تفسير سورة الكهف

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

مخالف في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله عليهم، وليس حكمهم مخالفا له، تدبر. «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ» ٢٥ رجوعهم بعد الموت لنا لا لغيرنا «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» ٢٦ في الموقف ومجازاتهم وناهيك بنا إذا حاسبنا أو عفونا، وقيل:
حاسبونا فدققوا... ثم منّوا فأعتقوا
هكذا عادة المترك... بالمماليك يرفقوا
وفي رواية يشفقوا. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وعلى من تبعهم بإحسان ورضوان من الله ومغفرة ورحمة.
تفسير سورة الكهف عدد ١٩- ٦٩- ١٨
نزلت بمكة بعد الغاشية، عدا الآيات ٢٨ ومن ٨٣ إلى ١٠١ فإنهن نزلن بالمدينة، وهي مئة وعشر آيات، وألف وخمسمائة وسبع وخمسون كلمة، وسنة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ» محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «الْكِتابَ» القرآن العظيم العربي السوي «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» ١ في مبانيه ولا بمعانيه، لأن العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، يقال في رأيه عوج كما يقال في عصاه عوج، ولكن يقال لما يدرك بالعين بفتح العين، ولما لا يدرك بكسرها. ومن هذا القبيل الغين بفتحتين الخديعة في الرأي، وبفتح وسكون الخديعة في البيع والشراء، والسكن بالفتح ما سكنت إليه، وبالسكون أصل الدار، والغول بالفتح البعد، وبالضم ما اغتال الإنسان، واللحن بالفتح الفطنة، وبالسكون الخطأ بالكلام، والخمرة بالفتح الريح الطيبة، وبضم الخاء في اللبن والعجين والنبيذ، والجد بالفتح الحظ، وبالكسر الاجتهاد، راجع الآية ١٧ من سورة الفرقان في ج ١ والآية ٥٦ من سورة المؤمن المارة تجد ما يتعلق بهذا البحث «قَيِّماً» عدلا مستقيما جيء بهذه تأكيدا لأن
162
نفي العوج يغني عن الاستقامة، ولذلك وصفه به إذ رب مستقيم مشهود له في الاستقامة لا يخلو عن أدنى عوج أو عوج في ذاته ورأيه عند تصفحه وتفحصه «لِيُنْذِرَ بَأْساً» عذابا عظيما في الدنيا والآخرة «شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» للكافرين به «وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ» عند الله «أَجْراً حَسَناً» ٢ لا أحسن منه وهو الجنة ونعيمها الدائم، يدل عليه قوله «ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» ٣ لا يتحولون عنه «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» ٤ من الملائكة وهم قريش ومن حذا حذوهم، ويدخل في هذه الآية الذين اتخذوا عزيرا والمسيح ولدين له من النصارى واليهود، تنزه عن ذلك تأسيا بهم، راجع الآية ٣٠ من سورة التوبة والآية ١٦ من سورة المائدة في ج ٣، وبما أن قولهم هذا كله بهت وافتراء محض قال تعالى «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ» أبدا وإنما صدر منهم هذا القول عن جهل مفرط بذات الإله المنزه عن ذلك، وانتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، وقد يكون في نفسه محالا لا يستقيم تعلق العلم به كهذا القول، لأنه ليس من العلم لاستحالته «وَلا لِآبائِهِمْ» به علم فإنهم قالوه عن جهل أيضا وتلقوه عنهم جهلا دون نظر وتدبر وتفكر «كَبُرَتْ» هذه الكلمة منهم وعظمت «كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» من غير أن تحكم بها عقولهم ولكن لا عقل لمن يقولها ما أكبرها من كلمة «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» ٥ بحتا غير مطابق للواقع، وبعضهم عرّف الكذب بأنه الخبر الغير مطابق للواقع مع علم قائله أنه غير مطابق للواقع، ولا وجه لهذه الزيادة في الحد لأن الكثيرين يقولون هذا القول ولا يعلمون كونه باطلا غير مطابق للواقع، فظهر أن هذه الزيادة باطلة «فَلَعَلَّكَ» يا سيد الرسل «باخِعٌ نَفْسَكَ» مهلكها «عَلى آثارِهِمْ» حين تولوا عنك لما أنذرتهم ودعوتهم للإيمان حزنا عليهم وتتبع طرفك حسرات عليهم لتباعدهم عنك، شبهه وإياهم برجل فارق أحبته فصار يساقط الدموع على آثارهم وأطلال ديارهم وجدا عليهم وتلهّفا على فراقهم، راجع الآية الثانية من سورة الشعراء في ج ١، وهنا كأنه يشير إلى ما جاء آخر السورة امارة من قوله (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) وهو وجه المناسبة بمجيئها بعدها، وقد أبان الله تعالى سبب تأسفه
163
وتأوهه عليهم بقوله «إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ» الجليل الشأن أي القرآن المعبر عنه بصدر السورة بالكتاب ووصفه بالحديث بالنسبة لما نتلوه نحن لأن تلاوتنا له حادثة وهو قديم منزه عن الحدوث، راجع بحث خلق القرآن بالمقدمة «أَسَفاً» ٦ مفعول لأجله أي أنك قاتل نفسك لأجل التأسف عليهم لعدم إيمانهم، فلماذا يكون منك هذا؟ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البحتري، في نفر من قريش اجتمعوا (على خلاف رسول الله ومناوأته) وكان صلّى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلافهم إياه وإنكارهم ما جاء به من الهدى فأهمه ذلك وأغمه، فأنزل الله هذه الآية يسليه بها. وقال بعض المفسّرين إن معنى باخع قاتل والقتل والإهلاك شيء واحد، قال ابن الأزرق:
لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع
أي مهلك. وقال الفرزدق:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحّته عن يديه المقادر
أي القاتل. قال تعالى «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ» من الجبال والأودية والبحار والأنهار والنبات والأشجار والمعادن والحيوان «زِينَةً لَها» كما زينا السماء الدنيا بالكواكب المختلفة ليغتر أهلها بها وتأخذ قلوبهم زخارفها وذلك «لِنَبْلُوَهُمْ» نختبرهم ونمتحنهم «أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ٧ فيها وأزهد لما يعطى منها من غيره المنهمك في حبها لنظهر للناس ذلك وليعلموا من يميل إليها بكليته ممن يرغب عنها، وإلا فالله عالم بذلك قبل ذلك «وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها» من الزينة بعد كمالها وتطاول أهلها «صَعِيداً» أرضا ملساء «جُرُزاً» ٨ يابسة بعد أن كانت خضراء زاهية ونفعل بأهلها كذلك بأن نسلبهم ما جمعوه منها حتى يأتوننا صفر اليدين خاسرين الدنيا والآخرة، راجع الآية ٩٤ من سورة الأنعام المارة، وقد أكدت الجملة بأن واللام إيذانا بتحقيق وقوعه وهو واقع لا محالة في الوقت المقدر لخراب الدنيا، راجع الآية ٢٥ من سورة يونس المارة.
164
مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة، وخطيب أهل الكهف:
قال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا منكم إلى يهود المدينة واسألوهم عنه، فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم، فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنتين ولم يجب عن واحدة فهو نبي، فاسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الشمس ومغربها ما خبره، وعن الروح (راجع الآية ٨٥ من الإسراء في ج ١) فرجعوا وأخبروا قومهم بذلك، ثم انهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ» الغار الواسع يكون في الجبل «وَالرَّقِيمِ» اللوح المكتوب عليه أسماؤهم وقصتهم «كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» ٩ أتظنّ يا محمد أن شأنهم أعجب من آياتنا التي منها خلق السماء والأرض وما فيهما وعليهما كلا، بل في خلقنا ما هو أعجب وفي صنعنا ما هو أبدع من ذلك، وإذ سألوك عنهم يا حبيبي فاذكر لهم ما نوحيه إليك مما هو أوضح مما عند أهل الكتاب وغيرهم وأصح «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ» جمع فتى وهو الطريّ من الشباب والجمع للقلة «إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» هدى ونصرا وأمنا من أعدائنا ورزقا ومغفرة «وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا» الذي نحن عليه من مفارقة الكفرة والركون إلى دينك القويم «رَشَداً» ١٠ واهتداء للطريق الموصل إليك.
قال تعالى «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» ١١ أي أجبنا دعاءهم وهديناهم الدخول في الغار الذي صاروا إليه وألقينا في قلوبهم أن يناموا فيه قناموا حالا مع أن الخائف لا ينام وجعلنا عليهم حجابا ثقيلا بحيث لا تنبههم الأصوات إلى الوقت المقدر ليقظتهم منه كما سيأتي «ثُمَّ بَعَثْناهُمْ» أيقظناهم من نومهم «لِنَعْلَمَ» لا شك أنه تعالى عالم وإنما أراد إعلام الناس بذلك ليعرفوا «أَيُّ الْحِزْبَيْنِ» المختلفين في مدة نومهم «أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» ١٢ الأمد المدة التي لها حد والفرق بينه وبين الزمان أن الأسد يقال باعتبار الغاية بخلاف الزمن فإنه عام في المبدأ
165
والغاية ومثله المدى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا سيد الرسل «نَبَأَهُمْ» خبرهم قصصا صحيحا «بِالْحَقِّ» الذي لا مرية فيه وهو «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً» ١٣ بإيمانهم وبصيرة في تصديقهم ومعرفة بإسلامهم «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» الطاهرة المملوءة بالعقيدة الراسخة بوجود الإله الواحد والبعث والجنة والنار لأنا نورناها بنور البصيرة، ثم أوقرناها بالصبر، وقويناها باليقين «إِذْ قامُوا فَقالُوا» لملكهم الجبّار دقيانوس حين أنبهم على عدم عبادة الأوثان وعدم الاعتراف بألوهيتها «رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً» إن دعونا غير إلهنا الحق تبعا إلى هواكم وخوفا من عقابكم فيكون قولنا قولا «شَطَطاً» ١٤ أشرا كذبا محضا وبهتا، لأن الشطط هو الغاية في البعد والنهاية في مجاوزة الحد، وقالوا أيضا «هؤُلاءِ قَوْمُنَا» الذين اتبعوا «اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» وفي هذا تبكيت وتقريع، لأن الإتيان بالحجّة على صحة عبادة الأوثان محال «لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ» وإذا لم يأتوا فقد ظلموا أنفسهم «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ١٥ لا أظلم ممن زعم أن لله شريكا. قال تعالى «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ» تركتم قومكم «وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ» من الأوثان فرارا من دينهم الذي يريدونكم عليه قسرا أيتها الفئة الصالحة حفظا لدينكم وحرصا عن صدكم عنه، وذلك أنهم هربوا من أمام الملك لما رأوه يريد الفنك بهم لما سمعه منهم من الطعن في دينه وهجروا أوطانهم وفارقوا قومهم حبا بدينهم وحرصا عليه وقال بعضهم لبعض أثناء الهرب «فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ» وكلهم يعرفه بدليل مجيئه معرفا، فتراكضوا نحوه ولجأوا إليه وأعمى الله جماعة الملك الذين لحقوقهم ليقبضوهم ويحضروهم أمامه ليعذبهم على ما وقع منهم، إن يروهم، كيف لا وقد ألهمهم الله تعالى قوله «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ١٦ منتفعا ويسرا وسهولة، ثم اختفوا فيه وألقى الله عليهم النوم الثقيل. وقد ذكر الله تعالى ما خصهم به من اللطف والعطف لقوة يقينهم وثبات عزيمتهم فقال «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ» تميل وتعدل «عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ» جانبه
166
وجهته «وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ» تتركهم وتزورّ عنهم «ذاتَ الشِّمالِ» لجانبه وجهته «وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ» من متسع الغار «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» وعجائبه وبدائعه لأن من كان في ذلك السمت لتصيبه الشمس وهي لا تمسهم إكراما لهم وهم لم يقصدوا ذلك الغار إلا بهداية الله «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» وفي هذه الجملة ثناء عليهم لسلوكهم سبل الهداية وعطفا عليهم لتخصيصهم بتلك الكرامة ولطفا بهم لإنقاذهم من الضلالة «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» ١٧ من دونه البتة «وَتَحْسَبُهُمْ» أيها الناظر إليهم «أَيْقاظاً» لأن أعينهم مفتحة «وَهُمْ رُقُودٌ» نيام، والواو هنا للحال، وهذا من جملة ما خصّهم الله به ليهابهم منّ يدخل عليهم فيتحاشاهم وينكص خوفا منهم لأنهم جماعة وفي ظل كهف فلا يتجاسر أحد من أن يقربهم. قال تعالى «وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ» من جانب لآخر بصورة متمادية بدليل تضعيف الفعل لئلا تأكلهم الأرض وزيادة في حرمتهم حفظا لكيانهم وإكراما لشأنهم «وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» عتبة باب الكهف ومحل غلقه لو كان له باب يغلق كالحارس لهم من الهوام وغيرها يقلب معهم أيضا مفتوحة عيناه وقد سعد بسعادتهم ويدخل الجنة معهم فلا يوجد فيها من نوعه غيره فهو من المخصوصين كحمار عزير وعصا موسى وناقة صالح وكبش إسماعيل، ولهذا صار بعض الشيعة يسمون أولادهم كلب علي وسمي ما وراء عتبة الدار وصيدا لأنه يوصد بالعمد ويدقر بها لئلا يفتح. راجع آخر سورة الهمزة في ج ١، «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ» أيها الإنسان الكامل وهم
