تفسير سورة الشعراء

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الشعراء
وتسمى الخاضعة فيها ست آيات

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : خَرَجَ مَعَ مُوسَى رَجُلَانِ من التُّجَّارِ إلَى الْبَحْرِ، فَلَمَّا أَتَيَا إلَيْهِ قَالَا لَهُ : بِمَ أَمَرَك اللَّهُ ؟ قَالَ : أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَجِفُّ. فَقَالَا لَهُ : افْعَلْ مَا أَمَرَك بِهِ رَبُّك، فَلَنْ يُخْلِفَك. ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ.
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلْبَحْرِ : انْفَلِقْ. قَالَ : لَقَدْ اسْتَكْبَرْت يَا مُوسَى ! مَا انْفَرَقْت لِأَحَدٍ من وَلَدِ آدَم، فَأَنْفَلِقَ لَك. فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ الْبَحْرُ طَرِيقًا يَابِسًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ، انْصَبَّ عَلَيْهِمْ الْبَحْرُ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى : مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ. فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مَالِكٌ : دَعَا مُوسَى فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَذْكُرُ من أَخْبَارِ الإسرائليات مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ، أَوْ وَافَقَ السُّنَّةَ أَوْ الْحِكْمَةَ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ ؛ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَوَّلَ فِي جَامِعِ الْمُوَطَّأِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ :
قَالَ مَالِكٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا ؛ وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ، إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ :﴿ وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾
يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ من وَلَدِهِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ من بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ فَقُبِلَتْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ إلَى مُحَمَّدٍ، ثُمَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ : إنَّ الْمَطْلُوبَ اتِّفَاقُ الْمِلَلِ كُلِّهَا عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا أُمَّةٌ إلَّا تَقُولُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ، وَتَدَّعِيهِ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ وِلَايَةَ الْأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا وِلَايَتَنَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ :﴿ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْمُحَقِّقُونَ من شُيُوخِ الزُّهْدِ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا من ثَلَاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ عَلَّمَهُ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ).
وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَمْسَةُ صَحِيحٌ أَثَرُهَا ؛ وَمَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ حَسَنٌ سَنَدُهَا.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلِيمٌ من الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُ سَلِيمٌ من رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِيَّ ؛ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ. قَالَ اللَّهُ :﴿ إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾.
وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ لَدِيغٌ، أَحْرَقَتْهُ الْمَخَاوِفُ، وَلَدَغَتْهُ الْخَشْيَةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من الشِّرْكِ ؛ فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ سَلِيمًا إذَا كَانَ حَقُودًا حَسُودًا، مُعْجَبًا مُتَكَبِّرًا، وَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِرَحْمَتِهِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ :
فِي نُزُولِهَا خَبَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ من الْأُمَمِ، وَوَعْظٌ من اللَّهِ لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ :﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ قَالَ : يَعْنِي بِهِ السَّوْطَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مُوسَى :﴿ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِاَلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ من الْمُصْلِحِينَ ﴾. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا، وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ ؛ وَإِنَّمَا وَكَزَهُ، فَكَانَتْ مَيْتَتُهُ فِي وَكْزَتِهِ. وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ، وَأَقَلُّهُ الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ، وَيَلِيهِ السَّوْطُ وَالْعَصَا، وَيَلِيهِ الْحَدِيدُ ؛ وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إلَّا بِحَقٍّ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نُزُولِهَا :
وَذَاكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَحَرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعِدَ الصَّفَا، ثُمَّ نَادَى : يَا صَبَاحَاهُ وَكَانَتْ دَعْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا دَعَاهَا الرَّجُلُ اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ عَشِيرَتُهُ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا، فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ :( أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا. قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ).
قَالَ :( يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ : يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ لُؤَيٍّ ؛ يَا آلَ قُصَيٍّ، يَا آلَ عَبْدِ شَمْسٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، يَا آلَ هَاشِمٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا صَفِيَّةُ أُمَّ الزُّبَيْرِ ؛ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ من النَّارِ ؛ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ من اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا صَفِيَّةُ، يَا فَاطِمَةُ ؛ سَلُونِي من مَالِي مَا شِئْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُتَّقُونَ، فَإِنْ تَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَرَابَتِكُمْ فَذَلِكَ، وَإِيَّايَ لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ، وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى أَعْنَاقِكُمْ ؛ فَأَصُدُّ بِوَجْهِي عَنْكُمْ، فَتَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ : هَكَذَا وَصَرَفَ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ ؛ غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا ).
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا، تَبًّا لَك سَائِرَ الْيَوْمِ. فَنَزَلَتْ :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :( إنَّ آلَ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ، وَإِنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ). قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ : وَكَانَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ يَعْنِي بَعْدَ قَوْلِهِ " إلَيَّ "، وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُد فِي جَمْعِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ :( آلُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ، إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ). وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ :( لَا يَتَّكِلُ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ؛ لَا أَحِلُّ إلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا أُحَرِّمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلَا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا من اللَّهِ شَيْئًا ).
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا من بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَالشُّعَرَاءُ ﴾
الشِّعْرُ نَوْعٌ من الْكَلَامِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ : حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ. وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمَ الْمَوْقِعِ حَتَّى قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ :
* وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ *
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي كَانَ يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ :( إنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ من النَّبْلِ ).
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ : سَمِعْت جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ : هَاجَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفِهِ من تَبُوكَ، فَسَمِعْت الْعَبَّاسَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك. فَقَالَ : قُلْ، لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك. فَقَالَ الْعَبَّاسُ مُمْتَدِحًا :
مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْت الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْ جَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ من صَالِبٍ إلَى رَحِمٍ إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى اسْتَوَى بَيْنَك الْمُهَيْمِنُ من خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطْقُ
وَأَنْتَ لَمَّا بُعِثْت أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِك الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النّ ُورِ وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ ﴾ ؛ يَعْنِي الْجَاهِلُونَ، من الْغَيِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَيَكُونُ شِرْكًا، وَيُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ. وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ سَفَاهَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴾ ؛ يَعْنِي يَمْشُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَحْصِيلٍ، وَضَرَبَ الْأَوْدِيَةَ فِي السَّيْرِ مَثَلًا لِصُنُوفِ الْكَلَامِ فِي الشِّعْرِ، لِجَرَيَانِ تِلْكَ سَيْلًا، وَسَيْرِ هَؤُلَاءِ قَوْلًا، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ : يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ من الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ :
تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ *** بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي
فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ ﴾ وَقَالُوا : هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ :﴿ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا من بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ، كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ :
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ من آلِ هَاشِمٍ *** بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ
وَمَا وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ *** كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ
وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ *** وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ
وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ *** وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ *** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ :
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ عُمَرُ : يَا بْنَ رَوَاحَةَ ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ من نَضْحِ النَّبْلِ )، وَفِي رِوَايَةٍ :
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ *** كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : من الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ من الْبَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ. رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ :
