تفسير سورة الواقعة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إذا قَامَتِ الْقِيَامَةُ)، والواقعةُ اسمُ القيامةِ، وَقِيْلَ : معناهُ : إذا نزَلتِ الصَّيحَةُ وتلك النفخةُ الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ﴾ ؛ أي لِمَجِيئها وظُهورها كاذبةٌ ولا ردٌّ ولا خلاف، وقوله ﴿ رَّافِعَةٌ ﴾ أي تخفِضُ ناساً وترفعُ آخَرين، قال عطاءُ :(تَخْفِضُ أقْوَاماً كَانُواْ فِي الدُّنْيَا مُرَفَّعِينَ، وَتَرْفَعُ أقْوَاماً كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ). وَقِيْلَ : تخفضُ قوماً إلى النار، وترفعُ آخَرين إلى الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً ﴾ ؛ أي زُلزِلَتِ الأرضُ ورُجِّعَتْ وتحرَّكت حركةً شديدة حتى ينهدمَ كلُّ بناءٍ على وجهِ الأرض. قولهُ :﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾ ؛ أي فُتَّتْ فَتّاً فصارت كالدَّقيق الْمَبْسُوسِ وهي المبلولُ، والبَسِيسَةُ عند العرب الدقيقُ والسَّوِيقُ يُلَتُّ ويُتَّخذ زَاداً. قِيْلَ : إنَّ الجبالَ تصيرُ يومئذٍ كالدَّقيق أو السَّويق.
وقوله تعالى :﴿ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً ﴾ ؛ أي صَارَتْ غُباراً متفَرِّقاً كالذي يسفعُ من حوافرِ الدَّواب، ويحولُ في شُعاعِ الشَّمسِ إذا دخلَ من الكُوَّةِ وهو الهباءُ، فيَقبضُ القابضُ فلا يحصِّلُ بيدهِ، وقرأ النخعيُّ (مُنْبَتّاً) بالتاء أي مُنقَطِعاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ ؛ معناهُ : وكنتم يومئذٍ أصْنَافاً ثلاثةً، ثم فسَّرَهم فقالَ اللهُ :﴿ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ ؛ يعني الذين يُعطَون كُتُبَهم بأَيمانِهم. وَقِيْلَ : همُ الذين يُسلَكُ بهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ ؛ هم أصحابُ الشُّؤْمِ والتكذيب، وَقِيْلَ : هم الذين يُعطَون كُتبَهم بشِمَالهم، ويُسلَكُ بهم طريقَ الشِّمال إلى النار، ويقالُ لليد اليُسرى الشَّوْمَاءَ، قال الشاعرُ : الشَّتْمُ وَالشَّرُّ فِي شَوْمَاءِ يَدَيْكَ لَهُمْ وَفِي يَمِينِكَ مَاءُ الْمُزْنِ وَالضَّرْبومنه الشَّامُ واليمنُ ؛ لأن اليمنَ على يمينِ الكعبةِ، والشامُ على شِمَالِها إذا دخلتَ الحِجْرَ تحت الميزاب. وَقِيْلَ : هم الذين كانوا على شِمَالِ آدمَ عندما أخرجَ الذُّريةَ، وقال اللهُ لَهم :" هَؤُلاَءِ فِي النَّارِ وَلاَ أبَالِي ".
وقولهُ تعالى :﴿ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ و ﴿ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ تعجيبٌ لشأنِ أصحاب الْمَيمَنَةِ في الخيرِ، والترغيبُ في طريقتِهم كما يقالُ : فقيهٌ أيُّ فقيهٍ، وتعظيمٌ لشَرِّ أصحاب المشأَمة والتحذيرُ عن طريقتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ ؛ بيانٌ للصنِّفِ الثالثِ، والمعنى : والسَّابقون في الدُّنيا إلى الطاعاتِ، هم السَّابقون في العُقبَى إلى الدرجاتِ، وَقِيْلَ : همُ الذين سَبَقوا إلى توحيدِ الله والإيمانِ برسوله.
