ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المعارجوهي مكية لا خلاف بين الرواة في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠)
قرأ جمهور السبعة: «سأل» بهمزة مخففة، قالوا والمعنى: دعا داع، والإشارة إلى من قال من قريش:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢]. وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث، وإلى من قال: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦]، ونحو هذا، وقال بعضهم المعنى: بحث باحث، واستفهم مستفهم، قالوا والإشارة إلى قول قريش: متى هذا الوعد؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة، فأما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن، كأنه قال عن عذاب، وهذا كقول علقمة بن عبدة: [الطويل]
فإن تسألوني بالنساء فإنني | بصير بأدواء النساء طبيب |
سالت هذيل رسول الله فاحشة | ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب |
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ معناه: تصعد على أصل اللفظة في اللغة. وَالرُّوحُ عند جمهور العلماء: هو جبريل عليه السلام خصصه بالذكر تشريفا. وقال مجاهد: الرُّوحُ ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة. وقال بعض المفسرين: هو اسم الجنس في أرواح الحيوان.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق: المعنى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ من أيامكم هذه مقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة، وقاله ابن إسحاق فمن جعل «الروح» جبريل أو نوعا من الملائكة قال: المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش، قاله مجاهد. ومن جعل «الروح» جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى منتهى العرش علوا، قاله وهب بن منبه. وقال قوم المعنى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ في نفسه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من أيامكم، ثم اختلفوا في تعيين ذلك اليوم، فقال عكرمة والحكم: أراد مدة الدنيا فإنها خمسون ألف سنة، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما بقي، فالمعنى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ في مدة الدنيا، وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في «الروح» أن يكون جنس أرواح الحيوان، وقال ابن عباس وغيره: بل اليوم المشار إليه يوم القيامة ثم اختلفوا، فقال بعضهم قدره في الطول قدر خمسين ألف سنة، وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة، تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف سنة». وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته ورزاياه للكفار قدر خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وهذا كما تقول في اليوم العصيب، إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد، قيل يا رسول الله ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة، فقال: «والذي نفسي بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة»، وقال عكرمة: المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب قدر ما ينقضي بالعدل في خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من أيام الدنيا. وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف. والعامل في قوله فِي يَوْمٍ على قول من قال إنه يوم القيامة قوله دافِعٌ وعلى سائر الأقوال تَعْرُجُ، وقرأ جمهور القراء: «تعرج» بالتاء من فوق، وقرأ الكسائي وحده: «يعرج» بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي، وبالياء من تحت قرأ ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي قراءة
عكر الزيت قاله ابن عباس وغيره، فهي لسوادها وانكدار أنوارها تشبه ذلك. والمهل أيضا: ماء أذيب من فضة ونحوها قاله ابن مسعود وغيره: فيجيء له ألوان وتميع مختلط، والسماء أيضا- للأهوال التي تدركها- تصير مثل ذلك، و «العهن» : الصوف دون تقييد. وقد قال بعض اللغويين: هو الصوف المصبوغ ألوانا، وقيل المصبوغ أي لون كان، وقال الحسن: هو الأحمر، واستدل من قال إنه المصبوغ ألوانا بقول زهير:
[الطويل]
كأن فتات العهن في كل منزل | نزلن به حب الفنا لم يحطم |
وقيل المعنى: لا يسأل عن ذنبه وأعماله ليؤخذ بها وليزر وزره.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١١ الى ٢٣]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠)
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣)
إذا بصّرتك البيداء فاسري... وأما الآن فاقتصدي وقيلي
وقرأ قتادة بسكون الباء وكسر الصاد خفيفة، فقال مجاهد: يُبَصَّرُونَهُمْ معناه يبصر المؤمنون الكفار في النار، وقال ابن زيد: يبصر الكفار من أضلهم في النار عبرة وانتقاما عليهم وخزيا لهم.
