تفسير سورة المؤمنون

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي فيها من تزاحم المعاني الكثيرة المختلفة، وتعدد المواعظ والمشاهد ما يستديم اليقظة في النفس، والرهافة في المشاعر والحس. هذه السورة تعرض لسمات المؤمنين المفلحين الذين يفوزون بالنجاة ثم يصارون إلى نعيم الفردوس. جعلنا الله في زمرتهم.
وفي السورة بيان مجمل لمراحل الحياة الإنسانية وتطورها المنتظم العجيب بدءا بالنطفة من ماء مهين حتى الاكتساء باللحم، والإنشاء خلقا آخر بإشاعة الروح في الجنين ثم خروجه إلى الدنيا إلى أجل مسمى، ثم عودته إلى الممات ومخالطة التراب ليبعث يوم القيامة من جديد.
وفي السورة ذكر مقتضب لفريق من النبيين المرسلين وما لاقوه من معاندة الكافرين وطغيانهم وهم نوح وهود وصالح وموسى وهارون. أولئك المقربون الأطهار الذين أوذوا في الله من أممهم الضالة المتمردة فانتقم الله منهم في هذه الدنيا توطئة للعذاب البئيس المستديم في الآخرة.
وفي السورة من أهوال الموت وفظائع القيامة ما يقرع الحس والوجدان، ويستنفر في القلب دوام الخشية والوجل. إلى غير ذلك من العبر المختلفة وعظائم الأخبار عن أحوال البشرية في الدنيا والآخرة.
بسم الله الرحمان الرحيم

﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( ٢ ) والذين هم عن اللغو معرضون ( ٣ ) والذين هم للزكاة فاعلون ( ٤ ) والذين هم لفروجهم حافظون ( ٥ ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( ٦ ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ٧ ) والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون ( ٨ ) والذين هم على صلواتهم يحافظون ( ٩ ) أولئك هم الوارثون ( ١٠ ) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( ١١ ) ﴾.
روى الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال : إذا نزل على رسول الله ( ص ) الوحي يُسمع عند وجهه كدوي النحل، فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : " اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا " ثم قال : " لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة " ثم قرأ ( قد أفلح المؤمنون ) حتى ختم العشر١. لقد فاز المؤمنون وسعدوا بما أعده الله لهم من حسن الجزاء في الدار الآخرة ؛ إذ النعيم المقيم والقرار الكريم المستديم.
والمؤمنون متصفون بصفات شتى جديرة بالاهتمام والبيان. وهي أوصاف مستفيضة ذكرتها الآيات هنا.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٩..
وذلك قوله :﴿ الذين هم في صلاتهم خاشعون ﴾ أي خائفون ساكنون مطمئنون، والخشوع محله القلب. فشأن المؤمن أن يكون موصول القلب بالله، وأن يكون واثقا مستيقنا من جلال الله وعظيم سلطانه وجبروته. لا جرم أن قلب المؤمن دائم الخوف من الله لتخشع بذلك جوارحه فلا تدنسها المعاصي والآثام ؛ بل تجنح للطاعات والعبادات وفعل الصالحات.
والخشوع في الصلاة إنما يتحصل للمؤمن باجتهاده في استجماع قلبه كيما ينشغل بالصلاة عما سواها من مشكلات الحياة الدنيا. والصلاة في الحقيقة لهي وقت للاسترواح النفسي والروحي للمؤمن المذكر، وهو يجد فيها لنفسه قرة عين، وفي ذلك روى الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله ( ص ) أنه قال : " حبّب إلي الطيبُ والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة ". وروى أحمد أيضا بسنده عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله ( ص ) قال : " يا بلال، أرحنا بالصلاة ". ومن أوجه الخشوع في الصلاة : السكون فيها والتذلل ؛ وترك الالتفات والحركة، والخوف من الله. ومن الخشوع في الصلاة أيضا : أن يضع المصلي بصره في موضع سجوده ؛ فإنه أحضر لقلبه وأجمع لفكره. وهو قول الشافعي. وقال مالك : إنما ينظر أمامه ولا يرفع بصره إلى السماء في الصلاة.
قوله :﴿ والذين هم عن اللغو معرضون ﴾ اللغو معناه السقط وما لا يُعتد به من كلام وغيره١، أو هو الفعل الذي لا فائدة فيه. قال صاحب الكشاف : اللغو، ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطّراحه.
وما كان هذا وصفه من القول أو الفعل فهو محظور. وقال ابن عباس : اللغو معناه الباطل.
وعلى هذا فإن مجانبة اللغو من صفات المؤمنين ؛ فهم أهل جد واهتمام وعمل نافع صالح ؛ فهم منشغلون بواجباتهم عن الهزل والتلهي بسقط الأعمال أو الأقوال الفارغة التي لا تغني ولا فائدة فيها.
١ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٣٨٨..
قوله :﴿ والذين هم للزكاة فاعلون ﴾ والمراد بالزكاة : الحق الواجب في الأقوال.
ومع أن هذه الآية مكية فإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنين من الهجرة. والظاهر أن ما فرض بالمدينة هي الزكاة ذات النصب وما يجب فيها من مقادير مستحقة. ومع ذلك فقد كان أصل الزكاة واجبا بمكة ؛ لقوله في سورة الأنعام ( وآتوا حقه يوم حصاده ).
والمراد : أن المؤمنين متصفون بهذه الصفة الكريمة وهي أداؤهم لفريضة الزكاة لتصرف في وجوهها المشروعة.
قوله :( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) هذا خطاب للرجال خاصة دون النساء. بدليل قوله تعالى :( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) فإنه لا إباحة بين النساء وملك اليمن في الفرج.
هذا خطاب للرجال خاصة دون النساء. بدليل قوله تعالى :( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) فإنه لا إباحة بين النساء وملك اليمن في الفرج.
وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى. وهذه صفة من صفات المؤمنين وهي أنهم حافظون لفروجهم باستثناء أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، وهن الإماء. وهذا إخبار عن إباحة وطء الزوجة والأمة فقد دون غيرهما من النساء ؛ فإن ما دون هذين الصنفين من الزوجات والإماء محظور البتة. وبذلك يحرم الزنا واللواط على الخصوص. وكذلك نكاح المتعة ؛ فإنه ليس نكاحا شرعيا صحيحا. والنكاح الصحيح ما كان مبنيا على الديمومة وتحصيل النسل بخلاف المؤقت.
وكذلك الاستمناء فإنه حرام بدليل هذه الآية ؛ فقد خرج بالزوجة والأمة كل سبيل آخر من سبل التلذذ وإفراز الشهوة ؛ وهو قول عامة العلماء ؛ إذ ذهبوا إلى تحريم الاستمناء. وهو الصحيح. وخالفهم في ذلك الإمام أحمد بن حنبل ؛ إذ جوزه واحتج بأن الاستمناء. إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة. وأصل ذلك عنده الفصد والحجامة. وهذا القول في غاية الضعف. والصحيح تحريم الاستمناء وهو نكاح اليد، للآية التي ينحصر فيها جواز الاستمتاع الجنسي في النكاح الدائم الصحيح والتسري فقط. وأيما وسيلة أخرى غير هاتين الوسيلتين حرام.
قوله :( فإنهم غير ملومين ) أي مؤاخذين.
قوله :﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾ ( العادون )، المعتدون المجاوزون الحد، الواقعون في الحرام.
﴿ والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون ﴾ الأمانات جمع أمانة، وهي كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا. أو هي ما يؤتمن عليه من جهة الحق والخلق ؛ فهي تشتمل على سائر العبادات وغيرها من المأمورات ؛ فإن المرء مؤتمن على كل ذلك. وتتناول الأمانة أيضا كل ما كان تركه داخلا في الخيانة لقوله تعالى :( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم ).
وعلى العموم فإن الأمانة ما يلتزمه المرء من قول، أو فعل فيلزمه الوفاء به كالودائع والعقود وما يتصل بهما.
أما العهد : فهو في اللغة بمعنى الأمانة واليمين والموثق والذمة والحفاظ والوصية١.
والمراد بالعهد : ما عقده المرء على نفسه فيما يقربه إلى ربه. وهو يدخل فيه العقود والأيمان والنذور. على أن الأمانة أعم من العهد. فكل عهد أمانة فيما تقدم من قول أو فعل، فهو بذلك أخص من الأمانة، والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا، وإن كان العهد أخص من الأمانة.
وجدير ذكره هنا أن هذه صفة خاصة للمؤمنين وهي أنهم يرعون أماناتهم وعهودهم. فلا يخونون الأمانات، ولا ينقضون العهود والمواثيق، ولا يفرطون في شيء التزموه قولا أو فعلا. وذلك أن المؤمن وفي وصادق ومؤتمن ؛ فهو لا يغش أو يمكر. ولا يتحيل أو يخادع. وإنما هو صريح ومستقيم وأمين، ولا يختلف فيه الظاهر عما يخفيه الباطن من مكنون. وهذه هي سجية المؤمنين في الصدق والاستقامة والوضوح ؛ فهم ليسوا كأولئك الذين لا تستوي فيهم الظواهر والبواطن، وإنما يظهرون بألسنتهم وهيئات سلوكهم حلاوة المظهر وجمال الصورة والسمت، وهم في الحقيقة يكنون في طبائعهم الغش والباطل كأدعياء الحضارة المادية الكاذبة التي بنيت على الخداع والتدسس والنفاق والمراوغة والميكافيلية.
