تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
مكية وآياتها ثنتان وخمسون
ﰡ
(الر) مر الكلامُ فيه وفي محله غيرَ مرَّةٍ وقوله تعالى (كِتَابٌ) خبرٌ له على تقدير كون آلر مبتدأً أو لمبتدإٍ مضمرٍ على تقدير كونِه خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أو مسروداً على نمطِ التعديدِ ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لهذا المبتدأ المحذوف وقولُه تعالى ﴿أنزلناه إِلَيْكَ﴾ صفة له وقوله تعالى ﴿لِتُخْرِجَ الناس﴾ متعلقٌ بأنزلناه أي لتخرجَهم كافةً بَما فِي تضاعيفِه من البينات الواضحة المفصحةِ عن كونه من عندِ الله عزَّ وجل الكاشفةِ عن العقائد الحقةِ وقرىء ليخرِج الناسَ (مِنَ الظلمات) أي ليُخرج به الناسَ من عقائد الكفر والضلال التي كلُّها ظلماتٌ محضةٌ وجهالاتٌ صِرْفة (إِلَى النور) إلى الحقِّ الذي هو نورٌ بحتٌ لكن لا كيفما كان فإنك لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ بل (بِإِذْنِ رَبّهِمْ) أي بتيسيره وتوفيقِه وللإنباء عن كون ذلك منوطاً بإقبالهم إلى الحق كما يفصحُ عنه قولُه تعالى وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن أناب لستعير له الإذنُ الذي هو عبارةٌ عن تسهيل الحجابِ لمن يقصِد الورودَ وأضيف إلى ضميرهم اسمُ الربِّ المفصحِ عن التربية التي هي عبارةٌ عن تبليغُ الشيءِ إلى كماله المتوجّه إليه وشمولُ الإذن بهذا المعنى للكل واضحٌ وعليه يدور كونُ الإنزال لإخراجهم جميعاً وعدمُ تحققِ الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحققِ شرطِه المستند إلى سوء اختيارِهم غيرُ مخلٍ بذلك والياء متعلقةٌ بتخرج أو بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ مفعوله أيْ ملتبسينَ بإذنِ ربِّهم وجعله حالاً من فاعله يأباه إضافةُ الربِّ إليهم لا إليه وحيث كان الحقُّ مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلاً إلى الله عزَّ وجلَّ استُعير له النورُ تارة والصراطُ أخرى فقيل (إلى صِرَاطِ العزيز الحميد) على وجه الإبدالِ بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُمْ وإخلالُ البدل والبيانِ بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز كما في قوله سبحانه حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر وقيل هو استئناف مبني على سؤال كأنه قيل إلى أي نور فقيل إلى صراط العزيز الحميد وإضافةُ الصراط إليه تعالى لأنه مقصِدُه أو المبينُ له وتخصيصُ الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبةِ الحميدة
(الله) بالجر عطفُ بيان للعزيز الحميد لجريانه مَجرى الأعلامِ الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق
30
إبراهيم ٣ كالنجم في الثريا وقرىء بالرفع على هو الله أي العزيزِ الحميد الذي أضيف إليه الصراط الله (الذى لَهُ) مُلكاً ومِلكاً (مَا فِي السموات وما في الارض) أي ما وُجد فيهما داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما كما مرَّ في آيةِ الكرسي ففيه على القراءتين بيانٌ لكمال فخامة شأنِ الصراط وإظهارٌ لتحتم سلوكه على الناس قاطبةً وتجويزُ الرفع على الابتداء يجعل الموصول خبراً مبناه الغفولُ عن هذه النكتة وقوله عز وجل (وَوَيْلٌ للكافرين) وعيدٌ لمن كفر بالكتاب ولم يخرجْ به مّنَ الظلمات إِلَى النور بالويل وهو نقيضُ الوال وهو النجاةُ وأصله النصبُ كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدِلالة على الثبات كسلامٌ عليك (مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين ياويلاه كقوله تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
31
(الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا) أي يؤثرونها استفعالٌ من المحبة فإن المؤثرَ للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبَّ إليها وأفضلَ عندها من غيره (على الأخرة) أي الحياة الآخرةِ الأبدية (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَن سَبِيلِ الله) التي بين شأنُها والاقتصارُ على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لروم الاختصار وهو من صدّه صداً وقرىء يُصِدّون من أَصَدَ المنقولِ من صد صدوداً إذا نكَب وهو غيرُ فصيح كأوقف فإن في صدّه ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل (وَيَبْغُونَهَا) أي يبغون لها فحُذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها (عِوَجَا) أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعدَ شيءٍ من ذلكَ أي يقولون لمن يريدون صدَّه وإضلاله إنها سبيلٌ ناكبةٌ وزائغة غيرُ مستقيمة ومحلُّ موصول هذه الصلاتِ الجرِّ على أنَّه بدلٌ من الكافرين أو صفةٌ له فيعتبر كلُّ وصف من اوصافهم بإزار ما يناسبه من المعاني المعتبرةِ في الصراط فالكفرُ المنبىء عن الستر بإزاد كونه نوراً واستحبابُ الحياة الدنيا الفانيةِ المفصحةِ عن وخامة العاقبةِ بمقابلة كونِ سلوكه محمودَ العاقبة والصدُّ عنه بإزاء كونه مأموناً وفيه من الدلالة على تماديهم في الغي مالا يخفى أو النصبُ على الذمِّ أو الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى
﴿أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ﴾ وعلى الأول جملةٌ مستأنفة وقعت معلّلةً لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيدا لما شعر به بناء الحكم على الموصول أي أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورةِ من استحباب الحياة الدنيا على الآخرة وصدِّ الناس عن سبيل الله المستقيمةِ ووصفها بالاعوجاج وهي منه بنزه في ضلال عن طريق الحق بعيدٍ بالغٍ في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ والبعدُ وإن كان من أحوال الضالّ إلا أنه قد وُصف به وصفُه مجازاً للمبالغة كجدّ جدُّه وداهيةٌ دهياءُ ويجوز أن يكون المعنى في ضلال ذي بُعد أو فيه بُعدٌ فإن الضالّ قد يضِل عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً وفي جعل الضلال محيطاً بهم إحاطةَ الظرف بما فيه ما لا يَخفْى من المبالغة
31
٤ - (وَمَا أَرْسَلْنَا) أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً (مِن رَّسُولٍ إِلاَّ) ملتبساً (بِلِسَانِ قَوْمِهِ) متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أولا وقرىء بلِسْنِ وهو لغة فيه كريش ورياش وبلُسُنْ بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد (لِيُبَيّنَ لَهُمُ) ما أمروا به فيلتقوا منه بيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه منْ غيرِ حاجةٍ إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به وحيث لم يمكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مثنة لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البيانِ بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من غير مخالفة ولو في خَصلة فذّة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامُه فيما بين الأمم أجمعين وقيل الضمير في قومه لمحمد ﷺ فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربيةً ثم ترجمها جبريل عليه الصلاة والسلام أو كلُّ من نزل عليه من الأنبياءِ عليهم السلام بلغة من نزل عليهم ويرده قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم ينزل لتبيين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلا بلسان قوم محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ليبين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم مالا يخفى من التكلف (فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء) إضلالَه أي يخلق فيه الضلال لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف (وَيَهْدِى) بالتوفيق ومنح الإلطاف (مَن يَشَآء) هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كلَ منهما والفاء فصيحة مثلُها في قولِه تعالَى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق كأنه قيل فبيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى مَا أُمر بهِ وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبيانِ والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ حسب تجدد البيانِ من الرسل المتعاقبةِ عليهم السلام وتقديمُ الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاءُ ما كان على من كان والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكن أو للمبالغة في بيانِ أن لا تأثيرَ للتبيين والتذكير من قبل الرسلِ وأن مدارَ الأمر إنما هو مشيئتُه تعالى بإيهام أن ترتبَ الضلالةِ على ذلك أسرعُ من
32
إبراهيم ٥ ترتب الاهتداءِ وهذا محقِّقٌ لما سلف من تقييد الإخراجِ مّنَ الظلمات إِلَى النور بإذن الله تعالى (وَهُوَ العزيز) فلا يغالَب في مشيئته (الحكيم) الذي لا يفعلُ شيئاً من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغةٍ وفيه أن ما فُوِّض إلى الرسل إنما هو تبليغُ الرسالة وتبيينُ طريقِ الحقِّ وأما الهدايةُ والإرشادُ إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريد
33
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى) شروعٌ في تفصيل ما أجمل في قولِه عزَّ وجلَّ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لهم الآية (بآياتنا) أي ملتبساً بها وهي معجزاتُه التي أظهرها لبني إسرائيلَ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بمعنى أي أخرِجْ لأن الإرسالَ فيه معنى القول أو بأن أخرِجْ كما في قوله تعالى وأن أَقِمْ وَجْهَكَ فإن صيغ الأفعال في الدلالةِ على المصدرِ سواءٌ وهو المدارُ في صحة الوصل والمرادُ بذلك إخراجُ بني إسرائيلَ بعد مهلِك فرعون (مِنَ الظلمات) من الكفر والجهالاتِ التي أدتهم إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (إِلَى النور) إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائرِ ما أُمروا به (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله) أي بنعمائه وبلائِه كما ينبىء عنه قوله اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى مِن قَبْلِهِم من الأممِ في الأيام الخالية حسبما ينبى عنه قولُه تعالَى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ الآيات أو بأيامه المنطوية على ذلك كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ والالتفاتُ من التكلم إلى الغبية بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنِها والإشعارِ بعدم اختصاصِ ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومِه كما تُوهمه الإضافةُ إلى ضمير المتكلم أي عظْهم بالترغيب والترهيب والوعدِ والوعيد وقيل أيامُ الله وقائعُه التي وقعت على الأمم قبلهم وأيامُ العرب وقائعُها وحروبُها وملاحمها أي أنذرهم وقائعَه التي دهمت الأممَ الدارجة ويردّه ما تصدى له ﷺ بصدد الامتثالِ من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماءِ والبلاءِ أو في أيامها (لآيات) عظيمة أو كثيرة دالةً على وحدانية الله تعالى وقدرتِه وعلمه وحكمته فهي على الأول عبارةٌ عن الأيام سواءٌ أريد بها أنفسُها أو ما فيها من النعماء والبلاءِ ومعنى ظرفية التذكيرِ لها كونُه مناطاً لظهورها وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر وأما على الثاني وهو كونُه إشارةً إلى مجموع النعماءِ فعن كل واحدةٍ من تلك النعماء والبلاء والمشارُ إليه المجموعُ المشتمل عليها من حيثُ هو مجموعٌ أو كلمة في تجريديةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ (لّكُلّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه وقيل مؤمنٍ والتعبيرُ عنهم بذلك للإشعار بأن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمن أي لكل مَن يليق بكمال الصبرِ والشكر أو الإيمان ويصير أمرَه إليها لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليلٌ للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدّي إلى تلك المرتبة فإن من تذكّر ما فاض أو نزل عليه أو على مَنْ قبله من النعماء والبلاءِ وتنبّه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها وتخصيصُ الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية