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا *** بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ *** وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ
فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي *** وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ *** تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً من الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ، فَقَالَ :
يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ *** هَذَا زَمَانُك، إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ *** أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
وَحْشُ الْمَكَانَةِ من أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي *** نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي وَعَنْ وَطَنِي
فَقَالَ : نَعَمْ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ.
فَقَالَ عُمَرُ : مَا لِي وَلِلشُّعَرَاءِ ! قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ : وَمَنْ مَدَحَهُ ؟ قَالَ : عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ. قَالَ : نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ :
رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا *** نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا
سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا *** عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا *** وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا *** وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا
قَالَ : صَدَقْت، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ. قَالَ : لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ :
أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي *** شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ
وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ *** وَلَيْتَ حَنُوطِي من مُشَاشِك وَالدَّمِ
وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي *** هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ
فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا ؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ. قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ *** يُوَافِي لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ *** إذَا قِيلَ : قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي *** مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا
اُعْزُبْ بِهِ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : كُثَيِّرُ عَزَّةَ. قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ *** يَبْكُونَ من حَذَرِ الْعَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا *** خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا
اُعْزُبْ بِهِ.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ : أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهُ قَالَ :
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا *** يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ
اُعْزُبْ بِهِ.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ. قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا :
هُمَا دَلَّيَانِي من ثَمَانِينَ قَامَةً *** كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا *** أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ ؟
فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا *** وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ
اُعْزُبْ بِهِ. فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ. قَالَ : هُوَ الْقَائِلُ :
فَلَسْت بِصَائِمٍ رَمَضَانَ عُمْرِي *** وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ
وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا رَكُوبًا *** إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ يَدْعُو *** قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا *** وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
اُعْزُبْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ :
لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا *** مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى *** وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا *** حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا، فَأْذَنْ لَهُ.
فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقُلْت : اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ :
إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا *** جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ *** حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا *** وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
كَمْ بِالْيَمَامَةِ من شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ *** وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ *** كَالْفَرْخِ ف
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢٦:الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ : يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ من الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ :
تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ *** بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي
فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ ﴾ وَقَالُوا : هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ :﴿ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا من بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ، كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ :
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ من آلِ هَاشِمٍ *** بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ
وَمَا وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ *** كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ
وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ *** وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ
وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ *** وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ *** كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ :
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ عُمَرُ : يَا بْنَ رَوَاحَةَ ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ من نَضْحِ النَّبْلِ )، وَفِي رِوَايَةٍ :
نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ *** كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : من الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ من الْبَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ. رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ :
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا *** بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ *** وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ
فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي *** وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ *** تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً من الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ، فَقَالَ :
يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ *** هَذَا زَمَانُك، إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ *** أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
وَحْشُ الْمَكَانَةِ من أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي *** نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي وَعَنْ وَطَنِي
فَقَالَ : نَعَمْ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ.
فَقَالَ عُمَرُ : مَا لِي وَلِلشُّعَرَاءِ ! قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ : وَمَنْ مَدَحَهُ ؟ قَالَ : عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ. قَالَ : نَعَمْ، فَأَنْشَدَهُ :
رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا *** نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا
سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا *** عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا *** وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا *** وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا
قَالَ : صَدَقْت، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ. قَالَ : لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ :
أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي *** شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ
وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ *** وَلَيْتَ حَنُوطِي من مُشَاشِك وَالدَّمِ
وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي *** هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ
فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا ؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ. قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ *** يُوَافِي لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ *** إذَا قِيلَ : قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا
أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي *** مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا
اُعْزُبْ بِهِ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : كُثَيِّرُ عَزَّةَ. قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ *** يَبْكُونَ من حَذَرِ الْعَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا *** خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا
اُعْزُبْ بِهِ.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَ : أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ من أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهُ قَالَ :
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا *** يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ
اُعْزُبْ بِهِ.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ. قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا :
هُمَا دَلَّيَانِي من ثَمَانِينَ قَامَةً *** كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا *** أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ ؟
فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا *** وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ
اُعْزُبْ بِهِ. فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ. قَالَ : هُوَ الْقَائِلُ :
فَلَسْت بِصَائِمٍ رَمَضَانَ عُمْرِي *** وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ
وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا رَكُوبًا *** إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ يَدْعُو *** قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا *** وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
اُعْزُبْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي.
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ :
لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا *** مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى *** وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا *** حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا، فَأْذَنْ لَهُ.
فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقُلْت : اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ :
إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا *** جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ *** حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا *** وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ :
كَمْ بِالْيَمَامَةِ من شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ *** وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ *** كَالْفَرْخِ ف

Icon