تفسير سورة المدّثر

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

فأدركه الخطاب الإلهي المشعر بنوع من العتاب فأدبه سبحانه وأخرجه من سجن الطبيعة وملابس الهيولى بالكلية حيث قال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ربي حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فطرة المعرفة والتوحيد الرَّحْمنِ عليه حيث أخرجه عن مضيق الإمكان المستلزم لانواع التخمين والتقليد الرَّحِيمِ عليه يوصله الى سماء التجريد ويمكنه الى فضاء التفريد
[الآيات]
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المتدثر المتغطى بملابس الطبيعة وثياب الإمكان المورثة لانواع الخيبة والخسران واصناف الحرمان والخذلان الى متى كنت فيها مقيما
قُمْ من عالم الطبيعة واخرج من مضيق بقعة الإمكان وسجن عالم الناسوت سيما بعد انكشافك بطلائع فضاء عالم اللاهوت وبعد ما خلصت من قيود الطبيعة وأغلال الهيولى فَأَنْذِرْ منها عموم بنى نوعك وخوف المحبوسين في سجن الإمكان المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان من دركات النيران وعن اودية الضلالات والجهالات المترتبة على الأوهام والخيالات الباطلة الموجبة لانواع الحرمان والخسران في النشأة الاولى والاخرى
وَخصص يا أكمل الرسل رَبَّكَ الذي رباك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التبجيل والتعظيم فَكَبِّرْ ذاته تكبيرا كاملا الى حيث لا يخطر ببالك معه شيء في الوجود إذ هو المتفرد المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا شيء سواه ولا اله الا هو
وَبعد ما انكشفت بوحدة ربك وكبرته تكبيرا لائقا بشأنه ثِيابَكَ التي هي ملابس بشريتك وملاحف هويتك فَطَهِّرْ أوساخ الإمكان واقذار الطبيعة وإكدار الهيولى فان طهارتك عنها واجبة عليك سيما عند ميلك الى مقصد الوحدة
وَالرُّجْزَ اى الرجس العارض لبشريتك من التقليدات المورثة والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الردية والملكات الغير المرضية الناشئة من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية الى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية فَاهْجُرْ اى جانب وافترق ليمكن لك التخلق بأخلاق الله والاتصاف بأوصافه ومن جملة الأخلاق المذمومة بل من معظمها المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات وعلى عباده بالتصدق والانفاق عليهم
وَبعد ما سمعت ما سمعت لا تَمْنُنْ على الله مباهيا بطاعتك وعلى عباده تفوقا عليهم وترفعا تَسْتَكْثِرُ وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك وامتنانه لك بما لا مزيد عليه او المعنى لا تمنن تستكثر اى لا تعط أحدا شيأ على نية ان تستكثر وتستعوض منه بدلا مما أعطيته على مقتضى القراءتين
وَبالجملة لِرَبِّكَ الذي رباك على الخلق العظيم فَاصْبِرْ على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات وعلى اذيات المشركين حين تبليغ الدعوة لهم وإيصال الوحى إليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من الوصايا امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاء عن اهوال يوم الجزاء وافزاعها
فَإِذا نُقِرَ ونفخ أولا فِي النَّاقُورِ اى الصور المصور لتصويت الأموات ليبعثوا من قبورهم احياء كما كانوا. ثم نفخ ثانيا ليحشروا ويحاسبوا بين يدي الله ثم يجازوا حسب ما يحاسبوا ان خيرا فخير وان شرا فشر
فَذلِكَ اى وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ ووقت صعب وحين مهيب سيما
عَلَى الْكافِرِينَ إذ قد عسر عليهم حينئذ الأمر واشتد الهول وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم وبالجملة غَيْرُ يَسِيرٍ عليهم حسابهم لذلك قد عسر عليهم وبعد ما تحققت وانكشفت يا أكمل الرسل بقيام يوم القيامة ووقوعها وبتنقيد الأعمال فيها والجزاء عليها لا تستعجل بانتقام المشركين المسرفين ولا تعجل عليهم بل
ذَرْنِي واتركني يا أكمل الرسل