إن المؤمن صادق مؤتمن لا يخادع ولا يخون ؛ بل يؤدي إلى من ائتمنه ولا يخون من خانه، ولا ينقض عهد من نقض عهده، ولا يغدر بمن غدر به.
١ - القاموس المحيط جـ١ ص ٣٣١. ومختار الصحاح ص ٤٦٠..
قوله :﴿ والذين هم على صلواتهم يحافظون ﴾ المحافظة على الصلاة تتحقق في أدائها على وجهها الصحيح المشروع، والمبادرة إليها في أوائل أوقاتها دون إمهال أو تثاقل أو عجز.
والصلاة فريضة الإسلام الكبرى وركنه الأساسي الأعظم. فحقيق بالمؤمن أن يؤديها خير أداء من حيث ركوعها وسجودها وقراءتها وما يجلّيها من خشوع. وهذه صفة سادسة للمؤمنين وهي أداؤهم الصلاة محافظين عليها باعتبارها أعظم أعمال الإسلام ؛ فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله ( ص ) فقلت : يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : " الصلاة على وقتها " قلت : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قلت : ثم أي ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله ".
قوله :﴿ أولئك هم الوارثون ﴾ المؤمنون الذين اجتمع فيهم ما تبين من صفات ( هم الوارثون ) الذين يستحقون أن يُسموا وارثين دون غيرهم من الناس. أما السبب في تسمية ما يجده المؤمنون من حسن الجزاء ؛ بالميراث ؛ فقد قيل : إن الجنة كانت مسكن أبي البشر آدم عليه السلام فإذا انقلبت إلى أولاده المؤمنين صار ذلك شبيها بالميراث. وقيل : بل إن هؤلاء المؤمنين المتصفين بتلك الصفات يرثون منازل أهل النار من الجنة. وفي الخبر من رواية ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ؛ ورث أهل الجنة منزله ".
قوله :﴿ الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ﴾ ( الفردوس ) بمعنى البستان. واللفظة أعجمية عُربت. وقيل : عربية بمعنى الكرم. والجمع فراديس. والمراد به هنا خير منزلة في الجنة. وفي الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوق عرش الرحمان "..
هذه الدرجة الرفيعة في الجنة قد خول الله المؤمنين أولي الصفات المتقدمة إياها، ماكثين فيها أبدا لا يبرحونها ولا يتحولون عنها١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٠٨ وما بعدها. وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٨٣ وما بعدها. وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٩..
قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ١٢ ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( ١٣ ) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( ١٥ ) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( ١٦ ) ﴾ السلالة، من السل، بالفتح، وهو الأخذ والاستخراج، والسليل، الولد، والأنثى سليلة١.
والمراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام، فقد استلّ من طين لازب وهو الصلصال من الحمأ المسنون وذلك مخلوق من التراب. وفي هذا أخرج الإمام أحمد عن أبي موسى عن النبي ( ص ) قال : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ؛ جاء فيهم الأحمر والأبيض والأسود بين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك ".
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٣٠٦..
قوله :﴿ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ﴾ الضمير عائدة على جنس الإنسان، فهو مخلوق من ماء قليل مهين جعله الله في مستقر حصين مصون وهو الرحم
( ثم خلقناه النطفة علقة فخلقنا العقلة ) النطفة والعلقة، منصوبان ؛ لأنهما مفعولان للفعل ( خلقنا ). و ( خلقنا ) ههنا يتعدى إلى مفعولين ؛ لأنه بمعنى صيرنا. ولو كان بمعنى أحدثنا لتعدى إلى مفعول واحد١ والمعنى : حولنا النطفة إلى علقة، أو صيرنا علقة، وهي الدم الجامد ( فخلقنا العلقة مضغة ) يعني جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة ؛ أي قطعة لحم. وقد سميت مضغة ؛ لأنها مقدار ما يمضغ.
قوله :( فخلقنا المضغة عظاما ) أي صيرنا قطعة اللحم هذه متصلبة عظاما يقوم عليه جسد الإنسان ( فكسونا العظام لحما ) أي جعلنا على العظام ما يسترها ويشدها من اللحم.
قوله :( ثم أنشأناه خلقا آخر ) أي جعلناه خلقا مباينا للخلق الأول وذلك بنفخ الروح فيه لتنتشر فيه الحياة.
قوله :( فتبارك الله أحسن الخالقين ) أي تعالى الله وتعظم شأنه وجلاله فقد استحق التعظيم والثناء. و ( أحسن ) مرفوع على أنه بدل من ( الله ).
وقيل : مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. وتقديره : هو أحسن الخالقين٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨١..
٢ - نفس المصدر السابق..
قوله :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ﴾ بعد خلقكم أطوارا في بطون أمهاتكم، ثم خروجكم إلى الدنيا لتحيوا فيها إلى أجل يعلمه الله، ثم تصيرون إلى الموت لتمكثوا في قبوركم حينا مقدورا من الدهر،
ثم تبعثون بعد ذلك يوم القيامة لتلاقوا الحساب والجزاء وهو قوله :( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ).
لا جرم أن هذا الإخبار عن كيفية الخلْق والتكوين يأتي في الغاية من حقيقة الإعجاز لهذا الكتاب المنزل الحكيم. ويتجلى ذلك تماما، ونحن نتخيل أن رسول الله ( ص ) كان أميا وهو مبعوث في أمة أمية لا تدري ما القراءة ولا الكتابة. فأحرى ألا تدري عن حقائق العلوم الكونية شيئا.
لكن هذه الآية وهي تعرض لهذا الترتيب المتسلسل في الخلق مما لم تدركه عقول البشر إلا في عصرهم الراهن- تزجي بالدليل الأبلج على أن القرآن معجز وأنه من صنع الله العليم القدير.
قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ﴾ ( سبع طرائق )، أي سبع سموات. سميت طرائق لتطارقها ؛ أي كون بعضها فوق بعض. يقال : طرق الليل عليه ؛ أي ركب بعضه بعضا١.
قوله :( وما كنا عن الخلق غافلين ) ليس الله غافلا عن خلقه بل إن الله حفيظ لهم من أن تسقط عليهم السماوات فتهلكهم. وهذا دليل قدرة الله المطلقة وجبروته المذهل الذي ليس له حدود.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ٢٦٦ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٨٥..
قوله تعالى :﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ( ١٨ ) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( ١٩ ) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ( ٢٠ ) وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ( ٢١ ) وعليها وعلى الفلك تحملون ( ٢٢ ) ﴾ هذا إخبار من الله عن إنعامه على عباده. وهو إنعام كثير ومنبسط ومستفيض لا يعد ولا يحصى. ويأتي في طليعة ما أنعم الله به على الناس إنزاله القطر من السماء ( بقدر ) أي بحسب الحاجة للعباد فلا يكون كثيرا كثرة تفسد الأرض والحرث والعمران. ولا يكون قليلا قلة يظمأ بها الناس والأنعام وتفسد الحروث والنبات. لا جرم أن هذا دليل على حقيقة الصانع القادر الذي خلق كل شيء بقدر. فلا فوضى ولا خبط ولا عشوائية وإنما خلق دقيق ومقدور وموزون من غير زيادة ولا نقصان. كل ذلك يدل على عظمة اللطيف الخبير.
قوله :( فأسكناه في الأرض ) أي جعلنا الماء النازل من السماء يستقر في الأرض فيمتلئ به جوفها، ومن ثم تتفجر الأنهار والآبار والينابيع والعيون لتكون ثجّاجة يفيض منها الماء العذب الصافي فيضا فتستقي منه الأراضي وما فيها مغروسات ومزروعات ويستقي منه العباد والدواب.
قوله :( وإنا على ذهاب به لقادرون ) من فضل الله ونعمته على الخلق أن سلك الماء في ثنايا الأرض فجعله مخزونا قريبا من سطحها، ليسهل أخذه والانتفاع به. والله جل وعلا قادر على إذهاب الماء بمختلف وجوه الإذهاب والصرف. وذلك كجعله يغور في أعماق الأرض إلى المدى الذي لا يوصل فلا ينتفع به أحد، فيتضرر الناس وسائر الأحياء.
قوله :( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب ) أي خلقنا لكم وأحدثنا بهذا الماء بساتين من نخيل وأعناب. وقد خصّ هذين الصنفين من الثمار دون غيرهما من ثمار الأرض ؛ لأنهما كانا أعظم ثمار الحجاز. فذكرهم بما يعرفونه من نعم الله عليهم.
قوله :( لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ) أي خلق لكم من هذه البساتين العامرة النضرة أصنافا شتى من الفواكه تتفكهون بها وهي ذات ألوان وطعوم كثيرة ومختلفة. والفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه. وقد اختلفوا فيها. فقال بعض العلماء : كل شيء قد سُمي من الثمار في القرآن نحو العنب والرمان فإنه لا يسمى فاكهة. وعلى هذا لو حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل عنبا ورمانا لم يحنث ولم يكن حانثا. وقال آخرون : كل الثمار فاكهة. وإنما كرر في القرآن في قوله تعالى :( فيها فاكهة ونخل ورمان ) لتفضيل النخل والرمان على سائر الفواكه دونهما. ومثله قوله تعالى :( وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) فكرر هؤلاء للتفضيل على النبيين ولم يخرجوا منهم. قال الأزهري من علماء اللغة : ما علمت أحدا من العرب قال : إن النخيل والكروم ثمارها ليست من الفاكهة١.
