ﰡ
وأما حصر الصفة في الموصوف، نحو : " إنما العالم زيد "، فيقتضي ثبوت الصفة المذكورة لهذا الموصوف دون غيره. والموصوف يجوز أن تثبت له صفات أخرى، فإنا لم نحصره في هذه الصفة، بل حصرناها فيه. وكذلك حصر الصفة في الصفة، نحو : " إنما الغناء في القناعة، وإنما الديانة في الورع، وإنما الغناء في التدبير "، يقتضي أن الصفة لا توجد في غير الثانية، يقال ذلك على وجه المبالغة إن لم تساعد المادة على الحقيقة، أو الحقيقة إن ساعدت المادة عليها، نحو : " إنما الخلافة في قريش "، و " إنما دخول الجنة في الإيمان ". فالحصر ثلاثة أقسام، وحينئذ يتجه الإشكال.
والجواب : أن المستثنى والمستثنى منه أحوال وصفات في المعنى، تقديره : " ما هذا المشار إليه في وصفة من الصفات ولا في حالة من الحالات إلا في حالة البشرية المجردة، أو في حالة الجنون ". هذا من حيث المعنى، وأما من حيث اللفظ فهو استثناء من الأخبار الصالحة لهذا المبتدإ.
وأما وجه الجمع بين الآيتين والحصرين فقد تقدم أن الحصر تارة يكون مطلقا إذا لم يقصد به اعتبار معين، نحو : " إنما في الدار زيد ". وتارة يقصد به بعض الاعتبارات وتقدمت مثله١. ومنه هذه الآية بقولهم :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ﴾ أي : باعتبار ادعاء النبوة، هو في هذه الدعوة أسوة البشر مثلكم ليس له من هذه الدعوى شيء في زعمهم، فلهذا سلبوا عنه جميع الصفات، ما عدا البشرية مع علمهم بها ؛ لأنهم يقصدون اعتبارا واحدا، وهو السلب باعتبار دعوى النبوة، فإن جميع صفاته عليه السلام التي يعتقدونها من الشجاعة والسخاء وغير ذلك من صفات البشر المحمودة هم يعتقدونها فيه عليه السلام غير أن تلك الصفات وإن كثرت لا مدخل لها في إثبات النبوة عادة، كما حصر نفسه عليه السلام في البشرية باعتبار الاطلاع على بواطن الخصوم ؛ لأن جميع صفاته عليه السلام من الرسالة والنبوة وغيرهما لا توجب له الاطلاع على بواطن الخصوم، بل هو في مقام الحكومة أسوة البشر يحكم على نحو ما سمع.
وأما حصرهم إياه عليه السلام في الجنة، فهو باعتبار ما كان يقوله من القرآن وغيره، ولذلك حكى الله تعالى عنهم في الآية الأخرى :﴿ أم يقولون به جنة ﴾٢ معناه : هل هو يقوله عن الافتراء المقصود أم هو يتكلم بما لا يعلم كما يتكلم عديم العقل ؟ وأحد الحصرين باعتبار النبوة، والآخر باعتبار كلامه عليه السلام، وإذا اختلفت الاعتبارات فلا دافع. ومنه قوله تعالى :﴿ إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا ﴾٣.
فحصروه في غير البشرية والجنة، بل في الافتراء المقصود، فهو بحسب ما كان عليه السلام يقوله، ومرة حصروا كلامه في أساطير الأولين بقولهم :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾٤. ومرة قالوا : إنه سحر مفترى، وغير ذلك من أقوالهم.
فإن قلت : كيف يحصرونه تارة في الافتراء المقصود، وتارة في الجنون الذي يأبى القصد وذلك متدافع ؟
قلت : حصرهم يتنوع بحسب تلونهم وتغير أحوالهم في أنفسهم، فكانوا لا يثبتون على حالة واحدة ؛ لأنهم ليسوا على يقين فيما يقولونه ولا فيما يعتقدونه، ومن ليس له قدم ثابتة كثر تنقله، فكانوا يقولون في كل حالة ما يجدونه في نفوسهم في تلك الحالة.
فالحصر واقع باعتبار اعتقادهم في تلك الحالة، والحصر الآخر باعتبار حالة أخرى، وكذلك كلما يتعدد منهم. فتعدد إخبار الله تعالى عنهم بحسب تعدد أحوالهم، وكذلك قال الله تعالى :﴿ إن يتخذونك إلا هزؤا ﴾٥ وهي حالة أخرى تعرض لهم، وعلى هذه القاعدة تجتمع إخبارات الآيات. فإن قلت : هذا كلام الكفار السفلة الفجار، كيف يطلب تصحيحه.
قلت : إنما فعلت ذلك لتعلق إخبار الله تعالى به وعنه، فلا يتوهم متوهم أن في آيات القرآن ما يبطل بعضها بعضا، ولأنهم كانوا عقلاء من حيث الجملة ومن الفصحاء البلغاء، ومن هذا شأنه ظاهر كلامه أن يكون من جنس ما ينطق به العقلاء الذين لا يعيب عليهم أهل اللسان من حيث هم أهل اللسان، وإن عاب عليهم المؤمنون من جهة مخالفة الحق في نفسه لا من جهة اللسان. فهذا هو الباعث على تحرير هذه المواضع. ( الاستغناء : ٢٢٤ إلى ٢٢٦ ).
٢ - سورة المؤمنون: ٧٠..
٣ - سورة المؤمنون: ٣٨..
٤ - سورة المؤمنون: ٨٣..
٥ - سورة الأنبياء: ٣٦..
