تفسير سورة فاطر

اللباب
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الملائكة
عليهم السلام١
مكية٢ وهي ست وأربعون آية وسبع مائة وسبع وتسعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا.
١ زيادة من ((أ))..
٢ نقل القرطبي وابن الجوزي أنها مكية بالإجماع، انظر: القرطبي ١٤/٣١٨ وزاد المسير ٦/٤٧٢..

مكية وهي ست وأربعون آية وسبع وتسعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا. بسم الله الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: قوله: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات﴾ قد تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر. ونعم الله على قسمين عاجلة وآجلة والعاجلة وجود وبقاء والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء.
قوله: ﴿فَاطِرِ﴾ إن جعلت إضافة محضة كان نعتاً «لله» وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً. وهو قليل، من حيث إنه مشتق، وهذه قراءة العامة. والزُّهْريّ والضحاك: «فَطَرَ» فعلاً ماضياً وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها صلة لموصول محذوف أي الَّذِي فطر. كذا قدره أبو (حيان) وأبو
97
الفضل، ولا يليق بمذهب البصريين لأن حذف الموصل الاسمي لا يجوز، وقد تقدم هذا الخلاف متسوفًى في البقرة.
الثاني: أنه حال على إضمار «قد» قال أبو الفضل أيضاً.
الثالث: أنه خبر مبتدأ مضمر أي هُوَ فطر وقد حكى الزمخشري قراءة تؤيد ما ذهب إليه الرّازي فقال: «وقرئ الذي فَطَر وَجَعَل»، فصرح بالموصول.

فصل


معنى فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. قاله ابن عباس وقيل: فاطر السموات والأرض أي شاقّهما لِنُزُول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض. ويلد عليه قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ فإن في ذلك اليوم تكن الملائكةُ رسلاً.
قوله: «جاعل» العامة أيضاً على جره نعتاً أو بدلاً، والحسن بالرفع والإضافة.
وروي عن أبي عمرو كذلك إلا أنَّه لم ينون ونصب الملائكة، وذلك على حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله:
١٤٥١ -........................... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا
98
وابنُ يعمُر وخُلَيْدُ بن نَشِيطٍ «جَعَلَ» فعلاً ماضياً بعد قراءة فاطر بالجر وهذه كقراءة: ﴿فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل﴾ [الأنعام: ٩٦] والحَسَنُ وحُمَيْد رُسْلاً بسكون السين وهي لغة تميم. وجاعل يجوز أن يكون بمعنى مصير أوبمعنى خالق فعلى الأولى يجري الخلاف هل نصب الثاني باسم الفاعل أو بإضمار فعل هذا إن اعتقد أن جاعلاً غير ماضي أما إذا كان ماضياً تعين أن ينتصب بإضمار فعل.
وتقدم تحقيق ذلك في الأنعام وعلى الثاني ينتصب على الحال، و «مَثْنَى وثُلاَثَ ورُبَاعَ» صفة لأجنحة و «أُولي» صلة لرُسُلاً.
وتقدم تحقيق الكلام في مَثْنَى وأخْتَيْهَا في سورة النساء قال أبو حيان وقيل: أولي أجنحة معترض و «مثنى» حال والعامل فعل محذفو يدل عليه رسلاً أي يُرْسَلُون مَثْنَى وثُلاَث ورُبَاع وهذا لا يسمى اعتراضاً لوجهين:
أحدهما: أن «أولي» صفة لرسلاً والصفة لا يقلا فيها معترضة.
والثاني: أنها ليست حالاً من «رُسُلاً» (بل) من محذفو فكيف يكون ما قبله معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في «رُسُلاً» لأنه مشتق لسهل ذلك بعض شيء
99
ويكون الاعتراض بالصفة مجازاً من حيث إنه فاصل في الصورة.
قوله: ﴿يَزِيدُ﴾ مستأنف و «مَا يَشَاءُ» هو المفعول الثاني للزّيادة. والأول لم يقصد فهو محذفو اقتصاراً لأن قوله في الخلق يُغْنِي عَنْهُ.

فصل


قول قتادة ومقاتل: ألوي أجنحة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثةُ أجنحة، وبعضهم له أجنحة يزيد فيها ما يشاء وهو قوله: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء﴾ قال (عبد الله) بنُ مسعود في قوله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى﴾ [النجم: ١٨] قال: رأي جبريل في صورته له ستّمائةِ جَنَاح. «قال ابن شهاب في قوله: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآء﴾ قال: حسن الصوت وعن تقادة: هو المَلاَحَةُ في العينين وقيل: هو القعل والتمييز ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
قوله: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله﴾ إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب من وجوه:
أحدها: التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها: أنه أنّث الكناية فقال: فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا»
ويجوز من حيث العربية أن يقال: «لَهُ» عَوْداً إلى «ما» ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فيه واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك: «وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ» بالتذكير ولم يقل «لها» فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتلم أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله (تعالى) ﴿وَمَا يُمْسِكْ﴾ عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص.
وثالثها: قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال: «لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ» وعند الإمساك قال: لاَ مُمْسِكَ لَهَا «ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد ي رَحِمَهُ اللَّهُ بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
100
قوله: ﴿مِنْ رَحْمَةٍ﴾ تبين أو حال من اسم الشرط ولا يكون صفة ل» ما «لأن اسم الشرط لا يوصف قال الزمخشري: وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل: أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية؟ قال أبو حيان: والعموم مفهوم من اسم الشرط و» من رحمة «بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و» من «في موضع الحال. انتهى.
قوله ﴿وَمَا يُمْسِكْ﴾ يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه من رحمة أو غيرها.
فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على «ما يمسك»
ويجوز أن يكون قد حذف الميَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله: «له» على لفظ «ما» وفي قوله أولاً: فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما» لأن المراد به الرحمة فحل مأولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ. والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة «وَهُوَ العَزِيزُ» فيما أمسك أي كامل القدرة «الحَكِيمُ» فيما أرسل أي كامل العلم. قال - عليه (الصلاة و) السلام «الَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ».
قوله: ﴿يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمدل على سبيل التفصيل بني النعمة على سبيل الإجمال فقال: ﴿اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال: ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء.
قوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ قرأ الأخوان «غَيْرٍ» بالجر نعتاً «لِخَالِقٍ» على اللّفظ و «مِنْ خَالِقٍ» متبدأ مراد فيه «من» وفي خبره قولان:
أحدهما: هو الجملة من قوله: ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾.
101
والثاني: أنه محذوف تقديره: «لكم» ونحوه، وفي «يرزقكم» على هذا وجهان:
أحدهما: أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ.
والثَّانِي: أنه مستأنف وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر المبتدأ.
والثاني: أنه صلة لخالق على المَوْضِع والخبر إما محذوفٌ وإما «يَرْزُقُكُمْ».
والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ (فيه) زيادة «من» قال: فيحتاج مثله إلى سماع ولا يظهر التوفق فإن شروط الزيادة والعمل موجودة، وعلى هذا الوجه «فَيرْزُقُكُمْ» إما صفة أو مستأنف.
وجعل أبو حيان استئنافه أولى، قال: لانتفاء صدق «خالق» على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ «غَيْرَ» بالنصب على الاستثناء والخبر «يَرزُقُكُمْ» أو محذوف و «يرزقكم» مستأنفةٌ أو صفةٌ.

فصل


قال المفسرون: هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال: لا خالق غير الله يرزقكم.
102
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات «لاَ إلَه إلاَّ هُوَ» مستأنف «فَاَنَّى تُؤْفَكُونَ» أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن له الملكوت؟ ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذلك الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ يسلي نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب (و) غير المكذب له الثواب بقوله: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال: ﴿يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ يعني وعد القيامة ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾ أي الشيطان وقرأ العامة بفتح «الغَرُور» وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور. وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها؛ إماغ جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس.
103
قوله :﴿ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر وقال :﴿ مَّا يَفْتَحِ الله ﴾ يعني١ إن رحم الله فلا مانع له وإن لم يرحم فلا باعثَ له عليها. وفي الآية دليل على سبق الرحمة الغضب٢ من وجوه :
أحدها : التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر.
وثانيها : أنه أنّث الكناية فقال : فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا » ويجوز من حيث العربية أن يقال :«لَهُ » عَوْداً إلى «ما » ولكن قال الله تعالى ذلك ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة فهي واصلة إلى من رَحِمَتُهُ وقال عند الإمساك :«وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ » بالتذكير ولم يقل «لها » فلم يصرح بأنه لا مرسل للرحمة بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي يرسل هو غير الرحمة، فإن قوله ( تعالى )٣ ﴿ وَمَا يُمْسِكْ ﴾ عامٌّ من غير بيانٍ وتخصيص.
وثالثها : قوله من بعْدِه أي من بعد الله فاستثنى ههنا وقال :«لاَ مُرْسِلَ لَهُ إلاَّ اللَّهُ » وعند الإمساك قال : لاَ مُمْسِكَ لَهَا «ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رَحِمَهُ الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره ومن يعذبه الله قد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان٤.
قوله :﴿ مِنْ رَحْمَةٍ ﴾ تبيين٥ أو حال من٦ اسم الشرط ولا يكون صفة ل » ما «لأن اسم الشرط لا يوصف٧ قال الزمخشري : وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قيل : أيّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضية ؟٨ قال أبو حيان : والعموم مفهوم من اسم الشرط و » من رحمة «بيان لذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمع المعرف المطابق في العموم لاسم الشرط وتقديره من الرحمات. و » من «في موضع الحال. انتهى٩.
قوله ﴿ وَمَا يُمْسِكْ ﴾ يجوز أن يكون على عمومه أيْ أيّ شيء أمْسَكَه١٠ من رحمة أو غيرها.
فعلى هذا التذكير في قوله له ظاهر لأنه عائد على «ما يمسك » ويجوز أن يكون قد حذف المبيَّن من الثاني لدلالة الأول عليه تقديره وما يمسك من رحمة فعلى هذا التذكير في قوله :«له » على لفظ «ما » وفي قوله أولاً : فلا ممسك لها التأنيث فيه حمل على معنى «ما » لأن المراد به الرحمة فحمل أولاً على المعنى وفي الثاني على اللفظ١١. والفَتْحُ والإمساك استعارة حسنة١٢ «وَهُوَ العَزِيزُ » فيما أمسك أي كامل القدرة «الحَكِيمُ » فيما أرسل أي كامل العلم. قال - عليه ( الصلاة١٣ و ) السلام «الّلَهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا منعت وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجدّ مِنْكَ الجِدُّ »١٤.
١ في ((ب)) بمعنى..
٢ في ((ب)) سبق رحمته غضبه..
٣ زيادة من ((أ))..
٤ وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي ٢٦/٣ و٤..
٥ قاله العكبري في التبيان ١٠٧٢..
٦ البحر المحيط ٧/٢٩٩..
٧ السابق..
٨ انظر: الكشاف..
٩ البحر المحيط ٧/٢٩٩..
١٠ في ((ب)): يمسكه بالمضارعة..
١١ انظر معاني الفراء ٢/٣٦٦ ومعاني الزجاج ٤/٢٦٢ والبحر ٧/٢٩٩..
١٢ البحر والكشاف المرجعان السابقان..
١٣ زيادة من ((ب))..
١٤ الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ قدر برقم ٨ ومسند الإمام أحمد ٣/٨٧ و٤/٩٣ و ٩٥ و٩٧ و٢٤٥ و٢٤٧ و٢٥٠ و٢٥٤ و٢٥٥ و٢٨٧..
قوله :﴿ ياأيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تَسْتَوجبُ الحمد على سبيل التفصيل بين النعمة على سبيل الإجمال فقال :﴿ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ﴾ وهي مع كونها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال :﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله ﴾ إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء وقال :﴿ يَرْزُقُكُمْ ﴾ إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق في الانتهاء١.
قوله :﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله ﴾ قرأ الأخوان «غَيْرٍ » بالجر نعتاً «لِخَالِقٍ » على٢ اللّفظ و «مِنْ خَالِقٍ » متبدأ مراد فيه «من » وفي خبره قولان :
أحدهما : هو الجملة من قوله :﴿ يَرْزُقُكُمْ ﴾.
والثاني : أنه محذوف تقديره :«لكم » ونحوه٣، وفي «يرزقكم » على هذا وجهان :
أحدهما : أنه صفة أيضاً لخلق فيجوز أن يحكم على مَوْضِعِهِ بالجر اعتباراَ باللفظ وبالرفع اعتباراً بالمَوْضِعِ٤.
والثَّانِي : أنه مستأنف٥ وقرأ الباقون بالرفع وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خبر المبتدأ٦.
والثاني : أنه صفة لخالق على المَوْضِع٧ والخبر إما محذوفٌ وإما «يَرْزُقُكُمْ ».
والثالث : أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية لأن اسمَ الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام٨ إلاَّ أن أبا حيان توقف في مثل هذا من حيث إن اسم الفاعل وإن اعتمد إلا أنه لم يحفظ ( فيه )٩ زيادة «من » قال : فيحتاج مثله إلى سماع١٠ ولا يظهر التوقف فإن شروط الزيادة والعمل موجودة، وعلى هذا الوجه «فَيرْزُقُكُمْ » إما صفة أو مستأنف١١.
وجعل أبو حيان استئنافه أولى، قال : لانتفاء صدق «خالق » على غير الله بخلاف كونه صفة فإن الصفة تُقَيَّد فيكون ثَمَّ خالق غير الله لكنه ليس برازقٍ١٢ وقرأ الفضلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النحويّ١٣ «غَيْرَ » بالنصب١٤ على الاستثناء والخبر «يَرزُقُكُمْ » أو محذوف و «يرزقكم » مستأنفةٌ أو صفةٌ١٥.

فصل


قال المفسرون : هذا استفهام على طريق التنكير كأنه قال : لا خالق غير الله يرزقكم
من السماء والأرض أي من السماء المطر ومن الأرض النبات «لاَ إلَه إلاَّ هُوَ » مستأنف١٦ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ » أي فأنى تُصْرَفُونَ عن هذا الظاهر فكيف تشركون المَنْحُوتَ بمن١٧ له الملكوت ؟
١ قاله الرازي في ((التفسير الكبير)) ٢٦/٤..
٢ ذكرت في الإتحاف ٣٦١ والسبعة ٥٣٤ وزاد المسير ٦/٤٧٤..
٣ قاله في البحر ٧/٣٠٠ والتبيان ١٠٧٣ والكشاف ٣/٢٩٩..
٤ البحر ٧/٣٠٠ والكشاف ٣/٢٩٩ والدر ٤/٣٦٣ والتبيان لأبي البقاء العكبري ١٠٧٣ والبيان لابن الأنباري ٢/٢٨٦ ومشكل إعراب مكي ٢/٢١٤..
٥ المراجع السابقة..
٦ ذكره أبو حيان في بحره ٧/٣٠٠ وكذلك السمين في الدر ٤/٤٦٣..
٧ البحر المحيط والدر السابقان والكشاف ٣/٢٩٩ والتبيان ١٠٧٣ والبيان ٢/٢٨٦ ومشكل الإعراب لمكي ٢/٢١٤ والقرطبي ١٤/٣٢١..
٨ المراجع السابقة عدا القرطبي والكشاف..
٩ سقط من ((ب))..
١٠ بالمعنى من البحر ٧/٣٠٠ والكشاف ٣/٢٩٩ قال: ((فإن قلت: هل فيه دليل على أن الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت: نعم إن جعلت ((يرزقكم)) كلاما مبتدأ وهو الوجه الثالث وأما على الوجهين الآخرين وهما الوصف والتفسير فقد تقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض))..
١١ السابق.
١٢ السابق.
١٣ الكوفي روى عن الكسائي وعنه عبيد الله بن الآملي. غاية النهاية ٢/٨..
١٤ ذكرها في المختصر ١٢٣..
١٥ الكشاف ٣/٢٩٩ ومعاني الفراء ٢/٦٦ والقرطبي ١٤/٣٢١ والبيان ٢/٢٨٦ والمشكل ٢/٢١٤ ومعاني الزجاج ٤/٢٦٢..
١٦ الكشاف ٣/٢٩٩..
١٧ الرازي ٢٦/٤و٥.
ثم لما بين الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرِّسالة فقال :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ يسلي نبيه١ - صلى الله عليه وسلم - ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب ( و )٢ غير المكذب له الثواب بقوله :﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾
١ في ((ب)) ليسلي..
٢ ساقط من ((أ)) وهي كما في ((أ)) في الفخر الرازي..
ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر فقال :﴿ ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ يعني وعد القيامة ﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور ﴾ أي الشيطان١ وقرأ العامة بفتح «الغَرُور » وهو صفة مبالغة كالصَّبُور والشَّكُور. وأبو السَّمَّال وأبو حَيْوَة بضمِّها٢ ؛ إما جمع غارٍ كَقَاعدٍ وقُعُودٍ وإمَّا مصدر كالجُلُوس.
١ انظر ما سبق في تفسير الفخر الرازي ٢٦/٤و٥..
٢ ذكرها الزمخشري في كشافه بدون نسبة انظر: الكشاف ٣/٣٠٠ ونسبت في القرطبي ١٤/٣٢٣ والبحر ٧/٣٠٠ وهي شاذة..
قوله: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ لما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾ [فاطر: ٥] يمنع العاقل من الاغترار وقال: ﴿الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّا﴾ ولا تمسعوا قوله. قوله: ﴿فاتخذوه عَدُوّا﴾ أي اعملوا ما يسوؤه وهو العمل الصالح. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ﴾ أي أشياعه ﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ (و) في الآية أشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فإما أنْ يُعَادِيَه مجازاةً له وإما أن يُرْضيه فلما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوّ﴾ أمرهم بالعداوة وأَشَارَ إلى أن الطريق ليس إلا هذا. وأما الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إنْ أَرْضَيْتمُوهُ واتَّبعتُمُوهُ فهو لا يؤدِّيكم إلا إلى السعير.
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يق له ويصير معه على
103
قتاله إلى يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان (أن) يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبداة ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره. والأحسن أن يكون «لهم» هو الخبر و «عَذَابٌ» فاعله.
الثاني: أنه بدل من واو «لِيَكُونُوا» ونصبه من أوجه: البدل من «حِزْبَهُ» أو النعت له أو إضمار فلع «أَذُمُّ» ونحوه، وجره من وجهين: النعت أو البدلية من «أصْحَابِ السًّعِيرِ» وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم واللام في «لِيَكُونُوا» إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَم المُسَبب وإما الصَّيْرُورة ثم قال: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ وهذا حال حزب الشيطان ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير».
قوله: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه﴾ «مَنْ» موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ «تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ» لدلالة: «فَلاَ تَذْهَب» عليه وقدره الزجاج: «وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ» وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له. وهو
104
أحسن، لموافقته لفظاً ومعنى ونظيره «أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ (هُوَ أعْمَى) » ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى﴾ [الرعد: ١٩] والعامة على «زُيِّنَ» مبنياً للمفعول «سُوءُ» رفع وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله «سُوءَ» بالنصب به. وعنه «أَسْوأَ» بصيغة التفضيل منصوباً وطلحةُ «أَمَنْ» بغير فاء قال أبو الفضل: الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور الجواب، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما نُودي لأجله كأنه قيل: يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِعء إلى الله وتب إليه، وقوله: «كما حذِف الجواب» يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره.
فل
قال ابن عباس: نزلت في أبي جهل ومشركي مكة وقال سعيد بن جبير: نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع فقال قتادة: منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه: أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه اله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟ «فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
105
مَنْ يَشَاء» وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى.
ثم سلى - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة فقال: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ كقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ﴾ [الكهف: ٦] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ﴾ العامة على فتح التاء مسنداً «لِنَفْسِك» من باب «لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا» أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهب بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب (و) نَفْسَك مفعول به.
قوله: ﴿حَسَرَاتٍ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني: أنه في موضع الحال على المبالغة كأن كلها صَا (رَ) تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال:
٤١٥٢ - مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً
يريد: رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم (شعر) :
106
٤١٥٣ - فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ
وكون «كلاكل وصدور» حال قوله سيبويه وجعلها المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون﴾ أي الله عالم بفعلهم يجازيهم على ما يصنعونه، ثم عاد إلى البيان وقال: ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح﴾ وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ.
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ.
قوله: ﴿فَتُثِرُ﴾ عطف على «أرْسَلَ» لأن «أرْسَلَ» بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه. و «تثيرُ» لتصور الحال واستحضار الصورة البديعية كقوله: ﴿أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾ [الحج: ٦٣] وكقول تَأبَّكَ شَرًّا:
107
حيث قال: «فأضربها» ليصور لقوله حاله وشجاعته وجرأته وقوله: «فَسُقْنَاهُ وأَحْيَيْنَا» معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه.

فصل


قال: أرسل بلفظ الماضي وقال: ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح ويه تؤلَف في زمان فقال: تُثِيرُ أي على هيئتها وقال: «سُقْنَا» أسند الفعل غلى المتلكم وكذلك في قوله: «فَأحْيَيْنَا» لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعلا وهو الإرسال ثم لما عرف قال: أنا الذي بَعَثْتُ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ. ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني: كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله: «سُفْنَا وَأَحْيَيْنَا» بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله: «أرسل» وبين قوله: «تثير» ثم قال: «كَذَلِكَ النُّشُورُ» أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه:
أحدها: أن الأرض الميتة لما وصلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها: كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها: كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل: ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد؟
فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: «جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة» ذكر في الأمور الأرضية الرِّياحَ.
108
واعلم أن من علم أن له عدواً لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف له ويصبر معه على قتاله١ إلى أن يظفر به وكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان ( أن )٢ يهرب منه فإنه يقف معه ولا يزال ثابتاً على الجادّة والاتِّكال على العبادة٣ ثم بين تعالى ما حال حزبه وحال حزب الله وهو قوله :﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ يجوز رفعه ونصبه وجره فرفعه من وجهين :
أظهرهما : أن يكون متبدأ والجملة بعده خبره٤. والأحسن أن يكون «لهم » هو الخبر٥ و «عَذَابٌ » فاعله.
الثاني : أنه بدل من واو «لِيَكُونُوا »٦ ونصبه من أوجه : البدل من «حِزْبَهُ »٧ أو النعت له٨ أو إضمار فعل «أَذُمُّ » ونحوه٩، وجره من وجهين : النعت١٠ أو البدلية من «أصْحَابِ السًّعِيرِ »١١ وأحسن الوجوه الأول المطابقة التقسيم١٢ واللام في «لِيَكُونُوا » إما للعلة على المجاز من إقامة السَّبَب مَقَام المُسَبب١٣ وإما الصَّيْرُورة١٤ ثم قال :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ وهذا حال حزب الشيطان ﴿ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ فالإيمان في مقابلته المغفرة فلا يُؤَبَّد١٥ مؤمنٌ في النار والعمل الصالح في مقابلته «الأجر الكبير ».
١ وكذا في ((ب)) والرازي ويصبر على قتاله والصبر معه الظفر..
٢ ساقط من ((ب))..
٣ الرازي ٢٦/٥..
٤ قيل في القرطبي ١٤/٣٢٤ والتبيان ١٠٧٣ وإعراب النحاس ٣/٣٢٦ والبحر المحيط ٧/٣٠٠ والدر المصون ٤/٤٦٤..
٥ المرجع الأخير السابق..
٦ التبيان والبيان ومشكل الإعراب لمكي ٢/٢١٥ وإعراب النحاس والبحر المراجع السابقة..
٧ التبيان والبيان والمشكل وإعراب النحاس والبحر والقرطبي المراجع السابقة..
٨ التبيان والبحر والدر المصون المراجع السابقة..
٩ الدر المصون ٤/٤٦٤ السابق..
١٠ لأصحاب السعير. وانظر: النبيان ١٠٧٣ والبحر ٧/٣٠٠ والدر المصون ٤/٤٦٤..
١١ المراجع السابقة. وانظر: البيان والمشكل والقرطبي المراجع السابقة وكذلك إعراب النحاس..
١٢ قاله النحاس والقرطبي وأبو حيان في المراجع السابقة..
١٣ اختار أبي حيان في البحر ٧/٣٠٠..
١٤ اختار ابن عطية نقلا عن أبي حيان في بحره السابق..
١٥ كذا هي هنا وفي ((ب)) يؤيد وفي الرازي: يؤيده انظر الرازي ٢٦/٦..
قوله :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه ﴾ «مَنْ » موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ «تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ » لدلالة :«فَلاَ تَذْهَب » عليه١ وقدره الزجاج :«وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ »٢ وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له. وهو أحسن، لموافقته لفظاً ومعنى٣ ونظيره «أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ ( هُوَ أعْمَى ) »٤ ﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى ﴾ [ الرعد : ١٩ ] والعامة على «زُيِّنَ » مبنياً للمفعول «سُوءُ » رفع ٥ وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر٦ زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله «سُوءَ » بالنصب به. وعنه «أَسْوأَ » بصيغة التفضيل منصوباً٧ وطلحةُ٨ «أَمَنْ » بغير فاء٩ قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور١٠ الجواب، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما١١ نُودي لأجله كأنه قيل : يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِع إلى الله وتب إليه، وقوله :«كما حذِف الجواب » يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره١٢.