١ - لسان العرب جـ١٣ ص ٥٢٣..
قوله :( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن ) ( شجرة )، منصوب بالعطف على ( جنات ).. والتقدير : فأنشأنا لكم به جنات وشجرة تخرج من طور سيناء. و ( سيناء )، بفتح السين بمنزلة حمراء. فلم يُصرف للتأنيث. وتنبت بالدهن. بفتح التاء، والباء للتعدية. وقيل : الباء زائدة ؛ لأن الفعل متعد بالهمزة. والتقدير : تنبت الدهن. كقوله :( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) أي لا تلقوا أيديكم١. وقيل : الباء للحال ؛ أي تنبت ومعها الدهن وهو الزيت.
والمراد بالشجرة هنا : شجرة الزيتون. و ( طور سيناء )، أي طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام. قوله :( وصبغ للآكلين ) الصبغ، معناه الأدم، ينتفع به الناس للأكل والادّهان. وفي هذا روى الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري قال : قال رسول الله ( ص ) : " كلوا الزيت وادّهنوا به ؛ فإنه من شجرة مباركة ".
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٢..
قوله :( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) ( الأنعام ) جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم ؛ فإن فيها عبرة لمن يعتبر ؛ أي فيها ما تعتبرون بحالها ؛ إذ يخرج منها اللبن من بين الفرث والدم، وهو مستطاب طعمه وسائغ شرابه، إن ذلك مما ينبغي أن تستدلوا به على قدرة الله وعظيم صنعه وهو قوله :( نسقيكم مما في بطونها ).
قوله :( ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ) منافع الأنعام كثيرة، بالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها التي تستعمل في صنع الألبسة والأغطية والفرش على اختلاف أصنافها وأشكالها بما يستر جلودكم وأبدانكم ويقيكم ضرر الحر والقرّ ( ومنها تأكلون ) سخرها الله لمنافع بني آدم ومن أعظم ما ينتفعون به من الأنعام أكلها، فضلا عن وجوه المنافع الكثيرة الأخرى.
قوله :( وعليها وعلى الفلك تحملون ) فقد قرنها الله بالفلك ؛ إذ كانت الإبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. لقد كانت الإبل في سائر الأزمنة الفائتة من الدهر كله سبيل البشرية للمسير في الصحراء أو لقطع المسافاة البعيدة والنفاذ إلى بلاد أخرى. ولولا أن الله عز وجل ذلّل الإبل للحمل والركوب قطع القفار لبلوغ مختلف الأمصار لعزّ على الناس أن يسافروا أو يقضوا أغراضهم وحاجاتهم١.
١ - البحر المحيط جـ ٦ ص ٣٧٠ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١١٦، ١١٧..
قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( ٢٣ ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( ٢٤ ) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ( ٢٥ ) ﴾ هذا تذكير من الله للعباد بقصة أبي البشر الثاني نوح عليه السلام ؛ إذ أرسله الله لقومه المشركين الطغاة الذين غلوا في الكفر والعصيان وعتوا عن أمر الله عتوا كبيرا، فكذبوا نبيهم نوحا وآذوه إيذاءا شديدا طيلة قرون مديدة من الزمان، وهو فيها يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويحذرهم بطشه ويخوفهم عذابه الشديد. وهو قوله :( فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ليس لكم من معبود سوى الله ؛ فهو خالقكم ورازقكم وهاديكم إلى سواء السبيل، فاعبدوه وحده وانبذوا ما تعبدون من دونه من الآلهة المزعومة المفتراة ( أفلا تتقون ) أفلا تخشون أن ينزل بكم عذاب الله إن عصيتم أمره وكذبتم رسوله.
قوله :( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم ) المراد بالملأ، سادة القوم وكبراؤهم ؛ فهم طليعة المكذبين المجرمين، قالوا لقومهم الضالين السفهاء عن نبيهم نوح : بيس هذا إلا واحدا من البشر يتصرف كما يتصرف البشر ؛ فهو مساويهم في البشرية ( يريد أن يتفضل عليكم ) أي يبتغي بما جاءكم به أن يكون له الفضل والكبرياء والرئاسة عليكم ( ولو شاء الله لأنزل ملائكة ) أي لو شاء الله أن يرسل إلينا رسولا لأنزل من الملائكة من يضطلع بهذه الوجيبة. والأعجب من سفاهة هؤلاء التاعسين الضالين أنهم رضوا بألوهية الحجر وكذبوا بنبوة البشر. إن ذلكم لهو السفه المطبق والعمه المبين.
قوله :( ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) أي ما سمعنا ببعث رسول من البشر في آبائنا وأجدادنا السالفين. وهذا افتراء منهم وبهتان ؛ فقد سبقت نبوة إدريس وآدم عليهما الصلاة والسلام ولم تكن المدة بينهم وبين نبوتهما متطاولة لينسوا. ولكنه الجنوح إلى الضلال والضلوع في الظلم والباطل.
قوله :﴿ إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ﴾ أي ما هذا الذي جاءكم بما يزعم إلا رجلا أصابه جنون فانتظروا حتى ينجلي أمره ويتضح خبره وعاقبة أمره فتروا ما أنتم فاعلون به١.
١ - البحر المحيط جـ٦ ص ٣٧٢..
قوله تعالى :( قال رب انصرني بما كذبون ( ٢٦ ) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٢٧ ) فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ( ٢٨ ) وقل ربي أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ( ٢٩ ) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ( ٣٠ ) }.
عندما أيس نوح من قومه الظالمين دعا ربه بأن ينصره عليهم ويظفره بهم بسبب تكذيبهم له. وهو قوله :( انصرني بما كذبون ) أي أبدلني من غم تكذيبهم وجحودهم سلوى النصر عليهم. كما نقول : أبدلني هذا بهذا. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ؛ لأن في أهلاكهم نصرا له.
قوله :( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) استجاب الله دعاء نوح فأوحى إليه أن يصنع الفلك بحفظ الله وكلاءته، وأن يكون واثقا من أمر الله ومن نصره وتأييده ( ووحينا ) أي بتعليمنا إياه صنعة الفلك ؛ فقد علمه الله كيفية ذلك فمكث في صنعه فترة من الزمن، والمجرمون السفهاء يسخرون منه وهم غافلون عما هو آتيهم من عذاب التغريق.
قوله :( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) إذا جاء أمر الله بنزول العذاب، وفار الماء من تنور الخبز، أي أن الإيذان بالغرق كان خروج الماء من التنور وهو موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والزجر ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) أي أدخل في السفينة من كل نوع من الأحياء صنفين، أحدهما ذكر والآخر أنثى ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) أي واحمل فيها أهل بيتك من المؤمنين إلا من سبق فيهم على الله أنهم كافرون وأنهم من الهالكين، كامرأته وابنه.
قوله :( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) إذا رأيت نزول المطر، وتدفق الماء من الأرض فعانيت نزول العذاب بهم فلا تأخذك بهم شفقة أو رأفة، ولا تدع لهم بالنجاة ؛ فإنهم هالكون بالتغريق لا محالة.
قوله :( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ) ( استويت )، فعله، استوى ؛ أي اعتدل١ والمعنى : إذا تمكنتم على متن السفينة راكبين مطمئنين ( فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ) خاطبه الله بمفرده وأمره وحده أن يشكر ربه ؛ لأنه نبيهم وإمامهم وقدوتهم ؛ فهو بذلك يقوم مقامهم في الشكران لله والثناء عليه ؛ فقد أمره الله أن يشكره ويثني في مقابل إهلاك المجرمين الظالمين وإنجاء المؤمنين المستضعفين حتى خرجوا آمنين معافين من الطوفان بفضل ورحمة من رب العالمين.
١ - القاموس المحيط ص ١٦٧٣..
﴿ وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ﴾ أمره ربه بركوب السفينة أو بالخروج منها، وأن يدعو ربه بأن ينزله منزلا مباركا- بضم الميم وفتح الزاي- أي إنزالا مباركا أو موضع إنزال مبارك. والمبارك من البركة وهي ما في السفينة من الأمان والنجاة والخروج سالمين مطمئنين ( وأنت خير المنزلين ) ذلك ثناء منه على الله مبالغة في شكره والتوسل إليه بالإجابة.
قوله :﴿ إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ﴾ يعني بالإشارة : الصنيع الذي فعله الله بنوح والذين معه من إنجائهم وإهلاك الكافرين، فإن في ذلك لدلالات وعلامات ظاهرات على صدق رسل الله وما جاءوا به من الحق ( وإن كنا لمبتلين ) أي وإن كنا لمختبرين عبادنا المؤمنين بعظيم البلاء١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٤٥٤ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣٧٢..