على حالتهم تلك «لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً» لما ترى عليهم من الهيبة التي ألقاها الله عليهم ليبقوا على حالتهم حتى انقضاء الأجل المضروب لقيامهم كما سيأتي «وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» ١٨ لما ألقى الله عليهم من الهيبة ووضعية كلهم ووحشة مكانهم، قال ابن عباس: غزونا الروم مع معاوية فمررنا بالكهف، فقال معاوية لو كشف الله لنا عنهم لنظرناهم، فقال ابن عباس منع الله ذلك من هو خير منك، وتلا عليه (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) الآية، لأن المخاطب بها سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم. قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم بذلك اليوم «بَعَثْناهُمْ» أحييناهم من موتهم
167
بانقضاء آجالهم المقدرة في علمنا «لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ» عن مدته لاشتباههم بها كما سيأتي في القصة «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ» بعد إفاقتهم «كَمْ لَبِثْتُمْ» في رقدتكم هذه، لأنهم لم يروا تغييرا ما من أنفسهم إلا ما أنكروه من طول أظفارهم وشعورهم «قالُوا» بعضهم لبعض «لَبِثْنا يَوْماً» كعادة النائم إذ لا يزيد على اليوم غالبا، ولما نظروا إلى الشمس، وقد يقي منها بقية، وكان نومهم غدوة النهار، ورأوا آثار النوم بأعينهم كأنهم لم يستوفوا معتادهم منه، فقالوا «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إلا أنهم في شك من قولهم هذا لما رأوا طول أظفارهم وشعورهم، بما يدل على أن نومهم أكثر من أن يقدر، فارتبكوا و «قالُوا» بعضهم لبعض «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ» فوضوا العلم إلى الله لئلا يخطئوا في التقدير، ثم أحسوا بالجوع فقال بعضهم لبعض «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» الفضة المضروبة المتعامل بها تداولا بين الناس وهو بكسر الراء المال من الدراهم فقط، وبفتحها المال و؟؟؟ والإبل كما في أدب الكاتب لابن قتيبة، وقيل في المعنى:
أعطينني ورقا لم تعطني ورقا قل لي بلا ورق هل ينفع الورق
وفي رواية الحكم، والكاغد الذي يكتب عليه بفتح الراء، ويطلق على الفضة الغير مضروبة أيضا «هذِهِ» إشارة إلى ورقكم. وفي حملهم هذه النقود عند فرارهم دليل على جواز حمل النفقة وما يصلح للمسافر لئلا يكون عالة على غيره أو يعرض نفسه للهلاك الحسي أو للتسؤّل وهو الهلاك المعنوي، وهذا رأي المتوكلين على الله، قال صلّى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل، وقال بعض الأجلة: إن توكل الخواص ترك لأسباب بالكلية، مسندلا بما روي عن خالد بن الوليد أنه شرب السم فلم يصبه شيء، وأن سعد ابن أبي وقاص وأبا مسلم الخولاني مشيا بالجيوش على متن البحر، وكذلك البراء الحضرمي خاض بقومه البحر، وتميم الداري دخل الغار الذي فيه النار ليردّها بأمر عمر رضي الله عنهم. وقال الإمام أحمد وإسحق وغيرهما من الأئمة بجواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبيب لمن قوي يقينه وتوكله، ودليل الاحتياط مع التوكل فعل موسى عليه السلام وفتاه حينما سارا إلى الحضر إذ حملا معهما حوتا كما سيأتي في الآية ٦١ الآتية وعمل هؤلاء الأبرار
168
وحبري تبّع المار ذكره في الآية ٣٧ من الدخان المارة وقول خاتم الرسل المار ذكره أكبر برهان على ذلك، «إِلَى الْمَدِينَةِ» هي اخنوس ويطلق عليها الآن طرطوس وهي غير طرطوس اللاذقية «فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً» أي الباعة الذي طعامه زكيّ حلال نظيف «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» لنأكله «وَلْيَتَلَطَّفْ» في مشيه وحركته ويلين الكلام مع أهل المدينة من باعة الطعام وغيرهم، ويترفق بمن يكلمه أثناء ذهابه وإيابه وشرائه ومن يعامله أو يسأله ويستر حاله ويكتم شأنه «وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» ١٩ من أهل المدينة وغيرها ولا بما كان لنا مع ملكها، ولا عما نحن فيه الآن «إِنَّهُمْ» الكفرة من أهلها «إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» أيها الإخوان ويعرفوا مكانكم ويطلعوا على قصتكم «يَرْجُمُوكُمْ» بالحجارة حتى تموتوا شر موتة وأعيبها «أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ» التي هربنا منها وصرنا إلى ما نحن فيه من أجلها «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً» إن عدتم إلى الكفر بعد إذ نجاكم الله منه «أَبَداً» ٢٠ لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذ يستعبدونكم في الدنيا ويسترقونكم فلا يتيسر لكم الخلاص منهم والرجوع بالتوبة إلى ربكم فتموتمون على ملتهم، وفي الآخرة تردون إلى عذاب النار.
وقد بالغ خطيبهم رحمه الله في تحذيرهم ونصحهم بما لا مزيد عليه، مما يدل على صدق إيمانه بربه وزهده بدنياه طمعا بآخرته، وإن إصغاءهم لمرشدهم دليل على أنهم كلهم ذلك الرجل.
قال تعالى «وَكَذلِكَ» مثل ما أمتناهم لحكمة أحييناهم لحكمة و «أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» أطلعنا أهل المدينة عليهم لحكمة أيضا و «لِيَعْلَمُوا» أي الذين ينكرون البعث أشباه قومك يا سيد الرسل «أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» بالبعث بعد الموت «وَأَنَّ السَّاعَةَ» المعينة لخراب الكون الدنيوي وظهور الأخروي حق «لا رَيْبَ فِيها» أيضا واذكر لقومك يا حبيبي «إِذْ يَتَنازَعُونَ» أهل المدينة الذين اطلعوا عليهم «بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ» وقت توفاهم الله من كيفية إخفائهم في الغار وإظهارهم، فاتفقوا بعد أن رأوهم رجعوا إلى كهفهم وماتوا فيه ثانيا «فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً» أي سدوا باب الكهف عليهم حتى يحفظوا من تطرق الناس إليهم، ولا حاجة لأن يعلم الغير مكانهم «رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ»
169
وعلمه كاف عن علم الناس «قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ» أي حكام المدينة الملك وأعوانه الذين أسلموا عند ظهور آيتهم كما سنوضحه بعد في قصتهم «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» ٢١ وكان كذلك، ومن هنا استنبط جواز المحافظة على قبور الأنبياء والأولياء بالبناء عليها تخليدا لذكرهم، تدبر. ثم إن الخائضين في أمرهم من أهل الكتاب والمسلمين الذين يكونون بعدهم عند ما يزورون قبورهم هذه «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» وهذا قول اليهود «وَيَقُولُونَ» أي النصارى «خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ» وقولهما هذا «رَجْماً بِالْغَيْبِ» من غير علم واستناد «وَيَقُولُونَ» المسلمون «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء لا أحد منكم يعلم عددهم على الحقيقة وإنما «رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ» منكم و «ما يَعْلَمُهُمْ» من الناس «إِلَّا قَلِيلٌ» من الأولين والآخرين، وهذا هو الحق من الحق لأن العلم بتفاصيل العوالم والكائنات وما فيهما من الماضي والحال والمستقبل لا يكون إلا الله.
مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، وهم:
١ مكسليخا ٢ يمليخا ٣ مرطونس ٤ بيلونس ٥ سارينوس ٦ ذوقواس ٧ كشقيططنوس وهو الراعي وكلبهم قطمير. وقوله هذا حق، والله أعلم، لأن الله تعالى أردف الجملتين الأوليين وهما (ثَلاثَةٌ) إلخ و (خَمْسَةٌ) إلخ بقوله جل قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يقل بعد جملة (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ) إلخ شيئا وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن القولين الأولين وأن يكون الثالث هو الصواب والله أعلم. «فَلا تُمارِ فِيهِمْ» لا تجادل يا سيد الرسل بعددهم وشأنهم أحدا «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» بلا توغل فيه ولا قطع في حقيقته، وعليك أن تقف عند حد ما قصصناه عليك من أمرهم ولا تزد عليه شيئا «وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» ٢٢ من أهل الكتابين أي الذين سألهم وقد قريش عنهم ليسألوك عنهم، ولا ترجع لقول أحد بشأنهم بعد أن أخبرناك عنهم وبينا لك حقيقتهم.
170
هذا، ولما سألت قريش حضرة الرسول عنهم كما ذكرنا في الآية الثامنة المارة آنفا قال لهم غدا أخبركم، لأنه لا يعرف عنهم شيئا ولم يوح إليه بهم قبل سؤالهم ولا وقته، فأخّر الجواب انتظارا لنزول الوحي عليه لأنه لا ينطق عن هوى، وبما أنه عليه السلام لم يقل إن شاء الله لم يوح إليه في الغد، ولبث الوحي أياما لئلا يغفل مرة ثانية عن إسناد المشيئة لله في كل حركاته وسكناته، ثم أنزل الله تعالى أثر قصتهم هذه قوله جل قوله «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ» من الأشياء أبدا «إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً» ٢٣ على الجزم بل لا بد من أن تعلقه بالمشيئة فنقول «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» إذ لا يقع شيء دون مشيئته، فإذا قلت إني عازم أن أفعل أو أتكلم كذا فقل متصلا إن شاء الله، لأنك لا تدري أتوفق لذلك أم لا، وهذا نهي تأديب من الله لحضرة رسوله وتعليم لأمته كي تفتدي به «وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» المشيئة في قول أو فعل وقلها عند تذكرك. الحكم الشرعي: يمتد الاستثناء عند ابن عباس سنة، مثلا إذا قال قولا أو حلف فيجوز لديه أن يتبع قوله ذلك على الفعل والقول بالمشيئة إلى سنة. وقال الحسن إلى أن يتفرقا من المجلس ولا يمتد بأكثر من ذلك، وجوّز بعض العلماء إلحاقها في الزمن القريب ولم يجوزه الآخرون إلا متصلا بالقول أو الفعل، وهذا ما عليه العمل الآن، وقد دسّ بعض الناس إلى الخليفة العباسي بأن أبا يوسف يخالف في حكمه قول جده ابن عباس بقصد أن ينال منه، فأرسل إليه وسأله قال له نعم، لأن هذا القائل يريد أن يبايعك اليوم ويعطيك ما شئت من عهد وميثاق ويمين ويقول بعد ذلك إن شاء الله فينقضي بغيك، وقد أردت سد هذا الباب لئلا يتمسك أحد بقول جدك فيكون حجة عليك، فاستحسن ذلك منه وأقره وجعل عليه العمل، وهو رحمه الله أخذه من هذه الآية إلا أنها مقيدة بالنسيان فلا يجوز تطبيقها بعدمه.
«وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» ٢٤ من هذا الذي أنا عليه في نبأ أصحاب الكهف وغيرهم من الآيات والحجج الدالة على نبوتي، وهذا لأن الكامل لا يزال يترقى في الكمالات مهما علت رتبته فيها، وعليه فلا محل للقول بأن الذي عليه الرسول هو غاية الرشد ولا أقرب مما هو عليه، لأن الكمالات
171
لا نهاية لها، وفي هذا رد أيضا لمن قال إن حضرة الرسول لا يحتاج إلى إنشاء الصلاة عليه لكماله وعلو مرتبته. قال تعالى «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» شمسية «وَازْدَادُوا تِسْعاً» ٢٥ بحساب الأشهر القمرية وهذه المدة مدة لبثهم نياما في الكهف وهي كالبيان للمدة المتقدمة، وجواب السائلين عن مدة لبثهم فإن جادلوك يا سيد الرسل في مدة لبثهم بعد هذا اليمان فلا تلتفت إليهم لأنه محض عناد ولا تمارهم فيه و «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا» لا أنا ولا أنتم وهو الأجدر والأحسن بك من الأخذ والرد معهم لأنه هو الذي «لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وحده جلّ علمه «أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ» به وقد حذف بدلالة الأول، أي ما أسمعه بكل مسموع وأبصره بكل مبصر ويبصر جلّ شأنه ما لا نبصره ويسمع ما لا نسمعه، لأن قوانا كليلة عاجزة، وهاتان الكلمتان صيغتا تعجب أي ان ذلك أمر عجيب من شأنه أن يتعجب منه ولا امتناع من صدور التعجب من صفاته تعالى، أما التعجب منه فممتنع، راجع الآية ١١ من سورة الصافات المارة، وقل لمن يقول لك إن للكفرة أولياء يشفعون لهم عند الله الذي تدعوهم إليه «ما لَهُمْ» أي أهل السموات والأرض كلم «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ» غير الإله المنفرد في أمره الذي لا يقبل أن يتدخل أحد فيه «وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» ٢٦ من خلقه، فلئن لا يشرك معه من مصنوعاته شيئا من باب أولى.
