جميع ما كلفتم به فإنه الموجب لسعادتكم، فلعل لكم في القتال وإن كرهتموه خيراً ؛ لأنّ فيه إمّا الظفر والغنيمة وإمّا الشهادة والأجر ﴿ وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم ﴾ وهو جميع ما نهيتم عنه، فإنّ النفس تحبه وتهواه، وهو يهوي بها إلى الردى، ففي ترك القتال وإن أحببتموه شرّ ؛ لأنّ فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وإنما ذكر عسى ؛ لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها ﴿ والله يعلم ﴾ ما هو خير لكم ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به.
﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن الشهر الحرام ﴾ المحرّم، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة، قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة ؛ ليترصد عيراً لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي، وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها تجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك غرّة رجب، وهم يظنونه جمادى الآخرة فقالت قريش : قد استحلّ محمد الشهر الحرام الذي يأمن فيه الخائف، ويتفرّق فيه الناس إلى معايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ الأسارى، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا : ما نبرح حتى تنزل توبتنا وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وهي أوّل غنيمة في الإسلام ) والسائلون هم المشركون، كتبوا إليه تشنيعاً وتعييراً، وقيل : أصحاب السرية قالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ( التوبة، ٥ ).
وقوله تعالى :﴿ قتال فيه ﴾ بدل اشتمال من الشهر ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ قتال فيه كبير ﴾ أي : عظيم وزر، أو قد تمّ الكلام ههنا، ثم ابتدأ فقال :﴿ وصدّ ﴾ فهو مبتدأ أي : منع الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : دينه ﴿ وكفر به ﴾ أي : الله ﴿ و ﴾ صدّ عن ﴿ المسجد الحرام ﴾ أي : مكة ﴿ وإخراج أهله منه ﴾ وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وخبر المبتدأ وما عطف عليه ﴿ أكبر ﴾ أي : أعظم وزراً ﴿ عند الله ﴾ مما فعلته السرية من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام خطأ، وبناء على الظنّ.
ومما تقرّر علم أنّ ﴿ والمسجد الحرام ﴾ معطوف على سبيل الله وقول البيضاوي : ولا يحسن عطفه على سبيل الله لأنّ عطف قوله تعالى :﴿ وكفر به ﴾ على ﴿ وصدّ ﴾ مانع منه مجاب عنه بأنّ الكفر بالله والصدّ عن سبيله متحدان معنى فكأنه لا فصل بالأجنبيّ بين سبيل الله وما عطف عليه، ويصح أيضاً أن يكون معطوفاً على الهاء من به، إذ يجوز العطف بدون إعادة الجار كما جرى عليه ابن مالك، وإن كان مذهب البصريين خلافه، وجرى عليه البيضاوي.
﴿ والفتنة ﴾ أي : الشرك منكم ﴿ أكبر من القتل ﴾ لكم فيه، فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، ومنعهم المسلمين عن البيت.
﴿ ولا يزالون ﴾ أي : الكفار ﴿ يقاتلونكم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ حتى يردّوكم عن دينكم ﴾ إلى الكفر، في ذلك إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، وحتى للتعليل لا للغاية كما قيل ؛ لأنه أفيد من حيث أنّ فيه ذكر الحامل على المقاتلة بخلاف الغاية أي : يقاتلونكم كي يردّوكم وقوله تعالى :﴿ إن استطاعوا ﴾ فيه استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت ﴾ أي : بطلت ﴿ أعمالهم ﴾ أي : الصالحة ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾ فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها، والتقييد بالموت يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله كما هو مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، حيث قال : إنّ الردّة تحبط الأعمال مطلقاً لقوله تعالى :﴿ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ﴾ ( المائدة، ٥ ) وأجيب : بأنه محمول على المقيد عملاً بالدليل، فلا يجب عليه أن يعيد الحج الذي أتى به قبل الردّة كذا غيره، لكن يبطل ثوابه كما نص عليه الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وإن خالف فيه بعض المتأخرين ﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ كسائر الكفرة.
ولما ظنّ السرية أنهم إن سلموا من الإثم فلا يحصل لهم أجر أنزل الله تعالى.
﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا ﴾ أي : فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم ﴿ وجاهدوا ﴾ المشركين ﴿ في سبيل الله ﴾ لإعلاء دينه، وكرّر سبحانه وتعالى الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد، وكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء ﴿ أولئك يرجون رحمة الله ﴾ أي : ثوابه أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأنّ العمل غير موجب، ولا قاطع في الدلالة، سيما والعبرة بالخواتيم ﴿ والله غفور ﴾ للمؤمنين لما فعلوه خطأ وقلة احتياط ﴿ رحيم ﴾ بهم بأن يجزل لهم الأجر والثواب.
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾. روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ﴾ ( النحل، ٦٧ ) كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا :( أفتنا في الخمر يا رسول الله فإنها مذهبة للعقل ) فنزلت هذه الآية، فشربها قوم وتركها آخرون، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا، فحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ ( النساء، ٤٣ ) فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير وقتها، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر، ثم إنّ عتبان بن مالك صنع طعاماً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وقد كان شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى اشتدّت فيهم، ثم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار، وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا له الأنصاري فقال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل :﴿ في الخمر والميسر ﴾ إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ ( المائدة، ٩١ ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه : انتهينا يا رب، قال القفال الحكمة في وقوع : التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق،
وسمي عصير العنب والتمر إذا اشتدّ وغلا خمراً ؛ لأنه يخمر العقل، كما سمي سكراً ؛ لأنه يسكره أي : يحجزه وهو حرام مطلقاً. وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حل شربه ما دون السكر. وسمي القمار ميسراً ؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر والمعنى يسئلونك عن تعاطيهما ؛ لقوله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ فيهما ﴾ أي : في تعاطيهما ﴿ إثم كبير ﴾ أي : عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة والباقون بالباء الموحدة.
﴿ ومنافع للناس ﴾ باللذات والفرح، ومصادقة الفتيان، وتشجيع الجبان، وتوفر المروءة، وتقوية الطبيعة في الخمر، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر ﴿ وإثمهما ﴾ أي : ما ينشأ عنهما من المفاسد ﴿ أكبر ﴾ أي : أعظم ﴿ من نفعهما ﴾ المتوقع منهما ولذا قيل : إن هذا هو المحرّم للخمر، فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، والظاهر أن المحرم لها آية المائدة كما مرّ.
﴿ ويسألونك ﴾ يا محمد ﴿ ماذا ينفقون ﴾ وذلك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا : ماذا ننفق ؟ فقال الله تعالى ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ العفو ﴾ )، قرأ أبو عمرو برفع الواو بتقدير هو والباقون بنصبها بتقدير أنفقوا، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل : أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، كما قال الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودّتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وسَوْرة الغضب : شدّته وحِدَّته، وقال قتادة وعطاء والسدّيّ : هو ما فضل عن الحاجة، وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتسبون المال، ويمسكون قدر النفقة، ويتصدّقون بالفضل بحكم هذه الآية، وقال مجاهد معناه التصدّق عن ظهر غنى.
روي :( أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال : خذها مني صدقة، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كرّر مراراً، فقال : هاتها مغضباً فأخذها، فحذفه بها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال :( يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ) قال ابن الأثير : والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال. وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ﴾ ( الفرقان، ٦٧ ) ﴿ كذلك ﴾ كما بين لكم ما ذكر ﴿ يبين الله لكم الآيات ﴾ قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل : كذلك أيها القبيل وقيل : هو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء ﴾ ( الفرقان، ١ ) ﴿ لعلكم تتفكرون ﴾.
﴿ في ﴾ زوال ﴿ الدنيا ﴾ وفنائها فتزهدوا فيها ﴿ و ﴾ في إقبال ﴿ الآخرة ﴾ وبقائها فترغبوا فيها ﴿ ويسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن اليتامى ﴾ وقد مرّ أنهم جمع يتيم، وأن اليتيم طفل لا أب له، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزل قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ ( الأنعام، ١٥٢ ) وقوله :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ ( النساء، ١٠ ) الآية تحرّج المسلمون من أموال اليتامى تحرّجاً شديداً، فإن واكلوهم يأثموا، وإن عزلوا مالهم من مالهم وصنعوا لهم طعاماً وحدهم فحرج، فاشتدّ ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ﴿ قل إصلاح لهم ﴾ أي : اليتامى في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم معهم ﴿ خير ﴾ من مجانبتكم.
﴿ وإن تخالطوهم ﴾ أي : تخلطوا نفقتهم بنفقتكم ﴿ فإخوانكم ﴾ أي : فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي : فلكم ذلك. وقيل : المراد بالمخالطة المصاهرة، ﴿ والله يعلم المفسد ﴾ لأموالهم بمخالطته ﴿ من المصلح ﴾ بها فيجازي كلاً منهما، ففي ذلك وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح.
﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ أي : لضيق عليكم بتحريم المخالطة وما أباح لكم مخالطتهم، وأصل العنت الشدّة والمشقة، ومعناه : كلفكم في كل شيء ما يشق عليكم ﴿ إنّ الله عزيز ﴾ غالب على أمره، يقدر على الإعنات وغيره ﴿ حكيم ﴾ يحكم بما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة.
﴿ ولا تنكحوا ﴾ أي : لا تتزوّجوا أيها المسلمون ﴿ المشركات ﴾ أي : الكافرات ﴿ حتى يؤمنّ ﴾.
روي ( أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها : عناق، وكانت خليلته في الجاهلية، فأتته وقالت : يا مرثد ألا تخلو فقال لها : ويحك يا عناق، إنّ الإسلام قد حال بيننا وبينك، فقالت : هل لك أن تتزوّج بي ؟ فقال : نعم ولكن أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليه قال : يا رسول الله أيحلّ لي أن أتزوّج بها ؟ فأنزلت هذه الآية )، هذا ما أورده الواحدي وغيره، ولكن الذي رواه أبو داود وغيره أنه سبب في نزول آية النور :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ﴾ ( النور، ٣ ) الآية، والآية وإن كانت شاملة للكتابيات، لكنها مخصوصة بغيرهنّ بقوله :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ﴾ ( المائدة، ٤٥ ) وقد تزوّج عثمان بنصرانية فأسلمت وتزوّج حذيفة بيهودية، وطلحة بن عبيد الله بنصرانية.
فإن قيل : كيف أطلقتم اسم الشرك على من لم ينكر إلا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسن بن فارس : لأنه يقول : القرآن كلام غير الله، ومن يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله غير الله انتهى.
وقال تعالى :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ إلى قوله :﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ ( التوبة، ٣١ ).
﴿ ولأمة مؤمنة خير من ﴾ أي : من حرّة ﴿ مشركة ولو أعجبتكم ﴾ لجمالها ومالها، نزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك، فأعتقها وتزوّج بها. وقال السديّ : نزلت في عبد الله بن رواحة، كان له أمة فأعتقها، وتزوّج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
﴿ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ﴾ أي : ولا تزوّجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا، وهذا على عمومه بإجماع ﴿ ولعبد مؤمن خير من ﴾ أي : حرّ ﴿ مشرك ولو أعجبكم ﴾ لماله وجماله وقيل : المراد بالأمة والعبد المرأة والرجل، حرّين كانا أو رقيقين ؛ لأنّ الناس عبيد الله وإماؤه ﴿ أولئك ﴾ أي : أهل الشرك ﴿ يدعون إلى النار ﴾ أي : إلى الكفر المؤدّي إلى النار، فلا تليق مصاهرتهم وموالاتهم ﴿ والله يدعو ﴾ أي : أولياءه المؤمنون، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، تفخيماً لشأنهم، أو يدعو على لسان رسله، وهذا كما قال أبو حيان : أبلغ في التباعد من المشركين إجراءً للفظ على ظاهره، والأوّل ذكر لطلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين ﴿ إلى الجنة والمغفرة ﴾ أي : العمل الصالح الموصل إليها، فهم الأحقاء بالمواصلة ﴿ بإذنه ﴾ أي : بأمر الله ورضاه على التفسير الأول، أو بقضائه وإرادته على التفسير الثاني فتجب إجابته بتزويج أوليائه ﴿ ويبين ﴾ أي : الله ﴿ آياته للناس لعلهم يتذكرون ﴾ أي : لكي يتذكروا فيتعظوا.
﴿ ويسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن المحيض ﴾ أي : الحيض أو مكانه ماذا يفعل بالنساء فيه.
روي أن أهل الجاهلية كانوا لم يساكنوا الحيض ولم يؤاكلوهنّ كفعل اليهود، فإنّ اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، واستمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ هو ﴾ أي : الحيض أو مكانه ﴿ أذى ﴾ قذر أو محله قذر.
فإن قيل : لماذا ذكر الله تعالى يسألونك بغير واو ثلاثاً ثم بها ثلاثاً ؟ أجيب : بأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذلك ذكرها بحرف الجمع، وهو واو العطف، وهي الجمع في الحكم لا الزمان، واعترض هذا الجواب بأنه كان يجب على هذا أن تدخل الواو على اثنين من الثلاثة الأخيرة ؛ لأنّ العطف يكون في الثانية والثالثة منها، وأجيب : بأنهم لما سألوا عما كانوا ينفقون، فأجيبوا بمصرف النفقة أعادوا سؤالهم بالواو ما ينفقون، فأجيبوا : بالعفو، ولما كان السؤال الثاني عن مخالطة اليتامى في النفقة، وهو مناسب لما قبله عطف بالواو، ولما كان الثالث سؤالاً عن اعتزال الحيض كما تعتزل اليتامى فناسب ما قبله في الاعتزال عطف بالواو، ولا كذلك الثلاثة الأول ؛ إذ لا تعلق بينها.
﴿ فاعتزلوا النساء ﴾ أي : اتركوا وطأهنّ ﴿ في المحيض ﴾ أي : وقته أو مكانه ؛ لأنّ ذلك هو الاقتصاد بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، وما استدلّ به البيضاوي من قوله صلى الله عليه وسلم :( إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم نأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم ) قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ في بعض التفاسير لغيره.
وقوله تعالى :﴿ ولا تقربوهنّ ﴾ أي : بالجماع ﴿ حتى يطهرن ﴾ تأكيد للحكم وبيان لغايته، وهو أن يغتسلن بعد الانقطاع، ويدل عليه صريحاً قراءة شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء أي : يتطهرن بمعنى يغتسلن والباقون بسكون الطاء وضمّ الهاء مخففة والتزاماً.
قوله تعالى :﴿ فإذا تطهرن فأتوهنّ ﴾ أي : للجماع فإنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : إن طهرت لأكثر الحيض وهو عنده عشرة أيام جاز قربانها قبل الغسل.
﴿ من حيث أمركم الله ﴾ بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدّوه إلى غيره. أمّا الملامسة فيما عدا ما بين السرّة والركبة والمضاجعة معها قبل الغسل، ولو قبل انقطاع الحيض فجائز، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :( كان يأمرني صلى الله عليه وسلم فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض ).
وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت :( حضت وأنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخميلة فانسللت فخرجت منها فأخذت ثياب حيضتي، فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفست ؟ قلت : نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة ) ﴿ إن الله يحب ﴾ أي : يثيب ويكرم ﴿ التوّابين ﴾ من الذنوب ﴿ ويحب المتطهرين ﴾ أي : المتنزهين عن الفواحش والأقذار، كمجامعة الحائض والإتيان في غير القبل.
﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ أي : مزرع ومنبت للولد كالأرض للنبات ﴿ فأتوا حرثكم ﴾ أي : محله وهو القبل ﴿ أنى ﴾ أي : كيف ﴿ شئتم ﴾ من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار.
وروى الشيخان أنّ اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته من دبرها أي : خلفها في قبلها جاء ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
﴿ وقدّموا لأنفسكم ﴾ من الأعمال الصالحة، كالتسمية عند الجماع وطلب الولد أي : ما يدخر لكم من الثواب ﴿ واتقوا الله ﴾ في أمره ونهيه ﴿ واعلموا أنكم ملاقوه ﴾ بالبعث، فتزوّدوا ما لا تُفْتَضَحون به فإنه يجازيكم بأعمالكم ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ بالكرامة والنعيم الدائم، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينصحهم ويبشر من صدقه وامتثل أمره منهم.
وقوله تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم ﴾ نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه، لما حلف أن لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك لافترائه على عائشة رضي الله تعالى عنها، أو في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه أي : زوج أخته بشير بن النعمان، ولا يصلح بينه وبين أخته.
فالعرضة كل ما يعرض فيمنع عن الشيء أي : لا تجعلوا الحلف سبباً مانعاً لكم من البرّ والتقوى يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو برّ فيقول : حلفت بالله أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البرّ كما قال تعالى :﴿ أن تبرّوا ﴾ أي : مخالفة أن لا تبرّوا، فهو في موضع نصب مفعول من أجله. وعند الكوفيين لئلا تبرّوا كقوله تعالى :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ ( النساء، ١٧٦ ) أي : لئلا تضلوا، وقال أبو إسحاق في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف أي : أن تبرّوا وتتقوا خير لكم وقيل : التقدير في أن تبرّوا، فلما حذف حرف الجرّ نصب، وقيل : هو في موضع جرّ بالحرف المحذوف.
﴿ وتتقوا وتصلحوا بين الناس ﴾ فتكره اليمين على ذلك، ويسنّ فيه الحنث ويُكَفّر، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( من حلف بيمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ) بخلافها على فعل البرّ ونحوه فهي طاعة ﴿ والله سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ بأحوالكم.
﴿ في أيمانكم ﴾ واللغو : كل مطروح من الكلام لا يعتدّ به.
واختلف أهل العلم في اللغو في اليمين المذكور في الآية، فقال قوم : هو ما سبق إلى اللسان على عجلة، لصلة كلام من غير عقد ولا قصد، كقول القائل : لا والله، وبلى والله، وكلا والله، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : لغو اليمين كقول الإنسان : لا والله، وبلى والله، ورفعه بعضهم، وبهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال قوم : هو أن يحلف على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين أنه خلاف ذلك وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال زيد بن أسلم : هو دعاء الرجل على نفسه كقول الإنسان : أعمى الله بصري إذا لم أفعل كذا، وكذا فهذا لغو لا يؤاخذ الله به، قال تعالى :﴿ ويدعو الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير ﴾ ( الإسراء، ١١ ) وقال تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم ﴾ ( يونس، ١ ).
﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ أي : قصدته من الإيمان إذا حنثتم ﴿ والله غفور ﴾ حيث لم يؤاخذكم باللغو ﴿ حليم ﴾ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ تربصاً للتوبة.
تنبيه : اليمين لا ينعقد إلا بالله العظيم، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، فاليمين بالله كأن يقول : والذي أعبده والذي نفسي بيده وبأسمائه، كأن يقول : والله والرحمن وبصفاته، كأن يقول : وعزة الله، وعظمة الله وجلال الله فإذا حلف بشيء من ذلك على أمر مستقبل، ثم حنث وجبت عليه الكفارة، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في سورة المائدة، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن، وهو عالم به حالة ما حلف فهي اليمين الغموس، وهي من الكبائر ويجب بها الكفارة، كما قاله الشافعيّ رضي الله تعالى عنه. وقال بعض العلماء : لا كفارة فيها كأكثر الكبائر. وأما الحلف بغير ما ذكر كالحلف بالكعبة وبيت الله ونبيّ الله أو بأبيه ونحوه فلا يكون يميناً ولا تجب به الكفارة إذا حنث وهو يمين مكروه.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب، وهو يحلف باسمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).
﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ أي : يحلفون أن لا يجامعوهنّ، والإيلاء : الحلف، وتعديته بعلى، ولكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدي بمن، قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية، وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب المرأة ولا يريد أن يتزوّجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبداً، فيتركها أبداً لا أيماً، ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام، فضرب الله لهم أجلاً في الإسلام كما قال تعالى :﴿ تربص ﴾ أي : انتظار ﴿ أربعة أشهر ﴾ أي : للمولى حق التثبت في هذه المدّة فلا يطالب بفيئة ولا طلاق، ولذا قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر، ويؤيده ﴿ فإن فاؤا ﴾ أي : رجعوا في المدّة أو بعدها عن اليمين إلى الوطء ؛ لأنّ الفيئة وعزم الطلاق مشروعان عقب الإيلاء وحصول التربص، فلا بدّ أن يكون مدخول الفاء واقعاً بعدهما ﴿ فإنّ الله غفور ﴾ لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف ﴿ رحيم ﴾ بهم.
﴿ وإن عزموا الطلاق ﴾ أي : صَمّموا عليه بأن لم يفيئوا فليوقعوه، ﴿ فإنّ الله سميع ﴾ لقولهم ﴿ عليم ﴾ بعزمهم أي : ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق، ففيه دليل على أنها لا تطلق بعد مضيّ المدّة ما لم يطلقها زوجها ؛ لأنه شرط فيه العزم وقال : فإنّ الله سميع فدل على أنه يقتضي مسموعاً.
والقول : هو الذي يسمع وقال بعض العلماء : إذا مضت أربعة أشهر يقع عليه طلقة بائنة، وهو قول ابن عباس وأصحاب الرأي، وقال سعيد بن المسيب والزهري : يقع عليه طلقة واحدة رجعية، ولو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً، بل حالفاً، إذا وطئها قبل مضي تلك المدّة وجبت عليه كفارة يمين إن كان الحلف بالله، ولا يختص الإيلاء بالحلف بالله تعالى، فلو قال لزوجته : إن وطئتك فعبدي حر، أو ضرّتك طالق، أو لله عليّ عتق رقبة أو صوم أو صلاة، فهو مولٍ، لأنّ المولى من يلزمه أمر يمتنع بسببه من الوطء.
﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ ينتظرن ﴿ بأنفسهن ﴾ عن النكاح ﴿ ثلاثة قروء ﴾ تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وضمها، وهو يطلق للحيض لقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وغيره :«دعي الصلاة أيام أقرائك »، وللطهر الفاصل بين حيضتين وهو المراد في الآية ؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض، كما قال به بعض العلماء، لقوله تعالى :﴿ فطلقوهنّ لعدّتهنّ ﴾ أي : وقت عدّتهنّ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض، وأمّا ما رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان » فلا يقاوم ما رواه البخاريّ في قصة ابن عمر ( مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ) أي : بقوله تعالى :﴿ فطلقوهنّ لعدّتهن ﴾.
فإن قيل : ما معنى ذكر الأنفس فهلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ؟ أجيب : بأنّ في ذكر الأنفس تهييجاً لهنّ على التربص، وزيادة بعث ؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنّ على أن يتربصن، وذلك أنّ نفس النساء طوامح أي : نواظر إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص، وكان القياس في جمع قرء أن يذكر بصيغة القلة، التي هي الإقراء، ولكنهم يتوسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر، ألا ترى إلى قوله : بأنفسهنّ وما هي إلا نفوس كثيرة.
قال البيضاويّ : ولعلّ الحكم لما عمّ المطلقات ذوات الإقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناء الكثرة ووجوب ذلك في المدخول بهنّ، أمّا غيرهنّ فلا عدّة لهنّ لقوله تعالى :﴿ وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها ﴾ ( الأحزاب، ٤٩ ) وفي غير الآيسة والصغيرة فعدّتهنّ ثلاثة أشهر، والحوامل فعدّتهنّ أن يضعن حملهنّ كما في سورة الطلاق : والإماء فعدّتهنّ قرآن بالسنة.
﴿ ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ ﴾ من الولد إن كانت حاملاً ومن الحيض إن كانت حائضاً ﴿ إن كنّ يؤمن با واليوم الآخر ﴾ قال البيضاويّ : ليس المراد تقييد نفي الحل بإيمانهنّ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان أي : كماله، وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل ﴿ وبعولتهنّ ﴾ أي : أزواج المطلقات، والبعولة جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة نعت به مبالغة كما في رجل عدل أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي : وأهل بعولتهنّ ﴿ أحق بردّهنّ ﴾ أي : بمراجعتهنّ ﴿ في ذلك ﴾ أي : في زمن التربص.
فإن قيل : كيف جعلوا أحق بالرجعة فكان للنساء حقاً فيها ؟ أجيب : بأن أفعل ههنا بمعنى الفاعل فإنّ غير البعل لا حق له في الردّ فكأنه قيل : وبعولتهنّ حقيقون بردّهنّ. وقيل : إنه على بابه للتفضيل أي : أحق منهنّ بأنفسهنّ لو أبين الرد، أو من آبائهنّ، وسمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته وأصل البعل السيد والمالك.
﴿ إن أرادوا ﴾ أي : البعولة ﴿ إصلاحاً ﴾ بالرجعة، لإضرار المرأة وليس المراد من هذا اشتراط قصد الإصلاح للرجعة ﴿ ولهنّ ﴾ على الأزواج ﴿ مثل الذي ﴾ لهم ﴿ عليهنّ ﴾ من الحقوق ﴿ بالمعروف ﴾ شرعاً من حسن العشرة وترك الضرر ونحو ذلك.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى ذلك : إني أحب أن أتزين لامرأتي، كما تحب أن تتزيّن لي لهذه الآية، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهن خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم ).
فإن قيل : ما المراد بالمماثلة ؟ أجيب : بأنّ المراد أنّ لهنّ حقوقاً على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب، واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس إذ ليس الواجب على كلّ منهما من جنس ما وجب على الآخر، فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل مثل ذلك، ولكن يقابلها بما يليق بالرجال ﴿ وللرجال عليهنّ درجة ﴾ أي : فضيلة في الحق ؛ لأنّ المرأة تنال من الرجل من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها ؛ ولأن حقوقهم في أنفسهنّ بالوطء والتمتع، وحقوقهنّ المهر والكفاف وترك الضرار، وقيل بصلاحيته للإمامة والقضاء والشهادة، وقيل : بالجهاد، وقيل : بالميراث وقيل : بالدية، وقيل : بالعقل ﴿ والله عزيز ﴾ في ملكه قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام ﴿ حكيم ﴾ فيما دبره لخلقه يشرعها لحكم ومصالح.
﴿ الطلاق ﴾ أي : التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي : الذي يراجع به ﴿ مرّتان ﴾ أي : اثنتان. روي عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، كان الرجل يطلق امرأته، فإذا قاربت انقضاء عدّتها راجعها، ثم طلقها كذلك ثم راجعها بصد مضارتها، فنزلت هذه الآية. وروى أبو داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سئل : أين الثالثة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :«أو تسريح بإحسان » ﴿ فإمساك ﴾ أي : فعليكم إمساكهنّ إذا راجعتموهنّ بعد الطلقة الثانية ﴿ بمعروف ﴾ وهو كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة ﴿ أو تسريح بإحسان ﴾ بالطلقة الثالثة، أو بأن لا يراجعها حتى تبين منه.
تنبيه : اختلف العلماء فيما إذا كان أحد الزوجين رقيقاً، فذهب الأكثر ومنهم الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه يعتبر عدد الطلاق بالزوج، فالحرّ يملك على زوجته الأمة ثلاث طلقات، والعبد لا يملك على زوجته الحرّة إلا طلقتين وذهب الأقلّ ومنهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطلاق كالعدّة، فيملك العبد على زوجته الحرّة ثلاث طلقات ولا يملك الحرّ على زوجته الأمة إلا طلقتين.
﴿ ولا يحلّ لكم ﴾ أيها الأزواج ﴿ أن تأخذوا مما آتيتموهنّ ﴾ من المهور ﴿ شيئاً ﴾ إذا طلقتموهنّ. روي أنها نزلت في جميلة أخت عبد الله بن أبيّ ابن سلول، كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فشكته إلى أبيها فقال : ارجعي إلى زوجك، فإني أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها، فلما رأت أباها لم يشكها رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل خلفه فجاءه، فقال له :«مالك ولأهلك ؟ » قال : والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحبّ إليّ منها غيرك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما تقولين ؟ ) فقالت : هو مني أكرم الناس حباً لزوجته ولكن، لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي، ورأسه شيء والله لا أعيبه في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً أي : أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي الكفر بغضاً فيه، ويحتمل أن تريد كفران العشرة إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة، فإذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال ثابت : قد أعطيتها حديقة فقل لها فلتردّها عليّ وأخلي سبيلها، فقال لها :«تردّين عليه حديقته وتملكين أمرك ؟ » قالت : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ) ففعل.
وفي رواية :( اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ).
﴿ إلا أن يخافا ﴾ أي : الزوجان ﴿ أن لا يقيما حدود الله ﴾ أي : لا يأتيا بما حدّه لهما من الحقوق، وقرأ حمزة يخافا بضمّ الياء بالبناء للمفعول، فإن مع صلتها بدل اشتمال من الضمير في يخافا والباقون بفتحها بالبناء للفاعل ﴿ فإن خفتم ﴾ أيها الأئمة والحكام ﴿ أن لا يقيما حدود الله ﴾ أي : ما حدّه من الأحكام ﴿ فلا جناح عليهما فيما افتدت به ﴾ نفسها من المال ليطلقها أي : لا حرج على الزوج في أخذه، ولا على الزوجة في بذله، وهذا هو الأصل، وإلا فيجاز على عوض وإن لم يخافا.
تنبيه : علم مما تقرّر : أنّ الخطاب في الأوّل للزوجين، وثانيها للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ولا ينافي ذلك قوله تعالى :﴿ أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً ﴾ لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون.
﴿ تلك ﴾ أي : الأحكام المذكورة ﴿ حدود الله ﴾ وهي ما منع الشرع من المجاوزة عنه ﴿ فلا تعتدوها ﴾ أي : فلا تتعدّوها بالمخالفة وقوله تعالى :﴿ ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾ تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة في التهديد.
تنبيه : ظاهر الآية يدلّ على أنّ الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق، ولا بجميع ما ساق الزوج إليها فضلاً عن الزائد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه البيهقيّ :( أيّما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأس أي : ضرر فحرام عليها رائحة الجنة ). وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة :( أتردّين عليه حديقته ؟ فقالت : أردّها وأزيد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام : أمّا الزائد فلا ) فالجمهور استكرهوا الخلع، ولكن نفذوه فإنّ المنع عن العقد لا يدل على فساده وإنه يصح بلفظ المفاداة فإنه سماه افتداء.
﴿ فإن طلقها ﴾ أي : الزوج الثنتين ﴿ فلا تحل له من بعد ﴾ أي : بعد الطلقة الثالثة ﴿ حتى تنكح ﴾ أي : تتزوّج ﴿ زوجاً غيره ﴾ أي : المطلق والنكاح يتناول العقد والوطء، وتعلق بظاهر الآية من اقتصر على العقد كابن المسيب، والجمهور على أنه لا بدّ من الإصابة، لما روى الشيخان ( أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ رفاعة طلقني وإنّ عبد الرحمن بن الزَّبِير أي : بفتح الزاي وكسر الباء تزوّجني، وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك )، فالآية مطلقة قيدتها السنة، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج، والعسيلة مجاز عن قليل الجماع، إذ يكفي قليل انتشار، شبهت تلك اللذة بالعسل وصغرت ولحقتها الهاء ؛ لأن الغالب على العسل التأنيث قاله الجوهري.
وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إنّ زوجي قد مسني فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم :( كذبت في قولك الأوّل فلن أصدقك في الآخر ) فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأوّل فإنّ زوجي الآخر مسني وطلقني فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته، وقال لك ما قال، فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر أتت عمر، وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر : لئن رجعت إليه لأرجمنك ).
والحكمة في التحلل الردع عن المسارعة إلى الطلاق، والعود إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر، وجوّزه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مع الكراهة، وقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ) رواه الترمذيّ والنسائيّ وصححه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
تنبيه : شملت الآية الكريمة : ما إذا طلق الزوج زوجته الأمة ثلاثاً ثم ملكها، فإنه لا يحلّ له أن يطأها بملك اليمين، حتى تنكح زوجاً غيره ﴿ فإن طلقها ﴾ الزوج الثاني بعدما أصابها ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ أي : المرأة والزوج الأوّل ﴿ أن يتراجعا ﴾ إلى النكاح بعقد جديد بعد انقضاء العدّة ﴿ إن ظنا ﴾ أي : إن كان في ظنهما ﴿ أن يقيما حدود الله ﴾ أي : ما حدّه الله وشرعه من حقوق الزوجية، هذا هو الأصل، وإلا فهو ليس بشرط للجواز ولم يقل إن علما أنهما يقيمان ؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله.
قال في «الكشاف » ومن فسر الظنّ هنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ؛ لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد، ولكن علمت أنه يقوم ؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظنّ ظناً ﴿ وتلك ﴾ أي : الأحكام المذكورة ﴿ حدود الله بينها لقوم يعلمون ﴾ أي : يتدبرون ما أمرهم الله تعالى به ويفهمونه، ويعلمونه بمقتضى العلم.
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ ﴾ أي : قاربن انقضاء عدّتهن ولم يرد انقضاء العدّة حقيقة ؛ لأنّ العدّة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ ههنا بلوغ مقاربة. وفي قوله تعالى بعد ذلك :﴿ فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ ﴾ حقيقة انقضاء العدّة والبلوغ يتناول المعنيين، يقال : بلغ المدينة إذا قرب منها وإذا دخلها ﴿ فأمسكوهنّ ﴾ بأن تراجعوهنّ ﴿ بمعروف ﴾ من غير ضرار، وقيل : بأن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء ﴿ أو سرّحوهنّ بمعروف ﴾ أي : اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ، فيكنّ أملك بأنفسهنّ ﴿ ولا تمسكوهنّ ﴾ بالرجعة وقوله تعالى :﴿ ضراراً ﴾ مفعول له ﴿ لتعتدوا ﴾ أي : لا تقصدوا بالمراجعة المضارة بتطويل الحبس. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها، ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ أي : أضرّ بها بتعريضها إلى عذاب الله، وقرأ أبو الحارث الليث بإدغام اللام من يفعل في الذال حيث جاء والباقون بالإظهار ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزواً ﴾ أي : مهزؤاً بها بمخالفتها ؛ لأنّ كل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً، وقيل : كان الرجل يتزوّج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب فنزلت.
وروي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث جدّهنّ جدّ : وهزلهنّ جدّ الطلاق والنكاح والرجعة ) ﴿ واذكروا نعمت الله عليكم ﴾ التي من جملتها الإسلام والإيمان وبعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ وما أنزل عليكم من الكتاب ﴾ أي : القرآن ﴿ والحكمة ﴾ أي : السنة، أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقوقها ﴿ يعظكم به ﴾ أي : بما أنزل عليكم ليدعوكم به إلى دينه ﴿ واتقوا الله واعلموا أنّ الله بكل شيء عليم ﴾ لا يخفى عليه شيء ففي ذلك تأكيد وتهديد.
﴿ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ ﴾ أي : انقضت عدّتهنّ ﴿ فلا تعضلوهنّ ﴾ أي : تمتعوهنّ من ﴿ أن ينكحن أزواجهنّ ﴾ أي : المطلقين لهنّ. وعن الشافعيّ رضي الله تعالى عنه دل سياق الكلامين أي : وهما أمسكوهنّ الخ. . و«فلا تعضلوهنّ » على افتراق البلوغين، فالمراد بالأوّل المقاربة، وبالثاني الوصول كما تقرّر، والعضل الحبس والتضييق، ومن العضل بهذا المعنى عضلت الدجاجة إذا علقت بيضتها فلم تخرج.
فائدة : رسمت التاء في نعمت بالتاء المجرورة، ووقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ بالهاء، ويميلها الكسائيّ في الوقف، ووقف الباقون بالتاء على الرسم والمخاطب بذلك الأولياء لما روي أنه نزلت في معقل بن يسار، حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل، ففي الآية دليل على أنّ المرأة لا تزوّج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الوليّ فائدة، ولا يعارض ذلك بإسناد النكاح إليهنّ ؛ لأنه إنما أسند إليهن لتوقف النكاح على إذنهنّ، وقبل الخطاب للأولياء والأزواج، وقيل : للناس كلهم أي : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، فإنه إن وجد بينهم وهم راضون به كانوا كالفاعلين.
له وقوله تعالى :﴿ إذا تراضوا بينهم ﴾ أي : الأزواج والنساء ظرف ؛ لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ وقوله تعالى :﴿ بالمعروف ﴾ أي : بما يعرفه الشرع ويستحسنه من كونه بعقد حلال حال من ضمير تراضوا، أو صفة مصدر محذوف أي : تراضياً كائناً بالمعروف وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوج من غير كف غير منهي عنه ﴿ ذلك ﴾ أي : النهي عن العضل ﴿ يوعظ به من كان منكم يؤمن با واليوم الآخر ﴾ لأنه المتعظ أو المنتفع به.
فإن قيل : لمن الخطاب في قوله :﴿ ذلك يوعظ به ﴾ ؟ أجيب : بأنه يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد كما في قوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء ﴾ ( الطلاق، ١ ) ونحوه ﴿ ذلكم ﴾ أي : ترك العضل ﴿ أزكى ﴾ أي : أنفع ﴿ لكم وأطهر ﴾ لكم ولهنّ من دنس الآثام لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما ﴿ والله يعلم ﴾ ما فيه المصلحة ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ذلك لقصور علمكم.
وقوله تعالى :
﴿ والوالدات يرضعن أولادهنّ ﴾ خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ﴾ وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، لأنه لا يجب عليهنّ الإرضاع إذا كان يوجد من يرضع الولد، لقوله تعالى في سورة الطلاق :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ ﴾ فإن رغبت الأمّ في الإرضاع فهي أولى من غيرها، أمّا إذا لم يوجد من يرضعه فيجب عليها إرضاعه، والوالدات يعمّ المطلقات وغيرهنّ وقيل : يختص بالمطلقات إذ الكلام فيهنّ ﴿ حولين ﴾ أي : عامين ﴿ كاملين ﴾ صفة مؤكدة كما في قوله تعالى :﴿ تلك عشرة كاملة ﴾ ( البقرة، ١٩٦ ) لأنّ العرب قد تسمي بعض الحول حولاً، وبعض الشهر شهراً، كما قال الله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ ( البقرة، ١٩٧ ) وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال تعالى :﴿ فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ﴾ ( البقرة، ٢٠٣ ) وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم.
وقال قتادة : فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف فقال :﴿ لمن أرد أن يتم الرضاعة ﴾ أي : هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك حدّ محدود، إنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به.
﴿ وعلى المولود له ﴾ أي : الوالد ﴿ رزقهنّ ﴾ أي : إطعام الوالدات ﴿ وكسوتهنّ ﴾ أجرة لهنّ على الإرضاع إذا كنّ مطلقات، واختلف في استئجار الأم للإرضاع فجوّزه الشافعيّ ومنعه أبو حنيفة ما دامت زوجة أو معتدّة نكاح.
