تفسير سورة يوسف

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
سورة يوسف مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية

سورة يوسف
(مكية [إلا الآيات ١ و ٢ و ٣ و ٧ فمدنية] وهي مائة وإحدى عشرة آية [نزلت بعد سورة هود] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة. والْكِتابِ الْمُبِينِ السورة، أى تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم. أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روى أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن قصة يوسف أَنْزَلْناهُ أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا وسمى بعض القرآن قرآناً، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ. الْقَصَصِ على وجهين: يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص، تقول: قصّ الحديث يقصه قصصاً، كقولك:
شله يشله شللا، إذا طرده. ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر: في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصيد.
وإن أريد المصدر، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن القصص بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أى بإيحائنا إليك هذه السورة، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر، لإضافته إليه، ويكون المقصوص محذوفاً، لأنّ قوله بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ مغن عنه. ويجوز أن
ينتصب هذا القرآن بنقصّ، كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك. والمراد بأحسن الاقتصاص: أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن. وإن أريد بالقصص المقصوص، فمعناه: نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها «١» والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، كما يقال في الرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه. فإن قلت: ممّ اشتقاق القصص؟ قلت: من قصّ أثره إذا اتبعه، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآن، إذا قرأه، لأنه يتلو أى يتبع ما حفظ منه آية بعد آية وَإِنْ كُنْتَ إن مخففة من الثقيلة. واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية. والضمير في قَبْلِهِ راجع إلى قوله: ما أوحينا. والمعنى: وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أى: من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل من أحسن القصص، وهو من بدل الاشتمال، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قصَّ وقته فقد قص. أو بإضمار «اذكر» ويوسف اسم عبراني، وقيل عربى وليس بصحيح، لأنه لو كان عربياً لا نصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف. فإن قلت: فما تقول فيمن قرأ «يوسف» بكسر السين، أو «يوسف» بفتحها، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربى» لأنه على وزن المضارع المبنى للفاعل أو المفعول من آسف. وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل؟ قلت: لا، لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة، على أن الكلمة أعجمية، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى، ونحو يوسف:
يونس، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربى لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس. وعن النبي ﷺ «إذا قيل: من الكريم؟ فقولوا: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم «٢» » يا أَبَتِ
(١). قوله «ليست في غيرها» لعله «في غيره» كعبارة النسفي. (ع)
(٢). أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ «إن الكريم ابن الكريم إلى آخره» وفي البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ «الكريم بن الكريم إلى آخره» وهو في المتفق عليه عن أبى هريرة لكن بلفظ «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أى الناس أكرم؟ فقال أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: يا رسول الله ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبى الله بن نبى الله بن نبى الله بن خليل الله».
441
قرئ بالحركات الثلاث. فإن قلت: ما هذه التاء؟ قلت: تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر؟ قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟ قلت: لأنَّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. فإن قلت: فما هذه الكسرة؟ قلت: هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك: يا أبى، قد زحلقت إلى التاء، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحا: فإن قلت: فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة؟ قلت: امتنع ذلك فيها، لأنها اسم، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً، لأنها حرف لين. وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت: يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتى» لا يجوز «يا أبت». قلت الياء والكسرة قبلها شيئان والتاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة، لأنها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت» فالتاء المعوّضة لغو: وجودها كعدمها.
قلت: بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبى. فإن قلت: فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها؟ قلت: أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ويجوز أن يقال: حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبى».
وأما من ضم فقد رأى اسماً في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال:
«يا أبت» كما تقول «يا تبة» «١» من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الاضافة. وقرئ:
(١). قوله «كما تقول يا تبة» بكسر التاء وتشديد الباء: الحالة الشديدة. وفي نسخة: يا ابنة، كذا بهامش الأصل. (ع)
442
إنى رأيت، بتحريك الياء. وأحد عشر: بسكون العين، تخفيفا لتوالى المتحركات فيما هو في حتم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثنى عشر، لئلا يلتقى ساكنا، ورأيت من الرؤيا، لا من الرؤية، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام، لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت: ما أسماء تلك الكواكب؟ قلت: روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبىّ ﷺ فقال: يا محمد، أخبرنى عن النجوم التي رآهنّ يوسف، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي ﷺ لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم» ؟ قال: نعم. قال: «جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ. ووثاب، وذو الكتفين.
رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له «١»
» فقال. اليهودي: إي والله، إنها لأسماؤها. وقيل: الشمس والقمر أبواه. وقيل: أبوه وخالته: والكواكب. إخوته. وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتى عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل:
كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. فإن قلت لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على عيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أى: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. فإن قلت: ما معنى تكرار رأيت «٢» قلت: ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف
(١). أخرجه الحاكم من طريق أسباط عن السدى عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال «جاء بستان اليهودي إلى النبي ﷺ فقال: يا محمد، هل تعرف النجوم التي رآها يوسف فسجدن له؟ فسكت الحديث» ولم يذكر فيهن الشمس والقمر وقال: رآها يوسف محيطة بأكتاف السماء ساجدة له، وزاد: فقصها على أبيه فقال له:
إن هذا أمر قد تشتت وسيجمعه الله بعد» رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل والطبراني وأبو حاتم في رواية الحاكم بن زهير عن السدى نحوه، وذكره العقيلي من حديثه وقال: لا يثبت. وقال البزار: لا نعلم له طريقاً إلا هكذا. والحاكم ليس بقوى، وكذا قال البيهقي: إن الحاكم تفرد به. وغفل عن طريق شيخ الحاكم وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وأعله بالحاكم. وطريق الحاكم يدفع على الحكم وذكر ابن أبى حاتم في العلل عن أبى زرعة أنه قال: حديث منكر.
(٢). قال محمود: «إن قلت ما معنى تكرار رأيت... الخ» قال أحمد: وأحسن من ذلك أن الكلام طال بين الفعل. الحال، فطري ذكر الفعل لمناسبة الحال وهي المقصودة، إذ الآية في السجود كانت، والله أعلم.
443
على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ. فإن قلت. فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين؟ قلت: لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكما من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥ الى ٦]
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم.
والرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفى التأنيث كما قيل: القربة والقربى. وقرئ: روياك، بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي: رُيَّاك ورِيَّاك، بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة، لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار، و «اتجر» من الأجر فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار «أن» والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك: فإن قلت: هلا قيل: فيكيدوك، كما قيل: فكيدوني؟ قلت: ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ، ليورّط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله وَكَذلِكَ ومثل ذلك الاجتباء يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعنى وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام.
وقوله وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك. والاجتباء. الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض: جمعته. والأحاديث: الرؤيا: لأنّ الرؤيا إمّا حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وتأويلها. عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم
عبارة لها. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث، لأنه يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل: أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد.
وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل:
علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ وقيل: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا: ما رضى أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه. وقيل: كان يعقوب مؤثرا له بزيادة المحبة والشفقة لصغره، ولما يرى فيه من المخايل. وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة، فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل: لما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل. وآل يعقوب: أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل آل:
أهل، بدليل تصغيره على أُهَيل، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال: آل النبي، وآل الملك. ولا يقال: آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. وأراد بالأبوين: الجد، وأبا الجد، لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون: ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدّة. وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ يعلم من يحق له الاجتباء حَكِيمٌ لا يتم نعمته إلا على من يستحقها.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)
فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أى في قصتهم وحديثهم آياتٌ علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل آيات على نبوّة محمد ﷺ للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب.
وقرئ: آية، وفي بعض المصاحف: عبرة. وقيل: إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغى إخوته عليه، لما رأى من بغى قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم:
يهوذا: وروبيل، وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالى، وجاد، وآشر:
السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين: زلفة، وبلهة:
فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨)
لَيُوسُفُ اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت «١» لا شبهة فيه وَأَخُوهُ هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوته، لأنّ أمّهما كانت واحدة. وقيل أَحَبُّ في الاثنين، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من» ولا بد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في وَنَحْنُ عُصْبَةٌ واو الحال. يعنى: أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أى في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة: العشرة فصاعداً. وقيل: إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن علىّ رضى الله عنه: ونحن عصبة، بالنصب. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنبارى هذا كما تقول العرب، إنما العامري عمته، أى يتعهد عمته.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٩]
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
(١). قال محمود: «اللام للتوكيد، دخلت للاشعار بأن زيادة محبة أبيهم لهما أمر ثابت... الخ» قال أحمد:
وهذه تؤيد قراءة ابن مروان هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بالنصب. وقد قال سيبويه فيها: احتبى ابن مروان في لحنه، أى تمكن. وحيث تأيدت بقراءة أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فلا بد من التماس المحمل الصحيح لها وليس ذلك ببعيد إن شاء الله فنقول: لو قالوا «ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن نحن» على طريقة:
أنا أبو النجم وشعري شعري
ونحو: أنا أنا وأنت أنت. لم يكن في فصاحته مقال: وقد علمت أن معنى أنا أنا: أى أنا الموصوف بالأوصاف الشهيرة التي استغنى عن ذكرها، فلا بعد والحالة هذه في حذف الخبر، لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا، وراحة من تكرار اللفظ بعينه، والسياق يرشد إلى المحذوف، وإذا كان كذلك فقول القائلين لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ معناه: ونحن نحن، ولكن استغنوا عن الخبر للسر الذي ذكرناه، فقولهم: نَحْنُ كلام تام بالتقدير بالمذكور، فلا غرو في وقوع الحال بعده، وهذا بعينه يجرى في قوله هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فقوله هُنَّ في حكم الكلام التام. والمراد: هؤلاء بناتي هن المشهورات بالأوصاف الحميدة الظاهرة. وأصل الكلام: هن هن، فوقع الحال بعد التمام، والله أعلم.
اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة ما حكى بعد قوله: إذ قالوا، كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين أَرْضاً أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ وقيل يَخْلُ لَكُمْ يفرغ لكم من الشغل بيوسف مِنْ بَعْدِهِ من بعد يوسف، أى من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله مما جنيتم عليه.
أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم. وتَكُونُوا إمّا مجزوم عطفاً على يَخْلُ لَكُمْ أو منصوب بإضمار «أن والواو» بمعنى مع، كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠)
قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال، فلن أبرح الأرض.
قال لهم: القتل عظيم أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل:
وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِى غَيَابَتِى فَسِيرُوا بِسَيْرِى فِى الْعَشِيرَةِ وَالأَهْلِ «١»
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرئ غيابات، على الجمع. وغيابات، بالتشديد. وقرأ الجحدري: غيبة. والجب: البئر لم تطو، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير يَلْتَقِطْهُ يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرئ: تلتقطه. بالتاء على المعنى، لأنّ بعض السيارة سيارة، كقوله:
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ «٢»
(١). للمنخل. والغيابة: ما غاب عن الناظر من أسفل البئر ونحوه. يقول: وإن غيبتني مقبرتى، كناية عن موته، فسيروا بسيرى، أى فانعونى وسيروا بذكر خصالى، على عادة العرب إذا مات منها رئيس. ويحتمل أنه يوصى أقاربه بالخير، وأنهم يسيرون بمثل سيره، ويفعلون كفعله في جيرانه وقرابته.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٩٥ فراجعه إن شئت اه مصححه.
ومنه: ذهبت بعض أصابعه إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأى.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١١ الى ١٢]
قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرئ بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و: تيمنا: بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة «١» وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعاد به في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه يَرْتَعْ نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. وقرئ: نرتع، من ارتعى يرتعى. وقرئ: يرتع ويلعب، بالياء، ويرتع، من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة:
يرتع بكسر العين، ويلعب، بالرفع على الابتداء. فإن قلت: كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب؟ قلت: كان لعبهم الاستباق والانتضال، ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو، بدليل قوله إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٣]
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣)
لَيَحْزُنُنِي اللام لام الابتداء، كقوله إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سببى المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما: أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه «٢» برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل: رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم: «البلاء موكل بالمنطق». وقرئ الذِّئْبُ بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل: اشتقاقه من «تذاءبت الريح» إذا أتت من كل جهة.
(١). قوله «ما يدل على خلاف النصيحة والمقة» أى المحبة. وقد ومقه يمقه، بالكسر فيهما: أى أحبه، فهو وامق، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «اعتذر لهم بأمرين: أحدهما حزنه لمفارقته، والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه...
الخ»
قال أحمد: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل، فأمر سهل، فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه، والله أعلم.