هذا آخر ما قصة الله تعالى علينا من شأن أهل الكهف، فيجب الوقوف عنده وإسناد علم ما عداه إليه تعالى بأن يقول المسئول إذا سئل عن أكثر من هذا، الله أعلم بشأنهم، لأنا لا نعلم إلا ما قصة الله علينا فيهم. هذا، وإن في قوله تعالى في الآية ٩ المارة (أصحاب الكهف والرقيم) ردا لما قاله بعضهم إن أصحاب الكهف هم المعنيون في هذه الآيات، وأصحاب الرقيم هم الذين ذكرهم حضرة الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فآواهم المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار، فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم
172
كان لي أبوان شيخان كبيران إلخ. وهو حديث طويل يراجع في محله، لأن هؤلاء يطلق عليهم أهل الكهف وأهل الغار، والمذكورون في الآيات أهل الكهف وأهل الرقيم، كما سيتبين لك من القصة الآتية إن شاء الله التي خلاصتها كما قاله الأخباريون:
إن غالب أهل الإنجيل بعد عيسى عليه السلام عظمت فيهم الأحداث والخطايا وطغت ملوكهم، فعبدوا الأوثان وأكرهوا قومهم على عبادتهم، ولما صار الأمر إلى دقيانوس شدد في ذلك كثيرا وأراد هؤلاء الفتية الذين هم من أشراف قومهم على عبادتها فأبوا وصاروا يجادلونه في عدم صلاحيتها للعبادة، فخاف أن يتبعهم قومه، فهددهم بالقتل إذا لم يوافقوه على عبادتها، فأبوا وانصرفوا من أمامه، فأمر بإحضارهم فهربوا ومروا براعي غنم، فلما عرف أمرهم ترك غنمه وتبعهم هو وكلبه، وما زالوا حتى بلغوا الكهف، فدخلوه واختبارا به وناموا، وأضل الله جنود الملك عنهم كما أضل جنود فرعون عن اللحاق بموسى عليه السلام، راجع الآية ٢٢ من سورة القصص فما بعدها ج ١، وأعمى الناس عن مكانهم طيلة هذه المدة وحفظهم الله من البلى بما قصه علينا في كتابه وهو خير حافظا، كما أعمى الله قريشا عن حضرة الرسول حينما تخبأ في الغار الوارد في الآية ٤٠ من سورة التوبة في ج ٣، راجع تفصيلها في بحث الهجرة آخر هذا الجزء. ولما لم يقفوا على خبرهم ولم يهتدوا لهم وقد أيسوا منهم بعد أن صرفوا غاية جهدهم، فأمر الملك أعوانه أن يكتبوا أسماءهم وأنسابهم وتاريخ فقدهم والمكان الذي فقدوا به والسبب الداعي لهربهم على صحيفة من نحاس ففعلوا، ثم أمر بحفظها في خزانته ليطلع عليها من بعدهم، وبقي دقيانوس ومن بعده على حالتهم، ثم بعد زمن عظيم ملك تلك المدينة رجل صالح اسمه بندوسيس فتحزب قومه معه وصار منهم من يدعو إلى الإيمان تبعا للملك ويقر بالبعث والحشر، ومنهم من أصر على التكذيب وعبادة الأوثان، ولما رأى الملك ظهور الكفرة على غيرهم حزن ودخل بيته وجعل تحته رمادا ولبس مسحا وصار يتضرع إلى الله بأن يظهر له آية تحق الحق وتبطل الباطل، فألقى الله في نفس أولياس من أهل البلد الذي فيه الكهف أن يبني حظيرة لغنمه على باب الكهف، ونزع ما كان من الحجارة عليه، فأذن الله تعالى لهم باليقظة فقاموا كأنما استيقظوا
173
من ساعتهم، فقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم اذهب إلى المدينة متنكرا مترفقا وانظر ماذا يقول الجبار دقيانوس فينا وأتنا بطعام تشتريه من أحد المؤمنين، وقال مكسليخا اثبتوا يا إخواني على الإيمان وارفضوا الأوثان رفضا باتا ولا تخافوا من أحد أبدا على فرض عثورهم علينا ومطاردتنا، لأننا ملاقو الله، ثم تكلموا بينهم على مدة لبثهم وكلوا يظنون أنهم ناموا ليلة وقعدوا على عادتهم، ولما رأوا حالتهم وطول أظفارهم وشعرهم عرفوا أن نومهم كان كثيرا جدا، فقوضوا أمر علم موتهم إلى الله كما ذكر الله، ثم خرج يمليخا من الكهف ورأى الأحجار مبعثرة فلم يلق لها بالا، وتوجه نحو المدينة حتى إذا دخلها تخيل له أشياء لم يعهدها قبل، حتى انها غير مدينتهم، فدنا إلى بياع الطعام فأعطاه قطعة من فضة وقال له أعطني بها طعاما، فلما تناولها رأى نقشها قبل ثلاثة قرون وأكثر، فقال له من أين لك هذه لعلك وجدت كنزا من هذا الورق؟ فلم يعرف ما يقول له، فاجتمع الناس وصاروا يكلمونه وهو لم يرد عليهم، فأخذوه إلى مدير المدينة وكان مؤمنا اسمه اريوس واسم صاحبه الذي معه طنطيوس وهو مؤمن أيضا، وظن يمليخا أنهم أخذوه إلى دقيانوس، فانقطع قلبه من الخوف وصار يبكي ويقول يا ليت إخوتي معي فنقدم جميعا بين يدي هذا الجبار لأنا تواثقنا على الإيمان وعدم الافتراق أحياء وأمواتا، فقال له يا فتى أين الكنز؟ فقال لا كنز عندي هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وو الله ما أدري ما شأني وشأنكم وماذا أقول لكم، فقالا له من أنت؟ فقال يمليخا من أهل هذه المدينة، فقالا أنت بمن يعرفك، فصار ينظر إلى وجوه القوم فلم يعرف أحدا، فقالا له أنت كذاب، فاغتاظ من وصمهم له بالكذب، فلم يرد عليهم ونكس بصره إلى الأرض واختار السكوت إذ لم يعرف ماذا يقول لهم، فقالا له لا نرسلك ولا نصدق قولك أبدا، لأن نقش هذا الورق قديم وأنت شاب فكيف تزعم أنه مال أبيك ونقش هذه البلدة، ولكن بين لنا الحقيقة لنتركك، قال أخبروني ما فعل الملك دقيانوس؟ فقالا لا يوجد على الأرض ملك بهذا الاسم، إن كان قديما فقد هلك، فقال إني حيران وإن قلت لكم حقيقتي لا
تصدقوني، فقالا قل لعلنا نستنبط من كلامك ما نستدل به على خفية الأمر، فقال نحن فتية
174
كنا على دين واحد وهو عبادة الله وحده، فأكرهنا الملك دقيانوس على عبادة الأوثان، فهربنا منه وتبعنا راعي غنم وكلبه، وقد أوينا إلى الكهف بجبل مخلوس ونمنا فيه، فلما انتبهنا لم نعلم المدة التي نمنا فيها لما رأينا من هيأتنا، وقد أرسلني إخوتي لأشتري لهم طعاما والتجسس الأخبار، وقد ظهر لي تبدل كثير في المدينة وأهلها، ولما أعطيت قطعة من ورقي لبائع الطعام صار على ما ترون، وإن لم تصدقوا فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي، فانطلقا وغالب أهل المدينة معهم، ولما قربوا من الكهف سمع أصحابه اللغط، فظنوا أن جنود الملك جاءت لتأخذهم فسلم بعضهم على بعض وقالوا لنذهب إلى الجبار ونرى صاحبنا، فلما هموا ليخرجوا فإذا المديران ويمليخا وأهل البلد على باب الكهف، فتقدم يمليخا وقص عليهم الخبر، فعرفوا أنهم كانوا تياما بأمر الله ذلك الزمن الطويل، وأوقظوا ليكونوا آية للناس على صدق البعث، ثم رأوا تابوتا من نحاس داخل الكهف مختوما، وكان رجلان مؤمنان بدروس وروماس يكتمان إيمانهما زمن الملك دقيانوس كتبا أنساب الفتية في لوح من رصاص ووضعاه في التابوت وطرحاه في الكهف، ففتحوه فإذا فيه:
إن مكسليخا ويمليخا ومخشلينا وطرطوس وكشطونس وبيرونس وديموس وبطيوش وقالوس والكلب قطمير كان هؤلاء فتية هربوا من ملكهم دقيانوس مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا الكهف، فلما أخبر الملك بمكانهم أمر بسده عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وشأنهم ليعلم من بعدهم حقيقتهم. فلما رأوا ذلك عجبوا ودهشوا، وأرسلوا خبرا إلى ملكهم الصالح بندوسيس أن أقبل، فإن الله أظهر لك آية على البعث، فجاء ودخل الكهف هو ومديراه وحيوهم بالسجود المعتاد إذ ذاك وتعانقوا معهم وصاروا يسبحون الله تعالى ويحمدونه ويمجدونه، ثم ان الفتية بعد ذلك قالوا للملك ومديريه إنا نستودعكم الله وناموا فتوفاهم الله تعالى. ثم إن الملك أمر بأن يصنع تابوت لكل منهم ليوضع فيه وأن يدفنوا في الكهف كل بمحل نومته وأن يعمر مسجد على باب الكهف، وكان ذلك، ولما رجعوا تحروا خزانة الملك فوجدوا لوحا مكتوبا فيه أسماؤهم وأنسابهم وشأنهم كما في اللوح الذي وجدوه بالتابوت الكائن معهم في الكهف، وقد آمن أهل البلد كلهم لظهور هذه الآية العظيمة، والله أعلم.
175
هذا على القول بأنهم كانوا بعد المسيح، وهناك قول آخر بأنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، والقرآن لم يبين لنا زمانهم، لذلك يجب أن نحيل العلم بزمانهم وعددهم إلى العليم الخبير وهو أسلم. وفي إكرام هؤلاء الفتية دليل على صحة كرامات الأولياء، وكذلك قصة عرش بلقيس المارة في الآية ٣٩ من سورة النمل وما ذكرناه أول سورة الجن وما ذكر في سورة مريم في الآية ١٦ فما بعدها من سورتها في ج ١ وآخر سورة الأحقاف المارة وما ذكر في الآية ٣٧ من سورة آل عمران ج ٣ عن مريم وزكريا، والأدلة السمعية والنقلية والعقلية تدل على ثبوتها، والأخبار متواترة والآثار شاهدة ومؤكدة على وجودها ولا ينكرها إلا فاسق مارق.
قال تعالى «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» مما أخبرك به عن هذه القصة وغيرها ولا تلتفت إلى الأقاويل فيما يخالف ذلك لأنه محرف مبدل مغير وإن ربك «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ولا مغيّر لها البتة «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» ٢٧ حرزا تلجأ إليه فيه منه عند إلمام ملمة. وملتحد في الأصل المدخل في الأرض، قال خصيب الضمري:
يا لهف نفسي ولهف غير مجدية عني وما عن قضاء الله ملتحدا
ويأتي بمعنى الميل والعدول، والأنسب هنا ما ذكر أولا. وهذه الآية المدينة الأولى من هذه السورة.
