تفسير سورة الرعد

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرعد :( مكية، وقيل : مدنية ) ١ ٢
قال ابن جبير، ومجاد : هي مكية.
و ٣قال قتادة : هي مدنية إلا آية واحدة، قوله :﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا ﴾[ ٣١ ] وعنه : إلا ٤ قوله :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ﴾[ ٣١ ]، فإنه نزل بمكة ٥.
وسئل ابن جبير عن قوله :﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ : أهو ٦ عبد الله بن سلام ٧ ؟ فقال : كيف يكون عبد الله بن سلام، والسور مكية وابن سلام إنما أسلم بالمدينة ٨.
١ ما بين القوسين ساقط من ط..
٢ في مكية السورة، أو مدنيتها ثلاثة أقوال:
الأول: على أنها مكية، وهو قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر، ومجاهد، وابن جبير، وعلي بن أبي طلحة. انظر: ناسخ النحاس ١/٢١٢، والمحرر ١٠/٣، والجامع ٩/٨٣، والإتقان ١٢.
والثاني: أنها مدينة وهو قول ابن الزبير، وقتادة، والكلبي، ومقاتل، وابن عباس، انظر: ناسخ النحاس ٢/٢١٢، والجامع ٩/١٨٣.
والثالث: أنها مكية إلا آيات. وقد جمع السيوطي في الإتقان ١٢ بين الروايات المتضاربة وقال: بأن السورة مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة وهي ١٣-١٤-٤٤، وقال ابن عطية في المحرر ١٠/٣: (والظاهر عندي أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة، فهو مدني. وقياسا على ذلك ذهب ابن عاشور في التحرير، والتنوير ١٣/٧٦، أن الآية ٣١ أشبه في أن تكون مدنية. فقد قال مقاتل وابن جريج إنها نزلت في صلح الحديبية..

٣ ساقط من ق..
٤ ق: إلى..
٥ انظر: ناسخ النحاس ٢١٢..
٦ ط: هو..
٧ هو أبو يوسف، عبد ا لله بن حارث، كان من كبار فقهاء اليهود وهو من ولد يوسف عليه السلام، أسلم، وحسن إسلامه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما حدث عنه عوف بن مالك، وأبو هريرة (ت ٤٣ هـ) انظر: تذكرة الحفاظ ٢٦، والإصابة ٢/٣٠٤..
٨ انظر: ناسخ النحاس ٢١٣..

وسئل ابن جبير عن قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): أهو عبد الله بن سلام؟
فقال: كيف يكون عبد الله بن سلام، والسورة مكية وابن سلام إنما أسلم بالمدينة.
قوله: ﴿المر﴾ إلى قوله: ﴿تُوقِنُونَ﴾ قال ابن عباس معناها: أنا الله أرى، وقيل: معناه: أنا الله أعلم، وأرى.
وقوله: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ (مِن رَّبِّكَ الحق)﴾ المعنى: يا محمد تلك الآيات التي قصصت عليك خ [برها] هي آيات الكتاب التي أنزلت قبل هذا الكتاب، (الذي أنزلته إليك). أعني: بذلك: التوراة والإنجيل، قاله قتادة،
3660
ومجاهد.
وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب، يعني القرآن.
ثم ابتدأ فقال: ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق﴾ على وجه الإخبار لمحمد ( ﷺ) أن الذي أنزل إليه، نزَّله الله عليه هو حق. فعلى هذا المعنى تقف على الكتاب، وعلى القول الأول، لا تقف عليه لأن الإخبار عن / الكتب الثلاثة أنها حق.
ثم قال (تعالى): ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق﴾ أي: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك يا محمد! هو الحق أيضاً. فاعمل بما فيه، واعتصم به.
قاله قتادة، ومجاهد، فيكون على هذا القول (الكتاب): تمام حسن، ويكون " الذي " (مبتدأ والحق خبره. فإن قد أن " الذي " في موضع خفض على معنى:
3661
وآية ﴿والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾، كان الوقف على (ربك). وتبتدأ الحق، وترفعه على إضمار مبتدأ: أي: هو الحق، وذلك الحق.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (أي: لا يؤمنون) بعد وضوح الحق بهذه الآيات.
ثم قال تعالى: ﴿الذي رَفَعَ السماوات﴾ الآية. المعنى: أنه أخبرنا تعالى ذكره أن من آياته أن رفع السماوات، فجعلها سقفاً للأرض ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ مرئية، فهي على عمد، ولكنها لا ترى، فيكون " ترونها " نعتاً للعمد. والهاء والألف تعود على العمد، هذا قول ابن عباس وعكرمة، (وهو قول مجاهد). وفي مصحف أبي
3662
" ترونه "، رده على العمد. فهذا يدل على أن لها عمداً لا ترى. قال أبو محمد: وأقول إن عمدها القدرة، فهي لا ترى.
قال ابن عباس: عمدها قاف الجبل الأخضر.
وقال قتادة: ليستعلى عمد، بل خلقها تعالى، بغير عمد، وهو أولى بظاهر النص، وأعظم في القدرة، ودل عليه قوله: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ [فاطر: ٤١]: فهذا يدل على أنها غير عمد يُمسكها، ولو كان لها عمد لم يمسكها العمد حتى يعتمد العمد على شيء آخر إلى ما لا نهاية له. فالقدرة نهاية ذلك كله. فيكون " ترونها " على هذا القول [حا] لاً من السماوات: (أي: خلق السماوات مرئية بغير عمد.
3663
وتكون " الهاء " و " الألف " تعود على السماوات)، فإذا رجع [الضمير] على العمد احتمل أن يكون المعنى: بغير عمد مرئية البتة، فلا عمد لها.
ويحتمل أن يكون المعنى: بغير (عمد) مرئية لكم: أي: لا ترون العمد. وثَمَّ عمد لا ترى، وإذا رجع الضمير على " السماوات " فلا عمد ثم البتة.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي: علا عليه علو قدرة، لا علو مكان.
ثم قال (تعالى): ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي: لوقت معلوم، وذلك إلى فناء الدنيا، وقيام الساعة. فَتُكَوُّرُ الشمس حينئذ، ويُخسف القمر، وتنكدر النجوم التي سخرها في السماء لصالح عباده ومنافعهم فيعلمون
3664
بجريها عدد (السنين) والحساب، والأوقات، ويفرقون بين الليل والنهار. ودل تعالى بذلك أنها مخلوقات. إذ كُلٌ مدبر مملوك مقهور، لا يملك لنفسه نفعاً فيخلصها مما هي فيه.
ثم قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾: أي: بحكمه وحده بغير شريك، ولا ظهير. ومن الأمر الذي دبره: خلق السماوات [ب] غير عمد، وسخر الشمس، والقمر والنجوم فيهن.
ثم قال: ﴿يُفَصِّلُ الآيات﴾: أي: يبين آياته في كتابه لكم، لتقوم بها عليكم الحجة، إن لم تؤمنوا، ثم بين تعالى لِمَ فعل هذا؟ فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾: أي: لعلكم تصدقون بوعده، ووعيده، وتزدجرون عن عبادة الأوثان.
قوله ﴿وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض﴾ - إلى قوله - ﴿يَعْقِلُونَ﴾: المعنى: أن الله، جل ذكره، بعد / أن بين آية السماوات والأرض، أنه هو بسط الأرض
3665
طولاً وعرضاً.
قيل: إنها كانت مدورة فمدت.
ثابتة: أي: جبالاً، والرواسي جمع راسية، وهي الثابتة، وجعل فيها أنهاراً للسقي، والشرب، والعسل، وغير ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ﴾: أي: نوعين، والزوج: الواحد الذي له قرين، والزوج: الصنف، والنوع.
وقال أبو عبيدة، والفراء: والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من كل صنف، وهذا خلاف ظاهر النص، لأنه تعالى إنما ذكر الثمرات، ولم يذكر الحيوان.
فالمعنى: من كل الثمرات جعل صنفين حلواً وحامضاً، وأحمر وأبيض، ونحو ذلك ودليله قوله: ﴿وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ﴾ أي: خلق الأصناف كلها من نبات الأرض ومن غيرها.
ثم قال: ﴿يُغْشِى اليل النهار﴾: أي: يلبس الليل النهار، فذلك كله فيه: آية لمن تفكر فيه، واعتبر، فعلم أن العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء، ودبرها، دون
3666
أن يملك ضراً، ولا نفعاً.
ثم قال تعالى: ﴿وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ﴾ الآية والمعنى: وفي الأرض قطع متدانيات، وتت [ف] اضل في النبات، فمنها قطعة سبخة، لا تنبت شيئاً، وتجاوزها قطعة طيبة تنبت. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك.
وقيل: المعنى: وفي الأرض أمكنة متجاورة تسقى كلها بماء واحد، وهي مختلفة. طعام النبات والثمر: بعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها مُرٌّ، وبعضها سباخ لا تنبت شيئاً. ففي ذلك مع اتفاق شرب جميعها من ماء واحد، دلالة على نفاذ قدرة الله (تعالى)، وتعظيم سلطانه، و [ب] دائع تركيباته سبحانه.
وقيل: في (ال) كلام حذف، والمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير
3667
متجاورات، ثم حذف لعلم السامع.
وقيل: المتجاورات: المدن، وما كان عامراً، والتي غير متجاورات: الصحاري، وما كان غير عامر.
وقوله (﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾: معنى: صنوان: النخلة، والنخلتان، والثلاث، والأربع أصلهن واحد)، ﴿وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾: النخلة، والنخلتان، والأكثر كل واحدة في أصل متفرق، قاله البراء بن عازب.
وقال ابن عباس: معنى: الصنوان: النخلة التي يخرج من أصلها النخلات، فيحمل بعضه، ولا يحمل البعض. فيكون أصله واحداً، ورؤوسه متفرقة.
﴿وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾: كل واحدة من النخل في أصل واحد.
3668
ومعنى الآية عند الحسن، (رحمة الله عليه)، أنه مثل ربه الله [تعالى] لقلبو بني آدم، وذلك أن الأرض كانت في يد الرحمن طينة واحدة، فبسطها، وبطحها فصارت قط [عاً] متجازات. فينزل عليها الماء، فتخرج هذه زهرتها، وثمرتها، وشجرها، وتخرج هذه ملحها، وسبخها، وخبثها: وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو اختلف (ت) مياهها لقيل: إنما وقع الاختلاف لأجل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم.