فصل


قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة١٣ وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع١٤ فقال١٥ قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر. ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح١٦ عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس. وفي الآية حذف مجازه : أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً١٧ ؟ «فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء » وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى١٨.
ثم سلى- رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة١٩ فقال :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ كقوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ [ الكهف : ٦ ] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا.
قوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ ﴾ العامة على فتح التاء مسنداً «لِنَفْسِك » من باب «لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا »٢٠ أي لا تتعاط أسباب ذلك. وقرأ أبو جعفر٢١ وقتادة والأشهب٢٢ بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب ( و ) نَفْسَك مفعول به٢٣.
قوله :﴿ حَسَرَاتٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ.
والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة٢٤ كأن كلها صَا ( رَ )٢٥ تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال :
٤١٥٢- مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى. . . حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً٢٦
يريد : رجعن كلاكلاً وصدرواً، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم ( شعر )٢٧ :
٤١٥٣- فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي. . . حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ٢٨
وكون «كلاكل وصدور » حال قول٢٩ سيبويه٣٠ وجعلهما المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية٣١ والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر. ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون ﴾ أي الله عالم بفعلهم٣٢ يجازيهم على ما يصنعونه،
١ ذكره القرطبي ١٤/٣٢٤ والكشاف ٣/٣٠١ والنحاس ٣/٣٢٦ وأبو حيان ٧/٣٠٠ والفراء في المعاني ٢/٣٦٦و٣٦٧..
٢ نقله عنه الكشاف السابق..
٣ قاله أبو حيان في البحر ٧/٣٠٠..
٤ الآية ١٤ من محمد وهي:﴿أفن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله﴾..
٥ على انه نائب عن الفاعل..
٦ هو عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاص روى عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار مات سنة ٨٤هـ، انظر: غاية النهاية لابن الجزري ١/٤٩٦ و ٤٩٧..
٧ ذكرها أبو حيان في البحر المحيط وكذلك السمين في الدر المصون ٤/٤٦٥ والبحر في ٧/٣٠١ وهما قراءتان شاذتان..
٨ لعله طلحة بن مصرف الذي له اختيار في القراءة ينسب إليه وقد ترجم له آنفا..
٩ المرجعان السابقان..
١٠ كذا نقل أبو حيان في البحر عن أبي الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح وما في ((ب)) من المبهم والجواب وهو تحريف. وانظر: البحر ٧/٣٠١..
١١ كذا هي هنا وفي الدر المصون نودي لأجله وفي ((ب)) والبحر المحيط أي ما يؤدي أجله وكلا المعنيين متقارب..
١٢ المرجع السابق..
١٣ زاد المسير ٦/٤٧٥..
١٤ السابق..
١٥ في ((ب)) قال.
١٦ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٩٧..
١٧ السابق..
١٨ نقله الإمام الفخر في تفسيره ٢٦/٦..
١٩ في الرازي باهرة..
٢٠ أتى بهذا المثال استئناسا لإسناد الفعل ((ذهب)) إلى لفظ ((نفسك)) أي لا يكن منك ذلك، وكذلك معنى المثال أي لا تكن بحيث أراك ها هنا. وهذا المثال حكاه سيبويه في الكتاب ٣/١٠١ في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي. لأن فيها معنى الأمر والنهي..
٢١ أحد العشرة القراء وقد ترجم له..
٢٢ تقدم..
٢٣ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ وأبو حيان ٧/٣٠١ والفراء ٢/٣٦٧ قال: ((وكل صواب)) وانظر: الإتحاف ٣٦١..
٢٤ ذهب إلى هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٧ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٣ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٠١ وأبو حيان في البحر ٧/٣٠١..
٢٥ ما بين القوسين سقط من ((أ))..
٢٦ بيت من البحر الكامل التام لجرير. ومعنى مشق: برى والهواجر جمع ((الهاجرة)) وهي وقت انتصاف النهار في شدة الحر. والسرى: السير ليلا. والكلاكل: هي الصدور. والشاهد: مجيء كلاكل حال من النون في ((ذهبن)) مبالغة في أن هذه الخيل تصير عظاما من كثرة السير ليلا. وانظر: البحر المحيط ٧/٣٠١ والكتاب ١/١٦٢ والكشاف ٣/٣٠١ وشرح شواهده ٤١٨ والقرطبي ١٤/٣٢٦ وديوان زهير ١٩١ وديوانه ٣٢٣و٣٥٣ دار صادر. .
٢٧ زيادة من ((ب))..
٢٨ من الخفيف وهو مما جهل قائله. و((تساقط)) أصلها تتساقط فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. والشاهد هنا معنوي أن نفسه هلكت حسرة على هؤلاء الأحبة. ومن الإمكان أن نعتبر الشاهد لفظي كسابقه حيث يجيء ((حسرات)) حال من ((نفسي)) مبالغة، وانظر: الكشاف ٣/٣٠١ وشرح شواهده ١٨ والقرطبي ١٤/٣٢٦، والبحر المحيط ٧/٣٠١، والدر المصون ٤/٤٦٦..
٢٩ في ((ب))، قال بالفعلية وليس المراد..
٣٠ قال: ((فإنما هو على قوله: ذهب قدما وذهب آخرا)) الكتاب ١/١٦٢..
٣١ قال: ((ولا أرى نصب هذا إلا على التبيين ؛ لأن التبيين إنما هو بالأسماء فهو الذي أراه)). المقتضب ٣/٢٧٢ وهو يعني بالتبيين التمييز ونقل التمييز أي ذهبت كلاكلها وصدورها..
٣٢ في ((ب)) بفعالهم..
ثم عاد إلى البيان وقال :﴿ الله الذي أَرْسَلَ الرياح ﴾ وهبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال وفي حركاته المخلتفة قد يُنْشِئ السَّحَابَ وقد لا يُنْشِئُ.
فهذه الاختلافات دليل على مسخَّرٍ مدبِّرٍ مُؤَثِّر مُقَدِّرٍ١.
قوله :﴿ فَتُثِرُ ﴾ عطف على «أرْسَلَ » لأن «أرْسَلَ » بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرْسَلَ لِتَحقُّقِ وقوعه. و «تثيرُ » لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة كقوله :﴿ أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً ﴾ [ الحج : ٦٣ ] وكقول تَأبَّط شَرًّا :
٤١٥٤- ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ. . . بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي. . . بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ. . . أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ. . . لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ. . . صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ٢
حيث قال :«فأضربها » ليصور لقومه حاله وشجاعته وجرأته وقوله :«فَسُقْنَاهُ و أَحْيَيْنَا » معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدْخَلُ في الاختصاص وأدلّ عليه٣.

فصل


قال : أرسل بلفظ الماضي وقال :﴿ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ بلفظ المستقبل، لأنه لما أُسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزَّمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان، ولأنه فرغ٤ من كل شيء فهو قدّر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. ولما أسند فعل الإشارة إلى الريح وهي٥ تؤلَف في زمان فقال : تُثِيرُ أي على هيئتها وقال :«سُقْنَا » أسند الفعل إلى المتلكم وكذلك في قوله :«فَأحْيَيْنَا » لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال : أنا الذي بَعَثْتُ٦ السَّحَاب وأحْيَيْتُ الأَرْضَ. ففي الأول كان تعريفاً بالفعل العجيب وفي الثاني : كان تذكيراً بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحاب بالسَّوْقِ والإحياء وقوله :«سُقْنَا وَأَحْيَيْنَا » بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرنا من الفرق بين قوله :«أرسل » وبين قوله :«تثير » ثم قال :«كَذَلِكَ النُّشُورُ » أي من القبور ووجه التشبيه من وجوه :
أحدها : أن الأرض الميتة لما وصلت٧ الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة.
وثانيها : كما أن الريح تجمع القِطَعَ السحابية كذلك نجمع أجزاء الأعطاء وأبعَاضَ الأشياء.
وثالثها : كما أنَّا نسوق الرِّيح والسحاب إلى البلد كذلك نسوق الرُّوحَ إلى الجسد الميِّت.
فإن قيل : ما الحكمة في هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟
فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أنه فاطر السماوات والأرض وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله :«جَاعِلِ الملائكة رسلاً أولي أجنحة » ذكر من الأمور الأرضية الرِّياحَ٨.
١ تفسير الرازي ٢٦/٧..
٢ أبيات من الوافر له و((فهم)) قبيلة عربية و((رحا مطان)) مكان و((السهب)) الفضاء الشاسع من الأرض و((الصحصحان)) المستوي. والنضو: الدابة الهزيلة من كثرة السفر. والمصقول: السيف والجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. والشاهد في ((فأضربها)) حيث عبر بلفظ المستقبل تحققا لوقوعه وأنه واثق في النصر فقصد الصورة الماضية في الذهن. وانظر: الكشاف ٣/٣٠٢ والبحر ٧/٣٠٢ وكذلك القرطبي ١٤/٣٢٧ والمثل السائر ٦٩ ومعجم البلدان ((رحا مطان)) وشرح شواهد الكشاف ٥٥٧..
٣ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٠٢ وأبو حيان في البحر ٧/٣٠٢ أيضا..
٤ كذا هي في ((أ)) وفي الرازي: وكأنه قرع..
٥ كذا في ((ب)) وفي الرازي: وهو يؤلف بالتذكير..
٦ في الرازي: عرفتني سقت السحاب وعرفتني أحييت الأرض..
٧ في ((ب)) قبلت وكذا في الرازي..
٨ الرازي ٢٦/٧..
قوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ﴾ شرط جوابه مقدر باختلاف التفسير في قوله: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العزة﴾ (فقال مجاهد: معاه) من كان يريد العزة بعبادة الأوثان فيكون تقديره فليطلبها.
وقال قتادة: من كان يريد العزة وطريقة القويم ويحِبُّ نَيْلَها على وجهها. فيكون تقديره على هذا فليطلبها.
وقال الفراء: مِنْ كَانَ يريد علمَ العرزة فيكون التقدير: فَلْيَنْسب ذلك إلى الله.
قويل: من كان يريد العزة لا يعقبها ذلّة. فيكون التقدير: فهو لا يُبَالِهَا. ودل على هذه الأجوبة قوله: ﴿فَلِلَّهِ العزة﴾ وإنما قيل: إن الجواب محذوف وهو هذه الجملة لوجهين:
أحدهما: أن العز لله مطلقاً من غير ترتبها على شرط إرادة أحدٍ.
والثان: أنه لا بدّ في الجواب من ضي يعود على اسم الشرط إذا كان غير ظرف ولم يوجد هنا ضمير، و «جَميعاً حال، والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ.

فصل


قال قتادة: من كان يريد العزة فليتفرد بطاعة الله عزّ وجلَ - ومعناه الدعاء إلى
109
طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند الله بطاعته كما يقال: من كان يريد المال فالمال لفُلان (أي) فليطلبه من عنده ذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزيز كما قال تعالى: ﴿واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ﴾ [مريم: ٨١ - ٨٢] وقال: ﴿الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ [النساء: ١٣٩].
قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَد﴾ العامة على بنائه للفاعل من» صَعَدَ «ثلاثياً» الكَلِمُ الطَّيِّبُ « (برفعهما فاعلاً ونعتاً وعليّ وابنُ مسعود يُصْعِدُ من أصْعَدَ الكَلِمَ الطَّيّبَ) منصوبان على المفعول والنعت وقرئ يُصْعَدُ مبنياً للمفعول. وقال ابن عيطة: قرأ الضحاك يُصْعَد بضم الياء لكن لم يبيّن كونه مبنياً للفاعل او المفعول.

فصل


قال المفسرون: الكَلِمُ الطَّيب قول لا إله إلا الله. وقيل: هو قول الرجل: سُبْحَان اللَّهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ ولاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ أَكْبَرُ. وعن ابن مسعود قال: إذا حَذَّثْتُكُمْ حَديثاً أنبأتكم بِمصْدَاقِهِ من كتاب الله - عزّ وجلّ - ما مِن عبدٍ مسلم يقول خمس كلمات سُبْحَان الله والحمدُ لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أحذهُنَّ ملكٌ فَجعَلَهُنَّ تحت جناحه ثم صعد بِهِنَّ، فلا يمرّ بهن على جمع من الملائكة إلاَّ استغفروا لقائلهن حتى يَجِيءَ بهنَّ وَجْهَ ربِّ العالمين ومصداقيه من كتاب الله عزّ وجلّ قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ وقيل: الكلم الطيب: ذكر الله. وعن قتادة: إليه يصعد الكلم الطيب أي يقبل اللَّهُ الكلمَ الطيب.
قوله: ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ﴾ العامة على الرفع وفيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على»
الكَلِمُ الطَّيَّبُ «فيكون صاعداً أيضاً.
و «يَرْفَعُهُ»
على هذا استئناف إخبار من الله برفعهما. وإنما وَحَّدَ الضمير وإن كان المراد الكلم والعمل
110
ذهاباً بالضمير مذهب اسم الإشارة كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] وقيل: لاشتراكهما في صفة واحدة وهي الصُّعود.
والثاني: أنه مبتدأ و «يرفعه» الخبر ولكن اختلفوا في فاعل «يَرْفَعُ» على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه ضمير الله تعالى أي والعمل على الصالح يرفعهُ الله إليه.
والثاني: أنه ضمير العمل الصالح وضمير النصب على هذا وجهان:
أحدهما: أنه يعود على صاحب العمل أي يرفع صَاحِبَهُ.
والثان: أنه ضمير الكلم الطيب أي العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيب. ونُقل هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين إلاَّ أنَّ ابن عطية منع هذا عن ابن عباس وقال: لا يصح؛ لأن مذهب أهل السنة أن الكلم الطيب مقبول وإن كان صاحبه عاصياً.
والثالث: أن ضمير الرفع للكلم والنصب للعمل أي يرفع العَمَلَ وقرأ ابنُ أبي عَبَلَةَ وعِيسَى بالنّصب الْعَمَلَ الصَّالِحَ على الاشتغال والضمير المرفوع لِلْكَلِم أو لله والمنصوب للْعَمَلِ.

فصل


قال الحسن وقتادة: الكلمُ الطَّيَّبُ ذكر الله والعمل الصلاح أداء فرائضه، فمن ذكر الله ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني ولا بالتًّخَلِّي لكمن ما وقَرَ في القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حَسَناً وعَمِلَ غير صالح ردّ الله عليه قوله ومن قال حَسَناً وعمل صالحاً رفعه العمل لقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح
111
يَرْفَعُهُ} وقال عليه (الصلاة و) السلام - «لَمْ يَقْبَل اللَّهُ إلاَّ بِعَمَلٍ وَلاَ قَوْلاً وَعَمَلاً إلاَّ بِنِيَّة». ومن قال الهاء في قوله «يَرفعُهُ» راجعةٌ إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يُقْبَلُ عَمَلٌ إلا أن يكون صادراً عن التوحيد. وهذا معنى قول الكلبي ومقاتل. وقال سفيان بن عيينة: العمل الصالح هو الخالص يعني أن الإخلاص سبب قبلو الخيرات من الأقولا والأفعال لقوله تعالى: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا﴾ [الكهف: ١١٠] فجعل نقيض العمل الصالح الشِّرك والرياء.
قوله: ﴿والذين يَمْكُرُونَ السيئات﴾ «يمكرون» أصله قاصر فعلى هذا ينتصب «السيّئات» على نعت مصدر محذوف أي المكراتِ السيئات أو تعتٍ مضاف إلى (مصدر) أي أصْنَاف المَكْرَاتِ السيئاتِ ويجوز أن يكون «يَمْكُرُونَ» مضمناً معنى يكْسِبُون فينتصب «السيئات» معفولاً به قال الزمخشري ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فمعناه تعديته كما قال: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ [النساء: ١٨] قال مقاتل: يعني الشرك. وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في دار النَّدْوة كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
قوله: ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ هو مبتدأ و «يبور» خبره والجملة خبر قوله: ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ﴾ وجوَّز الحَوْفِيُّ وأبو البقاء أن يكون «هو» فصلاً بين المبتدأ أو الخبر وخبره وهذا مردود بأن الفصل لا يقع قبل الخبر إذا كان فعلاً إلاَّ أن الجُرْجَانيِّ
112
جوز ذلك، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون «هو» تأكيداً وهذا مردود بأن المضمر لا يؤكد الظاهر ومعنى «يَبُور» يَهْلِكُ ويَبْطُلُ في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ.... الآية﴾ قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين: دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] فلما ذكر دلائل الآفاق من المسوات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله: «مِنْ تراب» إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ» إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء (ينتهي) بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً».
قوله: ﴿﴾ من مزيدة في «أُنْثَى» وكذلك في: «مِنْ مُعَمَّرٍ» إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلاَّ بِعِلْمِهِ» حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ.
قوله: ﴿مِنْ أنثى﴾ في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود على «مُعَمَّر» آرخ لأن المراد بقوله: «مِنْ مُعَمَّر» الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله:
٤١٥٤ - ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيَانَ فَهْمٍ بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحَا مَطَانِ
بأنِّي قد رأيت الغول تَهْوِي بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَقُلْتُ لَهَا كِلاَنَا نِضْوُ أرْضٍ أَخُو سَفَرٍ فخل لِي مَكَانِي
فَشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوِي فَأَهْوَتْ لَهَا كَفِّي بمصقول يَمَانِي
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ صَرِيعاً لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرَانِ
٤١٥٥ - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ
ومنه: عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر.
113
والثاني: أنه يعود على «مُعَمَّر» لفظاً ومعنى. أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ؛ ومنه قول الشاعر:
٤١٥٦ - حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا
وقرأ يعقوب وسلاَّم - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً للفاعل وقرأ الحَسَنُ: مِنْ عُمْرِهِ بسكون المِيم.

فصل


معنى «وما يعمر من معمر» لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عرم آخر كما يقال: لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب» وقيل: قوله ولا نيقص من عرمه ينصرف إلى الأول. وقال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل (من) ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر: والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له: إن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤] فقال: هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و (أن) يَنْقُصَ، وقرأ هذه الآية.

فصل


«وما تحمل من أنثى ولا تضع» إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذرك بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ كمال قدرته بين بقوله: {ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع
114
إلا بعلمه} كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ فبين أنه هو القادرُ العليم المريد والأصنام لا قدرة لها (ولا علم) ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد: إن العمل بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل أليق.
قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران﴾ يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال: ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ طيب «سَائغٌ شَرَابُهُ» جائز في الحلق هنيء «وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ» شديد الملوحة. وقال الضحالك: هو المُرُّ.
قوله: ﴿سَآئِغٌ شَرَابُهُ﴾ يجوز أن يكون متبدأ وخبراً، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون «سائغٌ» خبراً و «شرابه» فاعلاً به لأنه اعتمد وقرأ عيسى - ويوى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت وعن عيسى بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت.
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر اللام، فقيل: هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة شاذة. قويل: مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ، بالكسر والسكون.

فصل


قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله: ﴿وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً﴾ فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ
115
الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منها والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على نَسَقِ قوله تعالى: ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩] وقوله: ﴿كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء﴾ [البقرة: ٧٤] قال ابن الخطيب: والأظهر أن المراد من ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب مُوجِب لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله: ﴿َمَا يَسْتَوِي البحران﴾ إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.

فصل


قال أهل اللغة: لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له: مِلْح.
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً. ويؤاخذ قائله (به) وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح. وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف (ما هو مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْقِ بخلاف) ما هو من أصل خلقته كذلك (فلما) قال الفقيه: الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم.
قوله: ﴿وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً﴾ من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً «وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً» يعني من الملح دون العذب «تَلْبَسُونَها» من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان. وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج (عيون) عذبة تمتزج بالملح فيكون
116
اللؤلؤ من ذلك. وقرئ «الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ» أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لِتبَبْغُوا مِنْ فَضْلِهِ» بالتجارة «ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ» الله على نعمة وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
قوله: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ وهذا استلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك «كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى».
قوله: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُم﴾ ذلكم مبتدأ و «الله» خبره و «ربكم» خبر ثانٍ أو نعت لله. وقال الزخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسمالله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم» خبر لولا أن المعنى يأباه وردهُ أبو حيان بأن «اللَّهَ» علم لا جنس فلا يُوصَفُ به. ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال: لأنه يكون قد أخبر عن المُشِار إليه بتلك الصفات أنه مَالِكُكُمْ ومُصْلِحُكُمْ.

فصل


المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فَطْرِ السَّمَواتِ والأرض وإرْسَالِ الأرواح وخَلْقِ الإنسان من ترابٍ وغيرذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال: ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ يعني الأصنام ﴿مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير﴾
117
قوله: ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ العامة على الخطاب في «تَدْعُونَ» لقوله: «رَبُّكُمْ» وعيسى وسَلاَّم ويعقوبُ - وتُرْوَى عن أبي عمرو - بياء الغيبة إمَّا على الالتفات وإمَّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحداً بخلاف الثاني فإنهما غَيْرَانِ و «يَمْلِكُونَ» هو خبر الموصول و «مِنْ قِطْمِير» مفعول به؟ و «مِنْ» فيه مزيدة والقطمير المشهور فيه أنه لُفَافَهُ النَّواة. وهو مَثَلٌ في القِلَّةِ كقوله:
٤١٥٧ - وَأبُوكَ يخْصِفُ نَعْلهُ مُتَوَرِّكاً مَا يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِنْ قِطْمِير
وقيل: هو القُمْعُ وقيل: ما بين القُمْع والنَّواة وقد تقدم أن النَواةَ أربعة أشياء يضرب بها المثل في القِلَّة: الفتيل وهو ما في شقِّ النَّواة، والقطمير وهو اللفافة والنَّفيرُ والثفروقُ وهو ما بين القُمْعِ والنَّواةِ.
قوله: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ﴾ يعني الأصنام «وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ» وهذا إبضال لما كانوا يقولون: إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقلا مجيباً لهم: إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون: إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولون بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال: ﴿َلَوْ سَمِعُواْ﴾ كما تظنون «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ».
قوله: ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي يَتَبرءُون منكم ومن عبادتكم إيَّاها ويقولون «مَا كُنْتُم إيَّانا تَعْبُدُونَ» واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ
118
قوله تعالى :﴿ والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ. . . . الآية ﴾ قد تقدم أن الدلائل مع كثرتها منحصرة في قسمين : دلائل الآفاق ودلائل الأنفس كما قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الرياح شرع في دلائل الأنفس وتقدم ذكره مِراراً أن قوله :«مِنْ تراب » إشارة إلى خلق آدم «ثُمَّ مِنْ نُطْفِةٍ » إشارة إلى خلق أولاده. وتقدم أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم، وكلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء والغذاء ( ينتهي )١ بالآخرة إلى الماء والتراب فهو من تراب صار٢ نطفة «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ذُكْرَانا وإنَاثاً ».
قوله :﴿ من أنثى ﴾ من مزيدة في «أُنْثَى »٣ وكذلك في :«مِنْ مُعَمَّرٍ »٤ إلا أن الأول فاعل وهذا مفعول قام مقامه و «إلاَّ بِعِلْمِهِ »٥ حال أي إلاَّ مُلْتبِسَةً بعِلْمِهِ.
قوله :﴿ مِنْ عمره ﴾ في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على «مُعَمَّر » آخر٦ لأن المراد بقوله :«مِنْ مُعَمَّر » الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى، لأنه بعد أن فرض كونُه معمراً استحال أن يَنْقص مِنْ عُمُرِهِ نفسه كقوله٧ :
٤١٥٥- وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَتْلَ فَحْلِهِم. . . وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَه فهو سَارِبُ٨
ومنه : عندي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ أي ونصف درهم آخر.
والثاني : أنه يعود على «مُعَمَّر » لفظاً ومعنى٩. والمعنى أنه إذا مضى من عمره حول أُحْصِيَ وكُتِبَ ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص. وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبُو مالكٍ١٠ ؛ ومنه قول الشاعر :
٤١٥٦- حياتك أنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلما. . . مَضَى نَفَسٌ مِنْكَ انْتَقَصْتَ بِهِ جُزْءَا١١
وقرأ يعقوب وسلاَّم١٢ - وتروى عن أبي عمرو - ولا يَنْقُصُ مبنياً١٣ للفاعل وقرأ الحَسَنُ : مِنْ عُمْرِهِ بسكون١٤ المِيم.