مطلب أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا، وقصة أصحاب الجنة:
قال تعالى «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ» إلى غيرهم وتتركهم «تُرِيدُ» بمجالسة غيرهم من الأشراف والأغنياء بقصد «زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فتستبدل محبتهم وهم مؤمنون بسبب فقرهم وميلهم للآخرة بأناس كفرة دنيويين لكونهم أغنياء ورؤساء كلا لا تفعل «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ» في شهوات الدنيا وملاذها وهو عيينة الآتي ذكره النازلة في حقه هذه الآية، وأمية ابن خلف الذي يقول في حقه جل قوله «وَكانَ أَمْرُهُ»
176
في الآخرة «فُرُطاً» ٢٨ هلاكا وخسرانا، والفرط الظلم والاعتداء ومجاوزة الأمر عن حده وضياع الأمر عن وقته وتعطيل العمر في اللهو والسرف في الشيء الباطل، نزلت هذه الآية قيل وما بعدها في سيدنا سلمان الفارسي ورفقائه رضي الله عنهم، وذلك حين أتى عيينة بن حصن الفزاري إلى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وهو من المؤلفة قلوبهم، وكان عند حضرة الرسول جماعة من فقراء المسلمين، فقال له أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها إن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحهم عنك، حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا على حده لأنا لا نرضى أن نجالسهم، فلم يلتفت لقولهم. ومن قال إنها نزلت في أمية ابن خلف، قال إن هذه الآية مكية بالنظر لأن السورة مكية، والصواب ما جرينا عليه وعليه أكثر المفسرين، وقد أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان رضي الله عنه، وروى أبو الشيخ عنه ذلك، وإن حضرة الرسول صار يلتمسهم ويتعاهدهم أكثر من ذي قبل، حتى قال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، ثم قال إلى سلمان وأبي ذر وأمثالهما معكم الحياة والممات. أما الآية المكية التي نزلت في سيدنا بلال ورفقائه الخمسة التي تضاهي هذه الآية، فهي الآية ٥٢ من سورة الأنعام المارة كما أشرنا بها عن هذا فراجعها. ثم التفت إلى حبيبه صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «وَقُلِ» يا سيد الرسل لقومك عاملي القلوب عما يراد بهم في الآخرة «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ» أيها الغافلون عن ذكره انتبهوا فإليه الأمر ومنه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ» بهذا القرآن المنزل عليّ من ربي «وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ: وهذه الجملة جارية مجرى التهديد على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية ٤٠ من فصّلت المارة، وإني لست بمعرض عن هؤلاء لأجل إيمانكم، فإن آمنتم فلكم الجنة، وإن أصررتم على كفركم وظلمتم أنفسكم فالله تعالى يقول «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» السرادق الحجرة التي تحيط بالقسطاط، وهذه الكلمة لم تكرر في القرآن فقد شبه الله تعالى ما يحيط بهم من النار بالسرادق حول الحجرة، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال
177
رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعون سنة، أي مساقة عرضه «وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا» من شدة العطش فيها «يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ» يشبه عكر الزيت المذاب الشديد الحرارة «يَشْوِي الْوُجُوهَ» لعظم حرارته عند شربه «بِئْسَ الشَّرابُ» ذلك «وَساءَتْ» النار «مُرْتَفَقاً» ٢٩ منزلا لأهلها ومتكأ ومجتمعا، وجيء بهذه اللفظة للمشاكلة مع الآية الآتية وإلا ليس لأهل النار ارتفاق ولا منزل يتكأ فيه ولا مجمع محمود، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى (كَالْمُهْلِ) كعكر الزيت، فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه، أي جلدته أعاذنا الله تعالى منه وأدخلنا في قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» ٣٠ في دنياه، وجملة إنا فما بعدها معترضة بين صدر آيتها وصدر قوله تعالى
«أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ» ذلك الثواب عند رب الأرباب «وَحَسُنَتْ» جنة عدن دار الإقامة والخلود «مُرْتَفَقاً» ٣١ متكأ ومقرا ومجلسا لأهلها، راجع معنى السندس وما بعده في الآية ٥٣ من سورة الدخان المارة ومعنى الأساور في الآية ٥٣ من سورة الزخرف المارة وجعل بعض القراء والمفسرين هاتين الآيتين ٣٠/ ٣١ آية واحدة وقال إن جملة (لا نضيع) إلخ معترضة بين صدر الآية وعجزها وهو سديد لولا وجود كلمة (أولئك) لهذا فهي آيتان مرتبطتان ببعضهما. قال تعالى «وَاضْرِبْ لَهُمْ» يا سيد الرسل «مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» ٣٢ لتكون جامعة للقوت والفاكهة والخضر والزينة معا «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها» ثمرها من كل ذلك «وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» إشعار بأنها حملت حملها المعتاد ونبت حب الزرع كله فلم تجحد منه الأرض شيئا يؤدي إلى نقص الحاصل «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» ٣٣ لإتمام النفع وإكمال الزينة لأن أحسن القصور وألطف البساتين ما يجري فيها الأنهار «وَكانَ لَهُ» لصاحبها «ثَمَرٌ» بالفتح جمع ثمرة وبالضم
178
الأموال المثمرة على الإطلاق «فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ» حالة مخاطبته له «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» ٣٤ أنصارا وحشما، لأن من كان كذلك كثر أصحابه قال:
الناس أعوان من والته دولته وهم عليه إذا عادته أعوان
والناس عبيد الدرهم والدينار، قال هذا القول لأخيه المؤمن «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ» أفردها بالذكر لأنها في الأصل واحدة ولكن لما فصل بينها بالنهر صارت اثنتين بحائط واحد «وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» بما قاله وما خطر بباله من القول السيء الذي أخبر الله عنه بقوله جل قوله «قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» ٣٥ شك الخبيث في دمارها لطول أمله في الدنيا وغروره بعاقبته ونماديه في غفلته وأكثر الناس الآن هكذا مسجلين في الديوان مسلمين، ولم يعملوا عمل الإسلام ويزعمون أنهم مؤمنون وذلك بسبب انهماكهم في الدنيا وغرورهم فيها، ثم تطاول هذا الكافر ولم يكتف بإنكاره وما قاله لأخيه بل تطرق لإنكار البعث أيضا فقال «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» كما يقال ثم بغى وطفى وقال على فرض صحة ما تزعمون أننا نحيا ونرد إلى الله فأنا أقسم لكم «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها» من هذه الجنة التي ترونها «مُنْقَلَباً» ٣٦ مرجعا وعاقبة في الآخرة التي تقولون بوجودها كما أعطاني في هذه الدنيا، ومن هذا القبيل تفوهات بعض السفهة الآن ردهم الله للهدى ووفقهم للرشد ووقانا وإياهم من الردى «فَقالَ» أخوه المؤمن «له» لأخيه الكافر وقد محى الله كلا منهما صاحبا فقال «لِصاحِبِهِ» لأن الصاحب يطلق على الأخ لغة وعلى غيره فلا منافاة لما ذكر من أنهما أخوان «وَهُوَ يُحاوِرُهُ» يجادله بما مر ذكره مستفهما منه بقوله «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» ٣٧ حتى قلت ما قلت ذكره رحمه الله بنعمة الخلق والذكورة والتعديل في الخلقة لعله يتذكر نعم الله عليه فيرجع عما هو عليه، ولما لم يرد عليه لما رأى من كلامه له من التأنيب مضى ونفخ إبليس في أنفه، أعرض عنه أخوه المؤمن وقال له «لكِنَّا» أصلها لكن انا حذفت الهمزة من أنا ونقلت حركتها إلى نون لكن فتلاقت النونان نون لكن ونون انا
179
فأدغمتا بعد أن سكنت الثانية فصارت لكنا «هُوَ اللَّهُ رَبِّي» وقرىء لكن أنا على الأصل وهو استدراك لقوله أكفرت، أي أنت بمقالتك تلك كافر لكن أنا مؤمن «وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» ٣٨ أبدا، ثم قال على طريق الأمر بالحث والإزعاج وهلا «وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ» بدل مقالتك السيئة تلك «ما شاءَ اللَّهُ» اعترافا بأن ما فيها منه وبأمره ومشيئته «لا قُوَّةَ» على عمارة وإنبات ما فيها وحفظه من الآفات لأحد ما «إِلَّا بِاللَّهِ» بمعونته ولطفه في ذاتك أيها المغرور «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً» ٣٩ تكبرت على وتعاظمت
«فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ» في الدنيا أو في الآخرة «خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ» ما تدري لعله «يُرْسِلَ عَلَيْها» على جنتك التي أطغتك «حُسْباناً» شهبا وصواعق أو نارا، قال حسان:
بقية معشر صبّت عليهم شآيب من الحسبان شهب
نازلة «مِنَ السَّماءِ» فيدمرها أو يحرقها «فَتُصْبِحَ صَعِيداً» أرضا غبراء لا شية فيها يدل على أنها كانت جنة ذات أشجار وزروع «زَلَقاً» ٤٠ جرداء ملساء تزلق فيها الأقدام لا ثبات فيها، وأصل الزلق المشي في الوحل والزّلل في الرجل، شبه عروها من النبات بعد أن كانت ملتفة بأرض وحلة أو رملة لا شيء فيها مما يستمسك به «أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً» في أعماق الأرض «فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» ٤١ لا تناله الأيدي ولا الدلاء فتيبس أشجارها ونباتها.
قال تعالى «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ» من جميع جهات الجنة إذ أرسل عليها نارا فأحرقتها كلها وصاعقة فأحرق نباتها وغار ماؤها «فَأَصْبَحَ» صاحبها ذلك المغرور بها عند مشاهدتها والنظر إليها «يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» يضرب أحدهما بالأخرى تأسفا ولهقا عليها، قال عمر ابن أبي ربيعة:
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
وذلك حزنا وندما «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من المال والتعب وحرمانه من منافعها وبهجتها «وَهِيَ خاوِيَةٌ» ساقطة مترامية «عَلى عُرُوشِها» أي سقطت جدران الجنة على عروش الكرم، وهذا كناية عن تدميرها كلها وخلائها
180
من كل ما كان فيها لأن خوا بمعنى خلا «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» ٤٢ قال هذا لما سقط في يده وقال يا ليتني سمعت موعظة أخي، لأنه عرف أن ما أتاه كان بسبب الكفر والطغيان، لذلك أظهر ندمه حين لات مندم، وقد خاب أمله من الناس لأنهم كانوا يلتفون حوله بغية ما عنده، فلما ذهب ذهبوا عنه على حد قوله:
رأيت الناس قد ذهبوا... إلى من عنده ذهب
ومن لا عنده ذهب... فعنه الناس قد ذهبوا
يدل على هذا قوله تعالى «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيحفظون له جنته «وَما كانَ مُنْتَصِراً» ٤٣ هو أيضا لعجزه. قال تعالى «هُنالِكَ» في ذلك المقام مقام نزول الهلاك وإيقاع الهوان وصبّ العذاب «الْوَلايَةُ» الحقيقية بكسر الواو بمعنى السلطان والملك وبفتحها النصرة والتولي «لِلَّهِ الْحَقِّ» وحده لا يملكها غيره فلا حائل يحول دون تنفيذها ولا مانع يمنع وقوعها «هُوَ خَيْرٌ ثَواباً» لأهل طاعته «وَخَيْرٌ عُقْباً» ٤٤ بضم القاف وسكونها وعلى وزن فعلى شاذا وكلّها بمعنى العاقبة، ضرب الله تعالى هذا المثل بمناسبة الآية المتقدمة النازلة بحق عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه المار ذكرهم وفقراء المسلمين سلمان وأصحابه، وذلك أن رجلين من بني إسرائيل ورثا ثمانية آلاف دينار فاقتسماها بينهما، فأما أحدهما فتزوج بألف وبنى قصرا بألف وشرى جنة بألف واشترى متاعا وخدما بألف واسمه قطروس، وأما الآخر واسمه يهوذا فتصدق بها وطلب ثوابها جنة وقصرا وزوجة ومتاعا وخدما في جنته، فأصابته حاجة فتعرض إلى صاحبه، فقال له ما فعلت بمالك؟ فأخبره الخبر، فقال له وإنك لمن المصدقين بأنك تثاب وتعطى وأنك تبعث؟ قال نعم، فقال والله لا أعطيك شيئا ما دامت هذه عقيدتك، فقال والله لا أحول عنها أبدا، وسيغنيني الله عنك ويرديك، فأنزل الله هذه الآية بحقهما وهذان هما المشار إليهما في الآية ٥٠ من سورة الصافات المارة لا المشار إليها في سورة نون ج ١، تأمل.
181
مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما:
قال تعالى «وَاضْرِبْ» يا سيد الرسل «لَهُمْ» لقومك على صحة البعث «مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» من كل صنف ونوع وجنس ولون وشكل كان ملتفا بعضه على ببعض متكاثفا زاهيا رابيا تهتز به الأرض ابتهاجا وحسنا «فَأَصْبَحَ» بعد ذلك «هَشِيماً» يابسا مفتتا «تَذْرُوهُ الرِّياحُ» واعلم أن كلمتي تذروه والذاريات لم تكررا في القرآن، أي تنسفه يمينا وشمالا «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» ٤٥ ضرب الله تعالى هذا المثل يشبه به حال الدنيا في نضرتها وزينتها وما يطرأ عليها من الهلاك والفناء بالنبات في الأرض يخضر ويزهو ثم ييبس ويتكسر فتطيره الرياح ثم يحييه الله تعالى بالمطر فيعود كما كان كأن لم يطرأ عليه شيء، وهكذا الخلق ينشأ من الماء أيضا فيكثرون ويتباهون بالأموال والأولاد والرياسة والجاه ثم يموتون ثم يحييهم الله تعالى كما كانوا، ثم يعاملون بمثل أعمالهم، فيحيا حياة طيبة دائمة من حيّ على بينة ويهلك هلاكا قبيحا دائما من هلك على بينة. ونظير هذه الآية في المعنى الآية ٣٤ من سورة يونس المارة. قال تعالى «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتفاخر بها أهلها «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» زينة الحياة الآخرة وهذه «خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً» من زينة الدنيا «وَخَيْرٌ أَمَلًا» ٤٦ ممّا يؤمله الإنسان من جميع خيرات الدنيا لعظيم جزائها عند الله، وهو نائلكم حقا، لأن وعد الله بها صادق، وأكثر آمال الدنيا كاذبة قد لا ينالها الإنسان، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. وأخرج مالك في الموطأ أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، والحقيقة أنها كل عمل صالح.