33
إبراهيم ٦ ٧ عن غيرهم فإن النبيين حاصلٌ بالنسبة إلى الكل وتقديمُ الصبار على الشكور لتقدم متعلَّقِ الصبر أعني البلاء على متعلّق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عافية الصبر
34
(وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ) شروعٌ في بيان تصدّيه عليه الصلاة والسلام لما أُمر به من التذكير للإخراج المذكورِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ ﷺ وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ سرُّه غيرَ مرة أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لقومه (اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ) بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبلُ وهي إليه أميلُ والظرفُ متعلّقٌ بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم واذكروا نعمته كائنةً عليكم وكذلك كلمةُ إذْ في قوله تعالى (إِذْ أنجاكم من آل فرعون) أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائِه إياكم من آلِ فرعونَ أو اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم وقت إنجائِه إياكم منهم أو بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله مراداً بها الإنعامُ أو العطية (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً وأصلُ السَّوم الذهابُ في طلب الشيء (سُوء العذاب) السوءُ مصدر ساء يسوء والمرادُ به جنس العذاب السيء أو استبعادهم واستعمالُهم في الأعمال الشاقة والاستهانةُ بهم وغيرُ ذلك مما لا تحصرو نصبه على أنه مفعولٌ ليسومونكم (وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد وإنما فعلوا ذلك لأن فرعونَ رأى في المنام أو قال له الكهنةُ أنه سيولد منهم مَنْ يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلن يُغن عنهم من قضاء الله شيئاً (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) أي يُبقونهن في الحياة مع الذل والصَّغار ولذلك عد من جملة البلاء والجملُ أحوالٌ من آلِ فرعونَ أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضميرَ كلَ منهما (وَفِى ذلكم) أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة (بَلاء مِّن رَّبّكُمْ) أي ابتلاء منه لا أن البلاء عينُ تلك الأفعال اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ في تجريديةً فنسبتُه إلى الله تعالى إما من حيث الخلقُ أو الإقدارُ والتمكين (عظِيمٌ) لا يطاق ويجوز أن يكون المشارُ إليه الإنجاء من ذلك والبلاءُ الابتلاءُ بالنعمة وهو الأنسب كما يلوحُ به التعرضُ لوصف الربوبية وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاءُ أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربيةٌ له
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) من جملة موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوفٌ على نعمةَ الله أي اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ واذكروا حين تأذّن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً لا تبقى معه شائبةٌ لِما في صيغة التفعّل من معنى التكلف المحمول في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمالُ وقيل هو معطوفٌ على قوله تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ أي اذكروا نعمتَه تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذنَ أيضاً نعمةٍ من الله تعالَى عليهم ينالون بها خيري الدنيا والآخرة وفي قراءةُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه وإذ قال ربكم ولقد ذكّرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلاً بنعمائه تعالى
34
إبراهيم ٨ ٩ عليهم صريحاً وضمنّه تذكيرَ ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ثم أمرهم ثانياً بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيدِ بالعذاب على تقدير الكفر والمرادُ بتذكير الأوقات تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث مفصلةً إذ هي محيطةٌ بذلك فإذا ذُكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهَدٌ معايَن (لَئِن شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيلَ ما خوّلتُكم من نعمة الإنجاء وإهلاكِ العدوّ وغير ذلك من النعم والآلاءِ الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة (لازِيدَنَّكُمْ) نعمةً إلى نعمة (وَلَئِن كَفَرْتُمْ) ذلك وغمِصتموه (إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريحُ بالوعد والتعريضُ الوعيد فما ظنُّك بأكرمِ الأكرمين ويجوز أن يكون المذكورُ تعليلاً للجواب المحذوفِ أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئةٌ للقسم وكلٌّ من الجوابين سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم والجملةُ إما مفعولٌ لتأذن لأنه ضرْبٌ من القول أو لقول مقدر بعده كأنه قيل وإذ تأذن ربكم فقال الخ
35
(وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ) نِعمَه تعالى ولم تشكروها (أَنتُمْ) يا بني إسرائيلَ (وَمَن فِى الأرض) من الخلائق (جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ) عن شكركم وشكرِ غيرِكم (حَمِيدٌ) مستوجِبٌ للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ يحمَده الملائكةُ بل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم ناطقةٌ بحمده والحمدُ حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدلَّ على كماله سبحانه وهو تعليلٌ لما حُذف من جواب إن أي إن تكفروا لم يرجِعْ وبالُه إلا عليكم فإن الله تعالى لغنيٌّ عن شكر الشاكرين ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما قاله عند ما عاين منهم دلائلَ العِناد ومخايلَ الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيبُ ولا التعريضُ بالترهيب أو قاله غِبَّ تذكيرهم من قولُ اللَّهِ عزَّ سلطانه وتحقيقا لمضمونه وتحذيراً لهم من الكفران ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال
(الم يأتيكم نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ) ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيقلعوا عماهم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى وقيل هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيختص تذكير موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَا اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط وفيه مالا يخفى من البعد وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيص تذكير الكفرة الذين في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء (قَوْمُ نُوحٍ) بدل من الموصول أو عطف بيان (وَعَادٌ) معطوفٌ على قوم نوح (وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ) أي من هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف
35
إبراهيم ١٠ عليه وقوله تعالى (لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله) اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه والجملةُ اعتراضٌ والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلمُ عددَهم إلا الله سبحانه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآيةَ قال كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد (جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم) استئنافٌ لبيان نَبئِهم (بالبينات) بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم مّنَ الظلمات إِلَى النور (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ) مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ لهم سواه (وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم أو فعضوها غيضا وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيض أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضحك أو إسكانا للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم أفي الله شك الخ وقيل الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائحهم وشرائعهم التي مدار النعم الدينية والدنياوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه (وَإِنَّا لَفِى شَكّ) عظيم (مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ) من الإيمانِ بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا فأتونا بسلطان مبين وقرىء تدّعون بالإدغام (مريب) موقع في الريبة من أرابه أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء
36
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ) استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ لهم رسلُهم فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ (أَفِى الله شَكٌّ) بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلاً منقادين عن تطبيقِ الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا أأنتم في شكَ مُريبٍ من الله تعالى مبالغةً في تنزيه ساحة السبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك ما وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد
36