[سورة يوسف (١٢) : آية ١٤]

قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
القسم محذوف تقديره: والله لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ واللام موطئة للقسم. وقوله إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ جواب للقسم مجزئ عن جزاء الشرط، والواو في وَنَحْنُ عُصْبَةٌ واو الحال:
حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم- وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب- إنهم إذاً لقوم خاسرون، أى هالكون ضعفا وخوراً وعجزاً.
أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدّمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون.
وقيل: إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها. فإن قلت: قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟ قلت: هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمرّين «١» فأعاروه آذاناً صما ولم يعبئوا به.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٥]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥)
أَنْ يَجْعَلُوهُ مفعول أَجْمَعُوا من قولك: أجمع الأمر وأزمعه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ.
وقرئ: في غيابات الجب: قيل هو بئر بيت المقدس. وقيل: بأرض الأردنّ. وقيل: بين مصر ومدين. وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب «لما» محذوف. ومعناه: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روى أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العداوة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح: يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتمونى موثقاً ألا تقتلوه فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردّوا علىّ قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكى، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان
(١). قوله «ويذيقهم الأمرين» الأمرين- بنون الجمع-: الدواهي، كذا بهامش. وفي الصحاح: الأمران:
الفقر والهرم. وفيه أيضاً: الأمر: المصارين يجتمع فيها الفرث. قال الشاعر:
فلا تهد الأمر وما يليه ولا تهدن معروق العظام
وقال أبو زيد: لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي اه (ع)
يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قيل أُوحى إليه في الصغر كما أُوحى إلى يحيى وعيسى: وقيل كان إذ ذاك مدركا. وعن الحسن: كان له سبع عشرة سنة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وإنما أُوحى اليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أَمره. ومعناه: لتتخلصن مما أَنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أَوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أَنه كان لكم أَخ من أَبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأَنكم انطلقتم به وأَلقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم: أَكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أَن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بقوله وَأَوْحَيْنا على أَنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أَنيس له. وقرئ: لننبئنهم، بالنون على أَنه وعيد لهم. وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق بأوحينا لا غير.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧)
وعن الحسن: عشيا، على تصغير عشىّ. يقال: لقيته عشيا وعشياناً، «١» وأصيلا وأصيلاناً ورواه ابن جنى: عشى، بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء. وروى أَن امرأَة حاكمت إلى شريح فبكت، فقال له الشعبي: يا أبا أمية، أما تراها تبكى؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة: ولا ينبغي لأحد أن يقضى إلا بما أمر أن يقضى به من السنة المرضية. وروى أَنه لما سمع صوتهم «٢» فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ هل أَصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال:
فما لكم وأين يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَى نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان
(١). قوله «يقال: لقيته عشياً وعشياناً» وهذا لو حذفت نونه صار عشيا، كقراءة الحسن. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «روى أنه لما سمع أصواتهم قال: يا بنى، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا.. الخ» قال أحمد: وقواه على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولا.
أكل الذئب إياه، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وكثيرا ما الأعذار الباطلة من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار.
كالانتضال والتناضل: والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى. نتسابق في العدو أو في الرمي.
وجاء في التفسير: ننتضل بِمُؤْمِنٍ لَنا بمصدّق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا، غير واثق بقولنا؟
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٨]
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)
بِدَمٍ كَذِبٍ ذى كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه، والزور بذاته. ونحوه:
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ
وقرئ، كذباً. نصباً على الحال، بمعنى: جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولا له.
وقرأت عائشة رضى الله عنها: كدب، بالدال غير المعجمة، أى كدر. وقيل: طرى، وقال ابن جنى: أصله من الكدب، وهو الفوف «١» البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزلّ عنهم أن يمزقوه. وروى أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تا لله ما رأيت كاليوم ذنبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات: كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر. فإن قلت: عَلى قَمِيصِهِ ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟ قلت: لا، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء، أى: سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً عظيما ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم: استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أُوحى إليه بأنهم قصدوه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا أى فأمرى صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وفي قراءة أبىّ: فصبراً جميلا. والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع «أنه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» «٢» ألا ترى إلى قوله نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
(١). قوله «وهو الفوف البياض» عبارة الصحاح: الفوف البياض الذي يكون في أظفار الأحداث اه، فجعل البياض خبرا عن الفوف وتفسيرا له، فلعله هنا: أى البياض. (ع)
(٢). أخرجه الطبري من طريق حيان بن أبى حثلة قال: سئل رسول الله ﷺ عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال: «صبر لا شكوى فيه. من بث لم يصبر» هذا مرسل.
وقيل: لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت. وقيل: سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب. خطيئة فاغفرها لي وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أى أستعينه عَلى احتمال ما تَصِفُونَ من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٩]
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤها ملحاً. فعذب حين ألقى فيه يوسف فَأَرْسَلُوا رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد: الذي يرد الماء ليستقى للقوم يا بُشْرى نادى البشرى، كأنه يقول: تعالى، فهذا من آونتك. وقرئ: يا بشراى، على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: يا بشرى، بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومولىّ. وعن نافع:
يا بشراى بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. وقيل: لما أدلى دلوه أى أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال: يا بشراى هذا غُلامٌ وقيل: ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به وَأَسَرُّوهُ الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة. وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وبِضاعَةً نصب على الحال، أى: أخفوه متاعا للتجارة. والبضاعة: ما بضع من المال للتجارة، أى قطع وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو: والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٠]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
وَشَرَوْهُ وباعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس ناقص عن القيامة نقصاناً ظاهراً، أو زيف
ناقص العيار دَراهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة «١» تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقيه وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة، لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها. وعن ابن عباس: كانت عشرين درهماً. وعن السدى:
اثنين وعشرين وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن «٢» لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالى بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى وَشَرَوْهُ واشتروه، يعنى الرفقة من إخوته وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لأنهم اعتقدوا أنه آبق فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق. وقوله فِيهِ ليس من صلة الزَّاهِدِينَ لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول: وكانوا زيدا من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل: في أى شيء زهدوا؟ فقال: زهدوا فيه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢١]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١)
الَّذِي اشْتَراهُ قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه
(١). قال محمود: «المعدودة كناية عن القليلة... الخ» قال أحمد: ومن التعبير عن القلة بالعدد: الدعوة المأثورة على الكفرة: «اللهم أحصهم عددا، واستأصلهم بددا ولا تبق منهم أحدا» فالمدعو به وإن كان إحصاؤهم عدداً في الظاهر، إلا أن هذا ليس مرادا لأن الله تعالى أحصى كل شيء عددا وأحاط به علما، فلا بد من مقصود وراء ذلك وهو لازم العدد وذلك القلة، فلما كان كل قليل معدودا وكل كثير غير معدود، دعى عليهم بالقلة وعبر عنها بلازمها وهو الإحصاء. والله أعلم.
(٢). قوله «فيبيعه بماطف من الثمن» أى قل. وفي الصحاح: الطفيف القليل. (ع)
مسكا وورقا وحريراً، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أى حسناً مرضياً، بدليل قوله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد: هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في لِامْرَأَتِهِ متعلقة بقال، لا باشتراه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيما لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وأبو بكر حين استخلف عمر رضى الله عنهما. وروى أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه وَكَذلِكَ الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره: ومثل ذلك الإنجاء والعطف مَكَّنَّا له، أى: كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكا يتصرف فيها بأمره ونهيه وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ على أمر نفسه: لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضى. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيد الله.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٢]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
قيل في الأشدّ: ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل: أقصاه ثنتان وستون حُكْماً حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل: حكما بين الناس وفقها وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٣]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
المراودة: مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعنى: خادعته عن نفسه، أى:
فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة.
وقرئ هَيْتَ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤه كبناء أين، وعيط. وهيت كجير وهيت كحيث. وهثت بمعنى تهيأت. يقال: هاء يهيء، كجاء يجيء: إذا تهيأ. وهيئت لك. واللام من صلة الفعل. وأما في الأصوات فللبيان «١» كأنه قيل: لك أقول هذا، كما تقول: هلم لك مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله معاذاً إِنَّهُ إن الشأن والحديث رَبِّي سيدي ومالكى، يريد قطفير أَحْسَنَ مَثْوايَ حين قال لك أكرمى مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم.
وقيل: أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٢٤]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه. قال:
هَمَمْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِى تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكى حَلَائِلُهْ «٢»
ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هما. أى ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه: الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ معناه. ولقد همت بمخالطته وَهَمَّ بِها وهمّ بمخالطتها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جوابه محذوف، تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف، لأنّ قوله وَهَمَّ بِها يدل
(١). قوله «وأما في الأصوات فللبيان» في الصحاح: هيت به وهوت به، أى صاح به ودعاه. وفيه أيضا قولهم «هيت لك» أى هلم لك وفيه. هلم يا رجل- بفتح الميم-: بمعنى تعالى. (ع)
(٢). لعمير بن ضابئ البرجمي، دخل على عثمان وهو مقتول فوطئ بطنه وكسر ضلعه وقال: عزمت على قتل عثمان ولم أقتله، وكدت أن أفعل وليتني قتلته. وكنى عن ذلك بقوله: «تركت على عثمان تبكى حلائله» وهو من باب التنازع. وأصله: تركت على عثمان حلائله تبكى فجعل حلائله فاعلا. وحذف مفعول تركت الأول لعلمه من الكلام، ولأنه فضلة وهي لا تضمر في هذا الباب. والمعنى ليتني قتلته فصيرت نساءه تبكى عليه، ودخل هذا الرجل على الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين: أنا شيخ ضعيف، وخرج اسمى في هذا البعث، فاقبل ابني بديلا عنى فقبله منه وخرج فقال عتبة بن سعيد: أيها الأمير، هذا هو الذي فعل بعثمان كذا وكذا، فقال: ردوه على، فقال له:
أيها الشيخ، هلا بعثت إلى عثمان أمير المؤمنين بديلا يوم الدار؟ إن في قتلك صلاحا، يا حرسى، اضربا عنقه.
أمير الحرسي بقتله وخاطبه خطاب المثنى على لغة الحرس الذين نسب المخاطب إليهم هذا. وقيل: إن القصة مع ضابئ نفسه، وأن عثمان كان حبسه في هجوه بنى نهشل، فلما قتل عثمان أفلت وفعل به ذلك.
455
عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنى خفت الله، معناه لولا أنى خفت الله. فإن قلت:
كيف جاز على نبىّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه «١» ميلا يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع، لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله وَهَمَّ بِها وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته «٢». كأنه شرع فيه فإن قلت: قوله وَهَمَّ بِها داخل تحت حكم القسم في قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أم هو خارج منه؟ قلت: الأمران جائزان، ومن حق القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاما برأسه أن يقف على قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ويبتدئ قوله وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هو الجواب مقدما؟ قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز، فإن قلت: فلم جعلت «لولا» متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معا، فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما؟ قلت: نعم ما قلت، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير. ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها، لولا أن رأى برهان ربه، فترك التوصل إلى حظه من الشهوة، فلذلك كانت «لولا» حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً: أعرض عنها، فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب
(١). قوله «وقرمه» أى شدة شهوته، أفاده الصحاح.
(٢). قوله «مشافهته» لعله: ومشابهته.
456
عاضا على أنملته. وقيل: ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به: يا يوسف، لا تكن كالطائر: كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل:
بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ فلم ينصرف، ثم رأى فيها وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا فلم ينته، ثم رأى فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام:
أدرك عبدى قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحيى منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحيى من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر «١» الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وجدت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره، كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب. وعلى ذى النون، وذكرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمى مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولى القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدى به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّى إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه بثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهى ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره. ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقى بأدنى ما لقى به
(١). قوله مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى» يريد بهم أهل السنة، ويريد بأهل العدل المعتزلة. وبهت الشخص: نسبه إلى قبيح لم يفعله، ولولا أن ذلك دائر بين السلف لما أوردوه. (ع)
457
نبى الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك. فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه كَذلِكَ الكاف منصوب المحل، أى مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أى الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ من خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ من الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح. الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم.
ويجوز أن يريد بالسوء. مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله مِنْ عِبادِنَا معناه بعض عبادنا، أى: هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا» نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت: كيف وحد الباب، وقد جمعه في قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ؟ قلت: أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل «١» يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من خلفه فانقد، أى انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها: سيدي.
وقيل: إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل:
ألفياه مقبلا يريد أن يدخل. وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك
(١). قوله «فراشة القفل» هو ما ينشب فيه. يقال أقفل فأفرش. (ع)
458
الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها «١» جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها: وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ و «ما» نافية، أى: ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى: أى شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول: من في الدار إلا زيد. فإن قلت: كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا «٢» قلت:
قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولولا ذلك لكتم عليها وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل: هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي ﷺ «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» «٣»
(١). قوله «إذ لم يؤاتها» في الصحاح: وتقول آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت: لم قالت ما قالت غير مصرحة بذكر يوسف... الخ» ؟ قال أحمد: أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها: هذا أراد بى سوءاً ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد، وإبعاد للتهمة عنها بتوقى ما يشعر منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال: قول ابنة شعيب تمدح موسى عليه السلام فيما حكى الله عنها قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ولم تقل: إنه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفراً، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، والله أعلم.
(٣). أخرجه الحاكم وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة والبزار وأبو يعلى. والطبري والبيهقي في السادس عشر من الشعب كلهم من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما رفعه «لما أسرى بى مرت رائحة طيبة- الحديث» فيه قصة الماشطة، وفي آخره قال رسول الله ﷺ «تكلم في المهد أربعة، وهم صغار: هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وفي الحاكم أيضاً من رواية مسلم بن إبراهيم عن جريج بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رفعه «لم يتكلم في المهد إلا أربعة وهم صغار: عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وذكره بلفظ ثلاثة. وذكر الثالث ابن المرأة التي ألقيت في النار. فخشيت على ولدها فكلمها» وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبى كان يرضع فمر رجل راكب على دابة- الحديث» اقتصر الطيبي على هذا الأخذ فلم يصب، وبهذا الاعتبار صاروا خمسة. وروى الثعلبي عن الضحاك أنهم ستة زادهم يحيى بن زكريا. [.....]
459
فإن قلت: لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة؟ «١» قلت: لما أدّى مؤدّى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمى شهادة: فإن قلت: الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة؟ قلت: لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل:
وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. فإن قلت: إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟
قلت: من وجهين، أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه «٢». وقرئ: من قبل،
(١). قال محمود: «إن قلت لم سمى قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة... الخ» ؟ قال أحمد: مهما قدره من ذلك في اتباعه لها، يحتمل مثله في اتباعها له، فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون اجتذبها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة أن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين، ثم جذبت قميصه إليها من قبل، بل هاهنا أظهر، لأن الموجب لقد القميص غالبا الجذب لا الدفع.
(٢). عاد كلامه. قال: «والثاني أن يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فينقد» قال أحمد: وهذا بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها فانقد قميصه في إسراعه للفرار، والله أعلم. فليس كلام الزمخشري في هذا الفصل بذاك. والحق- والله ولى التوفيق- أن الشاهد المذكور إن كان صبيا في المهد كما ورد في بعض الحديث، فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه، حتى لو قال: صدق يوسف وكذبت، لكفى برهانا على صدقه عليه السلام، كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تبقى المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها، لأن العمدة في الدلالة نصبها لا مناسبتها، وإن كان الشاهد بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له وإقامة الحق كما ذكر الزمخشري. فهذا والله أعلم كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف ويكذبها، ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل، على علم بأنه لم ينقد من قبل حتى ينفى عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، وينصفهما جميعا فيذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه، كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة، فلا يضره تأخيرها. وهذه اللطيفة بعينها- والله أعلم- هو التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فقدم قسم الكذب على قسم الصدق إزاحة التهمة التي خشي أن تنطرق إليه في حق موسى عليه السلام، ووثوقا بأن القسم الثاني وهو صدقه هو الواقع. فلا يضره تأخيره في الذكر لهذه الفائدة. ومن ثم قال بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل: كل ما يعدكم تعريضا بأنه معهم عليه، وأنه حريص على أن بخسه حقه، وينحو هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه، لأنه لو بدأ به لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه، والله أعلم. فقصد هذا الشاهد الأمارة الآخرة فقط.
والمناسبة فيها محققة. وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة، وإنما ذكرها توطئة كما تقدم. فلم يلتمس لها مناسبة جلية صحيحة على اليقين، وإنما هي كالفرض والتقدير والله أعلم. وكأنه قال: إن كان قميصه قدمن قبل فهي صادقة.
لكنه يعلم انتفاء الأمارة المذكورة، فعلق صدقها على محال وهو وجود قده من قبل حالة، فهذا التقرير هو الصواب والحق اللباب، والله الموفق. وأما إن كان الشاهد الحكيم الذي كان الملك يرجع إليه ويستشيره كما ورد في بعض التفاسير، فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عهدة الحكيم. وأقرب وجه في المناسبة أن قد القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقده من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، والله أعلم.
460
ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى: من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبى إسحاق أنه قرأ: من قبل ومن دبر بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا «١» بسكون العين. فإن قلت: كيف جاز الجمع بين «إن» الذي هو للاستقبال وبين «كان» ؟ قلت: لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك: إن أحسنت إلىّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد: إن تمتن علىَّ أمتنَّ عليك فَلَمَّا رَأَى يعنى قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها قالَ إِنَّهُ إن قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً «٢» أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف مِنْ كَيْدِكُنَّ الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة «٣» ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البواتق «٤» وعن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال:
خطئ، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال مِنَ الْخاطِئِينَ بلفظ التذكير تغليبا للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلا حليما. وروى أنه كان قليل الغيرة.
(١). قوله «وقرئا» أى: قبل ودبر، وقوله «بسكون العين» : أى الباء. (ع)
(٢). قال محمود: «الضمير راجع إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً... الخ» قال أحمد: وفيما قاله هذا العالم نظر، لأن الآية التي ذكر فيها كيد الشيطان من قول الله تعالى غير محكي. وأما هذه الآية فكيد النساء فيها من قول العزيز، ولكن حكاه الله تعالى عنه فيحتمل حكايته عنه أن يكون تصحيحا له، ويحتمل أن لا يكون المراد تصويبه، وأيضا فان كيد الشيطان مذكور في الآية مقابلا لكيد الله تعالى، فكان ضعيفا بالنسبة إليه. ألا ترى أول الآية الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وأيضاً فان الكيد الذي يتعاطاه النساء وغيرهن مستفاد من الشيطان بوسوسته وتسويله وشواهد الشرع قائمة على ذلك، فلا يتصور حينئذ أن يكون كيد هن أعظم من كيده، والله أعلم.
(٣). قوله «نيقة» اسم للتأنق في الأمر. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قوله «مع غيرهن من البوائق» أى الدواهي. أفاده الصحاح. (ع)
461