وقال ابنُ سِيرين :(هُمُ الَّذِينَ صَلَّواْ إلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَشَهِدُواْ بَدْراً)، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾[التوبة : ١٠٠]، وقال ابنُ عبَّاس :(هُمُ السَّابقُونَ إلَى الْهِجْرَةِ)، وقال عليٌّ رضي الله عنه :(هُمُ السَّابقُونَ إلَى الصَّلوَاتِ الْخَمْسِ)، وقال ابنُ جبير :(الْمُسَارعُونَ إلَى التَّوْبَةِ وَإلَى أعْمَالِ الْبرِّ)، ونظيرهُ﴿ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[الحديد : ٢١]، وقال﴿ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾[المؤمنون : ٦١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ ؛ أي همُ المقرَّبُون إلى كرامةِ الله تعالى وجزيلِ ثَوابهِ في أعلَى الدرجاتِ، ثم أخبرَ أين محِلُّهم فقالَ ﴿ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي جماعةٌ من أوائلِ الأُمم مِمَّن صدَّق بالنبيِّين من ولدِ آدم إلى زمانِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴾ ؛ أي مِن هذه الأُمَّة، وذلك أنَّ الذين عَايَنُوا جميعَ النبيِّين وصدَّقُوا بهم أكثرُ ممن عايَنَ نبيَّنا ﷺ، ألاَ ترَى إلى قولهِ تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات : ١٤٧] هؤلاءِ سِوَى مَن آمنَ بجميعِ الأنبياء وصدَّقَهم، والثُّلَّةُ في اللغة : هي الْقِطْعَةُ، الكثرةُ من النَّاسِ، والجماعةُ الذين لا يُحصَى عدَدُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴾ ؛ أي على سُرُرٍ منسُوجَةٍ بقُضبَانِ الذهب والفضة والجواهرِ، قد أُدخِلَ بعضُها في البعضِ مضاعفةً. قال الأعشَى : وَمِنْ نَسْجِ دَاوُودَ مَوْضُونَةً تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيراً فَعِيرَاوإنما قالَ ﴿ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ ﴾ لأنَّها إذا كانت على هذهِ الصِّفة، كانت أنعمَ وألينَ من السُّرُر التي تُعمَلُ من الخشب، قال الكلبيُّ :(طُولُ كُلِّ سَرِيرٍ ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَإذا أرَادَ الْعَبْدُ أنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ، فَإذا جَلَسَ عَلَيْهَا ارْتَفَعَتْ). وقال الضَّحاكُ :(مَوْضُونَةٌ : أيْ مَصْفُوفَةٌ)، يقالُ : آجُرٌّ مَوْضُونٌ إذا صُفَّ بعضهُ على بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴾ ؛ أي جَالِسين عليها جلسةً الملوكِ للرَّاحةِ مُتقَابلِينَ، يقال بعضُهم بعضاً في الزِّيادة : إذا اشتهَى أحدُهم حديثَ صاحبهِ، ألقَى اللهُ في نفسِ الآخرِ مثلَ ذلك، وأمَرَ كلُّ واحدٍ منهم بسَرِيرِه فأُخرِجَ على باب مَنْزلهِ، ثم جلَسَا على سَريرَيهِما يتحدَّثان، يسمعُ كلُّ واحدٍ منهما حديثَ صاحبهِ وإن بَعُدَ عنهُ، وإذا شاؤوا سارَتْ سريرُهم إلى حيث يشَاؤونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ ؛ أي يطوفُ عليهم للخِدمَةِ غِلمَانٌ لا يهرَمُون ولا يتغيَّرون ولا يموتون، خُلِقُوا للخُلودِ وهم دَائِمُون، ويقالُ : معنى ﴿ مُّخَلَّدُونَ ﴾ مقرَّطُون مُسَوَّرونَ من الْخِلْدَةِ وهي الْحُلِيُّ، يقالُ : خَلَّدَ جَاريَتَهُ إذا أحْلاَها بالْخُلْدِ وهو القُرْطُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ﴾ ؛ الأكوابُ جمعُ كُوبٍ، وهي الكيزانُ العِظَامُ المدوَّرَةِ الرؤوس التي لا آذانَ لها ولا خرطومَ ولا عُرًى، والأباريقُ والأوانِي التي لها عُرًى وخراطيمُ، واحدها إبريقٌ، وهو الذي يَبرِقُ من صفائهِ وحُسنهِ وبريقِ لَونهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ ؛ الكأسُ : الإناءُ الذي فيه الشَّرابُ، والْمَعِينُ : الخمرُ الذي يجرِي من العُيون الظَّاهرةِ لا في الأُخدُودِ، والمعنى : وكأسٍ من خمرٍ جارية. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ ؛ أي لا يُصِيبُهم من شربها صداعٌ كما يكون في شُرب خمرِ الدُّنيا، ولا تَنْزِفُ عقُولُهم، يقال للرَّجُلِ إذا سَكِرَ : نَزَفَ عقلهُ، والنَّزِيفُ هو السُّكرَانُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴾ ؛ معناه : ويُؤتَونَ بفاكهةٍ مما يتخيَّرون ليس لها فناءً ولا نَوَى، ظاهرُها مثلُ باطِنها، وباطِنُها مثلُ ظاهِرها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ ؛ يُؤتَون بلحمِ طيرٍ مما يتمَنَّون، كما رُوي في الحديثِ :" أنَّهُمْ إذا اشْتَهَوا لَحْمَ الطَّيْرِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مَشْوِيّاً، فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ، ثُمَّ يَطِيرُ كَمَا كَانَ " وهذا لأنَّ الذبحَ لا يكون إلاَّ بإراقةِ الدمِ، وذلك لا يكون في الجنَّة.
وعن أبي سعيدٍ الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :" إنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْراً فِيْهِ تِسْعُونَ ألْفَ ريشَةٍ، يَجِيءُ فَيَقَعُ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ ريشَةٍ لَوْنُهُ أبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَألْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأعْذبُ مِنَ الشَّهْدِ، لَيْسَ فِيْهِ لَوْنٌ يُشْبهُ الآخَرَ، ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحُورٌ عِينٌ ﴾ ؛ قرأ أبو جعفرٍ وحمزةُ والكسائي (وَحُورٍ) بالخفضِ على معنى ويُنَعَّمُونَ بحُورٍ عينٍ، ويجوزُ أن يكون خَفْضاً على الْمُجَاوَرَةِ ؛ لأنه معطوفٌ على قولهِ ﴿ وَفَاكِهَةٍ... وَلَحْمِ طَيْرٍ ﴾.