إبراهيم ١١ وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ إنا كفرنا بما أرسلتم به واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا (فَاطِرِ السموات والأرض) أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بالأجنبي أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضاً (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان بإرساله إبانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة كقولك دعوتُه ليأكلَ معي (مّن ذُنُوبِكُمْ) أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام بحبه قيل هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقة بين الوعد ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم وقيل المعنى ليغفرَ لكم بدلاً من ذنوبكم (وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان (قَالُواْ) استئنافٌ كما سبق (إِنْ أَنتُمْ) أي مَا أَنتُمْ (إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا) من غيرِ فضلٍ يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة (تُرِيدُونَ) صفةٌ ثانية لبشرٌ حملاً على المعنى كقوله تعالى أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد (أَن تَصُدُّونَا) بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه (عَمَّا كَانَ يعبد آباؤنا) أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا (فَأْتُونَا) أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا (بسلطان مُّبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أباً عن جد ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخر له صم الجبال ولكنهم إنما يقولونَ ما يقولونَ من العظائم مكابرةً وعِناداً وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين
37
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه (إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ) كما تقولون (ولكن الله يَمُنُّ) بالنبوة (على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشآء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه قالوه تواضعاً وهضماً للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلَكُ الاصطفاء للنبوة (وَمَا كَانَ) وما صحَّ وما استقامَ (لنا أن نأتيكم
37
إبراهيم ١٢ ١٤ بسلطان) أي بحجة من الحجيج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب (إِلاَّ بِإِذْنِ الله) فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا (وَعَلَى الله) وحده دون ما عداه مطلقاً (فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون) أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصود هم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ ألا يُرى إلى قوله عز وجل
38
(ومالنا) أي أيُّ عذرٍ لنا (أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله) أي في أن لا نتوكل عليه والإظهار لإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل (وَقَدْ هَدَانَا) أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا (سُبُلَنَا) أي أرشد كلاًّ منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة (وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا) بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه (وَعَلَى الله) خاصة (فليتوكل المتوكلون) أي فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره
(وَقَالَ الذين كَفَرُواْ) لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا (لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى ملننا) لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحق بعد مار أو البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترءوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرة الإمكان فخلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف (فأوحى إِلَيْهِمْ) أي إلى الرسل (رَّبُّهُمْ) مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم (لَنُهْلِكَنَّ الظالمين) على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضرباً منه
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض) أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها (مِن بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكِهم وقرىء ليُهلكَن وليُسكِنَنّكم بالياء اعتباراً لأوحى كقولهم حلف زيد ليخرُجَنّ غداً (ذلك) إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت (لِمَنْ خَافَ
38
إبراهيم ١٥ ١٧ مَقَامِى) موقفي وهو الموقفُ الذي يقفُ فيه العبادُ يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل لفظُ المقام مُقحَمٌ (وَخَافَ وَعِيدِ) وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله والعافية لِلْمُتَّقِينَ
39
(واستفتحوا) أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق فالضميرُ للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمر عطفا على لتهلكن الظالمين أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ وقال لهم استفتِحوا (وَخَابَ) أي خسِر وهلك (كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون أي فنُصروا عند استفتاحهم وظفرا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلق الحرمان دون الحِرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا وإنما قيل وخاب كلُّ جبا عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم مالا يخفى من المبالغة
(مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ) أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة وقيل من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك (ويسقى) معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ إذن فقيل يلقى فيها ويُسقى (مِن مَّاء) مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة (صَدِيدٍ) وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشدّ أنواعِه
(يَتَجَرَّعُهُ) قيل هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ به فقيل يتجرعه أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه (وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ فإن السواغ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً وقيل لا يكاد يدخُله في جوفه وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعلِ يتجرعه أو من
39
إبراهيم ١٨ ١٩ مفعوله أو منهما جميعاً (وَيَأْتِيهِ الموت) أي أسبابُه من الشدائد (مّن كُلّ مَكَانٍ) ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله (وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ) أي والحالُ أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات (وَمِن وَرَائِهِ) من بين يديه (عَذَابٍ غَلِيظٍ) يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا وقيل هو الخلودُ في النار وقيل هو حبسُ الأنفاس وقيل المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك وقد وعد لهم بدل صديدَ أهل النار
40
(مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ) أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) كقولك صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب وهو استئنافٌ مبني على سؤال من قال ما بالُ أعمالُهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفداءِ الأسارى وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل فأجيب بأن ذلك كرماد (اشتدت بِهِ الريح) حملتْه وأسرعتْ الذهاب به (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً كقولك ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هُو رأيُ سيبويهِ أي فيما يتلى عليك مَثلُهم وقوله أعمالُهم جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كيت وكيت سواء أريد بها صنائعهم أو أعمالهم لأصنامهم وقيل أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين وقوله كرماد خبرُه (لاَّ يَقْدِرُونَ) أي يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُواْ) من تلك الأعمال (على شَىْء) ما أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور وهو فذلكةُ التمثيل والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم (ذلك) أي ما دل عليه التمثل دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء (هُوَ الضلال البعيد) عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب
(أَلَمْ تَرَ) خطابٌ للرسول عليه الصلاة والسلام والمرادُ به أمتُه وقيل لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى يُذْهِبْكُمْ والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى
﴿إِنَّ الله خلق السماوات والأرض﴾ سادٌّ مسدَّ مفعوليها أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما (بالحق) ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه وقرىء خالقُ السموات والأرض (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يُعدمْكم بالمرة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يخلُق بدلكم خلقاً مستأنفا لا علاقة
40
إبراهيم ٢٠ ٢١ بينكم وبينهم رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرتِهِ تعالَى على خلقِ السمواتِ والأرضِ على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال
41
(وَمَا ذلك) أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم (عَلَى الله بِعَزِيزٍ) بمتعذرٍ أو متعسر فإنه قادر لذاته على جميع الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويرجى ثوابُه ويخشى عقابه
(وبرزوا الله جَمِيعًا) أي يبرُزون يوم القيامة وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق وقوعِه كما في قوله سبحانه وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه فإذا كانَ يومُ القيامةِ انكشفوا الله عند أنفسِهم (فَقَالَ الضعفاء) الأتباعُ جمع ضعيف والمرادُ ضعفُ الرأي وإنما كتب بالواو وعلى لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة (لِلَّذِينَ استكبروا) لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغفووهم (إِنَّا كُنَّا) في الدنيا (لَكُمْ تَبَعًا) في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب أو مصدرٌ نُعت به مبالغةً أو على إضمار أي ذوي تبع (فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ) دافعون (عنا) والفاء للدالة على سببية الاتباعِ للإغناء والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت (مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء) من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء ويعضُد الأولَ قولُه تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار (قَالُواْ) أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم (لَوْ هَدَانَا الله) أي للإيماء ووفّقنا له (لَهَدَيْنَاكُمْ) ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرضنا له ولكن سددوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص (سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا) مما لقِينا (أَمْ صَبَرْنَا) على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن
41
إبراهيم ٢٢ التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيما ابتُلوا به وتسليةً لهم ويجوز أن يكون قوله سَوَاء عَلَيْنَا الخ من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ ويؤيده ما روي أنهم يقولون تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا (مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) من منجى ومهربٍ من العذاب من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو حالٌ مؤكِّدة أو بدلٌ منه
42
(وَقَالَ الشيطان) الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتَباه بما قاله الأتباعُ للمستكبرين (لَمَّا قُضِىَ الأمر) أي أُحكم وفُرغ منه وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ خطيباً في محفِل الأشقياء من الثقلين (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق) أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء (وَوَعَدتُّكُمْ) أي وعد الباطل وهوان لا بعثَ ولا جزاء ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دلَّ عليه قولُه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه جعل وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك (وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان) أي تسلّطٍ أو حجةٍ تدل على صدقي (إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائي إياكم إليه وتسويلُه وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة [تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ] مبالغةً في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطانٌ إذا كان مجردُ الدعاء من بابه ويجوز كونُ الاستثناء منقطعاً (فاستجبتم لِى) فأسرعتم إجابتي (فَلاَ تَلُومُونِى) بوعدي إياكم حيثُ لم يكن ذلكَ على طريقة القسر والإلجاءِ كما يدل عليه الفاء وقرىء بالياء على وجه الالتفاتِ كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم (وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ) حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتُكم بلا حجةٍ ولا دليل بمجرد تزيينٍ وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذا دعاكم دعوةَ الحق المقرونةَ بالبينات والحجج وليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه وليس فيه دلالةٌ على استقلالِ العبدِ في أفعاله كما زعمت المعتزلة بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبةِ التي عليها يدورُ فلكُ التكليف مدخلٌ فيه فإنه سبحانه إنما يخلُق أفعالَه حسبما يختاره وعليه تترتب السعادةُ والشقاوة وما قيل من أنَّه يستدعي أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإن الله قضى عليكم الكفرَ وأجبركم عليه مبنيٌّ على عدم الفرق بين مذهب أهلِ الحقِّ وبين مسلك الجبرية (مَّا أَنَاْ بمصرحكم) أي بمُغيثكم مما أنتم فيه من العذاب (وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ) مما أنا فيه وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدمِ إصراخِه إياهم وإيذانا بأنه
42
إبراهيم ٢٣ ٢٤ أيضا مبتلى بمثل ما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرىء بكسر الياء (إِنّى كَفَرْتُ) اليوم (بما أشركتموني مِن قَبْلُ) أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأتُ منه واستنكرتُه كقوله تعالى وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقى بيني وبينكم علاقةٌ أو كفرتُ من قبل حين أبيتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله سبحان ما سخر كن لنا فيكون تعليلاً لعدم إصراخِه فإن الكافرَ بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواء كان بالمدافعة أو الشفاعة وأما جعلُه تعليلاً لعدم إصراخِهم إياه فلا وجهَ له إذ لا احتمالَ له حتى يُحتاج إلى التعليل ولأن تعليلَ عدم إصراخِهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانعُ من جهته (إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تتمةُ كلامه أو ابتداء كلامٍ من جهةِ الله عزَّ وجل وفي حكاية أمثالِه لطفٌ للسامعين وإيقاظٌ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبّروا عواقبَهم
43
(وأدخل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ) أيْ بأمرِه أو بتوفيقه وهدايته وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ مزيدِ من اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام وقرىء على صيغة التكلم فيكون قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلقاً بقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام) أي يحيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم
(أَلَمْ تَرَ) الخطابُ للرسولِ عليه الصَّلاةُ والسلام وقد عُلّق بما بعدَهُ من قولِه تعالى (كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً) أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به (كَلِمَةً طَيّبَةً) منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة (كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ) أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله ضَرَبَ الله مَثَلاً كقولك شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس ويجوز أن يكون كلمة بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أو مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة وقد قرئت بالرفع على الابتداء (أَصْلُهَا ثَابِتٌ) أي ضارب بعُروقه في الأرض وقرأ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه كشجرة طيبة ثاتب أصلُها وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى (وَفَرْعُهَا) أي أعلاها (فِى السماء) في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع
43
٢٥ - ٢٧ (تُؤْتِى أُكُلَهَا) تعطي ثمرَها (كُلَّ حِينٍ) وقّته الله تعالى لإثمارها (بِإِذْنِ رَبّهَا) بإرادة خالفها والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة (وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات
(وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه أو تكذيبُ الحق أو ما يعم الكل أو كلُّ كلمةٍ قبيحة (كَشَجَرَةٍ خبيثة) أي كمثل شجرة خبيثةٍ قيل هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد (اجتثت) استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية (مِن فَوْقِ الأرض) لكون عروقها قريبةً منه (مالها مِن قَرَارٍ) استقرارٍ عليها
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة (فِى الْحَياة الدُنيا) فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود (وَفِي الأخرة) فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر روى أنه ﷺ ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيُّك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي فذلك قوله تعالى يُثَبّتُ الله الذين آمنوا وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين قال الثعلبي في تفسيره أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة وست وثمانين وثلثمائة قال سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول رأيت يزيد بن هرون في منامي بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا من ربك وما دينك ومن نبيك فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ فقلت لهما ألمِثلي يقال هذا وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة فذهبا (وَيُضِلُّ الله الظالمين) أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يثبت في موقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان الراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخله تحت مالا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلا (ويفعل
44
إبراهيم ٢٨ ٣٠ الله مَا يَشَاء) من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك وفي إظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة مالا يخفى مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر
45
(أَلَمْ تَرَ) تعجيبٌ لرسول الله ﷺ أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك أيْ ألمْ تنظرُ (إِلَى الذين بذلوا نعمة الله) أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه (كُفْراً) عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمن الذي يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد ﷺ فكفروا ذلك فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها وعن عمر وعلي رضيَ الله عنُهمَا هُم الأفجران من قريش بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قولهِ عزَّ وجلَّ قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية (وَأَحَلُّواْ) أي أنزلوا (قَوْمَهُمْ) بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار (دَارَ البوار) دارَ الهلاك الذي لإهلاك وراءه
(جَهَنَّمَ) عطفُ بيان لها وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل (يَصْلَوْنَهَا) حالٌ منَها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار أنسبُ بالتفسير الأول (وَبِئْسَ القرار) على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها وفيه أن حلولهم وصلبهم على وجه الدوام والاستمرار
(وَجَعَلُواْ) عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم
﴿الله﴾ الفردِ الصمدِ الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ هو في الواحد القهار (أندادا) أشبها في العبادة (لِيُضِلُّواْ) قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا (عَن سَبِيلِهِ) القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة وقرىء ليضلوا بالفتح
45