وَمَنْ خَلَقْتُ اى مع شخص قد خلقته وَحِيداً فريدا من اهل عصره مفروزا منهم بكثرة الأموال والأولاد وبالجاه والثروة والسيادة والرياسة الى حيث لقب بين قومه بريحانة قريش يعنى وليد بن المغيرة
وَجَعَلْتُ لَهُ توسيعا عليه افتتانا له وابتلاء مالًا مَمْدُوداً كثيرا وافرا متزايدا يوما فيوما بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك من صور الأرباح
وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه دائما لا ينفصلون عنه زمانا لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر الأعمال والمصالح لكثرة خدمهم وحشمهم بحيث لا احتياج في تهيئة الأسباب الى ترددهم بأنفسهم لذلك يحضرون معه في عموم المحافل والمجالس والأندية تكميلا لثروته ووجاهته
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً اى قد جعلت له بسطة واستيلاء بحيث يتحسر من حاله جميع بطون العرب وافخاذه ومع تلك الوجاهة العظمى والكرامة الكبرى الموهوبة له من لدنى لم يشكر لى ولم يرجع الى قط
ثُمَّ يَطْمَعُ ويرجو منى أَنْ أَزِيدَ على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام مع انه مصر على الكفر والكفران وانواع الفسوق والعصيان
كَلَّا اى كيف أزيد عليه مع ان كفرانه وطغيانه يوجب زوال ما اعطى له وكيف لا يوجبه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا الدالة على كمال عظمتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام عَنِيداً معاندا منكرا وعناده هذا امارة زوال ماله وثروته وجاهه وبالجملة
سَأُرْهِقُهُ اى سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الاخرى صَعُوداً هي عقبة شاقة المصعد والمهوى فاكلفه بالزجر التام على الصعود والهبوط دائما بحيث لا نجاة له منها ابدا. وعنه عليه السلام الصعود جبل من نار يصعد فيه اهل النار سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك ابدا وهو مثل لما يلقى من الشدائد وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه
إِنَّهُ من شدة شكيمته وخباثة طينته قد فَكَّرَ في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه قدحا وطعنا وَبعد ما لم يجد فيه مطعنا قَدَّرَ في نفسه بمقتضى خباثته ما يتفوه به ويقول فيه على سبيل القدح والطعن. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب من افكه وتقديره
فَقُتِلَ اى لعن وطرد هذا الطاغي الباغي المتناهي في البغي والطغيان كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن قدحا مع انه منزه عن القدح مطلقا
ثُمَّ قُتِلَ وطرد ذلك المعاند الطاغي كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل كرره سبحانه مبالغة في التعجب والاستبعاد
ثُمَّ نَظَرَ كرة بعد اولى ومرة بعد اخرى في القرآن
ثُمَّ لما لم يجد فيه طعنا مع انه من ارباب اللسان والفصاحة والبيان والبلاغة عَبَسَ اى قطب وجهه وكلح واستكره منه استكراها شديدا وَبَسَرَ اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماما بليغا ومبالغة بليغة فلم يجد وأيس ملوما مخذولا
ثُمَّ بعد ما تدبر ذلك مرارا وفكر هكذا تكرارا فلم يجد ما يتمسك به وما يقدح فيه بسببه أَدْبَرَ عن الايمان به وعن تصديقه بعد ما اشرف على الإقبال بالإيمان به وقبوله وَبالجملة ما حمله على الأدبار الا انه قد اسْتَكْبَرَ واستحيا عن اتباعه
فَقالَ بعد اللتيا والتي إِنْ هذا اى ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ اى يروى ويتعلم
إِنْ هذا وما هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ما هو من الوحى وكلام الله كما ادعاه محمد مفتريا على الله. روى انه مر الوليد بن المغيرة بالنبي عليه السلام وهو يقرأ حم السجدة فسمعه بسمع الرضا متدبرا في أسلوبه ونظمه ثم اتى قومه فقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما والله ما هو من جنس كلام الانس والجن ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعاليه لمثمرة وان اسافله لمغدقة وانه يعلو ولا يعلى عليه ثم خرج فقال قريش والله قد صبأ الوليد ولتصبأن قريش كلهم فقال ابن أخيه ابو جهل انا أكفيكموه فجلس