والْحُورُ : الْبيضُ الْحِسَانُ، والعِينُ : الواسعةُ الأَعيُنِ حِسَانُها، وقرأ النخعيُّ وأشبهَ العقلي (وَحُوراً عِيناً) بالنصب على معنى ويُزَوَّجُونَ حُوراً عِيناً، وبالرفع على معنى : ولهم حورٌ عين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ صفاءَ هذه كصَفاءِ الدُّرِّ حين يخرجُ من صَدَفِهِ قبلَ أن تُصِيبَهُ أو هواءٌ أو شمس أو غبارٌ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" خُلِقَ الْحُورُ الْعِينُ مِنْ زَعْفَرَانٍ " وعن أبي أُمامة قال : قال رسول الله ﷺ :" مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ وَهُوَ مُزَوَّجٌ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً، لَيْسَ مِنْهُنَّ امْرَأةٌ إلاَّ وَلَهَا قُبُلٌ شَهِيٌّ، وَلَهُ ذكَرٌ لاَ يَنْثَنِي ".
وعن ابنِ مسعودَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" سَطَعَ نُورٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالُواْ : مَا هَذا ؟ قَالُواْ : ضَوْءُ ثَغْرِ حُورٍ تَبَسَّمَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا ".
ويُروى : أن الحورَ إذا مشَتْ سُمِعَ تقديسُ الْخَلاَخِلِ وتمجيدُ الأَسَاور في سَاعِدَيها، إن عِقْدَ الياقوت في نَحرِها، في رجلَيها نَعلاَنِ من ذهبٍ شِراكُهما من اللُّؤلؤ يَصِيرَّانِ بالتسبيحِ والتحميدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ فيه بيانُ أنَّ هذه الأشياءَ جزاءٌ لهم على أعمالِهم الصالحةِ التي كانوا يعملونَها في الدُّنيا.
وقوله تعالى :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ ؛ أي لا يسمَعون في الجنَّة إلاَّ قولاً يَسلَمُون فيه من اللَّغوِ والتأثيمِ، واللَّغوُ : الكلامُ الذي لا فائدةَ فيه، التَّأثِيمُ : أن يُؤثِمَ بعضُهم بعضاً ولا يتكلَّمون بما فيه إثْمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ﴾ ؛ أي ولكن يقُولون قِِيْلاً ويَسمَعون قِيْلاً سَلاَماً يَسلَمُون فيه من اللَّغوِ والإثمِ. قال عطاء : يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلاَمِ عَلَى أحْسَنِ الآدَاب وَكَرِيمِ الأَخْلاَقِ مَعَ كَمَالِ النَّعِيمِ، وَيَقُولُ لَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ : سَلَّمَكُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمَكَارِهِ).
هذا كله نعتُ السَّابقين، ثم ذكرَ الصنفَ الثاني :
فقال تعالى :﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾ ؛ وهم عامَّةُ المؤمنين دون النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصالحين، ما تَدري ما لَهم يا مُحَمَّدُ في الجنَّة من النعيمِ والسُّرور.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ ﴾ ؛ السِّدرُ شجرٌ مُثمِرٌ مرتفعُ المنظرِ، طيِّبُ الرائحةِ. والمعنى : في ظِلاَلِ سِدْرٍ قد نُزِعَ شوكهُ وكَثُرَ حَملهُ، والْخَضْدُ عطفُ العُودِ اللِّيِّنِ، ولذلك قِيْلَ : لا شوكةَ فيهِ، قد خَضَّدَ شوكَهُ ؛ أي قطعَ، ومنه الحديثُ :" لاَ يُخْضَدُ شَوْكُهَا وَلاَ يَعْضَدُ شَجَرُهَا ".
وقال مجاهدُ والضحاك ومقاتل :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ مَّخْضُودٍ ﴾ أيْ مُوقَرُ حِمْلاً)، ويقالُ : إنَّ السِّدْرَ شجرُ النَّبَقِ إلاَّ أنَّ ثَمَرَةَ تلك الشجرةِ لا تكونُ مثل شجرِ النَّبَقِ في الدُّنيا ولا رائحتُها تشبهُ رائحتَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾ ؛ الطَّلْحُ شجر الْمَوْز، وقوله ﴿ مَّنضُودٍ ﴾ أي بتَرَاكُب الموز على أغصَانِها من أوَّلها إلى آخرِها، فليس لها شَوكٌ بارزٌ، وقال الحسنُ :(الطَّلْحُ شَجَرٌ لَهُ ظِلٌّ بَاردٌ طَيِّبٌ)، وقرأ علي رضي الله عنه (مَعْضُودٍ) بالعينِ أي تحل بتَراكُب الرُّطب على أغصانِها كما في قوله﴿ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾[ق : ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ ؛ أي لا تنسخهُ الشمسُ، قال الربيع :(يَعْنِي ظِلَّ الْعَرْشِ)، قال عمرُو بن ميمون :(مَسِيرَةَ سَبْعِينَ ألْفَ سَنَةٍ). وعن أبي هريرة قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا، شَجَرُ الْخُلْدِ، إقْرَأواْ إنْ شِئْتُمْ ﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ ﴾ ؛ أي ماءٍ مَصبُوبٍ عليهم من ساقِ العرشِ في أوعِيَتِهم يشرَبوهُ على ما يرَونَ من حُسنهِ وصفائهِ وطيب رائحتهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وماءٍ مَصبُوبٍ يجرِي دائماً في غيرِ أُخدُودٍ لا ينقطعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ ؛ أي وأنواعِ فاكهةٍ كثيرةٍ، لا ينقطعُ عنهم في وقتٍ من الأوقاتِ، بخلافِ فاكهة الدُّنيا، ولا تكون مَمنوعةً ببُعدِ مُتناوَلٍ أو شوكةٍ تُؤذِي، بخلافِ ما يكون في الدُّنيا. وَقِيْلَ : لا مقطوعةٍ بالأزمانِ ولا ممنوعةٍ بالأثمانِ، ولا ينقطعُ ثَمرُها إذا جُنيَت بل يخرجُ مكانَها مثلُها. قال ﷺ :" مَا قُطِعَتْ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَار الْجَنَّةِ إلاَّ أُبْدِلَ مَكَانَهَا ضِعْفَيْنِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ ؛ قال ﷺ :" ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مَوْضُوعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، إذا أرَادَ الْعَبْدُ أنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ حَتَّى يَجْلِسَ، ثُمَّ تَرْتَفِعُ فِي الْهَوَاءِ " قال عليٌّ رضي الله عنه :(مَرْفُوعَةٌ عَلَى الأَسِرَّةِ).