وينزل عليهم من السماء ماءاً: يذكرهم فترق قلوب، وتخشع قلوب / وتخضع، وتقسو قلوب، وتلهو وتسهو.
قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلا قام من عنده بزيادة، أو نقصان. دليله قوله: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾ [الإسراء: ٨٢].
3669
قال أبو محمد، رضي الله عنهـ، هذه الآية نبه الله تعالى (فيها على) قدرته وحكمته، وأنه المدير للأشياء كلها. وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها، وثمارها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتجاوزه. فدل ذلك على مدبر فعل ذلك. إذ لا يقدر الشجر على ذلك، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً، وليس من طبعه إلا التسفل. فدل ذلك على مصدعه صعَّده، إذ لا يقدر الماء والشجر على ذلك، ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان، والثمرة كل بقسطه، وبقدر ما فيه صلاحه، فدل ذلك على مقسم قسَّمه، ومجز جزأه على العدل والقوام. ثم تختلف طعوم الثمرات والماء الواحد. والشجر جنس واحد. فدل ذلك على مدبر (دبر) ذلك، وأحكمه لا
3670
يشبه المخلوقات: فهذا وأشباهه يدل على توحيد الخالق بالعقول، وإفراده بالقدرة على كل شيء وبالحكمة واللطف في أفعاله بالرسل.
إنما أكدت هذا الذي هو ظاهر للعقول من إيجاب التوحيد، وإثبات الصانع ما بينت الرسل من الشرائع.
وكل القراء كسر الصاد من " صِنوان "، إلا ما رواه (أ) بو شعيب: عن حفص، (عن عاصم) أنه قرأ بضم الصاد فيهما.
وهي لغة (بني) تميم، وقيس. والكسر لغة أهل الحجاز، وواحده صِنْوٌ
3671
كقنوان، واحدهُ. قِنْوٌ، ونِسوانٌ: واحده نِسْوةٌ، ولا يعتد بالهاء.
وحكى سيبويه " قُنْوان " بالضم.
ثم قال تعالى: ﴿يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ﴾: (أي: يسقى ذلك بماء واحد) من السماء، (و) بعضها يَفْضُلُ بعضاً في الأكل: كالحلو، والحامض، والمر.
قال ابن جبير: هي الأرض الواحدة يكون فيها الكوخ، والكمثري، والعنب الأبيض، والأسود، ويكون بعضها أكثر في الحمل من بعض.
والأكل: الثمر الذي يؤكل.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾: أي: (إن) في اختلاف مطاعم هذه الشجر على ما تقدم وصفه لآيات: لعلامات لقوم يعقلون فيستدلون على أن
3672
الذي خالف بين هذه الشجر في الطعم والماء واحد، والأرض واحدة: لهو الذي يقدر على مخالفة أحوال خلقه، فيقسم لهذا هداية، ولهذا ضلالة، وتوفيقاً لهذا، وخذلاناً لهذا. ولو شاء لَسَوَّى بين (جميع) طعم ثمر الشجر كله. كذلك لو شاء [الله] لسوى بين جميع الخلق في الهداية، أو في الضلالة.
قوله: ﴿وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ - إلى قوله - ﴿لَشَدِيدُ العقاب﴾ المعنى: يا محمد من هؤلاء المشركين، فعجب إنكارهم للبعث.
قال قتادة: عجب الرحمن من تكذيبهم البعث بعد الموت.
وقال ابن زيد: المعنى: أن تعجب يا محمد من / تكذيبهم لك، وقد رأوا قدرة الله، تعالى في الحياة، وفي جميع ما ضرب لهم به الأمثال، فعجباً إنكارهم
3673
البعث. على معنى: فذلك من فعلهم مما يجب لكم أن تعجبوا منه.
وقد قرأ الكسائي ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢] بضم التاء على أَحَدِ المعنيين المذكورين. ثم أخبرنا الله، تعالى، أن من أنكر البعث، بعدما بين له من الآيات الدالات على قدرة الله، (سبحانه) فالأغلال في أعناقهم يوم القيامة، وأنهم أصحاب النار خالدين فيها.
وقيل: الأغلال: أعمالهم، كما تقول للرجل عمل عملاً سيئاً: " هذا غل في عنقك "، فسمي العمل السيء بالغل، لأنه سبب إلى الغل.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة (قَبْلَ الحسنة)﴾ الآية.
والمعنى: يستعجلك يا محمد، مشركو قومك بالعذاب والعقوبة، قبل الرخاء
3674
والعافية، فيقولون: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢]- الآية وهم يعلمون ما حل بالأمم قبلهم من العقوبات وهو قوله: ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات﴾: أي: العقوبات في الأمم الماضية على تكذيبهم الرسل، فهلك قوم بالخسف، وقوم بالرجفة، وقوم بالغرق في أشباه لذلك من العقوبات.
قال قتادة: المُثلاتُ: وقائع الله، تعالى في الأمم الماضية.
وقال الشعبي: المثلات: القردة والخنازير.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾: أي: لذو ستر على ذنوبهم، وهم ظالمون.
3675
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ (أي): ، لمن مات مصراً على كفره.
ولما نزلت هذه الآية، قال النبي ﷺ: " لولا عفو الله، ورحمته، وتجاوزه من هنأ لأحَدٍ عيش، ولولا عاقبة، ووعيده، وعذابه لا تكل كل واحد ".
وقال ابن عباس: ما في كتاب الله، ( تعالى) آية أرْجَى من قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾.
(وقيل: المعنى) هو أن العبد يمحو الله بحسنته عشر سيئات، وإذا همّ بالحسنة كتب له، وإن لم يعملها.
3676
قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ﴾ إلى قوله ﴿المتعال﴾ المعنى: أن الله تعالى أخبرنا أن المشركين يقولون هلا أنزل على محمد آية، تدل على نبوته، وهي قوله: ﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ [هود: ١٢].
ثم قال الله تعالى، لنبيه عليه السلام ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ﴾ لهم لا غير. ثم قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾: أي: ولكل أمة هاد، يهديهم؛ إما إلى هدى، وإما إلى ضلال، دليله قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ [الأنبياء: ٧٣]، وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار﴾ [القصص: ٤١]
وقال قتادة: معناه: ولكل قومٍ داعٍ يدعوهم إلى الله (سبحانه).
فأنت يا محمد داعي هؤلاء. فمحمد، عليه السلام، هو الهادي، وهو المنذر.
وقال ابن جبير: الهادي هو الله، ( تعالى)، والمعنى: إنما أنت يا محمد منذر،
3677
ولكل قوم اهتدوا هادٍ يهديهم، وهو الله (تعالى).
(و) قال مجاهد: المنذر: النبي ﷺ، والهادي / الله ( تعالى)، وقال (هـ) ابن عباس، والضحاك.
وقال أبو صالح: معناه: ولكل (قوم) قادة يقودونهم، إما إلى هدى، وإما إلى ضلال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهـ معناه: ولكل قوم داع يدعوهم إلى الله تعالى.
ثم قال تعالى (جل ذكره): ﴿الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾ الآية المعنى: إنه ذكر عن قريش أنهم ينكرون البعث، فذكرهم بعلمه ﴿مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى﴾، وما يزيد الرحم في حمله على التسعة أشهر، وما ينقص من التسع أشهر. وإِنَّ من عَلِمَ هذا
3678
قادر على إعادتكم بعد موتكم، لأن الابتداء أصعب من الإعادة.
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: أي: قدره، ودبره، فلا تنكروا البعث بعد الموت.
وقال قتادة: ﴿تَغِيضُ الأرحام﴾: هو ما يسقط من الأولاد قبل التسعة.
وقال مجاهد: الغيض: النقصان، وذلك أن المرأة إذا أهرقت الدم، وهي حامل (انتقص) المولود، وإذا لم تهرق الدم، عظم الولد وتم. وقال أيضاً " (إذا حاضت) المرأة في حملها كان (ذلك) نقصاناً في ولدها. فإن زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماماً لما نَقْصَ من ولدها.
وقال الحسن: الغيض أن تضع لثمانية أشهر، وأقل الازدياد أن تز (يـ) ـد
3679
على تسعة أشهر.
وعنه (أيضاً) أنه قال: (الغيض الذي يولد لغير تمام، وهو السِّقط. والاز (د) ياد: ما ولد لتمام كقوله: ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ [الحج: ٥]: أي تامة وغير تامة.
وقال ابن جبير: إذا حملت المرأة، ثم حاضت نقص ولدها، ثم تزداد في الحمل مقدار ما جاءها الدم فيه، فتزيد على تسعة أشهر مثل أيام الدم.
وقال عكرمة: غيضها: الحيض على الحمل، ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ قال: تزداد كل يوم حاضته في حملها يوماً طاهراً في حملها حت تُوِفي عُدَّة حملها، وهي طاهرة.
وعن مجاهد أيضاً: غيضها دون التسعة أشهر، والزيادة فوق التسعة أشهر. واجتمع العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
3680
واختلفوا في أكثره. فقال قوم: أكثه سنتان، وهو مروي عن عائشة (Bها).
وروي عن الضحاك بن مزاحم، وهرم بن حيان أنهما قاما كل واحد منهما في بطن أمه سنتين.
وقال الليث بن سعد: أكثر الحمل ثلاث سنين.
وحكي أن مولاةً لعمر بن عبد العزيز، (Bهـ) حملت ثلاث سنين.
وقال الشافعي مدته: أربع سنين.
3681
وروي عن مالك: مثل قول الشافعي (Bهـ).
وروي أيضاً عن مالك أنه قال: خمس سنين، وحكي عن امرأة ابن عجلان أنها كانت تحمل خمس سنين.
وقال الزهري: المرأة تحمل ست سنين، وسبع سنين.
وقال قوم: لا يجوز التحديد (في هذا)، ومذهب الشافعي /، ومالك: أن الحامل تحيض.
وقال عطاء، والشعبي، والحكم، وحماد، وغيرهم: الحامل
3682
لا تحيض، ولو حاضت ما جاز أن تستبرئ الأمة بحيضة، واستبراء الأمة (بحيضة) إجماع. فلا يعترض به على من أجاز حيض الحامل، لأن الأمة خرجت بالإجماع على استبرائها بحيضة.