فإن قيل : لِمَ قال تعالى :﴿ المولود له ﴾ دون الوالد ؟ أجيب : بأنه تعالى إنما ذكر ذلك ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم ؛ لأنّ الأولاد للآباء ولذلك ينتسبون إليهم لا إلى الأمّهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد :
فإنما أمّهات الناس أرعية مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهنّ ويكسوهنّ إذا أرضعن ولدهم ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله تعالى :﴿ واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً ﴾ ( لقمان، ٣٣ ) وقوله تعالى :﴿ بالمعروف ﴾ يفسره ما يعقبه وهو قوله تعالى :﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها ﴾ أي : طاقتها فلا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ﴿ لا تضارّ والدة بولدها ﴾ أي : بسببه، بأن تكره على إرضاعه أو تكلف فوق طاقتها ﴿ ولا ﴾ يضار ﴿ مولود له بولده ﴾ أي : بسببه، بأن يكلف فوق طاقته، وإضافة الولد إلى كلّ منهما للاستعطاف، وللتنبيه على أنّ الولد حقيق بأن يتفقا على استصلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو تضار بضمّ الراء بدل من قوله : لا تكلف والباقون بفتحها ﴿ وعلى الوارث ﴾ أي : وارث الأب، وهو الولد أي : على الوليّ في مال الولد ﴿ مثل ذلك ﴾ أي : الذي كان على الأب للوالدة من الرزق والكسوة، وقيل : هو وارث الولد الذي لو مات الولد لورثه، وقيل : الباقي من الأبوين أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم :( اللهمّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث أي : الباقي منا ) والمعنى واجعل كل منهما في لزومه لنا مدّة الحياة كأنه باق بعد الموت ﴿ فإن أرادا ﴾ أي : الوالدان ﴿ فصالاً ﴾ أي : فطاماً له صادر ﴿ عن تراض ﴾ أي : اتفاق ﴿ منهما وتشاور ﴾ بينهما فتظهر مصلحة الولد فيه ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ في ذلك، زاد على الحولين أو نقص، وهذه توسعة بعد التحديد، وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الولد، حذراً أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض أو غيره ﴿ وإن أردتم ﴾ خطاب للأولياء ﴿ أن تسترضعوا ﴾ مراضع غير الوالدات ﴿ أولادكم ﴾ يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه كما يقال : استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته وكذلك حكم كل مفعولين يكون أحدهما عبارة عن الأوّل، هذا ما جرى عليه الزمخشريّ، من أن استرضع يتعدّى لمفعولين بنفسه، والجمهور على أنه إنما يتعدّى إلى الثاني بحرف الجرّ، وتقديره هنا لأولادكم ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ في ذلك ﴿ إذا سلمتم ﴾ إليهن ﴿ ما آتيتم ﴾ أي : أردتم إيتاءه لهن من الأجرة، كقوله تعالى :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ﴾ ( المائدة، ٦ ) وإنما قدّر ذلك ؛ لأنّ ما تحقق إيتاؤه لا يتصوّر تسليمه في المستقبل، وقوله تعالى :﴿ بالمعروف ﴾ صلة سلمتم أي : بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً، وجواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل. وقرأ ابن كثير بقصر همزة أتيتم، من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله تعالى :﴿ إنه كان وعده مأتياً ﴾ ( مريم، ٦١ ) أي : مفعولاً والباقون بالمد وهم على مراتبهم، وقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع ثم حثهم على ذلك وهدّدهم بقوله تعالى :﴿ واعلموا أنّ الله بما تعملون بصير ﴾ لا يخفى عليه شيء منه.
﴿ والذين يُتوفَّون ﴾ أي : يموتون ﴿ منكم ويذرون ﴾ أي : يتركون ﴿ أزواجاً يتربصن ﴾ أي : ينتظرن ﴿ بأنفسهنّ ﴾ وهو خبر بمعنى الأمر، وهو أمر إيجاب أي : يجب عليهن أن يتربصن بعدهم عن النكاح ﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾ أي : عشرة أيام وكان القياس تذكير العدد بأن يؤتى فيه بالتاء ولكن لما حذف المعدود جاز فيه ذلك كما في قوله تعالى :﴿ إن لبثتم إلا عشراً ﴾ ( طه، ١٠٣ ) ثم ﴿ إن لبثتم إلا يوماً ﴾ ( طه، ١٠٤ ) لأنّ قوله في سورة طه :﴿ إن لبثتم إلا يوماً ﴾ بعد قوله :﴿ إن لبثتم إلا عشراً ﴾ يدل على أنّ المراد بالعشر الأيام وإن ذكر بما يدل على الليالي، لأنهم اختلفوا في مدّة اللبث، فقال بعضهم : عشر وبعضهم يوم فدل على أنّ المقابل باليوم إنما هو أيام الليالي، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم :( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوّال ). قال البيضاويّ : ولعلّ المقتضي لهذا التقدير أي : بهذه المدّة أنّ الجنين في غالب الأمر يتحرّك لثلاثة أشهر إن كان ذكراً، ولأربعة إن كان أنثى، فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً، إذ ربما تضعف حركته في المبادي، فلا يحسن بها أي بالحركة اه. وهذا في غير الحوامل أمّا هن فعدّتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق، وفي غير الإماء فإنهن على النصف من ذلك بالسنة. وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنّ الحامل تعتدّ بأقصى الأجلين احتياطاً.
وحكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفِّى ؟ بكسر الفاء فقال الله : وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله تعالى عنه على أن أمره أن يضع كتاباً في النحو، لكن يجوز الكسر على معنى أنه مستوف أجله، ويدل له قوله تعالى :﴿ والذين يتوفون ﴾ بفتح الياء على قراءة شاذة نقلت عن علي، أي : يستوفون آجالهم.
﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ أي : انقضت عدّتهن ﴿ فلا جناح ﴾ أي : لا حرج ﴿ عليكم ﴾ أيها الأولياء ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ أي : من التعرّض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدّة دون العقد، فإنّ العقد إلى الولي وقيل : المخاطب بذلك الأئمة أو المسلمون جميعاً.
﴿ بالمعروف ﴾ أي : بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكر فعلى المخاطب أن يكفهن، فإن قصر فعليه الجناح ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ عالم بباطنه كظاهره فيجازيكم عليه.
﴿ ولا جناح ﴾ أي : لا حرج ﴿ عليكم فيما عرضتم به ﴾ والتعريض في الكلام ما يفهم منه السامع مراده بما لم يوضع له حقية ولا مجازاً كقول السائل : جئتك لأسلّم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا :
وجئتك بالتسليم مني تقاضيا***
ويسمى التلويح لأنه يلوح منه ما يريده، والفرق بينه وبين الكناية أنّ الكناية : هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه كقولك : طويل النَّجاد للطويل، وهو بكسر النون حمائل السيف، وكثير الرماد للمضياف ﴿ من خطبة النساء ﴾ المعتدات للموفاة، والخطبة بالضم والكسر اسم الهيئة، غير أنّ المضمومة خصت بالموعظة، والمكسورة بطلب المرأة للنكاح والتعريض بالخطبة مباح في عدّة الوفاة، وهو أن يقول : رب راغب فيك من يجد مثلك، إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لعليّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإنّ من غرضي أن أتزوّج، وإن جمع الله بيني وبينك بالحلال أعجبتني، ولأن تزوّجتك لأحسنن إليك، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، من غير أن يصرح بالنكاح فلا يقول : انكحيني والمرأة تجيبه بمثله إن رغبت فيه.
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته قالت : دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي، وأنا في عدّتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمي في الإسلام، فقلت : قد غفر الله لك أتخطبني في عدّتي، وأنت يؤخذ عنك، فقال : أوقد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، ( قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يديه حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة ). وأمّا عدّة الفرقة في الحياة فيحل لغير صاحب العدّة التعريض في غير رجعية، لعدم سلطنة الزوج عليها.
أمّا التصريح فحرام إجماعاً وأما الرجعية فلا يحل التعريض لها ؛ لأنها في حكم الزوجة أما صاحب العدّة فيحل له التعريض والتصريح إن حل له نكاحها، وإلا فلا.
﴿ أو أكننتم ﴾ أي : أضمرتم ﴿ في أنفسكم ﴾ من نكاحهنّ، فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً، قال السّدّي : هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء ﴿ علم الله أنكم ستذكرونهنّ ﴾ بالخطبة ولا تصبرون عنهنّ فأباح لكم التعريض وفيه نوع توبيخ ﴿ ولكن لا تواعدوهنّ سراً ﴾ أي : نكاحاً فالسر كناية عن النكاح الذي هو الوطء ؛ لأنه مما يسر قال الأعشى :
ولا تقربنّ جارة إنّ سرها عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وقال امرئ القيس :
ألا زعمت ساسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
ثم عبر بالسر الذي هو كناية عن الوطء عن عقد النكاح ؛ لأنّ العقد سبب في الوطء وقيل : هو الزنا، كان الرجل يدخل على المرأة من أجل الزينة، وهو يعرض بالنكاح ويقول لها : دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك قاله الحسن. وقيل : هو أن يصف نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول : آتيك الأربعة والخمسة ونحو ذلك.
فإن قيل : أين المستدرك بقوله : ولكن لا تواعدوهنّ سراً ؟ أجيب : بأنه محذوف لدلالة ستذكرونهنّ عليه، تقديره : علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً. ﴿ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ﴾ أي : ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك، فإن قيل : أين المستثنى منه ؟ أجيب : بأنه محذوف أي : لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو إلا مواعدة بقول معروف.
قال في «الكشاف » : ولا يجوز أن يكون استثناءً منقطعاً من «سراً » لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهنّ إلا التعريض، وقال البيضاوي : وقيل : إنه استثناء منقطع من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو أي : التعريض غير موعود أي : بل منجز سراً أي : في السر على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستقبح لأنّ مسارتهنّ في الغالب مما يستحيا من المجاهرة به.
﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح ﴾ أي : على عقده، وفي ذلك مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة ؛ لأنّ العزم يتقدّم على العقد فإذا نهي عما يتقدمه فهو أولى بالنهي، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا ﴾ ( الإسراء، ٣٢ ) ﴿ حتى يبلغ الكتاب ﴾ أي : المكتوب ﴿ أجله ﴾ بأن ينتهي ما فرض فيه من العدّة ﴿ واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم ﴾ من العزم وغيره ﴿ فاحذروه ﴾ أي : خافوا عقابه ﴿ واعلموا أنّ الله غفور ﴾ لمن عزم ولم يفعل خوفاً من الله ﴿ حليم ﴾ لا يعاجلكم بالعقوبة.
﴿ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ﴾ أي : تجامعوهنّ ﴿ أو ﴾ لم ﴿ تفرضوا لهنّ فريضة ﴾ أي : مهراً، وما مصدرية ظرفية، أي : لا تبعة عليكم في الطلاق زمن عدم المسيس والفرض بإثم ولا مهر، والتبِعة بكسر الباء : ما يتبع المال أو البدن من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.
وقوله تعالى :﴿ ومتعوهن ﴾ عطف على مفسد، ولأنه طلب فلا يعطف على «لا جناح » ؛ لأنه خبر أي : فطلقوهنّ ومتّعوهن، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، ويسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وإذا تراضيا بشيء فذاك، وإن تنازعا في قَدْرِها قَدّرَها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره، ونسبها وصفاتها، كما قال تعالى :﴿ على الموسع ﴾ أي : الغني منكم ﴿ قدره ﴾ أي : ما يطيقه ويليق به ﴿ وعلى المقتر ﴾ أي : ضيق الرزق ﴿ قدره ﴾ أي : ما يطيقه ويليق به. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لأنصاري طلق امرأته المفوّضة قبل أن يمسها :«أمتعتها » قال : لم يكن عندي شيء قال :«متعها بقلنسوتك ». ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوّضة التي لم يمسها الزوج، وألحق بها الشافعي رضي الله تعالى عنه الممسوسة المفوّضة وغيرها قياساً وهو مقدّم على المفهوم.
وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الدال، والباقون بسكونها وقوله تعالى :﴿ متاعاً ﴾ تأكيداً لمتعوهن بمعنى تمتيعاً وقوله تعالى :﴿ بالمعروف ﴾ أي : شرعاً صفة «متاعاً » وقوله تعالى :﴿ حقاً ﴾ صفة ثانية لمتاعاً أي : متاعاً واجباً عليهم، أو مصدر مؤكد أي : حق ذلك حقاً ﴿ على المحسنين ﴾ أي : المطيعين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال عليه الصلاة والسلام :«من قتل قتيلاً فله سلبه » ترغيباً وتحريضاً.
ولما ذكر الله تعالى حكم المفوّضة أتبعها حكم قسيمها بقوله تعالى :
﴿ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ﴾ يجب لهن ويرجع لكم النصف، وهو دليل على أنّ الجناح المنفي ثم تبعة المهر، وأن لا متعة مع التشطير ؛ لأنه قسيمها ﴿ إلا ﴾ لكن ﴿ أن يعفون ﴾ أي : الزوجات فلا يأخذن شيئاً.
فإن قيل : أي فرق بين قولك : الرجال يعفون والنساء يعفون ؟ أجيب : بأن الواو في الأوّل ضميرهم، والنون علم الرفع والواو في الثاني لام الفعل، والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، وهو في محل النصب.
﴿ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ﴾ وهو الزوج المالك لعقده وحله، كما يعود إليه بالتشطير فيترك لها الكل. وقيل : هو الولي إذا كانت المرأة محجورة، وهو قول قديم للشافعيّ، وهو مروي عن ابن عباس، وقوله تعالى :﴿ وأن تعفوا ﴾ مبتدأ خبره ﴿ أقرب للتقوى ﴾ والخطاب للرّجال والنساء جميعاً ؛ لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر أي : وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى ﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ أي : أن يتفضل بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو بترك المرأة نصيبها، حثهما جميعاً على الإحسان ﴿ إنّ الله بما تعملون بصير ﴾ لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم به.
﴿ حافظوا على الصلوات ﴾ الخمس بأدائها في أوقاتها، ولعل الأمر بالصلاة إنما وقع في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ؛ لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. ﴿ والصلاة الوسطى ﴾ أي : الوسطى بين الصلوات أو الفضلى، من قولهم للأفضل : الأوسط، وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل، وهي صلاة العصر على الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب :( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً ) وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع الملائكة قال صلى الله عليه وسلم ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) وقيل صلاة الصبح، لأنها بين صلاتي الليل والنهار، والواقعة في الجزء المشترك بينهما لأنها مشهودة تشهدها الملائكة الحفظة، نصّ عليها الشافعيّ رحمه الله تعالى لكن رجح الأصحاب الأوّل عملاً بقوله : حيث صحّ الحديث فهو مذهبي وقيل : صلاة الظهر ؛ لأنها وسط النهار، وكانت أشق الصلوات عليهم، فكانت أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم ( سئل : أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال :«أحزمها » وهو بحاء مهملة وزاي أقواها وأشدها، وقيل : صلاة المغرب لأنها متوسطة بالعدد لأنّ عددها بين عددي الركعتين والأربع، وقيل : صلاة العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي النهار لا يقصران، وهما المغرب والصبح وقال بعضهم : هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها أبهمها الله تعالى تحريضاً للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها ﴿ وقوموا ﴾ في الصلاة ﴿ قانتين ﴾ أي : مطيعين لقوله صلى الله عليه وسلم «كل قنوت في القرآن فهو طاعة » أو ساكنين لحديث زيد بن أرقم :( كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام )، رواه الشيخان.
وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.
﴿ فإن خفتم ﴾ من عدوّ أو سبع أو سيل أو نحو ذلك ﴿ فرجالاً ﴾ جمع راجل أي : مشاة صلوا ﴿ أو ركباناً ﴾ جمع راكب أي : كيف أمكن مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع. والصلاة في حال الخوف على أقسام وهذه صلاة شدّة الخوف وسيأتي بقية الأقسام إن شاء الله تعالى في سورة النساء. ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال :( فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين ) وفي الخوف ركعة، وفي الآية دليل على وجوب الصلاة حال المقاتلة، وإليه ذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يصلي حال المشي والمقاتلة ما لم يمكن الوقوف، وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه : إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك ﴿ فإذا أمنتم ﴾ من الخوف ﴿ فاذكروا الله ﴾ أي : صلوا الصلوات الخمس تامّة بحقوقها ﴿ كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ﴾ قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل وما موصولة أو مصدرية.
﴿ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم ﴾ قرأ نافع وابن كثير وشعبة والكسائي وصية بالرفع أي : فعليهم وصية، والباقون بالنصب أي : فليوصوا وصية، وقوله تعالى :﴿ متاعاً ﴾ نصب على المصدر أي : متعوهنّ متاعاً أي : يتمتعن به من النفقة والكسوة ﴿ إلى ﴾ تمام ﴿ الحول ﴾ من موتهم الواجب عليهنّ تربصه، وقوله تعالى :﴿ غير إخراج ﴾ نصب على الحال أي غير مخرجات من مسكنهنّ. نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له الحكم بن الحارث، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته، فمات فأنزل الله هذه الآية، ( فأعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً )، وكانت عدّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة، ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ففسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدّة الحول بآية ﴿ أربعة أشهر وعشراً ﴾ السابقة.
فإن قيل : كيف نسخت الآية السابقة المتأخرة ؟ أجيب : بأنها متقدّمة في التلاوة متأخرة في النزول كما في قوله تعالى :﴿ سيقول السفهاء ﴾ ( البقرة، ١٤٢ ) مع قوله :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء ﴾ ( البقرة، ١٤٤ ) ﴿ فإن خرجن ﴾ من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ يا أولياء الميت ﴿ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف ﴾ شرعاً كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها، خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى، وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى، إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشراً ﴿ والله عزيز ﴾ في ملكه ﴿ حكيم ﴾ في صنعه لا يسأل عما يفعل.
﴿ وللمطلقات متاع ﴾ أي : يعطينه ﴿ بالمعروف ﴾ بقدر الإمكان وقوله تعالى :﴿ حقاً ﴾ نصب بفعله المقدّر ﴿ على المتقين ﴾ الله.
فإن قيل : لم كرر الله تعالى ذلك ؟ أجيب : بأنّ ذلك لحكمة، وهي أن الآية السابقة في غير الممسوسة وهذه أعم منها، فتشمل الممسوسة أيضاً.
﴿ كذلك ﴾ أي : كما بيّن لكم ما سبق من أحكام الطلاق والعدد ﴿ يبيّن الله لكم آياته ﴾ وعد سبحانه وتعالى أنه سيبيّن لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي : تتدبرون فتستعملون العقل فيها.
وقوله تعالى :
﴿ ألم تر ﴾ استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، وهذا هنا أولى، فإنه صار مثلاً في التعجيب، أي : ينته علمك ﴿ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ﴾ أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفاً، وقوله تعالى :﴿ حذر الموت ﴾ مفعول له، هم قوم من بني إسرائيل كانوا في قرية يقال لها : داوردان، جهة واسط وقع بها الطاعون، فخرجت، طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانياً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عنها أهلها، وخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح، فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله تعالى كما قال تعالى :﴿ فقال لهم الله موتوا ﴾ أي : فماتوا ﴿ ثم أحياهم ﴾ ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله وقدره. وقيل : قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففروا حذر الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام أو أكثر، ثم أحياهم بدعاء نبيهم حِزْقِيل بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى، وكان يقال له ابن العجوز ؛ لأنّ أمّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها.
قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل، وسمي حزقيل ذا الكفل ؛ لأنه كفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل، قال : اذهبوا فإني إن قتلت كان خيراً من أن تقتلوا معي جميعاً، فلما جاء اليهود وسألوا حِزْقِيل عن الأنبياء السبعين، قال لهم : ذهبوا وما أدري أين هم، ومنع الله حِزْقِيلَ من اليهود، فلما مر حِزْقِيل على تلك الموتى وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم فبكى، وقال : يا رب كنت في قوم يحمدونك، ويسبحونك، ويقدّمونك، ويكبرونك، ويهللونك، فبقيت وحدي لا قوم لي، فأوحى الله تعالى إليه أن ناد : أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه، حتى التزق بعضها ببعض، كل عظم جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله تعالى إليه : أن ناد أيتها الأجسام إنّ الله يأمرك أن تكسي لحماً، فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد : أيتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء ورجعوا إلى بلادهم.
وقال مجاهد : إنهم قالوا حين أحيوا : سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن حتى ماتوا لآجالهم، التي كتبت لهم، ولو جاءت آجالهم ما بعثوا، واستمرّ ذلك في أسباطهم، قال ابن عباس : وأثر ذلك ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود.
وفائدة هذه القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء فإنّ الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله تعالى ﴿ إنّ الله لذو فضل على الناس ﴾ أي : عامّة فليذكر كل أحد ماله عليه من الفضل ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ كما ينبغي أمّا الكفار فلم يشكروا، وأمّا المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره.
تنبيه : إنما كرّر الناس، ولم يضمر ليكون أنصّ على العموم لئلا يدّعي مدع أنّ المراد بالناس الأوّل أهل زمان فيخص بالثاني أكثرهم.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا ﴿ واعلموا أنّ الله سميع ﴾ لأقوالكم فيسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ﴿ عليم ﴾ بأحوالكم فيعلم ما تضمرونه فيجازيكم.
﴿ من ذا الذي يقرض الله ﴾ الذي تفرد بالعظمة بإنفاق ماله في سبيل الله ومن استفهامية مرفوعة، الموضع بالابتداء، وذا خبره، والذي : صفة ذا أو بدل، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، فهو اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له على رجاء ما وعد لهم من الثواب قرضاً ؛ لأنهم يعملون لطلب ثوابه، وأصل القرض في اللغة القطع، سمي القرض به ؛ لأنه يقطع من ماله شيئاً يعطيه ليرجع إليه مثله وقيل : في الآية اختصار، معناه : من ذا الذي يقرض عباد الله المحتاجين من خلقه كقوله تعالى :﴿ إنّ الذين يؤذون الله ﴾ ( الأحزاب، ٥٧ ) أي : عباد الله كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ الله يقول يوم القيامة : ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ؟ ) ﴿ قرضاً حسناً ﴾ أي : جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية، وقيل : لا يمنّ به ولا يؤذي. ولما كانت النفس مجبولة على الشح بما عندها إلا لفائدة رغبّها سبحانه وتعالى في ذلك بقوله :﴿ فيضاعفه ﴾ أي : جزاءه ﴿ له ﴾ في الدنيا والآخرة، وأوّل هذه المضاعفة أنّ الزائد ضعف ليس كسراً، ( كان صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة وقال : خياركم أحسنكم قضاء )، وقد أنبأ سبحانه وتعالى أن اقتراضه بما هو فوق ذلك، لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله بقوله :﴿ أضعافاً كثيرة ﴾ ( البقرة، ٢٤٥ ) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي. روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح الأنصاري :( يا رسول الله إنّ الله ليريد منا القرض قال : نعم يا أبا الدحداح قال : أرني يدك يا رسول الله فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة وأمّ الدحداح فيه وعيالها فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أمّ الدحداح قالت : لبيك قال : اخرجي فقد أقرضت ربي عز وجل ).
وقرأ ابن عامر وعاصم فيضاعفه بنصب الفاء على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإنّ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً في معنى أيقرض الله أحد، والباقون برفعها، وأسقط الألف وشدّد العين ابن كثير وابن عامر، والباقون بإثبات الألف وتخفيف العين، ولما رغّب سبحانه وتعالى في إقراضه، أتبعه جملة خالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال :﴿ والله يقبض ﴾ أي : يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء ﴿ ويبسط ﴾ أي : يوسعه لمن يشاء امتحاناً، بحسب ما اقتضته حكمته سبحانه وتعالى، وقرأ قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة وبالسين، بخلاف عن ابن ذكوان وخلاد، والباقون بالصاد والرسم بالصاد ﴿ وإليه ترجعون ﴾ أي : فيجازيكم على ما قدّمتم.
﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل ﴾ أي : إلى قصتهم، والملأ من القوم أشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، كالقوم والرهط، والإبل، والخيل والجيش، ومن للتبعيض ﴿ من بعد ﴾ موت ﴿ موسى ﴾ ومن للابتداء ﴿ إذ قالوا لنبيّ لهم ﴾ أكثر المفسرين على أنه شمويل، قال مقاتل : هو من نسل هرون، وقيل : هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل : هو شمعون، وإنما سمي بذلك ؛ لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب دعاءها فسمته شمعون تقول : سمع الله دعائي والسين تصير شيناً بالعبرانية وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم، ذلك أنه لما مات موسى عليه الصلاة والسلام وخلف، في بني إسرائيل الخلوف وعظمت الخطايا سلّط الله عليهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم، وسَبَوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً كثيراً وشدّة، ولم يكن لهم حينئذٍ نبيّ يدبر أمرهم، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول : سمع الله دعائي فكبر الغلام فأسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس، فكفله شيخ من علمائهم وتبناه، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل، فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبياً، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا : استعجلت بالنبوّة فإن كنت صادقاً ﴿ ابعث ﴾ أي : أقم ﴿ لنا ملكاً نقاتل ﴾ معه ﴿ في سبيل الله ﴾ فتنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه، ويكون ذلك آية من نبوّتك.
وإنما كان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبيّ يقيم له أمره ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه.
ولما قالوا له ذلك ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ هل عسيتم ﴾ قرأ نافع بكسر السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى :﴿ إن كتب ﴾ أي : فرض ﴿ عليكم القتال ﴾ مع ذلك الملك ﴿ أن لا تقاتلوا ﴾ خبر عسى والاستفهام لتقرير المتوقع بها بمعنى التثبت للمتوقع، وإن كان الشائع من التقرير هو الحمل على الإقرار.
﴿ قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ﴾ بسبيهم وقتلهم أي : أي غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان، والإفراد عن الأولاد.
﴿ فلما كتب عليهم القتال تولوا ﴾ عنه وجبنوا وضيعوا أمر الله تعالى ﴿ إلا قليلاً منهم ﴾ وهم الذين عبروا النهر مع طالوت وانتصروا على الفرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد.
تنبيه : هذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين، وإنما هو إعلام بما يستقبل الآتون، كما قال القائل : إياك أعني واسمعي يا جارة، فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذ بجملته خطاباً لهذه الأمّة بكل ما قص له من أقاصيص الأوّلين. ثم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس، وقيل له : إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، وانظر القرن الذي فيه الدهن، فإذا دخل عليك رجل ونشّ الدهن الذي في القرن، فهو ملك بني إسرائيل، فادهن به رأسه وملّكه عليهم، وكان طالوت واسمه بالعبرانية شاول بن قيس من أولاد بنيامين بن يعقوب، سمي طالوت لطوله وكان أطول من كل أحد أي : في زمانه برأسه ومنكبه، وكان رجلاً دباغاً، يعمل الأديم قاله وهب، وقال السدّي : كان سقاء يسقي على حمار له من النيل، فضلّ حماره، فخرج في طلبه، وقال وهب : بل ضلت حمر لأبي طالوت، فأرسله وغلاماً له في طلبها، فمرّ ببيت شمويل فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا على هذا النبيّ فسألناه على أمر الحمير ليرشدنا، ويدعو لنا، فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، فكانت على طوله، فقال لطالوت : قرب رأسك فقرّبه فدهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكه عليهم، فقال طالوت : أما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم ؟ قال : بلى قال : فبأي آية ؟ قال : بآية أنك ترجع وقد وجدت الحمر، فكان كذلك.
أخبرهم نبيهم بذلك كما قال تعالى :
﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ الذي تقدّم ذكره ﴿ إنّ الله قد بعث لكم ﴾ أي : لأجل سؤالكم ﴿ طالوت ملكاً ﴾ وهو اسم أعجمي كجالوت، وداود، وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته ﴿ قالوا أنى ﴾ أي : كيف ﴿ يكون له الملك علينا ﴾ أي : من أين يكون له ذلك ؛ ﴿ ونحن ﴾ أي : والحال أنا نحن ﴿ أحق ﴾ أي : أولى ﴿ بالملك منه ﴾ وإنما قالوا ذلك لأنه كان من بني إسرائيل سبطان سبط نبوّة، وسبطُ مملكة، فكان سبط النبوّة سبط لاوي بن يعقوب، ومنه كان موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام، وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب، ومنه كان داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، ولم يكن طالوت من أحدهما، إنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوّة منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا ؛ لأنه لم يكن من سبط المملكة، ومع ذلك قالوا : هو دباغ ﴿ ولم ﴾ أي : والحال أنه لم ﴿ يؤت سعة من المال ﴾ يستعين بها على إقامة الملك ولما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، ردّ عليهم ذلك بأمور حكاها الله تعالى عن نبيهم بقوله تعالى :﴿ قال ﴾ أي : نبيهم ﴿ إنّ الله اصطفاه ﴾ أي : اختاره للملك ﴿ عليكم ﴾ والعهدة في التملك اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم هذا الأمر الأوّل، والثاني قوله :﴿ وزاده ﴾ عليكم ﴿ بسطة ﴾ أي : سعة ﴿ في العلم ﴾ الذي يحصل به نظام المملكة ويتمكن به من معرفة الأمور السياسية ﴿ و ﴾ في ﴿ الجسم ﴾ الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران، ويكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدوّ، ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم وقد زاده الله في العلم، فكان أعلم بني إسرائيل يومئذٍ، والجسم فكان أجملهم وأتمهم خلقاً، كان الرجل القائم يمدّ يده فيتناول رأس طالوت.
والثالث قوله :﴿ والله يؤتي ملكه ﴾ أي : الذي هو له وليس لغيره فيه شيء ﴿ من يشاء ﴾ فإنه تعالى مالك الملك على الإطلاق، فله أن يؤتيه من يشاء سواء كان غنياً أم فقيراً، كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون والرابع قوله :﴿ والله واسع ﴾ أي : واسع الفضل يوسع على الفقير، ويغنيه ﴿ عليم ﴾ بمن يليق بالملك من النسيب وغيره.
﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ لما أذعنوا لذلك وطلبوا منه آية تدلّ على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم ﴿ إنّ آية ﴾ أي : علامة ﴿ ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾ أي : الصندوق وكان فيه صور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أنزله الله تعالى على آدم صلى الله عليه وسلم وكان من عود الشِّمشار بمعجمتين أولاهما مكسورة وبينهما ميم ساكنة خشب تعمل منه الأمشاط، مموّهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل ؛ لأنه كان أكبر ولده ثم عند يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل، ثم استمرّ عند بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم أو حكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدّموه بين أيديهم فيستفتحون به على عدوّهم كما قال تعالى :﴿ فيه سكينة ﴾ أي : طمأنينة لقلوبكم ﴿ من ربكم ﴾ ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا قاله قتادة والكلبي : لما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة أصحاب جالوت، فغلبوهم على التابوت وأخذوه.
وقال علي : هو صورة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وقال مجاهد : هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وله جناحان، وقيل : له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي طشت من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقال وهب : هي روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تخبرهم ببيان ما يريدون.
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائهم قال :﴿ و ﴾ فيه ﴿ بقية مما ترك آل موسى وآل هرون ﴾ وآلهما أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
وقيل : أبناؤهما، وقيل : أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمّ موسى وهرون والبقية هي رضاض الألواح أي : فتاتها وعصا موسى وثيابه ونعلاه وعمامة هرون وقفيز من المنّ، الذي كان ينزل عليهم.
وقوله تعالى :﴿ تحمله الملائكة ﴾ حال من فاعل يأتيكم ﴿ إنّ في ذلك لآية لكم ﴾ على ملكه وقوله تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ يحتمل أن يكون من كلام نبيهم، وأن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه، وقيل : رفعه الله تعالى بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه، فلما رأوه لم يشكوا في النصر به، فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج امرأة ولم يبن بها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع عليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت صيفاً في حرّ شديد فشكوا قلّة الماء بينهم وبين عدوّهم وقالوا : إن المياه لا تحملنا فادعو الله أن يجري لنا نهراً.
كما قال تعالى :
﴿ فلما فصل ﴾ أي : خرج ﴿ طالوت ﴾ أي : الذي ملكوه ﴿ بالجنود ﴾ من بيت المقدس أي : التي اختارها والجنود، جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع ﴿ قال إنّ الله مبتليكم ﴾ أي : مختبركم ليظهر منكم المطيع والعاصي وهو أعلم ﴿ بنهر ﴾ قال ابن عباس والسدّي : هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب ﴿ فمن شرب منه ﴾ أي : من مائه فليس مني أي : من أتباعي ﴿ ومن لم يطعمه ﴾ أي : يذقه ﴿ فإنه مني ﴾ أي : من أتباعي، وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبياً كما قيل أو بإخبار النبيّ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى :﴿ إلا من اغترف غرفة بيده ﴾ أي : فاكتفى بها ولم يزد عليها، ( فإنه مني ) استثناء من قوله تعالى : فمن شرب، وإنما قدّمت عليه الجملة الثانية ؛ للعناية بها كما قدّم الصابئون على خبر إن في قوله :﴿ إنّ الذين آمنوا والذين هادوا ﴾ ( البقرة، ٦٢ ) والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو غرفة بفتح الغين والباقون بضمها.
فائدة : قال أبو عمرو بن العلاء : سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج :
صبر النفس عند كل ملم *** إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تك *** شف لأواؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأم *** ر له فرجة كحل العقال
قد يصاب الجبان في آخر الص *** ف وينجو مقارع الأبطال
فقلت ما وراءك يا أعرابي ؟ قال : مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة ؛ لأني كنت أطلب شاهداً لاختيار القراءة في سورة البقرة غرفة بالضم.
﴿ فشربوا منه ﴾ لما وافوه بكثرة وقوله تعالى :﴿ إلا قليلاً منهم ﴾ أي : فاقتصر على الغرفة، نصب على الاستثناء. .
روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وأروته، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ، واختلفوا في عدد الذين لم يشربوا قال البغوي : الصحيح أنهم ثلثمائة وبضعة عشر أي : عدد أهل بدر، وقال السدّي : كانوا أربعة آلاف ويؤيد الأوّل ما روي عن البراء أنه قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر، وثلثمائة. ويروى ثلثمائة وثلاثة عشر وفي هذا إيذان بأن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد التائبين من أصحاب طالوت، الذين كان بعددهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ولما كان قصص بني إسرائيل مثلاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر، فابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، وفي إفراد اليد إيذان بأنّ الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشرّ. ﴿ فلما جاوزه ﴾ أي : النهر ﴿ هو ﴾ أي : طالوت ﴿ والذين آمنوا معه ﴾ أي : وهم الذين اقتصروا على الغرفة ﴿ قالوا ﴾ أي : الذين شربوا ﴿ لا طاقة ﴾ أي : لا قوّة ﴿ لنا اليوم بجالوت وجنوده ﴾ أي : بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه.
ولما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا القول نبّه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظنّ أنّ أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام، ولا ينقص بالجراءة والإقدام، وأنه يلقى الله تعالى، فيجازيه على عمله، وأنّ النصر من الله لا بالقوّة والعدد فقال :﴿ قال الذين يظنون ﴾ أي : يوقنون ﴿ أنهم ملاقوا الله ﴾ بالبعث وهم الذين جاوزوه ﴿ كم من فئة ﴾ أي : جماعة، وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض، وكم يحتمل أن تكون خبرية بمعنى كثير، ومن مبينة وأن تكون استفهامية، ومن مؤكدة والأوّل أولى بقرينة المقام ﴿ قليلة ﴾ كما كان في هذه الأمة في يوم بدر ﴿ غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ أي : بإرادته وتيسيره، ثم انظر إلى هذا الحال العجيب ؛ وهو أنه لما ندبهم انتدب جيش لا يحصون فاشترط عليهم الشاب الفارغ من بناء دار، وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً، ثم امتحنوا بالنصر، فلم يثبت منهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط، من الذين هم دون الدون من المنتدبين، الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك الخارجين معه كما قال القائل :
ألم تعلم بأني صيرفي *** أحك الأصدقاء على محكي
فمنهم بهرج لا خير فيه *** ومنهم من أجوزه بشك
وأنت الخالص الذهب المصفى *** بتزكيتي ومثلي من يزكي
ثم بين سبحانه وتعالى أنّ ملاك كل ذلك الصبر بقوله :﴿ والله مع الصابرين ﴾ بالنصر والمعونة فلا يخذل من كان معه.
﴿ ولما برزوا ﴾ أي : ظهروا وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة ﴿ لجالوت ﴾ اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشأم في زمن بني إسرائيل، جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ﴿ وجنوده ﴾ على ما هم فيه من القوّة والكثرة التجؤا إلى الله بالدعاء كما نبه على ذلك بقوله :﴿ قالوا ربنا أفرغ ﴾ أي : أصبب ﴿ علينا صبراً وثبت أقدامنا ﴾ بتقوية قلوبنا على الجهاد ﴿ وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ وفي الدعاء ترتيب بليغ إذ سألوا : أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدوّ المترتب عليهما غالباً.
﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ أي : بإرادته ﴿ وقتل داود جالوت ﴾ قال أهل التفسير : عبر النهر مع طالوت فيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له، وكان داود أصغرهم، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إليّ أو أبرز من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشق ذلك على طالوت فنادى في عسكره : من قتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فهابوا لقاء جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله تعالى فدعا في ذلك، فأوحى الله تعالى إليه أن في ولد إيشا من يقتل الله تعالى به جالوت، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء فقال له طالوت : هل لك أن تقتل جالوت وأزوّجك ابنتي وأناصفك ملكي ؟ قال : نعم قال : آنست من نفسك أن تقوى به قال : نعم أنا أرعى فيجيء الأسد فيأخذ شاة فأقوم إليه وأفتح لحييه عنها وأشقهما إلى قفاه، فمرّ داود في الطريق فكلمه ثلاثة أحجار، وقالت له : إنك تقتل جالوت بنا، فحملها في مخلاته فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة وكان من أشدّ الناس وأقواهم، كان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلثمائة رطل حديد، انتدب له داود وأخذ مخلاته وتقلد بها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب فقال له : أنت تبرز لي قال : نعم، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، فقال : أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب ؟ قال : نعم أنت شر من الكلب قال : لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء، قال داود : أو يقسم الله لحمك، فقال داود : باسم إله إبراهيم وأخرج حجراً ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله إسحق، ووضعه في مقلاعه ثم أخرج الثالث وقال : بسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصارت كلها حجراً واحداً، ودوّر المقلاع ورمى به، فسخر الله له الريح حتى أصاب أنف البيضة فخالط دماغه وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وهزم الله تعالى الجيش وخرّ جالوت قتيلاً، فأخذه داود يجرّه حتى ألقاه بين يدي طالوت، وفرح المسلمون فرحاً شديداً وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فجاء داود إلى طالوت وقال : أنجزني ما وعدتني فزوّجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه، وأكثروا ذكره فحسده طالوت، وأراد قتله فأخبر بذلك فهرب، فسلط عليه العيون وطلبه أشدّ الطلب، فلم يقدر عليه.