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]

وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢)
وَقالَ نِسْوَةٌ وقال جماعة من النساء وكنّ خمسا: امرأة الساقي، وامرأَة الخباز، وامرأَة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة: اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقى كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان: كسر النون وضمها فِي الْمَدِينَةِ في مصر امْرَأَتُ الْعَزِيزِ يردن قطفير، والعزيز: الملك بلسان العرب فَتاها غلامها. يقال: فتاي وفتأتي، أى غلامى وجاريتي شَغَفَها خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب.
قال النابغة:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِجٌ مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيِه الأَصَابِعُ «١»
(١).
وقد حال هم دون ذلك والج مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبى قابوس في غير كنهه أتانى ودوني راكش فالضواجع
النابغة، يعتذر إلى النعمان ملك العرب عما قذفه به الواشون، أى وقد حال هم دون التغزل في المحبوبة وغيره من اللذات «والج» داخل مكان الشغاف. ويروى «ولوج الشغاف» أى كولوجه، والشغاف: داء في القلب جهة اليمين تخرجه الأطباء بأصابعهم، فتبتغيه الأصابع: من صفته على أنه حال منه. وقيل: حجاب القلب، أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، فتبتغيه: صفة للهم، وشبه الأصابع بمن يصح منه الطلب على طريق المكنية والابتغاء تخييل، ثم إنه شبه الهم المعقول بمحسوس وبالغ في ذلك حتى ادعى أن الأصابع تفتش عليه فلا تجده لشدة ولوجه وكمونه في القلب، أو تلمسه وتريد إخراجه. وبين الهم بقوله: وعيد النعمان أبى قابوس وتهديده حال كونه في غير كنه وحقيقته، أى: لم يبلغني بكماله. أو لأنه بلا سبب حصل منى، بل افترى الوشاة على كذباً جاءني. ودوني:
؟؟؟ أمامى هذين الموضعين وهما مسافة بعيدة، ومع ذلك أدركنى الخوف أو بعد المسافة، دلالة على غضب الملك عليه غضباً شديداً.
462
وقرئ: شعفها، بالعين، من شعف البعير إذا هنأه «١» فأحرقه بالقطران، قال:
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالِى «٢»
وحُبًّا نصب على التمييز فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في خطإ وبُعدٍ عن طريق الصواب بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهنّ وسوء قالتهنّ، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعانى ومقتها، وسمى الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالى غيبة، كما يخفى الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ دعتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي فعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن «٣» ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولنهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل: متكأ:
مجلس طعام لأنهم كانوا يتكؤن للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك «نهى أن يأكل الرجل متكئا» «٤» وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل مُتَّكَأً طعاما، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا «٥»، على سبيل الكناية، لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له
(١). قوله «إذا هنأه» في الصحاح «هنأت البعير» إذا طليته بالهناء. وهو القطران. (ع)
(٢).
أتقتلني وقد شعفت فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالى
لامرئ القيس، والاستفهام للإنكار والاستبعاد، أو للتعجب. وشعف الجمل: إذا أحرقه بالقطران المغلي على النار، وهنأه: دهنه بذلك القطران، فأطلق الشعف وأريد منه مطلق الإحراق، ثم أريد منه الإحراق بالعشق مجازاً مرسلا ليصح التشبيه في قوله: كما أحرق الإبل المدهونة الداهن لها. وإن كان شغفت بالغين المعجمة فالمعنى:
أصبت شغاف قلبها بالحب، وهو حجاب القلب أو لسانه أو حبة سوداء في وسطه، كما شغف: أى أخاف الإبل المدهونة وراع قلبها الرجل الداهن لها. لأنها تخافه في الأول. وقيل: شبه حبها باستلذاذ الإبل لذلك الطلى بعد دهنها به.
(٣). قوله «يدهشن» أى يتحيرن. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن ابن الزبير عن جابر قال «نهى رسول الله ﷺ أن يأكل أحدنا بشماله وبأن يأكل متكئاً» وفي الطبري من حديث ابن مسعود «نهى رسول الله ﷺ عن صومين وصلاتين ولباسين ومطعمين وبيعتين» ومنكحين- إلى أن قال: وأما المطعمان فأن يأكل الرجل بشماله ويمينه صحيح. وأن يأكل متكئا، إسناده جيد. وله في الأوسط وفي مسند الشاميين من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ «لا تأكل متكئاً. ولا تتخط رقاب الناس يوم الجمعة» وأعله ابن حبان في الضعفاء بزريق بن عبد الله رواية عن عمرو بن الأسود عن أبى الدرداء. وفي الباب عن ابن أبى إهاب.
أخرجه البزار بلفظ «نهى أن نأكل متكئين».
(٥). قوله «طعمنا» لعله «أى طعمناه». (ع)
463
تكأة يتكئ عليها. قال جميل:
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ وَاتَّكَأْنَا وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهْ «١»
وعن مجاهد مُتَّكَأً طعاما يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين، لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين. وقرئ متكا بغير همز. وعن الحسن: متكاء بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله «بُمْنتَزاحِ» «٢» بمعنى بمنتزح. ونحوه «يَنْبَاعُ» «٣» بمعنى ينبع. وقرئ:
متكا وهو الأترج، وأنشد:
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِى أبِيهَا تَخُبُّ بِهَا العثَمْثَمَةُ الْوِقَاحُ «٤»
وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل: الزماورد «٥» وعن وهب: أترجا وموزاً وبطيخا.
وقيل: أعتدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج: مُتَّكَأً مفعلا، من تكئ يتكأ، إذا اتكأ أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق.
قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بى إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟
فقال يوسف»
فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال «كالقمر ليلة البدر «٦» » وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها.
(١). لحميد بن ثور. وقيل لجميل بن معمر. وظل يظل من باب علم. يقول: فظللنا في نعمة أو ملتبسين بنعمة.
واتكأنا: أصله اوتكأنا فتاؤه الأولى واو: أى اتخذنا متكأ اضطجعنا عليه، وشربنا الشراب الحلال يمنى النبيذ، من قلله: جمع قلة، وهي الجرة العظيمة. ففي ذكر القلل دلالة على التوسع في الشرب وعدم التحجر فيه.
(٢). قوله «بمنتزاح» هو من قول الشاعر:
وأنت من الغوائل حين ترمى وعن ذم الرجال بمنتزاح
والبيت لابن هرمة يرثى ابنه. والغوائل: الحوادث التي تغتال النفوس وتهلكها. ونزح: إذا بعد، والمنتزح:
اسم لمكان البعد، وأشبعت فتحته فتولدت منها الألف كقولهم: ينباع في ينبع، وعقراب في عقرب. [.....]
(٣). قوله «ينباع» هو من قول الشاعر:
ينباع من ذفرى أسيل حرة زيافة مثل الفنيق المكدم
وقد مر شرح هذا البيت في سورة الأعراف بهذا الجزء صفحة ١٢٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٤). المتكة: الأترجة، وكأنه التي ذكر أبو داود في سننه أنها شقت نصفين وحملت على ناقة. والخبب:
نوع من السير. والعثمثمة: الصلبة: والوقاح- بالفتح-: شديدة وقع الخف على الأرض.
(٥). قوله «الزماورد» هو الرقاق المحشو باللحم. (ع)
(٦). أخرجه الثعلبي من رواية أبى هارون العبدى عن أبى سعيد. وأخرجه الحاكم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه من هذا الوجه مطولا.
464
وقيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل: أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته: دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ فِى الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ «١»
قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها حاشَ كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال:
حَاشَا أَبِى ثَوْبَانَ إنَّ بِهِ ضَنَّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ «٢»
وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا الله» براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ:
حاشا لله، فنحو قولك: سقيا لك، كأنه قال: براءة، ثم قال: لله، لبيان من يبرأ وينزه.
والدليل على تنزيل «حاشا» منزلة المصدر: قراءة أبى السمال: حاشَ لِلَّهِ، بالتنوين. وقراءة أبى عمرو حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش حاشَ لِلَّهِ بحذف الألف الأولى.
وقرئ حاشَ لِلَّهِ بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه. وقرئ: حاشا الإله. فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى: براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى
(١). لأبى الطيب، يقول: اتق الله واستر هذا الجمال الذي في وجهك ببرقع، لأنك إن ظهرت حاضت العواتق، أى خيار النساء وهن في خدورهن، لما ينظرن من جمالك. ولاح يلوح: ظهر يظهر.
(٢).
حاشا أبى ثوبان إن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم
عمرو بن عبد الله إن به ضنا عن الملحاة والشتم
للمنقذ بن الطماح وهو الجميح الأسدى. وحاشا: كلمة تبرئة وتنزيه واقعة موقع المصدر مضافة لما بعدها، كسبحان الله. ويجوز أنها حاشا الاستثنائية، وهي حرف جر عند الأكثر. ورواه الضبي: حاشا أبا ثوبان بالنصب، فهو فعل، واحتمال لغة القصر ضعيف لشهرة لغة الاعراب بالحروف. وعلى الأول فبناؤها لمشابهتها للحرفية لفظا ومعنى.
وبكم الرجل- كتعب-: إذا عجز عن الكلام. وقدم كسهل وظرف، إذا عجز عن الحجة كأن فمه مسدود.
والضن- بالكسر-: البخل. والملحاة: مفعلة، من لحاه إذا لامه. واللحاء- كالرداء- مفاعلة من اللحن والعذل، من لحوت العود إذا قشرته. وتكرير أبى ثوبان لتعظيمه والتنويه باسمه، ليس ببكمة بالضم، أى ذى بكمة، أى:
ليس بأبكم، ولا قدم: أى عاجز عن الكلام. وعمرو: قيل إنه بدل من أبى ثوبان، فقوله: إن أبا ثوبان الخ:
جملة اعتراضية مبينة لوجه التنزيه. وفي قوله: إن به ضنا، بيان لوجه سكوته عن مؤاخذة اللئام. والمعنى: إن به امتناعا وتنزها عن اللؤم والشتم.
465
قولهم: جلست من عن يمينه، كيف تركوا «عن» غير معرب على أصله؟ وعلى «١» في قوله «غدت من عليه» منقلب الألف إلى الياء مع الضمير؟ والمعنى: تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه «٢»، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأنّ الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة «٣» المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال «ما» عمل «ليس» هي اللغة القدمى الحجازية «٤» وبها ورد القرآن. ومنها قوله تعالى ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ومن قرأ على سليقته من بنى تميم، قرأ «بشر» بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرئ: ما هذا بشرى، أى ما هو بعبد مملوك لئيم إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ تقول هذا بشرى، أى حاصل بشرى، بمعنى: هذا مشرى. وتقول: هذا لك بشرى أم بكرى؟
والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف، ومطابقة بشر لملك قالَتْ فَذلِكُنَّ ولم تقل فهذا وهو حاضر «٥»، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً
(١). قوله «على أصله وعلى في قوله» عطفه يحتاج إلى تكلف، أى: وإلى قوله غدت من عليه بعد مأتم ظمؤها كيف ترك على في قوله. ويمكن أن التقدير: ألا ترى إلى قولهم الخ وعلى في قوله أى: وألا ترى على... الخ. (ع)
(٢). قال محمود: «نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه... الخ» قال أحمد: تقدم القول في مسألة التفضيل شافياً، والزمخشري لا يدعه التعصب للمعتقد الفاسد أن يحمله على مثل هذه المشافهات، يرمى بها أهل الحق فينسب إليهم الإجبار والخسار والمكابرة في الضروريات وجحد الحقائق تعكيساً، وهذا كله هم برآء منه، وحسبه من المقابلة بذلك خطؤه في اعتقاد أن تفضيل الملك عند قائله ليس ضروريا ولا عقلياً نظريا، ولكن سمعياً، وقد قنع في الاستدلال على هذه العقيدة بالضرورة التي ادعى أنها مركوزة في الطباع، ثم حكم بأن كل مركوز في الطباع حق، وخصوصاً والكلام في طباع النساء القائلات: ما هذا بشرا. وإذا كان كل مركوز في الطباع حقاً، فما ركز فيها حب الشهوات وإيثار العاجلة وجميع أمهات. الذنوب مركوز في الطباع، أفيكون ذلك حقاً إلا عند ناظر بعين الهوى، أعشى في سبيل الهدى، والله ولى التوفيق.
(٣). قوله «إلا ما عليه الفئة الخاسئة» يريد أهل السنة، وقد أساء في تعصبه للمعتزلة فعفا الله عنه. (ع)
(٤). قوله «ليس هي اللغة القدمى الحجازية» بمعنى القديمة، لكن لم يذكرها في الصحاح. (ع)
(٥). قال محمود: «لم لم تقل فهذا وهو حاضر... الخ» قال أحمد: وبهذا أجبت عما أورده من السؤال في قوله تعالى أول البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ لما جعل الاشارة إلى الحروف المذكورة فقال: إن قلت كيف أشار إليها وهي قريبة كما يشار إلى البعيد، وأجاب هو بأن كل متقض بعيد، وأجبت أنا بأن الاشارة بذلك إلى بعيد منزلة هذا الكتاب بالنسبة إلى كتب الله تعالى.
466
لمحله. ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنىّ بقولهنّ: عشقت عبدها الكنعانى. تقول: هو ذلك العبد الكنعانى الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتنني فيه. تعنى: أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتننى في الافتنان به. الاستعصام: بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأى واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. فإن قلت: الضمير في آمُرُهُ راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف؟ قلت: بل إلى الموصول. والمعنى: ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك: أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية، فيرجع إلى يوسف. ومعناه: ولئن لم يفعل أمرى إياه، أى موجب أمرى ومقتضاه. قرئ وَلَيَكُوناً بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