3683
ثم قال تعالى (جل جلاله): ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾: أي: يعلم ما غاب عن الأنظار، وما ظهر الكبير: أي: العظيم في ملكه.
﴿المتعال﴾: أي: المستعلي على جميع الأشياء بقدرته.
قوله: ﴿سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾ - إلى قوله - ﴿مِن وَال﴾
3685
قوله: سواء منكم، [هو مصدر]، مرفوع لأنه خبر ابتداء مقدم، ومن في الموضعين رفع بالابتداء، (لأن) " سواء " يطلب اسمين، ، و " من " الثانية مرفوعة بالابتداء أيضاً، والتقدير: وسواء، كما تقول: رجل عدل، أي: ذو عدل، وتقول: سواء زيد وعمرو، أي: ذو سواء، زيد، وعمرو. إنما احتجت إلى هذا الإضمار، لأن سواء مصدر ولا يرتفع، إذا كان الاسم بعده إلا على حذف، لأن الخبر ليس هو الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء. وهذا في الحذف كما قالت الخنساء: " فإنما هي إقبال وإدبار: أي: ذات إقبال وإدبار. وإن كان في موضع هذا المصدر اسم فاعل، لم
3686
يحتج إلى إضمار لأنه يكون هو الاسم المبتدأ، وليس المصدر هو الاسم المبتدأ. وقد كثر استعمالهم " لسواء "، حتى جرى مجرى أسماء الفاعلين، ويجوز أن يرتفع " سواء " على أن يكون في موضع " مستوٍ ". ويكون أيضاً خبراًَ مقدماً، كالأول، لكن يكون هو الابتداء (في) المعنى: فيستغنى (عند سيبويه)، عن الإضمار، وقبيح عند سيبويه أن يكون مبتدأ، لأن النكرات لا يبتدأ بها، وإن كانت اسماً لفاعلين لضعفها عن الفعل.
وقد جمعوا " سواء " على " أسوأ " قال الشاعر:
3687
ومعنى الآية: معتدل منكم عند الله تعالى، أيها الناس: الذي أسرّ القول، والذي جهر به، والذي يستخفي بالليل، وبظلمته بمعصية الله (سبحانه)، والذي يظهر بالنهار في المعصية، وفي غيرها. كل ذلك عند الله (سبحانه) سواء لا يخفى عليه منه شيء.
ويقال: هو آمن في سِربه، وسَربه، بالفتح والكسر. والسارب في الآية: الظاهر وقيل: السارب المختفي، من قولهم: انسرب الوحش: إذا دخل كناسَهُ، قال (هـ) قطرب. وأكثر الناس على أن السارب: الظاهر، لأنه عديل المستخفي المتواري، والسارب: الظاهر.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ - الآية: قيل المعنى (لله تعالى) معقبات، وهي الملائكة / تتعاقب على ابن آدم بالليل والنهار.
3688
فالهاء في " له " لله، والهاء في " يديه " و " خلفه: للمستخفي بالليل، والسارب بالنهار.
وقيل: الهاء في " له " تعود على " من " وهو المستخفي. ومعنى: من خلفه: " من وراء ظهره ".
وروي أن عثمان بن عفان: رضي الله عنهـ،
" سأل النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه ملكاً. فقال النبي ﷺ: ملك على يمينك على حسناتك، وهو أمين على الذي على شمالك. وإذا فعلت حسنة كتب عشراً. (و) إذا علمت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب، فيقول له: لعله يستغفر الله، ويتوب. فإذا لم يتب منها، قال: نعم اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ".
ما أقل مراقبته لله تعالى، وأقل استحياء! يقول الله (تعالى):
3689
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، ومَلَكان من بين يديك، ومن خلفك. يقول الله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله﴾ وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي (محمد) ﷺ. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيك، وملكان على عينيك: فهؤلاء عشرة أملاك، على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، لأن ملائكة الليل ينيبون ملائكة النهار. فهؤلاء عشرون ملك [اً] على كا آدمي، وإبليس بالنهار، وولده بالليل.
ورُوي أنهم يجتمعون عند صلاة العصر، وصلاة الصبح.
3690
وعن ابن عباس، وعكرمة: أن النعقبات (هنا): الحرس الذين يتعاقبون على الأمراء من بين أيديهم ومن خلفهم.
قال الضحاك: هو السلطان يتحرس من الله (سبحانه).
وقال عكرمة: هي المواكب بين يدي الأمراء وخلفهم.
فتكون الهاء في " له " على هذا التأويل " لمن ". وهو المستخفي بالليل، والسارب بالنهار. فوصفه الله ( تعالى)، أنه قد جعل لنفسه حرساً يحفظونه من حدوث أمر الله به، لجهله بالله (سبحانه). وإن ذلك لا يرد عنه شيئاً. وهذا القول اختيار الطبري: أن تكون المعقبات الحرس، والأعوان مع الأمراء، لأن " له " أقرب من ذكر المستخفي منه من ذكر الكبير المتعال. ويدل على صحة هذا المعنى قوله بعد ذلك: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾: أي: ليس ينفع هذا المذكور حرسه، وتعاقبهم عليه. ولا يرد عنه أمر الله (سبحانه) وقدره إذا أتاه. فالمعنى على
3691
هذا: أن الله، تعالى، ذكر أن أهل معصيته يستخفون بالمعاصي بالليل، ويظهرون بالنهار، ويتمنعون عند أنفسهم بالحرس، وتحرسهم، وتتعاقب عليهم.
ثم أخبرنا تعالى جل ذكره، أنه إذا / أراد بهم سوءاً، وعقوبة لم ينفعهم حرسهم شيئاً.
واختار النحاس القول الأول، وهو أن يكون (المعقبات): (الملائكة) على ما تقدم ذكره، واحتج فيه (بما) رواه أبو هريرة من حديث مالك بن أنس رضي الله عنهـ أن النبي ﷺ قال: " لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار "
الحديث.
ومن جعل (المعقبات) ملائكة كان قوله من أمر الله على وجهين:
أحدهما: أن تكون " من " بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه
3692
حتى يأتيه ما قدر عليه، فلا ينفع حفظهم إياه من قدر الله (سبحانه) إذا جاءهم (وهو) قول ابن جبير.
والثاني: أن يكون المعنى له معقبات من أمر الله: من بين يديه ومن خلفه، أي: المعقبات ﴿مِنْ أَمْرِ الله﴾ هي: ﴿يَدَيْهِ﴾، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج. فتكون " من " متعلقة " بمعقبات "، وهي لبيان الجنس. وعلى القول الأول: " من " بمعنى الباء، وهي متعلقة بـ " يحفظونه ": أي: حفظهم له بأمر الله كان، وإنما يحفظونه مما لم يقدر عليه.
وقيل: أمر الله هنا: الجن، أي: يحفظونه من الجن. فتكون " من " على بابها متعلقة بالحفظ.
ومن جعل " المعقبات " حرس الملوك، وأعوانهم، كانت " من " على بابها متعلقة بـ " يحفظونه ". والمعنى: ﴿يَحْفَظُونَهُ﴾ من قدر الله على قولهم، وظنهم، ولا
3693
ينفع ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءاً فلا مرد له.
قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام. فيما يأتيه منها شيء إلا قال له: وراءك.
وقال ابن جريج: معنى من أمر الله: أي: يحفظون عليه عمله، وتقديره: له ملائكة، تتعاقب عليه من أمر الله، هي: تحفظ عمله فيه. فحذف العمل، واتصل المضاف إليه (ب) يحفظونه مثل: ﴿وَسْئَلِ القرية التي﴾ [يوسف: ٨٢]، ومثل: ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي: وعقابه واقع بهم، فحذف العقاب، وقامت الهاء مقامه، فقام ضمير مرفوع، لأن المحذوف مرفوعاً كان.
وقال الحسن: المعنى: يحفظونه عن أمر الله، " فمن " بمعنى " عن "،
3694
والمعنى: حفظهم إياه عن أمر الله، كان، لا من عند أنفسهم.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ إلى قوله - ﴿وَالٍ﴾: الهاء في قوله: ﴿فَلاَ مَرَدَّ لَهُ﴾ تعود على السوء، وقيل: على الفرد، وقيل: تعود على الله. أي لا مرد (لله سبحانه: أي: لا راد له عن مراده. والمعنى: إن الله، ( تعالى) لا يغير ما بإنسان من نقمة، وكراهة ابتدأه بها، حتى يغير ما بنفسه من ظلمه، وتعديه، وتركه ما أمر به. فإذا غير وقعت به العقوبة.
وقيل: المعنى: أن الله لا يغير ما بقوم مؤمنين صالحين، فيسميهم كافرين إلا أن يفعلوا ما ي (و) جب ذلك.
ويروى أن هذه الآيات ﴿سواءا فَلاَ﴾ - وما بعده - نزَلن في عامر بن الطفيل،
3695
وأربد بن قيس، " وذلك أن وفد بني عامر / قدموا على النبي ﷺ، وفيهم عامر (بن الطفيل)، وأربد بن قيس. وكان في نفس عامر الغدر برسول الله ﷺ. وكان من رؤساء قومه فقال عامر لأربد: إذا قدمنا على الرجل، فإني شاغل عنك وجهك. فإذا فعلت ذلك فَاعْلُهُ بالسيف. فلما قدموا على النبي ﷺ، قال عامر: يا محمد خالني، قال النبي ﷺ: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فكرر عامر على النبي ذلك، والنبي يقول له: حتى تؤمن بالله وحده لا (شريك) له، وعامر ينتظر من أربد ما كان به، وجعل أربد لا يجيز شيئاً. فلما رأى عامر أربد لا يفعل شيئاً، وأبى النبي ﷺ، أن يخاليه، قال: (النبي) عليه السلام: والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً، فلما ولى (من عند) النبي. قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين
3696
ما كنت أمرتك به. والله ما كان على وجه الأرض رجل أخوف عندي منك على نفسي منك: وأيم الله (لا أخافك بعد اليوم أبداً. قال له أربد: ويلك لا تعجل علي وأيم الله) ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك، فأضربك بالسيف. فخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ( تعالى) على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فمات في بين امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر! أغُدَّةً كَغُدَةٍ البعير، وموتاً في بيت امرأة من بني سلول، ثم خرج أصحابه بعده حتى قدموا أرض بني عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا (شيء) لله! لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء، لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج أربد بعد مقالته هذه بيوم، أو
3697
يومين، معه جمل له يبيعه، فأرسل الله ( تعالى) عليه صاعقة، فأحرقته وجمله ".