ثم إنّ طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال : أقتله فركض على أثره فاشتدّ داود وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت فقال : لو كان دخل ههنا لخرق بناء العنكبوت، فتركه ومضى وانطلق داود إلى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه إلى أن قتل طالوت، وكان ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة، وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت وملكوه على أنفسهم.
قال الكلبي والضحاك : ملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود فذلك قوله تعالى :﴿ وآتاه الله الملك والحكمة ﴾ أي : النبوّة بعد موت شمويل وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله بل كان الملك في سبط والنبوّة في سبط وقيل : الملك والحكمة العلم والعمل.
﴿ وعلمه مما يشاء ﴾ كصنعة الدروع كان يصنعها ويبيعها، وكان لا يأكل إلا من عمل يده، ومنطق الطير والصوت الطيب، والألحان، ولم يعط الله تعالى أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح والسلسلة، كان لا يمسها ذو عاهة إلا برأ، وكانوا يتحاكمون إليها بعده إلى أن رفعت، فمن تعدى على صاحبه وأنكر له حقاً أتى السلسلة، فمن كان صادقاً مد يده إليها فتناولها، ومن كان كاذباً لم ينلها وكان ذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فأودع بعض ملوكهم رجلاً جوهرة ثمينة فلما طلبها منه أنكرها، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة، إلى عكازة فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها حتى حضر السلسلة فقام صاحب الجوهرة فتناول السلسلة بيده ثم قام المنكر وقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازتي هذه فاحفظها حتى أتناول السلسلة فقال الرجل : اللهمّ إن كنت تعلم أنّ الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة فمدّ يده فتناولها فتعجب القوم وشكوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة.
﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ﴾ بدل بعض من الناس ﴿ ببعض ﴾ أي : ولولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار ﴿ لفسدت الأرض ﴾ بغلبة المشركين وقتل المسلمين، وتخريب المساجد، أو لفسدت الأرض بشؤم الكفر فيكون المعنى : ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر.
وقد روي أنّ الله عز وجلّ ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر الآية.
وروي عن ابن عباس أنه قال :( يدفع الله تعالى بمن يصلي، عمن لا يصلي وبمن يحج، عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي ) وعن جابر بن عبد الله ( أنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده، وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم ). وعن ابن مسعود ( إنّ لله عز وجلّ في الخلق ثلثمائة قلوبهم على قلب آدم، ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى، ولله في الخلق سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخلق خمسة قلوبهم على قلب جبرائيل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله في الخلق واحد قلبه في قلب إسرافيل، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة وإذا مات واحد من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات واحد من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات واحد من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات واحد من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلثمائة، وإذا مات واحد من الثلثمائة أبدل الله مكانه من العامّة فيهم يحيي ويميت قال : لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون ويدعون على الجبابرة فينقصمون ويستسقون، فيسقون ويسألون فتنبت لهم الأرض ويدعون فيدفع الله أنواع البلاء ).
﴿ ولكن الله ذو فضل على العالمين ﴾ أي : كلهم أوّلاً بالإيجاد، وثانياً بالدفاع، فهو يكف عن ظلم الظلمة، إمّا بعضهم ببعض أو بالصالحين ويسبغ عليهم غير ذلك من أنواع نعمه ظاهرة وباطنة.
﴿ تلك ﴾ أي : هذه الآيات التي قصصناها عليك من حديث الأوّلين، وتمليك طالوت وإتيان التابوت، وانهزام الجبابرة على يد صبيّ وهو داود، وقتل داود جالوت ﴿ آيات الله ﴾ الذي جلّت عظمته وتمت قدرته وقوّته ﴿ نتلوها ﴾ أي : نقصها ﴿ عليك ﴾ يا محمد ﴿ بالحق ﴾ أي : بالوجه المطابق الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنهم يجدونه في كتبهم كذلك وأرباب التواريخ ﴿ وإنك ﴾ أي : والحال إنك ﴿ لمن المرسلين ﴾ بما دلّت هذه الآية عليه من علّمك بها من غير معلم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر، ولما تقدّم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوّفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون.
ولما تقدّم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوّفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون. فأشار إلى علوّ مقادير الكل في قوله :
﴿ تلك الرسل ﴾ بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم وعلو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يطال.
تنبيه : تلك مبتدأ والرسل صفة أي : الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جماعة الرسل واللام للاستغراق، والخبر ﴿ فضلنا بعضهم على بعض ﴾ بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، لما أوجب ذلك من تفضيلهم في الحسنات بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة، ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل، وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام ذكر وصفه مع وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ منهم مَّنْ كلَّم الله ﴾ بلا واسطة وهو موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، كلّم موسى ليلة الحيرة وهي بفتح الحاء، تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر وفي الطور، ومحمداً ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، وبين التكليمين بون عظيم، ومنهم أيضاً آدم كما ورد في الحديث.
﴿ ورفع بعضهم ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ درجات ﴾ على غيره بعموم الدعوة وختم النبوّة به، والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة وينسخ جميع الشرائع، وبكونه رحمة للعالمين وبتفضيل أمته على سائر الأمم، وبالمعجزات المتكاثرة المستمرّة، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماوات والأرض عن الإتيان بسورة من مثله، والآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، والفضائل العلمية والعملية الغالبة للحصر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده كفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء ؛ لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات وبانشقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع بمفارقته، وتسليم الحجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).
وروي عنه أنه قال :( أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامّة ).
وروي عنه أنه قال :( فضلت على الأنبياء بست : أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون ).
﴿ وأتينا عيسى ابن مريم البينات ﴾ من إحياء الموتى وغيره ﴿ وأيدناه ﴾ أي : قويناه ﴿ بروح القدس ﴾ وهو جبريل يسير معه حيث سار، وخص عيسى صلى الله عليه وسلم باسمه لإفراط اليهود في تحقيره، والنصارى في تعظيمه حيث قالوا : هو ابن الله وأبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ بعضهم ﴾ حيث لم يقل ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم لما في الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل : من فعل هذا ؟ فيقول أحدكم أو بعضكم، يراد به الذي تعورف واشتهر، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي لم يفخم أمره.
﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : الذي له جميع الأمر، هدى الناس جميعاً باتفاقهم على دين واحد ﴿ ما اقتتل الذين من بعدهم ﴾ أي : بعد الرسل أي : ما اقتتلت أممهم ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ أي : المعجزات الواضحات على أيدي رسلهم ؛ لاختلافهم في الدين وتضليل بعضهم بعضاً ﴿ ولكن اختلفوا ﴾ لمشيئته تعالى ذلك ﴿ فمنهم ﴾ أي : فتسبب عن اختلافهم إن كان منهم ﴿ من آمن ﴾ أي : ثبت على إيمانه ﴿ ومنهم من كفر ﴾ كالنصارى بعد المسيح.
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً، قال الله تعالى معلّماً : أنّ الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك ومعيداً ذكر الاسم الأعظم :﴿ ولو شاء الله ما اقتتلوا ﴾ بعد اختلافهم بالإيمان والكفر ﴿ ولكنّ الله يفعل ما يريد ﴾ فيوفق من يشاء فضلاً منه، ويخذل من يشاء عدلاً منه، والآية دليل على أنّ الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولكن بنصّ لأنّ اعتبار الظنّ فيما يتعلق بالعمل لا بالاعتقاد، وأن الحوادث بيد الله لقوله تعالى :﴿ يفعل ما يريد ﴾ تابعة لمشيئته تعالى خيراً كان أو شرّاً إيماناً أو كفراً.
ولما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد، الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أوّل السورة من هنا إلى آخرها، وأتى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدّم الحثّ عليه من أمر النفقة.
﴿ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ﴾ أي : مما أوجبت عليكم إنفاقه من الزكاة، قاله السديّ وقال غيره أراد به صدقة التطوّع والنفقة في الخير، أي : فلا تبخلوا بالإنفاق فإنه لا داء أدوأ من البخل. قال تعالى :﴿ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ ( الحشر، ٩ ) ( التغابن، ١٦ ) وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب يمنع احتجاج المعتزلة بها، في أنّ الرزق لا يكون إلا حلالاً، لكونه مأموراً به.
وأتبعه بما يرغب ويرهب من حلول يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال :﴿ من قبل أن يأتي يوم ﴾ موصوف بأنه ﴿ لا بيع فيه ﴾ أي : فداء ﴿ ولا خلّة ﴾ أي : صداقة تنفع ﴿ ولا شفاعة ﴾ بغير إذنه والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال ولا يراعي الصداقة من مساو، ولا الشفاعة من كبير، لعدم إرادة الله تعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب في بيع وخلة وشفاعة، ولا تنوين على الأصل، والباقون بالرفع والتنوين على أنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة.
ولما حثّ سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذمّ الكافرين، بكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة، لتخليصهم من الإيمان وبعدهم منه وتكذيبهم بذلك اليوم، فهم لا ينفقون لخوفه وإرهابه فقال بدل ولا نصرة لكافر ﴿ والكافرون ﴾ أي : المعلوم كفرهم في ذلك اليوم ﴿ هم ﴾ المختصون بأنهم ﴿ الظالمون ﴾ أي : الكاملون في الظلم لا غيرهم.
وقوله سبحانه :
﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ مبتدأ وخبر والمعنى أنه المستحق للعبادة لا غير ﴿ الحيّ ﴾ أي : الدائم البقاء ﴿ القيوم ﴾ أي : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم ﴿ لا تأخذه سنة ﴾ وهي ما يتقدّم النوم من الفتور، الذي يسمى النعاس، قال ابن الرقاع العاملي :
وسنان أقصده ( أي :
أصابه ) النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
أي : لا يأخذه نعاس ﴿ ولا نوم ﴾ وهو حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس.
فإن قيل : تقديم السنة على النوم قياس المبالغة عكسه، أجيب : بأنّ هذا ذكر ترتيب الوجود، إذ وجود السنة سابق على وجود النوم، فهو على طريقة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قصداً إلى الإحاطة والإحصاء ؛ ولأنه لمّا عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل : فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، وجملة لا تأخذه سنة ولا نوم نفي للتشبيه بينه وبين خلقه وتأكيد لكونه حياً قيوماً فإن من أخذه نعاس أو نوم كان بآفة تخلّ بالحياة قاصراً في الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه.
وفي الجمل التي بعده من قوله :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ الخ. . وقوله تعالى :﴿ له ﴾ أي : بيده وفي تصرّفه واختصاصه ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي : ملكاً وخلقاً تقرير لقيوميته، واحتجاج على تفرّده في الألوهية، والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلاً في حقيقتهما كالكواكب والنبات والمعادن، وخارجاً عنهما متمكناً منهما، كالملائكة والإنس والجنّ.
وقوله تعالى :﴿ من ذا الذي ﴾ أي : لا أحد ﴿ يشفع عنده إلا بإذنه ﴾ له بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة وتواضعاً فضلاً أن يدفعه عناداً ومخاصمة ﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ في الخلق من أمر الدنيا ﴿ وما خلفهم ﴾ أي : من أمر الآخرة قاله مجاهد، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني : الآخرة ؛ لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم وقيل : ما بين أيديهم ما قدّموا من خير وشرّ وما خلفهم ما هم فاعلوه ﴿ ولا يحيطون بشيء ﴾ أي : قليل ولا كثير ﴿ من علمه ﴾ أي : لا يعلمون شيئاً من معلوماته ﴿ إلا بما شاء الله ﴾ أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ اختلف في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه، وقال أبو هريرة : هو موضع أمام العرش، والأحاديث تدل عليه، ومعنى وسع أنّ سعته مثل سعة السموات والأرض، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة.
ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ السماوات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع، وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام، ملك على صورة أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة، إلى السنة وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور، يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة، وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع، وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر، يسأل للطير الرزق من السنة إلى السنة، وفي بعض الأخبار أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش وقيل : المراد بالكرسي علمه، وقيل : ملكه وقيل : تصوير لعظمته وتمثيل مجرّد ﴿ ولا يؤده ﴾ أي : لا يثقله ولا يشق عليه ﴿ حفظهما ﴾ أي : السماوات والأرض ﴿ وهو العليّ ﴾ أي : الرفيع فوق خلقه المتعالي عن الأشباه والأنداد ﴿ العظيم ﴾ أي : الكبير الذي لا شيء أعظم منه، المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.
وهذه الآية تسمى آية الكرسي، مشتملة على أمّهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه موجود واحد في الإلهية، متصف بالحياة واجب لوجود لذاته، موجد لغيره، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول، مبرّأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، ومبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، عالم بالأشياء كلها جليها وخفيها كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، إذ المقدور كل ما يصح أن يملك ويقدر عليه لا يؤده شاق ولا يشغله شأن، عن شأن متعال عما يدركه وهم عظيم فلا يحيط به فهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :( إنّ أعظم آية في القرآن الكرسي ) رواه مسلم، وروى النسائيّ وابن حبان وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ) أي : فإذا مات دخل الجنة.
وروى البيهقيّ في «شعبه » أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لا يواظب عليها إلا صديق أو عابد )، وروي البيهقي أيضاً ( أنّ من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه، وجاره وجار جاره والأبيات حوله ). وعن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سأله :( أيّ آية من كتاب الله أعظم ؟ ) قال : قلت الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، قال : فضرب في صدري ثم قال :( ليهنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إنّ لها لساناً وشفتين تقدّس الملك عند ساق العرش ) وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أوّل حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ في يومه ذلك حتى يمسي فإن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح ). وروي :( ما قرئت آية الكرسي في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة، يا علي علّمْها ولدك وأهلك وجيرانك، فما نزلت آية أعظم منها ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم عليّ رضي الله تعالى عنه : أين أنتم عن آية الكرسي ثم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عليّ سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال، الطور وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة، آية الكرسي ).
﴿ لا إكراه في الدين ﴾ أي : على الدخول فيه أي : فمن أعطي الجزية لم يكره على الإسلام فهو عام مخصوص بأهل الكتاب.
لما روي أنّ أنصارياً كان له ابنان تنصرا قبل المبعث ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فنزلت وقيل : عام منسوخ، فكان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت الآية منسوخة بآية السيف، قاله ابن مسعود :﴿ قد تبين الرشد من الغيّ ﴾ أي : ظهر بالآيات البينات أنّ الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية، وأنّ الكفر غيّ يؤدّي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان، طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، فلم يحتج إلى الإكراه والإلجاء ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ﴾ أي : فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام ﴿ ويؤمن بالله ﴾ أي : بالتوحيد وتصديق الرسل ﴿ فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ أي : تمسك واعتصم بالعقد الوثيق المحكم في الدين ﴿ لا انفصام ﴾ أي : لا انقطاع ﴿ لها ﴾.
قال التفتازاني : شبه التديّن بالدين الحق، والثبات على الهدى والإيمان بالتمسك بالعروة الوثقى المأخوذة من الحبل المحكم المأمون تقطعها، ثم ذكر المشبه به وأراد المشبه وقال الزمخشريّ : وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به اه.
والوثقى تأنيث الأوثق، وقيل : العروة الوثقى السبب الذي يتوصل به إلى رضا الله تعالى ﴿ والله سميع ﴾ لما يقال :﴿ عليم ﴾ بالنيات والأفعال وقيل : سميع لدعائك إياهم إلى الإسلام عليم بحرصك على إيمانهم.
﴿ الله وليّ ﴾ أي : ناصر ومعين ﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : أرادوا أن يؤمنوا لقوله تعالى :﴿ يخرجهم ﴾ أي : بلطفه وتأييده ﴿ من الظلمات ﴾ أي : الكفر ﴿ إلى النور ﴾ أي : الإيمان أو أنهم الثابتون على الإيمان بأن يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت، لهم بما يهديهم ويوفقهم له من أجلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. وعن ابن عباس : أنهم قوم كانوا كفروا بعيسى وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ أي : الشيطان وقال مقاتل : هو كعب بن الأشرف وحييّ بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة ﴿ يخرجونهم ﴾ أي : يدعونهم ﴿ من النور ﴾ الذي منحوه بالفطرة ﴿ إلى الظلمات ﴾ أي : الكفر.
فإن قيل : كيف يخرجونهم من النور وهم كفار لم يكونوا في نور قط، أجيب : بأنّ الطبرانيّ روى عن ابن عباس أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به )، أو أنه تعالى ذكر الإخراج في مقابلة يخرجهم من الظلمات، فهو على العموم في حق جميع الكفار كما يقول الرجل لأبيه : أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، كما قال تعالى إخباراً عن يوسف عليه الصلاة والسلام :﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ﴾ ( يوسف، ٣٧ ) ولم يكن قط في ملتهم وقيل : نزلت في قوم ارتدّوا عن الإسلام، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار السبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به، والطاغوت يكون مذكراً ومؤنثاً وواحداً وجمعاً، قال تعالى في المذكر : والواحد ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ﴾، ( النساء، ٦٠ ) وقال تعالى في المؤنث ﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ﴾ ( الزمر، ١٧ ) وقال في الجمع :﴿ يخرجونهم من النور إلى الظلمات ﴾ ( البقرة، ٢٥٧ ).
وقوله تعالى :﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ وعيد وتحذير. قال البيضاويّ : ولعلّ عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.
ولما كان النمروذ المحاجج للخليل ممن أخرجته الشياطين من النور إلى الظلمات ذكره عقب ذلك فقال :﴿ ألم تر ﴾ أي : تعلم بما نخبرك به علماً هو عندك كالمشاهدة لمالك من كمال البصيرة، وبما أودعناه فيك من المعاني المنيرة ﴿ إلى الذي ﴾ وهو نمروذ ﴿ حاج ﴾ جادل وخاصم ﴿ إبراهيم في ربه ﴾ وهو أوّل من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادّعى الربوبية ﴿ أن ﴾ آي : لأن ﴿ آتاه الله الملك ﴾ فطغى أي : كانت تلك المحاجة من بطر الملك وطغيانه، فأورثه الكبر والعتق، فحاج لذلك. وقال مجاهد : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فسليمان صلى الله عليه وسلم وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمروذ بن كنعان وبختنصر، لم يملكها غيرهم. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يعطي الكافر الملك، ففيها حجة على من منع إيتاء الملك للكافر من المعتزلة، وأوّل الملك بالمال والخدم الذي يتسلط به على غلبة الناس لا الملك الحقيقيّ وبهذا أوّل الزمخشريّ.
﴿ إذ قال إبراهيم : ربي الذي ﴾ قرأ حمزة ربي بسكون الياء والباقون بنصبها ﴿ يحيي ويميت ﴾ أي : يخلق الموت والحياة في الأجساد، وهذا جواب سؤال غير مذكور تقديره، قال له نمروذ : من ربك ؟ فقال له إبراهيم ذلك.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة فقال مقاتل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال له : من ربك الذي تدعونا إليه ؟ قال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار، وذلك أنّ الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك ؟ فإن قال : أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له : من ربك ؟ فقال له ذلك.
﴿ قال أنا أحيي وأميت ﴾ قرأ نافع بمدّ الألف من أنا فيصير مدّاً منفصلاً والباقون بالقصر، قال أكثر المفسرين : دعا نمروذ برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فجعل ترك القتل إحياءً، فانتقل إبراهيم إلى حجة أخرى لا عجزاً بل رآه من غباوته، فإنّ حجته لازمة لأنه أراد بالإحياء إحياء الميت، فكان له أن يقول : فأحي من أمتّ إن كنت صادقاً، لكنه انتقل إلى حجة أوضح من الأولى ذكرها الله تعالى بقوله :﴿ قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس ﴾ وهو الذي أوجدها ﴿ من المشرق ﴾ أي : في كل يوم قبل أن توجد أنت بدهور.