وقرئ السِّجْنُ بالفتح، على المصدر. وقال يَدْعُونَنِي على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزيّن له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلى من ركوب المعصية. فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهنّ. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا، لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها. وقرئ: أصب إليهنّ، من الصبابة مِنَ الْجاهِلِينَ من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح. وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي
فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف السَّمِيعُ لدعوات الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم وما يصلحهم.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٥]
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
بَدا لَهُمْ فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو: ليسجننه، والمعنى: بدا لهم بداء، أى: ظهر لهم رأى ليسجننه، والضمير في لَهُمْ للعزيز وأهله مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب «١» وكان مطواعة لها وجميلا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أو عدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن: لتسجننه، بالتاء على الخطاب: خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم حَتَّى حِينٍ إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود: عتى حين، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع رجلا يقرأ «عتى حين» فقال: من أقرأك؟ قال:
ابن مسعود. فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٦]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)
«مع» يدل على معنى الصحبة واستحداثها. تقول: خرجت مع الأمير، تريد مصاحبا له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له فَتَيانِ عبدان للملك: خبازه وشرابيه: رقى إليه أنهما يسمانه، «٢» فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام إِنِّي أَرانِي يعنى في المنام، وهي حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً يعنى عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل: الخمر- بلغة عمان-: اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود: أعصر عنبا مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أمى: يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن
(١). قوله «وفتلها منه في الذروة» أى دورانها من وراء خديعته. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «رقى إليه أنهما يسمانه» في الصحاح: رقى إليه الكلام ترقية، أى: رفع إليه. (ع)
رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم.
أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روى أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: أبشروا. اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجرا، فقالوا: بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى؟ قال، أنا يوسف ابن صفىّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك، ولكنى أحسن جوارك، فكن في أى بيوت السجن شئت. وروى أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال: أنشد كما بالله أن لا تحبانى، فو الله ما أحبنى أحد قط إلا دخل علىّ من حبه بلاء، لقد أحبتنى عمتي فدخل علىّ من حبها بلاء، ثم أحبنى أبى فدخل علىّ من حبه بلاء، ثم أحبتنى زوجة صاحبي فدخل علىّ من حبها بلاء، فلا تحبانى- بارك الله فيكما- وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي، إنى أرانى في بستان، فإذا بأصل حبلة «١» عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز: إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ؟ قلت: إلى ما قصا عليه. والضمير يجرى مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨)
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك «٢» فوصل به وصف نفسه بما هو فوق
(١). قوله «فإذا بأصل حبلة» في الصحاح «الحبلة» بالضم: ثمر العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك والحبلة- بالتحريك-: القضيب من الكرم. وفيه أيضا: سلة الخبز معروفة. (ع) [.....]
(٢). قوله «افترص ذلك» أى اتخذه فرصة، أى نوبة وحظا ونصيبا، أفاده الصحاح. (ع)
علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذى علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، فيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده- وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين- لم يكن من باب التزكية بِتَأْوِيلِهِ ببيان ماهيته وكيفيته، لأنّ ذلك بشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ذلِكُما إشارة لهما إلى التأويل، أى ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي وأوحى به إلىّ ولم أقله عن تكهن وتنجم إِنِّي تَرَكْتُ يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلا لما قبله. أى علمني ذلك وأوحى إلىّ، لأنى رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون: أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء. ويجوز أن يكون فيه تعريض بما منى به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبىّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله ما كانَ لَنا ما صحّ لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ أى شيء كان من ملك أو جنىّ أو إنسىّ، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر، ثم قال ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ أى على الرسل وعلى المرسل إليهم، لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم لا يَشْكُرُونَ فضل الله فيشركون ولا يتنبهون. وقيل: إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ يريد يا صاحبيَّ في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك: يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول رجلا صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبد كما هذا ويستعبد كما هذا خَيْرٌ لكما أَمِ أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو الْقَهَّارُ الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام ما تَعْبُدُونَ خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر إِلَّا أَسْماءً يعنى أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى سَمَّيْتُمُوها سميتم بها. يقال: سميته بزيد، وسميته زيداً ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أى بتسميتها مِنْ سُلْطانٍ من حجة إِنِ الْحُكْمُ في أمر العبادة والدين إِلَّا لِلَّهِ ثم بين ما حكم به فقال أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت الذي دلت عليه البراهين.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤١]
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
أَمَّا أَحَدُكُما يريد الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده. وقرأ عكرمة: فيسقى ربه، أى يسقى ما يروى به على البناء للمفعول. روى أنه قال للأوّل: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضى في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل قُضِيَ الْأَمْرُ قطع وتم ما تَسْتَفْتِيانِ فيه من أمر كما وشأنكما. فإن قلت: ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد؟ قلت: المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله، وظنا أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما: قضى الأمر الذي فيه تستفتيان، أى: ما يجرّ إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل: جحدا وقالا: ما رأينا شيئاً، على ما روى
أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٢]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحى فالظان هو الشرابي، ويكون الظنّ بمعنى اليقين اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ صنفي عند الملك بصفتى، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشنى من هذه الورطة فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ فأنسى الشرابي ذِكْرَ رَبِّهِ أن يذكره لربه. وقيل فأنسى يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين. فإن قلت: كيف يقدر الشيطان على الإنسان؟ قلت: يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره. وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها. فإن قلت: ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول؟ قلت: قد لابسه في قولك: فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير: فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار. فإن قلت: لم أنكر على يوسف الاستغاثة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وقال حكاية عن عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وفي الحديث «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم» «١» «من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة» وعن عائشة رضى الله عنها: أنّ رسول الله ﷺ لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه «٢». وهل ذلك إلا مثل التداوى بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة. وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ؟
قلت: كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها
(١). متفق عليه من حديث أبى هريرة في أثناء حديث.
(٢). متفق عليه من طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عنها بلفظ «أرق رسول الله ﷺ ذات ليلة. فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابى يحرسنى الليلة. قال: وسمعت صوت السلاح فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال سعد بن أبى وقاص: يا رسول الله جئت أحرسك. فقالت عائشة فنام حتى سمعت غطيطه» وغفل الحاكم فاستدركه.
والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلى ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً، لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا. وعن الحسن أنه كان يبكى إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٣]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)
لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر «الريان بن الوليد» رؤيا عجيبة هالته: رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس. وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها سِمانٍ جمع سمين وسمينة، وكذلك رجال ونسوة كرام. فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سِمانٍ صفة للميز وهو بَقَراتٍ دون المميز وهو سَبْعَ وأن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت:
إذا أوقعتها صفة لبقرات. فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ. ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟
قلت، التمييز موضوع لبيان الجنس، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده. فإن قلت:
فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها:
صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجر في غيرها. ألا تراك لا تقول:
عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ. فإن قلت: ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه.
ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات؟ قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء بقولك سَبْعٌ عِجافٌ عما تقترحه من التمييز بالوصف. والعجف: الهزال الذي ليس بعده، والسبب في وقوع «عجاف» جمعا «لعجفاء» وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال: حمله على سمان، لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض. فإن قلت: هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر؟ قلت: الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد
في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ بمعنى وسبعاً أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ على سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدى إلى تدافع، وهو أن عطفها على سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ يقتضى أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة، ولفظ الأخر يقتضى أن تكون غير السبع، بيانه: أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود، بالجرّ، فيصح، لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود، فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود، تدافع ففسد يا أَيُّهَا الْمَلَأُ كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء. واللام في قوله لِلرُّءْيا إما أن تكون للبيان، كقوله وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وإما أن تدخل، لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل، إذا قلت: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوة. ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه. وتَعْبُرُونَ خبر آخر. أو حال، وأن يضمن تَعْبُرُونَ معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره «١». ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. وعبرت الرؤيا- بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت» بالتشديد والتعبير والمعبر. وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا وَكُنْتُ لِلْأحْلَامِ عَبَّارَا «٢»