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ» عن مواقعها هذه فتجعلها هباء منثورا، راجع الآية ١٠٧ من سورة طه والآية ٤ من سورة الواقعة في ج ١، وأمثالها كثير في القرآن «وَتَرَى الْأَرْضَ» بعد ذلك «بارِزَةً»
182
ظاهرة للعيان لا بناء فيها يسترها ولا شجر يحجبها ولا جبل يغطيها ولا خلق عليها ولا فيها، راجع الآية ٤ من سورة الإنشقاق في ج ١ والآية ٢ من سورة الزلزلة في ج ٣ ولا أنهار ولا بحار، وذلك عند النفخة الأولى «وَحَشَرْناهُمْ» الموتى المدفونين فيها أحياء بعد ذلك وسقناهم إلى الموقف فأحضرناهم فيه بعد النفخة الثانية «فَلَمْ نُغادِرْ» نترك في بطن الأرض والماء والحيوان والحوت والهواء «مِنْهُمْ أَحَداً» ٤٧ إلا أحضرناه في أرض المحشرَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا»
للحساب والجزاء كما يستعرض القائد العام جنوده لا يخفى عليه منهم أحد، أما القائد فقد يخفى عليه آحاد وشتان بين الخالق والمخلوق فيقول لهم الله عزّ وجل وعزتي وجلاليَ قَدْ جِئْتُمُونا»
أيها الخلقَ ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»
في الدنيا وحدانا لا مال ولا ولد ولا نشب ولا رياش عندكمَ لْ زَعَمْتُمْ»
في الدنياَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
٤٨ في الآخرة نلاقيكم فيه ونقاضيكم على أعمالكم من صدق وإيمان وكفر وخسران. ونظير هذه الآية الآية ٩٤ من سورة الأنعام المارة. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا (قلقا) - لأن الغرلة القطعة التي تقطع من جلدة الذكر وهي موضع الختان- كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح- يريد عيسى عليه السلام-: (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) إلى قوله (العزيز الحكيم)، قال فيقال لي إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، زاد في رواية فأقول سحقا سحقا. قال بعض العلماء المراد بهم- والله أعلم- هم الذين ارتدوا بعده ومنعوا الزكاة من العرب، ولكن الحديث عام فيشمل هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، وان من خصّه فيهم استنبط اختصاصه من قوله صلّى الله عليه وسلم (أصحابي) إذ لا يسمى صاحبا إلا من شاهد حضرة الرسول أو شاهده الرسول ليدخل الأعمى ومات على ذلك «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أل فيه للجنس إذا أريد به أهل اليمين
183
وأهل الشمال، وظاهر ما بعده تخصيصه بأهل الشمال فقط، فتكون أل فيه للعهد أي الكتاب المعهود الذي فيه صحف أعمالهم، قال صاحب الجوهرة في منظومته:
وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
وقال بدء الأمالي:
وتعطى الكتب بعضا نحو يمنى وبعضا نحو ظهر أو شمال
والحكم الشرعي: وجوب اعتقاد هذا، ومن أنكره فهو كافر لإنكاره كلام الله دون تأويل أو تفسير، قدمنا ما يتعلق بهذا في الآيتين ٣٦/ ٣٧ من سورة الإسراء المارة في ج ١، وله صلة في الآية ٩ فما بعدها من سورة المطففين الآتية، «فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ» خائفين من سوء أعمالهم «وَيَقُولُونَ» عند مشاهدته «يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ» استفهام تعجب من كونه «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من أعمال بني آدم وغيرهم «إِلَّا أَحْصاها» أثبتها ودونها فيه «وَوَجَدُوا» فيه كل «ما عَمِلُوا» في دنياهم «حاضِراً» بحيث يخيل إليهم فعلهم وقولهم كما أوقعوه في الدنيا بتخييل حقيقي وتمثيل واقعي بحيث ينطق كل بما وقع منه، بخلاف تمثيل أهل الدنيا (سينما) فإنه صوري وما يسمعونه من الكلام ليس من كلام الأشباح المخيلة نفسها بل من الشريط المعروض كالأسطوانات التي تمر عليها الإبرة، ونظير هذه الآية الآية ٢١ من آل عمران ج ٣، فيسمعون كلامهم أنفسهم وكلام من تكلموا معه ويسمعون نطق جوارحهم بما عملت وبأي مكان وزمان يرونه أيضا ويرون جزاءه مهيأ بنسبته «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ٤٩ بحيث لا ينقص ثوابا ولا يزيد عقابا ولا يعذب أحدا بغير جرم، ولا يثيب أحدا بغير عمل صالح، وهذا لا على سبيل الوجوب إذ له جل جلاله إثابة العاصي وعقاب الطائع إذ لا يسأل عما يفعل وإنما يعامل العاصي بمقتضى العدل والطائع بحسب الفضل، فمن أين لكم أيها الناس بعد هذا تنكرون إعادة خلقكم وتكذبون رسلكم، وقد ضرب لكم الأمثال الحقيقية عليه وقص عليكم رسله نتيجة ما تؤولون إليه.
184
مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار:
قال تعالى «وَ» اذكر يا محمد لقومك بعد قصة أهل الكهف وأصحاب الجنة وحال البعث ومنكريه «إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ» وهذا السجود للتحية والتكريم لا للعبادة، لأن سجودها خاص بالمعبود العظيم وحده، وكان اسمه عليه اللعنة بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، فلمّا عصى سمي إبليس لأنه أبلس وأيس من رحمة الله وغيرت صورته إلى السمرة والزرقة بعد البياض والصفرة والحمرة. وهذا الخبيث الذي لم يتمثل أمر ربه «كانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا كلام مستأنف كأنه قيل لم لم يسجد مع الملائكة، فقيل لأن أصله من الجن لا من الملائكة إذ لو كان منهم لما تخلف عن أمر ربه لأنهم لا يعصون الله فيما يأمرهم طرفة عين ولا يغفلون عن ذكره، فثبت أنه من الجن بنص هذه الآية التي لا تقبل التأويل. واعلم أن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين، كما أن آدم أصل البشر، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: قاتل الله أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول كان من الجن. وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وانه الأصل الجن كما أن آدم أصل البشر فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس من غير تشبيه، لأن نوحا أبو البشر الثاني بسبب إهلاك من قبله من ذرية آدم، وإبليس أبو الجن الثاني بسبب انقراض الجن قبله من ذرية أبيهم الجان. ومن هذا يعلم أن ما قيل إنه من الملائكة لا يستند إلى دليل صحيح، وهو قيل مخالف لصراحة القرآن، وإن من قال أنه منهم عده من أقربهم إلى الله، وهذا يقدح في عصمة الملائكة الذين لا خلاف في عصمتهم، راجع الآية ١٥٨ من الصافات المارة وما ترشدك إليه فقيه ما تريده، ولهذا فإن الاستثناء في هذه الآية منقطع على حد قوله تعالى (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) الآية ٥٨ من الزخرف المارة على العكس في المعنى أي في المستثنى والمستثنى منه، ومثله في قوله تعالى (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) الآية ٦٣ من سورة مريم في ج ١، لأن المستثنى فيها ليس
185
من جنس المستثنى منه. أما إطلاق لفظ الجن على الملائكة في قوله تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الآية ١٥٨ من سورة الصافات المارة على قول من قال إن المراد بالجنة فيها الملائكة، لأن العرب تقول إن الملائكة بنات الله، لأنه مأخوذ من الاجتنان وهو الستر، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه، فتدخل الملائكة في هذا اللفظ من هذه الحيثية فقط، وعليه يجوز إطلاق لفظ الجن على كل الملائكة على هذا المعنى، وإلا فالجنّ جنس والملك جنس آخر مخالف، وقد أثبت الله في قوله الآتي أنه له ذرية بنص لا يقبل التأويل ولا يحتمله، وأنت خبير بأن الملائكة لا يتوالدون فلا ذرية لهم، وأنهم خلقوا من نور الله، والجن من ناره بنص القرآن، فلا مشابهة بينهم في أصل الخلقة، تدبر «فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» بعدم الامتثال تكبرا لزعمه أنه أفضل منه، راجع هذا البحث في الآية ١٢ من سورة الأعراف في ج ١، «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ» يا بني آدم «أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي» بعد أن خالف أمري وطرد من رحمتي «وَهُمْ» إبليس وذريته «لَكُمْ عَدُوٌّ» أيها الناس ثابت العداوة مع أبيكم آدم بالنص القطعي، فإذا كنتم إليه ولذريته ظلمتم أنفسكم بدل أن ترحموها، والله تعالى يقول «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ» المتخذين أعداءهم أولياء «بَدَلًا» ٥٠ من الله تعالى، قيل إن إبليس يوسوس للعبد بترك الصلاة ويوسوس له فيها أيضا ليقطعها عليه، وله من نوع الذرية خمس:
(١) الأعر يحبب للناس الزنى (٢) ووتير يجزّعهم على المصائب (٣) ومسوط يلقي في قلوبهم الأراجيف (٤) وداسم يأكل ويشرب مع من لم يسم الله تعالى (٥) وذو بنور الذي يرغب الناس للدخول في الأسواق. وقد أخرج ما بمعناه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن مجاهد، وروى مسلم عن عثمان ابن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليّ، قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك شيطان يقال له جثرب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا، قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. وروى مسلم عن جابر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا،
186
ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت. قال الأعمش أراه قال فيلتزمه أي يضمه إلى صدره تحيذا لفعله، عليه وعلى ذريته الكافرة اللعنة والغضب. وروى ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس يولد لآدم ولدا إلا ولد معه شيطان يقرن به، ولا علينا أن نعلم كيفية توالده، لأن كثيرا من الأشياء لم يطلع الله عليها خلقه، والقصد وجوب الاعتقاد بحصول الذرية له، سواء أكان ذلك كالبشر أم كالحيوان أو كالطير أو الحوت أو الحشرات وغيرها. قال تعالى «ما أَشْهَدْتُهُمْ» أي إبليس وجنوده وذريتهم «خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ» أي ما أطلعتهم على ذلك، لأني خلقتها قبل خلقهم، فافردوني أيها الناس بالعبادة كما انفردت بالخلق، وإياكم أن تشركوا في ذلك غيري فتظلموا أنفسكم «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ٥١ أعوانا أستعين بهم على خلقهما أو خلق شيء مما فيهما وعليهما فكيف تتخذونهم أولياء من دوني أيها الكفرة «وَ» اذكر يا محمد لقومك حالة أولئك المتخذين شريكا معي «يَوْمَ يَقُولُ» لهم يوم القيامة «نادُوا شُرَكائِيَ» الذين عبدتموهم في الدنيا «الَّذِينَ زَعَمْتُمْ» أنهم شركائي وأنهم يشفعون لكم في الآخرة هذه «فَدَعَوْهُمْ» واستغاثوا بهم هلم انقذونا مما نحن فيه واشفعوا لنا كما وعدتمونا في الدنيا «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» لأنهم إن كانوا من الملائكة أو عزيز وعيسى وعلي عليهم السلام أو غيرهم من البشر فإنهم يتبرءون منهم ويستعيذون بالله من عبادتهم ويتضرعون إلى الله بالعفو عنهم من هذه النسبة الباطلة، وإن كانوا من الأصنام فهي حجارة أو خشب أو غيرها من الجماد الذي لا يسمع ولا يتكلم، ثم يحال بينهم وبين ما يعبدون لقوله تعالى «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ» وبين أوثانهم «مَوْبِقاً» ٥٢ مهلكا، قال ابن عباس هو واد في النار يجتمعون فيه في جهنم «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا» أيقنوا وتحققوا «أَنَّهُمْ مُواقِعُوها» مدفعون إليها وداخلون فيها وذلك بعد أن أراهم عجز أوثانهم وتبرأ الأولين وإهلاك الآخرين في الموقف بعد الحساب والقضاء «وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» ٥٣ لأنهم بعد أن أوقعوا فيها أحاطت بهم من
187
كل جانب فلا محيص لهم غير الاحتراق فيها. قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» ليتعظوا فلم ينجع بهم «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» ٥٤ في الباطل، وقيل إن هذه الآية نزلت في النّضر بن الحارث، وقيل في أبي بن خلف، لأنهما أكثر الكفرة جدالا في القرآن، والآية عامة فيهما وفي غيرهما ممن عمل ويعمل عملهما إلى يوم القيامة، وفي كل من يجادل في آيات الله بالباطل. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا، فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا (أي لما تريده منا) فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته يقول وهو مول يضرب فخذه بيده (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). وهذا الحديث لا يعني أن الآية نزلت في ذلك، وإنما ذكرها حضرة الرسول بمناسبة ما قاله علي تعجبا من سرعة جوابه وعدم موافقته له على القيام إلى الصلاة، وفيه إيماء إلى عدم قبول قوله، ولهذا ضرب فخذه. قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ» مما هم عليه «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» هلاك الاستئصال «أَوْ» انتظار لأن «يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» ٥٥ عيانا مقابلا لهم يشاهدونه بأعينهم، وهو جمع قبيل، وإذ ذاك لم يقبل منهم الإيمان، لأن الحالة حالة يأس وبأس، راجع الآية ١٥٨ من سورة الأنعام المارة، أي انهم لا يؤمنون بأحد هذين الشيئين، وذلك ليس من شأن العاقل، إذ عليه أن يؤمن بمجرد وضوح الدلائل على الإيمان، وقرىء قبلا بضم القاف والباء، وبكسر القاف وفتح الباء، والمعنى ضروب من أنواع العذاب وبفتحتين مستقبلا، وهو ما يجوز فيه ثلاث لغات كالعمر والقصر والدهر والولد والرغم والشط والسقط والفتك
والشرب والفم والضر والزعم والوجد والقلب والضب والطب والقطب والحرض. قال تعالى «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» الأمم بعقاب العاصي وثواب الطائع «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا» أنبياءهم «بِالْباطِلِ» مثل قولهم (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وقولهم (لو شاء الله لقلنا مثل هذا) (ولو شاء الله لأنزل ملائكة)
188
(ولولا أنزل هذا القرآن على رجل) الآية، وأشباه هذه الآيات كقولهم ساحر وكاهن وشاعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين واختلاق وافتراء إلى غير ذلك «لِيُدْحِضُوا» يزيلوا ويبطلوا ويمحقوا «بِهِ» بجدالهم هذا «الْحَقَّ» الذي جاءهم من عندنا على أيدي رسلهم «وَاتَّخَذُوا» أولئك الكفرة «آياتِي» التي أنزلتها إليهم بواسطة رسلى «وَما أُنْذِرُوا» به منها وما فيها من التهديد والوعيد والتقريع والتوبيخ والتبكيت «هُزُواً» ٥٦ سخرية بضم الزاي وإسكانها «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» يريد القرآن خاصة بدليل تذكير الضمير فيما يأتي «فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من الكفر والعصيان، أي لا أظلم من هذا أبدا «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» أي الذين ذكروا فأعرضوا «أَكِنَّةً» أغطية كثيفة «أَنْ يَفْقَهُوهُ» لئلا يعوه ويفهموه «وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» لئلا يسمعوه ويعقلوه «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى» الذي تريده لهم يا سيد الرسل «فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» ٥٧ لسابق سقائهم وإحقاق الكلمة عليهم، لأن هذه الآية خاصة في أقوام منهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون أبدا «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ» على كفرهم، ولكن من مقتضى رحمته تأخيره، ولذلك جاء الإضراب بعده بقوله «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ» لتعذيبهم في الدنيا كما لهم موعد لعذابهم في الآخرة لا خلف فيه «لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» ٥٨ منجى وملجأ قال الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم مائيل
ينجو. قال تعالى «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا» أعاد الضمير لأهلها، والمراد بهم هنا الذين يعلمونهم أكثر أهل مكة وهم قوم نوح فما بعده، لأن القرى لا تهلك إلا بهلاك أهلها، وإلا فما داموا فيها فهي عامرة بهم، وكان سبب إهلاكهم الظلم «وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» ٥٩ أجلا فاجأناهم به، والمراد به هلاك الاستئصال عقابا لهم على ظلمهم لأن غيره يحصل لكل الأمم، أي وكذلك قومك يا محمد إن لم يؤمنوا فيحل بهم ما حل بهم.