قوله: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ البرق: مخاريق من حديد بأيد (ي) الملائكة تضرب بها. هذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ.
وقال مجاهد: الملائكة تضرب بأجنحتها، فمن ذلك البرق. وقد تقدم شرح هذا بأشبع من هذا. فالمعنى: الله يريكم البرق خوفاً للمسافر من أذاه، وطمعاً للمقيم لينتفع (به)، والبرق هنا على قول ابن عباس: الماء.
3698
وقيل: الآية مخصوصة، والمعنى: خوفاً لمن لا يحتاج إليه كمصر، وشبهها التي لا تحتاج إلى المطر. وكونه فيها ضر عليها، " وطمعاً " لمن يحتاج إليه، ويرجو الانتفاع به.
وقيل: الآية على العموم لكل من خاف، أو طمع.
وقل: المعنى: خوفاً من الصواعق (وطمعاً بالمطر).
" وقال الضحاك: أما الخوف فما يرسل معه من الصواعق "، وأما الطمع فما نرجو فيه من الغيث.
ثم قال (تعالى): ﴿وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال﴾: بالمطر، أي: ويثير السحاب الثقال بالمطر، وبيديه. يقال: أنشأ الله السحاب / أبداه، والسحاب: جمع
3699
سحابة. ولذلك قال (الثقال) ولو كان موحداً لقال: الثقيل.
ثم قال (تعالى): ﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ﴾ قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب.
وقال أبو صالح: الرعد (ملك) يسبح.
وقال شهر بن حوشب: الرعد: ملك موكل بالسحاب، يسوقه كما يسوق الحاجي الإبل. فكلما خالفته سحابة صاح (بها)، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه. فذلك الصواعق الذي رأيتم.
3700
وقال ابن عباس: الرعد: ملك اسمه (الرعد)، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه.
وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه.
وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد (اسم ملك) وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره للسحاب اضطر السحاب من خوفه فيحتك. تخرج الصواعق من فيه.
وسئل علي رضي الله عنهـ عن الرعد: فقال: هو ملك، وسئل عن البرق،
3701
(فقال): مخاريق بأيدي الملائكة تزجر السحاب.
وعن الضحاك أنه قال: الذي يسمع تسبيح الملك، واسمه الرعد.
قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ أن الرعد: ريح يختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منها ذلك الصوت.
وعنه أيضاً أنه، قال: البرق: ملك يتراءى. وأكثر المفسرين على أنه ملك كما تقدم.
" وكان النبي ﷺ، إذا سمع الرعد الشديد، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا
3702
تهلكنا بعذابك، وعاقبنا قبل ذلك "
وهذا الدعاء يدل على أنه صوت ملك.
" وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ، كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده " فهذا يدل على أن الرعد ملك.
وكان ابن عباس، وعلي (ضي الله عنهما) يقولان إذا سمعا الرعد: سبحان من سبحت له، فهذا يدل على أنه ملك.
ومعنى ﴿وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ﴾: أي: " يعظم الله ويمجده، ويثنى عليه بصفاته. وحكي عن العرب سبحان من يسبح الرعد بحمده، يريدون (من) فأقعوا (ما)، ما " مَنْ ".
ثم قال: ﴿والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ﴾: أي: وتسبح الملائكة من خيفته، أي: من رهبته.
وروي أن خوف الملائكة ليس كخوف بني آدم، لأن طائفة من الملائكة
3703
ساجدون، منذ خلقوا، باكون، ومنهم طائفة يسبحون ويهللون، لا يعرف أحدهم من على يمينه، ولا من على شماله، ولا يشغلهم عن عبادة الله، ( تعالى) شيء.
قال الله تعالى عن الملائكة: ﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠]: فعلى قدر أعمالهم واجتهادهم، كذلك خوفهم.
وقوله: ﴿وَيُرْسِلُ الصواعق﴾: الصاعقة من الناؤ التي تخرج من فم الرعد / إذا غضب، فقد تقدم ذكرها بأشبع من هذا في سورة البقرة.
وهذه الآية نزلت في يهودي جاء إلى النبي ﷺ فقال له: أخبرني عن ربك: من أي شيء هو؟ من لؤلؤ أو ياقوت. فجاءت صاعقة، فأخذته فأنزل الله تعالى: ﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾.
ودل على هذا القول قوله: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله﴾: فالضمير في " هم "
3704
لليهودي، وجمع لأن له أتباعاً على قوله ومذهبه.
وروي أنها نزلت في رجل من فراعنة العرب، وهو أربد، وجه إليه النبي ﷺ، يدعوه إلى الله، فقال: وما الله؟ أمِنْ ذهب هو أم مِنْ فضةٍ؟ أمْ مِن نُحاس؟ فأخبر النبي عليه السلام بذلك. فدعاه ثانية، فبينما النبي عليه السلام، يراجع الكافر في الدعاء إلى الله سبحانه، إذ بعث الله سَحَابَةً بِحُيال رأس الكافر، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ﴾ الآية.
وقال قتادة: (أنكر رجل) القرآن، وكذب النبي ﷺ، فأنزل الله، ( تعالى) عليه صاعقة، فأهلكته، فنزلت الآية فيه.
3705
وقال ابن جريج: نزلت في أَرْبَد أخي لبيد بن ربيعة، هَمَّ هو، وعامر بن الطفيل بقتل النبي ﷺ. فبعث الله تعالى عليه صاعقة فاحترق.
ومعنى قوله: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ المحال﴾ قال علي (بن أبي طالب) عليه السلام: " شديد الأخذ ".
وقال مجاهد: ( C) :" شديد القوة ".
وقال قتادة (رحمة الله عليه): المحال: " القوة والحيلة ".
وقال ابن عباس (رضوان الله عليه): " شديد الحَوْل ".
وقال الحسن: (نضر الله وجهه): شديد المكر، من قولهم: مَحَل به: إذا
3706
مكر به، ومن جعله من الحوْل، والحيلة، فالأشبه بقراءته أن يقرأ بفتح الميم، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها إلا بفتح الميم نحو: محالة، ومنه قولهم: " المرء يعجز لا محالة ". وبه قرأ الأعرج فأما من كسر الميم فهو مصدر من: " ما حلت فلاناً، مماحلة، ومحالاً، فاللماحلة بعيدة المعنى من الحيلة.
فإذا جعلته من الحول فوزنه " مِفْعَلٌ "، وأصله " مِحْوَل " ثم قلبت حركة الواو على الحاء، وقلبت الواو ألفاً كاعتلال " مقال " و " محال ". وإن جعلته من " مُحال " فوزنه " فُعال " لا اعتلال فيه.
3707
ثم قال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحق﴾ وهي شهادة ألا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
وقال علي رضي الله عنهـ: هي التوحيد.
وقال ابن زيد C: هي لا إله إلا الله، ليست تنبغي لأحد إلا الله.
ثم قال تعالى: ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ الآية: أي: والآلهو التي يدعوها المشركون من دون الله (سبحانه) لا تجيب من دعاها بشيء من النفع، والضر، ولا ينتفع / بها إى كما ينتفع الذي يبسط كفيه إلى الماء. ليأتيه من غير أن يرفعه، فلا هو ببالغ فاه، ولا نافعه كذلك. هذه الآية التي يدعون هؤلاء العرب. فضرب المثل لمن طلب ما لا يبلغه بالقابض على الماء.
3708
قال علي، رضي الله عنهـ " معناه ": كالرجل العطشان مد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه، وما هو ببالغه، ولا نافعه، كذلك هذا الذي يدعو من دون الله.
وقال مجاهد (Bهـ) معناه: يدعو الماء بلسانهن ويشير إليه بيده، فلا يأتيه أبداً، أي: فهذا الذي يدعو من دون الله، هو الوثن، وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبداً، ولا يسوق إليه خيراً، ولا يدفع عنه شراً: كمثل هذا (الذي) بسط ذراعيه إلى الماء ﴿لِيَبْلُغَ فَاهُ﴾ (وما) يبلغ فاه أبداً.
وروي عن ابن عباس أن المعنى: هذا الذي يدعو الآلهة، كمثل من بسط كفيه إلى الماء، ليتناول خياله فيه، وما هو ببالغه أبداً، ولا يأخذه.
وقيل المعنى: إن هؤلاء الذين يعبدون الآلهة لا ينتفعون بها، إلا كما ينتفع من بسط كفيه إلى الماء يدعوه ليأتيه، وهو لا يأتيه أبداً، ولا ينتفع به. فكذلك لا
3709
ينتفع بعبادة الآلهة. وهذا كله ضرب مثلاً لمن يعبد غير الله، جل ذكره.
(وقيل معنى): مثل من يعبد الأصنام كمثل من يفيض على الماء، ليبلغ فاه، فلا يحصل له نفع من ذلك.
قوله: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ إلى قوله ﴿الواحد القهار﴾: المعنى فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون الآلهة من دون الله من الطاعة (والإخلاص لله تعالى) فلله تعالى، يسجدُ من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من المؤمنين طوعاً)، ويسحد (الكافرون) كرهاً، حين يكرهون على ذلك. فيدخلون في الدين كارهين، قاله قتادة.
وعنه أنه قال: أما المؤمن يسجد طائعاً، وأما الكافر فيسجد كارهاً، فيسجد لله حين لا ينفعه.
3710
وقال ابن زيد: ﴿وَكَرْهاً﴾: من لم يدخل الإسلام إلا بالسيف، فأول دخوله كرهاً، ﴿طَوْعاً﴾: من دخله طائعاً، أي: من أسلم طائعاً.
وقال الزجاج: جائز أن يكون السجود بالخضوع لله. فمن الناس من يخضع، ويقبل أمر الله (سبحانه) طائعاً، ومنهم من يقبله وإن كان كارهاً (له).
وقيل: معناه: إن عباد الله الصالحين يسجدون لله، والكفار يسجدون خوف القتل.
وقيل: المعنى: وبعض من في الأرض يسجد، وبعض المؤمنين طائعين، قد سهل ذلك عليهم، وبعضهم يكره نفسه على ذلك لله (سبحانه).