وَقِيْلَ : إنه أرادَ بالفُرشِ هَهُنا النساءَ المرتَفِعات القدر في عُقولِهنَّ وحُسنِهنَّ وكمالهن، رُفِعْنَ بالْحُسنِ والجمالِ والفضلِ على نساءِ الدُّنيا، ودليلُ هذا التأويل قوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ﴾ ؛ وقد تُسمَّى المرأةُ فِرَاشاً ولِبَاساً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً ﴾ أي خَلقنَاهُنَّ لأوليائِنا بلا ولادةٍ ولا تربية، بخلافِ نساء الدُّنيا. وَقِيْلَ : المرادُ بهذه الآية نساءَ أهلِ الدُّنيا يُخلَقْنَ خَلْقاً بعدَ خلقٍ، كما رُوي في بعض الأحاديثِ :" أنَّهُنَّ عَجَائِزُكُمْ فِي الدُّنْيَا جُعِلْنَ صَبَايَا، وَيُلْبَسْنَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ أكْثَرَ مِمَّا يُلْبَسُ الْحُورُ الْعِينُ ؛ لأَنَّهُنَّ عَمِلْنَ فِي الدُّنْيَا، وَالْحُورُ لَمْ يَعْمَلْنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ ؛ العُرُبُ : جمعُ عَرُوبٍ، وهي الْمُتَحَببَةُ إلى زوجِها اللاَّعبَةُ معه أُنْساً به ومحبَّةً له، قال المبرِّدُ :(هِيَ الْعَاشِقَةُ لِزَوْجِهَا الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ لَذِيذةُ الْكَلاَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَتْرَاباً ﴾ أي مُستويات في السنِّ على ميلادٍ واحد، كلُّهن في سنِّ ثلاثٍ وثلاثين سنةً، سِنُّهُنَّ مثلُ سنِّ أزواجِهن، ومثلُ هذا يكون أبلغُ في اللَّذة. قولهُ ﴿ لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ أي جميعُ الذي ذكرنَاهُ لأصحاب اليمين. وَقِيْلَ : معناه : فَأنشَأْناهنَّ إنشاءً لأصحاب اليمين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴾ أي جماعةٌ من أوائلِ الأُمم، وجماعةٌ من أُمَّة نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. ورُوي : أنَّهُ لَمَّا أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴾ بَكَى عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَمَنْ يَنْجُو مِنْ قَلِيلٍ ؟ فأنزل الله ﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ ﴾.
وعن رسولِ الله ﷺ قالَ :" " يَا ابْنَ الْخَطَّاب ؛ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيمَا قُلْتَ، فَجَعَلَ ثُلَّةً مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةً مِنَ الآخِرِينَ " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :(رَضِينَا عَنْ رَبنَا وَتَصْدِيقِ نَبيِّنَا ﷺ ؛ مِنْ آدَمَ إلَيْنَا ثُلَّةٌ، وَمِنَّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُلَّةٌ) " وقال مجاهدُ والضحاك :(الثُّلَّتَانِ جَمِيعاً مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴾ ؛ يعني الذين يُعطَون كُتبَهم بشَمائِلِهم، ما تَدري يا مُحَمَّدُ ما لَهم من الهوانِ في العذاب من حرِّ نارٍ وريحٍ حادَّةٍ تدخلُ في مسامِّهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالََى :﴿ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ﴾ ؛ أي في حرِّ نارٍ وماءٍ حارٍّ، ﴿ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ ﴾ ؛ أي من دُخَّان شديدِ السَّوادِ لا كبَردِ ظلِّ الدُّنيا ؛ لأنه ظلُّ دُخانِ جهنَّم.
وقال ابنُ زيدٍ :(الْيَحْمُومُ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ﴾ ؛ أي لا باردِ الْمُدخَلِ ولا كريمِ المنظرِ. وَقِيْلَ : لا باردِ المنْزِل ولا حسنِ المنظرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ﴾ ؛ فيه بيانُ سبب العقوبةِ، معناهُ : إنَّهم كانوا في الدُّنيا مُنَعَّمِينَ مُتكبرين في تركِ أمرِ الله، وكانوا مُمتَنِعين من الواجب الذي عليهم طَلباً للترَفُّهِ، ﴿ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي وكانُوا يُقيمون على الشِّركِ باللهِ. وسُمي الشِّركُ حِنثاً ؛ لأنَّهم كانوا يَحلِفُونَ أنَّ اللهَ لا يبعثُ مَن يموتُ، والْحِنثُ : الإثْمُ.