وأما حصر الصفة في الموصوف، نحو :" إنما العالم زيد "، فيقتضي ثبوت الصفة المذكورة لهذا الموصوف دون غيره. والموصوف يجوز أن تثبت له صفات أخرى، فإنا لم نحصره في هذه الصفة، بل حصرناها فيه. وكذلك حصر الصفة في الصفة، نحو :" إنما الغناء في القناعة، وإنما الديانة في الورع، وإنما الغناء في التدبير "، يقتضي أن الصفة لا توجد في غير الثانية، يقال ذلك على وجه المبالغة إن لم تساعد المادة على الحقيقة، أو الحقيقة إن ساعدت المادة عليها، نحو :" إنما الخلافة في قريش "، و " إنما دخول الجنة في الإيمان ". فالحصر ثلاثة أقسام، وحينئذ يتجه الإشكال.
والجواب : أن المستثنى والمستثنى منه أحوال وصفات في المعنى، تقديره :" ما هذا المشار إليه في وصفة من الصفات ولا في حالة من الحالات إلا في حالة البشرية المجردة، أو في حالة الجنون ". هذا من حيث المعنى، وأما من حيث اللفظ فهو استثناء من الأخبار الصالحة لهذا المبتدإ.
وأما وجه الجمع بين الآيتين والحصرين فقد تقدم أن الحصر تارة يكون مطلقا إذا لم يقصد به اعتبار معين، نحو :" إنما في الدار زيد ". وتارة يقصد به بعض الاعتبارات وتقدمت مثله١. ومنه هذه الآية بقولهم :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ﴾ أي : باعتبار ادعاء النبوة، هو في هذه الدعوة أسوة البشر مثلكم ليس له من هذه الدعوى شيء في زعمهم، فلهذا سلبوا عنه جميع الصفات، ما عدا البشرية مع علمهم بها ؛ لأنهم يقصدون اعتبارا واحدا، وهو السلب باعتبار دعوى النبوة، فإن جميع صفاته عليه السلام التي يعتقدونها من الشجاعة والسخاء وغير ذلك من صفات البشر المحمودة هم يعتقدونها فيه عليه السلام غير أن تلك الصفات وإن كثرت لا مدخل لها في إثبات النبوة عادة، كما حصر نفسه عليه السلام في البشرية باعتبار الاطلاع على بواطن الخصوم ؛ لأن جميع صفاته عليه السلام من الرسالة والنبوة وغيرهما لا توجب له الاطلاع على بواطن الخصوم، بل هو في مقام الحكومة أسوة البشر يحكم على نحو ما سمع.
وأما حصرهم إياه عليه السلام في الجنة، فهو باعتبار ما كان يقوله من القرآن وغيره، ولذلك حكى الله تعالى عنهم في الآية الأخرى :﴿ أم يقولون به جنة ﴾٢ معناه : هل هو يقوله عن الافتراء المقصود أم هو يتكلم بما لا يعلم كما يتكلم عديم العقل ؟ وأحد الحصرين باعتبار النبوة، والآخر باعتبار كلامه عليه السلام، وإذا اختلفت الاعتبارات فلا دافع. ومنه قوله تعالى :﴿ إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا ﴾٣.
فحصروه في غير البشرية والجنة، بل في الافتراء المقصود، فهو بحسب ما كان عليه السلام يقوله، ومرة حصروا كلامه في أساطير الأولين بقولهم :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾٤. ومرة قالوا : إنه سحر مفترى، وغير ذلك من أقوالهم.
فإن قلت : كيف يحصرونه تارة في الافتراء المقصود، وتارة في الجنون الذي يأبى القصد وذلك متدافع ؟
قلت : حصرهم يتنوع بحسب تلونهم وتغير أحوالهم في أنفسهم، فكانوا لا يثبتون على حالة واحدة ؛ لأنهم ليسوا على يقين فيما يقولونه ولا فيما يعتقدونه، ومن ليس له قدم ثابتة كثر تنقله، فكانوا يقولون في كل حالة ما يجدونه في نفوسهم في تلك الحالة.
فالحصر واقع باعتبار اعتقادهم في تلك الحالة، والحصر الآخر باعتبار حالة أخرى، وكذلك كلما يتعدد منهم. فتعدد إخبار الله تعالى عنهم بحسب تعدد أحوالهم، وكذلك قال الله تعالى :﴿ إن يتخذونك إلا هزؤا ﴾٥ وهي حالة أخرى تعرض لهم، وعلى هذه القاعدة تجتمع إخبارات الآيات. فإن قلت : هذا كلام الكفار السفلة الفجار، كيف يطلب تصحيحه.
قلت : إنما فعلت ذلك لتعلق إخبار الله تعالى به وعنه، فلا يتوهم متوهم أن في آيات القرآن ما يبطل بعضها بعضا، ولأنهم كانوا عقلاء من حيث الجملة ومن الفصحاء البلغاء، ومن هذا شأنه ظاهر كلامه أن يكون من جنس ما ينطق به العقلاء الذين لا يعيب عليهم أهل اللسان من حيث هم أهل اللسان، وإن عاب عليهم المؤمنون من جهة مخالفة الحق في نفسه لا من جهة اللسان. فهذا هو الباعث على تحرير هذه المواضع. ( الاستغناء : ٢٢٤ إلى ٢٢٦ ).
٢ - سورة المؤمنون: ٧٠..
٣ - سورة المؤمنون: ٣٨..
٤ - سورة المؤمنون: ٨٣..
٥ - سورة الأنبياء: ٣٦..