وقيل: السجود هنا الخضوع لتدبير الله تعالى في جميع خلقه: من صحتهم، وسقمهم، وتصرفهم، (فهم) منقادون لذلك أحبوا، أو كرهوا لا حيلة لهم في
3711
دفع ذلك. وظلالهم أيضاً منقادة لتدبير الله ( تعالى) وإجرائه الشمس / بزيادة الظل، ونقصانه وزواله.
وقال ابن عباس: يعني: حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه، وشماله.
قال أبو العالية: ما في السماء من شمس، ولا قمر، ولا نجم يقع لله (سبحانه) ساجداً حين يغيب، فما ينصرف حتى يؤذن له.
وقال مجاهد: ظل المؤمنين يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعاً، وهو كاره.
والآصال: جمع أصل، والأصل (جمع أصيل) كرغيف ورغف. والأصيل: ما بين العصر إلى مغرب الشمس.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض﴾ الآية والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء
3712
المشركين بالله، من رب السماوات والأرض، ومدبرها؟ قل: الله أتى الجواب والسؤال فيه من جهة واحدة. وذلك على تقدير أنهم لما قيل لهم: من رب السماوات والأرض، (ومدبرها). جهلوا الجواب فقالوا: ومن هو؟ فقيل لهم الله: ومثله: ﴿مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله﴾ [يونس: ٣٤].
وهو كثير في القرآن: يأتي السؤال والجواب من جهة (واحدة، من جهة السائل. وإنما حق الجواب أن يكون من جهة) السؤال، لكن أتى الجواب) من جهة السائل (الجوابِ: على معنى أنهم جعلوا الجواب، وطلبوه من جهة السائل): فأعلمهم به السائل، فصار السؤال الجواب من جهة واحدة.
ثم أمر أن يقول لهم: ﴿أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً﴾
3713
يجتلبونه لها، ﴿وَلاَ ضَرّاً﴾ يدفعونه عنها، وهي إذا لم تمتلك ذلك لأنفسها، تكون أضعف عن ملكه لغيرها، فعبدتم من هذه صفته، وتركتم (عبادة) من بيده النفع والضر، والموت والحياة.
(ثم) ضرب لهم مثلاً، فقال: قل لهم يا محمد ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ يريد به المؤمن والكافر.
﴿أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور﴾: (أي): الإيمان والكفر، فالظلمة طرف الكفر، والنور طرف الإيمان.
قال مجاهد: الظلمات والنور: " الهدى والضلالة ".
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ﴾ الآية المعنى: قل امحمد لهؤلاء المشركين: أخلق أوثانكم خلقاً كخلق الله، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت،
3714
وخلق الله (سبحانه)، فجعلتموها شركاء لله من أجل ذلك.
ثم قال (تعالى): ﴿قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾: (أي: قل لهم يا محمد: إذا أقروا أن أوثانهم لا تخلق: فالله، ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾)، فهو أحق بالعبادة ممن لا يخلق، ولا يضر، ولا ينفع.
﴿وَهُوَ الواحد القهار﴾: أي: " الفرد الذي لا ثاني له "، ﴿القهار﴾: أي: (القهار) بقدرته كل شيء، ولا يقهره شيء.
قوله (تعالى): ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ إلى قوله ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾: هذا مثل ضربه الله تعالى (جل ذكره) للحق والباطل، والإيمان به والكفر. فالمعنى: مثل الحق في ثباته، (والكفر) في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله،
3715
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾: (أي: فاجتمعت الأودية، الماء بقدر مثلها الكبير بكبره، والصغير بصغره.
﴿فاحتمل السيل زَبَداً﴾: أي: " عالياً على الماء ".
فهذا أحد مثلي الحق والباطل. فأما النافع / فهو الحق، والزبد: الرائب الذي لا ينفع هو الباطل.
وتحقيق معنى هذا المثل: أن الماء المنزل مَثَلٌ للقرآن المنزل.
فالماء يعم نفعه كل أرض طيبة، والقرآن يعم نفعه كل قلب طيب، والأودية مثل للقلوب، لأن الأودية يستكن فيها الماء. كذلك والإيمان والقرآن يستكنان في
3716
قلوب المؤمنين. والسيل مثل للأهواء العارضة في القلوب، لأن الهزى يغلب على القلوب، كما يغلب السيل بما حمل من الماء وغيره. والزبد مثل للباطل، وما يستقر من الماء الخالص (مثل لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان، فينتفع بذلك كما تنتفع الأرض بما يستقر من الماء الخالص) فيها. ومثله المثل الثاني: ما يتحصل من جيد الذهب، والفضة، والحديد والنحاس مَثَلٌ لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان.
ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً للحق والباطل، فقال: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار﴾ إلى آخر المثل: أي: والحق والباطل كمثل فضة، أو ذهب، أو نحاس، يوقد عليه النس في النار، في طلب حلية يتخذونها، أو متاع. وذلك من النحاس: وهي الأواني التي تتخذ منه، (و) من الرصاص والحديد فيكون له
3717
زبداً، مثل زبد السيل، وزبده: خبثه الذي لا ينتفع به، فالذي يُصَفّى من هذه الأشياء هو مثل الحق ينتفع بهما. والخبث مثل الباطل لا ينتفع بهما، ثم بين لنا، في أي (شيء) ضربت هذه الأمثال فقال:
﴿كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل﴾: أي: يضرب مثل الحق والباطل، ثم حذف المضاف. " والحق ": الإيمان، و " الباطل ": الكفر: وكما أن زيد السيل، وخبث ما يوقد عليه في النار لا ينتفع به، كذلك لا ينتفع الكافر بعمله عند حاجته إليه. وكما ينتفع بالماء، وبما يوقد عليه في النار، كذلك ينتفع المؤمن بإيمانه عند حاجته إليه.
وقوله: ﴿فَيَذْهَبُ جُفَآءً﴾: أي: يذهب بدفع الريح، وقذف الماء به. فيتعلق في جوانب الوادي، وبالأشجار. وهو من: أَجْفَأتِ القدر: إذا رمت بزبدها، وهو الغشاء: فيقول: إن الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأشياء
3718
وعلا، يتمحق، ويذهب. وتكون العاقبة للحق. كما أن هذا الزبد، وإن علا (على الماء)، فإنه يذهب ويتمحق، وكذلك الخبث من الحديد، وغيره وإن علا فإنه يذهب ويتمحق، ويطرحه الكير، ويبقى من الماء وغيره ما ينتفع به.
كذلك يبقى الحق ويثبت " هذا (كله) معنى قول ابن عباس، وتفسيره (رحمة الله عليه) قال: " هو مَثَلٌ ضربه الله للناس عند نزول القرآن، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينتفع به.
(فالزبد): الشك في الله، (والذي يمكث في الأرض): اليقين.
وروي (عنه) أنه قال: هو مثل ضرب (هـ) الله للعمل الصالح، والعمل السوء: فالصالح كالماء الذي يمكث في الأرض، ينتفع به / الناس كذلك ينتفع
3719
أصحاب العمل الصالح به في الآخرة، ما تحت الخبث من الرصاص، والحديد، والذهب ينتفع به، مثل العمل الصالح.
وأما الزبد منها فلا ينتفع به، كما لا ينتفع أصحاب العمل السوء (بعملهم).
وقرأ رُؤبة: " فيذهب جُفالاً ". يقال: جفأت الريح السحاب: إذا قطعته،
3720
وأذهبته.
ثم قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى﴾ أي: (الحسنى) للذين آمنوا حين دعوا إلى الإيمان الحسنى، وهي الجنة، قاله قتادة.
وقيل: المعنى: جزاء الحسنى ﴿والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ﴾ أي: لم يؤمنوا حين دعوا أن لهم ملك ما في الأرض، ومثله معه ما قبل منهم فداء لهم من العقوبة.
ومعنى: ﴿أولئك لَهُمْ سواء الحساب﴾ " يأخذهم بذنوبهم كلها، فلا يغفر لهم منها شيئاً.
قال شهر بن حوشب: سوء الحساب: ألا يتجاوز لهم عن شيء.
وقال ابن عباس: سو الحساب، المناقشة بالأعمال.
وقال ابن وهب: عن إبراهيم النخعي أنه قال: سوء الحساب: أن يحاسب بذنبه
3721
ثم لا يغفر له.
وروي في الآثار: من نوقش الحساب هلك.
وقيل: سوء الحساب: المناقشة، والتوبيخ (وإحباط) الحسنات بالسيآت. وقيل: سوء الحساب: أشده، وهو لا يغفر لهم شيئاً من ذنوبهم، وهم الكفار ومعنى ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾: أي: بئس الفراش، والغطاء جهنم لمن هي مأواه.
وعن النبي ﷺ: ( من نوقش الحساب هلك) (أو
3722
قال): " عذب ".
قوله: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق﴾ إلى قوله: ﴿عقبى الدار﴾ المعنى: الذي يؤمن بما جئت به يا محمد، كمن لا يؤمن (وهو) الأعمى عن الإيمان، لا يبصره بقلبه.
قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله تعالى ووعوه والأعمى: الذي عمي عن الخير، فلا يبصره. وإنما يتعظ بآيات الله (سبحانه)، ويتذكر بها، وينتفع بها أهل العقول، والحجى.
ثم بين تعالى ذكره أولي الألباب ووصفهم فقال: ﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله﴾ الآية
3723
أي: هم " الذين يوفون بوصية الله، ( تعالى) التي أوصاهم بها. والعهد: الإيمان بالله، (سبحانه) وملائكته وكتبه ورسله، (سبحانه) واليوم الآخر، وما جاءت به الرسل. وأن يطيعوه، ويتقوه.
﴿وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق﴾: أي: لا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه (سبحانه): فيعمل بغير ما أمرهم به.
ثم زادهم بياناً ومدحاً، فقال: ﴿والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾: يعني: يصلون الرحم التي أمر الله، تعالى بوصلها، وهم مع ذلك ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾: أي: يخافون المناقشة يوم القيامة، وألا يصفح لهم عن ذنب. فهم وجلون لذلك، خَائِفُونَ.
و" إن " في قوله (أن يوصل) / في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ".
3724
وقيل: معنى: ﴿لَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾: لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا كتبه، يؤمنون بالكل، ويقبلون أمر الله، تعالى، ونهيه (جلت عظمته).