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٤]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤)
أَضْغاثُ أَحْلامٍ تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان.
وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات وحزم، الواحد: ضغث، فاستعيرت لذلك،
(١). قوله «آخر عرضه وهو عبره» في الصحاح: «عبر النهر، وعبر شطره وجانبه. (ع)
(٢). أنشده المبرد في كتابه. والرؤيا- بالألف: مصدر رأى المنامية، ويقل مجيئه بالتاء. ومصدر البصرية بالعكس، وعبرت الرؤيا- بالتخفيف وبالتضعيف كما هنا-: ذكرت عاقبتها وأدركت غايتها كأولتها، إذا ذكرت مآلها ومرجعها. والأحلام: جمع حلم بالضم، وهو ما يراه النائم. والعبار: مبالغة في المعبر أو في العابر، واللام تزاد في المعمول لتقوية العامل إذا ضعف بالتأخر، أو بكونه فرعا عن الفعل، وقد اجتمع الأمران هاهنا فزيدت اللام.
والإضافة بمعنى «من» أى أضغاث من أحلام. والمعنى: هي أضغاث أحلام. فإن قلت: ما هو إلا حلم واحد، فلم قالوا: أضغاث أحلام فجمعوا؟ قلت: هو كما تقول: فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة، تزيدا في الوصف، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان، فجعلوه أضغاث أحلام. ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة «١» خاصة، فيقولوا: ليس لها عندنا تأويل، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير «٢».
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٥]
وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
قرئ وَادَّكَرَ بالدال وهو الفصيح. وعن الحسن: واذكر، بالذال المعجمة. والأصل:
تذكر، أى تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه بَعْدَ أُمَّةٍ بعد مدّة طويلة، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك. وقرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّةٍ بكسر الهمزة، والإمّة النعمة. قال عدى:
ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَ... الْإِمَّةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ الْقُبُورُ «٣»
(١). قال محمود: «يحتمل أن يكون مرادهم بالأحلام المنامات... الخ» قال أحمد: وهذا هو الظاهر، وحمل الكلام على الأول يصيره من وادى:
على لا حب لا يهتدى بمناره
كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله- إلى قوله- لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون: دليل أيضاً على ذلك، والله أعلم.
(٢). قوله «بنحارير» جمع نحرير وهو العالم المتقن، كما في الصحاح. (ع)
(٣).
أين كسرى كسرى الملوك أبو سا... سان بل أين قبله سابور
ثم بعد الفلاح والملك والامة... وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف... فأولت به الصبا والدبور
لعدي بن زيد. وكسرى وساسان وسابور: أسماء ملوك وساسان: هو أبو الأكاسرة. ويروى: أنو شروان، بدل أبو ساسان، فهو كلمة واحدة. وكسرى الثاني بدل من الأول، مضاف لما بعده، كما يقال: ملك الملوك، وهو فارسى معرب، وأصله خسرو، فغيرته العربية. وإن كان عربيا مأخوذا من الكسر، فالمعنى أنه كان يكسر شوكة الملوك، وما بعد عطف بيان له وقيله متعلق بمحذوف حال من سابور وفي «بل» دلالة على أن سابور أعظم منهما. وثم- بالفتح- ظرف خبر لمحذوف أى هم ثم. وإن ضمت فهي عاطفة على محذوف، أى أفلحوا ثم بعد الفلاح، أى البقاء أو الفوز والملك. وروى بدله «الرشد». والامة- بالكسر-: النعمة، وبالضم: الجيش العظيم. وارتهم: أى سترتهم قبورهم في ذلك المكان، كناية عن موتهم، فيدفنون في باطن الأرض بعد عظمتهم على وجهها، ثم شبههم بالورق الذي جف فاختلفت به الصبا والدبور، فهذه نظيرة كذا وهذه نظيرة كذا، فألوت بمعنى التوت، أو بمعنى: أوقعت به الى، يعنى تطاول بهم الزمان حتى تفتت عظامهم وصارت كذلك.
أى بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرئ بَعْدَ أُمَّةٍ بعد نسيان «١». يقال: أمه يأمه أمها، إذا نسى. ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ «٢» أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أنا أخبركم به عمن عنده علمه.
وفي قراءة الحسن: أنا آتيكم بتأويله فَأَرْسِلُونِ فابعثونى إليه لأسأله، ومرونى باستعباره.
وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٦]
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)
المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل، ولذلك كلمه كلام محترز فقال لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لأنه ليس على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا. أو معنى لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
تَزْرَعُونَ خبر في معنى الأمر، كقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاب المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه.
والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. دَأَباً بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدرا: دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أى دائبين: إمّا على تدأبون دأباً، وإمّا على إيقاع المصدر حالا، بمعنى: ذوى دأب فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا يتسوس. ويَأْكُلْنَ
(١). قوله «قرئ بعد أمه بعد نسيان» لعله أى بعد. (ع)
(٢). قوله «ومن قرأ بسكون الميم فقد خطئ» بمعنى أثم من الخطأ بالكسر، وهو الإثم. أفاده الصحاح. (ع)
من الإسناد المجازى: جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبؤن يُغاثُ النَّاسُ من الغوث أو من الغيث. يقال: غيثت البلاد، إذا مطرت. ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.
يَعْصِرُونَ بالياء والتاء: يعصرون العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع.
وقرئ: يعصرون، على البناء للمفعول، من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبنى للفاعل بمعنى ينجون، كأنه قيل: فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أى يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل يَعْصِرُونَ يمطرون، من أعصرت السحابة. وفيه وجهان: إمّا أن يضمن أعصرت معنى مطرت، فيعدّى تعديته. وإمّا أن يقال: الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل. تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركا خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحى. وعن قتادة: زاده الله علم سنة.
فإن قلت: معلوم أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لم توصف بالانتهاء، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحى؟ قلت: ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلا. وقوله فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ تفصيل لحال العام، وذلك لا يعلم إلا بالوحي.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف «١» به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون «٢» إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه.
وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفى التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه السلام:
(١). قال محمود: «إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك لتظهر براءة ساحته عما قرف به... الخ» قال أحمد: ولقد مدحه النبي ﷺ على هذه الأناة بقوله: ولو لبثت في السجن بعض ما لبثت يوسف لأجبت الداعي، وكان في طيّ هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم من أنه هم بزليخا هما يؤاخذ به، لأنه إذا صبر وتثبت فيما له أن لا يصير فيه وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوفرة على الخروج منه، فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر، والله أعلم.
(٢). قوله «عما قرف به الخ» أى اتهم به. والتسلق: التوسل. (ع)
477
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم «١» » ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه- «هي فلانة» «٢» اتقاء للتهمة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره- والله يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجونى. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة «٣» وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة». وإنما قال: سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث «٤» حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل. وقرئ النِّسْوَةِ بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه: أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ إِنَّ رَبِّي إنّ الله تعالى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه، وأنه بريء مما قرف به. أو أراد الوعيد لهنّ، أى: هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أى ثبت واستقرّ وقرئ حَصْحَصَ على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته «٥» للإناخة. قال
(١). يأتى في الأحزاب.
(٢). متفق عليه من حديث على بن الحسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول الله ﷺ يعتكف فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معى ليقلبنى. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار. فلما رأياه أسرعا. فقال: على رسلكما، إنما صفية- الحديث» [.....]
(٣). أخرجه عبد الرزاق والطبري من طريقه عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة بهذا بدون قوله «إن كان لحليما ذا أناة» وصله إسحاق من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بمعناه وزاد: ولولا الكلمة التي قالها ما لبث في السجن حتى يبتغى الفرج من عند غير الله- يعنى قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق إسحاق. وأما قوله «إن كان لحليما ذا أناة» فأخرج الطبري من رواية أبى إسحاق عن رجل لم يسم عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبي ﷺ قال «يرحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلى لخرجت سريعا، إن كان لحليما ذا أناة» ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبى بكر عن الزهري وعن الأعرج عن أبى هريرة.
(٤). قوله «وفص الحديث» في الصحاح «فص الأمر» مفصله. (ع)
(٥). قوله «ألقى ثفناته للاناخة» هي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما، كذا في الصحاح. (ع)
478
فَحَصْحَصَ فِى صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِهِ وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا «١»
ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة «٢» واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهنّ خصومه. وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. وقالت المجبرة والحشوية «٣» نحن قد بقي لنا مقال، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٢]
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
ذلِكَ لِيَعْلَمَ من كلام يوسف، «٤» أى ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بظهر الغيب في حرمته. ومحل بِالْغَيْبِ الحال «٥» من الفاعل أو المفعول، على معنى: وأنا غائب عنه خفى عن عينه أو وهو غائب عنى خفى عن عينى. ويجوز أن يكون ظرفا، أى بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة وَليعلم أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه ولا يسدّده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده.
(١). لحميد بن ثور يصف بعيرا بأنه ألقى في الحجارة الصلبة أعضاءه التي يبرك عليها عند الاناخة، والصم جمع صماء أو أصم أى صلب. وناء: أى قام متثاقلا بسلمى محبوبتى نوأة ونهضة واحدة لم يتردد، ثم صمم وعزم على السير. وروى أن سمرة بن جندب أتى برجل عنين، فاشترى له جارية من بيت المال وأدخلها معه ليلة، فلما أصبح قال له: ما صنعت؟ قال: فعلت حتى حصحصت فيه، فسألها فقالت: لم يصنع شيئا. فقال: دخل سبيلها.
(٢). قال محمود: «لا مزيد على شهادتهن له بالبراءة واعترافهن على أنفسهن... الخ» قال أحمد: الصحيح من مذاهب أهل السنة تنزيه الأنبياء عن الكبائر والصغائر جميعا، وتتبع الآي المشعرة بوقوع الصغائر بالتأويل. وذهب منهم طائفة مع القدرية إلى تجويز الصغائر عليهم، بشرط أن لا تكون منفرة. والصحيح عندنا في قصة يوسف عليه السلام أنه مبرأ عن الوقوع فيما يؤاخذ به، وإن الوقف عند قوله هَمَّتْ بِهِ ثم يبتدأ وَهَمَّ بِها. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كما تقول. قتلت زيداً لولا أننى أخاف الله، فلا يكون الهم واقعا لوجود المانع منه، وهو رؤية البرهان. فان كان الزمخشري يعرض بأهل السنة فقد بينا معتقدهم، وإن كان يعرض بالمجبرة والحشوية حقيقة، فشأنه وإياهم.
(٣). قوله و «قالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال ولا بد لنا من أن ندق في فروة» يريد أهل السنة وقوله نحن قد بقي لنا الخ يعنى أن حالهم في تفسير الهم والبرهان يمثل بذلك. والفروة: جلدة الرأس. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال: «وقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ الخ: من كلام يوسف عليه السلام والمعنى أن ذلك الجد في ظهور البراءة ليعلم... الخ» قال أحمد: وإرادته لعموم الأحوال أدخل في تنزيهه، وأدل على أن الغرض بهذا الكلام التواضع منه والتبري من تزكية النفس، فهو أدل على هذا المعنى من حمله على الحادثة الخاصة والله أعلم.
(٥). قوله «ومحل بالغيب الحال من الفاعل» لعله محل الحال أو النصب على الحال. (ع)