فصل


معنى «وما يعمر من معمر » لا يطول عمره ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر كما يقال : لفلانٍ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر «إلا في كتاب » وقيل : قوله ولا ينقص من عمره ينصرف إلى الأول. وقال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل ( من )١٥ ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.
وقال كعب الأحبار حين حضر الوفاة عمر : والله لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر فقيل له : إن الله عزّ وجلّ يقول :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٤ ] فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد و ( أن ) يَنْقُصَ، وقرأ هذه الآية١٦.

فصل


«وما تحمل من أنثى ولا تضع » إشارة إلى كمال قدرته فإن ما في الأرحام قبل التخليق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد كيف والأم الحامل لا تعلم منه شيئاً فلما ذكر بقوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ كمال قدرته بين بقوله :﴿ ما تَحْمِلُ من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ﴾ كمال علمه. ثم بين نفوذ إرادته بقوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ فبين أنه هو القادرُ العليم١٧ المريد والأصنام لا قدرة لها ( ولا علم )١٨ ولا إرادة فكيف يستحق شيء منها العبادة. ثم قال :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي الخلق من التراب. ويحتمل أن يكون المراد إن التعمير والنقصان على الله يسير. ويحتمل أن يكون المراد : إن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير. والأول أشبه لأن استعمال اليسير في الفعل١٩ أليق.
١ سقط من ((ب))..
٢ تفسير الرازي ٢٦/٩ و١٠..
٣ الدر المصون ٤/٤٧٠..
٤ الدر المصون ٤/٤٧٠ والبحر المحيط ٧/٣٠٤..
٥ قاله الكشاف ٣/٣٠٣ وانظر المرجعين السابقين..
٦ قاله الفراء في معانيه ٢/٣٦٨ وانظر: البحر والدر السابقين..
٧ في ((ب)) كقول الشاعر..
٨ من الطويل للأخنس بن شهاب ويروى: ((شددوا)) بدل قاربوا كما يروى: أرى كل قوم بدل ((وكل أناس)). وهو يفتخر بقومه وبحيواناتهم وغير قومه قد ربطوا وقيدوا حيواناتهم حتى لا تجور على الغير أما هم فلم يقيدوها فهي سارحة في الشاسع من الأرض. والشاهد: في ((قيده)) حيث أن الهاء لا تعود على ضمير الفحل الذي يخص غيرهم وإنما يعود على فحل الشاعر وقومه. وبهذا يصح التنظير بالآية، وقد تقدم..
٩ بالمعنى من البحر المحيط ٧/٣٠٤ ومعاني الفراء ٢/٣٦٨ وانظر الرأيين في زاد المسير ٦/٤٨٠ والقرطبي ١٤/٣٣٣..
١٠ المراجع السابقة..
١١ من الطويل أيضا وقائله مجهول وأتى به كشاهد معنوي حيث عن كل وقت يمر على الإنسان محسوب من عمره الذي لا يزيد ولا ينقص عما هو في اللوح. وهذا يِؤيد الرأي الثاني في ((المعمر))، وانظر: البحر المحيط ٧/٣٠٤، والدر المصون ٤/٤٧٠..
١٢ سبق التعريف به..
١٣ رواها ابن خالويه عن الحسن وابن سيرين ويعقوب انظر المختصر ١٢٣ والإتحاف ٣٦١ وهي من المتواتر من الأربع فوق العشر المتواترة. وانظر القرطبي ١٤/٣٣٤..
١٤ نسبها القرطبي للأعرج والزهري المرجع السابق وفي السبعة والمختصر أنها مروية عن أبي عمر انظر: السبعة ٥٣٤ والمختصر ١٢٣..
١٥ زيادة من ((أ))..
١٦ انظر: الفصل السابق في معالم التنزيل للبغوي ٥/٢٩٩..
١٧ في ((ب)) العالم..
١٨ سقط من ((ب))..
١٩ انظر: الفصل السابق في تفسير الرازي ٢٦/١٠..
قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي البحران ﴾ يعني العذب والملح ثم ذكرهما فقال :﴿ هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ طيب «سَائغٌ شَرَابُهُ » جائز في الحلق هنيء «وَهَذا مِلْحٌ أجَاجٌ » شديد الملوحة. وقال الضحاك : هو المُرُّ١.
قوله :﴿ سَآئِغٌ شَرَابُهُ ﴾ يجوز أن يكونا٢ متبدأ وخبراً، والجملة خبر ثانٍ وأن يكون «سائغٌ » خبراً و «شرابه » فاعلاً به لأنه اعتمد٣ وقرأ عيسى - ويروى عن أبي عمرو وعاصم - سَيِّغٌ مثل سيِّد وميِّت٤ وعن عيسى٥ بتخفيف يائه كما يخفف هَيِّن ومَيِّت.
وقرأ طلحة وأبو نُهَيْك ملحٌ بفتح الميم وكسر٦ اللام، فقيل : هو مقصور من مَالِحٍ ومالٍح لغَيَّة٧ شاذة. وقيل : مَلِح بالفَتْح والكسر لُغَةٌ في مِلْحٍ، بالكسر والسكون٨.

فصل


قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن فالإيمان لا يُشَبَّه بالكفر كما لا يشبه البحر العَذْبُ الفراتُ بالبحر المَلِح الأجاج ثم على هذا فقوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ فالبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاجَ يشارك الفُرَاتَ في خير ونفع إذ اللحمُ الطريُّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما والفُلْكُ تجري فيهما ولا نفع في الكفر والكافر. وهذا على٩ نَسَقِ قوله تعالى :﴿ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وقوله :﴿ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] قال ابن الخطيب : والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى وذلك من حيث إن البحرين يَسْتَوِيَانِ في الصورة ويختلفان في الماء١٠، فإن أحدهما فُراتٌ والآخر مِلْح أُجَاج ولولا ذلك بإيجاب١١ مُوجِب١٢ لما اختلفت المستويان ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد١٣ منهما أمور متشابهة فإن اللحم الطريَّ يوجد فيهما والحِلْية تؤخذ منهما ومن يوجد من المتشابهين اختلافاً ومن المختلفين اشتباهاً لا يكون إلا قادراً مختاراً فقوله :﴿ مَا يَسْتَوِي البحران ﴾ إشارة إلى أن عدم استوئهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته.

فصل


قال أهل اللغة : لا يقال لماء البحر إذا كان فيه مُلُوحَةٌ مالحٌ وإنما يقال له : مِلْح.
وقد يذكر في بعض كتب الفقه يَصِيرُ بها ماءُ البَحْرِ مَالِحاً. ويؤاخذ١٤ قائله ( به )١٥ وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقي فيه مِلْح حتى مَلَحَ لا يقالُ له إلا مالح. وماء مِلْحٌ يقال للماء الذي صار من أصل خِلْقَتِهِ كذلك لأن المَالِحَ١٦ شيء فيه مِلْحٌ ظاهر في الذَّوْق والماء الملح ليس ماءً ومِلْحاً بخلاف الطعام المالح فالماء العذب المُلْقَى فيه المِلْح ما فيه ملح ظاهر في الذَّوْق بخلاف ( ما هو مِلْحٌ ظاهر١٧ في الذَّوْقِ بخلاف ) ما هو من أصل خلقته كذلك ( فلما )١٨ قال الفقيه : الملحُ أجزاء أرضيَّة سَبِخَة يصير بها ماءُ البَحْرِ مالحاً راعى فيه الأصل فإنه جعله ماءً جاوره مِلْحٌ. وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه مِلْحٌ جعلوه كذلك من أصل الخلقة والأجَاجُ المُرُّ كما تقدم.
قوله :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ من الطَّيْر والسَّمَك من العَذْب والملح جميعاً «وتَسَتْخَرِجُونَ حِلْيَةً » يعني من الملح دون العذب «تَلْبَسُونَها » من اللُّؤْلُؤ والمَرجَان. وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الأجاج ( عيون )١٩ عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك. وقرئ٢٠ «الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ » أي ماخرات تَمْخُر البحر بالجَرَيَان أي تشُقّ جَوَارِي مقبلة ومدبرة بريح واحدة «لِتبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ » بالتجارة «ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ » الله على نعمه وهذا يدل على أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته٢١.
١ انظر هذه معاني في القرطبي ١٤/٣٣٤ والبغوي ٥/٢٩٩..
٢ في ((ب)) يكون بالإفراد وانظر: التبيان – في الإعراب الثاني – ١٠٧٤ والدر المصون والتبيان في الإعرابين ١٠٧٤ والدر ٤/٤٧١..
٣ أي على نفي وهو ((ما)) في أول الآية..
٤ كذا رواها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ بالتشديد وانظر البحر المحيط ٧/٣٠٥..
٥ أورد ابن جني في المحتسب هذه القراءة ولم يورد الأولى ولعل ابن خالويه ومن تابعوه قد رووها خطأ عنه ولعلهما قراءتان تنسبان له. وانظر: البحر المحيط ٧/٣٠٥ والمحتسب ٢/١٩٨..
٦ المحتسب والبحر المرجعان السابقان. وأبو نهيك هو: علباء بن أحمد أبو نهيك اليشكري الخراساني له حروف من الشواذ تنسب إليه عرض على شهر بن حوشب، انظر: غاية النهاية ١/٥١٥..
٧ تصغير لغة. وانظر المحتسب ١/١٧١ و٢/٨٢ و ١٩٩..
٨ انظر: البحر المحيط ٧/٣٠٥..
٩ في ((ب)) نسق على بتقديم وتأخير..
١٠ كذا هي في الرازي وما في ((ب)) المادة. وانظر في هذا تفسير الرازي ٢٦/١٠ و ١١..
١١ في ((ب)) بإيجاد وفي الفخر كما في ((أ)) بإيجاب..
١٢ في ((ب)) موجد ولم توجد تلك اللفظة في الرازي..
١٣ في ((ب)) يؤخذ وما هنا يوافق الفخر الرازي..
١٤ كذا في الرازي وما في ((ب)) يؤخذ..
١٥ زيادة من ((ب)) والرازي..
١٦ في ((ب)) الملح وهو تحريف..
١٧ ما بين القوسين ساقط من ((ب))..
١٨ زيادة من الرازي عن النسختين..
١٩ سقط من ((ب))..
٢٠ الأصح: ((وترى)) لا قرئ كما في الرازي و((ب))..
٢١ وانظر في هذا التفسير الكبير للرازي ٢٦/١١. وانظر اللغة في اللسان لابن منظور م. ل. ج..
قوله :﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ وهذا استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقوله :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ جواب لسؤال يذكره المشركون وهوأنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسيّ الواقعة١ فوق الأرض وتحتها فإن الصيف تكون الشمس على سَمْتِ الرُّؤُوس في بعض البلاد المائلة الآفاق٢ وحركة الشمس هناك مائلة فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة فيقل زمان مكثها تحت الأرض فيقْصُرُ الليل وفي الشتاء بالضَّدّ فيقصر النهار فقال الله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ يعني سبب٣ الاختلاف وإن كان ما ذكرتم لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك٤ «كُلُّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسمَّى ».
قوله :﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُم ﴾ ذلكم مبتدأ و «الله » خبره و «ربكم » خبر ثانٍ٥ أو نعت٦ لله. وقال الزخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و «ربكم » خبر لولا أن المعنى يأباه٧ وردهُ أبو حيان بأن «اللَّهَ » علم لا جنس فلا يُوصَفُ به٨. ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال : لأنه يكون قد أخبر عن المُشِار إليه بتلك الصفات٩ أنه مَالِكُكُمْ ومُصْلِحُكُمْ.

فصل


المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فَطْرِ السَّمَواتِ والأرض وإرْسَالِ الأرواح وخَلْقِ الإنسان من ترابٍ وغيرذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها. ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال :﴿ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ يعني الأصنام ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ﴾١٠
قوله :﴿ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ العامة على الخطاب في «تَدْعُونَ » لقوله :«رَبُّكُمْ » وعيسى وسَلاَّم ويعقوبُ - وتُرْوَى عن أبي عمرو - بياء الغيبة١١ إمَّا على الالتفات وإمَّا على الانتقال إلى الإخبار. والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحداً بخلاف الثاني فإنهما غَيْرَانِ١٢ و «يَمْلِكُونَ » هو خبر الموصول و «مِنْ قِطْمِير » مفعول به ؟ و «مِنْ » فيه مزيدة١٣ والقطمير المشهور فيه أنه لُفَافَة النَّواة. وهو مَثَلٌ في القِلَّةِ كقوله :
٤١٥٧- وَأبُوكَ يخْصِفُ نَعْلهُ مُتَوَرِّكاً. . . مَا يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِنْ قِطْمِير١٤
وقيل : هو القُمْعُ وقيل : ما بين القُمْع والنَّواة١٥ وقد تقدم أن النَواةَ أربعة أشياء يضرب بها المثل في القِلَّة : الفتيل وهو ما في شقِّ النَّواة، والقطمير وهو اللفافة والنَّقيرُ والثفروقُ وهو ما بين القُمْعِ والنَّواةِ١٦.
١ في ((ب)) في الأرض تحريف..
٢ وفيها : إلى الآفاق وفي الرازي : في الآفاق..
٣ في ((ب)) بسبب..
٤ نقله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/١١ و١٢..
٥ نقله أبو حيان في البحر ٧/٣٠٥ والسمين في الدر ٤/٤٧١..
٦ الدر المصون المرجع السابق وانظر في الأخبار المترادفة الكشاف ٣/٣٠٤..
٧ المرجع السابق..
٨ البحر المحيط ٧/٣٠٥..
٩ ((والأفعال المذكورة أي مالككم أو مصلحكم)) قال: ((وهذا معنى لائق)) البحر ٧/٣٠٥..
١٠ نقله الرازي ٢٦/١٢..
١١ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٣ وكذلك أبو حيان في البحر ٧/٣٠٥ ونقل أبو حيان هذا عن ابن جبارة وهو صاحب الكامل في القراءات الخمسين..
١٢ نقله صاحب الدر المصون في تفسيره ٤/٤٧٢..
١٣ المرجع السابق والتقدير ((والذين تدعون من دونه ما يملكون قطميرا))..
١٤ من تمام الكامل، ولم أعرف قائله ومعنى خصف النعل وضع بعضها على بعض قال صاحب اللسان: ((خصف النعل خصفا ظاهر بعضها على بعض وخرزها وهي نعل خصيف وكل ما طورق بعضه على بعض فقد خصف وفي الحديث: أنه كان يخصف نعله)). اللسان ١١٧٤ خ ص ف. وانظر البيت في البحر ٧/٣٠٥ فقد أتى به استشهادا على أن القطمير هو لفافة النواة الضعيفة الهينة..
١٥ انظر: اللسان ((ق ط م ر)) ٣٦٨٢ وغريب القرآن ٣٦٠ والقرطبي ١٤/٣٣٦ والبحر ٧/٣٩٦ وتأويل المشكل ١٠٥ وزاد المسير ٦/٤٨١..
١٦ عند قوله: ﴿ولا تظلمون فتيلا﴾ الآية ٧٧ من النساء وانظر: اللباب ٢/٥٣ ب..
قوله :﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ ﴾ يعني الأصنام «وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ » وهذا إبطال لما كانوا يقولون : إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقلا مجيباً لهم : إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون : إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولوا بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال :﴿ لَوْ سَمِعُواْ ﴾ كما تظنون «مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ »١.
قوله :﴿ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ أي يَتَبرءُون٢ منكم ومن عبادتكم إيَّاها ويقولون «مَا كُنْتُم إيَّانا تَعْبُدُونَ » واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله :﴿ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم ﴾ أي بإشراككم بالله٣ غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال :﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ يعني نَفْسَهُ أي لا ينبئك أحدٌ مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووجهه أن الله تعالى لما أخبر أن٤ الخَشَبَ والحَجَرَ يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخْبَار الله تعالى عنه بقوله :«إنهم يكفرون بهم يوم القيامة » فهذا القول مع كون٥ المُخْبَر عنه أمراً عجيباً قال إن المخبر عنهَ خبير.
والثاني : أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا يُنْبئُك أَيُّها السَّامِعُ كائناً من كنت مثْلَ خبير.
١ نقله الرازي عند قوله تعالى: ﴿إن تدعوهم لا يسمعون﴾. وانظر تفسيره ٢٦/١٢..
٢ في ((ب)) يقهرون وانظر : معالم التنزيل للبغوي ٥/٣٠٠..
٣ في ((ب)) والله على القسم وهذا غير مراد..
٤ في ((ب)) بأن بزيادة الباء على ((أن))..
٥ في ((ب)) كونه تحريف..
بِشِرْكِكُم} أي بإشراككم بالله غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ يعني نَفْسَهُ أي لا ينبئك أحدٌ مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خطاباً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ووجه أن الله تعالى لما أخبر أن الخَشَبَ والحَجَرَ يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخْبَار الله تعالى عنه بقوله: «إنهم يكفرون بهم يوم القيامة» فهذا القول مع كون المُخْبَر عنه أمراً عجيباً قال إن المخبر عنهَ خبير.
والثاني: أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا يُنْبئُك أَيُّها السَّامِعُ كائناً من كنت مثْلَ خبير.
قوله
: ﴿يا
أيها
الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله﴾
(أي) إلى فضل الله. والفقير هو المحتاج «وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ» عن خلقه «الحَمِيدُ» أي المحمود في إحسانه إليهم. واعمل أنه لما كثر الدعاء من النبي - عليه السلام - والإصرار من الكفار قالوا إن اللَّهَ لعله محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال الله. ﴿أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني﴾ فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم.

فصل


التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنَّ المبتدأ لا بدّ وأن يكون معلماً عند السامع حتى يقول له: أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثَبَتَ له قيامٌ لا علم عندك به فإن الخبرَ معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر
119
تنبيهاً لا تفهيماً فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل: «اللَّهُ رَبُّنَا ومُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا» حيث عرف كون الله ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال: «أَنْتُم الفُقراء» وقوله: «إلى الله» إعلام بأنه لا افتقارَ إليه ولا اتِّكال إلا عليه. وهذا يوجب عبادته لكونه مُفْتَقَراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال: ﴿والله هُوَ الغني﴾ أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا تجيبونه.
قوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وهذا بيان لِغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه: إنْ شَاءَ فُلاَنٌ هَدَمَ دَارَهُ وإنما يقال: لَوْلاَ حَاجَةُ السُّكْنَى على الجار لِبعْتُها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله: ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يعني إن كان يتوهم متوهم أنَّ هذا الملك كمال وعظمه فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا (وأجْمَلَ).
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي الإذهاب والإتيان. واعمل أن لفظة «العزيز» استعمله الله تارة في القائم بنفسه فقال في حق نفسه: ﴿وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً﴾ [الأحزاب: ٢٥] وقال في هذه السورة: «عَزِيزٌ غَفُورٌ» واستعملة تارة في القائم بغيره فقال: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ وقال: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول: العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخصٌ يقال: هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله: «وما ذلك على الله بعزيز» أي ذلك الفِعل لا يغلبه بل هو هَيِّنٌ على الله وقوله:
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] أي يحزنه ويؤذيه كالشُّغْل (الشَّاغِل) الغَالِبِ.
120
قوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ أي نَفْسٌ وازة بحذف الموصوف للعمل به. ومعنى «تَزِرُ» تحمل، أي لا تحمل نَفْسٌ حاملةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أخرى.
قوله: ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ﴾ أي نفس مثقلة بالذنبو نفساً إلى حملها فحذف المفعول به للعلم به. والعامة «لا يُحْمَلُ» مبنياَ للمفعول و «شَيْءٌ» قائم مقام الفاعل، وأبو السَّمَّال وطلحةُ - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاء من فوق وكسر الميم أسند الفعل إلى ضمر النفس المحذوفة التي هي مفعولة «لِتَدْعُ» أي لا تَحْمِلُ تلك النفسُ الدَّعْوَة (و) شيئاً مفعول «بلاَ تَحْمِلْ».
قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ أي ولو كان المَدْعو ذَا قُرْبَى، وقيل التقدير ولو كان الدَّاعِي ذَا قربى، والمعنيان حَسَنَان، وقرئ: «ذُو» بالرفع على أنها التامة أي ولو حَضَرَ ذُو قُربى نحوك قَدْ كان من مَطَرْ، ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمةً للنَّاقِصَةِ لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مَدْعُوهَا ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت: ولو وُجِدَ ذو قربى لخرج عن التئامه، قال أبو حيان: وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه قال شهاب الدين: والذي قال هو ولو حضر إذْ ذاكَ ذُو قربى ثم قال: وتفسيره «كان» وهو مبني للفاعل ب «وُجِدَ» وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النَّحْويُّ به كان التامة نحو: حَدَثَ وحَضَرَ ووَقَعَ.

فصل


المعنى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ بذنوبها غيرَها إلى حِمْلها أي يَحَمِلُ ما عليه من الذنوب لا
121
يُحْمَل منْه شَيْءٌ ولو كان المَدْعو ذا قَرَابة له ابنَة أو أبَاه أو أمَّة أو أَخَاه. قال ابن عباس: يَلْقَى الأبُ أو الأمُّ ابنه فيقول يا بني احْمِلْ عني بَعْضَ ذُونُوبي فيقول لا أستطعي حَسْبِي ما عَلَيَّ.
قوله: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ ولم يروه. قال الأخفش: تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب.
قوله: «بالغيب» حال من الفاعل أي يَخْشَوْنَه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائباً عنهم وقوله: ﴿الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ في المعنى.
قوله: ﴿وَمَن تزكى﴾ قرأ العامة «تَزَكَّى» تَفَعَّلَ «فَإنما يَتَزَكَّى» يتفعل. وعن أبي عمرو «ومَنْ يَزَّكَّى فَإنَّما يَزَّكَّى» والأصل فيهما يَتَزَكَّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يَذَّكَّرُونَ» في «يتَذَكَّرُونَ» وابن مسعود وطلحة: «وَمَن ازَّكَّى» والأصل تَزَكَّى فأُدغِمَ (باجْتلابِ همزة الوصل «فَإنَّمَا يَزَّكَّى» أصله «يَتَزكَّى فأُدْغِمَ» كأبي عمرو في غير المشهور عنه.

فصل


معنى «ومَنْ تزكَّى» صلى وعمل خيراً «فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ» لها ثوابه «وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ» أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازرُ إنْ لم تظخر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى.
قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ استوى من الأفعال التي لا يكتفي فيها بواحد لو قلت: اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و «لا»
122
في قوله: ﴿وَلاَ الظلمات﴾ إلى آخره مكررة لتأكيد النفي وقلا ابن عطية: دخول «لا» إنما هو على نية التكرار كأنه قال: ولا الظلمات والنور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه؟ قال أبو حيان: وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استؤاءهما أولاً فأي فائدة في نفي استوئهما ثانياً؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال: فدخول «لا» في النفي لتأكيد معناه كقوله: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ [فصلت: ٣٤] وللناس في هذه الآية قولان:
أحدهما: ما ذكر.
والثاني: أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسان درجات متفاوتة وكذلك السيئات وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا في الظاهر؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة. «والْحَرُورُ» شدة حر الشمس وقال الزمخشري: الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل قال شهاب الدِّين: وهذا مذهب الفراء وغيره. وقيل السموم بالهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن رؤبة. وقال: ليس بصحيح بل الصحيح ما قال الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ - عنه «
123
وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاءُ» بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذا الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لم دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم. وقولنا: لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قيل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن يُنَزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع، وإنما كرر الفعل في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء﴾ مبالغة في ذلك لأن المنافَاةَ بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ول يُعِد «لا» تأكيداً في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف يخلاف الظِّلِّ والحَرُور والظلمات والنور فإنها متنافية أبداً لا تجتمع اثنان منهما في مَحَلِّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمةٌ.
فإن قيل: الحياةُ والموت بمنزلة العَمَى والبَصَر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب: أن المنافة بينهما أتم من لامافة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافة بينهما أتمّ. وأفرد «الأعمى والبصير» لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا كثيرة متشعبة. ووحد
124
النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد قال شهاب الدين: كذا قيل. وعندي (أنه) ينبغي أنْ يقال: إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة (فردٍ منه) (لِ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد.