189
مطلب قصة موسى عليه السلام مع الخضر رضي الله عنه:
قال تعالى «وَ» اذكر لقومك هذه القصة العظيمة أيضا «إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ» يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السلام، وهو ابن أخت موسى كما ذكروا وأكبر أصحابه، وخليفته في شريعته بعد هرون عليهم السلام، وهو من عظماء بني إسرائيل وسمي فتى، وهو هنا بمعنى خادم وعبد لقيامه في خدمته ودوام متابعته له وكثرة تعلمه منه، وإلا فمعنى الفتى الشاب الطري السجي الكريم، والفتوة لقب شرف ويأتي بمعنى الحديث في السن، ولهذا يقال لليل والنهار الفتيان، والتلميذ عبد حكمي لأستاذه مهما كان شريفا أو حقيرا. قال شعبة: من كتبت عنه أربعة أحاديث فأنا عبده، ومن علمني حرفا كنت له عبدا. ومقول القول «لا أَبْرَحُ» لا أزال أسير «حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» قالوا بحر فارس والروم وملتقاهما مما يلي المشرق ولعل المراد بما يقرب من مجمعهما لأنهما لا يجتمعان إلا في البحر المتوسط وهما شعبتان فيه «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» ٦٠ أداوم على السير زمنا طويلا، والحقب ثمانون سنة، وذلك أن الله تعالى وعد موسى أن يلقى الخضر هناك، وموسى هذا هو ابن عمران، وما قيل إنه ابن ميشا من أولاد يوسف لا صحة له ولا ثقة بالمنقول عنه وهو كعب الأحبار، لأن الله تعالى لم يذكر في كتابه مسمى بهذا الاسم غير صاحب التوراة، ولو أراد غيره لذكره وعرفه ليتميز عنه، روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس إن نوفل البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو بني بني إسرائيل، فقال ابن عباس كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه (أي لم يقل الله أعلم) فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال يا رب فكيف لي به؟
قال فخذ معك حوتا فاجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى أتيا الصخرة (بوجد بقرب ملتقى نهر الكلب والبحر الأبيض المتوسط في بيروت صخرة عظيمة
190
يزعمون أنها هي تلك الصخرة، وأن المراد بملتقى البحرين نهر الكلب والبحر الأبيض هناك، وهو قول لم يثبت، وقد ذكرنا غير مرة بأن أشياء كهذه لا يمكن القطع بها، وأن كل ما لم يبينه الله يجب أن نحيل العلم فيه إليه) وضعا رءوسهما فناما، فاضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، وتيقظ يوشع عند ذاك فرآه، قال تعالى «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما» أي نسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه من أمر الحوت وهو قوله تعالى «فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» ٦١ إذ أمسك الله عن الحوت جرية الماء وموجه فصار عليه مثل الطاق، وان موسى لم يسأله عن المكتل الذي فيه الحوت ولهذا نسب الله تعالى النسيان إليهما وبقيا يمشيان بقية يومهما وليلتهما «فَلَمَّا جاوَزا» المكان الذي فقدا فيه الحوت وداوما على السير ألقى الله على موسى الجوع ليتذكر موعد ربه، حتى إذا كان الغد من هذا اليوم «قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» ٦٢ وذلك لأنه جاوز المحل الذي أمره الله به، أما قبله فلم يحس بتعب لأنه لا يكلف عبده بما لا قدرة له به ولا طاقة له عليه سواء في العمل أو في العبادة، راجع الآية الأخيرة من سورة البقرة في ج ٣، فتيقظ إذ ذاك يوشع و «قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ» قال له موسى بلى، قال «فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ» أي نسيت أن أقص عليك خبره، فذكر له شأنه وقال «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» لك، قال هذا على سبيل الاعتذار، ثم قال «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» ٦٣ أي أن خروجه من المكتل ودخوله البحر وصيرورة البحر عليه طاقا كالسرب كان عجبا، قيل كان في أصل الصخرة عين ماء يقال لها عين الحياة لا يصيب شيء من مائها إلا حيّ، وقد أصاب ذلك الحوت منها شيء، فتحرك وانسل من المكتل إلى البحر، مع أنه كان مطبوخا، ولهذا كان لموسى وفتاه عجبا، لأنه حوت مطبوخ وقد أكلا منه، والأعجب منه أيضا ماء البحر مع شدة موجه، وما يحصل فيه من الجريان يمينا وشمالا بسببه يكون سربا مثل الطاق ويبقى على حاله زمنا، إلا أنه ليس بأعجب من فلق البحر له عليه السلام، وإنما لم يتعجب منه لأن الله وعده به «قالَ»
191
موسى لفتاه «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» من المكان الذي نطلبه «فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» ٦٤ حتى وصلا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب وهو المعني بقوله تعالى «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا» هو الخضر عليه السلام واسمه بليا بن ملكان، وقالوا إن من عرف اسمه واسم أبيه ومات مسلما دخل الجنة، نقله الباجوري في حاشيته على شرح ابن قاسم، ونقل ابن زياد في فتاويه غاية بلوغ المرام عن العلامة أحمد بن زيد الجيش من كتب (علي عليه السلام ولد في ١٠ رجب سنة ٣٠ من عام الفيل دخل الجنة) والله يرزق من يشاء بغير حساب إذا أراد فعل، ثم وصف ذلك العبد بقوله «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» ٦٥ وهو الإخبار بالمغيبات التي خصه الله بها، قالوا فلم عليه موسى فقال عليه السلام، وانا بأرضنا السلام، ثم رد عليه وقال من أنت؟ قال موسى، قال موسى بني إسرائيل، قال نعم، قال وما شأنك «قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ٦٦ وقد ثبت عن حضرة الرسول أن هذا هو الخضر عليه السلام، روى البخاري عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّي الله عليه وسلم إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء (الفروة القطعة من النبات اليابس المجتمع، وتطلق على وجه الأرض أيضا) قالوا وكنيته أبو العباس وكان من أبناء الملوك الأقدمين الذين تزهدوا وتركوا الدنيا، قالوا قال يا موسى أما يكفيك التوراة والوحي وتكليم الله لك، قال إن ربي أرسلني إليك، ثم قال له من أين عرفتني موسى نبي إسرائيل، قال عرّفني الذي أرسلك إليّ ثم «قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ٦٧ يا موسى لأني على علم علمنيه ربي لا تعرفه «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ٦٨ ولا تقدر أن تعرفه لأنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا وقد أعمل بخلافه لأنك تنظر إلى ظاهر الأمور وأنا إلى باطنها «قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» استثنى عليه السلام لعدم وثوقه من نفسه بالصبر، ثم قال «وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» ٦٩ من الأمور ولا أخالفك في شيء تريده لأني جئتك متعلما
«قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ» يتعلق بصفات الألوهية الذي لا يحل السؤال عنه
192
لأن ما أفعله مخالف ظاهره لظاهر الشرع، لأني سأفعله مبدئيا وان أنكرته، وقرىء تسألنّي بفتح اللام وتشديد النون وثبوت الياء فيه وفيما قبله إجماعا، بخلاف ياء (نبغ) لأن منهم من حذفها ومنهم من أثبتها وعليه الوقف والقراءة في المصاحف بتخفيف النون وإسكان اللام «حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ٧٠ فأبينه لك من تلقاء نفسي، فرضي موسى على هذا الشرط وترافقا «فَانْطَلَقا» يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فكلموهما أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فلم ير موسى إلا الخضر عمد إلى لوح من السفينة، فقلعه، وذلك قوله تعالى «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» ثقبها فالتفت إليه موسى وقال له قوم حملونا بغير نول تعمد إلى سفينتهم فتخرقها، وهو قوله تعالى «قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» ٧١ كبيرا عظيما يقال امر الأمر إذا كبر، ومنه قول أبي جهل لعنه الله أمر أمر ابن أبي كبشة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج مرضعته حليمة، فيكون أباه من الرضاع، ولم ينسبه لأبيه عبد الله استحقارا به حقره الله في ناره «قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ٧٢ وقد وعدتني بالصبر واشترطته عليك وعدم السؤال فلم توف بالشرط «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي» تحملني وتغشني «مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ٧٣ فلا تشدد وتعسر علي متابعتك واعف عن هفوتي وعاملني باليسر والسهولة، وإنما قال له ذلك لأنه لم ير الماء دخل السفينة من الثقب، ولم يعارضه أهلها بذلك لأنهم يعرفونه لا يعمل شيئا عبثا، قالوا وجاء عصفور فوقع على خرق السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال الخضر لموسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، وإنما اعترض عليه موسى لأن فعله مخالف للظاهر، ولا يجوز للأنبياء السكوت على ما يرونه مخالفا لشريعتهم وهم معذورون إذا لم يصبروا لا سيما وأن في عمله ذلك خطر على أهل السفينة الراكبين فيها ومضرة على أصحابها، وكلا الأمرين غير جائز بل ممنوع شرعا بحسب الظاهر، ثم خرجا من السفينة وصارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأمسكه واقتلع رأسه من جئته بيده فمات حالا،
193
وهو قوله تعالى «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ٧٤ منكرا عظيما لا يتلافى وهو بخلاف خرق السفينة إذ يمكن تلافيه ولأنه قد لا يؤدي إلى الهلاك، وتقرأ نكرا بضم الكاف وسكونها «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» أكد إنكاره عليه بأن واللام لقوله «لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ٧٥ وإنما زاد في جملته هذه (لك) لأنه نقض العهد مرتين، فلما أحس موسى بانفعال الخضر من اعتراضه عليه ثانيا، لأن في هذه الجملة تعنيفا له «قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» ٧٦ إذا فارقتني لوضوح العذر ولا لوم عليك البتة «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» بسقط لشدة ميلانه للانهدام «فَأَقامَهُ» أشار إليه بيده فاعتدل «قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» ٧٧ لأنهم لم يضيفونا ولم يطعمونا فلبسوا بأهل لتعمل لهم ذلك عفوا، قالوا إن هذه القرية (أنطاكية) مدفن الرجل الصالح حبيب النجار من أصحاب عيسى عليه السلام، قال أبي بن كعب: قال النبي صلّى الله عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا «قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» لأني لا أقدر على مصاحبتك لعدم صبرك على ما ترى مني وعدم علمك نتيجته ولكن «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ٧٨ روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمة الله علينا وعلى موسى (وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامه (حياء وإشفاق من الذم واللوم) فقال (إن سألتك) الآية، فلو صبر لرأى العجب. قال تعالى مبينا ما استنكره السيد موسى بقوله «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» قيل كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون بها «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» حتى لا يأخذها أحد منهم «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» قال
سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ (وكان أمامهم ملك) وليس بشيء «يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» ٧٩ لم تتكرر هذه الكلمة بالقرآن
194
أي يأخذها مصادرة لاحتياجه إليها في الحرب وإذا رآها معيبة تركها فكان ما فعلته صلاحا لأهلها إذ يمكنهم إصلاح ما أفسدته منها والانتفاع بها. وفي هذه الآية دليل على أن العامل الذي لا يكفيه عمله يسمى مسكينا ويعطى من الزكاة، قالوا وكان ذلك كافرا اسمه الجلندى، وتوجد في العراق عائلة كريمة تدعى بيت الشاوى من رؤساء عشائر العبيد ينتسبون إلى هذا الملك ولهم مكانة في العراق، وكانت رؤساء العشائر حينما يأتون بغداد يدخلون معرضين رماحهم ويمرون من تحت الطاق العائد لهم إذعانا واحتراما لهم.