وقال الشعبيُّ :(الْحِنْثُ الْعَظِيمُ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) وهم كانُوا يحلِفون باللهِ أنَّهم لا يُبعثون وكذبُوا في ذلك، ﴿ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ ؛ بيانُ إنكارهم للبعثِ، وقولهُ تعالى :﴿ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ ﴾ ؛ هذا القولُ منهم زيادةُ استبعادٍ واستنكارٍ.
يقولُ اللهُ تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّ آباءَكم ومَن قبلَهم وأنتم ومَن بعدَكم لَمجمُوعون في قبورهم إلى يومِ القيامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضِّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴾. وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى يُلقي عليهم الجوعَ حتى يضطَرُّهم إلى أكلِ الزَّقُّومِ، فيأكُلون منه حتى تَمتَلئَ بطونُهم، ثم يُلقِي عليهم العطشَ فيضطرُّهم ذلك إلى شُرب الحميمِ، فيشرَبون شُربَ الإبلِ العِطَاشِ التي يُصيبها داءُ الهيامِ فلا تروَى من الماءِ.
والْهِيمُ : الإبلُ العِطَاشُ التي بها الْهِيَامُ لا تروَى، وواحدُ الْهيمِ أهْيَمُ، والأُنثى هَيْمَاءُ، ويقالُ : الْهِيمُ هي الرمالُ التي لا يَرويها ماءُ السَّماء، مأخوذٌ من قولِهم : كثيبٌ أهيَمُ، وكثبانٌ هِيمٌ. قرأ نافع وعاصم وحمزةُ (شُرْبَ) بضم الشين، وقرأ الباقون بفتحِها، والمعنى فيها واحدٌ مثل ضَعف وضُعف، ﴿ هَـاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴾ أي هذا غِداؤُهم وشرابُهم يومَ الجزاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ ؛ أي نحن خلقنَاكُم أيُّها الكفارُ ولم تكونوا شيئاً، ﴿ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ ﴾ ؛ أي فهَلاَّ تُصدِّقون بالبعثِ اعتباراً بالْخِلْقَةِ الأُولى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أخبرُوني يا أهلَ مكَّة ما تقذفونَهُ من المنِيِّ وتصبُّونَهُ في أرحامِ النساء، أأنتُم تخلُقونَهُ ولداً أم نحنُ نخلُقه ونجعله بَشراً سويّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ﴾ ؛ أي كتبناهُ عليكم وسوَّينا به بين أهلِ السَّماء والأرضِ على مقاديرِ آجالهم في مكانٍ معلوم وفي زمان معلومٍ، فمِنكُم مَن يموتُ صغيراً ومَن يموتُ كبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ ﴾ ؛ أي ما نحنُ بمَغلُوبين عاجزِين على أن نُبَدِّلَ غيرَكم أطوعَ وأخشعَ منكم، وعلى أنه ﴿ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي في موضعٍ لا تعلمونَهُ وهو النارُ. وَقِيْلَ : في صُوَرٍ لا تعلمونَها من سَوادٍ في الوُجوهِ وزُرقَةِ الأعيُن، ولو أردنا أنْ نجعلَ منكم القردةَ والخنازيرَ لم نُسبَقْ ولا فَاتنَا ذلك. قرأ ابنُ كثير (نَحْنُ قَدَرْنَا) مخفَّفاً وهما لُغتان.
قَوْلهُ تعَالَى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ ؛ أي قد عَلِمتُم الخِلقَةَ الأُولى ولم تكونوا شيئاً، فخلَقناكم من نُطفةٍ وعلقة ومُضغَةٍ، وهلاَّ تذكَّرُونَ أنِّي قادرٌ على إعادَتِكم كما قَدرتُ على أعدائكم.
قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أخبرونِي ما تُلقُونَ من البَذر في الأرضِ ؛ أأنتُم تُنبتُونَهُ وتجعلونَهُ زَرعاً أم نحنُ فَاعِلونَ ذلك؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ﴾ ؛ أي يَابساً مُتَنَكِّساً بعدَ خُضرَتهِ لا حبَّ فيه فأبطلناهُ، ﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾ ؛ أي فصِرتُم تَعجَبُونَ مما نزلَ بكم في زَرعِكم، ونادمون على ما أنفَقتُم فيه وتحمَّلتُم فيه مِن المشقَّة، وتقولون :﴿ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ﴾ ؛ أي طقنا غَرمٌ عظيمٌ فهذا الزرع، وغَرمُ الْحَبِّ الذي بَذرنَاهُ فذهبَ علنيا بغيرِ عِوَضٍ، ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ ؛ أي ممنُوعون من الرِّزقِ منه.