قوله تعالى :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( ٣١ ) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( ٣٢ ) وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ( ٣٣ ) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ( ٣٤ ) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ( ٣٥ ) هيهات هيهات لما توعدون ( ٣٦ ) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ( ٣٧ ) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ( ٣٨ ) قال رب انصرني بما كذبون ( ٣٩ ) قال عما قليل ليصبحن نادمين ( ٤٠ ) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ( ٤١ ) ﴾
خلق الله من بعد قوم نوح أمة أخرى هي قوم عاد ؛
إذ أرسل فيهم رسولا من جنسهم وهو هود عليه السلام ؛ فقد دعاهم إلى عبادة الله ؛ وحده ونهاهم عن الشرك وحذرهم مغبة التلبس بالوثنية وما يؤول إليه ذلك من ويل وخسران ( أفلا تتقون ) يعني أفلا تخشون أن ينزل بكم من الله العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ؟ وقيل : المراد ثمود، قوم صالح.
قوله :( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ) المراد بالملأ، كبراء القوم الكافرين ورؤساؤهم. و ( الذين كفروا )، نعت للملأ، أو لقومه. والمعنى : أن هؤلاء المجرمين الذين كفروا بدعوة الله وجحدوا نبوة رسولهم هود وكذبوا بيوم الدين والحساب ( وأترفناهم في الحياة الدنيا ) معطوف على ( الذين ). أو جملة حالية ؛ أي وقد أترفناهم، وكان ينبغي أن لا يكفروا بل يشكروا ما أترفناهم فيه في حياتهم الدنيا من بسط الرزق وغير ذلك من وجوه النعمة- قالوا :( ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) أي ما هذا الذي يزعم أنه نبي إلا مثلكم في البشرية ؛ فهو يأكل كما تأكلون ويشرب كما تشربون. فأنى له أن يكون نبيا وهو مثلكم.
﴿ ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ﴾ أي لئن أطعتم واحدا مثلكم في البشرية واتبعتم ما جاءكم به من دين فأنتم إذا خاسرون باتباعه ونبْذَ ما وجدتم عليه آباءكم من العبادة. وليس أدل على ضلال هؤلاء السفهاء وتعسهم، وفرط شقاوتهم من استنكافهم عما يقوله رجل مثلهم وهم متلبسون بعبادة أصنام جامدة صماء لا تعي ولا تنطق ولا تسمع ولا تبصر.
قوله :﴿ أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ﴾ يقول هؤلاء المجرمون الجاحدون، سائلين مستنكرين : أيعدكم بعد أن تصيروا ترابا وعظاما نخرة ( أنكم مخرجون ) أي مبعوثون من قبوركم أحياء. و ( أنكم ) الثانية كررت للتأكيد ؛ لأنه لما طال الكلام حسن التكرار. و ( مخرجون ) خبر ( أنكم ) الأولى. وقيل، ( أنكم ) الثانية بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد. وخبر ( أنكم ) الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه١.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٤..
قوله :﴿ هيهات هيهات لما توعدون ﴾ ( هيهات ) اسم فعل ماض بمعنى بعد، والفاعل تقديره الإخراج أو التصديق ؛ أي بعد التصديق. أو بعد ما توعدون. واللام للبيان كقوله : هيت لك. وهيهات الثانية للتوكيد١.
١ - نفس المصدر السابق..
قوله :( إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ) ( إن )، أداة نفي ؛ أي لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها وهي الدنيا ( نموت ونحيا ) أي يموت أناس ويولد أناس آخرون. ينقرض جيل ويأتي عقبه جيل آخر وهكذا دوام الدهر ( وما نحن بمبعوثين ) أي ليس من بعث بعد الموت ولا من حياة ثانية غير هذه الحياة.
قوله :( إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا ) ( إن )، أداة نفي. أي ما هذا إلا رجل مفتر على الله فيما زعمه أو ادعاه من الاستنباء، وفيما يعدنا به من بعث وحياة بعد الممات ( وما نحن له بمؤمنين ) أي لا نصدقه فيما زعم وفيما جاءنا به.
قوله :﴿ قال رب انصرني بما كذبون ﴾ لما يئس هود أو صالح من إيمان قومه لفرط عنادهم وعتوهم واستكبارهم، دعا الله عليهم بالإهلاك والتدمير بسبب تكذيبهم.
فاستجاب الله دعاءه وهو قوله :﴿ قال عما قليل ليصبحن نادمين ﴾ ما : زائدة، أو لتأكيد معنى العلة١ ؛ أي عن زمان قليل ( ليصبحن نادمين ) إذا عاينوا العذاب النازل بهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٤..
قوله :( فأخذتهم الصيحة بالحق ) صاح عليهم الملك الهائل جبريل فدمرهم ( بالحق ) أي بالعدل من الله. فما يفعله الله أو يقدره، عدل. وما أنزله فيهم من كتدمير وإهلاك ليس إلا العدل ؛ لأنهم يستحقونه عقابا لهم.
قوله :( فجعلناهم غثاء ) الغثاء، معناه الزبد والبالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل١، فقد شبههم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسود من ورق الشجر وغيره من الزبد. وذلك لفرط ما حل بهم من فظاعة التدمير والاصطلام.
قوله :( فبعدا للقوم الظالمين ) ( بعدا )، مصدر لفعل محذوف تقديره : بعدوا ؛ بعدا أي هلكوا ( للقوم الظالمين ) بيان للهلكى الذين كفروا بربهم وكذبوا رسله وغالوا في المعاندة والاستكبار٢.
١ - القاموس المحيط ص ١٦٩٧..
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٥٥ والبحر المحيط جـ٦ ص ٣٧٥..
قوله تعالى :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ( ٤٢ ) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( ٤٣ ) ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( ٤٤ ) ﴾ يعني، من بعد إهلاك عاد أو ثمود أحدثنا أمما آخرين كقوم لوط وقوم شعيب وغيرهم من الأمم
﴿ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ﴾ ( من )، زائدة للاستغراق ؛ أي ما تسبق أمة من الأمم، الوقت المؤقت لهلاكها ولا تتأخر عنه ؛ بل لكل أمة في الهلاك أجل مؤقت معلوم لا تتجاوزه ولا تتقدمه.
قوله :( ثم أرسلنا رسلنا تترا ) ( تترا ). في موضع نصب على الحال، من الرسل ؛ أي أرسلنا رسلنا متواترين. وأصل الكلمة، وترى، من الموترة وهي التتابع بغير مهلة. أو من الوتر، وقد أبدل حرف الواو تاء، فصارت تترى بغير تنوين عند أكثر أهل اللغة وهي غير منصرفة للتأنيث. والمعنى : أرسلنا رسلنا، تتواتر ؛ أي يتبع بعضها بعضا. أو بعضها في إثر بعض. أو متواترين ؛ أي واحدا بعد واحد، من الوتر١.
قوله :( كل ما جاء أمة رسولها كذبوه ) كلما جاء أمة من الأمم التي أحدثناها بعد عاد أو ثمود رسولها لإرشادهم وهدايتهم للحق، بادروا تكذيبه وإيذاءه ( فاتبعنا بعضهم بعضا ) أي بالهلاك، فأهلكناهم بعضهم في إثر بعض ( وجعلناهم أحاديث ) أي جعلناهم أخبارا يتحدث بها الناس بعد أن أتى عليهم الهلاك والتدمير، فصاروا أثرا بعد عين. وقيل : جعلهم الله أحاديث يتحدث بها الناس على سبيل التلهي والتعجب.
قوله :( فبعدا لقوم لا يؤمنون ) أي هلاكا لقوم لا يصدقون بما جاءهم من عند الله. وذلك على وجه الدعاء والذم والتوبيخ٢.
١ - مختار الصحاح ص ٧٠٨ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ١٠١..
٢ - تفسير الرازي جـ ٢٣ ص ١٠٠، ١٠١، وتفسير الطبري جـ ١٧ ص ١٨..
قوله تعالى :﴿ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ( ٤٥ ) إلى فرعون وملإيه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ( ٤٦ ) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( ٤٧ ) فكذبوهما فكانوا من المهلكين ( ٤٨ ) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون ( ٤٩ ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( ٥٠ ) ﴾.
أرسل الله بعد الرسل السابقين المذكورين، موسى وهارون إلى فرعون وملئه وهم أشراف قومه من القبط- أرسلهما إليهم بآياته وهي الأدلة والبينات الواضحات على صدقه وصدق رسالته. وقال ابن عباس : هي الآيات التسع، وهي : العصا واليد والجراد والقمّل والضفادع والدم وانفلاق البحر والسنون والنقص من الثمرات والسلطان المبين، يعني البرهان الظاهر. وقيل : يراد به هنا العصا. فقد أفردها لأنها أول المعجزات وأعظمها.
فاستكبروا وأعرضوا عنادا وجحودا ( وكانوا قوما عالين ) أي علوا على رسول الله، معاندة واستكبارا عما جاءهم به من الحق، قاهرين لعباد الله ظلما.
قالوا :﴿ فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ﴾ الاستفهام للإنكار ؛ إذ قال فرعون وملؤها من سادة المجرمين الظالمين : كيف نصدق من هم مثلنا في البشرية وقد كان قومهما من بني إسرائيل خاضعين لنا مستذلين منقادين لأمرنا ؟.
قوله :﴿ فكذبوهما فكانوا من المهلكين ﴾ كذبوا موسى و هارون فيما جاءا به من عند الله، وأعرضوا عنهما جاحدين مستكبرين فأهلكهم الله بالغرق ؛ إذ غشيهم من فظاعة التغريق ما غشيهم.