﴿ فأت بها ﴾ أنت ﴿ من المغرب ﴾ إن كنت صادقاً فيما تدعيه، ولو يوماً واحداً، وفي ذلك إشعار بأنّ الله تعالى لا بدّ وأن يأتي بالشمس من المغرب، ليكون في ذلك إظهار تصريفه لها حيث شاء يطلعها من حيث غربت كما يطلع الروح من حيث قبضت، ليكون طلوع الشمس من مغربها آية مقاربة لقيام الساعة وطلوع الأرواح من أبدانها ﴿ فبهت الذي كفر ﴾ تحير ودهش وانقطعت حجته، ولم يعط إبراهيم طعاماً فرجع فمّر على كثيب رمل أعفر، فأخذ منه تطييباً لقلوب أهله إذا دخل عليهم، فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رأته، فأخذته وصنعت له منه وقربته له فقال لها : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به، فعرف أنّ الله تعالى رزقه فحمد الله تعالى.
فإن قيل : كيف بهت نمروذ وكان يمكنه أن يعارض إبراهيم فيقول له سل أنت ربك حتى يأتي بها من المغرب ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى صرفه عن ذلك إظهاراً للحجة عليه، أو معجزة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أو أنه خاف أن لو سأل ذلك دعا إبراهيم ربه فكانت زيادة في فضيحته وانقطاعه.
ثم بعث الله تعالى إلى نمروذ بن كنعان ملكاً أن آمن بي وأتركك على ملكك قال : فهل رب غيري، فجاءه الثانية، فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له ذلك الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه، فأمر الله تعالى الملك، ففتح عليه باباً من البعوض فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم فلم يبق إلا العظام ونمروذ كما هو لم يصبه من ذلك شيء فبعث الله عليه بعوضة فدخلت، في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه الله تعالى أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السماء ليقاتل أهلها فأرسل الله تعالى عليه الريح فهدمته، وستأتي قصته في غافر إن شاء الله تعالى ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ بالكفر إلى محجة الاحتجاج.
﴿ أو كالذي مرّ على قرية ﴾ فيه حذف تقديره أوَ رأيت مثل الذي، فحذف لدلالة ألم تر عليه، لأن كلتيهما كلمة تعجب، وتخصيصه بحرف التشبيه، لأنّ المنكرين للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الربوبية وقيل : الكاف مزيدة، وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو إلى الذي مرّ، والمار عزير بن شرحيا أو الخضر أو الكافر بالبعث، ويؤيد هذا نظمه مع نمروذ في سلك وكلمة الاستبعاد التي هي. أنّى يحيي، وأكثر المفسرين على الأوّل والقرية بيت المقدس حين خربها بختنصر وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس، ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق، فثلثاً قتلهم، وثلثاً سباهم وثلثاً أقرهم بالشام وقيل : هي القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما ﴿ وهي خاوية ﴾ أي : ساقطة ﴿ على عروشها ﴾ أي : سقوفها بأن سقط السقف أولاً ثم سقطت الجدران عليه، لما أخربها بختنصر ﴿ قال أنى ﴾ أي : كيف ﴿ يحيي هذه الله بعد موتها ﴾ أي : بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل، فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة، وهذا اعتراف بالعجز من معرفة طريق الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي، إن كان القائل مؤمناً واستبعاد إن كان كافراً.
﴿ فأماته الله ﴾ وألبثه ﴿ مائة عام ﴾ ميتاً ﴿ ثم بعثه ﴾ بالإحياء ليريه كيفية ذلك ﴿ قال كم لبثت ﴾ أي : مكثت أي : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت ؟ وعن ابن عباس أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة فأصابه الحرّ، فدخل الخربة وهو على حمار له فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلة فيها عنب، فنزل في ظلّ تلك الخربة وأخرج قصعة كانت معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل فيأكله، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي ساقطة على عروشها ورأى عظاماً بالية فقال :﴿ أنى يحيى هذه الله بعد موتها ﴾ فلم يشك أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجباً، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى، ثم ركّب خلقه وهو ينظر ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك يرى ويعقل فاستوى جالساً فقال له الملك : كم لبثت ؟ ﴿ قال لبثت يوماً ﴾ وذلك أنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال : لبثت يوماً وهو يرى أنّ الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال :﴿ أو بعض يوم ﴾ أي : بل بعض يوم ﴿ قال ﴾ أي : الله أو الملك له ﴿ بل لبثت مائة عام ﴾ قرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة في كم لبثت، وفي قال : لبثت وفي بل لبثت، والباقون بالإدغام.
ثم قال له الله أو الملك ﴿ فانظر إلى طعامك ﴾ وكان تيناً أو عنباً ﴿ وشرابك ﴾ وكان عصيراً أو لبناً ﴿ لم يتسنه ﴾ أي : لم يتغير بمرور الزمان فكان التين أو العنب كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر أو اللبن قد حلب من ساعته قال الكسائيّ أي : كأنه لم يأت عليه السنون، وإنما أفرد الضمير لأنّ الطعام والشراب كالجنس الواحد.
فإن قيل : إذا كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله ؟ أجاب الزمخشريّ بأنّ الكلام كان بعد البعث ولم يك إذ ذاك كافراً وقال أبو حيان : لا نص في الآية، إنّ الله كلمه شفاهاً، وقرأ حمزة والكسائيّ لم يتسنّ بإسقاط الهاء إذا وصلها بما بعدها، والباقون بإثباتها وفي الوقت ثابتة للجميع.
﴿ وانظر إلى حمارك ﴾ كيف هو فرآه ميتاً وعظامه بيض وكان له حمار قد ربطه، وقيل : رآه حياً مكانه كما ربطه حفظ بلا ماء ولا علف، كما حفظ الطعام والشراب من التغير.
وقوله تعالى :﴿ ولنجعلك آية للناس ﴾ معطوف على محذوف تقديره فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية وقيل : الواو زائدة مقحمة أي : لنجعلك عبرة ودلالة على البعث بعد الموت ﴿ وانظر إلى العظام كيف ننشرها ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالراء ومعناه نحييها، والباقون بالزاي ومعناه نرفعها من الأرض ونردّها إلى أماكنها من الجسد.
وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرها : وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشرها ولنجعلك آية للناس، واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون : إنه أراد به عظام حماره وهذا يؤيد كون حماره كان ميتاً قال السديّ : إن الله أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل، الذي ذهبت به الطيور والسباع، فاجتمعت فركب بعضها في بعض، وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم ثم كسا العظام لحماً ودماً كما قال تعالى :﴿ ثم نكسوها لحماً ﴾ فصار حماراً لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى، وقال الأقلّون : أراد به عظام هذا الرجل فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئته يوم ربطه، وهذا يؤيد كون حماره كان حياً وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء قال الضحاك وقتادة : وتقدير أي على هذا وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشرها.
روي أن عزيراً لما أحياه الله تعالى ركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله، فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم، فخرج عزير عنهم وهي بنت عشرين سنة فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت، وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً فقال : فإني أنا عزير فقالت : سبحان الله فإن عزيراً فقدناه من مائة سنة، لم نسمع له بذكر، قال : إنّ الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإنّ عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله تعالى، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، قال الضحاك : عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز، وهو أسود الرأس واللحية، فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه، فنهض الناس وأقبلوا عليه ونظروا إليه، وقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقال بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير، فقرأ لهم التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك وقالوا : هو ابن الله.
وسيأتي الكلام على ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
﴿ فلما تبين له ﴾ ذلك بالمشاهدة وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبيّن له أنّ الله على كل شيء قدير ﴿ قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير ﴾ فحذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً، وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الهمزة قبل العين وسكون الميم، والباقون بقطع الهمزة ورفع الميم.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قال إبراهيم رب أرني ﴾ أي : أبصرني، قرأ ابن كثير والسوسي بسكون الراء من أرني، وقرأ الدوريّ باختلاس الكسرة، والباقون بكسرة كاملة ﴿ كيف تحيي الموتى ﴾ قال الحسن وقتادة والضحاك : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليه السلام أنه مرّ على دابة ميتة، قال ابن جرير : كانت جيفة حمار فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبرّ، فكانت إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها، وما وقع منها، يصير في البحر وإذا انحسر البحر جاءت السباع فأكلت منها وما وقع منها يصير تراباً فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها وما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال : يا رب قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها فأزداد يقيناً فعابه الله بقوله :
﴿ قال أو لم تؤمن ﴾ بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه ﴿ قال بلى ﴾ يا رب آمنت ﴿ ولكن ليطمئن قلبي ﴾ أي : ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة، أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين، فإن العيان يفيد في المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم :( نحن أحق بالشك من إبراهيم ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي ) فقال أبو سليمان الخطابي : ليس فيه اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول : إذا لم أشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله : ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، وقيل : سبب سؤاله أنه لما قال له نمروذ أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول : نعم، وانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه في الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.
فإن قيل : بم تعلقت اللام في ليطمئن ؟ أجيب : بأنها تعلقت بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب.
وقيل : بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيى ولكنه طلبها تلويحاً، فأجيب بالمنع منها تلويحاً، وموسى عليه الصلاة والسلام لما سألها تصريحا أجيب بالمنع تصريحاً.
قال تعالى :﴿ فخذ أربعة من الطير ﴾ قال مجاهد وابن جرير : أخذ طاوساً وديكاً وحمامة وغراباً، وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان شبهاً، كتدوير الرأس والمشي على رجلين، وأجمع لخواص الحيوان لأنّ فيها ما يتكلم، وما يهتدي للطريق كالقطاة، وللمياه كالهدهد، وفي هذا إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف، التي هي صفة الطاووس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس، وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة. وروي بدلها البطة وبدل الغراب الغرنوق.
﴿ فصرهنّ ﴾ أي : فأمسكهن واضممهنّ ﴿ إليك ﴾ قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها.
فإن قيل : ما معنى أمره بضم الطير إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ أجيب : بأنه ليتأمّلها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك، ولذلك قال :﴿ يأتينك سعياً ﴾. وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال كما قال تعالى :
﴿ ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزأ ﴾ واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، فقال ابن عباس وقتادة : أمره الله تعالى أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل، على كل جبل جزء من كل طائر، وقال السديّ وابن جريج : جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل، وأمسك رؤوسهنّ ثم دعاهنّ : تعالين بإذن الله، فجعل كل قطرة من دم طائر تصير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة إلى الريشة الأخرى، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر، وإبراهيم ينظر حتى صارت جثثاً بغير رؤوس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعياً فالتقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى :﴿ ثم أدعهنّ يأتينّك سعياً ﴾ أي : سريعاً، وقيل : مشياً لأنها لو طارت لربما توهم متوهم أنها غير تلك الطير، وإنّ أرجلها غير سليمة قال البيضاويّ : وفي ذلك إشارة إلى أنّ من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية كالشهوة والغضب فيقتلها، ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فتطاوعنه مسرعات متى دعاهنّ بداعية العقل أو الشرع، وكفى لك شاهداً على فضل إبراهيم ويمنه أي : بركته حيث سلك مسلك الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، أنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، وأراه عزيراً بعد أن أماته مائة عام ﴿ واعلم أنّ الله عزيز ﴾ لا يعجز عما يريد ﴿ حكيم ﴾ ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله.
﴿ مثل الذين ينفقون ﴾ أي : يبذلون ﴿ أموالهم ﴾ بطيب النفس ﴿ في سبيل الله ﴾ الذي له الكمال كله أي : في طاعته كمثل زراع ومثل ما ينفقون ﴿ كمثل حبة ﴾ مما زرعه فلا بدّ من حذف كما تقرّر أو يقال مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة ﴿ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ﴾ والمنبت هو الله سبحانه وتعالى، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم بإظهار تاء التأنيث عند السين، والباقون بالإدغام، ومعنى إنباتها سبع سنابل أن يخرج منها ساق يتشعب منه سبع شعب لكل واحدة سنبلة، وهذا التمثيل تصوير الأضعاف كأنها مصوّرة بين عيني الناظر.
فإن قيل : كيف صح هذا التمثيل ولم نر سنبلة فيها مائة حبة ؟ أجيب : بأنّ ذلك موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فبلغ حبها هذا المبلغ، وعلى تقدير عدم وجوده هو غير مستحيل وما لا يكون مستحيلاً يجوز ضرب المثل به وتأوّل ذلك الضحاك فقال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة.
فإن قيل : هلا قال الله تعالى سبع سنبلات، لأنه جمع قلة كما قال الله تعالى ﴿ وسبع سنبلات خضر ﴾ ( يوسف، الآيات : ٤٣ ٤٦ ) ؟ أجيب : بما تقدّم في قوله تعالى ﴿ ثلاثة قروء ﴾ ( البقرة، ٢٢٨ ).
﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ بفضله تلك المضاعفة أو يضاعف على هذا ويزيد لمن شاء ما بين سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه، ومن أجل ذلك تتفاوت الأعمال في مقادير الثواب ﴿ والله واسع ﴾ أي : غنيّ يعطي عن سعة ﴿ عليم ﴾ بنية المنفق وقدر إنفاقه وبمن يستحق المضاعفة.
﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ أي : طاعته، قال الكلبيّ : نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ) وأمّا عثمان فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وألف دينار.
قال عبد الرحمن بن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ صلى الله عليه وسلم فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول :( ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم وقال : يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه ).
﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ﴾ أي : على المنفق عليه بقولهم مثلاً : قد أحسنت إليه وجبرت حاله، فيعدّدون عليه النعمة، فحذر الله عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه ؛ لأنه من العباد تعيير وتكدير ومن الله إفضال وتذكير وكان السلف يقولون : إذا صنعتم صنيعة فانسوها، والعرب يمتدحون بترك المن ويذمون عليه فمن الأوّل قول القائل :
زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو في العالم مشهور كبير
ومن الثاني قول القائل
وإنّ امرأ أسدى إليّ صنيعة وذكرنيها مرّة لبخيل
وقيل : طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهي أمر من الآلاء مع المنّ، ويطلق المنّ أيضاً على النعمة، يقال : لفلان عليّ منة أي : نعمة وأنشد ابن الأنباري :
فمني علينا بالسلام فإنما كلامك ياقوت ودرّ منظم
وقال تعالى :﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ﴾ ( آل عمران، ١٦٤ ) الآية ﴿ ولا أذى ﴾ له كأن يذكر ذلك إلى من لا يحب وقوفه عليه، أو يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، وثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ﴿ لهم أجرهم ﴾ أي : ثواب إنفاقهم ﴿ عند ربهم ولا خوف عليهم ﴾ أي : فلا يخافون فقد أجورهم ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ في الآخرة بسبب أن لا يوجد
﴿ قول معروف ﴾ أي : كلام حسن وردّ على السائل جميل، لأنّ القول الجميل وإن كان يردّ السائل يفرح قلبه، ويروح روحه وقيل : عدة حسنة ﴿ ومغفرة ﴾ أي : بأن يستر عليه خلته ولا يهتك ستره، ويتجاوز عنه إذا وجد منه ما ينقل عليه عند ردّه ﴿ خير من صدقة ﴾ يدفعها إليه ﴿ يتبعها أذى ﴾ أي : منّ وتعيير السائل أو قول يؤذيه.
إن قيل : لِمَ لم يعد ذكر المنّ فيقول : يتبعها منّ أو أذى ؟ أجيب : بأنّ الأذى يشمل المنّ وغيره، كما تقرّر وإنما نصّ عليه فيما مرّ لكثرة وقوعه من المتصدّقين، وعسر تحفظهم منه، ولذلك قدّم على الأذى قال بعضهم : الآية واردة في صدقة التطوّع ؛ لأنّ الواجب لا يحل منعه ويحتمل أن يراد بها الواجب، فإنه قد يعدل به عن سائل إلى سائل، وعن نفر، إلى نفر وإنما صحّ الابتداء بالنكرة وهي قول لاختصاصها بالصفة وهي معروف، وأمّا المعطوف وهو مغفرة فلا يحتاج إلى مخصص لتبعيتها ﴿ والله غنيّ ﴾ عن صدقة العباد، وإنما أمرهم ليثيبهم عليها ﴿ حليم ﴾ بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي بصدقته.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم ﴾ أي : أجورها لأنّ الصدقة وقعت فلا يصح أن تبطل ﴿ بالمنّ والأذى ﴾.
فإن قيل : ظاهر هذا اللفظ أنّ مجموع المنّ والأذى يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر، أجيب : بأنّ الشرط أن لا يوجد واحد منهما دون الآخر لأنّ قوله تعالى :﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ﴾ ولا أذى يقتضي أن لا يقع هذا ولا هذا أي : فتبطل لكل واحد منهما إبطالاً.
﴿ كالذي ﴾ أي : كإبطال أجر نفقة الذي ﴿ ينفق ماله رئاء الناس ﴾ أي : مرائياً لهم، ليروا نفقته، ويقولون : إنه كريم سخي ﴿ ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ وهو المنافق لأنّ الكافر معلن بكفره غير مراء ﴿ فمثله ﴾ أي : هذا المرائي في إنفاقه ﴿ كمثل صفوان ﴾ وهو الحجر الأملس ﴿ عليه ﴾ أي : استقرّ عليه ﴿ تراب ﴾ والتراب معروف وهو اسم جنس لا يثنى ولا يجمع. وقال المبرد : هو جمع واحده ترابة، وفائدة هذا الخلاف أنه لو قال لزوجته : أنت طالق عدد التراب أنه يقع عليه طلقة على الأوّل وهو الأصح وثلاث على الثاني ﴿ فأصابه وابل ﴾ وهو المطر الشديد العظيم القطر ﴿ فتركه صلداً ﴾ أي : أملس نقياً من التراب وقوله تعالى :﴿ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ﴾ استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رياء أي : لا يجدون له ثواباً في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له.
فإن قيل : كيف قال تعالى لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق ؟ أجيب : بأنه تعالى أراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق ولأن من والذي يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء يقول الله تعالى لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ) وروى أبو هريرة :( أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد أي : أمره ليقضي بينهم وكل أمة جاثية وأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله تعالى للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان قارئ، وقد قيل، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد، وقد قيل، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له : في ماذا قتلت ؟ فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جريء، وقد قيل، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ).
﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها.
﴿ ومثل ﴾ نفقات ﴿ الذين ينفقون أموالهم ابتغاء ﴾ أي : طلب ﴿ مرضاة الله ﴾ أي : رضاه ﴿ وتثبيتاً من أنفسهم ﴾ أي : تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم، والصبر على جميع مشاق التكاليف، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال، الذي هو شقيق الروح، فإن بذله أشق شيء على النفس ؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقلّ طمعها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَمَعُها في اتباع الشهوات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله : هز من عطفه وحرك من نشاطه.
فإن قيل : ما معنى التبعيض ؟ أجيب : بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى :﴿ حسداً من عند أنفسهم ﴾ ﴿ كمثل جنة ﴾ أي : بستان ﴿ بربوة ﴾ وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء، وإنما جعلها بربوة، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها ﴿ أصابها وابل ﴾ أي : مطر شديد كثير. ﴿ فأتت ﴾ أي : أعطت ﴿ أكلها ﴾ أي : ثمرتها، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف، والباقون بضمها ﴿ ضعفين ﴾ أي : مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل : أربعة أمثاله، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي، وقال أبو حيان : يحتمل أنها للتكثير أي : ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط، بل بعشر وسبعمائة وأزيد، ونصبه على الحال أي : مضاعفاً.