الى جنبه حزينا فقال الوليد مالي أراك حزينا يا ابن أخي فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك يزعمون انك زينت كلام محمد لتنال من فضل طعامه فغضب وقال الم تعلم قريش انى أكثرهم مالا وولدا وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل ثم قام مع ابى جهل حتى اتى قومه فقال تزعمون ان محمدا مجنون فهل رأيتموه يتجنن قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه كاهن فهل رأيتموه يتكهن قط قالوا اللهم لا قال تزعمون انه كذاب فهل جربتم عليه شيأ من الكذب قالوا اللهم لا ثم سكت قالت قريش فما هو فتفكر في نفسه وقدر في نحوه ثم قدر فقال ما هو الا ساحر اما رأيتموه يفرق بين المرء واهله وولده ومواليه وما يقوله مفتريا على ربه ليس الا سحر يؤثر فقال تعالى زجرا عليه وجزاء له
سَأُصْلِيهِ وادخله سَقَرَ
وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل ما سَقَرُ وما شأنها وأمرها ابهمها سبحانه تفخيما وتهويلا وغاية ما يدرك من شأنها انها
لا تُبْقِي شيأ يقع فيها بل تمحيه وتهلكه وَمع افنائه وإهلاكه لا تَذَرُ ولا تتركه على هلاكه وفنائه بل يوجده الله بكمال قدرته ثم تهلكه ثم يوجده فتهلكه ابدا كذلك وسرمدا هكذا ومن شأنها ايضا انها
لَوَّاحَةٌ مسودة من شدة إحراقها لِلْبَشَرِ اى البشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد وايضا من شأنها ان قد وكل سبحانه
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ اى من الزبانية الموكلة عليها باذن الله وهم من الملائكة او شبيهة بهم انما اختص هذا العدد لان الأعمال الفاسدة والأفعال القبيحة الموجبة لدخول سقر انما تكتسب بالقوى البهيمية والقوى الطبيعية اما القوى البهيمية فاثنتا عشرة الشهوية والغضبية والحواس الظاهرة والباطنة واما القوى الطبيعية فسبع الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وبالجملة يصور سقر من مقتضيات هذه القوى لذلك يوكل عليها من زواجر الزبانية على عدد مأخذها عدلا منه سبحانه لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها وبعد ما نزلت هذه الآية قال ابو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم يخبر ابن ابى كبشة ان خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم اى الجمع الشجعان أيعجز كل عشرة ان يبطش بواحد منهم وبعد ما قالوا على سبيل التهكم والاستهزاء انزل سبحانه
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ وخزنتها إِلَّا مَلائِكَةً أقوياء قوتهم لا تقاس بقوى البشر بل لا يقاوم جميع من على الأرض من افراد البشر بواحد من الملك في القوة والصولة وَايضا ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ هذه وعددهم هذا إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اختبارا وابتلاء وبسبب افتتان لهم يفتنون بهذا العدد تارة يستقلون وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين لعموم العباد المستحقين لدخول سقر من الثقلين وبالجملة يستهزؤن بهذا القول ويضحكون منه وانما أنزلنا هذه الآية وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى ليكتسبوا اليقين ويجزموا بنبوة محمد عليه السلام وبصدق القرآن وحقيته وهذا ليس ببدع منا في كتابنا هذا بل قد أنزلنا كذلك في سائر الكتب المنزلة من عندنا وبعد ما وجدوه اى عموم اهل الكتاب موافقا لما في كتبهم تيقنوا البتة بصدق القرآن وبنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وتصديقا على ايمانهم وتصديقهم اى يرسخ ايمانهم ويتأكد بتصديق اهل الكتاب كتابهم ونبيهم وَبعد ما استيقنوا واستقاموا على اليقين وتمكنوا فيه لا يَرْتابَ ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ جميعا في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به وَايضا انما خصصنا هذا العدد في الموكلين على سقر لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وشك في حقية هذا الكتاب