فصل


قال ابن الخطيب: قدم الأشْرَف في مثلين وهو الظّل والحيّ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور في مثل هذا يقول المفسرون: إنه لتواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بلغة المعنى فيه ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول: الكفار قبل النبي - عليه (الصلاة و) السلام - وبين الحق واهندى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتم كالنُّور فقالك «لاَ يَسْتَوِي» من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه (الصلاة و) السلام - والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.
ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله - عليه (الصلاة و) السلام - في الإلهيات: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» ثم إن الكافر المصر بعد البعث صار أضلَّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء﴾ أي
125
المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تُلِيَتْ عليهم تُلِيَتْ عليهم الآياتُ البينات ولم نتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الصالِّين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بها.

فصل


قال المفسرون: «وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِرُ» (يعني) الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك «وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ» يعني الكفر والإيمان «وَلاَ الظِّلُّ ولا الحَرُورُ» يعني الجنة والنار «ومَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ» يعني المؤمنين والكفار. وقيل: العملاء الجهال. «إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ» حتى يتعظ ويجيب «ومَا أَنْتَ إلاَّ نَذِيرٌ» ما أنت إلا منذر فخوِّفْهُم بالنار.
126
قوله :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ وهذا بيان لِغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إنْ شَاءَ فُلاَنٌ هَدَمَ دَارَهُ١ وإنما يقال٢ : لَوْلاَ حَاجَةُ السُّكْنَى إلى الدار لِبعْتُها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء٣ بقوله :﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ يعني إن كان يتوهم متوهم أنَّ هذا الملك كمال وعظمة فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن٤ يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا ( وأجْمَلَ )٥.
١ وأعدم عقاره..
٢ في الفخر: ((وإنما يقول))..
٣ المرجع السابق..
٤ في (ب) بأن..
٥ زيادة من (ب)..
﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ أي الإذهاب والإتيان. واعلم أن لفظة «العزيز » استعمله الله تارة في القائم بنفسه فقال في حق نفسه :﴿ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾ [ الأحزاب : ٢٥ ] وقال في هذه السورة :«عَزِيزٌ غَفُورٌ » واستعمله تارة في القائم بغيره فقال :﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ وقال :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فنقول : العزيز في اللغة هو الغالب والفعل١ إذا كان لا يطيقه شخصٌ يقال٢ : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله٣ :«وما ذلك على الله بعزيز » أي ذلك الفِعل لا يغلبه بل هو هَيِّنٌ على الله وقوله :
﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] أي يحزنه ويؤذيه كالشُّغْل ( الشَّاغِل ) الغَالِبِ٤.
١ في (ب): والعقل وهو تحريف..
٢ في ((ب)): فقال تحريف..
٣ في (ب): بقوله تحريف..
٤ وانظر الرازي ٢٦/١٤..
قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ ﴾ أي نَفْسٌ وازة بحذف الموصوف للعمل به١. ومعنى «تَزِرُ » تحمل، أي لا تحمل نَفْسٌ حاملةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أخرى.
قوله :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ﴾ أي نفس مثقلة٢ بالذنوب نفساً إلى حملها فحذف المفعول به للعلم٣ به. والعامة «لا يُحْمَلُ » مبنياَ للمفعول و «شَيْءٌ » قائم مقام الفاعل، وأبو السَّمَّال وطلحةُ- وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاء من فوق وكسر٤ الميم : أسند الفعل إلى ضمر النفس المحذوفة التي هي مفعولة «لِتَدْعُ » أي لا تَحْمِلُ تلك النفسُ الدَّعْوَة ( و ) شيئاً مفعول «بلاَ تَحْمِلْ »٥.
قوله :﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ أي ولو كان المَدْعو ذَا قُرْبَى٦، وقيل التقدير ولو كان الدَّاعِي ذَا قربى٧، والمعنيان حَسَنَان، وقرئ :«ذُو » بالرفع على أنها التامة أي ولو حَضَرَ ذُو قُربى نحوك قَدْ كان من مَطَرْ٨، ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٨٠ ] قال الزمخشري : ونظم الكلام أحسن ملاءمةً للنَّاقِصَةِ لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مَدْعُوهَا ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت : ولو وُجِدَ ذو قربى لخرج عن التئامه٩، قال أبو حيان : وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه١٠ قال شهاب الدين : والذي قال هو ولو حضر إذْ ذاكَ ذُو قربى١١ ثم قال : وتفسيره «كان » وهو مبني للفاعل ب «وُجِدَ » وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النَّحْويُّ به كان التامة نحو : حَدَثَ وحَضَرَ ووَقَعَ١٢.

فصل


المعنى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ بذنوبها غيرَها إلى حِمْلها أي يَحَمِلُ ما عليه من الذنوب لا يُحْمَل منْه شَيْءٌ ولو كان المَدْعو ذا قَرَابة له ابنَة أو أبَاه أو أمَّة أو أَخَاه. قال ابن عباس : يَلْقَى الأبُ أو الأمُّ ابنه فيقول يا بني احْمِلْ عني بَعْضَ ذُونُوبي فيقول لا أستطيع حَسْبِي ما عَلَيَّ١٣.
قوله :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب ﴾ ولم يروه. قال الأخفش : تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب١٤.
قوله :«بالغيب » حال من الفاعل أي يَخْشَوْنَه غائبين عنه. أو من المفعول أي غائباً عنهم١٥ وقوله :﴿ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَيقيمُون الصلاة ﴾ في المعنى١٦.
قوله :﴿ وَمَن تزكى ﴾ قرأ العامة «تَزَكَّى » تَفَعَّلَ «فَإنما يَتَزَكَّى » يتفعل. وعن أبي عمرو «ومَنْ يَزَّكَّى فَإنَّما يَزَّكَّى » والأصل فيهما يَتَزَكَّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو «يَذَّكَّرُونَ » في «يتَذَكَّرُونَ »١٧ وابن مسعود وطلحة :«وَمَن ازَّكَّى » والأصل١٨ تَزَكَّى فأُدغِمَ ( باجْتلابِ همزة١٩ الوصل «فَإنَّمَا يَزَّكَّى » أصله «يَتَزكَّى فأُدْغِمَ » كأبي عمرو في غير المشهور عنه.

فصل


معنى «ومَنْ تزكَّى » صلى وعمل خيراً «فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ » لها ثوابه٢٠ «وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ » أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء. والوازرُ إنْ لم تظهر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله. ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى٢١.
١ البحر ٧/٣٠٧ والدر المصون ٤/٤٧٢..
٢ المرجعان السابقان..
٣ الدر المصون ٤/٤٧٢..
٤ المرجعان السابقان..
٥ وقد قال الأخفش في المعاني: وقال: ((وإن تدع مثقلة إلى حملها)) فكأنه قال: ((وإن تدع إنسانا لا يحمل من ثقلها شيئا ولو كان ذا قربى)) فأقر بحذف مفعول ((تدع)) وانظر المعاني له ٢/٦٦٤ و ٦٦٥، والجامع ١٤/٣٣٨ وإعراب القرآن ٤/٣٦٨..
٦ هذا رأي الأخفش في المعاني السابق، وانظر: إعراب القرآن ٣/٣٦٨ والبيان ١٠٧٤ والكشاف ٣/٣٠٥..
٧ هذا رأي ابن عطية نقله عنه العلامة أبو حيان في بحره ٧/٣٠٨..
٨ وجد في البحر: ((وقالت العرب: قد كان لبن أي حضر وحدث)) والشاهد في هذا المثال الوارد عن العرب استعمال كان تامة بمعنى حضر وحدث و ((مطر)) فاعل به ((بوجد))..
٩ مع تغيير طفيف في بعض الكلم وانظر: الكشاف ٣/٣٠٥..
١٠ البحر ٧/٣٠٨..
١١ يقصد شيخه أبا حيان وهذه مقولته في البحر انظر المرجع السابق..
١٢ السابق..
١٣ معالم التنزيل ٥/٣٠٠..
١٤ السابق..
١٥ قال الزمخشري في كشافه ٣/٣٠٥ والبحر المحيط ٧/٣٠٨، والدر المصون ٤/٤٧٣ ((بالغيب)) غائبين ((ويخشون العذاب)) غائبا عنهم..
١٦ أي في ذلك المعنى المشار إليه. وانظر: الفخر الرازي ٢٦/١٥..
١٧ لم أجدها في المتواتر عن أبي عمرو أحد القراء السبعة فهي في ابن خالويه ١٢٣ والبحر ٧/٣٠٨ وهي من الشواذ..
١٨ ذكرها الكشاف بدون نسبة إلى من قرأ بها انظر: الكشاف ٣/٣٠٦ وفي مختصر الإمام ابن خالويه ١٢٣ ((ومن أزكى: ابن مسعود ولكن صاحب الشواذ عزاها لابن مصرف)). انظر: الشواذ ٢٠٠..
١٩ ما بين القوسين كله ساقط من ((ب))..
٢٠ نقله البغوي في معالم التنزيل ٥/٣٠٠..
٢١ قاله الإمام الفخر في تفسيره ٢٦/١٥ و ١٦..
قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ استوى من الأفعال التي لا يكتفى١ فيها بواحد لو قلت : اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأفرد «الأعمى والبصير » لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ٢.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا٣ كثيرة متشعبة. ووحد النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت٤ بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد٥ قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي ( أنه )٦ ينبغي أنْ يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة٧ ( فردٍ منه )٨ ( لِ ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد٩.

فصل


قال ابن الخطيب : قدم الأشْرَف في مثلين وهو١٠ الظّل والحيّ١١ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخرإلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول١٢ : الكفار قبل النبي - عليه الصلاة١٣ و السلام- كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة ثم لما جاء النبي – عليه ( الصلاة١٤ و ) السلام- وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتهم كالنُّور فقال «لاَ يَسْتَوِي » من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه ( الصلاة١٥ و ) السلام- والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.


١ قاله شهاب الدين في الدر ٤/٤٧٤..
و «لا » في قوله :﴿ وَلاَ الظلمات ﴾ إلى آخره مكررة لتأكيد النفي١ وقال ابن عطية : دخول «لا » إنما هو على نية التكرار كأنه قال : ولا الظلمات والنور ولا النور٢ والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه ؟ قال أبو حيان : وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استواؤهما أولاً فأي فائدة في نفي٣ استوائهما ثانياً ؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال : فدخول «لا » في النفي لتأكيد معناه٤ كقوله :﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ﴾ [ فصلت : ٣٤ ] وللناس في هذه الآية قولان :
أحدهما : ما ذكر.
والثاني : أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسنات درجات متفاوتة وكذلك السيئات٥ وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى. فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا٦ في الظاهر ؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير ﴾ حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأفرد «الأعمى والبصير » لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ٢.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا٣ كثيرة متشعبة. ووحد النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت٤ بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد٥ قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي ( أنه )٦ ينبغي أنْ يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة٧ ( فردٍ منه )٨ ( لِ ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد٩.

فصل


قال ابن الخطيب : قدم الأشْرَف في مثلين وهو١٠ الظّل والحيّ١١ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخرإلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول١٢ : الكفار قبل النبي - عليه الصلاة١٣ و السلام- كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة ثم لما جاء النبي – عليه ( الصلاة١٤ و ) السلام- وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتهم كالنُّور فقال «لاَ يَسْتَوِي » من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه ( الصلاة١٥ و ) السلام- والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.


١ المرجع السابق وانظر أيضا: البحر المحيط لأبي حيان ٧/٣٠٨..
٢ نقله عنه الإمام أبو حيان في البحر المرجع السابق. وقال أبو البقاء في التبيان: ((لا)) فيها زائدة لأن المعنى: الظلمات لا تساوي النور، وليس المراد أن النور في نفسه لا يستوي وكذلك (لا) في ((ولا الأموات)). انظر: التبيان ١٠٧٤..
٣ في البحر: ((في تقدير نفي))..
٤ قال: ((وأنت تقول: ما قام زيد ولا عمرو فتؤكد بلا معنى النفي فكذلك هذا)). البحر ٧/٣٠٨..
٥ قاله الكشاف ٣/٣٠٦ معنى والدر المصون ٤/٤٧٤ لفظا..
٦ وهو أن المراد نفي استواء الظلمات ونفي استواء النور إلا أن هذا غير مراد هنا في الظاهر وانظر: الدر المصون ٤/٤٧٤ والكشاف ٣/٤٥٣ و٤٥٤..
«والْحَرُورُ » شدة حر الشمس١ وقال الزمخشري : الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل٢ قال شهاب الدِّين : وهذا٣ مذهب الفراء٤ وغيره. وقيل السموم بالنهار والحرور بالليل خاصة. نقله ابن عطية عن٥ رؤبة. وقال : ليس بصحيح بل الصحيح ما قاله الفراء. وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم٦ ؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ٧ - عنه «وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاْءُ » بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لمن دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه. وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات٨ على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصيرمثلين للكافر والمؤمن عقبه بما كل منهما فيه فالكافر في ظلمة والمؤمن في نور لأن البصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى ؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم٩ ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل.
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم
وقولنا : لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قيل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن يُنَزّه عن ذلك. وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع١،
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأفرد «الأعمى والبصير » لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ٢.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا٣ كثيرة متشعبة. ووحد النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت٤ بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد٥ قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي ( أنه )٦ ينبغي أنْ يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة٧ ( فردٍ منه )٨ ( لِ ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد٩.

فصل


قال ابن الخطيب : قدم الأشْرَف في مثلين وهو١٠ الظّل والحيّ١١ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخرإلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول١٢ : الكفار قبل النبي - عليه الصلاة١٣ و السلام- كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة ثم لما جاء النبي – عليه ( الصلاة١٤ و ) السلام- وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتهم كالنُّور فقال «لاَ يَسْتَوِي » من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه ( الصلاة١٥ و ) السلام- والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.


١ قال في الغريب: ((هذا المثل للجنة والنار)) انظر: الغريب ٣٦١..
٢ قاله في الكشاف ٣/٣٠٦..
٣ الدر المصون ٤/٤٧٤..
٤ لم أجدها في معانيه ونقلها عنه القرطبي في الجامع ١٤/٣٣٩ والسمين في الدر ٤/٤٧٤..
٥ نقله أبو حيان في البحر ٧/٣٠٩ كما نقله أبو عبيدة في المجاز ٢/١٥٤ عنه..
٦ البحر المحيط السابق..
٧ هو إبراهيم بن زادان روى عن علي بن حمزة الكسائي. انظر ترجمته في غاية النهاية ١/١٤ وانظر القراءة في البحر المحيط ٧/٣٠٨ ومختصر ابن خالويه ١٢٣ والدر المصون ٤/٤٧٥..
٨ في ((ب)) المنقبات. تحريف..
٩ في ((ب)) تقدم..
وإنما كرر الفعل في قوله :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء ﴾ مبالغة في ذلك لأن المنافَاةَ بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ولم يُعِد «لا » تأكيداً في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافاة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف بخلاف الظِّلِّ والحَرُور والظلمات والنور فإنها متنافية أبداً لا تجتمع اثنان منهما في مَحَلِّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمةٌ.
فإن قيل : الحياةُ والموت بمنزلة العَمَى والبَصَر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت !
فالجواب : أن المنافاة بينهما أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافاة بينهما أتمّ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وأفرد «الأعمى والبصير » لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ٢.
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا٣ كثيرة متشعبة. ووحد النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت٤ بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد٥ قال شهاب الدين : كذا قيل. وعندي ( أنه )٦ ينبغي أنْ يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة٧ ( فردٍ منه )٨ ( لِ ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد٩.

فصل


قال ابن الخطيب : قدم الأشْرَف في مثلين وهو١٠ الظّل والحيّ١١ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآيات. وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخرإلى السجع ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول١٢ : الكفار قبل النبي - عليه الصلاة١٣ و السلام- كانوا في ضلالة فكانوا كالعمي وطريقتهم كالظلمة ثم لما جاء النبي – عليه ( الصلاة١٤ و ) السلام- وبين الحق واهتدى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتهم كالنُّور فقال «لاَ يَسْتَوِي » من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه ( الصلاة١٥ و ) السلام- والكافر قبل المؤمن قدم المقدم.


ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله - عليه ( الصلاة١٦ و ) السلام- في الإلهيات :«سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي »١٧ ثم إن الكافر المصر بعد البعث١٨ صار أضلَّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء ﴾ أي المؤمنون١٩ الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تُلِيَتْ عليهم تُلِيَتْ عليهم الآياتُ البينات ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان٢٠ من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين. وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالِّين قبل البعثة٢١ على المؤمنين المهتدين بها.

فصل


قال المفسرون :«وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِرُ » ( يعني )٢٢ الجاهل والعالم. وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك «وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ » يعني٢٣ الكفر والإيمان «وَلاَ الظِّلُّ ولا الحَرُورُ » يعني الجنة والنار «ومَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ » يعني المؤمنين والكفار. وقيل : العلماء الجهال. «إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ » حتى يتعظ ويجيب ﴿ وما أنت بمسمع من في القبور ﴾ يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور حين لم يجيبوا
١٦ سقط من ((أ))..
١٧ وانظر: تفسير الرازي ٢٦/١٧..
١٨ كذا في النسختين. وما في الفخر البعثة..
١٩ المثبت في النسختين: المؤمنين تحريف والصواب ما أثبت..
٢٠ في الفخر: بعد إيمان من أمن..
٢١ في ((ب)) البعث. بدون تاء..
٢٢ سقط من ((ب))..
٢٣ في ((ب)) أي الكفر..
«إن أَنْتَ إلاَّ نَذِيرٌ » ما أنت إلا منذر فخوِّفْهُم بالنار١.
١ انظر في هذا معالم التنزيل للبغوي ولباب التأويل للخازن ٥/٣٠٠ و ٣٠١..
قوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ لما قال: إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله.
قوله: ﴿بالحق﴾ يجوز فيه أوجه:
أحدهما: أنه حال من الفاعل أيْ أَرْسَلْنَاكَ مُحِقِّين. أو من المفعول أي مُحِقًّا أو نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً ملتبساً بالحق. ومتعلقٌ بِبَشِيرٍ ونذير، قال الزمخشري: بشيراً بالوعد ونذيراً بالوعيد الحق.
قال أبو حيان: ولا يمكن أن يتعلق «بالحق» هذا ببشيراً ونذيراً معاً بل ينبغي أن
126
يتأول كلامه على أنه أراد أَنَّ ثَمَّ محذوفاً والتقدير: بشيراً بالوَعْدِ الحَقِّ ونذيراً بالوَعِيدِ الحَقِّ، قال شهاب الدين: قد صرح الرجلُ بهذا.
قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ﴾ أي وما مِنْ أُمَّة فيما مضى. وقوله: ﴿إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ ومعنى «خَلاَ» أي سلف فيها نذير نبي منذر. وحذف من هذا ما أثبته في الأول، إذ التقدير: إلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.
قوله: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر﴾ أي الكتب «وبالْكِتَابِ المُنِير» أي الواضح. وكرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. وقيل: البينات المعجزات، والزبر: هي الكتب الموافقة للحكمة الإليهة وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث يعلم أن غيره كان مثلَه مُحْتَمِلاً لأذى القوم وأن غيره أيضاً أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذَوهُ وصبروا على تكذيبهم «ثُمَّ أَخذتُ الِّذِين كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير» ؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إ، كار الله عليهم واستئصالهم.
127
قوله :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر ﴾ أي الكتب «وبالْكِتَابِ المُنِير » أي الواضح. وكرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد. وقيل : البينات المعجزات، والزبر : هي الكتب التي فيها مواعظ وشبهات لا تحتمل النسخ. والمراد بالكتاب المنير الشريعة والأحكام الموافقة للحكمة١ الإلهية وهي المحتملة للنسخ. وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يعلم أن غيره كان مثلَه مُحْتَمِلاً لأذى القوم وأن غيره أيضاً أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذَوهُ وصبروا على تكذيبهم
١ في ((ب)) الواقعة. خطأ..
«ثُمَّ أَخذتُ الِّذِين كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير » ؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم واستئصالهم١.
١ وانظر: معالم التنزيل للبغوي ٥/٣٠١ وتفسير الرازي ٢٦/١٨..
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ قيل: الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيه حمكة وهي أن اله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره: اسمع ولا تكمن مثل هذا. ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشْعار بأنه الأول فيه نقيصه لا يصلح للخطاب فينبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبيِّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيهما كان من النصيحة.
قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و «مُخْتلِفاً» نعت «لَثَمَرَاتٍ» و «ألوانها» فاعل به ولولا لأنَّث «مختلفاً» ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنت فقيل مختلفة كما يقول اختلفتْ ألوانُها لجاز. وبه قرأ زيدُ بن علي.
قوله: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ﴾ العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع «جُدَّةٍ» وهي الطريقة قال ابن بحر: قِطَعٌ من قولك: جَدَدْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وقال أبو الفضل الرازي: هي ما يخالق من الطرائق لون ما يليها ومنه جُدّة الحمار للخط الذي في ظهره وقرأ الزُّهْرِيُّ جُدُد بضم الجيم والدال جمع جَدِيدَةٍ يقال: جَدِيدَة وجُدُد وجَدَائِدُ، قال أبو ذؤيب:
٤١٥٨ -...........................
128
جَوْنُ السَّرْاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
نحو: سِفِينةٍ وسُفُنٍ وسَفَائِنَ. وقال أبو الفضل: جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان وعنه أيضاً جَدَدٌ بفتحهما، ورد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثَرِ والمعنى وقد صححها غيره وقال: الجَدد الطريق الواضح البيِّن، إلا نه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط.
قوله: ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ مختلف صفة «لجُدَد» أيضاً، «ألوانها» فاعل به كما تقدم في نظيره ولا جائز أن يكون «مُخْتَلِفٌ» خبراً مقدماً و «ألوانها» مبتدأ مؤخر والجملة صفة؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لِتَحَمُّلِهَا ضمير المبتدأ وقوله: ﴿أَلْوَانُهَا﴾ يحتمل معنيين:
أحدهما: أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرُبَّ أبْيَضَ أشدَّ من أبْيَضَ وأحْمَرَ أشدَّ من أحْمَرَ فنفيس البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المُشْكِل.
والثاني: أن الجُدَد كلها على لونين بياض وحرمة فالبياض والحرمة وإن كان لونين إلا أنهما جمعا باعتبار مَحَالِّهِمَا.
قوله: ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه معطوف على «حُمْرٌ» عطفُ ذِي لَوْنٍ على ذِي لَوْنٍ.
129
والثاني: أنه معطوف على «بيض».
الثالث: أنه معطوف على «جدد»، قال الزمخشري: معطوف على بيض (أَ) وعلى «جدد» كأنه قيل: ومن الجبال مُخَطّط ذُو ومنها ما هو على لون واحدٍ. ثم قال: ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله: «ومن الجبال جدد» بمعنى ومن الجبال ذُو جُدَد بيضٌ وحمرٌ وسودٌ حتى يؤول إلى قول: وَمِنَ الْجِبَالِ مختلف ألوانها «كما قال ﴿ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ ولم يذكر بعد غرابيب سود (مختلفاً ألوانها) كما ذكر ذلك بعد» بيض وحمر «لأن الغِرْبِيبَ هو البَالِغُ في السواد فصار لوناً واحداً غير متفاوت بخلاف ما تقدم.
وغرابيب: جمع غِرْبيب وهو الأسود المتناهي في السواد.
فهو تابع للأسود كقانٍ وناصع وناضر ويَقَقٍ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصة على موصوفها وأَنْشَدُوا:
٤١٥٩ - والْمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ يَمْسَحُهَا.........................
130
يريد: والمؤمن الطيْرَ العَائِذَاتِ، وقول الآخر:
٤١٦٠ - وبالطَّوِيل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا...........................
يريد: وبالعمر الطويل. والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثَّاني بدلٌ من الأول» فسودٌ والطيرُ والعمرُ «أبدالٌ مما قبلها وخرَّجها الزَّمَخْشَريُّ وغيرهُ على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مَقَامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري: الغِرْبيبُ تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفرُ فاقعٌ وأبيضُ يَقَق، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر كقوله:» والْمؤْمِن العَائِذَات الطَّير «وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار، يعني فيكون الأصلُ وسودٌ غرابيبُ سود والمؤمن الطير العائذات الطير. قال أبو حيان: وهذا لا يصح إلا على مذهب من يُجَوِّز حذفَ المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك قال شهاب الدين: ليس هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيداً من حيث إنَّهَا لا تفيد معنى زائداً إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيداً فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو: ﴿نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [ص: ٢٣] و ﴿إلهين اثنين﴾ [النحل: ٥] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصَّنَاعِيّ.
ومذهب سيبويه جوازه، أجاز:»
مَرَرْتُ بأَخْوَيْك أَنْفُسُهَما «بالنصب والرفع على تقدير أَعْيُنِهِما أنْفُسِهما أو هُمَا أَنْفُسُهُمَا فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد» غرابيب «ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسراً لذلك المحذوف وهذا إنما
131
عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود.
قوله: «مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ» «مُخْتَلِف» نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومِنَ النَّاس صِنْفٌ أو نَوْغٌ مختلف ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله:
٤١٦١ - كَناطحٍ صَخْرَةً لِيَفْلِقَهَا...........................
وقرأ ابن السَّمَيْقَع ألوانها وهو ظاهر وقرأ الزهري «وَالدَّوَابِ» خفيفة الباء هرباً من التقاء ساكنين كما حرك أولهما في الضّالين وجانَّ.