[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٣]

وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، كما قال رسول الله ﷺ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «١» وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إمّا أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإمّا أن يريد به عموم الأحوال إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أراد الجنس، أى إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا البعض الذي رحمه ربى بالعصمة كالملائكة. ويجوز أن يكون ما رَحِمَ في معنى الزمن، أى: إلا وقت رحمة ربى، يعنى أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أى:
ولكن رحمة ربى هي التي تصرف الإساءة، كقوله وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً وقيل معناه: ذلك ليعلم أنى لم أخنه لأنّ المعصية خيانة. وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، «٢» أى ذلك الذي قلت ليعلم
(١). أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة، دون قوله «ولا فخر» وذكره بإثباتها أبو نعيم في الدلائل، من رواية سهيل عن أبيه عنه في أثناء حديث. ورواه ابن أبى عاصم في الآداب له من حديث عائشة بإثباتها. وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وواثلة وأبى بكر الصديق. ورواه الترمذي من رواية أبى نضرة عن أبى سعيد بلفظ «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» الحديث وقال: حسن. ورواه بعضهم عن أبى نضرة ابن عامر. وهو عند أحمد وأبى يعلى وأبى نعيم والبيهقي في الدلائل. وهما من طريق أبى نضرة قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فذكره. ولحديث ابن عباس طريق آخر أخرجها الدارقطني في الأفراد من رواية خارجة بن مصعب. وهو ضعيف عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأخرى عن ابن مردويه في أثناء حديث الاسراء بإسناد واه. وفي الباب عن عبادة بن الصامت عند الحاكم وإسناده منقطع وعن أنس عن البزار. وفيه مبارك بن سحيمة. وهو متروك، وعند أبى يعلى وفيه زيادة بن ميمون البختري وعن عبد الله بن سلام أخرجه أبو يعلى والطبراني من رواية بشر بن شفاف عنه. وهو معلول. والمحفوظ عن بشر بن شفاف عن عبد الله بن عمرو. وعن جابر أخرجه الحاكم. وفيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل. وهو متروك.
(٢). عاد كلامه. قال: «وقيل ذلك كله كلام امرأة العزيز أى ذلك الذي قلت... الخ» قال أحمد: وإنما يجرى الكلام على هذا الوجه إذا ألجأ إليه محوج، كقوله فَماذا تَأْمُرُونَ إذ لا يمكن جعله من قول الملأ بوجه، فتعين أنّ يصرف الضمير عنه إلى فرعون. وأما هذه الآية فهي تتلو قوله وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إلى ما قبل ذلك من الضمائر العائدة إلى يوسف عليه السلام قطعاً، ولا ضرورة تدعو إلى حمل الضمير في لِيَعْلَمَ على العزيز وجعله من كلام يوسف، وقد تضمنته الآية المصدرة بقول زليخا، وذلك قوله قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وفي سياق الآية ما يرشد إلى أن هذا القول جرى منها ويوسف عليه السلام بعد في السجن لم يحضر إلى الملك، وأنه لما تحتمت براءته بقولها بعث يخرجه من السجن، فذلك قوله وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.
يوسف أنى لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة، فإنى قد خنته حين قرفته «١» وقلت «جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن وأودعته السجن- تريد الاعتذار مما كان منها- إنّ كل نفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربى: إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. فإن قلت: كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟
قلت: كفى بالمعنى دليلا قائدا «٢»
إلى أن يجعل من كلامه. ونحوه قوله قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثم قال فَماذا تَأْمُرُونَ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم. وعن ابن جريج: هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن ذلِكَ لِيَعْلَمَ متصل بقوله فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ولقد لفقت المبطلة «٣» روايات مصنوعة، «٤» فزعموا أن يوسف حين قال أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: ولا حين هممت بها، وقالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله «٥».
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٤]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)
يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به فَلَمَّا كَلَّمَهُ وشاهد منه ما لم يحتسب قالَ أيها الصديق إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة أَمِينٌ مؤتمن على كل شيء. روى أنّ الرسول جاءه فقال: أحب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله: اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى «٦» وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة
(١). قوله «حين قرفته» أى اتهمته. (ع)
(٢). قوله «دليلا قائداً» أى مؤديا. (ع)
(٣). قوله «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة» يريد أهل السنة الذين سماهم المجبرة فيما مر. (ع)
(٤). عاد كلامه. قال: «ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة... الخ» قال أحمد: ولقد صدق في التوريك على نقله هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة، كما لفقت القدرية على قصة موسى حين طلب الرؤية وخر صعقاً أن الملائكة جعلت تلكزه بأرجلها وتقول: يا ابن النساء الحيض طمعت في رؤية رب العزة، كل ذلك ليتم لهم غرضهم في أنه طلب محالا في العقول على الله تعالى، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل، والله الموفق. [.....]
(٥). قوله «وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله» أى اتهامهم بما لم يفعله. أفاده الصحاح. (ع)
(٦). قوله «البلوى» عبارة النسفي البلواء. (ع)
الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جدداً»
فلما دخل على الملك قال:
اللهمّ إنى أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصدّيق، إنى أحب أن أسمع رؤياى منك. فقال:
رأيت بقرات فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء «٢»، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٥]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ولنى خزائن أرضك إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي ﷺ «رحم الله أخى يوسف، لو لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك، سنة «٣» فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟
قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم: وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٦]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
(١). قوله «ولبس ثيابا جددا» في الصحاح: جديد وجدد، كسرير وسرر. (ع)
(٢). قوله «أن تجمع الطعام في الأهراء» كذا عبارة النسفي أيضا ولكنه ليس في الصحاح بل الذي فيه هرأه البرد بهرأه هرأ أى أشتد عليه حتى كاد بقتله وهرئ المال وهرئ القوم فهم مهرؤون اه فأصل الاهراء مواضع يشتد فيها البرد. (ع)
(٣). أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عنه، وهذا إسناد ساقط
وَكَذلِكَ ومثل ذلك التمكين الظاهر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قرئ بالنون والياء، أى: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوّأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روى أنّ الملك توّجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريراً من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت. روى أنه قال له: أمّا السرير فأشدّ به ملكك. وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسى ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقراراً بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوّجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين: إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلى والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً، فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجلّ ولا أعظم منه، فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بى فيما خوّلنى فما ترى؟ قال: الرأى رأيك:
قال: فإنى أشهد الله وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر عن آخرهم. ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطاً بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين بِرَحْمَتِنا بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم مَنْ نَشاءُ من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أن نأجرهم في الدنيا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٧]
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لهم. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الاخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٨]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)
لم يعرفوه لطول العهد «١» ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان
(١). قال محمود: «إنما أنكروه لبعد العهد وتغيير الصورة... الخ» قال أحمد: وتوارد القادمين في دخولهم عليه ومعرفته لهم عند ذلك، تدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبته المعرفة بلا مهلة، والله أعلم.
عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر، مشرياً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزىّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل: رأوه على زىّ فرعون «١» عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذلك، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن. وعن الحسن: ما عرفهم حتى تعرّفوا له.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أى أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة. وقرئ بِجَهازِهِمْ بكسر الجيم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ لا بد من مقدمة سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبرونى من أنتم وما شأنكم؟ فإنى أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال، لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا: معاذ الله، نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صدّيق نبى من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا كنا اثنى عشر، فهلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون- وكان أحسنهم رأيا في يوسف- فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم وَلا تَقْرَبُونِ فيه وجهان، أحدهما: أن يكون داخلا في حكم الجزاء مجزوماً، عطفا على محل قوله فَلا كَيْلَ لَكُمْ كأنه قيل: فإن لم تأتونى به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهى.
(١). قوله «وقيل رأوه على زى فرعون» إن أريد فرعون موسى، فلم يكن قد وجد. وعبارة الخازن: زى ملوك مصر عليه ثياب الخ. (ع)

[سورة يوسف (١٢) : آية ٦١]

قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١)
سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى تنتزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ وإنا لقادرون على ذلك لا نتعايى به. أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٢]
وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
لِفِتْيانِهِ وقرئ «لفتيانه» وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، و «فعلة» للقلة.
و «فعلان» للكثرة، أى لغلمانه الكيالين لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرّم بإعطاء البدلين إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها.
وقيل: معنى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعلهم يردّونها.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٣]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ يريدون قول يوسف فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندي، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل نَكْتَلْ نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرئ «يكتل» بمعنى يكتل. أخونا، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٤]
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤)
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ يريد أنكم قلتم في يوسف وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم. وحافِظاً تمييز، كقولك: هو خيرهم رجلا، ولله درّه فارساً. ويجوز أن يكون حالا.
وقرئ «حفظا» وقرأ الأعمش: فالله خير حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجوا أن ينعم علىّ بحفظه ولا يجمع علىّ مصيبتين.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٥]
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
وقرئ رُدَّتْ إِلَيْنا بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد ما نَبْغِي للنفي، أى: ما نبغى في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغى شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أى شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود. ما تبغى، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه: أى شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا جملة مستأنفة موضحة لقوله ما نَبْغِي والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها وَنَمِيرُ أَهْلَنا في رجوعنا إلى الملك وَنَحْفَظُ أَخانا فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أو ساق أباعرنا، فأى شيء نبتغى وراء هذه المباغى التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط. فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله ما نَبْغِي على معنى: لا نبغى فيما نقول وَنَمِيرُ أَهْلَنا ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد: ما نبغى وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع، بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أى ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أى ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه
متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ «١»
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٦]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)
لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ مناف حالى «٢» - وقد رأيت منكم ما رأيت- إرساله معكم حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، أراد أن يحلفوا له بالله: وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب اليمين، لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتننى به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا «٣» فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت: أخبرنى عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: أَنْ يُحاطَ بِكُمْ مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أى: لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة: وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم: أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، تريد: ما أطلب منك إلا الفعل عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإعطائه وَكِيلٌ رقيب مطلع.
(١). قوله «كقوله ذلك ليعلم» هل المراد أن جواز كونه من كلام يعقوب، لأن المعنى يؤدى إليه، كما جاز في قوله تعالى ذلِكَ لِيَعْلَمَ كونه من كلام يوسف، لأن المعنى يقود إليه، فتدبر. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه أن إرساله معكم مناف... الخ» قال أحمد: لن للنفي المؤكد. وأما قول الزمخشري في المنافاة له، فله وراء ذلك غرض إنما يطلع عليه من قتل كلامه علما، وذلك أنه اعتمد في إحالة الرؤية على الله تعالى، على أن قوله تعالى لَنْ تَرانِي معناه أن الرؤية منافية لحالي، وجعل هذه المنافاة من مقتضى لَنْ ثم التزم ذلك في هذه اللفظة حيثما وقعت، كل ذلك لتمرن الأذهان على أن هذا مقتضى لَنْ وقد سبق وجه الرد عليه في ذلك.
(٣). عاد كلامه. قال: «وقوله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ معناه إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا الإتيان... الخ» قال أحمد: وإنما اختص هذا النوع من الاستثناء بالنفي، لأن المستثنى منه مسكوت عنه، والنفي عام، إذ يلزم من نفى الإتيان مثلا نفى جميع العوارض اللاحقة به ضرورة، فكأنه لعمومه مقرون بذكر المستثنى منه، ولا كذلك الإتيان، فانه لا إشعار له بعموم الأحوال، لأنه لا يتوقف إلا على أحدها، والله أعلم. ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر، وهو قولهم «البلاء موكل بالمنطق» فان يعقوب عليه السلام قال أولا في حق يوسف: وأخاف أن يأكله الذئب، فابتلى من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانياً: إلا أن يحاط بكم، أى تغلبوا عليه، فابتلى أيضاً بذلك، وأحيط بهم، وغلبوا عليه.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]

وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة، «١» اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو «٢» فيقول المحقق:
هذا فعل الله، ويقول الحشوى: هو أثر العين، كما قال تعالى: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وعن النبي ﷺ «أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذ كما بكلمات الله التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهامّة» «٣» وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ يعنى إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ثم قال وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أى متفرقين ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأى يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع
(١). قوله «كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة اشتهرهم» في الصحاح: الشارة: اللباس والهيئة. وفيه. اشتهر الأمر، أى وضح. ولفلان فضيلة اشتهرها الناس. (ع)
(٢). قوله «ليتميز المحققون من أهل الحشو» إن كان مراده أهل السنة، فهم يقولون: تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسببات، كربط النار بالإحراق، فالسبب مؤثر في الظاهر، والله هو الفاعل في الحقيقة. قال النسفي:
وأنكر الجبائي العين اه وهو من مشايخ المعتزلة. (ع)
(٣). أخرجه البخاري وأصحاب السنن من رواية المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هذا وأتم منه.
تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع، على معنى: ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يعنى قوله وَما أُغْنِي عَنْكُمْ وعلمه بأن القدر لا يغنى عنه الحذر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٦٩]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩)
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين. وروى أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة. فبقى بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخى يوسف حياً لأجلسنى معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه مع على مائدته وجعل يؤاكله، قال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثانى له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويشم.
رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرّف إليه. وعن وهب: إنما قال له:
أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم.
وروى أنه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بى، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى مالا يجمل. قال: لا أبالى فافعل ما بدا لك. قال: فإنى أدس صاعي في رحلك، ثم أنادى عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم.
قال: افعل.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
السِّقايَةَ مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل: كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعا يكال
به. وقيل: كانت الدواب تسقى بها ويكال بها. وقيل: كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك.
وقيل: هي المكوك الفارسي الذي يلتقى طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل: كانت من فضة مموّهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل: كانت مرصعة بالجواهر ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثم نادى مناد. يقال: آذنه أعلمه. وأذن: أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روى:
أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك.
والعير: الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير: أى تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد «١»، والمراد أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. وقرأ ابن مسعود: وجعل السقاية، على حذف جواب لما، كأنه قيل: فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى: تفقدون، من أفقدته إذا وجدته فقيداً. وقرئ: صواع، وصاع، وصوع. بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ يقوله المؤذن، يريد: وأنا بحمل البعير كفيل، أُؤدّيه إلى من جاء به، وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٣]
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم. وإنما قالوا لَقَدْ عَلِمْتُمْ فاستشهدوا بعلمهم. لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتى مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة «٢»، لئلا تتناول زرعا أو طعاماً لأحد من أهل السوق.
ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم وَما كُنَّا سارِقِينَ وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)
فَما جَزاؤُهُ الضمير للصواع، أى، فما جزاء سرقته إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في جحودكم
(١). قوله «ما فعل ببيض وعيد» لعله: وغيد، بإعجام الغين، وهو جمع غيداء أى ناعمة. أو أغيد، بمعنى وسنان مائل العنق، كذا في الصحاح، فليحرر لفظ المصنف. (ع) [.....]
(٢). قوله «وأفواه رواحلهم مكعومة» يقال: كعمت البعير، إذا شددت فمه بالكعام، وهو شيء يجعل في فم البعير عند هياجه، كذا في الصحاح. (ع)
وادّعائكم البراءة منه قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أى جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوا في جزائه.
وقولهم فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم، أى: فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك:
حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أى: فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه «١» ويجوز أن يكون جَزاؤُهُ مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فيقول لك: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو، يرجع الضمير الأوّل إلى من، والثاني إلى الأخ، ثم تقول «فهو أخوه» مقيما للمظهر مقام المضمر. ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدإ محذوف، أى: المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم: من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول: من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم، ثم يقول: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٦]
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قيل: قال لهم من وكل بهم: لا بدّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال:
ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه. وقرأ الحسن: وعاء أخيه، بضم الواو، وهي لغة. وقرأ سعيد ابن جبير: إعاء أخيه، بقلب الواو همزة. فإن قلت: لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت:
قالوا رجع بالتأنيث على السقاية، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعا كَذلِكَ كِدْنا مثل ذلك الكيد العظيم كدنا لِيُوسُفَ يعنى علمناه إياه وأوحينا به إليه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
(١). قوله «من استحقاقه وتلزمه. ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ» سيذكر أن حكم السارق في دين ملك مصر:
أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد. (ع)
أى ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرئ: يرفع بالياء. ودرجات بالتنوين وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا. فإن قلت:
ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أى وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قلت: هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة، لأنّ قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم: وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام: هي أختى، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٧]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧)
أَخٌ لَهُ أرادوا يوسف. روى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخى فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم.
واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة، فقيل: كان أخذ في صباه صنما لجدّه أبى أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل: دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل: كانت في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف- وهي عمته- بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت: فقدت منطقة إسحاق،
فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت: إنه لي سلم أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت فَأَسَرَّها إضمار على شريطة التفسير، تفسيره أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وإنما أنث لأنّ قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والمعنى: قال في نفسه:
أنتم شر مكاناً، لأنّ قوله قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من أسرَّها. وفي قراءة ابن مسعود: فأسرَّه، على التذكير، يريد القول أو الكلام. ومعنى شَرٌّ مَكاناً أنتم شر منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أحاكم من أبيكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخى سرقة، وليس الأمر كما تصفون.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٨]
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان، «١» وأنه مستأنس بأخيه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٧٩]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩)
مَعاذَ اللَّهِ هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه: إنّ الله أمرنى وأوحى إلىّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرنى بأخذه كنت ظالماً وعاملا على خلاف الوحى. ومعنى مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من. وإِذاً جواب لهم وجزاء، «٢» لأن المعنى: إن أخذنا بدله ظلمنا.
(١). قوله «قد هلك وهو عليه ثكلان» أى حزين أسيف على فقد ولده. (ع)
(٢). قوله «وإذاً جواب لهم وجزاء» أى لقولهم فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ. (ع)