وهذا النبي من اهل النفاق وَالْكافِرُونَ المجاهرون الجاحدون الجازمون في الإنكار والتكذيب صريحا ماذا أَرادَ اللَّهُ العليم الحكيم بِهذا اى شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد الى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد مَثَلًا سائرا دائرا بين الناس يتداورونه ويتداولونه مستبعدين مستهزئين وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور يُضِلُّ اللَّهُ الحكيم العليم حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ إضلاله من عباده ويريد مقته وضلاله وَيَهْدِي ايضا بمقتضى لطفه وجماله مَنْ يَشاءُ منهم إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار وكمال الاستقلال والاستحقاق وَبالجملة ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل اى مظاهر لطفه وقهره وجلاله وجماله إِلَّا هُوَ إذ هو المستقل بالاحاطة والشمول لا يعزب عنه شيء من الفروع والأصول إذ لا سبيل للعباد الى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته ما للعباد ورب الأرباب وَبالجملة ما هِيَ اى ذكر سقر ووصفها وعدة خزنتها إِلَّا ذِكْرى اى عظة وتذكرة نازلة من قبل الحق لِلْبَشَرِ المجبولين على العبرة والنظر المكلفين بجلب النفع ودفع الضرر وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال والركون الى مقتضى اللطف والجمال
كَلَّا وحاشا ان يتذكر بها هؤلاء الحمقى الا من وفقه الحق وأدركته العناية من جانبه وَحق الْقَمَرِ المنير
وَاللَّيْلِ المظلم وكيفية تصاريف القمر المضيء في ظلمة الليل وانمحاء نوره إِذْ أَدْبَرَ اى قد ولى وانصرف ذاهبا يعنى بالقمر نور الايمان المشرق في الليل الذي هو عبارة عن ظلمة عالم الكون والفساد والمترتب على التعينات العدمية الحاصلة من انعكاس شمس الذات
وَالصُّبْحِ الذي هو عبارة عن ظهور نور الوجود وطلوع شمس الذات الاحدية التي انمحت وفنيت إِذا أَسْفَرَ اى أضاء وأشرق اظلال التعينات وانتثرت كواكب الهويات وأنطقت شهب العكوس واضمحلت مطلقا الإضافات المترتبة على تلك التعينات
إِنَّها اى سقر الطرد والحرمان وسعير الزجر والخذلان والخزنة المعدودين الموكلين عليها بقدرة الله وارادته لَإِحْدَى الْكُبَرِ اى احدى البلايا والمصائب الكبار النازلة لأصحاب الضلال بمقتضى القهر الإلهي وجلاله وانما أنزلها في كتابه واخبر عنها لتكون
نَذِيراً لِلْبَشَرِ ينذرهم ويحذرهم عن حر سقر
لِمَنْ شاءَ وأراد سبحانه مِنْكُمْ ايها المكلفون المجبولون على الهداية والضلالة أَنْ يَتَقَدَّمَ بالإيمان والأعمال الصالحة وفعل الخيرات وترك المنكرات فيهتدى بطريق النجاة منها أَوْ يَتَأَخَّرَ للكفر وارتكاب المناهي والمنكرات وفعل المحرمات فوقع فيها وازدجر وبالجملة
كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة بِما كَسَبَتْ واقترفت رَهِينَةٌ مرتهنة مرهونة عند الله بكسبها فكسبها ان كان لأجل الدنيا وما يترتب عليها من اللذات والشهوات البهيمية والوهمية والخيالية من الجاه والثروة والاستكبار والاستعظام بالأموال والأولاد ترتب عليها انواع العقوبات والمصيبات وان كان لأجل الآخرة من الايمان والإسلام وصوالح الأعمال والأفعال واحتمال المتاعب والمشاق في طريق الحق وتوحيده ترتب عليها اصناف المثوبات وانواع الكرامات والدرجات العلية والمقامات السنية من اللذات الروحانية
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم الصائرون الى الله السائرون نحوه بافناء هوياتهم الباطلة في هوية الحق المتجردون عن لوازم عالم الناسوت بالمرة المتلبسون بحلل عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت المتمكنون
فِي جَنَّاتٍ متنزهات موصوفة
بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن كمال تمكنهم وتقررهم في مقر الوحدة يَتَساءَلُونَ