قوله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون ﴾ الضمير في قوله ( لعلهم )، يعود إلى بني إسرائيل وليس إلى فرعون وملئه ؛ لأن هؤلاء قد هلكوا بالغرق، فقد أرسل الله موسى هاديا ومعلما إلى بني إسرائيل، وأنزل عليه التوراة لكي يعملوا بما فيها فيهتدوا ويرشدوا.
قوله :( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) أي جعلنا عيسى وأمه مريم برهانا ودليلا على قدرتنا البالغة، على الإنشاء والخلق من غير أصل كما خلقنا عيسى من غير أب. لقد كان في قصة عيسى عليه السلام وخلقه من غير أب آية بينة ساطعة على أن الله لهو الخالق البديع المقتدر، الذي لا يعز عليه صنع شيء.
قوله :( وآويناهما إلى ربوة ) أي صيرناهما إلى مكانا مرتفع من الأرض. وقيل : المراد به الرملة من فلسطين. وقيل : بيت المقدس، وقيل : دمشق١.
قوله :( ذات قرار ومعين ) القرار، المكان المستوي. والمعين، يعني الماء الظاهر.
١ - تفسير الطبري جـ ١٧ ص ٢٠، ٢١ وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٢٧ وتفسير البيضاوي ص ٤٥٦..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( ٥٢ ) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٥٣ ) فذرهم في غمرتهم حتى حين ( ٥٤ ) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾
خوطب كل نبي بهذه المقالة. فهذه هي طريقة النبيين التي ينبغي أن يكونوا عليها من أكل الطيبات، والمراد بها الحلال الذي طيبه الله وأن يجتهدوا ما استطاعوا لعمل الصالحات. فإن الله مطلع على أخبارهم وأفعالهم، رقيب على ما يعملون. وعلى المؤمنين أن يجتنبوا أكل الحرام ؛ فإن مرتعه وخيم ولا يصير بصاحبه إلا إلى جهنم ليكون زاده من النار.
فقد ثبت في صحيح مسلم والترمذي ومسند أحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال :( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، فأنى يستجاب لذلك ".
قوله :( وإن هذه أمتكم أمة واحدة ) إن، بالكسر على الابتداء والاستئناف وتقرأ أيضا بالفتح على أنها منصوبة بفعل مقدر وتقديره : واعلموا أن هذه أمتكم. و ( أمة واحدة )، منصوب على الحال ؛ أي هذه أمتكم مجتمعة. وتقرأ بالرفع على أنها بدل من ( أمتكم ) التي هي خبر إن. أو أنها خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : هي أمة واحدة١.
والمراد بالأمة هنا، الملة أو الدين. أي أنكم جميعا، ملتكم واحدة ودينكم واحد وهو التوحيد الخالص لله، ووجوب الإذعان لجلاله بالانقياد والامتثال ؛ فهو سبحانه وحده المعبود، ليس له شريك ولا نديد ولا نظير.
قوله :( وأنا ربكم فاتقون ) الفاء لترتيب الأمر بالتقوى على كون الله مختصا بالربوبية ؛ أي لا تفعلوا ما يقتضي عقابكم بمخالفتكم أمري ؛ بل خافوا عقابي والتزموا أحكامي وشرعي.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٦..
قوله :( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ) أي أن أمم الأنبياء قد افترقوا ؛ إذ جعلوا دينهم الواحد أديانا، وملتهم الواحدة مللا، بدلا من اجتماعهم مؤتلفين على الدين الحق الواحد، وملة التوحيد الخالص لله.
و ( زبرا ) يعني كتبا، جمع زبور وهو الكتاب ؛ فقد تفرقت الأمم كتبا كثيرة شتى أحدثوها واصطنعوها من عند أنفسهم. اصطنعها الأفاكون والخراصون من دجاجلة كل ملة زاغت عن التوحيد، وضلت طريق الله، فأضلوا الناس بضلالهم وانحرافهم ؛ إذ حسب كل فريق مضلل من تلك الأمم التائهة أنه مصيب وأنه متلبس دون غيره بالحق. والله يشهد، والراسخون في العلم والحكمة يشهدون أنهم مبطلون واهمون زائغون عن سواء السبيل. وذلك مما سوله لهم شياطين البشر من مبتدعي الضلالات واختلاف الكتب الزائفة، الحافلة بالكذب والافتراء على الله.
قوله :( كل حزب بما لديهم فرحون ) كل فريق من هذه الأمم الواهمة المضللة معجب برأيه أو بكتابه المزيف. كتابه الذي اصطنعه رجال أشقياء ممن حرفوا كلام الله عن مواضعه فصاغوا واصطنعوا من الضلالات والأباطيل ما جاءت به أهواؤهم الشريرة وقلوبهم الكزة العمياء التي تنضح بالاضطغان والكراهية للبشرية، وتفيض بالتعصب والانطوائية ومقت الآخرين. وذلك كله بفعل الأفاكين الخراصين الذين افتروا على الله الكذب بابتداع الكتب المكذوبة المزيفة التي تفسد العقول والقلوب والضمائر، وتثير فيها الغرور والكراهية والجنوح للشر والتخريب والتدسس في الظلام، كالذي فعلته طوائف من بني إسرئيل، بما اصطنعوه من زيف الكتب والديانة المحرفة ما ملأ قلوبهم وقلوب ذراريهم وأحفادهم بالاغترار البالغ والتعصب الظالم الأعمى والكراهية المقيتة للآخرين.
لكن دين الله الحق وهو الإسلام مبرأ من هاتيك العيوب والضلالات. بعيد كل البعد من مواطن التلاعب والتزييف والتحريف. فلم تمسه أصابع أفاك أثيم، ولا نالت منه أقلام المضللين والمشعوذين، أو ضلالات أولي الأهواء المبطلين. لا جرم أن الإسلام وحده حقيق بأن تلتزم البشرية عقيدته الفاضلة السمحة، وأن تتبع أحكامه وشرائعه القائمة على العدل والمساواة والرحمة والإخاء.
قوله :﴿ فذرهم في غمرتهم حتى حين ﴾ أي دع هؤلاء الجاحدين المضللين في ( غمرتهم ) والغمرة بمعنى الشدة، والانهماك في الباطل، والانغمار في الماء. أي دعهم في غفلتهم وحيرتهم وغيهم سادرين ( حتى حين ) وهو الموت أو العذاب. فما ينبغي أن يضيق صدرك من عصيانهم وإعراضهم عن دين الحق فإن العذاب آتيهم لا محالة. وفي ذلك من التوعد والتهديد للقوم الظالمين ما لا يخفى.
قوله :( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمعنى : أيحسب هؤلاء الضالون الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا مختلفة تائهة واهمة، أن الذي أمدهم الله به في عاجل هذه الدنيا من مال وبنين نبادر فيه تكريما لهم وإسراعا لهم في الخير. ليس كذلك ؛ بل كان ذلك استدراجا لهم وإملاء. ولهذا قال :( بل لا يشعرون ) أي لا يعلمون أن إمداد الله لهم بما أمدهم به من مال وبنين إنما كان استدراجا لهم وإمهالا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:قوله :( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمعنى : أيحسب هؤلاء الضالون الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا مختلفة تائهة واهمة، أن الذي أمدهم الله به في عاجل هذه الدنيا من مال وبنين نبادر فيه تكريما لهم وإسراعا لهم في الخير. ليس كذلك ؛ بل كان ذلك استدراجا لهم وإملاء. ولهذا قال :( بل لا يشعرون ) أي لا يعلمون أن إمداد الله لهم بما أمدهم به من مال وبنين إنما كان استدراجا لهم وإمهالا.

( بل لا يشعرون ) أي لا يعلمون أن إمداد الله لهم بما أمدهم به من مال وبنين إنما كان استدراجا لهم وإمهالا. إن إمداد الناس بالمال لا يدل على فضلهم عند ربهم أو أنهم مرضي عنهم من الله. فلا يصلح المال أو الولد أو الجاه أو السلطان، سببا لكرامة الإنسان عند الله أو أن ذلك مشعر بتقواه وصلاحه وحسن مصيره. وإنما الصلاح أو حسن المصير مرهون بالتقوى وعمل الصالحات. والله جل وعلا إنما يرزق المؤمنين وغير المؤمنين. فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه " قالوا : وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال : " غشمه١ وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ٢.
١ - الغشم- بضم الغين- معناه الظلم الشديد. انظر العجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٥٣..
٢ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٢٣، ٢٤ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٨٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٤٧..
قوله تعالى :﴿ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( ٥٧ ) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( ٥٨ ) والذين هم بربهم لا يشركون ( ٥٩ ) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ( ٦٠ ) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( ٦١ ) ﴾.
بعد ذكر الكافرين وإعراضهم عن دين الله ومجازاتهم بالهلاك والاستئصال، شرع في ذكر المؤمنين المتقين الذين يبادرون الطاعات وفعل الخيرات، مسارعين غير مبطئين فقال :( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) من الإشفاق وهو الخوف. وهذه صفة ظاهرة من صفات المؤمنين وخصائصهم، وهي أنهم على الدوام خائفون من عذاب الله. وخبر إن في قوله :( أولئك يسارعون في الخيرات ) ١.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٦.