فصل


قال ابن الخطيب في الآية لطائف الأولى: قوله: «أَنْزَلَ» وقال: «أَخْرَجْنَا» وفائدته أن قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهره أسنده إلى المتكلم. وأيضاً فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكير فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال: أخْرَجْنَا، لقربه وأيضاً فالإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخارج فأسْنَدَ (تعالى) الأتمَّ إلى نفسه بصيغة المتلكم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب. الثانية: قال تعالى: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ كأَنَّ قائلاً قال: اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض
132
النباتات لا تَنْبُتُ ببعض البلاد كالزَّغْفَرَانِ فقال تعالى: اختلاف البِقاع ليس إلا بإرادة الله (تعالى) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمرٌ ومواضع بيضٌ.
فإن قيل: الواو في «وَمِنَ الْجِبَالِ» ما تقديرها؟ هي تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال: «أخْرَجْنَا بالماء ثمراتٍ مختلفة الألوان وفي الجبال جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار.
ثانيهما: أن تكون للعطف والتقدير وخُلِقَ مِن الجبال جددٌ»
بِيضٌ «.
قال الزمخشري: أراد ذُو جُدَدٍ.
الثالثة: ذكر الجبال ولم يذكر الآية في (الأرض) كما قال في موضع آخر: ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد: ٤] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ﴾ كان نفس إخراج الثِّمار دليلاً على القدر ثمر زاد عليه بيناناً وقال:»
مختلفاً «كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار. ثم زاد بياناً وقال:» جُدَدٌ بِيضٌ «أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل.
الرابع: قوله:»
مُخْتَلِفاً ألوانها «الظاهر أن الاختلاف راجعٌ إلى كل لون أي بيض مختلف أولانها وحمر مخلتف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجِصّ وقد يكون على لون التُّراب الأبيض وبالجلمة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحُمْر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى.
وعلى هذا ذكر «مختلفٌ ألوانها»
في البيض والحمر وأخر «السود الغرابيب» لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ.
قوله: ﴿وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام﴾ استدلال آخر على قدرة الله إرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير
133
حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشر فأشار إليه بقوله: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ﴾ ثم ذكر المعدن بقوله: ﴿وَمِنَ الجبال﴾ ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال: «ومن الناس» ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تُطْلَقُ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله: «مختلف ألوانه» القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله: «مختلف ألوانه» مذكراً؛ لكون الإنسان من جملة المذكرو فكان التذكير أولى.
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على «كَذَلِكَ».
والثاني: أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ. وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنَّمَا» مانع من العمل فيها قبلها وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ على أن الوقف على «كذلك» تام. ولم يحك فيه خِلاَفاً.
قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله﴾ العامة على نصب الجلالهِ ورفع «العلماء» وهي واضحة. وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي في كامله - بالعكس. وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من
134
عباده العلماء وهذا القراءة شبيهة بقراءة: «وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ» برفع إبْرَاهِيمَ ونصب «رَبَّهُ».

فصل


قال ابن عباس: إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني. واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العلم قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وقال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» وقال مسروق: كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً. ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف ورفع الجلالة تقدَّم معناه.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ﴾ في خبر «إن» وجهان:
أحدهما: الجملة من قوله: ﴿يَرْجُون﴾ أي (إنَّ) التالِينَ يَرْجُونَ و «لَنْ تَبُورَ» صفة «تِجَارةً» و «لِيُوفِّيَهُمْ» متعلق «بِيَرْجُونَ» أوْ «بتَبُور» أو بمحذوف أي فَعَلُوا ذلك لِيَوفِّيَهم، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة.
135
والثاني: أن الخبر «إنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ» (و) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم وعلى هذا «فَيرجُونَ» حال من «أنْفَقُوا» أي أنْفَقَوا ذلك راجينَ.

فصل


المراد بالذين يتلون كتابا لله أي قراء القرآن لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله: ﴿يَتْلُونَ كِتَابَ الله﴾ إشارة إلى الذكر وقوله: ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ إشارة إلى العل البدنيّ وقوله: ﴿وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ﴾ إشارة إلى عمل القلب. وقوله: ﴿الذين يَتْلُونَ﴾ إشارة إلى عَمَل اللِّسِّانِ وقوله: ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ إشارة إلى علم الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقةٌ بجانب تعظيم الله وقوله: ﴿وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ يعني الشفقة على خلقه. وقوله: ﴿سِرّاً وَعَلاَنِيَة﴾ حَثٌّ على الإنفاق كَيْفَما تهيأ فإن تهيأ سراً فذاك وإلاَّ فَعَلاَنِيَة ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المرار بالسِّرِّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب. «يرْجُونَ تِجَارةً» هي ما وعد الله من الثواب لَنْ تَبُورَ «لن تفسدّ ولن تَهْلِكَ» لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورهم «جزاء أعمالهم بالثواب» وَيزِيَدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال ابن عباس: يني سوى الثواب ما لم تَرَ عَيْنٌ ولم تسمعْ أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة» إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ «قال ابن عباس: يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليَسَير من أعمالهم وقيل: غفور عند الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.
قوله: ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب﴾ يعني القرآن وقيل: اللَّوح المحفوظ لما بين الأصل (الأول) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله: ﴿الله الذي يُرْسِلُ الرياح﴾ [الروم: ٤٨] وقوله: ﴿واللَّهُ (الذي) خَلَقَكُمْ﴾ وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾
136
ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال: ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق﴾.
قوله: ﴿مِنَ الكِتَابِ﴾ يجوز أن تكون للبيان كما يقال:» أَرْسَلَ إلَيَّ فُلاَنٌ مِنَ الثِّيَاب جُملَةً «وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال:» جَاءَانِي كِتَابٌ مَنَ الأمير «وعلى هذا فاكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليه من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض و» هُو «فصل أو مبتدأ و» مُصَدِّقاً «حال.

فصل


«هُوَ الحَقُّ»
آكد من قول القائل: «الَّذِي أوْحَيْنَاحَقٌّ إلَيْكَ» من وجهين:
أحدهما: أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرةً.
الثاني: أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا: «زيد قاَمَ» فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوماً فيكون الإخبار للتنبيه فيعرِّفان باللاَّمِ كقولنا: «إنَّ زيداً الْعَالِمُ في هذه المدينة» إذا كان علمه مشهوراً وقوله ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ من الكتب وهذا تقرير لكونه وحياً لأن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - لم يكون قارئاً كاتباً وأتَى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال: إن هذا الوحي مصدِّقٌ لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجوداً لكذب موسى وعيسَى - عليهما (الصلاة و) السلام - علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذه لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدِّقاً لما مضى، لأن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد - عليه (الصلاة و) السلام - ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تُصَدَّقه ثم قال: «إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلاً لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جواباً لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال: ﴿إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ خِبِيرٌ﴾ يعمل بواطنهم وبصير يرى ظواهِرَهم
137
فاختار مُحَمَّداً ولم يختر غيره كقوله: ﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا﴾ «الكتاب الذين اصطفينا» مفولا أوْرَثْنَا و «الكتابَ» هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل: المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ﴾ [البلد: ١٧] ومعنى أورثنا أعطينا لأن المثراث عطاء. قال مجاهد. وقيل: أورثنا: أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه: أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.
قوله: ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم.
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة.

فصل


قال ابن عباس: يريد بالعباد أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات﴾ وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلهم من هذه الأمة وروى أبو عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عنبادنا» الآية فقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ.
وروى أبو الدَّرْداء قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ هذه الآية «ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب....» الآية وقال «أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله اللهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ لَغَفُورٌ شكُورٌ.
138
وقال عقبة بن صهبان: سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ -: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت: يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شهد له رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم. فجعلت نفسها معنا وقال مجاهد والحسن وقتادة: فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال: السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة. وقيل: الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هم الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسبق هو الذي رَجَحَتْ حسناته. وقيل: الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطه خير من ظاهره. وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل: الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقال جعفر الصادق: بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة. وقالأبو بكر الوراق: ربتهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قرب فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين.
قويل غير ذلك وأما من قال: المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله: ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير﴾ [فاطر: ٢٥] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصفطى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله: ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين (منهم) أشرف
139
ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً.
فإن قيل: كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع؟
فالجواب: أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ» الحديث. وقال آدمُ - عليه (الصلاة و) السلام - مع كونه مصطفى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا﴾ [الأعراف: ٢٣] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكير في آلاَءِ الله ووجه آخر وهو أن قوله: «منهم» غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى: إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً «ومنهم» أي ومن قومكم «ظالم» كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المُؤْمِنُونَ.

فصل


معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته «ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ» يعني إيراثهم الكتابَ، ثم أخبر بثوابهم فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ يعين الأصناف الثلاثة.
قوله: «جنات عدن» يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر، وأن يكون بدلاً من «الفَضْلُ» قال الزمخشري وابن عيطة إلاَّ أنَّ الزمخشري اعرتض
140
وأجاب فقال: فإن قلت: فكيف جعلت «جنات عدن» بدلاً من «الفضل» الذي هو السبق بالخيرات (المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب) فأبدل عنه «جنات عدن» وقرأ زِرّ والزّهري جَنَّةٌ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء وجوز أبو البقاء أن كون «جنات» بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذفو وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المعفول وباقي الآية في الحَجِّ.

فصل


قيل: المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل: الذين يتلون كتاب الله وقيل: هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله: ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ والمكرم هو السابق.
فإن قيل: تقديم الفالع على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا: اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل: زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقاً كقولنا: دخل الداخلُ الدار، وضرب عمراً فإن «الدار» في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل (من أفعال) زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول: عَمْراً ضَرَبَهُ
141
زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم «الجنات» على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكرها بالهاء في «يدخلونها» وما الفرق بني هذا و «بَيْنَ» قوله القائل: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟
فالجواب: أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له: أنت تَدْخُلُ مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون. فإذا قيل: «الدّارَ تَدْخُلُهَا» فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً.
قوله: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول فقال: ﴿يَدْحُلُونَها﴾ وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ، وقوله: «مِنْ أَسَاورَ» بجمع الجمع فإنه جمع «أسْوِرَة» وهي جمع «سِوَار» «مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً» وقوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ﴾ أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل (إلا) على الغِنَى، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى: ﴿وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ [الإنسان: ٢١] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن:
أحدهما: إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال لأن التحَلِّي لا يكون (حَالُهُ) حَالَةَ الطبخِ والغُسْلِ.
وثانيهما: إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما بالآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ وإذا عرف هذا فنقول: الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال.
142
قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ قرأ العامة «الْحَزَنَ» يفتحتين وجَنَاحُ بني حُبَيْشٍ بضم الحاء وسكون الزاي. وتقدم من ذلك أول القصص والمعنى يقولون إذا دخلوا لجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والحَزَنُ والحُزْنُ واحد كالبَخَلِ والبُخْلِ، قال ابن عباس: حزن النار. وقال قتادة: حزن الموت وقال مقاتل: لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنعن بهم. وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف ردِّ الطاعات وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: الخبر في الدنيا. وقيل: هم المعيشة، وقال الزجاج: أَذْهَبَ الله عن أهل الجنة كُلَّ الأحزان ما كان منها لمعاشٍ أوم معادٍ. وقال - عليه (الصلاة و) السلام) لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إليه إلاّ اللَّه وَحْشَةٌ في قُبُورِهمْ وَلاَ مَنْشَرِهِمْ وَكَأَنِّي بأَهِلِ لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقولُون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أَذْهَبَ عنّا الْحَزَنَ ثُمَّ قَالُوا: إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. ذكرالله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة: الأول (أن) الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني: قولهم: رَبَّنَا فإن اللَّهَ (تعالى) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادى اللهم إلا أن يكون لامادي يطلب ما لا يجوزُ. الثالث: قوله: غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحَمْدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.
قوله: ﴿الذي أَحَلَّنَا﴾ أي أنزلنا «دارَ المُقَامَةِ» مفعول ثانٍ «لأَحَلَّنَا» ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي والمُقَامَةُ الإقامة. والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال: ما له مَعْقُول أي عَقْل. قال تعالى: ﴿مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠] ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو
143
المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل (فجاز إقامة المفعول مُقَامَهُ).

فصل


في قوله: ﴿دَارَ المقامة﴾ إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.
قوله: ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ متعلق «بأَحَلَّنَا» و «من» إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية ومعنى فضله أي يحكم وعدد لا بإيجاب من عنده.
قوله: ﴿لاَ يَمَسُّنَا﴾ حال من مفعول «أَحَلَّنَا» الأول والثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر والنَّصْبُ التَّعَبُ والمشقَّة، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل: لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و (في) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد أجاب ابن الخطيب: بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل: لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى مواضع يتعب ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذالك والذي يقال: إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس. وقيل:
144
اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب وفيه أوجه:
أحدهما: أنه مصدر على فَعُول كالقَبُول.
والثاني: أنه اسم لما يغلب به كالفَطُورِ والسَّحُور. قاله الفراء.
الثالث: أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُزبٌ لَغُوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ وقيل: صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ عطف على قوله: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله﴾ [فاطر: ٢٩] وما بينهما كلام يتعلق ﴿بالَّذين يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ على ما تقدم.
قوله: ﴿فَيَمُوتُوا﴾ العامة على نصبه لحذف النوف جواباً للنفي وهو على أحد مَعْنَيين نَصْبِ: «مَا تَأتِينا فَتُحَدِّثَنَا» أي ما يكون منك إتيان ولا حديثٌ. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه وهو الحديث. والمعنى الثاني: إثابت الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة وقرأ عيسى والحسن «فَيَموتُونَ» بإثبات النون قال ابن عطية: وهي ضعيفة قال شهاب الدين وقد
145
وَجَّهَهَا المَازِنيُّ على العطف على «لاَ يُقْضَى» أي لا يُقْضَى عليهم فلا يموتون. وهو أحد الوجهين في معنى الرفع في قولك: مَا تَأتِيناً فَتُحَدِّثُنَا أو انتفاء الأمرين معاً كقوله: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المراسلات: ٣٦] أي فَلاَ يَعْتَذِرُونَ. و «عَلَيْهِمْ» قائمٌ مَقَامَ الفالع وكذلك «عَنْهُمْ» بعدَ «يُخَفِّفُ» ويجوز أن يكون القائم «مِنْ عَذَابِهَا» و «عَنْهُمْ» منصوب المحل، ويجوز أن يكون «مِنْ» مزيدةً عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به وقرأ أبو عمرو - في روايةٍ - ولا يُخَفِّفْ بسكون الفاء شبه المنفصل بعَضْدٍ كقوله:
٤١٦٢ - فَالْيوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ..............................

فصل


﴿لاَ
يقضى
عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُواْ﴾
أي لا يَهْلِكُون فيستريحوا كقوله: ﴿فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ﴾ [القصص: ١٥] أي قَتَله. لاَ يَقْضِي عليهم الموت فيموتوا كقوله: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم «ولا يخفف عنهم من عذابها أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف:
الأولى: أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ البدن ويصير مِزَاجاً
146
فاسداً لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآرخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفني وإما أن يألَفَهُ البَدّنُ بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية: دقيق العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يُجَابُون كما قال تعالى: ﴿وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧] أي بالموت.
الثالث: ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقصُ عذابهم ولم يقل: يزيدهم، وفي المثابين قال: ﴿يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قوله: ﴿كَذلِكَ﴾ إما مرفوع المحل أي الأمر كذلك، وإما منصوبة أي مِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ يُجْزَى وقرأ أبو عمرو» يُجْزَى «مبنياً للمعفول كُلُّ رفع به والباقون نَجْزِي بنون العظمة مبنياً للفاعل كُلَّ مفعول به. والكَفُور الكافر.
قوله: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ﴾ يستغيثون ويصيحون»
فِيهَا «وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح. وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء،» يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا «من النار فقوله:» ربنا «على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فالع» يصطرخون «أي قَائِلينَ ربَّنا.
قوله: ﴿صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل﴾ يجوز أن يكونا نَعْتَيْ مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون»
صالحاً «نعتاً لمصدر و» غيرا لذي كنا نعمل «هو المفعول به. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله: فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صلاحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلتُ: فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: ١٠٤] فقالوا: أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً
147
قوله:» أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « (أي فيقول لهم توبيخاً: أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه.
قوله: ﴿مَّا يَتَذَكَّرُ﴾ جوزوا في»
ما «هذه وجهين:
أحدهما: ولم يحك أبو حيان غيره -: أنها مصدرية طرفية قال: أي مُدَّةَ تَذَكُّر، وهذه غلط لأن الضمير (في) يمنع ذلك لعوده على»
ما «ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ.
والثاني: أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه. وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من «اذَّكَّر»
قال أبو حيان: بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلاَّ أَنْ يكون حافَظَ على سكون «من» وبيَان ما بعدها.

فصل


معنى قوله: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ قيل: هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي: ثماني عشرة سنة وقال الحسن: أربعون سنة. وقال ابن عباس: ستون سنة. رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم. قال - عليه (الصلاة و) السلام -: «أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» وقال عليه (الصَّلاَةُ و) السلام -: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ».
قوله: ﴿وَجَآءَكُمُ﴾ عطف على «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» ؛ لأنه في معنى قَدْ عَمَّرناكُمْ
148
كقوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ﴾ [الشعراء: ١٨] ثم قال: وَلَبِثْتَ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ [الشرح: ١] ثم قال: ﴿وَوَضَعْنَا﴾ [الشرح: ٢] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا، والمراد بالنَّذير محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قول أكثر المفسرين. قويل: القرآن. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع: هو الشيب والمعنى أو لم نعركم حتى شِبْتُم. ويقال: الشَّيْبُ نذير الموت. وفي الأثر: مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلاَّ قَالَتْ لأُخْتِهَا: اسْتَعِدِّ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ وقرئ: النّذُر جمعاً.
قوله: ﴿فَذُوقُواْ﴾ أمر إهانة «فَمَا» لِلظّالِمينَ «الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها.» مِنْ نَصيرٍ «في وقت الحاجة ينصرهم، و» من نصير «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله.
قوله: ﴿إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض﴾ قرأ العامة عَالِمُ غَيْبِ على الإضافة تخفيفاً وجَنَاحُ بْنُ جبيش بتنوين عالم ونصبب (غيب) إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاءَ السِّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال (قائل) : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فينبغي أن لا يعذَّب إلا مثل تلك الأيام فقال: غن اله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تَمَكُّنَ الكُفْرِ لو دام إلى الإبد لما أطاع الله.
149
ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال :«ومن الناس » ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة١ في العرف تُطْلَقُ٢ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره. وقوله :«مختلف ألوانه » القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل. وقوله :«مختلف ألوانه » مذكراً ؛ لكون الإنسان٣ من جملة المذكور فكان التذكير أولى٤.
قوله :﴿ كَذَلِكَ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ٥ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على «كَذَلِكَ »٦.
والثاني : أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات٧ الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ٨. وهو فاسد من حيث إن ما بعد «إنَّمَا » مانع من العمل فيها قبلها٩ وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ١٠ على أن الوقف على «كذلك » تام. ولم يحك فيه خِلاَفاً١١.
قوله :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله ﴾ العامة على نصب الجلالهِ ورفع «العلماء » وهي واضحة. وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ١٢ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي١٣ في كامله - بالعكس. وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من عباده العلماء وهذه القراءة شبيهة بقراءة :«وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ » برفع إبْرَاهِيمَ ونصب «رَبَّهُ »١٤.

فصل


قال ابن عباس١٥ : إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني. واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد ؛ لقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العمل قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :«وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً »١٦ وقال - عليه ( الصلاة١٧ و ) السلام- :«لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً »١٨ وقال مسروق : كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار١٩ بالله جهلاً. ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف٢٠ التام وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب٢١ الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الجلالة تقدَّم معناه.
١ كذا هنا وفي الفخر وما في ((ب)) لأن الدواب..
٢ في ((ب)) يطلق..
٣ في ((ب)) اللون خطأ وفي الفخر: فذكر الكون..
٤ انظر: الرازي ٢٦/٢٠..
٥ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣٠٧ والنحاس في الإعراب ٤/٣٧١ ومكي في المشكل ٢/٢١٧ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وأبو حيان في البحر ٧/٣١٢..
٦ حسن. قال بذلك أبو حيان في السابق..
٧ في ((ب)) في مخلوقات الله..
٨ البحر المحيط ٧/٣١٢..
٩ قاله أبو حيان في المرجع السابق والسمين في الدر ٤/٤٨١..
١٠ عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمر الداني الأموي مولاهم القرطبي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام الحافظ أستاذ وشيخ مشايخ المقرئين. أخذ القراءة عن خلف بن إبراهيم وغيره وقرأ عليه إسحاق بن إبراهيم الفيسوني وغيره له مؤلفات ضخمة ونافعة مات سنة ٤٤٤ هـ الغاية ١/٥٠٣ – ٥٠٥..
١١ انظر: المكتفى في الوقف والابتداء ٢٦٦ وقال القرطبي ((كذلك)) هنا تمام الكلام أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية ثم استأنف فقال: ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))..
١٢ نقله في الكشاف ٣/٣٠٨ وقد نقلها القرطبي أيضا في الجامع ١٤/٣٤٤..
١٣ الهذلي: يوسف بن علي بن جبارة أبو القاسم الهذلي اليشكري الأستاذ الكبير والرحال والعلم الشهير أخذ عن أناس كثيرين وكتابه الكامل مشهور مات سنة ٤٦٥ هـ. الغاية ٢/٣٩٧ : ٤٠١..
١٤ وقد اعترض على هذه القراءة أبو حيان في البحر ٧/٣١٢ بأنها في غاية الشذوذ وانظر: القرطبي ١٤/٣٤٤ والآية ١٢٤ من البقرة..
١٥ البغوي ٥/٣٠١..
١٦ الحديث رواه الإمام البخاري عن عائشة ١/١٢ و ١٣ وانظر: البغوي ٥/٣٠١..
١٧ زيادة من ((ب))..
١٨ المرجع الأخير وانظر: الموطأ الكسوف رقم ١ ومسند الإمام أحمد ٢/٢٥٧ و ٣١٢ و ٣١٨ و ٤٣٢ و ٤٥٣ و ٤٦٧ و ٤٧٧ و ٥٠٢..
١٩ في ((ب)) بالإغرار تحريف وانظر: البغوي المرجع السابق..
٢٠ في ((ب)) :((موجب)) بالاسمية..
٢١ في ((ب)) :((موجب)) بالاسمية..
قوله :﴿ إِنَّ الذين يَتْلُونَ ﴾ في خبر «إن » وجهان :
أحدهما : الجملة من قوله :﴿ يَرْجُون ﴾ أي ( إنَّ )١ التالِينَ يَرْجُونَ٢ و «لَنْ تَبُورَ » صفة «تِجَارةً » و «لِيُوفِّيَهُمْ » متعلق «بِيَرْجُونَ »٣ أوْ «بتَبُور »٤ أو بمحذوف أي فَعَلُوا ذلك لِيَوفِّيَهم٥، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة٦.
والثاني : أن الخبر «إنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ »٧ ( و ) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم٨ وعلى هذا «فَيرجُونَ » حال من «أنْفَقُوا » أي أنْفَقَوا ذلك راجينَ٩.