وأصلُ ظَلْتُمْ : ظَلَلْتُمْ فحَذفَ اللامَ الأُولى. والتَّفَكُّهُ من الأضدادِ، يقالُ : تَفَكَّهَ ؛ أي تَنَعَّمَ، وتَفَكَّهَ ؛ تَحَزَّنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ﴾ ؛ أي من السَّحاب، ﴿ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴾ ؛ عليكم منه، ﴿ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ﴾ ؛ أي مُرّاً شَديداً، مِرَاراً مُحرِقاً للحَلقِ والكبدِ، لا يمكنُ شُربه والانتفاعُ به، ﴿ فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾، فهلاَّ تُنكِرون عُذوبَتهُ. وَقِيْلَ : الأُجَاجُ : شديدُ الملوحةِ مع المرارةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾ ؛ يعني التي تُظهِرُونَها بالزِّنادِ من الأعوادِ، ومعنى : تُورُونَ : تَقدَحُونَ وتستخرجون من زنَادِكم، يقالُ : أوْرَيْتُ النارَ إذا قدحتُها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ﴾ أي أأنتم أنبتُّم شجرةَ النار أم نحن الْمُنبتُونَ لها في الأرضِ، وجعلناها خضراءَ وفيها النارُ.
قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ ؛ أي نحن جعَلنا النارَ عِظَةً ليتَّعِظَ بها المؤمنُ. وَقِيْلَ : جعَلناها تَذكِرَةً للنار الكُبرَى ؛ إذا رآهَا الرَّائِي ذكرَ جهنَّم، فذكرَ اللهَ تعالى فاستجارَ به منها، وتركَ المعصيةَ.
وقوله تعالى :﴿ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ﴾ أي وجعَلناها منفعةً للمُسافِرين الذين ينْزِلون في الأرضِ القَيُّ في المفَاوز، يقالُ : أقوَى الرجلُ إذا نزلَ بالأرضِ القوى وهي الخاليةُ القَفرَاءُ، ويقال : أرضٌ قَيْءٌ أي القفرى، قال الراجزُ : قَيٌّ يُنَاصِيهَا بلاَدٌ قَيُّ والقَيُّ والقَوَى هي الأرضُ القَفْرَى الخاليةُ البعيدةُ من العِمرَانِ، يقالُ : أقْوَتِ الأرضُ مِن سُكَّانِها، قال النابغةُ : يَا دَارَ مَيَّةَ بالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَمَدِومنفعةُ المسافرِين بالنار أكثرُ من منفعةِ المقيمين ؛ لأنَّهم يُوقِدونَها ليلاً لتَهرُبَ منها السبِّاعُ، ويهتَديها الضالُّ من الطريقِ، ويستَضِيئوا بها في ظُلمَةٍ، ويصطلوا بها من البردِ ويطبخون بها ويخبزُوا، وضررُ فَقِدها عليهم أشدُّ. وقد يقالُ للذي فقدَ زادَهُ : الْمُقْوِي من أقْوَتِ الدارُ إذا خَلَتْ، ويقالُ للمُقْوِينَ : مُقوٍ لِخُلُوِّهِ من المالِ والغِنَى، مُقْوٍ لقُوَّتهِ على ما يريدُ، فعلَى هذا الْمُقْوِي من الأضدادِ، والمعنى : متَاعاً للغنيِّ والفقيرِ، وذلك أنه لا غِنَى لأحدٍ عنها.
ولَمَّا ذكرَ اللهُ سبحانَهُ ما يدلُّ على توحيدهِ وما أنعمَ به، فقالَ تعالى :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي بَرِّئِ اللهَ مما يقولُ الظَّالمون في وصفهِ ونَزِّهْهُ عمَّا لا يليقُ به. وفي الحديثِ :" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ ﷺ :" اجْعَلُوهَا فيِ رُكُوعِكُمْ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ ؛ معناهُ : فأُقسِمُ، وإنما دخلت (لاَ) زائدةً للتوكيدِ، ويجوزُ أن يكون قولهُ :﴿ فَلاَ ﴾ رَدّاً لِمَا يقولهُ الكفَّارُ في القرآنِ : أنه سِحرٌ أو شعرٌ أو كهانة، ثم استأنفَ القسَمَ على أنه قرآنٌ كريم في كتابٍ مكنون، ويعني بقوله ﴿ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ نجومُ القرآنِ التي كانت تنْزِلُ على رسولِ الله متفرِّقاً قِطَعاً نُجوماً، وَقِيْلَ : يعني مغاربَ النُّجوم ومساقِطَها، وقرأ حمزةُ والكسائي (مَوْقِعَ) على المصدر، والمصدرُ يصلح للواحدِ والجمع.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ؛ قال الزجَّاجُ :(هَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمُرَادَ بمَوَاقِعِ النُّجُومِ نُزُولَ الْقُرْآنِ) والضميرُ في (إنَّهُ) يعودُ على القَسَمِ ودلَّ عليه (أقْسِمُ)، والمعنى : أنَّ القسَمَ بمواقعِ النجومِ عظيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ ؛ هذا جوابُ القسَمِ، ومعناهُ : كثيرُ الخير دالٌّ على أنه من عندِ الله لأنَّهُ لا يأتِي أحدٌ بمثلهِ ﴿ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾ ؛ هَهُنا هو اللوحُ المحفوظُ مَصُونٌ عن التغيُّرِ والتبديلِ والزيادةِ والنقصان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ قال بعضُهم : الضميرُ يعود إلى الكتاب الْمَكْنُونِ، معناهُ : لا يَمَسُّ اللوحَ المحفوظَ إلاّ المطَهَّرون من الذُّنوب وهم الملائكةُ. وقال : الضميرُ يعود إلى القرآنِ، ومعناهُ : الْمُصْحَف لا يَمسُّه إلاَّ المطهَّرون من الأحداثِ والجناباتِ والحيضِ، كما رُوي عن النبيِّ ﷺ :" لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلاَّ طَاهِرٌ ".