ثم بين تعالى أمر نوع آخر منهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ أي: صبروا على الوفاء بإقامة الطاعة، والانتهاء عن المنكر من أجل ابتغاء وجه الله ( تعالى)، أي: طلب تعظيم الله.
﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾: أي: أدوها بفروضها، وحدودها في أوقاتها.
﴿وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾: أي: أدوا الزكاة الزكاة من أموالهم، وما يجب عليهم سراً، وغير سر.
قال ابن عباس: النفقة هنا: الزكاة.
ثم قال: ﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾ أي: " يدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس بالإحسان إليهم ".
3725
وقال ابن زيد: معناه: " يدفعون الشر بالخير ".
وقيل: المعنى: " إنهم إذا همّوا بالسيئة فكروا، فرجعوا عنها، واسغفروا. ﴿أولئك لَهُمْ عقبى الدار﴾: أي: الذين تقدمت صفتهم لهم عقبى طاعة ربهم في الدنيا، دار الجنان في الآخرة.
وقيل: المعنى: أعقبهم الله تعالى جار الجنان من دارهم في النار، لو لم يكونوا مؤمنين.
وقيل: ﴿بالحسنة السيئة﴾ بشهادة أن لا إله إلا الله (وتجنب) (الشرك بالله).
3726
وقال عطاء: ﴿وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة﴾: السلام.
ويروى أن قوله: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهـ، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله.
ثم قال تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ إلى قوله ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾. معناه: أنه فسر ﴿عقبى الدار﴾ ما هي؟ فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أي: جنات إقامة لاظَعْنَ معها، بدخلها هم ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾: أي: من عمل صالحاً منهم.
قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة.
قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة.
قال أبو مِجْلَز: علم الله ( تعالى) أن المؤمن يحب أن يجمع له شمله، فجمعهم الله ( تعالى)، له في الآخرة.
3727
وقال ابن جريج: معناه من آمن في الدنيا.
ثم أخبرنا الله ( تعالى) عن حالهم إذا دخلوا الجنة، فقال: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ يقولون: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ على طاعة الله ( تعالى) في الدنيا. ﴿فَنِعْمَ عقبى الدار﴾. وسلام عليكم: خبر، معناه: الدعاء لهم، أي: سلمكم الله بما صبرتم، وليس هو تحية، لأن التحية ليست بجزاء للصبر. ولكن دعاء الملائكة لهم بالسلامة جزاء الصبر. والخبر: يأتي بمعنى الدعاء، كثير في القرآن والكلام.
وقوله: ﴿فَنِعْمَ عقبى الدار﴾: الخبر محذوف، وتقديره: فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه.
وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب.
روي عن ابن عمر (و) أنه قال: إن في الجنة قصراً، يقال له: عدن، حوله
3728
البروج والمروج، فيه خمسة آلاف، (باب، على كل باب خمسة آلاف) حِبْرة، لا يدخله إلا نبي، أو صديق، أو شهيد.
وقال الضحاك: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها.
ومعنى: ﴿بِمَا صَبَرْتُمْ﴾: أي بصبركم في الدنيا على عمل الطاعات، وعلى الانتهاء عن المعاصي. وهذا هو أفضل الصبر، أن يصبر الإنسان على فعل ما أمر (هـ) الله به، وعلى ترك ما نهاه (الله) عنه.
وروي أن قوله: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الرعد: ١٩] الآية، نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهـ، وفي أبي جهل، لعنه الله.
ثم أخبرنا الله بحال الكفار، بعد إخباره لنا بحال المؤمنين، فقال:
3729
﴿الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠]: أي: ويخالفون ما أمرهم الله، تعالى، من بعد ما وثقوا على أنفسهم لله ( تعالى)، أن يعلموا بما عهد إليهم، إذ قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢].
ثم قال (تعالى): ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ وهو الرحم وقيل: يفرقون بين الإيمان بجميع الأنبياء، فيؤمنوا ببعض (ويكفرون ببعض). والله أمرنا بالإيمان بجميعهم.
قوله: و ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض﴾ أي: يعملون فيها المعاصي.
﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ أي: لهم البعد من رحمة الله.
﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ أي: لهم ما يسوؤهم من الدار الآخرة، وهي النار،
3730
أعاذنا الله منها. وقيل معناه: سوء العاقبة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ (وَيَقَدِرُ)﴾ أي: يوسع على من (يشاء، ويضيق على من) يشاء.
﴿وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا﴾ أي: فرح المشركون بما وسع عليهم في الدنيا، ولم يُفكروا أن متاع الدنيا عند متاع الآخرة قليل.
وهذه الآية فيها تقديم وتأخير، لأن ﴿وَفَرِحُواْ﴾ (معطوف على ﴿وَيُفْسِدُونَ﴾ في الأرض).
وقوله: ﴿أولئك لَهُمُ اللعنة﴾ إلى قوله: ﴿الدار﴾: مقدم قبل ﴿وَفَرِحُواْ﴾ وتقدير الآية: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:
3731
أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار ثم ابتدأ: ﴿الله يَبْسُطُ الرزق﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي: تقول قريش: هلاّ أنزل عليه آية تدل على نبوته، كما قالوا: ﴿لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ [هود: ١٢]، فأخبر عنهم بما يشترطون، ثم قال لنبيه ( ﷺ) : قل لهم يا محمد: ﴿إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ أي: يخذل من يشاء، فيصرفه عن الهدى، ويوفق من يشاء، فيرجع إليه، ويتوب من كُفره.
فالهاء في " إليه " تعود على الحق، وقيل: على محمد ﷺ. وقيل: على الإسلام. وقيل: على الله، جل ذكره، على معنى (إلى) دينه.
ثم بَيّن تعالى من ينيب إليه ﴿الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾: أي: الذين
3732
يتُوبون هم الذين آمنوا، وتطمئن قلوبهم بذكر الله: أي: تسكُنُ، وتستأنس بذكر الله.
قال سفي (ا) ن بن عيينة: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ تطمئن قلوبهم / بأمر الله وقضائه.
وقال قتادة: هشت قلوبهم إلى ذكر الله، فاستأنست به.
قال الضحاك: ﴿وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾: أي: تصدق قلوبهم بذكر الله والقرآن.
﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾: أي: " تستأنس، وتسكن قلوب المؤمنين ".
وقيل: عني به قلوب أصحاب النبي ﷺ.
3733
ثم قال تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ المعنى: الذين صدقوا بما جاء به محمد ﷺ، وعملوا الأعمال الصالحات ﴿طوبى لَهُمْ﴾: أي: نِعم ما لهم. قاله عكرمة.
وقيل: معناه: غبطة لهم. قاله الضحاك.
وقال ابن عباس: فرحٌ لهم، وقُرَّة عين.
وقال قتادة: معناه: " حسنى لهم، وهي كلمة من كلام العرب ".
وقيل: المعنى: أصابوا خيراً، تقول العرب للرجل: " طوبى لك " أي: أصبت خيراً. وقال النخعي: ﴿طوبى لَهُمْ﴾ أي: خيراً لهم.
وقيل: هي اسم من أسماء الجنة. فالمعنى: الجنة لهم، رُوي ذلك عن ابن عباس، قال: طوبى لهم: اسم الجنة بالحبشية.
3734
وروي عنه أيضاً: طويلة لهم: هي اسم أرض الجنة بالحبشية.
وقيل: طوبى لهم: اسم الجنة بالهندي [ة].
وعن عكرمة أيضاً: طوبى لهم: الجنة لهم.
وعن ابن عباس: إنما طوبى لهم: اسم شجرة في الجنة.
وقال شهر بن حوشب: طوبى لهم شجرة في الجنة، أغصانها من وراء سور الجنة.
وعن النبي ﷺ: أنها شجرة في الجنة.
" وسئل عليه السلام: ما طوبى؟ فقال: شجرة في الجنة، مسيرها مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها، غرسها الله، تعالى، بيده، ونفخ فيها من روحه. تنبت
3735
الحلي والحلل، وإن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة "
ومعنى: ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾: حسن منقلب ومرجع.
وقال أبو أمامة الباهلي: طوبى: شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، (ولا ثمرة إلا وهي فيها) وموضع (طوبى): رفع بالابتداء، و ﴿لَهُمْ﴾: الخبر، ودلَّ على أنها في موضع رفع قوله: ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ بالرفع بلا اختلاف بين القراء، وهي " فُعْلَى "، من " أطيب " فالواو
3736
منقلبة عن ياء لضمه بالفعل، وأصلها " طُيْبى " على " فُعلى ". لكن لما كانت اسماً غير صفة، ردت إلى فعل (ى)، لخفة الأسماء، فانقلبت الياء واواً لانضمام الأول.
ألا ترى أن ضمير أصل الياء فيها واو، وأصلها " فعلى " (على) صور. ولكن لما كانت صفة، ردت إلى الياء للخفة، وثقل الصفة. ودل على أنها فعل (ى) أن (هـ) ليس في الصفات (فعلى): وهي في الآية صفة " لقسمة ". فعلم أن أصلها فعل (ى)، فجاز أن تقع فعل (ى) صفة، لأنه يقدر فيها أصلها، وهو فعلى "، ولولا ذلك ما جاءت فعل (ى) صفة.
3737
وحَسُنَ رَدُّها إلى فُعلى لما ذكرناه من ثقل الصفة، فخففت بردها إلى الياء، لأن الياء أخف من الواو.
وكذلك ردت طوبى إلى الواو. ولأنها اسمٌ، والاسم أخف / من الصفة، فسهل نقله إلى الواو، وإن كانت الواو أثقل من الياء.
قوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ﴾ إلى قوله: ﴿لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾: المعنى: هكذا يا محمد ﴿أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ﴾: أي: إلى أمة قد خلت من قبلها أمم على ما هم عليه من الكفر، لتتلو عليهم القرآن ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ أي: يجحدون وحدانيته.
قل يا محمد: هو ربي: أي: إن كفر هؤلاء الذين أرسلت إليهم، فقل أنت الله ربي ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ أي: وإليه مرجعه، وأَوْبتي. وهو مصدر تاب متاباً، وتوبة.
3738
ثم قال تعالى (ذكره): ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال﴾.
هذه الآية نزلت جواباً لقريش، وذلك أنهم قالوا للنبي ﷺ: إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا حتى نتخذ قطائع نحترث فيها، أو أحي لنا فلاناً، أو فلاناً لناس ماتوا: فأنزل الله ( تعالى) :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً﴾ - الآية - أي: ولو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل ذلك بقرآنكم.