فصل


المراد بالذين يتلون كتاب الله أي قراء القرآن لما بين١٠ العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله :﴿ يَتْلُونَ كِتَابَ الله ﴾ إشارة إلى الذكر وقوله :﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ إشارة إلى العمل البدنيّ وقوله :﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ إشارة إلى العمل الماليّ. وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ ﴾ إشارة إلى عمل القلب. وقوله :﴿ الذين يَتْلُونَ ﴾ إشارة إلى عَمَل اللِّسِّانِ وقوله :﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ إشارة إلى علم الجوارح. ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقةٌ بجانب تعظيم الله وقوله :﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ يعني الشفقة على خلقه. وقوله :﴿ سِرّاً وَعَلاَنِيَة ﴾ حَثٌّ على الإنفاق كَيْفَما تهيأ فإن تهيأ سراً فذاك وإلاَّ فَعَلاَنِيَة ولا يمنعه ظنه١١ أن يكون رياء فإن١٢ ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بالسِّرِّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب.
١ سقط من ((ب))..
٢ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ والزمخشري في الكشاف ٣/٣٠٨ والنحاس في الإعراب ٣/٣٧١ والفراء في المعاني ٢/٣٦٩..
٣ التبيان والبحر ٧/٣١٣..
٤ المرجع السابق والكشاف ٣/٣٠٨..
٥ التبيان والبحر السابقان..
٦ قال أبو البقاء: (( وهي لام الصيرورة)) على التعلق بيرجونه. التبيان ١٠٧٥..
٧ الكشاف ٣/٣٠٨..
٨ قال أيضا: ((شكور على أعمالهم))..
٩ السابق..
١٠ نقله الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/٢٢..
١١ كذا في الفخر كما هنا وفي ((ب)) بأن يكون..
١٢ كذا هنا كما في الفخر وفي ((ب)) بأن. تحريف..
«يرْجُونَ تِجَارةً » وهي ما وعد الله من الثواب ( ( لَنْ تَبُورَ ) ) لن تفسدّ ولن تَهْلِكَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورهم «جزاء أعمالهم بالثواب » وَيزِيَدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «قال ابن عباس : يعني سوى الثواب ما لم تَرَ عَيْنٌ ولم تسمعْ أذن. ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة١ ( ( إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ) قال ابن عباس : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليَسَير٢ من أعمالهم وقيل : غفور عند٣ الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة.
١ من قوله تعالى ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ وهي الآية ٢٦ من يونس. وانظر: زاد المسير ٦/٤٨٧..
٢ نقله البغوي في تفسيره ٦/٣٠٣..
٣ قاله الرازي ٢٦/٢٢..
قوله :﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب ﴾ يعني القرآن١ وقيل : اللَّوح المحفوظ لما بين الأصل ( الأول )٢ وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله :﴿ الله الذي يُرْسِلُ الرياح ﴾ [ الروم : ٤٨ ] وقوله :﴿ واللَّهُ ( الذي )٣ خَلَقَكُمْ ﴾ وقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال :﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق ﴾.
قوله :﴿ مِنَ الكِتَابِ ﴾ يجوز أن تكون للبيان كما يقال :» أَرْسَلَ إلَيَّ فُلاَنٌ مِنَ الثِّيَاب٤ جُملَةً «وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال :» جَاءَانِي كِتَابٌ مَنَ الأمير «وعلى هذا فاكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض٥ و » هُو «فصل أو مبتدأ٦ و » مُصَدِّقاً «حال٧.

فصل


«هُوَ الحَقُّ » آكد من قول القائل :«الَّذِي أوْحَيْنَا٨حَقٌّ إلَيْكَ » من وجهين :
أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرةً.
الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا :«زيد قاَمَ » فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوماً فيكون الإخبار للتنبيه فيعرِّفان باللاَّمِ كقولنا :«إنَّ زيداً الْعَالِمُ في هذه المدينة » إذا كان علمه مشهوراً وقوله ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب وهذا تقرير لكونه وحياً لأن النبي - عليه ( الصلاة٩ و ) السلام - لم يكن قارئاً كاتباً وأتَى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى. أو يقال : إن هذا الوحي مصدِّقٌ لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجوداً لكذب موسى وعيسَى - عليهما ( الصلاة و ) السلام- في إنزال التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محمد – عليه ( الصلاة و ) السلام - علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة. وفي هذا لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدِّقاً لما مضى، لأن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تُصَدَّقه١٠ ثم قال :«إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ » خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلاً لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جواباً لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال :﴿ إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ خِبِيرٌ ﴾ يعمل بواطنهم وبصير يرى ظواهِرَهم فاختار مُحَمَّداً ولم يختر غيره١١ كقوله :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
١ البغوي المرجع السابق..
٢ زيادة من ((أ))..
٣ زيادة من ((ب)). وهو ليس في القرآن..
٤ وانظر: الرازي ٢٦/٢٣..
٥ المرجع السابق وانظر أيضا الكشاف للزمخشري ٣/٣٠٨ والدر المصون للسمين ٤/٤٨٢..
٦ نقله في التبيان ١٠٧٥..
٧ السابق وانظر أيضا الكشاف ٣/٣٠٨ والبحر ٧/٣١٣ ومعاني الأخفش ٢/٦٦٥..
٨ قاله الرازي في تفسيره ٢٦/٢٣..
٩ ما بين الأقواس كلها زيادة من ((ب))..
١٠ المرجع السابق..
١١ السابق..
قوله :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا ﴾ «الكتاب الذين اصطفينا » مفعولا أوْرَثْنَا و «الكتابَ » هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس١ وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن. وقيل : المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ٢ الذين آمَنُواْ ﴾ [ البلد : ١٧ ] ومعنى أورثنا أعطينا لأن الميراث عطاء. قال مجاهد. وقيل : أورثنا : أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه : أخرنا٣ القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له٤.
قوله :﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم٥.
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي٦ ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة٧.

فصل


قال ابن عباس : يريد بالعباد أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات ﴾ وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم من هذه الأمة٨ وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » الآية فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ٩.
وروى أبو الدَّرْداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية «ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب. . . . » الآية وقال «أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله الهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ ربنا لَغَفُورٌ شكُورٌ١٠.
وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ - : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية. فقالت : يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالخير١١ وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم. فجعلت نفسها معنا١٢ وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم. وعن ابن عباس قال : السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة١٣. وقيل : الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسابق هو الذي رَجَحَتْ حسناته. وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير من ظاهره. وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد. وقيل : الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد التالي العالم والسابق التالي العالم العامل. وقيل : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم١٤. وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة١٥. وقال أبو بكر الوراق١٦ : رتبهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قربة فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين.
وقيل غير ذلك١٧ وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله :﴿ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ﴾ [ فاطر : ٢٥ ] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصطفى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله :﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين ( منهم )١٨ أشرف ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً.
فإن قيل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده١٩ وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع ؟
فالجواب : أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال- عليه ( الصلاة٢٠ و ) السلام - :«لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ » الحديث. وقال آدمُ- عليه ( الصلاة و ) السلام- مع كونه مصطفى :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاَءِ الله٢١ ووجه آخر وهو أن قوله :«منهم » غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً «ومنهم » أي ومن قومكم٢٢ «ظالم » كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به٢٣ ولم يأت بجميع ما أمر به وسابق آمن وعمل صالحا. وقال الكلبي : المراد٢٤ بالظالم لنفسه هو الكافر. وقيل المراد٢٥ منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾
١ نقله في الدر ٤/٤٨٢..
٢ معالم التنزيل للبغوي ٥/٢ والآية ١٧ من سورة البلد أي وكان من الذين آمنوا..
٣ في ((ب)) أخر بدون ((نا))..
٤ نقله البغوي في تفسيره المرجع السابق..
٥ قاله السمين في الدر ٤/٤٨٢..
٦ هو: عبد الملك بن حبيب الأزدي أبو عمران الجوني البصري أحد العلماء عن جندب وأنس وعنه سليمان التيمي والحمادان مات سنة ١٢٨هـ. الخلاصة ٢٤٣..
٧ البحر ٧/٣١٣ والمختصر ١٢٤ وفي البحر: أبو عمران الحوفي تحريف..
٨ كذا أورده البغوي في تفسيره عن أسامة..
٩ المرجع السابق ٥/٣٠٢ وانظر فيهما الخازن في لباب التأويل ٥/٣٠٢ و ٣٠٣..
١٠ أخرجه البغوي بسنده عن أبي ثابت. البغوي ٥/٣٠٣ و ٣٠٢ وكذلك الخازن في لباب التأويل..
١١ في ((ب)) بالجنة فهو الأصح..
١٢ السابقان..
١٣ في ((ب)) بدخوله..
١٤ وانظر هذه الأقوال في معالم التنزيل للبغوي ٥/٣٠٣ ولباب التأويل للخازن ٥/٣٠٣ وزاد المسير لابن الجوزي ٦/٤٨٩ و ٤٩٠ ومعاني الفراء ٣٦٩ و٣٧٠ والفخر الرازي ٢٦/٢٤ و ٢٥ والقرطبي ١٤/٣٤٨ و ٣٤٩..
١٥ المرجعان السابقان البغوي والخازن ٥/٣٠٢ و ٣٠٣..
١٦ هو: محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر الوراق أخذ القراءة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن غسان روى عنه عبد الله بن محمد بن هارون الأنصاري انظر: غاية النهاية ٢/٢٤١..
١٧ البغوي والخازن ٤/٣٠٣ و ٣٠٤..
١٨ سقط من ((ب))..
١٩ في ((ب)) عبادنا..
٢٠ زيادة من ((ب))..
٢١ وانظر هذا كله في تفسير الرازي ٢٦/٢٤..
٢٢ في ((ب)) من قومك..
٢٣ في (ب) آمن به..
٢٤ البغوي ٥/٣٠٣..
٢٥ في (ب) به..
قوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل١ الكتاب. والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم٢ المُؤْمِنُونَ.

فصل


معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته «ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ » يعني إيراثهم الكتابَ، ثم أخبر بثوابهم فقال :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ يعني الأصناف الثلاثة.
قوله :«جنات عدن » يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر٣، وأن يكون بدلاً من٤ «الفَضْلُ » قال الزمخشري٥ وابن عيطة٦ إلاَّ أنَّ الزمخشري اعترض وأجاب فقال : فإن قلت : فكيف جعلت «جنات عدن » بدلاً من «الفضل » الذي هو السبق بالخيرات ( المشار٧ إليه بذلك ؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ) فأبدل٨ عنه «جنات عدن » وقرأ زِرّ٩ والزّهري جَنَّةٌ١٠ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال١١ وهي تؤيد رفعها بالابتداء١٢ وجوز أبو البقاء أن كون «جنات » بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف١٣ وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحَجِّ١٤.

فصل


قيل : المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة. وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين. وقيل : الذين يتلون كتاب الله وقيل : هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله :﴿ يُحَلَّوْنَ ﴾ والمكرم هو السابق١٥.
فإن قيل : تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا : اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل : زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقياً كقولنا : دخل الداخلُ الدار، وضرب عمراً فإن «الدار » في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل ( من أفعال )١٦ زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول : عَمْراً ضَرَبَهُ زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة١٧ فما الفائدة في تقديم «الجنات » على الفعل الذي هو الدخول وإعادة١٨ ذكرها بالهاء في «يدخلونها » وما الفرق بين هذا و «بَيْنَ »١٩ قول القائل : يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ ؟
فالجواب : أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له : أنت تَدْخُلُ مال إلى٢٠ أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون. فإذا قيل :«الدّارَ تَدْخُلُهَا » فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق٢١ القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً.
قوله :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا ﴾ إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول٢٢ فقال :﴿ يَدْحُلُونَها ﴾ وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ، وقوله :«مِنْ أَسَاورَ » بجمع الجمع فإنه جمع «أسْوِرَة » وهي جمع «سِوَار » «مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً » وقوله :﴿ وَلِبَاسُهُمْ ﴾ أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل ( إلا )٢٣ على الغِنَى، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى :﴿ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾ [ الإنسان : ٢١ ] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن٢٤ :
أحدهما : إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال٢٥ لأن التحَلِّي لا يكون ( حَالُهُ )٢٦ حَالَةَ٢٧ الطبخِ والغُسْلِ.
وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما باللآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج٢٨ حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ٢٩ وإذا عرف هذا فنقول : الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال٣٠.
١ في (ب) وإنزال وهو الصح..
٢ في (ب) جمعهم. خطأ. وانظر: البغوي ٥/٣٠٣ و ٣٠٤..
٣ قال بدلك أبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وابن الأنباري في التبيان ٢/٢٨٨ ومكي في مشكل الإعراب ٢/٢١٧..
٤ قاله ابن الأنباري في المرجع السابق والكشاف ٣/٣٠٩ وابن عطية في البحر ٧/٣١٤..
٥ المرجع السابق. وقد جوز أبو البقاء فيه وجهين آخرين وهما: أن يكون خبرا ثانيا لذلك أو خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات عدن ((التبيان)) ١٠٧٥..
٦ البحر ٧/٣١٤..
٧ ما بين القوسين سقط من ((ب))..
٨ في ((ب)) وأبدل وفي الكشاف فأبدلت..
٩ هو زر بن حباشة أبو رويم الأسدي الكوفي أحد الأعلام عرض على ابن مسعود وعثمان وعرض عليه عاصم مات سنة ٨٢هـ..
١٠ انظر: ابن خالويه ١٢٤ والبحر ٧/٣١٤ والقرطبي ١٤/٣٥٠ بدون نسبة وهي شاذة..
١١ ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢٤ و ١٢٣ والقرطبي بدون نسبة في الجامع ١٤/٣٥٠ وكذلك الزمخشري في الكشاف ٣/٣٠٩ وقد نسبها أبو حيان للجحدري وهارون عن عاصم. انظر: البحر المحيط ٧/٣١٤..
١٢ المرجع السابق..
١٣ التبيان له ١٠٧٥..
١٤ يشير إلى الآية ٢٣ منها: ((ويدخلونها)) بالبناء للمجهول منسوبة لأبي عمرو ورويت لابن كثير. والجمهور مبنيا للفاعل وانظر: الكشاف ٣/٣٠٩ والبحر ٧/٣١٤ والقرطبي ١٤/٣٥٠ والإتحاف ٣٦٢. وقرئ يُحلون وهي قراءة العامة وقرئ بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام ونسبت لابن عباس. والجمهور على لؤلؤ بهمزتين وقرئ ولؤلوا بهمزة الأولى دون الثانية ونسبت للمعلى عن عاصم ولوليا الفياض ولولي طلحة وليليا ابن عباس. وانظر: مختصر ابن خالويه٩٤ و ٩٥ والكشاف ٣/٣١٠ والقرطبي ١٢/٢٨..
١٥ هذا قول الرازي في تفسيره ٢٦/٢٦..
١٦ ما بين القوسين ساقط من ((ب))..
١٧ انظر في هذا القيل المرجع السابق أيضا..
١٨ في ((ب)) وإعادته وما في الفخر يوافق ما هنا..
١٩ سقطت من ((ب)) فقط..
٢٠ في الفخر: فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب..
٢١ في الرازي: فلا يبقى له توقف..
٢٢ كذا في النسختين وفي الرازي: الدخول..
٢٣ زيادة من الرازي..
٢٤ في ((ب)) لمعنيين..
٢٥ في ((ب)) الاشتغال..
٢٦ سقط من ((أ)) وزيادة من ((ب)) فقط..
٢٧ في ((ب)) حال..
٢٨ في ((ب)) محتاجة بالتأنيث..
٢٩ في ((ب)) حاجة وفي الفخر: الحاجة..
٣٠ وانظر: الرازي ٢٦/٢٦ و ٢٧..
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن ﴾ قرأ العامة «الْحَزَنَ » بفتحتين وجَنَاحُ بني حُبَيْشٍ بضم الحاء وسكون الزاي١. وتقدم من ذلك أول القصص٢ والمعنى يقولون إذا دخلوا الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والحَزَنُ والحُزْنُ واحد كالبَخَلِ والبُخْلِ، قال ابن عباس : حزن النار. وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع٣ بهم. وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف ردِّ الطاعات وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل : حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير : الخبر في الدنيا. وقيل : هم المعيشة٤، وقال الزجاج : أَذْهَبَ الله عن أهل الجنة كُلَّ الأحزان ما كان منها لمعاشٍ أو معادٍ٥. وقال - عليه ( الصلاة٦ و ) السلام ) لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إليه إلاّ اللَّه وَحْشَةٌ في قُبُورِهمْ وَلاَ مَنْشَرِهِمْ٧ وَكَأَنِّي بأَهِلِ لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ يَنْفُضُونَ٨ التُّرابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقولُون : الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أَذْهَبَ عنّا الْحَزَنَ٩ ثُمَّ قَالُوا : إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. ذكرالله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة : الأول ( أن )١٠ الحمد لله فإن الحامد مثاب. الثاني : قولهم : رَبَّنَا فإن اللَّهَ ( تعالى ) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادى اللّهم إلا أن يكون المنادي يطلب ما لا يجوزُ. الثالث١١ : قوله : غفور شكور. والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحَمْدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.
١ ذكره ابن خالويه في المختصر ١٢٤ وذكرها الزمخشري في الكشاف بدون نسبة ٣/٣١٠ وانظر: البحر المحيط ٧/٣١٤ والدر المصون ٤/٤٨٣..
٢ ويشير إلى قوله ﴿ليكون لهم عدوا وحزنا﴾ وهما لغتان والآية ٨ منها..
٣ في ((ب)) صنع بالماضي..
٤ وانظر هذه الأقوال في معالم التنزيل للبغوي ٥/٣٠٤ ولباب التأويل للخازن ٥/٣٠٤ وزاد المسير ٦/٤٩١ و ٤٩٢ والجامع للقرطبي ١٤/٣٥١ والكشاف ٣/٣١٠..
٥ انظر: إعراب القرآن ومعانيه له ٤/٢٧٠..
٦ سقط من ((ب))..
٧ في ((ب)) حشرهم..
٨ في ((ب)) يفوضون. تحريف..
٩ أخرجه البغوي بسنده إلى ابن عمر. المرجع السابق..
١٠ ما بين الأقواس ساقط من ((ب))..
١١ في ((ب)) الثالثة تأنيثا..
قوله :﴿ الذي أَحَلَّنَا ﴾ أي أنزلنا «دارَ المُقَامَةِ » مفعول ثانٍ «لأَحَلَّنَا » ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي١ والمُقَامَةُ الإقامة٢. والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال : ما له مَعْقُول أي عَقْل. قال تعالى :﴿ مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ [ الإسراء : ٨٠ ] ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو٣ المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل ( فجاز٤ إقامة المفعول مُقَامَهُ ).

فصل


في قوله :﴿ دَارَ المقامة ﴾ إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات٥ التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها.
قوله :﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾ متعلق «بأَحَلَّنَا »٦ و «من » إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية٧ ومعنى فضله أي يحكم وعده لا بإيجاب من عنده.
قوله :﴿ لاَ يَمَسُّنَا ﴾ حال من مفعول «أَحَلَّنَا » الأول٨ والثاني٩، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر١٠ والنَّصْبُ التَّعَبُ١١ والمشقَّة، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه١٢ وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل : لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و ( في )١٣ الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته ؟ وقد أجاب ابن الخطيب : بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل : لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى موضع يتعب١٤ ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذاك١٥ والذي يقال : إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس. وقيل : اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل١٦ وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب١٧ وفيه أوجه :
أحدهما : أنه مصدر على فَعُول١٨ كالقَبُول.
والثاني : أنه اسم لما يلغب١٩ به كالفَطُورِ والسَّحُور. قاله الفراء٢٠.
الثالث : أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُوبٌ لَغُوبٌ نحو : شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ٢١ وقيل : صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب٢٢.
١ قاله أبو البقاء في تبيانه ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤/٤٨٣..
٢ الكشاف ٣/٣١٠..
٣ في ((ب)) غير لحن وتغيير للمعنى..
٤ زيادة يقتضيها السياق فإن ((مدخلا)) مفعول به وهو مصدر ميمي مفعول لقوله: ((أدخلني)) قبله و ((كل ممزق)) مفعول مطلق نائب عن المصدر الذي من الفعل أي مزقناهم تمزيقا. والمقامة مصدر ميمي من غير الثلاثي وهو مفعول بالدخول والإحلال..
٥ كذا هي بالصاد هنا. وفي ((ب)) العرضات بالضاد. تحريف والعرصات جمع عرصة وتجمع أيضا على عراص وعرصة الدار وسطها. وقيل: ما لا بناء فيه والعرصة أيضا بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، وفي حديث قُسٍ: في عَرَصَاتِ بجثْجَاتٍ. بتصرف من اللسان عرص والصِّحاح. وانظر: اللسان ٢٨٨٣..
٦ الدر المصون ٤/٤٨٣..
٧ السابق..
٨ التبيان ١٠٧٦..
٩ السمين السابق ويقصد بالأول ((نا)) وبالثاني ((دار المُقَامَةِ))..
١٠ الدر المصون السابق..
١١ قاله النحاس في الإعراب ٤/٣٧٤ والزجاج في المعاني ٤/٢٧١..
١٢ قاله في القرطبي ١٤/٣٥١ وفي معاني الفراء ٢/٣٧٠ وفي معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٧١ وفي الكشاف ٣/٣١٠..
١٣ سقط من ((ب))..
١٤ في ((ب)) التعب..
١٥ التفسير الكبير للرازي ٢٦/٨..
١٦ انظر: البحر المحيط لأبي حيان ٧/٣١٥ والدر المصون للسمين ٤/٤٨٣..
١٧ نسبها كل من الزجاج والفراء في المعاني إلى السلمي فقط انظر: معاني الزجاج ٤/٢٧١ ومعاني الفراء ٢/٣٧٠ ونسبها ابن خالويه له ولعلي ولسعيد بن جبير. المختصر ١٢٤ ونسبها ابن جني في المحتسب إلى السلمي وعلي كما فعل المؤلف أعلى. المحتسب ٢/٢٠٠..
١٨ قاله الزمخشري في الكشاف ٣/٣١٠ وابن جني في المحتسب ٢/٢٠٠..
١٩ في ((ب)) يلقب بالقاف تحريف..
٢٠ المعاني ٢/٣٧٠ قال: ((كأنه جعله ما يلغبُ))..
٢١ الكشاف ٣/٣١٠ والمحتسب ٢/٢٠١ وانظر كذا كله الدر المصون ٤/٤٨٣ والبحر المحيط ٧/٣١٥..
٢٢ ذكر هذا الرأي صاحب اللوامح فيما نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط، وهو أبو الفضل الرازي رحمه الله. انظر: البحر المحيط ٧/٣١٥..
قوله :﴿ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ﴾ عطف على قوله :﴿ إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله ﴾ [ فاطر : ٢٩ ] وما بينهما كلام يتعلق١ ﴿ بالَّذين يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ﴾ على ما تقدم.
قوله :﴿ فَيَمُوتُوا ﴾ العامة على نصبه لحذف النوف جواباً للنفي٢ وهو على أحد مَعْنَيين نَصْبِ :«مَا تَأتِينا فَتُحَدِّثَنَا » أي ما يكون منك إتيان ولا حديثٌ. انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه٣ وهو الحديث. والمعنى الثاني : إثابت الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدث. وهو لا يجوز في الآية البتّة٤ وقرأ عيسى والحسن «فَيَموتُونَ » بإثبات النون٥ قال ابن عطية : وهي ضعيفة٦ قال شهاب الدين٧ وقد وَجَّهَهَا المَازِنيُّ٨ على العطف على «لاَ يُقْضَى » أي لا يُقْضَى عليهم فلا يموتون. وهو أحد٩ الوجهين في معنى الرفع في قولك : مَا تَأتِيناً فَتُحَدِّثُنَا أو١٠ انتفاء الأمرين معاً كقوله١١ :﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ [ المراسلات : ٣٦ ] أي فَلاَ يَعْتَذِرُونَ. و «عَلَيْهِمْ » قائمٌ مَقَامَ الفاعل وكذلك «عَنْهُمْ » بعدَ١٢ «يُخَفِّفُ » ويجوز أن يكون القائم١٣ «مِنْ عَذَابِهَا » و «عَنْهُمْ » منصوب المحل، ويجوز أن يكون «مِنْ » مزيدةً عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به١٤ وقرأ أبو عمرو - في روايةٍ- ولا يُخَفِّفْ بسكون الفاء١٥ شبه المنفصل بعَضْدٍ كقوله :
٤١٦٢- فَالْيوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٦