وَقِِيْلَ : معنى الآيةِ : لا يعملُ به إلاّ الموَفَّقُون. وَقِيْلَ : لا يجدُ حلاوتَهُ إلاّ المفسِّرون : وَقِيْلَ : معناهُ : لا يقرَؤُه إلاّ الموحِّدُون المطَهَّرون من الشِّركِ، وكان ابنُ عبَّاس (يَنْهَى أنْ يُمَكَّنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ). وَقِيْلَ : معناهُ : لا يَجِدُ لذتَهُ إلاّ مَن آمَنَ به. وَقِيْلَ : لا يُوفَّقُ للعملِ به إلاّ السُّعداءُ.
فظاهرُ الآيةِ : لا يجوزُ للمُحْدِثِ مَسُّ المصحفِ، وإنْ كان ظاهِرُها نفيٌ، فمعناهُ : النهيُ ؛ أي لا يَمَسُّ المصحفَ إلاّ المطَهَّرون من الأحدَاثِ، وإلى هذا ذهبَ جمهورُ الفقهاءِ.
وذهبَ حكيمُ وداودُ بن عليٍّ إلى أنه يجوزُ للمُحدِثِ مسُّ المصحَفِ اذا كان مُسلِماً، ولا يجوزُ ذلك للمُشركِ.
والدليلُ على أنه لا يجوزُ للمُحدِثِ مسُّهُ قوله عليه السلام :" لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إلاَّ وَأنْتَ طَاهِرٌ " وعليه إجماعُ الصَّحابة. وسُئِلَ عليٌّ رضي الله عنه : أيَمَسُّ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ ؟ فَقَالَ :(لاَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أفَبهذا القرآنِ الذي يُقرَأُ عليكم يا أهلَ مكَّة أنتم تَكفُرون وتُكَذِّبون. والْمُدْهِنُ والْمُدَاهِنُ : الكذابُ المنافقُ. وَقِيْلَ : معنى تُدهِنُونَ : تُظهِرُونَ خلافَ ما تُضمِرُونَ، مأخوذٌ من الدُّهنِ ومُدَاهَنَةِ العدوِّ ومُلايَنَتِهِ ومُصانَعتِهِ وإظهار مُسالَمَتهِ خلافَ ما يضمرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ ؛ أي وتجعَلون شُكرَكم أنَّكم تكذِّبون بنعمةِ اللهِ عليكم، فيقولون : سُقِينَا بنَوءِ كذا. وذلك أنَّهم كانوا يقُولون : مُطِرنَا بنَوءِ كذا، لا يَنسِبُون السُّقيا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فقيلَ لهم : وتجعَلُون شُكرَ رزقكم التكذيبَ ؛ أي تجعلون بدلَ شُكرِكم تكذيبَكم بأنه من عندِ الله الرزَّاق.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قالَ :" لَوْ حَبَسَ اللهُ عَنْ أُمَّتِي الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ لأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ : مُطِرْنَا ".
ورُوي :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ خَرَجَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلُواْ فَأَصَابَهُمُ الْعَطَشُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَذكَرُواْ ذلِكَ لِلنَّبيِّ ﷺ فَقَالَ :" أرَأيْتُمْ إنْ دَعَوْتُ لَكُمْ إنْ سُقِيتُمْ، فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ : سُقِينَا هَذا الْمَطَرَ بنَوْءِ كَذا ؟ " فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ مَا هَذا بحِينِ الأَنْوَاءِ! فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهَاجَتِ ريحٌ ثُمَّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ، فَمُطِرُوا حَتَّى سَالَتِ الأَوْدِيَةُ وَمَلأَوا الأَسْقِيَةَ.
فَرَكِبَ ﷺ فَمَرَّ برَجُلٍ يَغْرِفُ بقَدَحٍ لَهُ وَهُوَ يَقُولُ : سُقِينَا بنَوءِ كَذا، وَلَمْ يَقُلْ : هَذا مِنْ رزْقِ اللهِ تَعَالَى. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ " أي وتجعَلُون شُكرَكم للهِ على رزقهِ إيَّاكم أنَّكم تُكذِّبون بنعمَتهِ، وتقولون : سُقينا بنوءِ كذا.
وعن معاويةَ الليثي : أنَّ رَسُولَ اللهَ ﷺ قَالَ :" يُصْبحُ النَّاسُ مُجْدِبينَ، فَيَأْتِيَهُمُ اللهُ برِزْقٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبحُونَ مُشْرِكِينَ، يَقُولُونَ : مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذا وَكَذا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ ؛ معناه : وهلاَّ إذا بلَغَتِ النَّفسُ الحلقومَ عند الموتِ، ﴿ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ ﴾ ؛ يا أهلَ الميِّت، ﴿ تَنظُرُونَ ﴾ ؛ مَآلَ الميتِ، وأنتم حولَهُ ترَونَ نفسَهُ تخرجُ ولا تقدِرون على ردِّها، ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ﴾ ؛ منكم، ورسُلنا أقربُ إليه، ﴿ مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ﴾.