عَنِ الْمُجْرِمِينَ على سبيل التعجب والاستبعاد
ما سَلَكَكُمْ وأى شيء أدخلكم فِي سَقَرَ الإمكان وسعير الطرد والخذلان
قالُوا اى المجرمون في جوابهم متحسرين متأسفين لَمْ نَكُ في دار الاختبار ونشأة الاعتبار مِنَ الْمُصَلِّينَ المتوجهين نحو الحق في الأوقات المكتوبة علينا
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ بمقتضى الأمر الإلهي عطفا ولطفا
وَمع ذلك قد كُنَّا نَخُوضُ ونشرع في الباطل الزاهق الزائل ونروجه ونترك الحق ونهمله مَعَ الْخائِضِينَ الشارعين المزورين والمروجين عنادا ومكابرة
وَأعظم من الكل انا قد كُنَّا من غاية جهلنا وغفلتنا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ اى بوقوع الطامة الكبرى وقيام الساعة العظمى مقتفين في هذا الإنكار والتكذيب اثر الضالين المضلين مستظهرين بالمعبودات الباطلة مغترين بشفاعتهم العاطلة لدى الحاجة وبالجملة قد كنا مصرين على ما كنا عليه
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وحل علينا الأجل وظهرت مقدماته وانقرضت نشأة الاختبار وبالجملة
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ حين أخذوا بظلمهم ولو شفعوا لهم اجمعهم
فَما لَهُمْ وأى شيء عرض لهم ولحق بهم مع انهم هم المجبولون على فطرة التوحيد واليقين حتى صاروا عَنِ التَّذْكِرَةِ المفيدة التي هي آيات القرآن المبينة لسرائر التوحيد والعرفان مُعْرِضِينَ منصرفين على سبيل الإنكار والاستكبار وبالجملة
كَأَنَّهُمْ في هذا الاعراض والنفرة المستتبعة لغاية السخافة ونهاية البلادة حُمُرٌ هي مثل في البلادة المتناهية مُسْتَنْفِرَةٌ من شدة رعبها وخوفها سيما قد
فَرَّتْ وهربت مِنْ قَسْوَرَةٍ اسد صائل هائل يريد ان يصول عليها شبه نفرتهم عن التذكر بآيات القرآن حسدا وحمية جاهلية بالحمر المستنفرة من الأسد والجامع بينهما البلادة المتناهية بل هم أسوأ حالا من الحمر إذ الحمر فرت من العدو خوفا من ضرره وهؤلاء قد فروا من الحق المشفق المفيد النافع لهم نفعا صوريا ومعنويا وما حملهم وحداهم على فتنة الاستنفار والاستنكاف الا غيرتهم وحميتهم الجاهلية بان لم يؤمنوا بما نزل على غيرهم
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى له من قبل الحق صُحُفاً قراطيس مدونة مُنَشَّرَةً تنشر وقت القراءة ثم تطوى كالصكوك والسجلات لذلك قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لن نتبعك حتى تأتى كلامنا بكتاب من السماء مكتوب فيه من الله الى فلان اتبع محمدا فانه نبي صادق. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردا عليهم وردعا لهم عن الاعراض عن الايمان والتذكر لا عن امتناع المقترح فانه لا يستحيل على الله شيء لو تعلق به مشيته بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ولم يؤمنوا لها لذلك اعرضوا عن التذكرة
كَلَّا اى كيف يتأتى لهم الاعراض عن التذكرة إِنَّهُ اى القرآن تَذْكِرَةٌ وآية مذكرة بل هو تبصرة كاملة شاملة نافعة مفيدة
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اى اتعظ وتذكر به فقد هدى واهتدى الى الله
وَغاية ما في الباب انه ما يَذْكُرُونَ اى يتذكرون ويتعظون به إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تذكرهم وهدايتهم إذ افعال العباد كلها مستندة اليه سبحانه مخلوقة له وكيف لا يفوض الى مشيته سبحانه عموم امور عباده مع انه هُوَ الفاعل المطلق المختار الخالق لها بالإرادة والاختيار وهو ايضا بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته أَهْلُ التَّقْوى وأحق من يتقى من انتقامه وقهره إذ هو القادر المقتدر على وجوه الانتقام وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بان يرجى منه العفو والغفران سيما على المتقين المستغفرين إذ هو ايضا القادر المقتدر بالاستقلال على عموم الكرم والانعام.
جعلنا الله من زمرة اهل التقوى والمغفرة بمنه وجوده
Icon