قوله :﴿ والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ﴾ وهذه صفة ثانية للمؤمنين، وهي إيمانهم الكامل بآيات الله جميعا سواء في ذلك آياته من كتابه المنزل الحكيم أو آياته في الكون الدالة على وجوده وعظيم قدرته، وبالغ سلطانه وجبروته.
قوله :﴿ والذين هم بربهم لا يشركون ﴾ وهذه صفة ثالثة للمؤمنين. وهي إخلاصهم العبادة لله وحده ؛ فإن المؤمنين المخبتين الصادقين لا يشركون مع الله أيما إله أو معبود آخر يبتغون عنده العزة أو الحظوة أو السعد. المؤمن التقي الصادق بريء من كل صور الوثنية أو الإشراك. وإنما يتوجه بقلبه طائعا متواضعا متذللا لله وحده.
قوله :﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ﴾ وهذه صفة رابعة لهم، وهي أنهم يعطون ما يعطون، أو يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم خائفون أن لا يتقبل الله منهم ما عملوا ؛ فقد روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : يا رسول الله ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : " لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي من حديث مالك ابن مغول بنحوه وقال : " لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم ".
قوله :( أولئك يسارعون في الخيرات ) ( أولئك ) في موضع رفع مبتدأ، والجملة الفعلية من ( يسارعون ) في موضع رفع خبر المبتدأ. والمبتدأ وخبره، في موضع رفع خبر ( إن ) ١ واسم الإشارة ( أولئك ) عائد على أصحاب الصفات المذكورة ؛ فهم يبادرون في فعل الصالحات دون وناء، ويسعون جادين مبادرين لطاعة الله ونيل رضوانه.
قوله :( وهم لها سابقون ) أي يسبقون إلى فعل الطاعات والصالحات في أول وقتها، لا يتأخرون. وقال ابن عباس : سبقت لهم من الله السعادة ؛ فلذلك سارعوا في الخيرات٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٨٧..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٤٨ وتفسير الطبري جـ ١٧ ص ٢٦- ٢٨..
قوله تعالى :﴿ ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ( ٦٢ ) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ( ٦٣ ) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ( ٦٤ ) لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ( ٦٥ ) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ( ٦٦ ) مستكبرين به سامرا تهجرون ( ٦٧ ) ﴾ ذلك إخبار كريم عن عدل الله العظيم. العدل الرباني المطلق الذي لا يضاهيه في هذا الوجود عدل. ولا عجب فإن العدل صفة من صفات الله. وهي لا جرم تتسم بالكمال، لكمال ذاته سبحانه. ومن مقتضيات عدل الله المطلق أن لا يكلف العباد ما لا يطيقونه من أحكام. فأيما أمر أو تكليف يتجاوز الطاقة للإنسان فلا يحتمل ؛ فإنه مرفوع. وعلى هذا فإن هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من تكليف ما لا يطاق أو لا يحتمل. وذلكم العدل الرباني المميز. وهذه واحدة من خصائص الإسلام التي تجلي فيه الصلوح لكل زمان ومكان. وهو انتفاء الحرج من هذا الدين كله. لتكون أحكامه وتعاليمه ومثله كلها في حدود الميسور والمقدور مما يحتمله الإنسان ويطيق العمل به في غير مشقة ولا عسر ولا حرج.
وفي هذه الحقيقة من رفع الحرج والتكليف بما لا يطاق تنسحب على سائر الأحكام في هذا الدين الرحيب الميسور.
قوله :( ولدينا كتاب ينطق بالحق ) والمراد به كتاب أعمال العباد، ففيه جميع ما أسلفوا من الأقوال والأفعال، لا يغيب منها شيء. وذلك كله مسطور في كتاب يشهد عليه بالحق. وقيل : المراد اللوح المحفوظ ؛ فقد أثبت الله فيه كل شيء ( وهم لا يظلمون ) أي لا يزاد على سيئاتهم ما لم يعملوه ولا ينقص من حسناتهم مما عملوه. وإنما يجزون ما عملوا من خير أو شر.
قوله :( بل قلوبهم في غمرة من هذا ) الغمرة، ما غمر قلوبهم فغطاها حتى لا تدرك الحق ؛ أي هؤلاء المشركين الضالين في غفلة وضلالة وعماية عن فهم هذا القرآن وعما أودعه الله من عظيم المعاني وبليغ الدلالات والعبر.
قوله :( ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ) أي لهؤلاء المشركين الضالين من سيئات الأعمال والمعاصي، غير إشراكهم بالله وعمايتهم عن قرآن الله الحكيم. ( هم لها عاملون ) أي سيعملونها قبل موتهم لا محالة. فهم في علم الله من أهل الشقاء.
قوله :﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ﴾ ( مترفيهم ) من الترف وهي النعمة. و ( يجأرون ) من الجؤار وهو الصياح. جأر الثور يجأر جؤرا ؛ أي صاح. وجأر إلى الله، تضرع بالدعاء١. والمعنى : أنه إذا جاء هؤلاء المنعمين البطرين بأس الله وانتقامه منهم بسبب كفرهم وعصيانهم، إذا هم يصرخون ويستغيثون لفرط ما أصابهم من الجزع والذعر.
١ - مختار الصحاح ص ٩٠..
قوله :﴿ لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ﴾ أي اصطراخكم واستغاثتكم وضجيجكم غير نافعكم شيئا ولا هو بدافع عنكم شيئا من عذاب الله النازل بكم ؛ فإنه لن يجيركم أو ينفعكم اليوم أحد.
قوله :﴿ قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ﴾ يقول الله لهؤلاء المشركين، زيادة في التنكيل والتيئيس والتوبيخ : قد كانت تتلى عليكم آيات الكتاب الحكيم، وكنتم تُدعون لتصديقها والاتعاظ بها والاستفادة من معانيها ؛ فكنتم تكذبونها وتولون عنها مدبرين مستكبرين كراهية سماعها. وذلك تأويل قوله :( فكنتم على أعقابكم تنكصون ).
قوله :﴿ مستكبرين به سامرا تهجرون ﴾ ( مستكبرين ) و ( سامرا ) منصوبان على الحال١. و ( مستكبرين به ) أي مكذبين به. و ( سامرا ) اسم جنس، يعني سُمارا. من السمر والمسامرة وهي الحديث بالليل. والمسامر أو السُّمار، هم القوم يسمرون بالليل٢ ؛ فقد كانت قريش تسمر مجالس في كفرها وأباطيلها حول الكعبة. وهم يهجرون ؛ أي يخوضون في الباطل ويتكلمون بالفحش والمنكر والسيء من القول في القرآن وفي رسول الله ( ص ).
والضمير في قوله ( به ) فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : إن المراد به الحرام، أي مكة ؛ فقد ذم الله المشركين ؛ لأنهم كانوا يسمرون في الحرم بالهجر من الكلام الفاحش، والمنكر من القول.
القول الثاني : إن المراد به القرآن ؛ فقد كانوا يسمرون ويذكرون القرآن الكريم بالهجر من الكلام الباطل. فيقول : إنه سحر، إنه شعر، إنه كهانة... إلى غير هذه الافتراءات والأباطيل التي كان المشركون يأتفكونها ائتفاكا.
القول الثالث : إن المراد به رسول الله ( ص ) ؛ فقد كان المشركون يذكرونه في سمرهم بفاحش الكلام والسوء من القول، فيقولون : إنه شاعر، إنه كاهن، إنه ساحر. إنه مجنون، إنه كذاب.
والأظهر من هذه الأقوال، أولها. وهو قول الجمهور. وهو أن الضمير عائد على الحرم ؛ فقد كان المشركون يفتخرون بأنهم أولياء الحرم. وكانوا يقولون : نحن أهل حرم الله ونحن أولى الناس به فلا نخاف. وهم في الحقيقة ليسوا غير ظالمين مشركين سفهاء، لا يدينون دين الحق، ولا يذهبون غير مذهب الضلالة والباطل والسخف٣.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٧..
٢ - مختار الصحاح ص ٣١٢..
٣ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٢٨، ٢٩ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٤٩ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٣٦..
قوله تعالى :﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( ٦٨ ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ( ٦٩ ) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ( ٧٠ ) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ( ٧١ ) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ( ٧٢ ) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( ٧٣ ) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ( ٧٤ ) ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ( ٧٥ ) ﴾.
ينكر الله على المشركين ضلالهم وعدم تفهمهم الآيات البينات. آيات القرآن الحكيم وما فيه من العبر والدلائل. فقال :( أفلم يدبروا القول ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ ؛ يعني أفلم يتدبر هؤلاء المشركون كتاب الله ؛ فقد جاءهم من عند الله لهدايتهم وإخراجهم من ظلام الباطل إلى نور الحق واليقين، وهم في قرارة أنفسهم موقنون أنه الحق، وأنهم لا قبل لهم بمثله، وأنه يعلو على كل كلام ؛ فهو عجيب باهر معجز.
قوله :( أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) ( أم ) بمعنى بل والهمزة ؛ أي بل أجاءهم من الكلام ما لا عهد لآبائهم به فلذلك أنكروه واستبدعوه أي ظنوه من بدع الكلام. وذلك توبيخ لهم ثان.