[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٠]

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠)
اسْتَيْأَسُوا يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم. و «النجي» على معنيين: يكون بمعنى المناجى، كالعشير والسمير بمعنى: المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا: وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل: قوم نجى، كما قيل وَإِذْ هُمْ نَجْوى تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال: هم نجى، كما قيل: هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال:
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنْجِيَهْ «١»
ومعنى خَلَصُوا اعتزلوا وانفردوا عن النسا خالصين لا يخالطهم سواهم نَجِيًّا ذوى نجوى، أو فوجا نجياً، أى مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً، لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه يجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أىّ صفة يذهبون؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور كَبِيرُهُمْ في السنّ وهو روبيل. وقيل:
رئيسهم وهو شمعون: وقيل: كبيرهم في العقل والرأى وهو يهوذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فيه وجوه: أن تكون «ما» صلة، أى: ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم.
وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو مِنْ قَبْلُ
(١).
إنى إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
وشد فوق بعضهم بالأرويه هناك أوصينى ولا توصى بيه
من أبيات الحماسة. و «ما» زائدة. والأنجية. جمع نجى بمعنى المناجى، كالسمير والجليس والعشير، بمعنى المفاعل.
أو النجي: مصدر كالدوى والأزيز والنشيج والنئيج والصهيل، كلها أنواع من الصوت، فيكون على حد «زيد عدل» ولو قلت: إنه جمع نجاء مصدر ناجاه، كقتال مصدر قاتله لجاز، وكان كالأرشية جمع رشاء وهو حبل الاستقاء، والأروية جمع رواء وهو حبل الارتواء والاستقاء أيضا، أى: كانوا فرقا متناجين ومتشاورين فيما نزل بهم واضطربوا قياما وقعوداً وذهابا وإيابا، كاضطراب الأرشية على الماء. ويروى: واضطربت أعناقهم كالأرشية. وشد: مبنى للمجهول، أى: شد بعضهم بعضا وشمره وحزمه بحبال الاستقاء، كناية عن استعدادهم للحرب. ويبعد كونه كناية عن الاستعداد للاستقاء في الزمن الجدب هناك، أى: في ذلك الزمان أو المكان.
قيل: أو فيهما أكون شجاعا صبوراً، فأوصينى بغيري ولا توصى غيرى بيه. وظاهر البيت جواز الاخبار عن اسم إن بجملة إنشائية وليس كذلك، بل هو على التأويل كما ترى. والخطاب لمؤنثة. ويجوز: أنه لمذكر. وثبوت الياء في الفعلين للإشباع. والهاء في «بيه» للسكت. فهذا كناية عن شجاعته وتجلده. أو كناية عن كرمه على البعد.
ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفاً على مفعول أَلَمْ تَعْلَمُوا وهو أَنَّ أَباكُمْ كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أى قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخى، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨١]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
وقرئ سَرَقَ أى نسب إلى السرقة وَما شَهِدْنا عليه بالسرقة إِلَّا بِما عَلِمْنا من سرقته «١» وتيقناه، لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق «٢». أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ سَرَقَ فمعناه: وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، وما كنا للغيب: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
(١). قال: محمود «معناه وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه من سرقته... الخ» قال أحمد: إما أن يكون مقتضى شرعهم حينئذ أن مجرد وجود الشيء بيد المدعى عليه بعد إنكاره يوجب له أحكام السارق فيكون العلم على ظاهره إذا. وإما أن لا يكون كذلك، فهذا القدر من مجرد وجوده في رحله لا يوجب علم كونه سارقا. وغايته أن يفيد ظناً بيناً، فيكون المراد بالعلم هاهنا الظن. وقد ورد مثله، ويكون قولهم وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ تنبيها على أن مستندهم فيما قالوه ظن بمقتضى ظاهر الحال. وأما كشف باطن الأمر الموجب للعلم فليسوا يدعونه عليه.
(٢). عاد كلامه. قال: «وقولهم وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ معناه: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق...
الخ»
قال أحمد: وإنما تلتئم القراءتان على التأويل الذي ذكرته، وهو أنهم إنما أضافوا إليه السرقة ظنا بمقتضى ظاهر الحال، واحترزوا أن يعتقد أنهم علموا ذلك حقيقة فقالوا: وما كنا للغيب حافظين فالقراءتان على التأويل المذكور يقتضيان تبرئتهم من دعوى العلم الجازم عليه. وأما على غيره من التأويلات المذكورة فلا تنتظم القراءتان لأن مقتضى الأولى الجزم عليه بالسرقة علما. ومقتضى الثانية التبري من الجزم، والله أعلم.
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها هي مصر، أى أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأصحاب العير، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه «١» وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن والأسف الْحَكِيمُ الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٤]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به يا أَسَفى أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ، مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ وعن النبي ﷺ «لم تعط أمة من الأمم- إنا لله وإنا إليه راجعون- عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله
(١). قال محمود: «إن هذا شيء أردتموه... الخ» قال أحمد: وهذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانياً بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً كما قال لهم أولا، وإذا ورد السؤال على هذا التقرير فلا بد من زيد بسط في الجواب فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن بإتمامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده لا من دين غيره من الناس ولا من عادتهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعى عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة اليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل- والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه، فان كان شرعهم مثل شرعنا في ذلك ففتواهم إذاً غير محررة، وهو إشعار بأنهم كانوا حراصا على ثبوت السرقة عليه، ويؤكد ذلك قولهم إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يؤكدون بذلك ثبوت السرقة عليه، والله أعلم. وقوله لهم بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضى ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول، والله المستعان.
496
عليه وسلم «١». ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى» فإن قلت: كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت: هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا.
وَلَمْ تُنْسِنِى أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ «٢»
ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمى بصره. وقيل: كان يدرك إدراكا ضعيفاً. قرئ من الحزن.
ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله ﷺ أنه سأل جبريل عليه السلام: ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف «٣» ؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط. فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله ﷺ على ولده
(١). أخرجه الثعلبي من حديث محمد بن سعيد الهادي عن إسحاق بن الربيع بن سفيان بن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بهذا مرفوعا وأخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر عن سفيان بن زياد. ورواه عبد الرزاق من طريق الطبري عن الثوري عن سفيان عن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير أقول وكذا رواه البيهقي في الشعب من رواية أبى عامر عن الثوري قال: ورفعه بعض الضعفاء وليس بشيء.
(٢).
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده... عزاء وجفن العين ملآن مترع
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده... ولكن نكأ القرح بالقرح أوجع
لهشام بن عقبة العذرى، يرثى أخاه ذى الرمة، واسمه غيلان بن عقبة. ويرثى أوفى بن دلهم. وقيل: يرثى أخويه.
يقول: تعزيت أى تسليت عن أوفى بموت غيلان بعده، أى نابني ما يوجب النسيان الأول ولم أنسه، والحال أن جفن عينى ممتلئ بالدموع. أو المعنى: تكلفت التسلي فلم أقدر. ويقال: أترع الحوض إذا ملئ بالماء في المترع توكيد. ويجوز تشبيه الجفن بالحوض على طريق المكنية والاتراع تخييل، فلم تنسني أو في المصيبات التي أصابتنى بعده موت أخى غيلان، ولكن زادتنى حزنا على حزنى. والقرح: الجرح إذا اندمل ويبست جلبته. والنكاء:
كشط تلك الجلبة. ويروى: ولكن نكأ بتشديد النون. والنكأ: التي منها وزن الضرب، فشبه حال مصيبته الأولى التي طرأ عليها غيرها فزادها بحال ذلك الجرح على سبيل التمثيلية، أى: ولكن نكأ القرح أوجع به من الحالة الأولى. وأظهر محل المضمر لإظهار التوجع والتفجع. أو المعنى: ولكن نكأ القرح الأول بقرح غيره أوجع بالإنسان مما كان، فبالقرح متعلق بأوجع، أو بنكاء.
(٣). لم أجده مرفوعا، وأخرجه الطبري من رواية عيسى بن يزيد عن الحسن البصري أنه قيل له: ما بلغ... فذكره.
497
إبراهيم وقال: «القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون «١» » وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي ﷺ أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكى وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح «٢» : وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب فَهُوَ كَظِيمٌ فهو مملوة من الغيظ «٣» على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله وَهُوَ مَكْظُومٌ من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه، والكظم بفتح الظاء: مخرج النفس.
يقال: أخذ بأكظامه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٥]
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥)
تَفْتَؤُا أراد: لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام والنون. ونحوه:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً «٤»
(١). متفق عليه من حديث أنس.
(٢). قال المخرج: عزاه الطيبي إلى الصحيحين فلم يصب. ولم يرد هذا في ولد بعض بناته وإنما ورد في ولده إبراهيم كما أخرجه الترمذي وابن أبى شيبة وإسحاق وعبد بن حميد وغيرهما من حديث جابر. وأخرجه الحاكم من حديث عبد الرحمن ابن عوف نحوه. والذي ورد في بعض بناته متفق عليه من حديث أسامة وفيه «ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» قلت والأول إنما هو بلفظ «قال عبد الرحمن بن عوف:
أتبكي، أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين: صوت عند مصيبة، وخمش وجوه، ورنة شيطان، وشق جيوب. وصوت نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان»
.
(٣). قوله «فهو مملوء من الغيظ» أى الغضب الكامن. أفاده الصحاح. قوله «ولا يظهر ما يسوؤهم» أى لما صنعوا بيوسف وأخيه. (ع) [.....]
(٤).
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
لامرئ القيس. يقول: سموت إلى محبوبتى سلمى بعد نوم أهلها، ولم يسمع لي أحد صوتا، ولم تشعر بى هي إلا وأنا عندها، كسمو حباب الماء فوقه بسهولة. وحباب الماء- بالضم: اسم لثعبان الماء. وحباب الماء- بالفتح-:
فقاقعه التي تعلوه. وقوله: «حالا على حال» واقع موقع الحال المؤكدة للتشبيه، أى: حالا منطبقا على حال ومساويا له، كقولك «سواء بسواء» وهاهنا حذف، أى: فخوفتنى بالقوم، فقلت: يمين الله أبرح، أى: لا أبرح قاعدا.
وحذف «لا» النافية للمضارع بعد القسم كثير لأمن اللبس، ولأنه لولا تقديرها لوجب اقتران الفعل بلام جواب القسم أو بنون التوكيد أو بهما. ويمين: نصب بمحذوف، أى أحلف يمين الله، فهو كالمصدر النائب عن فعله.
وبقية القصة تقدمت.
ومعنى تَفْتَؤُا لا تزال. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين.
يقال: ما فتئ يفعل. قال أوس:
فَما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِى وَيَلْحَقُ مِنهَا لَاحِقٌ وَتَقَطعُ «١»
حَرَضاً مشفياً على الهلاك مرضاً، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة: حَرِض، بكسر الراء. ونحوهما: دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعاً. وقرأ الحسن: حرضاً، بضمتين، ونحوه في الصفات: رجل جنب وغرب.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٦]
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أى ينشره. ومنه: باثه أمره، وأبثه إياه. ومعنى نَّما أَشْكُوا
إنى لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربى داعياً له وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أى فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. وقيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك! فقال: هشمنى وأفنانى ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه:
يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله. وروى أنه أوحى إلى يعقوب: إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إلىّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل: اشترى جارية مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أى أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظنى به أنه يأتينى بالفرج من حيث لا أحتسب. وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال، لا والله هو حىّ فاطلبه. وقرأ الحسن: وحزنى، بفتحتين. وحزنى، بضمتين: قتادة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٧]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
(١). لأوس بن حجر، وكنى بالخيل عن أصحابها. ويقال: ثاب وثوب. إذا لوح بطرف ثوبه عند النداء من بعيد. وتدعى: تفتعل من الدعاء أى يدعو بعضهم بعضا. ويحتمل أن تثوب بمعنى ترجع، أى تذهب وترجع.
ومعنى «تدعي» تلاحق وينتسب بعضها إلى بعض مجازاً، فيجوز أن الخيل حقيقة. أو شبه الخيل بالناس على طريق المكنية، والادعاء بمعنى التنادى تخييل، وهذان الوجهان أنسب بقوله «ويلحق» أى يسبق منها سابق. وتقطع:
أى تتقطع وينقطع بعضها عن بعض قطعا قطعا، فهي تجتمع وتفترق: صور الحرب من أولها إلى آخرها في هذا البيت، أى: فما زالت الخيل تفعل كذلك حتى انتهت الحرب.
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرئ بالجيم، كما قرئ بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان: الحواس، والجواس مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه. وقرأ الحسن وقتادة: من روح الله، بالضم: أى من رحمته التي يحيا بها العباد.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٨]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
الضُّرُّ الهزال من الشدّة والجوع مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجى السحاب، قيل: كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمنا. وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط.
وقيل: دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ الذي هو حقنا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أراد أنها كانت حلالا لهم.
والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة: العطية التي تبتغى بها المثوبة من الله: ومنه قول الحسن- لمن سمعه يقول: اللهمّ تصدق علىّ: - إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغى الثواب، قل: اللهم أعطنى، أو تفضل علىّ، أو ارحمني.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٩]
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقاً،»
فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال: هل علمتم قبح ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ
(١). قال محمود: «أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح... الخ» قال أحمد: ومن تلطفه بهم قوله إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ كالاعتذار عنهم، لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه أسهل من فعله على علم، وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما اعتذر عن نفسه لم يرد على أن قال: فعلتها إذاً وأنا من الضالين.
500
لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعنى: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً، إيثاراً لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، «١» ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها «٢» ولله حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها. وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل «٣»، سماهم جاهلين. وقيل:
معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا: مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه: ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء: أما جدّى، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته علىّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟
قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل «٤» بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.
(١). قوله «وينفث المصدور... الخ» المصدور: الذي يشتكى صدره. والمحنق: المغيظ. والموتور: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ما أوطأها وأسجحها» أى ما أسهلها وما أرفقها، أفاده الصحاح. وفيه: فلان ذو حصاة، أى ذو عقل ولب، فحصا عقولهم: إضافة بيانية. (ع)
(٣). قوله «ولا يقدم عليه إلا جاهل» لعله عطف على المعنى لأن قوله «لم يفعلوا الخ» بمعنى فعلوا مالا يقتضيه العلم. (ع)
(٤). والثكل: فقدان المرأة ولدها، كما في الصحاح. والمراد هنا الحزن. (ع)
501