الْمُجْرِمُ في هذه الآية الكافر بدليل شدة الوعد وذكر لَظى وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الافتداء، وقرأ جمهور الناس: «يومئذ» بكسر الميم، وقرأ الأعرج بفتحها، ومن حيث أضيف إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان. وقرأ أبو حيوة «من عذاب» منونا «يومئذ» مفتوح الميم، والصاحبة: هنا الزوجة، والفصيلة في هذه الآية قرابة الرجل الأدنون، مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وسلم، والفصيلة في كلام العرب: أيضا الزوجة، ولكن ذكر الصاحبة في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة إلا الوجه الذي ذكرناه. وقوله ثُمَّ يُنْجِيهِ الفاعل هو الفداء الذي تضمنه قوله لَوْ يَفْتَدِي فهو المتقدم الذكر. وقرأ الزهري «تؤويه» و «تنجيه» برفع الهاءين، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى رد لقولهم وما ودوه أي ليس الأمر كذلك، ثم ابتدأ الإخبار عن لَظى وهي طبقة من طبقات جهنم، وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها وهولها. وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر والناس: «نزاعة» بالرفع، وقرأ حفص عن عاصم: «نزاعة» بالنصب، فالرفع على أن تكون لَظى بدلا من الضمير المنصوب، «ونزاعة» خبر «إن» أو على إضمار مبتدأ، أي هي نزاعة أو على أن يكون الضمير في إِنَّها للقصة، ولَظى ابتداء و «نزاعة» خبره، أو على أن تكون لَظى خبر و «نزاعة» بدل من لَظى، أو على أن تكون لَظى خبرا و «نزاعة» خبرا بعد خبر. وقال الزجاج: «نزاعة»، رفع بمعنى المدح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره هي نزاعة، لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك القطع رفعا بإضمار مبتدأ أو نصبا بإضمار فعل. ومن قرأ بالنصب فذلك إما على مدح لَظى كما قلنا، وإما على الحال من لَظى لما فيها من معنى التلظي، كأنه قال: كلا إنها النار التي تتلظى نزاعة، قال الزجاج: فهي حال مؤكدة و: «الشوى» جلد الإنسان، وقيل جلد الرأس والهامة، قاله الحسن. ومنه قول الأعشى: [مجزوء الكامل]
قالت قتيلة ماله... قد جللت شيبا شواته
ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه الرواية. قال أبو عبيدة: سمعت أعرابيا يقول اقشعرت شواتي، و «الشوى» أيضا: قوائم الحيوان، ومنه عبل الشوى، و «الشوى» أيضا: كل عضو ليس بمقتل، ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل، وقال ابن جرير: «الشوى» العصب والعقب، فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم وتنزعه. وقوله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يريد الكفار، واختلف الناس في دعائها، فقال ابن عباس وغيره: هو حقيقة تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال الخليل بن أحمد هي عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها، وقال ثعلب: تَدْعُوا، معناه: تهلك، تقول العرب: دعاك الله أي أهلكك، وحكاه الخليل عن العرب، و «أوعى» معناه: جعلها في الأوعية تقول: وعيت العلم وأوعيت المال والمتاع، ومنه قول الشاعر [عبيد بن الأبرص] :[البسيط]
الخير يبقى وإن طال الزمان به | والشر أخبث ما أوعيت من زاد |
«شر ما في الإنسان شح هالع». وقوله إِذا مَسَّهُ، الآية، مفسر للهلع، وقوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي إلا المؤمنين الذين أمر الآخرة أوكد عليهم من أمر الدنيا، والمعنى أن هذا المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدون بالتقوى، وقرأ الجمهور: «على صلاتهم» بالإفراد، وقرأ الحسن: «صلواتهم» بالجمع. وقوله تعالى:
دائِمُونَ قال الجمهور المعنى: مواظبون قائمون لا يملون في وقت من الأوقات فيتركونها وهذا في المكتوب، وأما النافلة فالدوام عليها الإكثار منها بحسب الطاقة، وقد قال عليه السلام: «أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه». وقال ابن مسعود: الدوام صلاتها لوقتها، وتركها كفر، وقال عقبة بن عامر:
دائِمُونَ يقرؤون في صلاتهم ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا. ومنه الماء الدائم.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٢٤ الى ٣١]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١)
قال قتادة والضحاك: «الحق المعلوم» هي الزكاة المفروضة، وقال الحسن ومجاهد وابن عباس: هذه الآية في الحقوق التي في المال سوى الزكاة وهي ما ندبت الشريعة إليه من المواساة، وقد قال ابن عمر ومجاهد والشعبي وكثير من أهل العلم: إن في المال حقا سوى الزكاة وهذا هو الأصح في هذه الآية لأن السورة مكية، وفرض الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة. و «السائل» : المتكفف، «والمحروم» المحارف الذي قد ثبت فقره ولم تنجح سعاياته لدنياه، قالت عائشة: هو الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وقال بعض أهل العلم، «المحروم» : من احترق زرعه، وقال بعضهم «المحروم» : من ماتت ماشيته، وهذه أنواع الحرمان لأن الاسم يستلزم هذا خاصة، وقال عمر بن عبد العزيز «المحروم» : الكلب أراد، والله أعلم أن يعطي مثالا من الحيوان ذي الكبد الرطبة لما فيه من الأجر حسب الحديث المأثور، وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم. وحكى عنه النقاش أنه قال: وهو ابن سبعين سنة سألت عنه وأنا غلام فما وجدت شفاء.
قال القاضي أبو محمد: يرحم الله الشعبي فإنه في هذه المسألة محروم، ولو أخذه اسم جنس فيمن عسرت مطالبه بان له، وإنما كان يطلبه نوعا مخصوصا كالسائل، ويوم الدِّينِ هو يوم القيامة، سمي
كما تدين تدان ومنه قول الفند الزماني: [الهزج]
ولم يبق سوى العدوا... ن دنّاهم كما دانوا
والإشفاق من أمر يتوقع، لأن نيل عذاب الله للمؤمنين متوقع، والأكثر ناج بحمد الله، لكن عذاب الله لا يأمنه إلا من لا بصيرة له، والفروج في هذه الآية: هي الفروج المعروفة، والمعنى من الزنى، وقال الحسن بن أبي الحسن أراد فروج الثياب وإلى معنى الوطء يعود. ثم استثنى تعالى الوطء الذي أباحه الشرع في الزوجة والمملوكات. وقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ وحسن دخول عَلى في هذا الموضوع قوله: غَيْرُ مَلُومِينَ، فكأنه قال: إلا أنهم غير ملومين على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.