قوله :﴿ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ﴾ وهذا توبيخ ثالث ؛ يعني بل ألم يعرفوا محمدا ( ص ) وما تجلى في صفاته وأخلاقه من صدق وأمانة وغير ذلك من كريم الخصال مما ليس له نظير. أفيقدرون على إنكار ذاك والمباهتة فيه. والعرب لا ينكرون حقيقة أخلاق رسولهم محمد ( ص ) مما عرفوه فيه من حميد الخلال حتى إنهم سموه الصادق الأمين. فما أعرضوا عن رسالته ولا أدبروا عن دينه إلا بغيا وحسدا من عند أنفسهم ورغبة في تقليد الآباء.
قوله :( أم يقولون به جنة ) وهذا توبيخ رابع. والمعنى : بل أيقولون به جنة ؛ فإنهم يعلمون أن محمدا ( ص ) أرجح الناس عقلا، وأسدّهم رأيا، وأعظمهم محتدا وخلقا. فليس من عاقل في العرب يصدق أن في رسول الله ( ص ) أثارة من جنون. وليت شعري هل أقلّت الغبراء رجلا أحكم وأقوم وأصدق وأحذق وأنبه من رسول الله ( ص ) ؟ ! إن صفاته الفذة العليا يشهد بها الظالمون المنصفون من كل الملل، سواء فيهم المسلمون وغير المسلمين. ولا ينكر ذلك إلا متعنت مكابر حسود أو حاقد جاحد كنود.
قوله :( بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ) ما جاء به رسول الله ( ص ) لهو الحق المبين وهو القرآن الحكيم. لكن أكثر المشركين الضالين يكرهون هذا الحق لفرط تلبسهم بالوثنية والباطل، ولما يركم في نفوسهم من كراهية وحسد وجنوح للهوى.
قوله :( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) المراد بالحق، الله جل جلاله ؛ أي لو عمل صاحب الحق وهو الله بما يهواه هؤلاء المشركون ؛ لأفضى ذلك إلى إفساد الكون كله وما فيه من أحياء ؛ فإن كل شيء مخلوق بقدر وجيء به على نظام موزون، واتساق محكم منسجم لا زيغ فيه ولا عوج، لكن هؤلاء الضالين المكذبين لا يهوون غير الضلالة ولا يبتغون غير الظلم والهوى، جريا وراء غرائزهم وشهواتهم وأهوائهم. وعلى هذا لو قام الحق على ما يريدون ويهوون ؛ لاضطرب نظام الحياة والأحياء، فأتى عليها الفساد والفوضى.
وقيل : المراد بالحق، الإسلام الذي جيء به من عند الله. فلو جاء الإسلام كما تبتغيه أهواء الضالين الظالمين من ضلال وشرك وظلم لانقلب هذا الدين شر الانقلاب، فصار وبالا على الناس بقيامه حينئذ على الوثنية والأهواء والضلالات وسوء التدبير.
قوله :( بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) المراد بذكرهم، القرآن ؛ فإن فيه شرفهم وعزهم، وفيه من الهداية وكمال النظام ما تستقيم به حياتهم، وحياة الناس جميعا، لكنهم أعرضوا عنه وكفروا به.
قوله :( أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير ) الخرج والخراج، بمعنى الإتاوة، أو ما يحصل من غلة الأرض١ ؛ والمراد به هنا الأجر على أداء الرسالة وتبليغهم إياها والسؤال على سبيل التوبيخ للمشركين. والمعنى : أم يزعمون أنك تسألهم أجرا على تبليغهم دعوة الله فأعرضوا عنك وأبو أن يؤمنوا بك ( فخراج ربك خير ) أي فرزق ربك من جزيل الثواب وحسن العاقبة على ابتغاء رضوانه خير لك مما
عند هؤلاء الضالين الجاهلين قوله :( وهو خير الرازقين ) الله جل وعلا خير من يعطي الرزق والأجر على العمل. فلا يقدر أحد أن يعطي مثل عطائه، أو يؤجر مثل أجره، أو ينعم كإنعامه.
١ - القاموس المحيط جـ ١ ص ١٩٠ والمصباح المنير جـ١ ص ١٧٨..
قوله :﴿ وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ﴾ الصراط في اللغة بمعنى الطريق١ والمراد به ههنا دين الإسلام. والمعنى : إنك يا محمد لتدعو الناس إلى دينه القويم. دين الإسلام المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمْت ولا ضلال.
١ - مختار الصحاح ص ٣٦١..
قوله :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ﴾ ناكبون، من النكب والنكوب ؛ أي العدل والميل. نكب عن الطريق نكوبا ؛ أي عدل ومال١.
أي أن المشركين الجاحدين زائغون عن محجة الحق وقصد السبيل، وذلكم هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله للبشرية ؛ إنهم ضالون مائلون عن سبيل الحق، سادرون في الباطل على اختلاف صوره ومسمياته.
١ - المصباح المنير ٢ ص ٢٩٥..
قوله :﴿ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ﴾ أي لو رحمنا هؤلاء المجرمين الذين بلوناهم بالعذاب فرفعنا عنهم ما أصابهم من عذاب الدنيا أو الآخرة ( للجوا في طغيانهم يعمهون ) لجوا، من اللجاج، واللجاجة والملاجّة ؛ أي التمادي في الخصومة.
والتلجلج معناه التردد في الكلام١، والمراد أنهم تمادوا في غيهم وضلالهم ؛ فهم يترددون ويخبطون ويتيهون في الكفر والباطل مثلما كانوا من قبل٢.
١ - مختار الصحاح ص ٥٩٢..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٤٩٤ والكشاف جـ٣ ص ٣٧ وتفسير الطبري جـ١٧ ص ٣٢، ٣٣..
قوله تعالى :﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ( ٧٦ ) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ( ٧٧ ) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( ٧٨ ) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( ٧٩ ) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ( ٨٠ ) بل قالوا مثل ما قال الأولون ( ٨١ ) قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون ( ٨٢ ) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( ٨٣ ) ﴾ لما أخذ الله قريشا بسني الجدب والقحط فأصابهم من الفقر والجوع ما أصابهم حتى أكلوا العلهز – يعني الوبر بالدم- عندئذ جاء أبو سفيان إلى النبي ( ص ) فقال : أنشدك الله والرحم، إنك تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، قال : " بلى "، فقالت : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو قوله سبحانه وتعالى :( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ١.
بلونا هؤلاء المشركين المعاندين ليعتبروا ويزدجروا وينتهوا عن طغيانهم وعتوهم. بلوناهم بالفقر والحاجة والجوع ( فما استكانوا لربهم ) أي فما خضعوا لربهم وما خشعوا ولا ذلوا لجنابه العظيم ( وما يتضرعون ) أي لم يتذللوا لله بالتوبة والاستغفار والدعاء ؛ بل ازدادوا عتوا وطغيانا ولجوا في ضلالهم وكفرهم.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢١١..
قوله :( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد ) يعني إذا جاءتهم الساعة بغتة وأتاهم من العذاب ما لم يحتسبوا ( إذا هم فيه مبلسون ) أي آيسون ؛ أبلس الرجل – يعني أيس من الخير- وإبليس، قيل : غير منصرف للعجمة والعلمية. وقيل : عربي مشتق من الإبلاس وهو اليأس١.
والمقصود : أن هؤلاء المشركين المعاندين قد أيسوا عند وقوع العذاب يوم القيامة من كل خير، ومن كل نصير أو مجبر، وانقطع فيهم الرجاء وتبددت فيهم الآمال وأيقنوا أنهم هالكون لا محالة.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٦٨..
قوله :( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ) ذكر الله نعمه الكثيرة على عباده ومنها نعمة السمع الذي يسمعون به، ونعمة الأبصار التي يرون بها، وكذلك الأفئدة وهي العقول التي يفهمون بها الحقائق والعلوم والآيات والدلالات المبثوثة في أرجاء الطبيعة والحياة بما يفضي إلى الاستدلال على عظمة الله، وأنه الخالق الموجد. لقد كانت هذه النعم من الله تقتضي منكم أن تشكروا الله وتديموا الثناء على جلاله العظيم. لكنكم ( قليلا ما تشكرون ) أي أنكم تشكرون الله أقل الشكر على ما منّ به عليكم من جزيل النعم، أو أنكم لا تشكرون الله البتة.
قوله :﴿ وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ﴾ أي خلقكم الله في هذه الأرض لتكونوا أجناسا وأقواما وشعوبا شتى. فأنتم مبثوثون في أرجاء الأرض، مختلفون في أجناسكم وألوانكم ولغاتكم. ثم يوم القيامة يجمعكم جميعا لتلاقوا الحساب والجزاء. إن ذلك خليق بوعظكم وتذكير بعظمة الله ؛ لتؤمنوا به وتثوبوا إلى جنابه مخبتين طائعين خاشعين.
قوله :( وهو الذي يحيي ويميت ) الله الذي أحيى الخلق بعد موتتهم الأولى. إذا كانوا ماء فأنشأهم أطوارا بدءا بالنطفة المستقذرة المهينة حتى الإنسان السميع العاقل البصير، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت مرة أخرى حيث الرفات والرميم.
قوله :( وله اختلاف الليل والنهار ) أي جعلها مختلفين متعاقبين يطلب كل منهما الآخر حثيثا، لا يفتران إلى يوم القيامة. وذلك مما من الله به على عباده فعرّفهم نعمه وعجائب خلقه.