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]

قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
قرئ أَإِنَّكَ على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب. وفي قراءة أبىّ: أإنك أو أنت يوسف، على معنى أإنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات. فإن قلت: كيف عرفوه؟ قلت: رأوا في روائه «١» وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل: تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل: ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت: قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه؟ على أن أخاه كان معلوماً لهم. قلت: لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه مَنْ يَتَّقِ من يخف الله وعقابه وَيَصْبِرْ عن المعاصي وعلى الطاعات فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أى فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع «٢»، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ «٣» قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في عَلَيْكُمُ
(١). قوله «قلت رأوا في روائه» بالضم، أى منظره. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «والقرع» في الصحاح «القرع» بالتحريك: بثر أبيض، يخرج بالنصال. والتقريع: معالجة الفصيل من القرع، وينزع ذلك منه. (ع)
(٣). قال: «فان قلت بم تعلق اليوم في قوله لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ... الخ» ؟ قال أحمد: وهذا المعنى إنما يتوجه على الاعراب الأول وهو الأوجه. ألا ترى إلى قولهم بعد ذلك يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ وقوله سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي دل على أنهم كانوا بعد في عهدة الذنب، ولو كان متعلقا بيغفر للزم أن يقطعوا بغفران ذنبهم حينئذ باخبار النبي الصديق. ويحتمل أن يقال: إنما أراد مغفرة ما يرجع إلى حقه دون حق أبيه، إذ الإثم كان مشتركا بينهما، والله أعلم.
من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال:
غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً. ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم» والْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروى أن رسول الله ﷺ أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيراً، أخ كريم وابن أخر كريم، وقد قدرت. فقال: أقول ما قال أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم «١». وروى أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس: إذا أتيت الرسول فاتل عليه لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك ولمن علمك «٢». ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه:
إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحيى منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف:
إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إلىّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتى، وأنى من حفدة إبراهيم اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أَمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي يَأْتِ بَصِيراً يصر بصيراً، كقولك: جاء البناء محكما، بمعنى صار. ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيراً أو يأت إلىّ وهو بصير. وينصره قوله وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أى يأتنى أبى، ويأتنى آله جميعاً وقيل: يهوذا هو الحامل، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته. وقيل: حمله وهو حاف حاسر «٣» من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦)
(١). أخرجه النسائي والبيهقي من رواية ثابت عن عبد الرحمن بن رباح عن أبى هريرة بمعناه وأتم منه. وأخرجه الثعلبي من رواية سمعان عن عطاء عن ابن عباس بهذا اللفظ وأتم منه. وكذا ذكره ابن إسحاق عن بعض أهل العلم وقال فيه «قدرت فاسمح» وكذا أخرجه الواقدي في المغازي من حديث برة بنت تجراة. ورواه أبو عبيد في الأموال عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين.
(٢). لم أجده
(٣). قوله «وهو حاف حاسر» أى لا مغفر له ولا درع، أفاده الصحاح. (ع)
فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس: فلما انفصل العير قالَ لولد ولده ومن حوله من قومه:
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد:
النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى فتفند في كبرها. والمعنى: لولا تفنيدكم إياى لصدقتمونى لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات أَلْقاهُ طرح البشير القميص على وجه يعقوب.
أو ألقاه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً فرجع بصيراً. يقال: ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يعنى قوله إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو قوله وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وقوله إِنِّي أَعْلَمُ كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتربد قوله نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
ورى: أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر:
فقال: ما أصنع بالملك؟ على أن دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ قيل: أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل: إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل: ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روى أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه: إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروى أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة: ما يغنى عنا عفو كما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)
504
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشى يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا، أهذا فرعون مصر؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقيل إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت علىّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبى إسحاق: كانت أمّه تحيى، وقيل: هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين، لأنّ الرابة تدعى أمّاً، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ فإن قلت: ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر؟ قلت: كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب «١» أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير وَخَرُّوا لَهُ يعنى الإخوة الأحد عشر والأبوين سُجَّداً ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك: ادخلوا مصر. فإن قلت: بم تعلقت المشيئة؟ قلت: بالدخول مكيفاً بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم: اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازى: ارجع سالما غانما إن شاء الله. فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقا، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة، مكيفا بهما. والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذى الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله
(١). قوله «في مضرب» عبارة النسفي: مضرب خيمة. (ع) [.....]
505
إِنْ شاءَ اللَّهُ من باب التقديم والتأخير، وأن موضعها ما بعد قوله سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في كلام يعقوب، وما أدرى ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت: كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله؟ قلت: كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد.
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل: ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل: معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضا فيه نبوة. يقال: أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه. قال:
أَسِيئِى بِنَا أَوْ أَحْسِنِى لَا مَلُومَةً «١»
مِنَ الْبَدْوِ من البادية، لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع نَزَغَ أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال، نزغه ونسغه، إذا نخسه لَطِيفٌ لِما يَشاءُ لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحلىّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنىّ، ما أعقك: عندك هذه القراطيس وما كتبت إلىّ على ثمان مراحل؟
قال: أمرنى جبريل. قال أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه منى فسله. قال جبريل عليه السلام:
الله تعالى أمرنى بذلك لقولك وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قال: فهلا خفتنى؟ وروى أن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت. وقيل: ما تمناه نبىّ قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيبا طاهراً، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه: كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأى أن عملوا له صندوقا من مر مر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً «٢»، وولد له:
إفراثيم وميشا، وولد لإفراثيم نون، ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.
(١). مر شرح هذا الشاهد صفحة ٢٧٩ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «ليكونوا كلهم فيه شرعا واحداً» في الصحاح: الناس في هذا الأمر شرع، أى سواء، يحرك ويسكن. (ع)
506

[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
«من» في مِنَ الْمُلْكِ ومِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل أَنْتَ وَلِيِّي أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي تَوَفَّنِي مُسْلِماً طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز: أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له:
صنع الله على يديك خيراً كثيراً: أحييت سننا وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال: أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال: توفني مسلماً وألحقنى بالصالحين. فإن قلت: علام انتصب فاطر السموات؟ قلت على أنه وصف لقوله رَبِّ كقولك أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٢]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطاب لرسول الله ﷺ ومحله الابتداء. وقوله مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر إنّ. ويجوز أن يكون اسماً موصولا بمعنى الذي، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ صلته ونُوحِيهِ الخبر. والمعنى: أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحى، لأنك لم تحضر بنى يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر، كقوله وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقى فيها أحداً ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقصّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحى، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم: قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية: ونحوه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف ويبغون له الغوائل.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤)
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ يريد العموم، كقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وعن ابن عباس رضى الله عنه. أراد أهل مكة، أى وما هم بمؤمنين وَلَوْ حَرَصْتَ وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم وَما تَسْئَلُهُمْ على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥)
مِنْ آيَةٍ من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده يَمُرُّونَ عَلَيْها ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرئ «والأرض» بالرفع على الابتداء، ويمرون عليها: خبره. وقرأ السدّى «والأرض» بالنصب على: ويطؤن الأرض يمرّون عليها.
وفي مصحف عبد الله: والأرض يمشون عليها، برفع الأرض، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٦]
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هم الذين يشبهون الله بخلقه.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٧]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
غاشِيَةٌ نقمة تغشاهم. وقيل: ما يغمرهم من العذاب ويجللهم. وقيل: الصواعق.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
هذِهِ سَبِيلِي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق: يذكران ويؤنثان، ثم فسر سبيله بقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أى أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء. وأَنَا تأكيد للمستتر في أَدْعُوا. وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه. يريد: أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتبعنى. ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ، وعَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدّما، ومَنِ اتَّبَعَنِي عطفاً على أَنَا إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة
وبرهان، لا على هوى. ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ حالا من أَدْعُوا عاملة الرفع في أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، وَسُبْحانَ اللَّهِ وأنزهه من الشركاء «١».
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٩]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)
إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، لأنهم كانوا يقولون لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً وعن ابن عباس رضى الله عنهما: يريد ليست فيهم امرأة. وقيل: في سجاح المتنبئة
وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا «٢»
وقرئ: نوحى إليهم، بالنون «٣». مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة وَلَدارُ الْآخِرَةِ ولدار الساعة، أو الحال الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ: أفلا تعقلون، بالتاء والياء.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١٠]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)
(١). قوله «وأنزهه من الشركاء» لعله «عن». (ع)
(٢).
أضحت نبيتنا أنثى نساء بها ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم على سجاح ومن بالإفك أغرانا.
أعنى مسيلمة الكذاب لا سقيت أصداؤه ماء مزن حيثما كانا
لقيس بن عاصم. ويروى: نطيف بها، بدل نساء بها. وطاف به يطوف: دار حوله. وطاف به يطيف: أتى عليه ونزل به. وهذا مبنى للمجهول منه، عطف على أضحت. ويروى بدل الشطر الأول، فما سمعت بأنثى قط أرسلها، فالفاعل ضمير الله وإن لم يتقدم له مرجع لظهوره. ويروى بدل الثاني: وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا.
وسجاح: علم امرأة من سجح إذا سمح وعفا، وهي بنت المنذر، كانت شريفة في قومها بنى حنيفة، فادعت النبوة، ثم تزوجت بمسيلمة الكذاب فاتبعه قومها، ثم حاربه أبو بكر رضى الله عنه فقتل على يدي وحشى قاتل حمزة، فأسلمت بعده وحسن إسلامها. ويروى «باللؤم» بدل الافك. ولا سقيت: جملة دعائية. والأصداء: جمع صدى، وهو ذكر اليوم: كانت العرب تزعم أن عظام رأس القتيل تصير بومة تزقو وتصيح: أدركونى أدركونى، حتى يؤخذ بثأره، وهي هنا مجاز عن جثته كلها. والمزن واحده مزنة وهو السحاب، أى: اللهم اجعل قبره حارا عليه لا يناله غيث.
(٣). قوله «وقرئ نُوحِي إِلَيْهِمْ بالنون مبنيا للمعلوم، فتكون القراءة الأصلية بالياء، مبنيا للمجهول. (ع)
حَتَّى متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام، كأنه قيل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا فتراخى نصرهم حتى استيأسوا عن النصر وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أى كذبتهم أنفسهم «١» حين حدّثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم: رجاء صادق، ورجاء كاذب. والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر «٢» وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ فإن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظنّ: ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح؟ وقيل: وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا، أى: أخلفوا. أو: وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أى: كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه. وقرئ: كذبوا، بالتشديد على: وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد: كذبوا، بالتخفيف، على البناء للفاعل، على: وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة، إمّا على تأويل ابن عباس، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم:
إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا.
ولو قرئ بهذا مشدّداً، لكان معناه، وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. قرئ:
فننجي، بالتخفيف والتشديد، من أنجاه ونجاه. وفنجى، على لفظ الماضي المبنى للمفعول.
وقرأ ابن محيصن: فنجا. والمراد ب مَنْ نَشاءُ المؤمنون، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
(١). قال محمود: «معناه يئسوا من النصر وظنوا أن أنفسهم كذبتهم... الخ» قال أحمد: ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا، بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن إخبار ووحى،
(٢). عاد كلامه. قال: «ونقل عن ابن عباس أنه قال: فظنوا حين ضعفوا وغلبوا... الخ» قال أحمد: وهذا أيضا تأويل حسن ينظم بين القراءتين، لأن ظن الأمم كذب رسلهم تكذيب لهم، فيؤدى مؤدى قراءة التشديد.
Icon