وقال الضحاك: قال كفار مكة للنبي ﷺ: سير لنا الجبال كما سيرت لداود ( ﷺ)، واقطع لنا الأرض كما قطعت لسليمان، وكلّم لنا الموتى، كما كان عيسى يكلمهم. فنزلت هذه الآية. وهذا قول ابن زيد.
3739
وجواب " لو " محذوف، وتقديره: لو فعل هذا بقرآن لفعل مثله بقرآنكم وقيل: التقدير: لما آمنوا.
وقال الكسائي: " لو " بمعنى: " وددنا " فلا تحتاج إلى جواب.
والتقدير: وددنا أن قرآناً (سيرت به الجبال).
وقيل: المعنى: لو قضيت ألا يقرأ هذا القرآن على الجبال، إلاَّ مرَّت، وعلى الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا حَيّوا، وتكلموا: ما آمن من سبق عليه في علمي الكفر.
ويدل على هذا التفسير قوله بعد ذلك: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً﴾ أي: أفلم يعلم الذين صدقوا ذلك.
3740
وقال الفراء: الجواب: وهم يكفرون بالرحمن، والتقدير: ولو أن قرآناً سيرت به الجبال لكفروا بالرحمَن.
وقيل: إن قوله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾ نزلت في أبي جهل، لعنه الله، وذلك أن النبي عليه السلام كان في الحجر يدعو يقول: يا رحمن، وأبو جهل لعنه الله يستمع إليه، فولى أبو جهل، (أخزاه الله) مُدْبراً إلى قريش، فقال لهم: إن محمداً ينهانا أن نعبد الآلهة، وهو يدعو إلاهين: يدعو الله، ويدعو إلهاًَ آخر يقال له الرحمن. فأنزل الله ( تعالى) ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن﴾، وأنزل ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾ [الإسراء: ١١٠] الآية.
ثم قال تعالى (ذكره): ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا﴾ والمعنى: أفلم يعلم الذين آمنوا، والتفسير: أن الكفار لما سألوا تسيير الجبال بالقرآن، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى.
طمع المؤمنون أن يُعطى الكفار ما سألوا، فيؤمنوا / فقال الله: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولا يحتاجون إلى رؤية ما ذكروا.
3741
وقيل: المعنى: أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء، لعلمهم أن الله، ( تعالى)، لو أراد أن يهديهم لهداهم. ثم قال (تعالى): ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ (قَارِعَةٌ)﴾ (الآية): أي: لا يزال يا محمد الكفار من قومك تصيبهم بما صنعوا من الكفر، ومن إخراجك (من) بين أظهرهم قارعة: وهو ما يقرعهم من البلاء والعذاب، من القتل والحرب. والسرايا التي تمضي إليهم.
وقيل: القارعة: النكبة، أو تحل أنت يا محمد قريباً من ديارهم بجيشك، وأصحابك ﴿حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله﴾: (أي) الذي وعدك فيهم، وهو الظهور عليهم، وقهرك إياهم بالسيف.
3742
﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ﴾ ما وعدك به، وهو فتح مكة.
وعن الحسن: وعد الله: القي (ا) مة في هذا الموضع.
وقيل: أن تحل القارعة قريباً من دارهم. قاله الحسن.
قوله: ﴿وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ إلى قوله ﴿مِن وَاقٍ﴾ والمعنى أن يستهزئ هؤلاء من قومك يا محمد، فاصبر على آذاهم، وامض على أمر الله تعالى في إنذارهم.
﴿وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي: أَطَلْتُ للمستهزئين بربهم في الأجل والأمل، ثم أحللت بهم العقوبة. فكيف رأيت عقوبتي؟.
والإملاء: الإطالة، ومنه قيلك لليل والنهار الملوان، لطولهما. ومنه قيل
3743
للخرق الواسع من الأرض ملأ لطول ما بين طرفيه.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ " من ": رفع بالابتداء، والخبر محذوف، وبه يتم المعنى.
والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت كشركائهم، والتقدير: أفمن هو حافظ على مل نفس لا يغفل، ولا يهلك (كمن يهلك ولا يحفظ) ولا يحصي شيئاً (فالجواب محذوف) لعلم المخاطب).
وقيل المراد به الملائكة الموكلون على بني آدم، والقول الأول أشهر، وأكثر.
ثم قال (تعالى): ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ هذا يدل على المحذوف، والمعنى: أفمن هو قائم كشركائهم. ودلّ ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ﴾ على المحذوف ثم قال: قل لهم يا محمد ﴿سَمُّوهُمْ﴾: أي يسموا هؤلاء الشركاء، فإن قالوا: آلهة فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا هو الواحد (القهار)، لا شريك له.
3744
﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض﴾ (أم تخبرونه بأن في الأرض إلهاً، ولا إله إلا هو في الأرض والسماء.
وقوله: ﴿أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول﴾: أي: أم قلتم ذلك بظاهر قول، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له.
ثم قال (تعالى) ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ﴾ المعنى ما لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم: أي: زيِّن لهم عملهم، وصدوا الناس عن الإيمان.
ومن قرأ بضم الصاد، فمعناه: أن الله أعلمنا أن صدَّهم عن الهدى عقوبة لهم. ودلّ على ذلك قوله: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي: من أضله الله تعالى عن إصابة الحق، فلا يقدر أحد على هدايته.
ثم قال تعالى: ﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا﴾ أي: لهؤلاء الكفار الذين
3745
تقدم ذكرهم عذاب في الحياة الدنيا، وهو القتل والأسر.
﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ﴾ أي: أشد من عذاب الدنيا. ﴿وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ أي: ليس يقيهم من عذاب الله (سبحانه) أحد.
قوله: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون﴾ إلى قوله ﴿وَلاَ وَاقٍ﴾ التقدير عند سيبويه: " وفيما يتلى عليكم "، أو: " مما يقص عليكم مثل الجنة، وهذا قياس مذهب سيبويه.
وقال الفراء: التقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ومثل (...).
وقيل: هو مردود إلى قوله: ﴿لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى﴾ [الرعد: ٢٠].
3746
ثم قال: صفة الجنة التي وعد المتقون، تجري من تحتها الأنهار.
ثم قال: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ أي: المأكول منها دائم لأهلها لا انقطاع له، كما قال ( تعالى) :﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٣]، وظلها دائم دائم أيضاً.
﴿تِلْكَ عقبى الذين اتقوا﴾ أي: عاقبتهم، وعاقبة الكافرين النار.
ويروى أن ابن عباس كان يتوقف عن تفس (ي) ر هذه الآية، ويحلف بالله لو فسرت ما حملها جميع إبل العالمين. يريد ابن عباس أن الجنة لو وصفت على حقائقها، ما حمل صفتها مكتوباً جميع إبل العالمين: لجلالة أمرها، وعظيم شأنها، في نعيمها وملكها. وما أعد الله) تعالى) لأوليائه فيها. ويدل على ذلك (أيضاً): قول النبي ﷺ: " فيها ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت ".
3747
وقال الله تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧].
وقال: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً﴾ [الإنسان: ٢٠].
ثم قال تعالى: ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ﴾ المعنى والذين آتيناهم الكتاب م (من) آمن بمحمد ﷺ فهم يفرحون بما أنزل إلى محمد.
قال قتادة: هم أًحاب، محمد ﷺ، يفرحون بما أنزل إليه.
وقيل: ﴿والذين آتَيْنَاهُمُ (الكتاب)﴾ عني بهم اليهود والنصارى،
3748
يفرحون بالقرآن، لأنه مصدق لأنبيائهم، وكتبهم، وإن لم يؤمنوا بمحمد، ( ﷺ).
وقيل: عني بذلك الثمانون الذين آمنوا من نصارى نجران: أربعون وثمانية من الشام، واثنان وثلاثون من أرض الحبشة. آمنوا بالنبي (عليه السلام) وصدقوا به.
ثم قال (تعالى): ﴿وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي: ومن أهل الملل المتحزبين عليك يا محمد من ينكر بعض ما أنزل إليك.
وقيل: هم من اليهود والنصارى.
ثم قال: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾: (أي: قل لهم يا محمد: إنما أمرت أن أعبد الله، ولا أشرك به) في عبادته. ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو﴾: أي: إلى طاعة أدعو الناس. ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾: أي: مصيري.
ثم قال تعالى: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ أي: كما أنزلنا عليك الكتاب يا
3749
محمد / فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أيضاً أنزلنا الذكر والحكم حكماً عربياً.
ونصب (حكم) على الحال " وعربي ": نعت (له). وإنما وصف الحكم بالعربي، لأنه أنزله على عربي، فنسب الدين إليه، إذ كان عليه أنزل.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾ هذا خطاب للنبي ﷺ، والمراد به: أمته، وفيه تهدد.
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ إلى قوله ﴿وَعَلَيْنَا الحساب﴾ المعنى أن الله ( تعالى) أعلم نبيه ﷺ، أنه قد أرسل من قبله رسلاً من قبل أمته، وأنهم بشر مثله: لهم أزواج وذرية، وأنه لم يجعلهم ملائكة، لا ينطحون ولا ينسلون، ولم يكن ﴿لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي: ما يقدر أن يفعل ذلك رسول إلا بإذن الله.
3750
والمعنى: لا يقدر رسول (الله) أن يأتي بعلامة، (أو) آية: من تسيير الجبال، ونقل بلدة إلى بلدة أخرى، وإحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات التي سألت قريش النبي ( ﷺ).
﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي: (إلا) بإذن الله له أن يسأل الآية فيعلم أن في ذلك صلاحاً.
وقيل: إن هذا الكلام لفظه حظر، ولا يجوز أن يخطر على أحد ما لا يقدر عليه. فظاهره خطر، ومعناه: وتقديره: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. نفى الله ذلك عن الرسل وبرأهم منه، (ومثله): ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ﴾ [آل عمران: ١٦١]، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [آل عمران: ١٤٥]. وهو كثير في القرآن، ظاهره
3751
الحظر (والمنع)، ومعناه النفي.
قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي: " لكل أمر قضاه الله، كتاب كتبه فهو عنده ". وقيل: المعنى: لكل كتاب أنزل الله من السماء أجل: فيمحو الله من ذلك ﴿مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ ما يشاء، ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾.