مطلب عدم جواز القراءة بما يخالف ما عليه المصاحف والقول في نبوة الخضر وولايته وحياته ومماته:
قال تعالى «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ» وكان ابن عباس يقرأ (وكان كافرا) وليس بشيء، راجع الآية ٦ من الزخرف المارة تعلم أنها تفسير لا قراءة وأن كل ما هو مخالف لرسم المصاحف لا تجوز قراءته «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» ٨٠ بعقوقه وسوء صنيعه فيحملهما حبه على اتباعه فيكفران «فَأَرَدْنا» بقتله «أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً» صلاحا وتقى «وَأَقْرَبَ رُحْماً» ٨١ بهما وعطفا عليهما منه، روى البخاري ومسلم عن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانه وكفره، ولذلك فإن أبوي الولد لم يعارضا الخضر عليه السلام بشأن قتله لعلمهما أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة وقد جربوه وهذا أقصى حد في الاعتقاد بالأولياء إذ لا يمكن الأحد أن يحذو حذوه، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى «وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما» روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: كان الكنز ذهبا وفضة- أخرجه الترمذي- «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» قالوا اسمه كاشح واسم ولديه أحرم وحريم، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي
195
راجع الآية ٢٢ من الطور الآتية تجد هذا البحث، «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» إذا كبرا وعقلا ويا أخي موسى إنما أقمت لهم الجدار «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» بهما حتى يبقى الكنز محفوظا لهما ولا يليق بنا أن نترك هذا لعدم قيام أهل البلدة بضيافتنا. واعلم أن الذي وقع مني كله بأمر الله «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» ولا باختياري ورأبي «ذلِكَ» الذي ذكرته لك «تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ٨٢ واعترضت به علي، هذا وفي قول الخضر عليه السلام عند ذكر العيب (أردت) أضافه إلى نفسه على سبيل الأدب مع ربه، وفي الحقيقة إن ذلك من الله لأنه بأمره فعل ما فعل كما قضاه في الأزل عز وجل، وفي ذكر القتل قال (أردنا) بلفظ الجمع تنبيه على أنه من العارفين بعلمه تعالى، العاملين بأمره فيما يؤول إليه الأمر، وأنه لم يقدم على فعل القتل إلا لحكمة عالية بإلهام من ربه، ولذلك أذعن والداه كما مر آنفا، وقال ثالثا (فَأَرادَ رَبُّكَ) لأن حفظ الأنبياء وصلاح أحوالهم لرعاية حق الآباء ليس إلا لله وحده، ولذلك أضافه إليه. هذا، وقد استدل بعض العلماء بقوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) إلخ على أن الخضر نبي لأن النبي من لم يفعل بأمره بل بالوحي، والوحي من شأن الأنبياء، وأول هذا المستدل قوله تعالى (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا بأنها النبوة لأن لفظ الرحمة أطلقت في مواضع كثيرة على الرحمة والنبوة والرسالة في القرآن العظيم، وقد أخرج هذا القول ابن ابي حاتم عن ابن عباس، ولذلك مشى عليه جمهور من العلماء على أنه نبي لا رسول، وقال القشيري وجماعة أنه ولي وهو الصحيح، وأجابوا عن قوله تعالى (ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) بأنه إلهام من الله والأولياء ملهمون والإلهام من درجات الأنبياء لأنهم أول ما يرون الرؤيا الصالحة الصادقة، ثم الإلهام، ثم الوحي بواسطة الملك، وعن قوله (آتيناه رحمة) إلخ أنه علم الباطن، وعلى هذا أكثر العارفين وأهل العلم. وكما اختلفوا في نبوته وولايته اختلفوا في حياته ومماته فقال أكثر العلماء أنه حي واتفقت الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة على حياته وذكروا عنه حكايات كثيرة وأجمعوا على رؤيته والاجتماع به ووجوده في المواقع الشريفة كما ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته المكية
196
وأبو طالب المكي في كتبه والحكيم الترمذي في نوادره وغيرهم من المحققين الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب لا سيما وفيهم الإمام النووي. وقال الشيخ عمر بن الصلاح في فتاواه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، وقالوا إنه يجتمع بالناس كل سنة بالموسم وانه شرب من عين الحياة وإذ ثبت وجوده بنص القرآن وإجماع المفسرين على أنه هذا العبد الذي أرشد الله رسوله موسى إليه هو الخضر، وقد اكتسب هذا القول درجة التواتر في أقوال الكثيرين فلا يكون عدمه إلا
بدليل على موته، ولا نص فيه في كتاب أو سنة أو إجماع أو نقل عن بعض الثقات، وقد وردت أحاديث كثيرة في حياته ضربنا عنها صفحا لعدم وجود ما يقابلها في مماته من صحة السند وثقة الرواة المشهورين من الرجال. هذا وقد احتج من قال بوفاته دون أن يعين زمانا أو مكانا أو معاصرا له من ملك أو مملوك أو حادثة أو واقعة ما، بأن البخاري سئل عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. وما جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل موته: ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية. وما قاله بعض الأئمة عند سؤاله عنه أنه قرأ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الآية ٣١ من الأنبياء الآتية، ولا يخفى على ذي الرّوية أن هذه الأحاديث والآية في معرض العام، وما من عام إلا وخصص وما يدرينا لعل الله خصه من ذلك، على أن الآية قد يدخل فيها الخضر لأنه لا بد سيموت، وما قاله ابن تيمية لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى الرسول ويجاهد بين يديه، وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، وكانوا ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا، معروفين بأسمائهم وأنسابهم، ولم يكن الخضر معهم، لهذا أصح وأقوى ما جاء في هذا الباب على أنه يجوز أن يكون مخصوصا من عموم ما جاء في ذلك كله كما ذكرنا آنفا، إذ لا عامّ إلا وخصص ولا مطلق إلا وقيد، أو أنه كان يعبد الله تعالى على الماء أو في الهواء لا على الأرض فلا يشتمله قوله صلّى الله عليه وسلم لا تعبد على الأرض، ولا يبعد أنه جاء إلى الرسول وبايعه وجاهد معه إلا أنه
197
لم يره أحد كالملائكة، ولم يخبر الرسول عنه لأمر ما وكم من مؤمن في زمانه صلّى الله عليه وسلم موجودا ولم يتيسر له الوصول إليه والجهاد معه، وهذا أويس القرني من أخيار التابعين لم يتيسر له الوصول إليه والمرافقة له في الجهاد ولا التعليم، وكذا النجاشي رضي الله عنهما، أما الخبر القائل: لو كان الخضر حيا لرآني، فقد قال الحافظ إنه موضوع لا أصل له، ولا مانع من القول إنه كان يأتي الرسول ويتعلم منه خفية، لأنه غير مأمور بالظهور لحكمة إلهية، على أن كثيرا من الأصحاب والتابعين رأوه وصافحوه حتى في الجهاد منهم عبد الله بن المبارك الشائع الصيت دفين هيت رضي الله عنه الذي لا يشك أحد في صدقه. قال تعالى مبينا القسم الثاني مما سألوه عنه «وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ» اعلم أن ما قالوه بأن اسمه مزربان ابن مرزية بن قيلقوس بن يافث بن نوح عليه السلام، وما قالوا بأنه الإسكندر المشهور غير صحيح، وان الله تعالى لم يسمه الإسكندر وإنما سماه ذا القرنين الذي ملك الدنيا إذ قالوا ملكها مؤمنان هذا وسليمان، وكافران نمروذ وبختنصر واختلف في نبوته ونبوة لقمان وعزيز على أقوال لم يترجح أحدها على الآخر عند الأكثر خوفا من إدخال من لم يكن نبيا مع الأنبياء أو إخراج من كان نبيا منهم وهو أمر عظيم لم يقدم عليه الكاملون العارفون، على أنه رجح صاحب بدء الأمالي عدم نبوتهم بقوله:
وذو القرنين لم يعرف نبا كذا لقمان فاحذر عن جدال
راجع الآية ٢٠ من سورة لقمان لماره، وللبحث صلة في الآية ٢٦٠ من سورة البقرة في ج ٣ نوضحه فيها إن شاء الله، هذا ومن قال بنبوة ذى القرنين استدل بقوله تعالى (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) الآية الآتية بأن خطاب الله تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء، وهو غير وجيه، لأن الله تعالى خاطب مريم في آل عمران، راجع الآية ١٧ منها في ج ٣ وليست نبية بالاتفاق، راجع الآية ٥٧ من سورة مريم في ج ١، وقال في بدء الأمالي:
ولم تكن نبيا قط أنثى ولا عبد وشخص ذو افتعال
ومن قال إنه ملك احتج بقول عمر رضي الله عنه حين سمع رجلا يقول لآخر
198
يا ذا القرنين، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة، لأن الرسول قال: خير الأسماء ما عبد وحمد، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين، فنهى عن ذلك، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول.
مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:
وأصح الأقوال انه عبد صالح ملكه الله تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية ٩٩ الآتية، فراجعها، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ» من حاله وقصته «ذِكْراً» ٨٣ من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من الله بلفظه ومعناه.
قال تعالى «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه لإصلاح الدنيا «سَبَباً» ٨٤ بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه «فَأَتْبَعَ سَبَباً» ٨٥ أي سلك طريقا «حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى الغمار مما يلي «مَغْرِبَ الشَّمْسِ» بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ذات طين أسود، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض، على أن الله تعالى
199
قادر على أكثر من ذلك، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها، وان الله تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» ٨٦ أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ» من لم يسلم منهم «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» ٨٧ بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» بالقتل الآن «ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ» في الآخرة «فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» ٨٨ فظيعا متجاوزا الحد «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» ٨٩ فنعامله باللين والعطف. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» سلك طريقا آخر
حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى العمار مما يلي «مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» ٩٠ بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه الله لهم هنالك «كَذلِكَ» حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك، كما قيل إن الأولين من قوم صالح، والآخرين من قوم هود، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل. ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى الله القائل «وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» ٩١ به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد
200
ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله. هذا ولم يقص الله تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» ٩٢ سلك طريقا آخر أيضا «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان، قالوا إن الواثق بالله العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل، راجع الآية ٨ من سورة الفجر في ج ١، ولا بد أن يحين الوقت للعثور عليهما لا سيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد، وخروجهما من أمارات الساعة، وهم المعنيون بقوله تعالى «وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» ٩٣ إلا بجهد شديد، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه الله تعالى بقوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» يقرآن بالهمزة وبغيره، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية ٦٦ الآتية «مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» التي هم فيها، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» جعلا وأجرة من أموالنا «عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» ٩٤ يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا، لأن لهم ما بين الجبلين، فلما رأى صحة قولهم «قالَ» لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا، وإن «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي» من القوة والغلبة والمال «خَيْرٌ» مما تعطونه لي، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي، لا سيما وقد دخلتم في حوزتي، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» من أبدانكم وأشخاصكم «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» ٩٩ جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا؟ قالَ لهم آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل، فأحضروا له ما شاء، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد، وجعل بينه الفحم والحطب، وكان
201
بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين. قال تعالى «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» جانبي الجبلين لأنهما متصادفان، أي متقابلان ومتقاربان في العلو، أعطى الحطب النار و «قالَ انْفُخُوا» عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي البناء «ناراً» بأن صار كله نار «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» ٩٦ نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة، قال تعالى «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته «وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» ٩٧ لصلابته وسمكه، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم «قالَ هذا» السد المنيع الذي سويته لكم «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» بكم تفيكم شر أعدائكم الآن «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي» بخروجهم بعد
«جَعَلَهُ» أي هذا البناء العظيم «دَكَّاءَ» أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن الله لا يعجزه شيء «وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» ٩٨ واقعا لا مرية فيه «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تم إنشاء السدّ «يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه الله بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» بعد ذلك، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة، أو إلى ما شاء الله، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى «فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» ٩٩ للحساب والجزاء. تدل هذه الآية على أن خروجهم يكون قريبا من قيام الساعة. قال الأخباريون هم قوم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، ومن أولاده الترك والخزر والصقالية، وأولاد حام الحبشة والزنج والنوبة، وأولاد سام العرب والروم والعجم، وان
202
تفسير الموج المذكور في الآية من قبلهم في البشر أولى من تفسيره فيما بينهم، لأن سياق ما قبلها وسياق ما بعدها من الآيات يدل على هذا، تأمل. واعلم أن كل أمة منهما أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألفا من صلبه، وهم أصناف مختلفة باللون والطول والعرض والشكل، أقوى من كل حيوان، يأكلون من يموت منهم، وإذا خرجوا أكلوا الحيوانات، وشربوا المياه، وعاثوا في الأرض، ثم يهلكون. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده الشريفة تسعين (وذلك أن تجعل رأس السبابة وسط الإبهام وهي من موضوعات الحساب). وعنه قال في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا، قال فيعيده الله كأشدّ ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليه ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس، فيستقون المياه، ونفر منهم الناس لشدة وحشيتهم، ولأنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يروون، لا يخلص منهم إنسان ولا حيوان ولا حوت، يفسدون كل ما عثروا عليه، فيختفي الناس منهم ليسلموا من أذاهم، لأنهم لا يتركون شيئا إلا أكلوه أو أفسدوه، حتى إنك لترى الأرض عارية من الشجر والنبات. هذا وقد جاء في بعض القصص أن السدّ هو الموجود الآن المشاهد في ناحية الشمال فيما بين الجبلين في منقطع أراضي الترك، وهذا لعمري غير صحيح، لأنه من مجرد كلس والله أخبرنا بأن هذا السد من حديد ونحاس، وما يقال إن الحديد والنحاس تفتنانهما رطوبة الأرض لا جدال فيه، وإنما الأخذ والرد بالعثور عليه ليس إلا، وان الذي حدا بهم لهذا القول عدم العثور عليه، لأنهم على زعمهم أحاطوا بالمعمور كله فلم يجدوه، على أنهم يعترفون بأنهم لم يكشفوا القطبين الشمالي والجنوبي، وإذا لم يكشفوهما لا يليق بهم أن يقولوا أحطنا بالأرض أو بالمعمور منها، إذ قد يكون فيهما أو وراءهما، ويقول ابن خلدون في مقدمته إن السدّ وسط جبل قوقيا المحيط الكائن في القسم الشرقي من الجزء التاسع في الإقليم السادس، ولهذا فإن القول
203
رجما بالغيب في أشياء كهذه، لا يجدر بالعاقل الخوض فيها، بل عليه أن يكل علمها إلى الله، ومن يعش ير هذا، وجاء في رواية: تتحصن الناس في حصونهم فيرمون بسهام إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء، فيزدادون قسوة وعتوا، فيبعث الله عليهم نفقا (ذودا يكون في أنوف الإبل) في رقابهم فيهلكون، فو الذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا، أي يمتلىء أجسادها لحما، يقال شكرت الدابة إذا امتلأ ضرعها، أخرجه الترمذي. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ليحجنّ البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج.
يدل هذا الحديث على أن الإسلام يتجدد بعد هلاكهم، والله أعلم.
مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين:
وليعلم أن لفظ إسكندر الذي أطلق على ذي القرنين هذا ليس هو الإسكندر الرومي الذي ملك الفرس والروم والذي يؤرخ الروم بأيامه، لأن هذا الذي نحن بصدده كان على عهد إبراهيم عليه السلام بعد نمرود وقد عاش ألفا وستمئة سنة قبل إسكندر المقدوني بأكثر من ألفي سنة، لأن إسكندر المقدوني ولد قبل المسيح بثلاثمائة وست وخمسين سنة، وولايته قبلها في سنة ٢٣٦، ووفاته سنة ٣٤٠، فيكون عمره ٣٣ سنة، وكان وزيره أرسطو طاليس الفيلسوف المشهور الذي حارب دارا وأذلّ ملوك الفرس ووطئ أرضهم، وعمر الإسكندرية وغيرها، وكان كافرا، وقد غلط كثير من العلماء والمفسرين فظنوه هو المذكور في القرآن، وحاشا كلام الله أن يشمل هذا الكافر بما ذكر من الثناء، وليس هو الإسكندر اليوناني الذي ولي الملك بعد أبيه مرزين، واسمه المرزبان المار ذكره أول الآية ٨٤ وإنما هو غيرهما، وهو رجل اسمه ذو القرنين فقط، كما ذكر الله، وهو رجل صالح، نابه طيب، وقد قبض الله له قرناء صالحين، فأطاع الله وأصلح سيرته، وقصد الملوك والجبابرة وقهرهم، ودعا الناس لطاعته على طاعة الله تعالى وتوحيده، قالوا ولما أقبل إلى مكة شرفها الله ونزل بالأبطح قالوا له في هذه البلدة خليل
204
الرحمن، فدخلها ماشيا وقال ما ينبغي لي أن أدخل بلدة فيها خليل الرحمن وأنا راكب، حتى جاء إلى إبراهيم عليه السلام وسلم عليه وعانقه، فهو أول من عانق عند السلام، وسخر الله له السحاب والنور والظلمة فإذا سرى بجيوشه يظله السحاب من فوقه وتحوطه الظلمة ويهديه النور، وكان على مقدمته الخضر عليه السلام، فحظي بعين الحياة، وأخطأها ذو القرنين، وانقادت له البلاد، وإن ما قصّ الله علينا من أمره كاف من عظمته، ومات في مدينة شهرزور ودفن فيها، وقالوا إنه دار في الدنيا مدة خمسمائة سنة، وقال بعضهم إنه مات في بيت المقدس، والله أعلم. وقد ذكرنا آنفا في تفسير الآية ٩ المارة أن سبب نزول هذه الآيات بذكر ذي القرنين وأصحاب الكهف هو ما ذكره اليهود أن كفار قريش الذين ذهبوا إلى المدينة لهذه الغاية وعند مجيئهم منها أخبروا قومهم ثم سألوا الرسول عنها، وقد نزلت هذه الآيات بالقصتين المذكورتين، وآية ٨٥ من الإسراء المارة في ج ١ في السؤال عن الروح دفعة واحدة، لأن السؤال عنها دفعة واحدة، ووضعت كل منها في موضعها الآن بأمر من حضرة الرسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما السلام بما هو موافق لما عند الله في لوحه وعلمه، كما ذكرناه في المقدمة.
واعلم أن الله تعالى لم يذكر في القرآن العظيم اسم الإسكندر حتى يقال إنه اليوناني أو المقدوني أو الرومي ويؤولون الآية عليه، وإنما سماه ذا القرنين وإن المؤرخين من عند أنفسهم لقبوه بالإسكندر، ولهذا حصل الالتباس بينه وبين الإسكندر المقدوني أو الرومي أو اليوناني ووقع الخطأ بنسبة ما جاء في القرآن إلى أحدهم، والصحيح والله أعلم أنه ليس بأحد هؤلاء الثلاثة وإنما هو ذو القرنين أبو كرب صعب بن جبل الحميري، واسم أمه هيلانه، وكان يتيما في بني حمير كما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه سر العالمين وكشف ما في بني الدارين في ص ٣ وهو ثقة فيما ينقل ويكتب، كيف لا وقد لقب بحجة الإسلام ورضيه الخاص والعام، يؤيد هذا ما جاء في حاشية بدء الأمالي ص ٣٧ وما ذكره الزيلعي صاحب الكنز بأنه لقي إبراهيم خليل الرحمن وعانقه كما ذكرنا آنفا وقد سئل ابن عباس عن المعانقة فقال أول من عانق إبراهيم خليل الرحمن لما كان بمكة وأقبل إليها ذو القرنين حتى
205
صار بالأبطح، قيل له في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن، فقال ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ومشى إليه فسلم واعتنقه كمامر آنفا، فكان هو أول من عانق وعمره يزيد على الألفي سنة، كما يروى أن قيس ابن ساعدة خطب بسوق عكاظ فقال: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين ملك الخافقين قد أذل الثقلين وعمر ألفين، ثم كان كلمحة العين، ولهذا فإنه ليس بالإسكندر المقدوني ولا الرومي ولا اليوناني ولا اسمه إسكندر البتة، لأن عمرهم ودينهم وسيرتهم تخالف عمره ودينه وسيرته، وإنما هو ذو القرنين وكل ما نقله المفسرون بأنه يوناني أو مقدوني أو رومي وأن اسمه مرزبه أو غيره لا نصيب له من الصحة لأنهم تناقلوه بعضهم عن بعض دون أن يعرفوا مصدر الناقل الأول، وقد تهاونوا فيه ولم يبعثوا عما يؤيده، هذا والله أعلم.
قال تعالى «وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ» أي بعد النفخة الثانية «لِلْكافِرِينَ عَرْضاً» ١٠٠ ليشاهدوها عيانا فتنقطع فرائضهم من رؤيتها، ثم بين هؤلاء الكافرين بقوله جل قوله «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي» فلا يبصرون طرق الهدى والرشد فيها «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» ١٠١ له من رسلي ويعرضون عنهم لئلا يفقهوه وليعلم أن هذه الآيات من قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ) ٨٣ إلى هنا عدها أكثر العلماء من القسم المدني الذين تبعنا أقوالهم ومشينا عليها في تفسيرنا، هذا والصحيح أنها مكيات، إلا أنها لم تنزل مع سورتها لما قدمناه هنا وفي الآية ٥٨ من الإسراء في ج ١، ولعل السهو بعدّها مدنيات جاء من هذه الجهة، لأن الصحيح أن لا مدني في هذه السورة إلا الآية ٢٨ المارة لا آية ٣٨ التي ذكرها الغير. قال تعالى «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي» الملائكة كما اتخذ اليهود عزيزا والنصارى المسيح «مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ» لهم، كلا لا سبيل إلى زعمهم هذا فأخبرهم يا سيد الرسل بفساد ظنهم، وأنهم سيتبرءون منهم يوم القيامة ويكونوا لهم أعداء بسبب كفرهم «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» ١٠٢ هو ما يقدم للضيف عند نزوله وبئس ذلك النزل في ذلك اليوم العصيب، وإذا كان أول قراهم جهنم والعياذ بالله فما هو آخره يا ترى؟ لأنهم إذ ذاك يستغيثون ولا
206
يغاثون، لأنهم عن ربهم محجوبون، ولا أعظم عذابا من هذا كما لا أعظم لأهل الجنة من نعيم رؤية الله تعالى، كما سيأتي في الآية ١٠٧. «قُلْ» لهم يا أكرم الرسل «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ» أيها الكفرة «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» ١٠٣ في الدنيا والآخرة هم «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» عن طريق الصواب ومحجة السداد وجنحوا إلى ما فيه الهلاك والدمار «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» ١٠٤ في عملهم ولا يدرون أنه سبب خسارتهم في الآخرة «أُولئِكَ» الضّال سعيهم الظانون بحسن صنيعهم وهو شيء هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» ولم يصدقوا رسله «وَ» مع نكران «لِقائِهِ» في الآخرة كما أنكروا كلامه في الدنيا «فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» ومحق ثوابها الذي كانوا يأملونه لأنهم ماتوا على كفرهم وقد كافأهم الله عليها في الدنيا بما أنعم عليهم فيها، ولذلك «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» ١٠٥ إذ لا قيمة لهم ولا قدر ولا مكانة ولا حظ لهم عندنا ولا نصيب في الآخرة، وعدم إقامة وزنهم ازدراء بهم، وهؤلاء الموصوفون بما ذكرهم الخاسرون في الدنيا والآخرة لا كما يقولون إنهم الفقراء والصعاليك الذين شرفوا بالإيمان، لأن هؤلاء هم الناجحون الرابحون الناجون.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال صلّى الله عليه وسلم إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ)
الآية.
وذلك لأن الوزن للأعمال لا الأجساد «ذلِكَ» إشارة إلى حبوط عمالهم وخمسة قدرهم، أي الذين ذلك شأنهم «جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» ١٠٦ زيادة على كفرهم فلم يكتفوا به حتى ضاعفوه بالسخرية بكلام الله وذات رسله وكتبه. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ.» مكافأة لهم على أعمالهم الطيبة في الدنيا «نُزُلًا» في الآخرة أول قراهم عند ربهم وبعده ما هو أعظم وأعظم إذا كان أوله الجنة، وهذه بمقابل الآية ١٠٢ بحق الكافرين الذين أول قراهم جهنم وآخره بما هو أفظع وأشنع، وآخر قرى هؤلاء الأبرار رؤية الملك الغفار التي لا تعد جميع الجنان شيئا بالنسبة إليها عند أهل الجنة، والفردوس بالعربية البستان، وكذلك
207
بالرومية والحبشية، راجع الآية ١٨٢ من سورة الشعراء في ج ١، ويطلق على ربوة الجنة «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» ١٠٨ إلى غيرها، وما قيل إن كلمة الفردوس لم تسمع في كلام العرب إلا من حسان بعد الإسلام لقوله:
وإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد
لا يصح، لأن أمية بن الصلت قبل الإسلام سبقه بذلك بقوله:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس ثم القوم والبصل
وقال جرير يمدح خالد بن عبد الله القسري:
وإنا لنرجو أن نرافق رفقة يكونون في الفردوس أول وارد
ومن سمع قبل الإسلام من الجاهليين كثير أيضا. وهذه الكلمة مكررة في القرآن في الآية ١١ من سورة المؤمنين الآتية فقط، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة. فلو لم تكن العرب تعلم هذه اللفظة لما ذكرهم حضرة الرسول بطلبها، وتفيد هذه الآية أن الجنات غير الفردوس لإضافتها إليه، وهو كذلك، قال أبو حبان إن جنات الفردوس بساتين حول الفردوس، ولهذا يندفع ما يقال إن الآية تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس، مع أن درجاتهم متفاوتة، ولا يعارض الحديث السابق ما رواه أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا، إذ لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها فوق بعض، وتكون الوسيلة هي أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنة، على أن المراد والله أعلم في هذا الحديث علو المكانة لا المكان. قال تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي» التي هي في علمه والمقدرة في حكمه «وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» ١٠٩ مرارا كثيرة لنفد ولم تنفد كلمات الله، وما قيل إن هذه الآية نزلت بالمدينة عند ما قال اليهود إنا أوتينا علم التوراة، فكيف تتلو (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الآية ٨٥ من الإسراء
208
في ج ١ لا صحة له، وقد أوضحنا هذه في تفسير هذه الآية فراجعها يظهر لك مكّيتها، والآية المدينة في هذا الصدد هي الآية ٢٧ من سورة لقمان المارة فما بعدها كما بيناه هناك، ولذلك كانت أبلغ من هذه في المعنى لما فيها من لفظ أبلغ في العدد والكمية، وهكذا دائما تكون الآية المتأخرة في النزول أبلغ بحكم التدريج تأمل، أما هذه فمكية، وقد توهم من قال إنها مدنية لما أنه وقع السؤال عنها والبحث فيها في المدينة، وما كل ما جرى البحث فيه بالمدينة مدني، تنبه فقهك الله في أمر دينك ودنياك.
«قُلْ» يا سيد الرسل لقومك إني كما تقولون «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» لا ميزة لي عليكم بالبشرية، ولكن بما خصني الله به من النبوة والرسالة، وما أكرمني به من الوحي الذي «يُوحى إِلَيَّ» من لدنه، وهذا تعليم له عليه الصلاة والسلام لسلوك طريق التواضع في أقواله وأفعاله، ولئلا يزمو على أمته بما منحه الله به، وهذا وشبهه ما يشير إليه صلّى الله عليه وسلم بقوله: أدّبني ربي فأحسن تأدبي. «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو ربي وربكم لا شريك له «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ» في الدار الآخرة، ويقر بأن المصير إليه، ويعتقد ذلك اعتقادا جازما لا مرية فيه «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» في دنياه يعضد به إيمانه لينتفع فيه بآخرته «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» ١١٠ ولا شيئا أبدا، بل يخلص له في قوله وعمله وفعله ونيته. روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سمّع سمع الله به ومن يرائي يرائى به.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يقول أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه.
وفي رواية: وأنا منه بريء، وسبب نزول هذه الآية أن جبذ بن زهير قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه أحد سرّني، فقال عليه السلام إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وقيل إنه قال له: لك أجران، أجر في السر وأجر في العلانية. فالرؤية الأولى محمولة على قصد الرياء والسمعة، والثانية على قصد الاقتداء به، فالمقام الأول مقام المبتدئين، والثاني مقام الكاملين.
روى مسلم عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم من حفظ عشر آيات من أول الكهف
Icon