تفسير سورة نوح

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة نوح من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام، أنه أرسله إلى قومه، آمراً له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم، ولهذا قال تعالى :﴿ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي بيّن النذارة، ظاهر الأمر واضحه ﴿ أَنِ اعبدوا الله واتقوه ﴾ أي اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه، ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ أي إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم، ﴿ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب، وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث :« صلة الرحم تزيد في العمر »، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنَّ أمره تعالى لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قد قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( نوح ) عليه السلام، أنه اشتكى إلى ربه عزَّ وجلَّ، ما لقي من قومه من تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وما بيّن لقومه ووضّح لهم فقال :﴿ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ﴾ أي لم أترك دعاؤهم في ليل ولا نهار، وامتثالاً لأمرك وابتغاء لطاعتك، ﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً ﴾ أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق، فروا منه وحادوا عنه، ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ ﴾ أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه، كما أخبر تعالى عن كفار قريش ﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ]، ﴿ واستغشوا ثِيَابَهُمْ ﴾ قال ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم، وقال السدي : غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول، ﴿ وَأَصَرُّواْ ﴾ أي استمروا على ما هم فيه من الشرك، والكفر العظيم الفظيع، ﴿ واستكبروا استكبارا ﴾ أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له، ﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ﴾ أي جهرة بين الناس، ﴿ ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ ﴾ أي كلاماً ظاهراً بصوت عال ﴿ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ﴾ أي فيما بيني وبينهم، فنوّع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم، ﴿ فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ﴾ أي ارجعوا إليه وإرجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب الله عليه، ﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ أي متواصلة الأمطار، قال ابن عباس : يتبع بعضه بعضاً، وقوله تعالى :﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ﴾ أي إذا تبتم إلى الله وأطعتموه، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأمدّكم ﴿ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ أي أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها، هذا مقام الدعوة بالترغيب، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب، فقال :﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾ ؟ أي عظمة قال ابن عباس : لم لا تعظمون الله حق عظمته، أي لا تخافون من بأسه ونقمته ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾ قيل : معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة قاله ابن عباس وقتادة.
وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً ﴾ أي واحدة فوق واحدة، ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرّة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى :﴿ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً * وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً ﴾ أي فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدّر للقمر منازل وبروجاً، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال تعالى :
2614
﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ هذا اسم مصدر والإيتان به ههنا أحسن، ﴿ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ﴾ إي إذا متم ﴿ وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ﴾ أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة، ﴿ والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً ﴾ أي بسطها ومهدها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات، ﴿ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ﴾ أي خلقها لكم لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها، ينبههم نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السماوات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء، والأرض مهاداً، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد.
2615
يقول تعالى : مخبراً عن نوح عليه السلام، أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه، واتبعوا من غفل عن أمر الله، ومتع بمال وأولاده، وهي في نفس الأمر استدراج لا إكرام، ولهذا قال :﴿ واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ قال مجاهد :﴿ كُبَّاراً ﴾ أي عظيماً، وقال ابن زيد :﴿ كُبَّاراً ﴾ أي كبيراً، والعرب تقول : أمر عجيب وعجاب وعجّاب، بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، ﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ أي باتباعهم لهم وهم على الضلال، كما يقولون لهم يوم القيامة :﴿ بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ [ سبأ : ٣٣ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ( ود ) فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما ( سُواع ) فكانت لهذيل، وأما ( يغوث ) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما ( يعوق ) فكانت لهمدان، وأما ( نسر ) فكانت لحمير لال ذي كلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت. وقال ابن جرير عن محمد بن قيس ﴿ وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ قال : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم، لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم، وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً ﴾ يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقاً كثيراً، فإنه استمرت عبادتها إلى زماننا هذا، في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم، وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه :﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ]. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً ﴾ دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون وملئه في قوله :﴿ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٨٨ ] وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.
يقول تعالى :﴿ مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ ﴾ أي من كثرة ذنوبهم وعتوهم، وإصرارهم على كفرهم، ومخالفتهم رسولهم، ﴿ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ﴾ أي نقلوا من البحار إلى حرارة النار، ﴿ فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً ﴾ أي لم يكن لهم معين ولا مجير، ينقذهم من عذاب الله، كقوله تعالى :﴿ قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾ [ هود : ٤٣ ]. ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً ﴾ أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحداً، ولا ﴿ دَيَّاراً ﴾ وهذه من صيغ تأكيد النفي، قال الضحّاك ﴿ دَيَّاراً ﴾ واحداً، وقال السدي : الديار الذي يسكن الدار، فاستجاب الله له فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين، حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه، وقال :﴿ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء ﴾ [ هود : ٤٣ ] عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها، ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفع ولدها بيدها، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم هذه المرأة »، ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا من نوح عليه السلام وهم الذين أمره الله بحملهم معه، وقوله تعالى :﴿ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ ﴾ أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك اي الذين تخلقهم بعدهم ﴿ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ﴾ أي فاجراً في الأعمال كافر القلب، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ثم قال :﴿ رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ﴾ قال الضحّاك يعني مسجدي، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن، وقد روى الإمام أحمد، عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« لا تصحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي »، وقوله تعالى :﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ﴾ دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء منهم والأموات، ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية المشهورة المشروعة، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً ﴾ قال السدي : إلاّ هلاكاً. وقال مجاهد : إلاّ خساراً أي في الدنيا والآخرة.
Icon