قال الفراء: هذا مقدم ومؤخر، معناه: لكل كتاب أجل، كقوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق: ١٩]: أي: سكرة الحق بالموت.
(وقد قيل: إنه لا تقديم في هذا)، ولا تأخير، والمعنى: وجاءت سكرة الموت لأن سكرة الموت غير الموت. فالحق: هو الموت الذي ختمه الله على جميع خلقه.
وقيل: معناه: لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مكتوب، وأمر مَقَدَّرٌ، مقتضى لا تقف عليه
3752
الملائكة.
ثم قال تعالى: ﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ أي: يَمْحُوَ الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره، إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يغيران قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: يدبر الله أمر السنة في رمضان، فيمحو ما يشاء (من ذلك) إلا الشقاء والسعادة، والموت والحياة. وتدبير ذلك في ليلة القدر.
وعن ابن عباس أيضاً معناه: يمحو ما يشاء، ويثبت من كتاب سوى، أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء.
قال ابن عباس: هما كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء، ويثبت وعند (هـ) أم الكتاب: لا يغير منه شيء، وهو قول عكرمة.
3753
وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهـ: يمحو كل ما يشاء، ويثبت كل ما أراد وسمع /، وهو يقول في الطواف: اللهم إن كنت كتبت علي الذنب والشقاء، فامْنَحْني واكتبني في أهل السعادة.
فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وهو قول ابن مسعود وسفيان.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهـ، أن معناه: يمحو الله ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه، أنو يبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، ولا يبدله.
﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، ما ينسخ، وما لا ينسخ. وهو اللوح المحفوظ. وهو قول قتادة، وابن زيد وابنم جريج، وعليه أكثر المعاني، وعامة المفسرين، وهو شاهد لجواز النسخ (في القرآن).
وقيل: معناه: يمحو الله من قد حان أجله، ويثبت من لم يحن أجله. قاله الحسن،
3754
قال: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾: أي: أجل بني آدم في كتاب الله، ( تعالى) يمحو الله ما يشاء، من جاء أجله، ويثبت الذي هو حي حتى يجيء أجله.
وعن ابن عباس من رواية أبي صالح، عنه أنه قال: إن أعمال العباد تعرض على الله مما كتبت الحفظة، مما ليس للإنسان، ولا عليه. فيمحو ما ليس له، وما ليس عليه. ويثبت ماله، وما عليه، فيجازى بذلك.
فالحفظة تكتب كل شيء، والله يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، دليله قوله تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]: أي: حاضر.
وعن مجاهد رضي الله عنهـ: أنها نزلت في قريش، قالت: لما نزلت على رسول الله ﷺ، ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ قالت: ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً.
3755
﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ ما يشاء، أي: إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء وروي ذلك أيضاً (عن الحسن).
وعن ابن عباس: أن المعنى ينسخ الله ما يشاء من القرآن ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقاله محمد بن كعب. وعن عكرمة مثله.
وروى ابن جبير، عن ابن عباس في معنى الآية: أن الله، جل ذكره، يدبر أمر السنة في ليلة القدر، فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء إلا الموت والحياة، والسعادة والشقاء. وكل (هذا) قد تقدم في علمه، علم ما يكون بلا أمد.
وقيل: المعنى يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره قاله ابن جبير.
وقيل: المعنى: يمحو الله ما يشاء مما تكتب الحفظة، مثل الأشياء التي ليس
3756
للإنسان، ولا عليه، ويثبت ما له، وما عليه. قاله أبو صالح، وقال (هـ) أبو سليمان الداراني: قال: يمحو الله ما ليس بحسنة، ولا سيئة، ويثبت ما هو حسنة، وما هو سيئة.
﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي: ذلك (كله) في اللوح المحفوظ، قد جرى به القلم قبل خلق الخلق.
وعن ابن عباس أيضاً: / أنه قال في قوله
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، قال: يكتب كل ما يتكلم به العبد من خير، أو شر حتى إنه ليكتب: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرضة قوله جملة. فأقر ما كان فيه من خير وشر، وألقى ما عدا ذلك وذلك قوله: ﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾.
واختار جماعة من أهل العلم قول الحسن ومجاهد: يجعلونه جواباً للمشركين.
وقوله: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾. قال الحسن: أم الكتاب: الحلال والحرام.
3757
والحمد لله هي أم القرآن.
وقيل: أم الكتاب: اللوح المحفوظ.
وقال قتادة: ﴿أُمُّ الكتاب﴾: جملة الكتاب، وأصله: أي: جملة ما ينسخ، وما يثبت.
وقال كعب: علم الله ما هو خالق، وما يعلم خلقه.
يقال: محوت الكتاب، أمحوهُ محواً، وهي لغة القرآن. ويقال: محوته، أمْحَاهُ، محواً، ومحيت، أمحى لغة.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾: أي: إن أَرِيَنَّكَ يا محمد! بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب.
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾: قبل ذلك، فليس عليك في الحالين إلا بَلاغٌ ما أرسلت به، وعلينا حسابهم في الآخرة. فنجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
3758
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض﴾ إلى قوله ﴿عُقْبَى الدار﴾ معناه عند ابن عباس: أَوَلَمْ ير أهل مكة الذين سألوا محمداً الآيات أنا نفتح على محمد الأرض (بعد الأرض) من حولهم، ولا يخافون أن يفتح عليه أرضهم كما فتحنا له غيرها. ودلّ على ذلك قوله في الأنبياء: ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾: بل، محمد وأصحابه الغالبون.
وأكثر المفسرين على أنه يراد به: ذهاب خيار الناس، وعلمائهم، وصالحيهم.
وقال الضحاك، والحسن: هو ظهور المسلمين على المشركين.
وقيل: هو هلاك الأمم قبلهم، ووخراب أرضهم. فيقول: ألَم تر قريش
3759
هلاك الأمم قبلهم، قاله مجاهد، وابن جريج.
وروي عن ابن عباس، ( C) نحوه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقص بركات الأرض وثمارها، وأرضها بالموت. وجماعة من العلماء على أن المعنى في النقص: موت أهل الأرض، وهو قول عكرمة.
وروي عن مجاهد، وقال ابن عمر: نقص الأرض هي التي موت فقهائها، وخيار أهلها. ثم قال (تعالى): ﴿والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ أي: يحكم ويقضي، فينفذ
3760
حكمه، ولا رَادَّ لحكمه، ولا مانع لقضائه. فإذا أراد بهؤلاء المشركين (شراً) لم يرده أحد.
والأطراف جمع طرف، والطرف: الكريم من كل شيء.
قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنهـ: العلم أودية، في أي واد أخذت منه حَسِرْت، فخذ من كل شيء طرفاً: خياراً. ومنه قولهم:
ما يدري: أيُّ طرفيه أطول، أي: ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه، أو من ناحية أمِّه. فصار / معنى ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾: أي: من علمائها، لأن العلماء هم الخيار. ومعنى ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ أي: يحصي أعمال هؤلاء المشركين، لا يخفى عليه شيء منها.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً﴾ والمعنى: وقد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين من الأمم، فوقع بهم العذاب، فلله أسباب المكر
3761
كلها، وبيده الضر والنفع. فلن يضر الماكرون بمكرهم أحداً إلا بإذن الله، لأن أسباب المكر كلها بأمر الله، وإنما يضرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بك يا محمد، والله منجيك من مكرهم، وملحق ضرر مكرهم بهم دونك.
ومعنى المكر من الله " أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلمون ".
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أي: يعلم ما يفعل هؤلاء المشركون، وما يسعون فيه من المكر بك، ويعلم جميع أعمال الخلائق كلهم.
﴿وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار﴾ أي: سيعلمون، إذ قدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة (عقبى) الدار في الآخرة.
3762
وقيل: الكافر هنا يراد به أبو جهل لعنة الله.
(ومن قرأ): " الكفار " بالجمع. قيل: عني به المستهزءون وهم خمسة، والمقتسمون، وهم ثمانية وعشرون.
قوله: ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ إلى قوله: ﴿عِلْمُ الكتاب﴾ المعنى: ويقول الذين كفروا من قومك يا محمد! لست مرسلاً، تكذيباً لك.
فقل لهم يا محمد ﴿كفى بالله شَهِيداً﴾ أي: حسبي الله ﴿شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: عليَّ وعليكم، والذي ﴿عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾.
أي: علم الكتب التي أنزلت قبل القرآن، كالتوراة، والإنجيل، وهو عبد لله ابن سلام في قول مجاهد، وكذلك روى عبد الله بن سلام أنه قال يوم قتل عثمان لما
3763
نهاهم عن قتله: قالوا: كذب اليهودي، فقال: وآثمتم، إني لمسلم، يعلم الله ذلك، ورسوله، والمؤمنون. وقد أنزل فيَّ: ﴿كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ وهذا يدل على (أن) هذه الآية مدنية، لأن عبد الله بالمدينة أسلم.
وقل قتادة أيضاً: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾: هم ناس من أهل الكتاب، كانوا يشهدون بالحق، ويقرون به، ويعلمون أن محمداً رسول الله، كنا نحدث أن منهم عبد الله بن سلام.
وروي عنه أنه، قال: منهم عبد الله بن سلام، الفارسي، وتميم الدار (ي).
3764
وقال الحسن: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ هو الله؟
يذهب إلى أن المعنى: كفى بالله، والذي عنده علم الكتاب.
واختار النحاس هذا القول، واستبعد أن يستشهد الله لأحد من خلقه. ودل على ذلك قول عكرمة، وابن جبير، وغيرهما: نزلت هذه الآية بمكة، فلا سبيل إلى ذكر عبد الله بن سلام هنا، لأنه بالمدينة أسلم. ويدل على ذلك أيضاً أنه قد قرأ ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾: فهذا هو الله، جل ذكره، لا يجوز غيره، أي: ومن عند الله علم الكتاب. وهي قراءة مروية عن ابن عباس /، وغيره.
ومن فتح " ومَنْ عنده " كانت الهاء تعود على " من ".
و" من ": هو الله، أو على ابن سلام، وشبهه على الاختلاف المذكور.
3765
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ترى القوم أسواء إذا جلسوا معاً وفي القوم زيفٌ مثل زيف الدراهم