إبراهيم ٣١ وأياما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكنْ لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية (قُلْ) تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرط انهما كهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم (تَمَتَّعُواْ) بما أنتُم عليهِ من الشهواتِ التي من جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام (فإن مصيركم إلى النار) ليس إلا فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوحُ به قولُه سبحانه وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار الخ فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ وفيه من التهديد الشديد الوعيد الأكيد مالا يوصف أو قل لهم تصوير الحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك تمتعوا إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هُم فيه من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع فليس قوله تعالى فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر
46
(قل لعبادي الذين آمنوا) خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً والمقول ههنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا (يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) أي يداوموا على ذلك وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتهم الرسول ﷺ وغاية مسارعتهم إلى الامنثال بأوامره وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله... محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس... إذا ما خِلفْتَ من أمر تَبالا... لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك (سِرّا وَعَلاَنِيَةً) منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيع الكفر (مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيره أو تفتدي به نفسَه والمقصودُ نفيُ عقد المعاوضة بالمرة وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع المستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه بما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع (وَلاَ خلال) ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يو لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع
46
إبراهيم ٢٢ والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه والظاهر أن مت متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورةِ البقرةِ من حيثُ إنَّ كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أَقْوى الدَّواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاقِ في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ أو من حيث إن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى وإذار أو اتجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وقرىء بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلال
47
(الله) مبتدأٌ خبرُه (الذى خَلَقَ السموات) وما فيها من الأجرام العلوية (والأرض) وما فيها من أنواع المخلوقاتِ لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ مالا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان (وَأَنزَلَ مِنَ السماء) أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ (مَاء) أي نوعاً منه هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً أو لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخّر (فَأَخْرَجَ بِهِ) بذلك الماء (مِنَ الثمرات) الفائتة للحصر إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك أدركتْ ثمرةُ بستانِ فلان (رِزْقاً لَّكُمْ) تعيشون له وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولا لأخراج ومن للتبيين كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق أو للتبعيض بدليل قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ كأنه قيل أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى
47
إبراهيم ٢٣ ٢٤ بإضافة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب أو أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب وموادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها الأولى الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً وقوله لكم صفةٌ لقوله رزقاً إن أريد به المرزوقُ ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل رزقاٍ إياكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك) بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك (لِتَجْرِىَ فِى البحر) جرياً تابعاً لإرادتكم (بأمره) بمشيئة التي نيط بها كلُّ شيء وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال (وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار) إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقون بها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم
48
(وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات (وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منهانعمة جليلةً مستوجبةً للشكر وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المحال مالا يخفى وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كمَا مرَّ في قصَّةِ البقرة
(وآتاكم من كا مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه على أن من للبيان وكلمةُ كل للتكثير كقولك فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء وقيل الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ وقرىء بتنوين كلِّ على أنَّ ما نافيةٌ ومحل ما سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله)
48
التي أنعم بها عليكم (لاَ تُحْصُوهَا) لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ وأصل الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها ففيه إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم ودانت له كافةُ الأمم وأذعنت لطاعته السَّراةُ وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة وفاز بكل مرام ونال كل منالٍ وحاز جميعَ ما في الدُّنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه ولا شريك يساهمُه بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه أو شربةً ترويه من ظَماه أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه كلا بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرج منه ما ولح والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ فإذن هو خير من أموال الدنيا بحملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يحفى على أحد من العقلاء وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ماجل من السرودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنُه ونقدس في كل زمانٍ يمضي وكل آن يمر وينقض من أنواع الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانية والنفسانية والجسمانية مالا يحيط به نطاقُ التعبير ولايعلمه الاالعليم الخبير وتوضيحه أنه كمالا يستحق الوجود ابتداء لايستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وجل فكما لا يُتصور وجودُه ابتداء مالم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققِه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجودِ الواجبي وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن وجب كونُها متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده ليست كذلك إذْ لا استحالةَ في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاعُ تلك الموانِع التي لا تتناهى أعني بقاءَها على العدم مع إمكان وجودِها في أنفسها في كلِّ آنٍ من آنات وجودِه نعمٌ غيرُ متناهية حقيقة
49
إبراهيم ٣٥ لا ادعاءً وكذا الحال في وجودات علله وشرائطِه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً وكذا في كمالاته التابعةِ لوجوده فاتضح أنه يَفيض عليه كلَّ آن نعمٌ لا تتناهى من وجوه شتى فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك لا تلاحظ العيونُ بأنظارها ولا تطالعك العقولُ بأفكارها شأنُك لا يضاهى وإحسانُك لا يتناهى ونحن في مغرفتك حائِرون وفي إقامة مراسمِ شكرِك قاصرون نسألك الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نحصى تناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوب إليك (إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ) يظلِم النعمةَ بإغفال شكرِها أو بوضعه إياها في غير موضِعِها أو يظلم نفسَه بتعريضها للحرمان (كَفَّارٌ) شديدُ الكفران وقيل ظلومٌ في الشدة يشكو ويجزع كفّارٌ في النعمة يجمع ويمنع واللام في الإنسان للجنس ومصداقُ الحكمِ بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده ويدخُل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفراً الخ دخولاً أولياً
50
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ) أي واذكر وقت قوله عليه الصلاة والسلام والمقصودُ من تذكيره تذكيرُ ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل والمرادُ به تأكيدُ ما سلف من تعجيبه عليه السلام ببيان فنٍ آخرَ من جناياتهم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصَوا أباهم إبراهيمَ عليه السلام حيث أسكنهم مكةَ شرَّفها الله تعَالَى فإقامة الصلاةِ والاجتنابِ عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقَهم من الثمرات وتهويَ قلوبُ الناس إليهم من كل أَوب سحيقٍ فاستجاب الله تعالى دعاءَه وجعله حرماً آمنا يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء فكفروا بتلك النعم العظامِ واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا (رَبّ اجعل هذا البلد) يعني مكةَ شرفها الله سبحانه (آمنا) أي ذا أمنِ أو آمناً أهلُه بحيث لا يُخاف فيه على ما مرَّ في سورةِ البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا أن المسئول هناك البلدية والأمن معا وههنا الأمنُ فقط حيث جُعل هو المفعولَ الثانيَ للجعل وجُعل البلدَ صفةً للمفعول الأول فإن حُمل على تعدد السؤال فلعله عليه السلام سأَلَ أولاً كِلا الأمرين فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدّر لما يقتضيه من الحكمة الداعيةِ إليه ثم كَرّر السؤالَ كما هو المعتادُ في الدعاءِ والإبتهال أو كان المسئول أولاً مجردَ الأمنِ المصحِّح للسكن كما في سائرِ البلاد وقد أجيب إليه وثانيا الأمن المعهود لأو أوكله هو المسئول فيهما وقد أجيب إليه أيضاً لكن السؤالَ الثانيَ للاستدامة والاقتصارُ على ذلك لأنه المقصودُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسئول كِلا الأمرين وقد حُكي أولا واقتصر ههنا على حكايةِ سؤالِ الأمنِ لا لمجرد أن نعمةَ الأمن أدخلُ في استيجاب الشكر فذِكرُه أنسبُ بمقام تقريعِ الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله تعالى فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ إذا لمسئول هُوِيّتُها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عين سؤال قد حكي بعبارة أخرى وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ كما روى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصَّلاةُ
50
إبراهيم ٣٦ ٣٧ والسلام لما أسكنَ إسمعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تبِعتْه هاجرُ وجعلت تقول إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يَرُدُّ عليها جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعمْ قالت إذاً لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الآية وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذاناً بأن كلاًّ منهما نعمةٌ جليلةٌ مستتبعة لشكر كثير كما في قصة البقرة (وجنبني وَبَنِىَّ) بعِّدني وإياهم (أَن نَّعْبُدَ الأصنام) واجعلنا منها في جانب بعيد أي ثبتنا على ما كُنَّا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وقرىء وأجنبْني من الإفعال وهما لغةُ أهلِ نجد يقولون جنّبني شرَّه وأجنبْني شرَّه وأما أهلُ الحجاز فيقولون جنّبني شره وفيه دليلٌ على أنَّ عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام بتوفيق الله تعالى والظاهرُ أن المراد ببنيه أولاده الصلبية فلا احتجاجَ به لا بن عيينة رضى الله عنه على أن أحداً من أولاد إسمعيل عليه السلام لم يعبُد الصنم وإنما كان لكل قومٍ حجرٌ نصبوه وقالوا هو حجرٌ والبيتُ حجر فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار فاستُحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت وليت شعري كيف ذهب عليه ما في القرآن العظيم من قوارعَ تنعي على قريش عبادةَ الأصنام على أن فيما ذكره كرا على ما فر منه
51
(رَبّ إِنَّهُنَّ) أي الأصنامَ (أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس) أي تسبّبن له كقوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وهو تعليلٌ لدعائه وإنما صدّره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ورغبةً في استجابته (فَمَن تَبِعَنِى) منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملةِ الإسلام (فَإِنَّهُ مِنّى) أي بعضي قاله عليه السلام مبالغةً في بيان اختصاصِه به أو متصلٌ بي لا ينفك عني في أمر الدين (وَمَنْ عَصَانِى) أي لم يتبعْني والتعبيرُ عنه بالعصيان للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباعِ من لم يتبعْه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلُغْه الدعوة (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) قادر على أن تغفِرَ له وترحَمه ابتداءً أو بعد توبتِه وفيه أن كل ذنبٍ فلَّله تعالى أن يغفرَه حتى الشركُ خلا أن الوعيدَ قضى بالفرق بينه وبين غيره
(رَبَّنَا) آثر عليه السلام ضمير الجماعةِ لا لما قيلَ من تقدم ذكرِه وذكرِ بنيه وإلا لراعاه في قوله ربَّ إنهن الخ بل لأن الدعاء المصدّرَ به وما أورده بصدد تمهيدِ مبادي إجابتهِ من قوله (إِنَّى أَسْكَنتُ) الآية متعلقٌ بذريته فالتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخلُ في القبول وإجابة المسئول (مِن ذُرّيَّتِى) أي بعضهم أو ذريةً من ذريتي فحذف المفعول وهو إسمعيل عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانَه حيث كان على وجه الاطمئنانِ متضمِّنٌ لإسكانهم روي أن هاجر أم إسمعيل عليه السلام كانت لسارة فوهبتْها من إبراهيمَ عليه السلام فلما ولدت له إسمعيل عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يُخرجَهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكةَ فأظهر الله تعالى عينَ زمزم (بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ) لا يكون فيه زرعُ أصلاً وهو وادي مكةَ شرَّفها الله تعَالَى (عِندَ
51
بَيْتِكَ) ظرف لأسكنتُ كقولك صليت بمكةَ عند الركنِ لا أنه صفةٌ لوادٍ أو بدل منه إذ المقصودُ إظهارُ كونِ ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقربِ إلى الله تعالى والالتجاءِ إلى جواره الكريم كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الحرمةِ المؤذِنِ بعزة الملتجأ وعصمتِه عن المكاره في قوله تعالى (المحرم) حيث حر التعرضُ له والتهاونُ به أو لم يزل معظّماً ممنعا يهايه الجبابرةُ في كل عصر أو مُنع منه الطوفان فلم يستولِ عليه ولذلك سميَ عتيقاً وتسميتُه إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناءٌ وإنما كان نشْزاً مثلَ الرَّابية تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيئول إليه الأمرُ من بنائه عليه السلام فإنه ينزِع إلى اعتبار عنوانِ الحرمة أيضاً كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناءِ الكعبةِ المعظمةِ مما لا ريبَ فيه وإنما الاختلافُ في كمية عددِه وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى (ربنا ليقيموا الصلاة) متوجّهين إليه متبرّكين به وهو متعلقٌ بأسكنتُ وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر شعائرِ الدينِ لفضلها وتكريرُ النداءِ وتوسيطُه لإظهار كمالِ العنايةِ بإقامة الصلاةِ والاهتمامِ بعرضِ أن الغرضَ من إسكانهم بذلك الوادي البلقعِ ذلك المقصدُ الأقصى والمطلب الأسنى وكلُّ ذلك لتمهيد مبادى إجابة دعائه وإعطاء مسئوله الذي لا يتسنى ذلك المرامُ إلا به ولذلك أُدخل عليه الفاء فقال (فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس) أي أفئدةً من أفئدتهم فمن للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدةَ الناسِ لازدحمت عليهم فارسُ والروم وأما ما زيد عليه من قولهم ولَحجّت اليهودُ والنصارى فغيرُ مناسب للمقام إذ المسئول توجيهُ القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهُها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوي إليه فإنه عينُ الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى كما مر أو لابتداء الغاية كقولك القلبُ منّي سقيمٌ أي أفئدةَ ناسٍ وقرىء آفدةً على القلب كآدر في أدؤر أو على أنَّه اسمُ فاعلٍ من أفدت الرحلة أي عجِلت أي جماعةً من الناس وأفِدَةً بطرح الهمزة من الأفئدة أوعلى النعت من أفد (تَهْوِى الهم) تسرع اليهم شو قاوودادا وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ من أهواه غيرُه وتهوى من باب علم أي تحب وتعديته إلى لتضمنه معنى الشوق والنروع وأولُ آثارِ هذه الدعوة ماروى أنه مرت رِفقةٌ من جرهم تريد الشام فرأ والطير تحوم على الجبل فقالوا إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشر فوا فإذا هم بهاجرَ فقالوا لها إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماوك فأذِنت لهم وكانوا معها إلى أن شب أسمعيل عليه السلام وماتت هاجرُ فتزوج إسمعيل منهم كما هو المشهور (وارزقهم) أى ذربتى الذين أسكنهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنمالم يخصَّ الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمن مِنْهُم بالله واليوم الأخر اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة (مِنَ الثمرات) من أنواعها بأن بجعل بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحدٍ ٠ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمُ عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرم وعن الزهرى رضيَ الله عنه أنَّه تعالى نقل قرية من قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه السلام (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمةَ بإقامة الصلاةِ وأداءِ سائر مراسمِ العبودية وقيل اللامُ في ليقيموا لامُ الأمرِ والمرادُ أمرُهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى
52
إبراهيم ٣٨ ٣٩ بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى فاجعل الخ وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسنِ الأدبِ والمحافظة على قوانين الضَّراعةِ وعرضِ الحاجة واستنزالِ الرحمةِ واستجلابِ الرأفة مالا يخفى فإنه عليه السلام بذكر كونِ الوادي غيرَ ذي زرعٍ بيّن كمالَ افتقارهم إلى المسئول وبذكر كونِ إسكانِهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جِوارَ الكريم يستوجب إفاضةَ النعيم وبعرض كونِ ذلك الإسكانِ مع كمال إعوازمرافق المعاش لمحض إقامةِ الصلاةِ وأداء حقوقِ البيت مهّد جميعَ مبادي إجابةِ السؤال ولذلك قُرنت دعوتُه عليه السلام بحُسنِ القبول
53
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرِها والمرادُ بما نخفى مايقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاء أولا أي تعلم ما نظهره ومالا نظهره فإن علمَه تعالى متعلق بما لايخطر بياله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه وتقديم مانخفى على مانعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن أو لأن مرتبة السرو الحفاه متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك والتدلل لعزتك وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك والاستعجالِ لنيل أياديك وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في الضراعة والابتهال وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض (وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض وَلاَ فِى السماء) لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه وإنما قال وَمَا يخفي عَلَى الله الخ دون أن يقول وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالَى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لشيءٍ أي من شيء كائنٍ فيهما أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بيخفى وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علو منا والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ على نهج قوله تعالَى أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه وكذلك يَفْعَلُونَ ومن للاستغراق على الوجهين
(الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر) أي مع كِبَري ويأسي عن الولد قيّد الهبةَ به استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها (إسمعيل وإسحق) رُوي أنه وُلد له إسمعيل وهو
53
إبراهيم ٤٠ ٤٢ ابنُ تسعٍ وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة (إِنَّ رَبّى) ومالكَ أمري (لَسَمِيعُ الدعاء) لمجيبُه من قولهم سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازاً وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم
54
(رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة) مثابراً عليها معدّلاً لها وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال (وَمِن ذُرّيَتِى) أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد لا كما في قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الخ فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنامِ ولذلك جيء بضمير الجماعة
(رَبَّنَا اغفر لِى) أي ما فرَطَ مني من تركِ الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر (وَلِوَالِدَىَّ) وقرىء بالتوحيد ولأبوي وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبيّن الأمرِ له عليه السلام وقيل أراد بوالديه آدمَ وحواءَ وقيل بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم الآيةَ وقد مرَّ في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام وسيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جىء بضميرا الجماعة (يَوْمَ يَقُومُ الحساب) أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحربُ على ساق والمرادُ تهويلُه وقيل أسند إليه قيامُ أهلِه مجازاً أو حذف المضاف كما في واسأل القرية واعلمْ أن ما حُكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتباً للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون) خطاب لرسول الله ﷺ تثبيتُه على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك نحو قوله وَلاَ تكونن من
54
إبراهيم ٤٣ المشركين ونظائرِه مع ما فيه من الإيذان بكونه واجبَ الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه أو نهيُه عليه السلام عن حُسبانه تعالى تاركاً لعقابهم على طريقة العفو والتعبيرُ عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبانَ بمنزلة حسبانِه تعالى غافلاً عن أعمالهم إذ العلمُ بذلك مستوجبٌ لعقابهم لا محالة فتركُه لو كان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة وفيه تسليةٌ لرسول الله ﷺ ووعدٌ له أكيدٌ ووعيد للكفر وسائرِ الظالمين شديدٌ أو لكل أحدٍ ممن يستعجل عذابَهم أو يتوهّم إهمالَهم للجهل بصفاته تعالى والاغترارِ بإمهاله وقيل معناه لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل عما عمِلوا بل معاملةَ من يحافظ على أعمالهم يجازيهم بذلك نقيراً وقِطْميراً والمرادُ بالظالمين أهلُ مكةَ ممن عُدّت مساويهم من تبديل نعمةِ الله تعالى كفراً وإحلالِ قومهم دارَ البوار واتخاذِ الأندادِ كما يؤذن به التعرّضُ لحكمة التأخيرِ المنبىء عَنْهُ قولُهُ تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية أو جنسُ الظالمين وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء (إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ) يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنياوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد وهو استئنافٌ وقع تعليلاً للنهي السابق أي دُم على ما كنتُ عليهِ من عدم حسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزَنْ بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم إذ تأخيرُه للتشديد والتغليظ أولا تحسبنّه تعالى تاركاً لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا أولا ولا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل ولا يؤاخذُهم بما عملوا لما ترى من التأخير إنما هو لهذه الحكمة وقرىء بالنون وإيقاعُ التأخيرِ عليهم مع أن المؤخرَ إنما هو عذابُهم لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مُرصَدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم وللدَّلالة على أن حقَّهم من العذاب هو الاستئصالُ بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عينٌ ولا أثرٌ وللإيذان بأن المؤخرَ له من جملة العذاب وعنوانُه ولو قيل إنما يؤخر عذابَهم الخ لما فهم ذلك (لِيَوْمِ) هائل (تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار) ترتفع أبصارُ أهلِ الموقف فيدخل في زمرتهم الكفرةُ المعهودون دخولاً أولياً أي تبقى مفتوحةً لا تتحرك أجفانُهم من هول ما يرَونه واعتبارُ عدم قرارِها في أماكنها إما باعتبار الارتفاعِ الحسيِّ في جِرْم العين وإما بجعل الصيغةِ مِنْ شخَص من بلدٍ إلى بلدٍ وسار في الارتفاع
55
(مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي مُقبلين عليه بالخوف والذل والخشوعِ أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يُقلعون عنه ولا يطرِفون هيبة وخوفاً وحيث كان إدامةُ النظر ههنا بالنظر إلى الداعي قيل (مقنعي رءوسهم) أي رافعيها مع إدامة النظر من غير التفاتٍ إلى شيء قاله العتبي وابن عرفة أو ناكسيها ويقال أقنع رأسَه أي طأطأها ونكَسها فهو من الأضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصار من أصحابها والثاني حالٌ متداخلةٌ من الضمير في الأول وإضافتُه غير حقيقية فلا ينافي الحالية (لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجِع إليهم تحريكُ أجفانِهم حسبما كان يرجِع إليهم كلّ لحظة بل تبقى أعينُهم مفتوحةً لا تطرف أولا ترجع إليهم أجفانُهم التي هي آلةُ الطرْفِ فيكون إسنادُ الرجوعِ إلى الطرف مجازياً أو هو نفسُ الجفن قال الفيروز آبادي الطرفُ العينُ لا يجمع لأنه مصدر في الأصل أو اسمٌ جامع للعين أولا يرجع نظرُهم إلى أنفسهم فضلاً عن أن يرجِع إلى شيء آخر
55
إبراهيم ٤٤ فيبقَون مبهوتين وهو أيضاً حالٌ أو بدلٌ من مقنعي الخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار وتأخيره عمن هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكورِ من المناسبة لتربية هذا المعنى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) خاليةٌ من العقل والفهم لفرْط الحَيرة والدهَش كأنها نفسُ الهواءِ الخالي من كل شاغلٍ ومنه قيل للجبان والأحمق قلبُه هواءٌ أي لا قوة ولا رأيَ فيه واعتبارُ خلوِّها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حالٌ عاملُها لا يرتد مفيدةٌ لكون شخوص أبصارِهم وعدم ارتدادِ طرفِهم بلا فهمٍ ولا اختيار أو جملةٌ مستقلةٌ
56
(وَأَنذِرِ الناس) خطابٌ لرسول الله ﷺ بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عمَّا هُم عليهِ من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للإزعاج والإيذاء فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ أو الناسُ جميعاً فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً أي أنذِرهم وخوِّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب) المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة وقيل هو يومُ موتِهم معذَّبين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ ويأباه القصرُ السابق (فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ) أي فيقولون والعدولُ عنه إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال منْ غيرِ حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما يُنبىءُ عنه صيغةُ الفاعلِ وعلى تقدير كون المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضاً فالمعنى الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وهم الكفارُ أو يقول كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل (رَبَّنَا أَخّرْنَا) رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا (إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد وحدَ من الزمان قريب (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) أي الدعوة إليك أي وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ ففيه إيماء إلى أنهم صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى (وَنَتَّبِعِ الرسل) فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول ﷺ عصيانا لهم جميعاً وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعاً والمقصودُ بيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولها (أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ) على إضمار القولِ معطوفاً على فيقول أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرا وجهلا وسفها (مالكم مّن زَوَالٍ) مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا
56
إبراهيم ٤٥ وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جهدا أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله حلف بالله ليخرُجَن وهو أدخلُ في التوبيخ من أن يقال مالنا مراعاةً لحال المُقسِم ذكر البهيقي عن محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي أنه قال لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا ادعى الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم لله تعالى الكبير ثم يقولون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ فيجيبهم الله تعالى فذوقو بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل فيجيبهم الله تعالى أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم الله تعالى أو لم نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ فيقولون رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبداً إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إله غيرُك
57
(وَسَكَنتُمْ) من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل (فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) جرياً على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم والكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيدانا بأن غائلة الظلم آثلة إلى صاحبه والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاصِ الاستمهال والخطابُ السابقُ بالمنذرين وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومها للكل وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار (كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلاً لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال ما فعلنا بهم كما مرَّ في قوله تعالى لَيَسْجُنُنَّهُ وقرىء وبُيِّن (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال) أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول
57
إبراهيم ٤٦ العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ والجملُ الثلاثُ في موقع الحالِ من ضمير أقسمتم أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لك فعلنا العجيب بهم ونبهنا كم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عز وجل
58
(وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ) حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً وإنما قُدّم عليه قوله تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقرير الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُهم فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادى البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى (وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ) أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضافٌ إلى مفعوله وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزؤه أو ما هو أعظمُ منِهُ والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً معَ تحققِ ما يُوجبُ تركَه (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ) في العِظَم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال) أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشيءَ إذا تحقق عند وجودِ المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ الوصليةِ من التأكيد المعنوي والجوب محذوفٌ دلَّ عليه ما سبق وهو قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وقيل إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وينصره وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنَّها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ وأما كونُها عبارةً عن أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذا لماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين وقيل هي مخففةٌ من إنّ والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر من الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكر
58
إبراهيم ٤٧ لإزالته وقد وقرأ الكسائي لَتزولُ بفتح اللام على أنها الفارقة والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة وقرىء بالفتح والنصب على لغة من بفتح لام كي وقرىء وإن كاد مكرهم هذا هو الذي يقتضيهِ النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم وقد قيل إنَّ الضَّمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الآية وغيرُه من أنواع مكرهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ولعل الوجهَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى وَقَدْ مَكَرُواْ الخ حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة وقوله تعالى وَعِندَ الله تعالى مَكْرُهُمْ حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل وقوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كونِ أنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أي وقد مكروا والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال وعلى تقدير كونها مُخفّفة من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ كما ذكرنا من قبل فليُتأمل
59
(فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لم يرَدْ به والله سبحانه أعلمُ ما وعده بقوله تعالَى إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا الآية وقولِه كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لا سيما الأخرويُّ بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ الآية كما يُفصح عنهُ الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم فكأنه قيل وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم فدُمْ على ما كنتُ عليهِ من اليقين بعدم إخلافِنا رسلنا وعدنا (إن اله عَزِيزٌ) غالبٌ لا يماكَر وقادر (ذُو انتقام) لأوليائه من أعدائه والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر
59
٤٨ - ٤٩ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض) ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم الخ أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الارض أو لانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه وقيل بدلٌ من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب أو نُصب باذكر أو بإضمار لا يخلف وعده يوم تبدل الخ وفيه أيضاً ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ولا يجوز أن ينتصب بقوله مخلَف وعدِه لأن ما قبل إنَّ لا يعمل فيما بعده وقيل هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلاً واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في بدلتُ الدراهمَ دنانير وعليه قوله عز وجل بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا وقد يكون في الصفات كما في قولك بدلتُ الحلقةَ خاتماً إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات على بعض الأقوال والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين فعن علي رضي الله عنه تبدل أرضاً من فضة وسمواتٍ من ذهب وعن ابن مسعود رضي الله عنه تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها وأنشد... [وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم... وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ]...
وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبواباً ويدل عليه ما روى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه عليه الصلاةُ والسلام قال تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض فتبسط وتمدمد الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (والسموات) أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثراً بالنسبة إلينا (وَبَرَزُواْ) أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها وهو معطوفٌ على تبدل والعدولُ إلى صيغةِ الماضِي للدَلالة على تحققِ وقوعِه أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو (للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ) للحساب والجزاء والتعرُّضُ للوصفين لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ وإظهار بطلانِ الشركِ وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفاً له وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلاً من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غايةِ ما يكونُ من الشدة والصعوبة
(وَتَرَى المجرمين) عطف على برزوا والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وأما لبروز فهو دفعى
60
إبراهيم ٥٠ ٥١ لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه (يَوْمَئِذٍ) يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ يُنجِز وعدَه (مُقْرِنِينَ) قُرن بعضَهم مع بعضٍ حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبُها من الصورِ الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين (فِى الأصفاد) في القيود أو الأغلال وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى مُقْرِنِينَ أو حالٌ من ضميرِه أي مصفّدين
61
(سَرَابِيلُهُم) أي قُمصانهم (مّن قَطِرَانٍ) جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ من المجرمين أو من ضميرِهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ أو مستأنفة والقطران ما يتحلب من الإبهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ مالا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعاراً لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه وقرىء من قطرآنٍ أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه (وتغشى وُجُوهَهُمْ النار) أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب الخ ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبيره كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملئوها بالجهالات لذلك قيل تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحياناً ويتضاعف عذابُهم بالخزى على رءوس الأشهاد وقرىء تَغَشَّى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة نصب على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء
(لّيَجْزِىَ الله) متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلكَ ليجزِيَ (كُلُّ نَفْسٍ) مجرمةٍ (ما كسبت) من أبواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها وفيه إبذان بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم أو بقوله برزوا
61
إبراهيم ٥٢ على تقدير كونِه معطوفاً على تُبدّل والضمير للخلق وقوله وترى المجرمين الخ اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبتْ منْ خَيرٍ أوْ شر وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلا على شهادة الحالِ لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة (إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب) إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قولِه تعالى وَهُوَ سَرِيعُ الحساب
62
(هذا) أي ما ذكر من قوله سبحانه وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا إلى سَرِيعُ الحساب (بَلاَغٌ) كفايةٌ في العظة والتذكيرِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ (لِلنَّاسِ) للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى وَأَنذِرِ الناس أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين (وَلِيُنذَرُواْ بِهِ) عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في ان ينصحوا وينذروا به أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ وقرىء لينذروا به من نذر الشيء إذا علمه وحذروه واستعدّ له (وَلِيَعْلَمُواْ) بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين مساكنهم وغيرُهما مما سبق ولحِق (إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ) لا شريكَ له وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكير في قوله تعالى (وليذكر أولو الألباب) أي ليتذكروا ما كانوا يعملوبه من قبلُ من التوحيد وغيره من شئون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي ينصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحةِ وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها وعلى ما سبق للمؤمنين أيضاً فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتبُ عليهِ من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أشير إليه عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكير ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ إبراهيمَ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد مَنْ عبدَ الأصنام ومن لم يعبده والحمدُ لله وحده
62
سورة الحجر (مكيه آياتها تسع وتسعون) سورة الحجر مكية إلا آية ٨٧ فمدنية وآيها تسع وتسعون)
بسم الله الرحمن الرحيم
63