وقوله تعالى: ابْتَغى معناه: طلب، وقوله: وَراءَ ذلِكَ معناه: سوى ما ذكر، كأنه أمر قد حد فيه حد، فمن طلب بغيته وراء الحد فهو كمستقبل حد في الأجرام وهو يتعدى، وراءه: أي خلفه، والعادُونَ:
الذين يتجاوزون حدود الأشياء التي لها حدود كان ذلك في الأجرام أو في المعنى.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٣٢ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)
الأمانات: جمع أمانة، وجمعها لأنها تكون متنوعة من حيث هي في الأموال وفي الأسرار فيما بين العبد وربه فيما أمره ونهاه عنه، قال الحسن: الدين كله أمانة. وقرأ ابن كثير وحده من السبعة: «لأمانتهم» بالإفراد، والعهد: كل ما تقلده الإنسان من قول أو فعل أو مودة، إذا كانت هذه الأشياء على طريق البر، فهو عهد ينبغي رعيه وحفظه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حسن العهد من الإيمان» و: راعُونَ جمع راع أي حافظ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ معناه في قول جماعة من المفسرين:
أنهم يحفظون ما يشهدون فيه، ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا يكون لهم فيه تقصير، وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهد». وقال آخرون معناه الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا بشهادهم، وقال ابن عباس: شهادتهم في هذه الآية: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له». وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها»، واختلف الناس في معنى هذا الحديث بحسب المعنيين اللذين ذكرت في الآية، إحداهما: أن يكون يحفظهما متقنة فيأتي بها ولا يحتاج أن يستفهم عن شيء منها ولا أن يعارض. والثاني: إذا رأى حقا يعمل بخلافه وعنده في إحياء الحق شهادة. وروي أيضا عن النبي صلى الله
واختلف الناس في معنى هذا الحديث، فقال بعض العلماء: هم قوم مؤمنون يتعرضون ويحرصون على وضع أسمائهم في وثائق الناس، وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيئة وهم غير عدول في أنفسهم فيغرون بذلك ويضرون.
قال القاضي أبو محمد: فهذا في ابتداء الشهادة لا في أدائها، ويجيء قوله عليه السلام: «ولا يستشهدون»، أي وهم غير أهل لذلك، وقال آخرون من العلماء: هم شهود الزور، لأنهم يؤدونها والحال لم تشهدهم ولا المشهود عليه، وقرأ حفص عن عاصم: «بشهاداتهم» على الجمع وهي قراءة عبد الرحمن، والباقون «بشهادتهم» على الإفراد الذي هو اسم الجنس. والمحافظة على الصلاة إقامتها في أوقاتها بشروط صحتها وكمالها، وقال ابن جريج: يدخل في هذه الآية التطوع. وقوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الآية نزلت بأن رسول الله ﷺ كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض:
شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك. وقِبَلَكَ معناه فيما يليك، و: «المهطع» الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره. وقال ابن زيد: لا يطرف، و: عِزِينَ جمع عزة، قال بعض النحاة أصلها عزوة، وقال آخرون منهم: أصلها عزهة، وجمعت بالواو والنون عوضا مما انحذف منها نحو سنة وسنون، ومعنى العزة: الجمع اليسير فكأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ومنه قول الراعي: [الكامل]
أخليفة الرحمن إن عشيرتي | أمسى سوامهم عزين فلولا |
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)
و: الْأَجْداثِ القبور، والنصب: ما نصب للإنسان فهو يقصد مسرعا إليه من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا الاسم في الأصنام حتى قيل لها الأنصاب، ويقال لشبكة الصائد نصب.
وقال أبو العالية إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ معناه: إلى غايات يستبقون. وقرأ جمهور السبعة وأبو بكر عن عاصم «نصب» بفتح النون، وهي قراءة أبي جعفر ومجاهد وشيبة وابن وثاب والأعرج، وقرأ الحسن وقتادة بخلاف عنهما: «نصب» بضم النون. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: «نصب» بضم النون والصاد وهي قراءة الحسن أيضا وأبي العالية وزيد بن ثابت وأبي رجاء وقرأ مجاهد وأبو عمران الجوني «إلى نصب» بفتح النون والصاد ويُوفِضُونَ معناه: يسرعون ومنه قول الراجز: [الرجز]
لأنعتنّ نعامة ميفاضا | خرجاء ظلت تطلب الاضاضا |
نجز تفسير «سورة المعارج» والحمد لله كثيرا.