فصل١٧


﴿ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾ أي لا يَهْلِكُون فيستريحوا كقوله :﴿ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ ﴾ [ القصص : ١٥ ] أي قَتَله. لاَ يَقْضِي عليهم الموت١٨ فيموتوا كقوله :﴿ وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم١٩ «ولا يخفف عنهم من عذابها أي من عذاب النار. وفي الآية لطائف :
الأولى : أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ البدن ويصير مِزَاجاً فاسداً لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألَفَهُ البَدّنُ بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.
الثانية : دقيق٢٠ العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يُجَابُون٢١ كما قال تعالى :﴿ وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] أي بالموت.
الثالث : ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقصُ عذابهم ولم يقل : يزيدهم٢٢، وفي المثابين قال :﴿ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾.
قوله :﴿ كَذلِكَ ﴾ إما مرفوع المحل٢٣ أي الأمر كذلك، وإما منصوبه أي مِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ يُجْزَى٢٤ وقرأ أبو عمرو » يُجْزَى «مبنياً للمعفول كُلُّ رفع به٢٥ والباقون نَجْزِي بنون العظمة مبنياً للفاعل كُلَّ مفعول به. والكَفُور الكافر.
١ في ((ب)) متعلق بالاسمية وانظر الفخر الرازي ٢٦/٢٨..
٢ قاله أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ وابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٩ والزمخشري في الكشاف ٣/٣١٠ والزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤/٢٧١، والنحاس في الإعراب ٤/٣٧٤..
٣ في ((ب)) سببه تحريف..
٤ لأن الله لم يرد أن يميتهم فلو أماتهم لأراحهم ومن هنا لا يصح أن نثبت الموت لهم. وانظر: البحر ٧/٣١٦..
٥ الكشاف بدون نسبة ٣/٣١٠ ونسبت في إعراب النحاس ٣/٣٧٤ والمحتسب ٢/٢٠١ و ٢٠٢ والبحر ٧/٦ له ولعيسى البصري..
٦ البحر السابق..
٧ الدر المصون ٤/٤٨٥..
٨ هو أبو عثمان المازني أستاذ المبرد بكر بن محمد بن بقية مات سنة ٢٤٩هـ، انظر: إنباه الرواة للقفْطِيِّ ١/٢٤٦ – ٢٥٦ وانظر رأيه في البحر ٧/٣١٦ بينما نسب رأيه هذا النحاس في الإعراب ٣/٣٧٤ إلى الكسائي..
٩ في ((ب)) إحدى. تحريف..
١٠ في ((ب)) أي انتقى..
١١ في ((ب)) لقوله..
١٢ التبيان ١٠٧٥..
١٣ في ((ب)) الفاعل..
١٤ انظر: المرجع السابق وانظر الدر المصون ٤/٤٨٤..
١٥ وهي من الشواذ غير المتواترة. انظر: مختصر الإمام ابن خالويه ١٢٤ والبحر المحيط لأبي حيان ٧/٣١٦ وهي قراءة عبد الوارث عن أبي عمرو..
١٦ صدر بيت من السريع لامرئ القيس عجزه :
.............................. إثما من الله ولا واغل
والمستحقب: الذي جمع متاعه في حقيبة أي المدخر. والواغل: الداخل إلى القوم في طعامهم وشرابهم. وشاهده: ((أشرب)) حيث سكن الباء فيه ضرورة في حال الرفع والوصل. وهناك من يخرج البيت على أن البيت مسكن للتخفيف بمثابة عضد. وانظر: الكتاب ٤/٢٠٤ وحجة أبي علي ١/٨٦ والخصائص ١/٧٤ و ٢/٣١٧ و ٣٤٠ و ٣/٩٦ وشرح ابن يعيش ١/٤٨ والتصريح ١/٨٨ والهمع ١/٥٤ والبحر المحيط ٧/٣١٦ وديوان المفضليات ٤٨٠ وديوانه (١٢٢). وقد روي البيت (فأُسقَى) كما روي: فاشرب أمرا. وعليهما فلا شاهد حينئذ..

١٧ في ((ب)) قوله، بدل فصل..
١٨ في ((ب)) بالموت..
١٩ في ((ب)) قائم..
٢٠ في ((ب)): وصف العذاب وهو الأصح..
٢١ في ((ب)) ولا يجابوه..
٢٢ في ((ب)) كزيدهم. وانظر: الرازي ٢٦/٢٩..
٢٣ نقله السمين في الدر ٤/٤٨٤..
٢٤ السابق وانظر: التبيان ١٠٧٦..
٢٥ ذكرت في السبعة لابن مجاهد ٥٣٥ والإتحاف للبناء ٣٦٢ وغيرهما..
قوله :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ ﴾ يستغيثون ويصيحون » فِيهَا «وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح. وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء، » يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا «من النار فقوله :» ربنا «على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فاعل » يصطرخون «أي قَائِلينَ ربَّنا١.
قوله :﴿ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل ﴾ يجوز أن يكونا نَعْتَيْ٢ مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي٣ مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون » صالحاً «نعتاً لمصدر و » غيرالذي كنا نعمل «هو المفعول به. وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله : فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل ؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلتُ : فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى :﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ] فقالوا : أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً فنعمله٤.
قوله :» أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ «( أي فيقول٥ لهم توبيخاً : أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه.
قوله :﴿ مَّا يَتَذَكَّرُ ﴾ جوزوا في » ما «هذه وجهين :
أحدهما : ولم يحك أبو حيان غيره- : أنها مصدرية٦ ظرفية قال : أي مُدَّةَ تَذَكُّر، وهذه غلط لأن الضمير ( في )٧ ( فيه ) يمنع ذلك لعوده على » ما «ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ٨.
والثاني : أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ٩ فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه. وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من «اذَّكَّر »١٠ قال أبو حيان : بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج١١ وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلاَّ أَنْ يكون حافَظَ على١٢ سكون «من » وبيَان ما بعدها.

فصل


معنى قوله :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ قيل : هو البلوغ. وقال قتادة وعطاء والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة. وقال ابن عباس : ستون سنة. رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم١٣. قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- :«أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً »١٤ وقال عليه ( الصَّلاَةُ و ) السلام- :«أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ »١٥.
قوله :﴿ وَجَآءَكُمُ ﴾ عطف على «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ » ؛ لأنه في معنى١٦ قَدْ عَمَّرناكُمْ كقوله :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ ﴾ [ الشعراء : ١٨ ] ثم قال : وَلَبِثْتَ ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ] ثم قال :﴿ وَوَضَعْنَا ﴾ [ الشرح : ٢ ] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا، والمراد بالنَّذير محمد - صلى الله عليه وسلم - في قول أكثر المفسرين. وقيل : القرآن. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب١٧ والمعنى أو لم نعمركم حتى شِبْتُم. ويقال : الشَّيْبُ نذير الموت. وفي الأثر : مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلاَّ قَالَتْ لأُخْتِهَا : اسْتَعِدِّ ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ١٨ وقرئ : النّذُر جمعاً١٩.
قوله :﴿ فَذُوقُواْ ﴾ أمر إهانة «فَمَا » لِلظّالِمينَ «الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها. » مِنْ نَصيرٍ «في وقت الحاجة ينصرهم، و » من نصير «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله٢٠.
١ انظر: البحر المحيط ٧/٣١٦..
٢ في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إن المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤/٤٨٥..
٣ في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إن المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦ والسمين في الدر ٤/٤٨٥..
٤ المرجع السابق..
٥ ما بين القوسين كله ساقط من ((ب))..
٦ البحر ٧/٣١٦ وكما ذكر هذا الوجه أيضا أبو حيان في البحر ذكره أبو البقاء في التبيان ١٠٧٦..
٧ سقط من ((ب))..
٨ وقال بذلك المصدر أبو عبيدة في المجاز وهو قبل الأخفش وفاة فقد قال في كتابه مجاز القرآن: ((ومجاز ((ما)) هاهنا مجاز المصدر أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه)) المجاز ٢/١٥٦..
٩ قال بذلك الوجه أبو البقاء في التبيان ١٠٧٥ وانظر: الدر المصون ٤/٤٨٥..
١٠ ذكرها أبو حيان ٧/٣١٦ والسمين في الدر ٤/٤٨٥ وفي مختصر ابن خالويه ١٢٤ وانظر أيضا الزمخشري في كشافه ٣/٣١١ موافقا لما ذكر أعلى وهي من الشواذ..
١١ البحر ٧/٣١٦..
١٢ نقله السمين في الدر ٤/٤٨٦..
١٣ وانظر هذه الأقوال في القرطبي ١٤/٣٥٣ وزاد المسير ٦/٤٩٤..
١٤ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ٤/١١٦..
١٥ أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي هريرة ٥/٣٠٥..
١٦ قاله شهاب الدين السمين في الدر ٤/٤٨٦ والزمخشري في الكشاف ٣/٣١١ وأبو حيان في البحر ٧/٣١٦..
١٧ انظر في هذا القرطبي ١٤/٣٥٣ وزاد المسير ٦/٤٩٤ و ٤٩٥ والبغوي ٥/٣٠٥ ومعاني الفراء ٢/٣٧٠ ومعاني الزجاج ٤/٣٧٢..
١٨ قاله الخازن والبغوي ٥/٣٠٥..
١٩ القرطبي ١٤/٣٥٣ والكشاف ٣/٣١١ بدون نسبة وكذلك فعل أبو حيان في بحره ٧/٣١٦ ونسبها صاحب الشواذ إلى ابن مسعود. انظر الشواذ ١٠٣..
٢٠ نقله في الدر ٤/٤٨٦..
قوله :﴿ إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض ﴾ قرأ العامة عَالِمُ غَيْبِ على الإضافة تخفيفاً وجَنَاحُ بْنُ جبيش بتنوين عالم ونصب ( غيب )١ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور. وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاءَ السِّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال ( قائل )٢ : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فينبغي أن لا يعذَّب إلا مثل تلك الأيام فقال : إن الله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى٣ عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تَمَكُّنَ الكُفْرِ لو دام إلى الإبد لما أطاع الله٤.
١ شاذة في الرواية وهي جائزة من حيث القياس العربي. وقد ذكرها في المختصر بدون ضبط. انظره ١٢٤. وانظر: البحر المحيط ٧/٢١٦..
٢ سقط من ((ب))..
٣ في ((ب)) فلا يعلم تحريف..
٤ وانظر: التفسير الكبير للرازي ٢٦/٣٠ و ٣١..
قوله: ﴿هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض﴾ أي خلف بعضكم بضعاً وقيل: جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها ما ينبغي أن يعتبر به فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وترضون بحالهم، فمن كفر بعد هذا كله «فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي وبالُ كُفْرِهِ «وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرِهُمْ عِنْدَ رَبِّهْم إلاَّ مَقْتاً» أي عضباً لأن الكافر (و) السابق كان ممقُوتاً «وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرُهُمْ إلاَّ خَسَاراً» أي الكفر لا ينفع عن الله حيث لاي يزد إلا المقت ولا ينفهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأنه العمر كرأسِ (مالٍ) من اشترى به رضى اللَّهَ رِبحَ ومن اشترى به سخطه خَسِرَ.
قوله: ﴿أَرَأَيْتُم﴾ فيها وجهان:
أحدهما: أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكملة معنى أَخْبِرُوني بل هو استفهام حقيقي وقوله: «أَرُوني» أمر تعجيز.
والثاني: أَنَّ الاستفهام غير مراد وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبرُونِي. فعلى هذا يتعدى لاثنين:
أحدهم: شُرَكَاءَكُمْ
والثاني: الجملة الاستفهامية من قوله «مَاذَا خَلَقُوا» وَ «أَرُوِين» يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.
والثاني: أن تكون المسألة من باب الإعمال فَإنَّ «أَرَأَيتُمْ» يطلب «مَاذَا خَلَقُوا» مفعولاً ثانياً و «أَرُونِي» أيضاً يطلبه معلقاً له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مُخْتَارِ البَصْرِيِّن، و «أَرُوني» هنا بصريَّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم: «أَمَا تَرَى أيّ بَرْق هَهُنا» وقد تقدم الكلام على (أن) «أَرأَيْتُمْ»
150
هذه في الأنعام وقال ابن عطية هنا: «أرأيتم» ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أَرُوني» بدلاً من قوله: «أرَأيتُمْ» قال: لأن المعنى أرأيتم أخبروني وردَّهُ أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام (لا) يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضاً فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم قال شهاب الدين: والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعاً فلم تعد أداته، وأما قوله: لم يوجد في لسانهم فقد وجد ومنه:
٤١٦٣ - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا........................
(و) :
٤٤١٦ - إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أنْ تُبَايِعَا تُؤْخَذَ كَرْهاً وَتُجِيبَ طَائِعاً
وقد نص النحويون على أنه متى كانت الجملة في معنى الأول ومبينة لها أبدلت منها.

فصل


هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائي بزعمكم يعني الأصنام «أرُوني» أخبروني «ماذا خلقوا من الأرض» فقال: «شركاءكم» فأضافهم إليهم
151
من حيث إنَّ الأصنامَ في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم.
ويحتمل أن يقال: معنى شركاءكم أي ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم» أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمن أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض قال بعضهم: إن الله إله المساء وهؤلاء آلهة الأرض وهم الذين قالوا: أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم: إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شكراء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم: «إنما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى» فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل: هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بينة منه؟
قوله: ﴿آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ﴾ الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشُّرَكَاء» ليتناسق الضمائر وقيل: يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة وقرأ أبُو عمرو وحمزةُ وابنُ كثير وحفصٌ بيِّنة بالإفراد والباقون بيِّنَات بالجمع أي دلائل واضحة منه مِمَّا في ذلك الكتاب من ضُرُوبِ البَيَانِ.
قوله: ﴿بَلْ إِن يَعِدُ﴾ «إن» نافية والمعنى مايعد الظالمون ﴿بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً﴾ غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرورو ما يغر الإنسان ما لا أصل له، قال مقاتل: يعين ما يَعِدُ الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله: إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال: لما بين شركهم قال: مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٩٠ - ٩١] ويؤيد هذا قوله في آخر الآية «إنَّ اللَّهَ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسْقَاط السّماء وانطباق الأرض عليهم. وإنما أَخَّر إزالة
152
السموات لقيام الساعة حكماً. ويحتمل أن يقال: إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال: شُرَكَاؤُكم مَا خَلَقُوا من الأرض شيئاً ولا من السماء جزءاً لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عِبَادة لهم وهَبْ أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمْسَاكِ السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يَقْدِرُون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] ويؤيد هذا قوله: ﴿وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾ فإذن تبين أن لا معبودّ إلاَّ الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئاً من الأشياء وإن قال كافرٌ بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك.
قوله: ﴿أَن تَزُولاَ﴾ يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولاَ وقيل: لئلا تزولا ويجوز أن يكون معفولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا كذا قدره أبو إسحاق ويجو أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا. كذا قدره أبو إسحاق ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع زَوَالَهُمَا.
قوله: ﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضياً. وقول الزمخشري: إنه سدّ مسد الجوابين يعني أنه دال على جواب الشرط.
قال أبو حيان؛ وإن أُخذ كلامه على ظاهر لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم، والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول و «مِنْ أَحَدٍ» من مزيدة لتأكيد الاستغراق و «مِنْ بَعْدِهِ» من لابتداء الغاية والمعنى أَحَدٌ سواه «إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غفوراً»، «حليماً» حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم «غفوراً» لمن تاب ويرحمه وإن إستحق العِقَابَ.
153
فإن قيل: ما معنى ذكر الحليم هَهُنَا؟ قيل: لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله - عزّ وجلّ - عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقُوبة.
قوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله﴾ يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قَالُوا لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا: «لو أتانا رسول لَنَكُونَنَّ أَهْدَى» ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله - عزّ وجلّ - «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ» رسول «لَيكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إحْدى الأمم» يعني اليهود والنصارى وقيل: المعنى أهدى مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله: ﴿مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ للتبيين كما يقال: زَيْدٌ مِنَ المسلمين، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ أي صاروا أضل مما كانوا يقولون: نكون أهدى وقيل: المراد أهدى من إحدى الأمم كقولك: زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرو. وقيل: المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحْدَى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه يحث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب محمداً - عليه (الصلاة و) السلام - لكونه كاذباً ولو تبني لنا كونُه رسولاً لآمنَّا كما قال تعالى:
﴿وَأَقْسَمُواْ
بالله
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾
[الأنعام: ١٠٩] وهذا مبالغة في التكذيب.
قوله: ﴿لَّيَكُونُنّ﴾ جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم وقوله: ﴿لَئِن جَآءَهُم﴾ حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لَئِنْ جَاءَنَا لَنَكُونَنَّ.
قوله: ﴿مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ أي من الأمة التي يقال فيها: هي إحدى الأمم تفضيلاً لها كقولهم: هو إحْدَ (ى) الأَحَدَيْنِ قالَ:
٤١٦٥ - حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إحْدى الإحَدِ لَيْثاً هِزَبْراً في سِلاَح مُعْتَدِ
قوله: «مَا زَادَهُمْ» جواب «لَمَّا» وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذا لا يعملُ ما
154
بعد «ما» النافية فميا قبلها، وتقدمت له نظائر وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥]

فصل


معنى جاءهم أي صح لهم مجيئة بالمعجزة وهو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً» أي ما زادهم بمجيئة إلا تباعداً عن الهدى.
قوله: ﴿اسْتِكْباراً﴾ يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار وأن يكون بدلاً من «نُفُوراً» وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين قال الأخفش.
قوله: «ومكر السيّء» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «استكباراً»
والثاني: أنه عطف على «نُفُوراً» وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ وقرأ العامَّةُ بخفض همزة «السيّئ» وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ
155
ونزهوا الأعمش من أن يكون قرأ بها. قالوا: وإنما وقف مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه. وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنة كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ: «إلى بارئْكُمْ» «عند بارِئْكُمْ» بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هُنا (كَ) أمثلة وشواهد، وروي عن ابن كثير «ومَكْرَ السّأي» بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة (و) خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء، والسَّيْءُ مخفف (من السيّء) كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ:
٤١٦٦ - وَلاَ يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ
وقد كثر في قراءة القلب نحو ضِيَاءٍ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله: «وَمَكْراً سَيِّئاً» بالتنكير وهو موافق لما قبله وقرئ: ولا يُحِيقُ بضم
156
الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب على أن الفاعل ضمير الله تعالى؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلاَّ بأهله.

فصل


المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المرك إلى صفته قال الكلبي: هو إجتماعهم على الشرك وقيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال ابن الخطيب: هذا من إضافته الجنس إلى نوعه كما يقال: عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه: ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور. ويحتمل أن يقال: بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: ﴿والذين يَمْكُرُونَ السيئات﴾ [فاطر: ١٠] أي يعملون السيئات.
قوله: «ولا يحيق المكر السيّئ» أي لا يحل ولا يحيط، وقوله: «يَحِيقُ» ينبئ عن الإحاضة التي هي فوق اللحوق.
فإن قيل: كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من جوه:
أحدهما: أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوه يوم بدر وغيره.
وثانيها: أن نقول: المكرُ عام وهو الأصح، فإن النبي - عليه (الصلاة و) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله: «لا تَمْكُرُوا وَلاَ تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ: وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ» وعلى هذا (فذلك) الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نفضاً.
وثالثها: أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ﴾ يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها.
157
قوله: ﴿سُنَّةَ آلأَوَّلِين﴾ مصدر مضاف لمفعوله و «وسُنَّةَ اللَّهِ» مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول. وهذا جواب (عن) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله ف الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم والقُوة؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها (سنة) سنت بهم وإضافتها إلى نفسه بعدها بقوله: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله﴾ لأنها سنة من الله، فعلى هذا نقول: أضافها في الأول إليهم حيث قال: سنة الأولين، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال: سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع.
وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟
فالجواب: أن المراد بقوله: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً﴾ حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ.

فصل


المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزر بمن مَضَى من الكفار والمخاطب بقوله: ﴿فَلَن تَجِد﴾ عام كأنه قال: لن تجد أيها السامع وقيل: الخطاب مع محمد - عليه (الصلاة و) السلام -.
158
قوله :﴿ أَرَأَيْتُم ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكملة معنى أَخْبِرُوني بل هو استفهام حقيقي وقوله :«أَرُوني » أمر تعجيز.
والثاني : أَنَّ الاستفهام غير مراد وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبرُونِي. فعلى هذا يتعدى لاثنين :
أحدهم : شُرَكَاءَكُمْ
والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله «مَاذَا خَلَقُوا »١ وَ «أَرُوِني » يحتمل أن تكون جملة اعتراضية.
والثاني : أن تكون المسألة من باب الإعمال فَإنَّ «أَرَأَيتُمْ » يطلب «مَاذَا خَلَقُوا » مفعولاً ثانياً و «أَ رُونِي » أيضاً يطلبه معلقاً له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مُخْتَارِ٢ البَصْرِيِّن٣، و «أَرُوني » هنا بصريَّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم :«أَمَا تَرَى أيّ بَرْق هَهُنا »٤ وقد تقدم الكلام على ( أن )٥ «أَرأَيْتُمْ » هذه في الأنعام٦ وقال ابن٧ عطية هنا :«أرأيتم » ينزل٨ عند سيبويه منزلة أخبروني٩ ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين. وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره. وجعل الزمخشري الجملة من قوله «أَرُوني » بدلاً من قوله :«أرَأيتُمْ » قال : لأن المعنى أرأيتم أخبروني١٠ وردَّهُ أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام ( لا )١١ يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضاً فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم١٢ قال شهاب الدين : والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعاً فلم تعد أداته١٣، وأما قوله : لم يوجد في لسانهم فقد وجد١٤ ومنه :
٤١٦٣- مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ١٥
( و )١٦ :
٤٤١٦- إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أنْ تُبَايِعَا. . . تُؤْخَذَ كَرْهاً وَتُجِيبَ طَائِعاً١٧
وقد نص النحويون على أنه متى كانت١٨ الجملة في معنى الأول ومبينة لها أبدلت منها.

فصل


هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائي بزعمكم يعني الأصنام «أرُوني » أخبروني «ماذا خلقوا من الأرض » فقال :«شركاءكم »١٩ فأضافهم إليهم من حيث إنَّ الأصنامَ في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم.
ويحتمل أن يقال : معنى شركاءكم أي ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] ويحتمل أن يكون معنى «أرأيتم » أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا ؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها ؟ وإن كنتم تعلمن أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض قال بعضهم : إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض٢٠ وهم الذين قالوا : أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم : إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شركاء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم :«إنما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى » فهل معهم كتاب من الله ؟ قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على٢١ بينة منه ؟
قوله :﴿ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ ﴾ الأحسن في هذا الضمير أن يعود على «الشُّرَكَاء » ليتناسق٢٢ الضمائر وقيل : يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة٢٣ وقرأ أبُو عمرو وحمزةُ وابنُ كثير وحفصٌ بيِّنة بالإفراد والباقون بيِّنَات٢٤ بالجمع أي دلائل واضحة منه مِمَّا٢٥ في ذلك الكتاب من ضُرُوبِ البَيَانِ.
قوله :﴿ بَلْ إِن يَعِدُ ﴾ «إن » نافية والمعنى مايعد الظالمون ﴿ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾ غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام. والغرورو ما يغر الإنسان ما لا أصل له، قال مقاتل : يعني٢٦ ما يَعِدُ٢٧ الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل٢٨.
١ نقله السمين في الدر ٤/٤٨٦ و ٤٨٧ عن البحر لأبي حيان ٧/٣١٧..
٢ في ((ب)): ((ما اختار البصريون)) بفعلية الجملة..
٣ وانظر: البحر والدر المرجعين السابقين..
٤ نقله السمين في الدر ٤/٤٨٧..
٥ زيادة من ((أ)) لا معنى لها..
٦ عند قوله تعالى:﴿قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم من إله غير الله يأتيكم به﴾ وهي الآية ٤٦..
٧ البحر المحيط ٧/٣١٧..
٨ في ((ب)) منزل..
٩ قال سيبويه: ((ونقول: أين ترى عبد الله قائما وهل ترى زيدا ذاهبا؛ لأن هل وأين كأنك لم تذكرهما لأن ما بعدهما ابتداء، كأنك قلت: أترى زيدا ذاهبا وأتظن عمرا منطلقا. فإن قلت: أين وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة (فيها) إذا استغنى بها الابتداء قلت: أين ترى زيد، وأين ترى زيدا)) الكتاب ١/١٢١..
١٠ الكشاف ٣/٣١١ وفي ((ب)) كذلك..
١١ زيادة في ((أ)) عن المعنى المراد..
١٢ انظر: البحر المحيط ٧/٣١٧..
١٣ الدر المصون ٤/٤٨٧..
١٤ الدر المصون ٤/٤٨٧..
١٥ هذا جزء من بيت من الطويل لعبيد الله بن الحر أو الحطيئة وبقيته:
..................... في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
والبيت من قصيدة قالها وهو في سجن مصعب بن الزبير، وهو يفتخر بقومه هؤلاء الذي عدهم بأنهم لا يطفئون النار، كناية عن الطعام الكثير للضيوف. والشاهد فيه ((تلمم)) هو وفاعله بدل مما قبله وهو جملة ((تأتنا)) وهذا إبدال جملة من جملة بدليل جزم الفعل ((تلمم)) كأنه أراد متى تلمم بنا، لأن الإتيان يشتمل عليه. وقد تقدم..