﴿ فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ أي : مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد.
﴿ أيودّ أحدكم ﴾ أي : أيحب حباً شديداً ﴿ أن تكون له جنة ﴾ أي : بستان ﴿ من نخيل ﴾ جمع نخلة، وهي الشجرة القائمة على ساق، ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله ﴿ وأعناب ﴾ جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة.
ولما كانت الجنان لا تقوم ولا تدوم إلا بالماء قال تعالى :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : من تحت هذه الأشجار ﴿ له فيها ﴾ أي : الجنة ثمر مع ثمر النخل والعنب ﴿ من كل الثمرات ﴾ فهي محتوية على سائر أنواع الأشجار، وإنما خص النخل والعنب بالذكر لشرفهما وكثرة منافعهما وحسن منظرهما ﴿ وأصابه ﴾ أي : والحال أنه أصابه ﴿ الكبر ﴾ أي : كبر السنّ فصار لا يقدر على اكتساب. ﴿ وله ذرية ضعفاء ﴾ بالصغر كما ضعف هو بالكبر ﴿ فأصابها ﴾ أي : الجنة ﴿ إعصار ﴾ وهو الريح العاصف الذي يرتفع إلى السماء كأنها عمود، وتسميها العامة الزوبعة وجمعه أعاصر، والإعصار من بين سائر الرياح مذكر، ولهذا رجع إليه الضمير مذكراً في قوله :﴿ فيه نار فاحترقت ﴾ تلك الجنة ففقدها أحوج ما كان إليها، وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بها فإذا كبر وضعف وصار له أولاد ضعفاء صغار أصاب جنة إعصار فيه نار فاحترقت أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها لكبره، وضعفت أولاده عن إصلاحها، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده، ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة لهم، كذلك يبطل الله تعالى عمل المنافق والمرائي في الآخرة، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، والاستفهام بمعنى النفي.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضرب لرجل عمل بالطاعات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا البيان ﴿ يبين الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ لكم الآيات لعلكم ﴾ أي : لكي ﴿ تتفكرون ﴾ فيها فتعتبرون بها.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الإنفاق على قسمين وبين كل قسم وضرب له مثلاً ذكر كيفية الإنفاق بقوله تعالى :
﴿ ي أيها الذين آمنوا أنفقوا ﴾ أي : زكوا ﴿ من طيبات ﴾ أي : جياد ﴿ ما كسبتم ﴾ من المال والتجارة والصناعة، وفيه دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ) وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده ).
والزكاة واجبة في مال التجارة فبعد الحول تقوم العروض، فيخرج من قيمتها عشرين ديناراً، أو مائتي درهم فضة فيزكيها، قال سمرة بن جندب :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعدّ للبيع ).
﴿ ومما ﴾ أي : ومن طيبات ما ﴿ أخرجنا لكم من الأرض ﴾ من الحبوب والثمار والمعادن فحذف المضاف وهو طيبات من الثاني لتقدّم ذكره. وفي هذا أمر بإخراج العشر من الثمار والحبوب، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء، أو من نهر يجري الماء فيه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو نضح ففيه نصف العشر، لقوله صلى الله عليه وسلم :( فيما سقت السماء والعيون أو كان عشرياً العشر، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر ) وعنه :( ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ) وقال قوم الآية في صدقة التطوع قال صلى الله عليه وسلم :( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة ).
﴿ ولا تيمموا ﴾ أي : لا تقصدوا ﴿ الخبيث ﴾ أي : الرديء ﴿ منه ﴾ أي : المذكور ﴿ تنفقون ﴾ في الزكاة حال من ضمير تيمموا ﴿ ولستم بآخذيه ﴾ أي : الخبيث ﴿ إلا أن تغمضوا ﴾ أي : تسامحوا ﴿ فيه ﴾ بالحياء مع الكراهة مجاز من أغمض بصره إذا غضه.
وروي عن البراء قال : لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ؟ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشواره فنهوا عن ذلك، هذا إذا كان المال كله أو بعضه جيداً فإن كان كل ماله ردياً فلا بأس بإعطاء الرديء ﴿ واعلموا أنّ الله غنيّ ﴾ عن إنفاقكم وإنما يأمركم به لانتفاعكم ﴿ حميد ﴾ أي : يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب.
﴿ الشيطان يعدكم الفقر ﴾ أي : يخوّفكم به إن تصدّقتم ويقال : وعدته خيراً ووعدته شراً قال تعالى في الخير :﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة ﴾ ( الفتح، ٢٠ ) وقال في الشر :﴿ النار وعدها الله الذين كفروا ﴾ ( الحج، ٧٢ ) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت : في الخير وعدته، وفي الشر : أوعدته والفقر سوء الحال وقلة ما في اليد وأصله من كسر الفقار ومعنى الآية أن الشيطان يخوّفكم بالفقر، ويقول للرجل : أمسك مالك فإنك إذا تصدّقت افتقرت.
﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾ أي : بالبخل ومنع الزكاة قال الكلبي : كل فحشاء في القرآن فهو الزناء إلا في هذا الموضع.
﴿ والله يعدكم مغفرة منه ﴾ لما وقع منكم من تقصير وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، لما له من الإحاطة بصفات الكمال، ولما جبل عليه الإنسان من النقص.
﴿ وفضلاً ﴾ بالزيادة في الدارين وكل نعمة منه فضل ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ والله واسع ﴾ فضله ﴿ عليم ﴾ بالمنفق وغيره.
وفيه إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دقّ، وعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ الله تعالى قال : يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مند خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه ) قال :( وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض ) وعن أسماء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعى الله عليك ).
﴿ يؤتي الحكمة ﴾ أي : العلم النافع المؤدي إلى العمل. وقال السدّي : هي النبوّة وقال ابن عباس وقتادة : علم القرآن ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثال ذلك وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه وقال : في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهنّ وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والنفقة.
وقوله تعالى :﴿ من يشاء ﴾ مفعول أوّل أخر للاهتمام بالمفعول الثاني وهو الحكمة ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾ لمصيره إلى السعادة الأبدية ﴿ وما يذكر ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما قص من الآيات أي : ما يتفكر فإنّ المتفكر كالمتذكر لما أودع الله تعالى في قلبه من العلوم بالقوّة ﴿ إلا أولوا الألباب ﴾ أي : أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى.
﴿ وما أنفقتم ﴾ أي : أديتم ﴿ من نفقة ﴾ قليلة أو كثيرة سراً أو علانية زكاة أو صدقة تطوع ﴿ أو نذرتم من نذر ﴾ بشرط أو بغير شرط فوفيتم به ﴿ فإنّ الله يعلمه ﴾ فيجازيكم به.
فإن قيل : لِمَ وحّد الضمير في يعلمه وقد تقدّم شيئان : النفقة والنذر ؟ أجيب : بأنّ العطف بأو وهي لأحد الشيئين تقول : زيد أو عمرو أكرمته، ولا يجوز أكرمتهما بل يجوز أن يراعى الأول نحو زيد أو هند منطلق، والثاني نحو زيد أو هند منطلقة، والآية من هذا، ومن مراعاة الأوّل ﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ﴾ ( الجمعة، ١١ ) ولا يجاز أن يقال : منطلقان ولهذا أوجل النحاة قوله تعالى :﴿ إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ﴾ ( النساء، ١٣٥ ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى ﴿ وما للظالمين ﴾ بمنع الزكاة والنذر أو بوضع الإنفاق في غير محله من معاصي الله تعالى ﴿ من أنصار ﴾ أي : من ينصرهم من الله ويمنعهم من عذابه فهو على طريق التوزيع والمقابلة أي : لا ناصر لظالم قط فسقط ما يقال إنّ نفي الأنصار لا يوجب نفي الناصر.
﴿ إن تبدوا ﴾ أي : تظهروا ﴿ الصدقات ﴾ أي : النوافل ﴿ فنعما هي ﴾ أي : فنعم شيئاً إبداؤها، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون، والباقون بكسرها، وقرأ قالون وأبو عمرو باختلاس كسرة العين، والباقون بالكسرة الكاملة.
﴿ وإن تخفوها ﴾ أي : تسروها ﴿ وتؤتوها الفقراء ﴾ أي : تعطوها لهم في السر ﴿ فهو خير لكم ﴾ أي : أفضل من إبدائها وإيتاؤها للفقراء أفضل من إيتائها للأغنياء. سئل صلى الله عليه وسلم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت هذه الآية، وفي الحديث :( صدقة السر تطفئ غضب الرب ) وقال صلى الله عليه وسلم :( سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله تعالى فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) نعم إن كان ممن يقتدى به فالإظهار في حقه أفضل، أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل والنافلة في البيت أفضل وليقتدى به، لئلا يتهم ولا يجوز دفع شيء منها للأغنياء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :( صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً ).
تنبيه : الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ﴾ ( هود، ١٠٣ ) وقال عليه الصلاة والسلام :( نفقة المرء على عياله صدقة ) والزكاة لا تطلق إلا على الفرض ﴿ ونكفّر عنكم من سيآتكم ﴾ أي : بعضها وقيل : من صلة، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء التحتية، والباقون بالنون. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بجزم الراء بالعطف على محل فهو، والباقون بالرفع على الاستئناف.
وقوله تعالى :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فيه ترغيب في الإسرار لأنه عالم بباطن الشيء كظاهره ولا يخفى عليه شيء منه.
ولما منع النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين من التصدّق على فقراء المشركين، كي تحملهم الحاجة ليسلموا نزل :
﴿ ليس عليك هداهم ﴾ أي : لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن والنهي عن القبائح كالمن والأذى وإنفاق الخبيث.
وقوله تعالى :﴿ ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ أي : هداية التوفيق صريح بأنّ الهداية من الله وبمشيئته وإنما تخص بقوم دون قوم، أما هدى البيان فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطوهم بعد نزول الآية ﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ أي : من مال.
وقوله تعالى :﴿ فلأنفسكم ﴾ خبر لمبتدأ محذوف أي : فهي لأنفسكم ؛ لأنّ ثوابه لها فلا تمنوا به على غيركم ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم ولا تنفقوا الخبيث.
وقوله تعالى :﴿ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ﴾ عطف على ما قبله أي : وليس نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله تعالى ﴿ وما تنفقوا من خير يوف إليكم ﴾ ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا على إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجلها، والجملتان تأكيد للأولى وهي وما تنفقوا من خير فلأنفسكم أو ما يخلف المنفق استجابه لقوله صلى الله عليه وسلم :( اللهمّ اجعل لمنفق خلفاً ولممسك تلفاً ) رواه البخاري.
﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي : لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً تفضلاً من الله تعالى عليكم، وهذا في صدقة التطوّع أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة وقيل : حجت أسماء بنت أبي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها فنزلت.
وروى النسائي والحاكم أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم فنزلت. وعن بعض العلماء : لو كان المنفق عليه أشر خلق الله كان لك ثواب نفقتك. وأمّا الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين أهل السهمان المذكورين في سورة التوبة، لكن جوّز أبو حنيفة رحمه الله صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة.
وقوله تعالى :
﴿ للفقراء ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : صدقاتكم للفقراء أو متعلق بفعل مقدر كاجعلوا ما تنفقون للفقراء ﴿ الذين أحصروا في سبيل الله ﴾ أي : حبسوا أنفسهم على الجهاد وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحواً من أربعمائة لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، كانوا يسكنون صفّة المسجد، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المشهورون بأصحاب الصّفّة، فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
﴿ لا يستطيعون ضرباً ﴾ أي : سفراً ﴿ في الأرض ﴾ للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد ﴿ يحسبهم الجاهل ﴾ بحالهم ﴿ أغنياء من التعفف ﴾ أي : لأجل تعففهم عن السؤال.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها ﴿ تعرفهم ﴾ أيها المخاطب ﴿ بسيماهم ﴾ أي : بعلامتهم من التخشع والتواضع، وصفرة الوجوه، ورثاثة الحالة ﴿ لا يسألون الناس ﴾ شيئاً فيلحفون ﴿ إلحافاً ﴾ أي : لا سؤال لهم أصلاً فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر :
لا يفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
أي : ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب والإلحاف الإلحاح، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه من قولهم : لحفني من فضل لحافه، أي : أعطاني من فضل ما عنده وقيل : إنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :( إن الله يحب الحييّ الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف )، وقال صلى الله عليه وسلم :( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش ) قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال :( خمسون درهماً أو قيمتها ) ﴿ وما ينفقوا من خير ﴾ أي : مال ﴿ فإنّ الله به عليم ﴾ فيجازيكم وفي هذا ترغيب في الإنفاق.
﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار وسراً وعلانية ﴾ أي : يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية. وفي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية. وقال الأوزاعي : نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلاً ونهاراً سراً وعلانية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ) وقوله تعالى :﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ خبر الذين ينفقون والفاء للسببية.
فإن قيل : أيّ فرق بين قوله هنا ﴿ فلهم أجرهم ﴾ ( البقرة، ٢٧٤ ) وفيما مرّ ﴿ لهم أجرهم ﴾ ( البقرة، ٢٦٢ ) ؟ أجيب : بأنّ الموصول ثم لم يضمن معنى الشرط وضمنه هنا.
﴿ الذين يأكلون الربا ﴾ أي : يأخذونه وهو لغة الزيادة وشرعاً عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع : ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء وهو البيع إلى أجل وإنما ذكر الأكل ؛ لأنه أعظم منافع المال كقوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ﴾ ( النساء، ١٠ ) فنبه بالأكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ؛ ولأنّ نفس الربا الذي هو الزيادة لا يؤكل وإنما يصرف في المأكول وقال صلى الله عليه وسلم :( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له ) فعلمنا أنّ الحرمة غير مختصة بالأكل.
ولما كان بين الصدقة والربا مناسبة من جهة التضادّ ؛ لأنّ الصدقة عبارة عن تنقيص المال بأمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا كالمتضادين ذكر عقب الصدقة ويرسم بالواو والألف بعد الواو وإنما رسم على لغة من يفخم وهو يميل الألف أي يخرج الواو كما كتبت الصلاة والزكاة. وقيل : لأنّ أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو بالواو الساكنة، فعلموهم الخط على لغتهم وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع ﴿ لا يقومون ﴾ إذا بعثوا من قبورهم ﴿ إلا ﴾ أي : قياماً ﴿ كما يقوم الذي يتخبطه ﴾ أي : يصرعه ﴿ الشيطان ﴾ وقوله تعالى :﴿ من المس ﴾ أي : الجنون متعلق بتخبطه من جهة الجنون فيكون في موضع نصب قاله أبو البقاء : والمعنى أنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف.
فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان ؟ أجيب : بأنه وارد على ما تزعم العرب أنّ الشيطان يتخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون ؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش ﴿ ذلك ﴾ أي : الذي نزل بهم ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ في الجواز.
فإن قيل : ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع ؟ أجيب : بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى :﴿ وأحل الله البيع وحرّم الربا ﴾ إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص.
تنبيه : أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل ﴿ فمن جاءه ﴾ أي : بلغه ﴿ موعظة ﴾ أي : وعظ ﴿ من ربه ﴾ وزجر بالنهي عن الربا ﴿ فانتهى ﴾ أي : فاتبع النهي وامتنع من أكله ﴿ فله ما سلف ﴾ أي : ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل : ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ﴿ وأمره إلى الله ﴾ بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود. وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء ﴿ ومن عاد ﴾ إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل ﴿ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ لأنهم كفروا بذلك وورد أنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه صلى الله عليه وسلم قال :( الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه ).
﴿ يمحق الله الربا ﴾ أي : يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود الربا وإن كثر فإلى قل ﴿ ويربي الصدقات ﴾ أي : يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه.
روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال :( إنّ الله تعالى يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم فلوه ).
وروى الإمام أحمد :«ما نقص مال من صدقة » ﴿ والله لا يحب كل كفار ﴾ أي : مصرّ على تحليل المحرّمات كمن يحلّل الربا ﴿ أثيم ﴾ منهمك في ارتكابه.
﴿ إنّ الذين آمنوا ﴾ بالله وبرسوله ربما جاء لهم عنه ﴿ وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ وإنما عطفهما على ما يعمهما لشرفهما ﴿ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ﴾ من آت ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على فائت وتقدّم مثل هذه الآية ولكن جرت عادة الله سبحانه وتعالى في القرآن مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً، فلما بالغ هنا في وعيد الربا أتبعه بهذا الوعد.
فإن قيل : إن الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه مات فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدل على أن استحقاق الثواب لا يتوقف على حصول العمل أجيب : بأنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل منهما أثراً في جلب الثواب كما قال تعالى في ضد هذا ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ﴾ ( الفرقان، ٦٨ ) ثم قال تعالى :﴿ ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ﴾ ومعلوم أنّ من ادعى أنّ مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر وإنما جمع الله تعالى الزنا وقتل النفس مع دعاء غير الله تعالى إلهاً لبيان أنّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ أي : اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا الذي أخذتم بعضه قبل التحريم ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي : بقلوبكم أو إن بمعنى إذ فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به. روي أنها نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل.
﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ أي : تذروا ما بقي من الربا ﴿ فائذنوا ﴾ أي : اعلموا، من أذن بالشيء إذا علم به أي : فاعلموا أنتم وأيقنوا ﴿ بحرب من الله ورسوله ﴾ لكم.
فإن قيل : هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم إن لم يتوبوا ؟ أجيب : بأنّ مقتضى ذلك أنهم يقاتلون إن لم يرجعوا قال سعيد بن جبير : عن ابن عباس : يقال لآكل الربا يوم القيامة : خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني : حرب الله تعالى النار وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم السيف. وقرأ شعبة وحمزة فآذنوا بفتح الهمزة ومدّها وكسر الذال أي : فأعلموا بها غيركم وهو من الإذن وهو الاستماع لأنه من طريق العلم والباقون بسكون الهمزة وفتح الذال ﴿ وإن تبتم ﴾ أي : تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه ﴿ فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ﴾ بطلب الزيادة ﴿ ولا تظلمون ﴾ بالنقصان عن رأس المال.
فإن قيل : هلا قال تعالى بحرب الله ورسوله ؟ أجيب : بأنّ هذا أبلغ ؛ لأنّ المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما نزلت هذه الآية قال المرابون : بل نتوب إلى الله، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين : أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى :
﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة ﴾ له أي : عليكم تأخيره ﴿ إلى ميسرة ﴾ أي : وقت يسره.
تنبيه : في كان هذه وجهان : أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي : وإن حدث ذو عسرة، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف، قال أبو البقاء تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها ﴿ وأن تصدقوا ﴾ أي : بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها ﴿ خير لكم ﴾ أي : أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل : المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام : بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام :( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ).
وروي :( من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة ) وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له : هل عملت خيراً قط ؟ قال : لا قالوا : تذكر قال : ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى : تجاوزوا عنه ) وقال صلى الله عليه وسلم :( من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ).
﴿ واتقوا يوماً ترجعون ﴾ أي : تصيرون ﴿ فيه إلى الله ﴾ هو يوم القيامة أي : فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم ﴿ ثم توفى ﴾ فيه ﴿ كل نفس ﴾ جزاء ﴿ ما كسبت ﴾ أي : عملت من خير أو شر ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
فائدة : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل : ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً وعشرين يوماً ) وقال ابن جريج : تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل : ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس : آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.
ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ﴾ كسلم وقرض ﴿ إلى أجل مسمى ﴾ أي : معلوم ولذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً.
فإن قيل : المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب : بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل : هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟ أجيب : بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله :﴿ فاكتبوه ﴾ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال : إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل، وإنما أمر بكتابة الدين ؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود.
فإن قيل : إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم ؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين فاكتبوه، فلم عدل عن كلما وقال : إذا تداينتم ؟ أجيب : بأن كلمة إذا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وههنا قام الدليل على أنّ المراد هو العموم، واختلفوا في هذه الكتابة، فقال بعضهم : هي واجبة والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ﴾ ( الجمعة، ١٠ ) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ الكل بقوله تعالى :﴿ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذين ائتمن أمانته ﴾ ثم بيّن كيفية الكتابة، فقال تعالى :﴿ وليكتب ﴾ أي : كتاب الدين ﴿ بينكم كاتب بالعدل ﴾ أي : بالحق في كتابته لا يزيد في المال أو الأجل ولا ينقص وهو في الحقيقة أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء مكتوبه موثوقاً به معدلاً بالشرع مع أنّ ظاهره أمر للكاتب ﴿ ولا يأب ﴾ أي : لا يمتنع ﴿ كاتب ﴾ من ﴿ أن يكتب ﴾ إذا دعي إليها ﴿ كما علمه ﴾ أي : فضله ﴿ ا ﴾ بالكتابة فلا يبخل بها بل ينفع الناس بها كما نفعه الله بتعليمها كقوله تعالى :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾ ( القصص، ٧٧ ) والكاف متعلقة بيأب ﴿ فليكتب ﴾ تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهي عن الإباء تأكيداً ﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ أي : وليكن المملل على الكاتب من عليه الحق ؛ لأنه المقرّ المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد جاء بهما القرآن فالإملال ههنا وهو لغة الحجاز والإملاء قوله تعالى :﴿ فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ﴾ ( الفرقان، ٥ ) وهي لغة تميم.
﴿ وليتق الله ربه ﴾ أي : كل من المملي والكاتب ﴿ ولا يبخس ﴾ أي : لا ينقص ﴿ منه ﴾ أي : من الحق أو مما أملى عليه ﴿ شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً ﴾ أي : مبذراً ﴿ أو ضعيفاً ﴾ أي : صغيراً أو كبيراً اختل عقله لكبره ﴿ أو لا يستطيع أن يملّ هو ﴾ لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك ﴿ فليملل وليه ﴾ أي : متولي أمره من والد ووصيّ وقيم ووكيل ومترجم ﴿ بالعدل ﴾ وفي هذا دليل على جريان النيابة في الإقرار. قال البيضاوي : ولعله مخصوص بما تعاطاه القيم أو الوكيل أي : دون المترجم ودونهما فيما لم يتعاطياه ﴿ واستشهدوا ﴾ أي : وأشهدوا ﴿ شهيدين ﴾ أي : شاهدين ﴿ من رجالكم ﴾ أي : البالغين الأحرار والمسلمين دون الصبيان والعبيد والكفار، وأجاز ابن سيرين شهادة العبيد، وأبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض ﴿ فإن لم يكونا ﴾ أي : الشاهدان ﴿ رجلين فرجل ﴾ أي : فليشهدا والمستشهد رجل ﴿ وامرأتان ﴾.
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال فذهبت جماعة إلى أنه تجوز شهادتهنّ مع الرجال في غير العقوبات وهو قول سفيان الثوريّ وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أنّ غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين، وذهب الشافعيّ إلى أنّ ما يطلع عليه النساء غالباً كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها تثبت بشهادة رجل وامرأتين وشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أنّ شهادة النساء غير جائزة في العقوبات ﴿ ممن ترضون من الشهداء ﴾ أي : من كان مرضياً لدينه وأمانته.
تنبيه : شروط قبول الشهادة سبعة : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة فمتى فقد شرط منها لم تصح تلك الشهادة، وإنما اشترط التعدّد في النساء لأجل ﴿ أن تضل ﴾ أي : تنسى ﴿ إحداهما ﴾ أي : الشهادة لنقص عقلهنّ وضبطهنّ ﴿ فتذكر ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون الذال وتخفيف الكاف، والباقون بفتح الذال وتشديد الكاف، وقرأ برفع الراء والباقون بالنصب ﴿ إحداهما ﴾ أي : الذاكرة ﴿ الأخرى ﴾ أي : الناسية قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير فتذكر أي : فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر، وقرأ حمزة وحده أن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى :﴿ ومن عاد فينتقم الله منه ﴾ ( المائدة، ٩٥ ) وجملة الإذكار محل العلة أي : لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال ؛ لأنّ الضلال سبب الإذكار وهم ينزلون كل واحد من السبب والسبب منزلة الآخر ﴿ ولا يأب ﴾ أي : لا يمتنع ﴿ الشهداء إذا ما ﴾ أي : إذا ﴿ دعوا ﴾ لأداء الشهادة والتحمل، فما مزيدة وسموا شهداء على هذا الثاني تنزيلاً لما يشارف منزلة الواقع ﴿ ولا تسأموا ﴾ أي : تملوا من ﴿ أن تكتبوه ﴾ أي : ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوعه أو تكسلوا من أن تكتبوه فكني عن السآمة التي تكون بعد الشروع للكثرة بالكسل الذي يكون ابتداءً لكونها من لوازمه ؛ لأنّ الكسل صفة المنافق. قال تعالى :﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ﴾ ( النساء، ١٤٢ ) وقال صلى الله عليه وسلم :( لا يقول المؤمن كسلت ) ﴿ صغيراً ﴾ كان ذلك الحق ﴿ أو كبيراً ﴾ قليلاً أو كثيراً وقوله تعالى :﴿ إلى أجله ﴾ أي : وقت حلوله الذي أقرّ به المديون حال من الهاء في تكتبوه ﴿ ذلكم ﴾ أي : الكتب ﴿ أقسط ﴾ أي : أعدل ﴿ عند الله وأقوم للشهادة ﴾ أي : أعون على إقامتها لأنه يذكرها.
تنبيه : يجوز على مذهب سيبويه أن يكون أقسط وأقوم مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم أو هما مبنيان من أقسط وأقام لا من قسط وقام ؛ لأنّ قسط بمعنى جار، والمعنى هنا على العدل والفعل منه أقسط فلزم أن يكون أقسط في الآية من المزيد لقصد الزيادة في المقسط قال تعالى :﴿ إنّ الله يحب المقسطين ﴾ ( المائدة، ٤٢ ) لا من المجرّد ؛ لأنّ معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز قال تعالى :﴿ وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ﴾ ( الجن، ١٥ ) وكذا أقوم معناه أشدّ إقامة لا قياماً وبناؤهما من ذلك على غير قياس، والقياس أن يكون البناء من المجرّد لا من المزيد ويجوز أن يكون بناؤهما من قاسط بمعنى ذي قسط أي : عدل وبمعنى قويم أي : ذي استقامة على طريقة النسب كالابن وتامر فيكون أفعل لا فعل له، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده ﴿ وأدنى ﴾ أي : وأقرب إلى ﴿ أن لا ترتابوا ﴾ أي : تشكوا في قدر الحق وجنسه والشهود والأجل ونحو ذلك ﴿ إلا أن تكون تجارة حاضرة ﴾ وهي تعم المبايعة بدين أو عين ﴿ تديرونها بينكم ﴾ أي : تتعاطونها يداً بيد ﴿ فليس عليكم جناح ﴾ أي : لا بأس إذا تبايعتم يداً بيد ﴿ أن لا تكتبوها ﴾ فهو استثناء من الأمر بالكتابة لبعده حينئذ عن التنازع والنسيان، وقرأ عاصم بنصب التاء فيهما على أنّ تجارة هي الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، والباقون بالرفع فيهما على أنّ تجارة هي الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامّة ﴿ وأشهدوا ﴾ أي : ندباً ﴿ إذا تبايعتم ﴾ عليه سواء كان ناجزاً أو كالئاً فإنه أدفع للاختلاف فهو تعميم بعد تخصيص احتياطاً في جميع المبتاعات، ويجوز أن يراد هذا التبايع الذي هو التجارة الحاضرة على أنّ الإشهاد كاف فيه دون الكتابة وقوله تعالى :﴿ ولا يضار كاتب ولا شهيد ﴾ أصله يضار أدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد ومعناه نهيهما عن ترك الإجابة وعن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة، ومنهم من قال : أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشاهد مفعولين ومعناه النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان، والمنهي حينئذٍ المتبايعان، فالآية محتملة للبناء للفاعل وللبناء للمفعول فتحمل عليهما معاً أو على كل منهما والأولى أولى.
﴿ وإن تفعلوا ﴾ ما نهيتم عنه من الضرار ﴿ فإنه فسوق بكم ﴾ أي : معصية وخروج عن الأمر ﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفة أمره ونهيه ﴿ ويعلمكم الله ﴾ أحكامه المتضمنة لمصالحكم ﴿ وا بكل شيء عليم ﴾ كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾ ( النساء، ٥ ) الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى : ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال :﴿ إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ ثم قال ثانياً :﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾، ثم قال ثالثا :﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ﴾ فكان هذا كالتكرار لقوله :﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ لأنّ العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً : فليكتب وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً :﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ وفي قوله تعالى :﴿ وليكتب بينكم كاتب بالعدل ﴾ كناية عن قوله :﴿ وليملل الذي عليه الحق ﴾ لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً :﴿ وليتق الله ربه ﴾ وهذا تأكيد ثم قال سابعاً :﴿ ولا يبخس منه شيئاً ﴾ وهذا كالمستفاد من قوله :﴿ وليتق الله ربه ﴾ ثم قال ثامناً :﴿ ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ﴾ وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً :﴿ ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ﴾ فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله.
﴿ وإن كنتم على سفر ﴾ أي : مسافرين وتداينتم، فعلى بمعنى في لئلا يتوهم أن المعنى على نية سفر ﴿ ولم تجدوا كاتباً فرهان ﴾ أي : فعليكم رهن ﴿ مقبوضة ﴾ تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب، فقد ( رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة من يهوديّ بعشرين صاعاً من شعير أخذه لأهله ) فالتقييد بما ذكر ؛ لأنّ التوثق به أشدّ، وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية.
وأفاد قوله تعالى :﴿ مقبوضة ﴾ اشتراط القبض أي : في لزوم الرهن لا في صحته والاكتفاء به من المرتهن ووكيله ولا يشترط القبض عند مالك، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الراء والهاء ولا ألف بعدها والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون ﴿ فإن أمن بعضكم ﴾ أي : الدائن ﴿ بعضاً ﴾ أي : المديون واستغنى بأمانته عن الارتهان ﴿ فليؤدّ الذي ائتمن ﴾ أي : المدين ﴿ أمانته ﴾ أي : دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به، وقرأ ورش فليودّ بإبدال الهمزة واواً وإذا وصل السوسي وورش الذي بائتمن أبدلا الهمزة ياء وفي الابتداء بهمزة مضمومة للجميع ﴿ وليتق الله ربه ﴾ في الخيانة وإنكار الحق وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين ﴿ ولا تكتموا الشهادة ﴾ أيها الشهود إذا دعيتم لإقامتها أو المديونون، وعلى هذا فشهادتهم إقرارهم على أنفسهم { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
فإن قيل : هلا اقتصر على قوله فإنه آثم وما فائدة ذكر القلب ؟ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده أجيب : بأن كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان أي : الكتمان إثماً مقترفاً أي : مختلطاً بالقلب أسند إليه ؛ لأنه محل كتمان الشهادة وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا ترى أنك تقول : إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه، ولئلا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه، ولأنّ أفعال القلوب أعظم من سائر أفعال الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب، فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :( أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : فقد حرم الله عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة ).
تنبيه : آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ويجوزن أن يرتفع قلبه بالابتداء وآثم خبر مقدّم والجملة خبر إن وقوله تعالى :﴿ والله بما تعملون عليم ﴾ تهديد ؛ لأنه لا يخفى عليه منه شيء.
﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقاً وملكاً قال الجلال السيوطي وعبيداً : ولعل ذكره بعد ملكاً لئلا يتوهم أنّ ما لما لا يعقل ﴿ وإن تبدوا ﴾ أي تظهروا ﴿ ما في أنفسكم ﴾ من السوء والعزم عليه ﴿ أو تخفوه ﴾ أي : تسروه ﴿ يحاسبكم ﴾ أي : يجزكم ﴿ به الله ﴾ يوم القيامة، والآية حجة على من أنكر الحساب كالمعتزلة والروافض ﴿ فيغفر لمن يشاء ﴾ مغفرته ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ تعذيبه وهذا صريح في نفي وجوبه، وقرأ ابن عامر وعاصم برفع الراء : من يغفر ورفع الباء من يعذب على الاستئناف، والباقون بجزمهما عطفاً على جواب الشرط، وأدغم الراء المجزومة في اللام السوسي، واختلف عن الدوري وقول الزمخشري : ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشاً. ورواية عن أبي عمرو يعني السوسي مخطئ مرّتين ؛ لأنه يلحن وينسب اللحن إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو مردود ؛ لأنه مبنيّ على القول بأنّ الراء إنما تدغم في الراء لتكرّره الفائت بإدغامها في اللام ورد بأنّ ذلك قراءة أبي عمرو وهي متواترة مع أنّ القول بامتناع إدغام الراء في اللام إنما هو مذهب البصريين وأمّا الكوفيون بل وبعض البصريين كأبي عمرو فقائلون بالجواز كما نقله عنهم أبو حيان، ونقل أبو عمرو والكسائي وأبو جعفر صحة إدغام صار لي وصار لك عن العرب ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ووجه الجعبري إدغام الراء في اللام بتقارب مخرجيهما على رأي سيبويه وتشاركهما على رأي الفرّاء وتجانسهما في الجهر والانفتاح والاستفال ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على جزائكم ومحاسبتكم.
وقوله تعالى :
﴿ آمن ﴾ أي : صدق ﴿ الرسول ﴾ أي : محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بما أنزل إليه من ربه ﴾ أي : من القرآن فيه شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحة إيمانه والاعتداد به وأنه جازم في أمره غير شاك فيه وقوله تعالى :﴿ والمؤمنون ﴾ عطف على الرسول ﴿ كل ﴾ من الرسول والمؤمنين. واختلف في تنوين كل فقيل تنوين عوض من المضاف إليه وقيل : تنوين التمكين قال الشيخ خالد الوقاد : وهو الأصح ﴿ آمن بالله وملائكته ﴾ وقرأ ﴿ وكتبه ﴾ حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها على التوحيد على أنّ المراد به الجنس، والباقون بضم الكاف والتاء على الجمع ﴿ ورسله ﴾ يقولون ﴿ لا نفرّق بين أحد ﴾ أي : جمع ﴿ من رسله ﴾ فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، فأحد : اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فحيث أضيف بين إليه أو أعيد ضمير جمع إليه أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدلّ الكلام عليه، ويجوز أن يقدر القول مفرداً باعتبار كل وإنما احتيج إلى التقدير لأجل قوله تعالى :﴿ لا نفرق ﴾ ولو قال تعالى : لا يفرقون لم يحتج إلى ذلك ﴿ وقالوا سمعنا ﴾ أي : أمرنا به سماع قبول ﴿ وأطعنا ﴾ أمرك نسألك ﴿ غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ أي : المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ الآية قال : فاشتدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ). فلما قرأها القوم وذلت ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها :﴿ آمن الرسول ﴾ الآية،
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ الآية قال : فاشتدّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ). فلما قرأها القوم وذلت ألسنتهم أنزل الله تعالى في أثرها :﴿ آمن الرسول ﴾ الآية،
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى بقوله تعالى :
﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ﴾ أي : ما تسعه قدرتها وإن شق فضلاً ورحمة ﴿ لها ما كسبت ﴾ من الخير أي : ثوابه ﴿ وعليها ما اكتسبت ﴾ من الشر أي : وِزْره فلا ينتفع بطاعتها غيرها ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكتسبه مما وسوست به نفسه كما يفيده تقديم الخبر وهو لها وعليها من الحصر، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ).
فإن قيل : لم خص الخير بالكسب والشرّ بالاكتساب ؟ أجيب : بأنّ في الاكتساب اعتمالاً أي : اضطراباً في العمل مبالغة واجتهاداً، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت أشدّ حباً واجتهاداً في تحصيله وأعملت فجعلت لذلك مكتسبة فيه ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال قولوا ﴿ ربنا لا تؤاخذنا ﴾ أي : لا تعاقبنا ﴿ إن نسينا أو أخطأنا ﴾ أي : بما أدّى بنا إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ؛ لأنّ المؤاخذة إنما هي بالمقدور والنسيان والخطأ ليس بمقدورين ويجوز أن يراد نفس النسيان والخطأ أي : لا تؤاخذنا بهما كما آخذت به من قبلنا، قال الكلبي : كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).
فإن قيل : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما ؟ أجيب : بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله :﴿ وما أنسانيه إلا الشيطان ﴾ ( الكهف، ٦٣ ) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه، قال الله تعالى :﴿ وأمّا بنعمة ربك فحدّث ﴾ ( الضحى، ١١ ) ﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصراً ﴾ أي : لا تكلفنا أمراً يثقل علينا حمله ﴿ كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ أي : بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله «الكشاف » » قال البيضاوي : وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ ﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة ﴾ أي : قوّة ﴿ لنا به ﴾ من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثانٍ لا للمبالغة ﴿ واعف عنا ﴾ أي : امح ذنوبنا ﴿ واغفر لنا ﴾ أي : استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها ﴿ وارحمنا ﴾ وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك ﴿ أنت مولانا ﴾ أي : سيدنا ومتولي أمورنا ﴿ فانصرنا على القوم الكافرين ﴾ بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ غفرانك ربنا ﴾ قال الله تعالى :﴿ قد غفرت لكم ﴾ وفي قوله :﴿ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ قال : لا أؤاخذكم ﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصراً ﴾ قال : لا أحمل عليكم ﴿ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ قال : لا أحملكم ﴿ واعف عنا ﴾ الخ. . قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال : آمين.
وروى مسلم وغيره أنه ( صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة : قد فعلت ) وعن عبد الله أنه قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال :﴿ إذ يغشى السدرة ما يغشى ﴾ ( النجم، ١٦ ) قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ) والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما ؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي ). وروي عنه أنه قال :( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) أي : عن قيام الليل أو عن كل ما يسوءه وهذا يردّ قول من استنكر أن يقال سورة البقرة، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال عليه الصلاة والسلام :( السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة ) قيل : وما البطلة ؟ قال :«السحرة » أي : أنهم مع حذقهم لا يوفقون لتعليمها أو التأمّل في معانيها أو العمل بما فيها، وسموا بطلة لانهماكهم في الباطل أو لبطالتهم عن أمر الدين، والفسطاط الخيمة أو المدينة الجامعة سميت به السورة لاشتمالها على معظم أصول الدين وفروعه والإرشاد إلى كثير من مصالح العباد ونظام المعاش ونجاة المعاد. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : أنه رمى الجمرة ثم قال : من ههنا والذي لا إله إلا هو رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف والممتحنة والمجادلة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنّ الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فلا يقربها شيطان ) انتهى.
Icon