ويجوزُ أن يكون معناهُ : يعني مَلَكَ الموتِ وأعوانَهُ، والمعنى : ورسُلنا القابضُون روحَهُ أقربُ إليه منكم، ويجوزُ أن يكون معناهُ : ونحنُ أقربُ إليه منكم بالعلمِ والقُدرَةِ، نراهُ من غيرِ مسافةٍ بيننا وبينَهُ، وأنتم لا تنظرونَهُ إلاَّ بمسافةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أي فهلاَّ إن كنتم غيرَ مجزيين ومحاسَبين كما تزعُمون ترُدُّون نفسَ هذا الميِّت إلى جسدهِ إذا بلغَتْ تَرَاقِيَهُ إنْ كُنتم صَادِقين في ظنِّكم أنَّ لكم شَيئاً من القُدرةِ، فعجزُكم عن ردِّ هذه الروحِ إلى الجسدِ دليلٌ على أنَّكم مَقهُورون عاجزون.
والمعنَى : إنْ كان الأمرُ كما يقولون إنَّهُ لا بعثَ ولا حسابَ ولا جزاءَ ولا إلهَ يحاسِبُ ويُجازي، فهلاَّ تردُّون نفسَ من يعزُّ عليكم إذا بلغتِ الحلقومَ، وإذا لم تقدروا على ذلك فاعلَمُوا أنَّ الأمرَ إلى غيرِكم وهو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَرْجِعُونَهَآ ﴾ جوابٌ عن قولهِ ﴿ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ أُجيب بجوابٍ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴾ ؛ معناهُ : فأما إنْ كان هذا المحتضِرُ الذي بلغَت نفسهُ الحلقومَ من السَّابقين المقرَّبين عندَ اللهِ، فله رَوْحٌ وهو الرَّوحُ والاستراحةُ، وقال مجاهد :(الرَّوْحُ : الْفَرَحُ، وَرَيْحَانٌ يَعْنِي الرِّزْقَ فِي الْجَنَّةِ). قرأ الحسنُ وقتادة ويعقوب :(فَرُوحٌ) بضمِّ الراء، معناهُ : الحياةُ الدائمةُ التي لا موتَ فيها.
ويقالُ : إن الرَّوح بنصب الراء نسيمٌ تستريحُ إليه النفسُ، والرَّيحانُ هو السَّمُومُ، قال أبو العاليةِ :(يُؤْتَى بَعْضٌ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيَشُمُّهُ قَبْلَ أنْ يُفَارقَ الدُّنْيَا ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحُهُ). وقال أبو بكر الوراق :(الرَّوحُ النَّجَاةُ مِنَ النَّار، وَالرَّيْحَانُ دُخُولُ الْقَرَار).
وقال الترمذيُّ :(الرَّوْحُ فِي الْقَبْرِ، وَالرَّيْحَانُ دُخُولُ الْجَنَّةِ). وقال بسطامُ :(الرَّوْحُ السَّلاَمَةُ، وَالرَّيْحَانُ الْكَرَامَةُ). وقال الشعبيُّ :(الرَّوْحُ مُعَانَقَةُ الأَبْكَار، وَالرَّيْحَانُ مُرَافَقَةُ الأَبْرَار).
وَقِيْلَ : الرَّوحُ كَشفُ الكروب، والريحانُ غُفران الذنوب. وَقِيْلَ : الرَّوح تخفيفُ الحساب، والريحانُ تضعيفُ الثواب، وَقِيْلَ : الرَّوح عَفوٌ بلا عتابٍ، والرَّيحان رزقٌ بلا حسابٍ. وَقِيْلَ : الرَّوح لأرواحِهم، والريحانُ لقلوبهم، وجنةُ النعيمِ لأبدانِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ ؛ معناهُ : وأما إنْ كان هذا المتوفَّى من أصحاب اليمين، يعني من عامَّة المؤمنينَ دون السابقين، فسلامٌ لكَ أيُّها الإنسانُ الذي مِن أصحاب اليمين مِن عذاب الله، وسلَّمت عليكَ ملائكةُ اللهِ، وسَلِمْتَ مما تكرهُ لأنَّك من أصحاب اليمين، وترَى في الجنةِ ما يجبُ من السَّلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَلاَمٌ لَّكَ ﴾ رُفع على معنى : لكَ سلامٌ ؛ أي سلامةٌ من العذاب. وَقِيْلَ : معناهُ : فسلامٌ عليكَ من أصحاب اليمين.
قَوْلُهُ تَعََالَى :﴿ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ ؛ وأما إنْ كان هذا المتوفَّى من المكذِّبين بالبعثِ والرسالةِ، ﴿ الضَّآلِّينَ ﴾ ؛ من الْهُدَى، ﴿ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ﴾ ؛ أي فالحقُّ الذي يُعَدُّ له حميمُ جهنَّمَ، ﴿ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ﴾، أي أُدخِلَ ناراً عظيمةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ ؛ يعني ما ذُكِرَ من قصَّة الْمحتَضِرين، وجميعُ ما سبقَ ذِكرهُ ليقينٌ حقُّ اليقينِ لا شكَّ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي نَزِّهِ اللهَ عن السُّوء، والباءُ زائدةٌ، والاسمُ بمعنى الذات والنفسِ، كأنه قِيْلَ : فسبح ربَّكَ العظيمَ.
Icon