١٦ زيادة يتم بها الكلام..
١٧ من بحر الرجز وهو مجهول القائل. وشاهده كسابقه حيث أبدل جملة من جملة البدل وهو ((تؤخذ)) والمبدل منه ((تبايعا)) وكلا الفعلين فيهما ضمير مستتر من الفاعلية ونائب الفاعل..
١٨ في ((ب)) كان وكلاهما صحيح..
١٩ في ((ب)) شركاؤكم بالرفع..
٢٠ وانظر كل هذه المعاني في الفخر الرازي ٢٦/٣٢..
٢١ المرجع السابق..
٢٢ البحر ٧/٣١٨ والسمين ٤/٤٨٧..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ زاد المسير ٦/٤٩٦ والبحر المحيط ٧/٣١٨ والسبعة ٥٣٥ والإتحاف ٣٦٢ وإبراز المعاني ٦٥٧ والكشاف ٣/٣١٢ بدون نسبة القرطبي ١٤/٣٥٦..
٢٥ في ((ب)) ما..
٢٦ في ((ب)) معنى..
٢٧ في ((ب)) ما يعده الشيطان..
٢٨ في ((ب)) غرور باطل..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله : إن الله يمسك السموات والأرض. ويحتمل أن يقال : لما بين شركهم قال : مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى :﴿ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً ﴾ [ مريم : ٩٠-٩١ ] ويؤيد هذا قوله في آخر الآية «إنَّ اللَّهَ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً » حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسْقَاط السّماء وانطباق الأرض عليهم. وإنما أَخَّر إزالة السموات لقيام الساعة حكماً. ويحتمل أن يقال : إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال : شُرَكَاؤُكم مَا خَلَقُوا من الأرض شيئاً ولا من السماء جزءاً١ لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عِبَادة لهم وهَبْ أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمْسَاكِ السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يَقْدِرُون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] ويؤيد هذا قوله :﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾ فإذن تبين أن لا معبودّ إلاَّ الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئاً من الأشياء وإن قال كافرٌ بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك٢.
قوله :﴿ أَن تَزُولاَ ﴾ يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولاَ٣ وقيل : لئلا تزولا٤ ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا كذا قدره أبو إسحاق٥ ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع٦ زوالهما٧.
قوله :﴿ إِنْ أَمْسَكَهُمَا ﴾ جواب القسم الموطأ له بلام القسم٨ وجواب الشرط محذوف٩ يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضياً. وقول الزمخشري : إنه سدّ مسد الجوابين١٠ يعني أنه دال على جواب الشرط.
قال أبو حيان ؛ وإن أُخذ كلامه على ظاهر لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم، والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول١١ و «مِنْ أَحَدٍ » من مزيدة لتأكيد الاستغراق و «مِنْ بَعْدِهِ » من لابتداء الغاية١٢ والمعنى أَحَدٌ سواه١٣ «إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غفوراً »، «حليماً » حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم «غفوراً » لمن تاب ويرحمه وإن إستحق١٤ العِقَابَ.
فإن قيل : ما معنى ذكر الحليم هَهُنَا ؟ قيل : لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله - عزّ وجلّ- عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقُوبة.
١ في ((ب)) جره..
٢ انظر: تفسير الرازي ٢٦/٣٣..
٣ التبيان ١٠٧٥..
٤ البحر نقلا عن قراءة ابن مسعود ٧/٣١٨..
٥ قاله في معاني القرآن وإعرابه له ٤/٢٧٣..
٦ في ب ((منع))..
٧ نقله في البحر ٧/٣١٨. وذكر النحاس في ((الإعراب)) الوجه الأول والثالث انظره ٤/٣٧٦..
٨ وهو: ((ولئن زالتا))..
٩ وهو: غير إن أمسكهما من أحد وإنما إن زالتا ((فإن هنا نفي))..
١٠ الكشاف ٣/٣١٢..
١١ قاله في البحر ٧/٣١٨..
١٢ نقله الزمخشري وأبو حيان في المرجعين السابقين..
١٣ قاله الإمام البغوي في معالم التنزيل ٥/٣٠٦. وقال الفراء في المعاني: ((ولئن زالتا)) بمنزلة قوله: ((ولو زالتا)) (إن أمسكهما) ((إن)) بمعنى ما وهو بمنزلة قوله: ((ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده)) المعاني ٢/٣٧٠..
١٤ نقله الإمام الفخر الرازي ٢٦/٣٣..
قوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله ﴾ يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قَالُوا لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا :«لو أتانا رسول لَنَكُونَنَّ أَهْدَى » ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله - عزّ وجلّ - «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ » رسول «لَيكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إحْدى الأمم » يعني اليهود والنصارى١ وقيل : المعنى أهدى٢ مما نحن عليه. وعلى هذا فقوله :﴿ مِنْ إِحْدَى الأمم ﴾ للتبيين كما يقال : زَيْدٌ مِنَ المسلمين، ويؤيده قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ أي صاروا أضل مما كانوا يقولون : نكون أهدى وقيل : المراد أهدى من إحدى٣ الأمم كقولك : زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرو. وقيل : المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحْدَى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب محمداً - عليه ( الصلاة٤ و ) السلام - لكونه كاذباً ولو تبني لنا كونُه رسولاً لآمنَّا كما قال تعالى :
﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] وهذا مبالغة في التكذيب.
قوله :﴿ لَّيَكُونُنّ ﴾٥ جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم٦ وقوله :﴿ لَئِن جَآءَهُم ﴾ حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لَئِنْ جَاءَنَا لَنَكُونَنَّ.
قوله :﴿ مِنْ إِحْدَى الأمم ﴾ أي من الأمة التي يقال فيها : هي إحدى الأمم تفضيلاً لها كقولهم : هو إحْدَ ( ى )٧ الأَحَدَيْنِ قالَ :
٤١٦٥- حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إحْدى الإحَدِ. . . لَيْثاً هِزَبْراً في سِلاَح مُعْتَدِ٨
قوله :«مَا زَادَهُمْ » جواب «لَمَّا » وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذا لا يعملُ ما بعد «ما » النافية فيما قبلها٩، وتقدمت له نظائر١٠ وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله :﴿ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ]

فصل


معنى فلما جاءهم أي صح لهم مجيئه بالمعجزة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - «مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً » أي ما زادهم بمجيئة إلا تباعداً عن الهدى.
١ نقله الإمام البغوي في تفسيره ٥/٣٠٦ وكذلك الخازن ٥/٣٠٦..
٢ الفخر الرازي ٢٦/٣٤..
٣ السابق..
٤ زيادة من ((ب))..
٥ في قوله: ((ولئن زالتا))..
٦ في ((ب)): لنكونن. تحريف..
٧ زيادة من ((أ)) خطأ..
٨ بيتان من الرجز وقد نسبا للمرار الفَقْعَسي ويروى البيت الثاني هكذا في اللسان :
ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي
والشاهد ((إحدى الإحد)) حيث أن هذه (الإحدى) لا مثيلة ومفضلة في كل الإحد. قال ابن الأعرابي: ((واحد لا مثيل له يقال: هذا إحدى الإحد وأحد الأحدين))..

٩ قال بظرفيتها ابن السراج والفارسي وابن جني. وهي حرف وجود لوجود. وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب. وقال ابن مالك: هي ظرف بمعنى ((إذا)) ووجهه المغني قال: ((وهو حسن لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة)). وقد رد ابن خروف ردا طريفا على مدعي الاسمية قائلا يجوز أن يقال: ((لما أكرمتني أمس أكرمتك اليوم))، لأنها إذا قدرت ظرفا كان عاملها الجواب، والواقع في اليوم لا يكون في الأمس (بتصرف من المغني ١/٢٨٠)..
١٠ كقول الله ﴿ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم﴾ الآية ٧٨ من يوسف وكقوله تعالى في الإسراء ﴿فلما نجاكم إلى البر أعرضتم﴾ ٦٧، وكقوله في هود ﴿ولما جاء أمرنا نجينا هودا﴾ ٥٨، و﴿فلما جاء أمرنا نجينا صالحا﴾ ٦٦، ﴿ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا﴾ ٩٤ ومواضع أخرى من آي القرآن الكريم..
قوله :﴿ اسْتِكْباراً ﴾ يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار١ وأن يكون بدلاً من٢ «نُفُوراً » وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين٣ قاله الأخفش.
قوله :«ومكر السيّء » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على «استكباراً »
والثاني : أنه عطف على «نُفُوراً »٤ وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته٥ في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ٦ وقرأ العامَّةُ بخفض همزة «السيّئ » وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً٧ وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ ونزهوا الأعمش من٨ أن يكون قرأ بها. قالوا : وإنما وقف٩ مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه١٠. وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنه كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة١١ وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ :«إلى بارئْكُمْ » «عند بارِئْكُمْ »١٢ بسكون الهمزة. فهذا أولى لزيادة الثقل هنا. وقد تقدم هُنا ( كَ )١٣ أمثلة وشواهد، وروي عن ابن كثير «ومَكْرَ السّأي » بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة١٤ ( و )١٥ خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء، والسَّيْءُ مخفف ( من السيّء )١٦ كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ :
٤١٦٦- وَلاَ يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ. . . ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ١٧
وقد كثر في قراءته القلب نحو ضِيَاءٍ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ١٨، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله :«وَمَكْراً سَيِّئاً » بالتنكير وهو موافق لما قبله١٩ وقرئ : ولا يُحِيقُ بضم الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب٢٠ على أن الفاعل ضمير الله تعالى ؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلاَّ بأهله.

فصل


المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المكر إلى صفته قال الكلبي : هو إجتماعهم على الشرك٢١ وقيل النبي - صلى الله عليه وسلم٢٢ - وقال ابن الخطيب : هذا من إضافة الجنس إلى نوعه٢٣ كما يقال : عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه : ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور. ويحتمل أن يقال : بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى :﴿ والذين يَمْكُرُونَ السيئات ﴾٢٤ [ فاطر : ١٠ ] أي يعملون السيئات.
قوله :«ولا يحيق المكر السيّئ » أي لا يحل ولا يحيط٢٥، وقوله :«يَحِيقُ » ينبئ عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق.
فإن قيل : كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك.
فالجواب من جوه :
أحدهما : أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.
وثانيها : أن نقول : المكرُ عام وهو الأصح، فإن النبي - عليه ( الصلاة٢٦ و ) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله :«لا تَمْكُرُوا وَلاَ تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ : وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ »٢٧ وعلى هذا ( فذلك )٢٨ الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نقضاً.
وثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ ﴾ يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها.
قوله :﴿ سُنَّةَ آلأَوَّلِين ﴾ مصدر مضاف لمفعوله و «وسُنَّةَ اللَّهِ » مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول. وهذا جواب ( عن )٢٩ سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله في الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين :
أحدهما : أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً : عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم٣٠ والقُوة ؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم٣١ ؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها ( سنة )٣٢ سنت بهم وإضافتها إلى٣٣ نفسه بعدها بقوله :﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله ﴾ لأنها سنة من الله، فعلى هذا نقول : أضافها في الأول إليهم حيث قال : سنة الأولين، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال : سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها٣٤ إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع.
وثانيهما : أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها.
فإن قيل : ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل ؟
فالجواب : أن المراد بقوله :﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾ حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله :﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً ﴾ حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ.

فصل


المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مَضَى٣٥ من الكفار والمخاطب بقوله :﴿ فَلَن تَجِد ﴾ عام كأنه قال : لن تجد أيها السامع وقيل : الخطاب مع محمد - عليه ( الصلاة٣٦ و ) السلام-.
١ قاله الفراء في المعاني ٢/٣٧١ ومكي في المشكل ٢/٢١٨ والزجاج في معانيه ٤/٣٧٤، والنحاس في الإعراب ٤/٣٧٧، وابن الأنباري في البيان ٢/٢٨٩، والزمخشري في الكشاف ٣/٣١٢ والسمين في الدر ٤/٤٨٩ وأبو حيان في البحر ٧/٣١٩ وأبو البقاء في التبيان ١٠٧٧..
٢ ذكرهما الزمخشري والنحاس وأبو حيان والسمين في المراجع السابقة..
٣ ذكرهما الزمخشري والنحاس وأبو حيان والسمين في المراجع السابقة..
٤ نقله الزمخشري والنحاس وأبو حيان وأبو البقاء المراجع السابقة..
٥ مشكل إعراب القرآن ٢/٢١٨ والبحر ٧/٣١٩..
٦ فهم يرون أن الموصوف والصفة شيء واحد لأنهما لعين واحدة فإذا قلت: ((جاءني زيد العاقل))، ((فالعاقل)) هو ((زيد)) وزيد هو العاقل فلما كانا كذلك لم يجز إضافة أحدهما إلى الآخر وإذا ورد ما يوهم ذلك أول على أنه صفة لموصوف محذوف مثل الآية هنا. بتصرف من المفصل وشارحه ابن يعيش ٣/١٠..
٧ من القراءة المتواترة وقد نسبها ابن مجاهد في السبعة ٥٣٥ إلى حمزة وحده بينما في الإتحاف ذكر الأعمش وحمزة والأعمش موافقا لحمزة. الإتحاف ٣٦٢. وانظر معاني الفراء ٢/٣٧١ قال: ((وقد جزمها الأعمش وحمزة لكثرة الحركات كما قال: ((لا يحزنهم الفزع الأكبر)) وكما قال الشاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
يريد صاحب قوم فجزم الباء لكثرة الحركات)). المعاني ٢/٣٧١. وانظر: الكشاف ٣/٣١٢ فكثرة الحركات هي التي دعت إلى تلك القراءة..

٨ في ((ب)) عن..
٩ في ((ب)) وقعت تحريف..
١٠ من هؤلاء الذين أدانوا تلك القراءة من النحاة المفسرين أبو إسحاق الزجاج فقد قال في معاني القرآن وإعرابه: ٤/٢٧٥ :((وهذا عند النحويين الحذاق لحن ولا يجوز وإنما يجوز مثله في الشعر في الاضطرار قال الشاعر: إذا اعوججن قلت صاحب قوم.... وأصل: يا صاحب قوم. ولكنه حذف مضطرا))..
١١ قال بهذا المعنى ابن خالويه في الحجة ١٩٧ والزمخشري في الكشاف ٣/٣١٢ والبناء في الإتحاف ٣٦٢ وباللفظ السمين في الدر ٤/٤٨٩..
١٢ الآية ٥٤ من البقرة وانظر المراجع السابقة واللباب ١/١١٧ ب..
١٣ سقط من ((ب))..
١٤ ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٢٤ وأبو حيان في البحر ٧/٣٢٠..
١٥ سقط من ((ب))..
١٦ سقط من ((ب))..
١٧ من الوافر وهو لأبي الغول الطهوري ويروى (بسوءي) كما يروى: (بسَوء) وشاهده (بسيىء) على أنها مخفف سَيِّيء وانظر: شرح المفصل لابن يعيش ٥/٥٥ و ٦/١٠٢ والبحر ٧/٣٢٠ والدر ٤/٤٩٠ وأمالي القالي ١/٢٦٠ والخزانة ٦/٤٣٤ و ٨/٣١٤..
١٨ يشير إلى كلمة الضياء واليأس التي وردت في قوله تعالى ﴿هو الذي جعل الشمس ضياء﴾ الآية (٥) من يونس ﴿ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء﴾ ١٤٨ الأنبياء و ﴿من إله غير الله يأتيكم بضياء﴾ ١٧١ القصص..
١٩ ذكره القرطبي ١٤/٣٥٩ وأبو حيان في البحر ٧/٣٢٠ والكشاف ٣/٣١٢ وابن جني في المحتسب ٢/٢٠٢ والفراء ٢/٣٧١..
٢٠ ولم يعزها أبو حيان في بحره ٧/٣٢٠ وانظر الدر المصون ٤/٤٩٠..
٢١ وقد ذكره الطبري عن قتادة. وانظر: زاد المسير ٦/٤٩٨..
٢٢ المرجع السابق..
٢٣ المرجع السابق..
٢٤ قاله الرازي في تفسيره ٢٦/٣٤..
٢٥ في ((ب)) معنى. وانظر: معاني الزجاج ٤/٢٧٥ والمجاز لأبي عبيدة ٢/١٥٦..
٢٦ زيادة من ((ب))..
٢٧ ذكره القرطبي ١٤/٣٦٠ عن الزهري والرازي ٢٦/٣٤..
٢٨ سقط من ((ب))..
٢٩ كذلك..
٣٠ في ((ب)) العزم وهو موافق للرازي..
٣١ في ((ب)) الحكم..
٣٢ سقط من ((ب))..
٣٣ وانظر في هذا كله الرازي ٢٦/٣٤ و ٣٥..
٣٤ في ((ب)) إضافتها..
٣٥ بمن مضى كذا هنا هو الأصح في ((أ)). وفي ((ب)) عن معنى تحريف..
٣٦ زيادة من ((ب)) وانظر هذا كله في الرازي ٢٦/٣٥ و ٣٦..
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم وكانوا اطول أعماراً منهم وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مِثْلَ محمد وأنتم يا أهْلَ مكة كفرتم محمداً ومَنْ تَقَدَّمَهُ.
قوله: ﴿وكانوا أَشَدّ﴾ جملة في موضع نصب على الحال ونظيرتها في الروم: «كَانُوا» بلا «واو» على أنها مستأنفة فالمَقْصِدانِ مُخْتَلِفَان.
وقال ابن الخطيب: الفرق بينهما أن قول القائل: «أمَا رَأَيْتَ زَيْداً كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُو أَعْظَمُ مِنْكَ» يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظمُ وإذا قال: مَا رَأَيته كَيْفَ أكْرَمَنِي وهُوَ أَعْظَمُ (مِنْكَ) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكرم منه (و) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهرو مثل الأول بحيثُ لا يحتاج إلى اعلام من المتكلم ولا إخبار. وإذا علم هذا فنقول: المذكرو ههنا كونُهم أشدَّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال «بالواو» أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قولهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال: ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ﴾ [الروم: ٩] وفي موضع آخر قال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض﴾ [غافر: ٨٢] ولعل عملهم لم يحصل بإثارتهم في الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها أَقْوَى منها ولا تنازع فيه.
159
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ﴾ أي ليفوت عنه. وهذا يحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون المراد بيان أو الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يُعْجزوه.
والثاني: أن يكون قطعاً لاعتاقده الجهال فإنَّ قائلاً لو قال: هب أن الأولين كانوا أشدَّ قوةً وأطْوَلَ أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيةٍ لها خواص أو كواكبُ سماوية لها أثارها فقال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً﴾ بأفعالهم وأقوالهم «قَدِيراً» على إهلاكهم واستئصالهم.
قوله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ﴾ من الجرائم «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ»
يعني على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور وتقدم نظيرها في النحل، إلاَّ أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فُهِمَ من السِّياق وهنا قد صرح بها في قوله: ﴿فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ فيعود الضمير إليها لأنها أقرب، وأيضاً فلقوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال: «عَلَى ظَهْرِهَا» استعارة من ظهر الدابة دللاة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حيث على السير للنظر والاعتبار.
قوله: ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ أي كما في زمن نوح - عليه (الصلاة و) السلام) أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نُوحٍ.
فإن قيل: إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما (بال) الدوَابِّ يهلكون؟
فالجواب من وجوه:
أحدهما: أن خلق الجواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم، لأن المفردَ (أولاً) ثم المركب والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً والحيوان إما إنساناً أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
الثاني: أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا (ء الأشياء) بالإنسان كما أنَّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها
160
الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يُعَمِّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك السَّقْي الْقَلْبِ.
الثالث: أن إنزال المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الأنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات.
فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابلهُ الوجه فهو كالتضاد؟ فيقال: من حيث إنَّ الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن نم باب ووجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
قوله: ﴿ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو يوم القيامة وقيل: يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل: لكل أمة أجل، ولك أجل كتاب وأجل قوم محمد - عليه (الصلاة و) السلام - أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
قوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ تسلية للؤمنين لأنه قال: ما ترك على ظهرها من دابة وقال ﴿لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] فقالك فَإذَا جَاءَ الْهَلاَك فاللَّهُ بالعباد بصيرٌ قال ابن عباس: يريد أهل طاعنه وأهل معصيته، (و) روى أبو أمامةَ عن أُبيِّ بْن كعب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَلاَئِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيامَةَ ثَمَانِيةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ أَنْ ادْخُلْ مِنْ أيّ الأبْوَابِ شِئْتَ» [والله الموفّقُ للصّواب، وإليه المرجعُ والمآبُ].
161
سورة يس
162
قوله :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ ﴾ من الجرائم «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ »
يعني على ظهر الأرض كناية عن١ غير مذكور وتقدم نظيرها في النحل٢، إلاَّ أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فُهِمَ من السِّياق وهنا قد صرح بها في قوله :﴿ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾ فيعود الضمير إليها لأنها أقرب، وأيضاً فلقوله :﴿ مِنْ دَابَّةٍ ﴾ والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال :«عَلَى ظَهْرِهَا » استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حث على السير للنظر والاعتبار.
قوله :﴿ مِن دَآبَّةٍ ﴾ أي كما في زمن نوح - عليه ( الصلاة٣ و ) السلام ) أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نُوحٍ.
فإن قيل : إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما ( بال )٤ الدوَابِّ يهلكون ؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم، لأن المفردَ ( أولاً )٥ ثم المركب والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً والحيوان إما٦ إنساناً أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
الثاني : أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا ( ء الأشياء )٧ بالإنسان كما أنَّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يُعَمِّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ٨ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسَّقْي والْقَلْبِ٩.
الثالث : أن إنزال المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الأنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت١٠ جميع الحيوانات.
فإن قيل : كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابلهُ١١ الوجه فهو كالتضاد ؟ فيقال : من حيث إنَّ الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب ووجه١٢ الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
قوله :﴿ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ قيل : هو يوم١٣ القيامة وقيل : يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل : لكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب وأجل١٤ قوم محمد - عليه ( الصلاة١٥ و ) السلام - أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
قوله :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾ تسلية للؤمنين لأنه قال : ما ترك على ظهرها من دابة وقال ﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] فقال فَإذَا جَاءَ الْهَلاَك فاللَّهُ بالعباد بصيرٌ١٦ قال ابن عباس : يريد أهل طاعته وأهل معصيته١٧،
١ في ((ب)) من..
٢ عند قوله: ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة﴾ وهي الآية (٦١) منها..
٣ زيادة من ((ب))..
٤ تصحيح لغوي عن النسختين..
٥ سقط من ((ب))..
٦ كذا هنا. وفي الرازي وفي ((ب)) إما أن يكون إنسانا..
٧ سقط من النسختين وهو تكملة من الرازي..
٨ في ((ب)) يحفظ وفي الرازي بحفظ..
٩ في الرازي بالسقي والعلف وفي ((ب)) بالسفن تحريف..
١٠ في ((ب)) فيموتوا..
١١ فيها: مقابلة بتاء لا هاء..
١٢ في ((ب)) فوجه بالفاء..
١٣ نقله القرطبي عن يحيى. انظر: الجامع ١٤/٢٦..
١٤ في ((ب)) فأجل بالفاء ونقل هذين الوجهين الإمام الفخر الرازي في تفسيره..
١٥ زيادة من ((ب))..
١٦ في ((ب)) بصيرا بالنصب..
١٧ نقله الإمام الخازن في لباب التأويل ٥/٣٠٦ والإمام البغوي في معالم التنزيل ٥/٣٠٦..
Icon