قوله :( أفلا تعقلون ) أفلا تتدبرون كل هذه الآيات والدلائل لتوقنوا أن الله هو الحق، وأنه هو خالقكم ورازقكم وباعثكم يوم القيامة بعد الممات.
قوله :﴿ بل قالوا مثل ما قال الأولون ﴾ كان جوابهم مثل جواب الذين سبقوهم في الكفر من الأمم الغابرة.
إذ قالوا : أنى نُبعث من قبورنا مرة أخرى بعد أن صرنا ترابا ورفاتا وقد أتى علينا البِلى.
قوله :( لقد وعدنا نحن آباؤنا هذا من قبل ) أي لقد وعدنا مثل هذا الوعد يا محمد، وهو قيامنا من القبور للحساب، وكذلك وُعد آباؤنا من قبلنا. وعدهم قوم ذكروا أنهم مرسلون من قبلك، فلم نر لذلك حقيقة.
قوله :( إن هذا إلا أساطير الأولين ) أي ما هذا الذي تعدنا به من بعث عقب الموت إلا أخبار الأولين من أكاذيب وخرافات سطروها في كتبهم١. والأساطير، جمع أسطورة وإسطارة، وهي الأكاذيب٢.
١ - تفسير الطبري جـ ١٧ ص ٣٦ وفتح القدير جـ ٣ ص ٤٩٤..
٢ -- المصباح المنير جـ١ ص ٢٩٦..
قوله تعالى :﴿ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( ٨٤ ) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ( ٨٥ ) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( ٨٦ ) سيقولون لله قل أفلا تتقون ( ٨٧ ) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ( ٨٨ ) سيقولون لله قل فأنى تسحرون ( ٨٩ ) بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ( ٩٠ ) ﴾ يخبر الله عن ربوبيته ووحدانيته وعظيم ملكوته وتصرفه المطلق في الخلق، فيسأل هؤلاء المكذبين على لسان رسول ( ص ) :( لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ) من الذي يملك الأرض ومن فيها من كائنات ومخلوقات إن كنتم تعلمون الذي يملك ذلك ؟
( سيقولون لله ) يقرون معترفين دون مكابرة أن ذلك كله مملوك لله. وأن الله وحده له ملكوت كل شيء.
قوله :( قل أفلا تذكرون ) أفلا تتعظون وتتدبرون فتعلموا أن خالق ذلك كله ؟ ومن بيده ملكوت كل شيء ؛ لهو قادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم.
قوله :﴿ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ﴾ يسألهم الله على لسان رسول الله ( ص ) عن مالك السماوات السبع وكذا العرش العظيم، هذا الخلق الهائل المحيط الذي لا يدرك سعته وامتداده ومدى إحاطته غير الله الخالق.
فلسوف يجيبون بأن ذلك كله مملوك لله. وهو قوله سبحانه :( سيقولون لله ) فإن كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة وأن الله مالك كل شيء، أفلا يؤمنون بالله وحده فيدينوا له بالعبودية ويقروا له بكامل الربوبية ؛ ليذعنوا له وحده بالطاعة والامتثال وهو قوله عز من قائل :( أفلا تتقون ).
قوله :( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) الملكوت من صفات المبالغة، وهو الملك، أي أن الله جل وعلا مالك كل شيء، وهو سبحانه ( يجير ولا يجار عليه ) ( يجير ) ينقذ١ ؛ أجرت فلانا على فلان، إذا أعنته ومنعته منه. والمعنى : أن الله يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد من الله أحدا.
١ - مختار الصحاح ص ١١٧..
قوله :( فأنى تسحرون ) أي فكيف تخدعون ثم تصرفون عن الإيمان بآيات الله والإقرار بما جاءكم به رسول الله مما فيه خبر بعثكم يوم القيامة بعد مماتكم وأنتم مقرّون بأن الله هو الخالق، وأنه القادر والمالك.
قوله :﴿ بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ﴾ أي أتيناهم باليقين وهو دين التوحيد. دين الحق والعدل والرحمة. دين الإسلام، وأن الله وحده حقيق أن لا تعبدوا أحدا سواه، وأنهم هم الكاذبون فيما يصطنعونه من آلهة مزعومة، وملل مفتراة شتى١.
١ - تفسير الرازي جـ٢٣ ص ١١٧ وتفسير الطبري جـ١٧ ص ٣٨، ٣٩..
قوله تعالى :﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ( ٩١ ) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ( ٩٢ ) ﴾ ذلك تنزيه من الله لجلاله العظيم عن الولد أو الشريك ؛ فما من إله إلا الله. وهو وحده الخالق البادئ المعيد. وذلك هو قوله :( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) ليس من إله نديد لله شريك له في الملك والتصرف والعبادة.
قوله :( إذا لذهب كل إله بما خلق ) أي لو كان ثمة آلهة أخرى متعددة ؛ لانفرد كل واحد منهم بشطره في الملك، ولاختلف الآلهة فيما بينهم فاختلّ بذلك نظام الكون، وأتى عليه الخلل والاضطراب والفوضى. لكن الكون الهائل الشاسع المنبسط بعظيم اتساقه وكامل انتظامه الدقيق، إنما يدل أوضح دلالة على وحدانية الله، وأنه متفرّد بالإلهية والربوبية.
قوله :( ولعلا بعضهم على بعض ) أي غلب القوي الضعيف، وابتغى كل واحد منهم قهر الآخر ليطغى عليه ويسلبه ملكه. كديدن الملوك والرؤساء من بني آدم في الأرض. وذلك مما لا يعقل أو يتصور.
فإذا تبين ذلك، تجلى لنا اليقين بأن الله وحده لا شريك له. وأنه منزه عما يفتريه الظالمون والسفهاء من نسبة الولد أو الصاحبة أو الندية إلى الله. وهو قوله :( سبحان الله عما يصفون ).
قوله :﴿ عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ﴾ الله يعلم ما يغيب علمه عن الخلق. فما يعلم الخلق من حقائق هذا الكون إلا النزر القليل. وجل الأشياء والأخبار والعلوم قد خفي عنهم، فما يعلمه إلا الله وهو يعلم ما هو مستور أو ظاهر معلن. فتنزه الله عما يفتريه الظالمون على الله من كذب وباطل.
قوله تعالى :﴿ قل رب إما تريني ما يوعدون ( ٩٣ ) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( ٩٤ ) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ( ٩٥ ) ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ( ٩٦ ) وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ( ٩٧ ) وأعوذ بك رب أن يحضرون ( ٩٨ ) ﴾ يعلّمُ الله نبيه ( ص ) كيفية الدعاء والضراعة لتنجيته من البلاء عند حلول الفتن فقال :( قل رب إما تريني ما يوعدون ) ما الأولى، زائدة، وإن، شرطية. يعني : إن تريني في هؤلاء الظالمين الضالين ما تعدهم من العذاب
فلا تهلكني معهم ونجني من عذابك وانتقامك.
قوله :﴿ وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ﴾ أي أن الله قادر على أن يريك يا محمد تعذيب هؤلاء الظالمين لكنه يؤخره عنهم حتى يبلغ الكتاب أجله، وذلك لحكمة يعلمها هو.
قوله :( ادفع بالتي هي أحسن السيئة ) هذه قاعدة أخلاقية عظيمة من قواعد السلوك وكيفية التعامل في هذا الدين المتين. قاعدة تنسجم مع فطرة الإنسان السوي في جنوحه للرأفة والرقة والاستحياء. ذلك هو الإنسان السوي، يلين للكلمة الطيبة ويستجيب للأسلوب الودود الحاني. خلافا للغلظة وفظاظة الخطاب ؛ فإنها تثير فيه النفور والانثناء والكراهية.
والإسلام إنما يرسخ قواعده وتعاليمه ومثله التي تناسب الأسوياء من البشر أولي الفطر السليمة والطبائع المستقيمة خير مراعاة. وعلى هذا يأمر الله تعالى أن تدفع السيئة بالحسنة ؛ أي تدفع الإساءة بالعفو والصفح الجميل، لما في ذلك من تنشيط للاستجابة الكريمة ومراجعة النفس من المسيء نفسه فترقد فيه سورة الانفعال، ثم يبادر الندم والرجوع. وذلك هو شأن المسلمين فيما بينهم، يعفو احدهم عن أخيه ليدفع مساءته بالإحسان والعفو. أما ما كان من صفح عن إساءة الكافرين الظالمين المعتدين، فهو منسوخ بوجوب القتال.
قوله :( نحن أعلم بما يصفون ) الله أعلم. بما يفتريه الظالمون على الله من الأكاذيب وبما يقولونه في رسول الله ( ص ) من سوء القول وباطله. وفي ذلك مواساة لرسول الله ( ص ) كيلا يبتئس بما يسمعه منهم أو يقولونه فيه.
قوله :﴿ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ﴾ ( همزات الشياطين ) أي خطراته التي يُخطرها بقلب الإنسان١، والهمز معناه الغمز والدفع والضغط والنخس والضرب٢ والمراد بهمزات الشياطين : كيدهم بالوسوسة في صدور بني آدم ؛ إذ يسوّلون لهم فعل الشر وينفرونهم أو يخوفونهم من فعل الخير. فقد أمر الله نبيه ( ص ) والمؤمنين جميعا أن يتعوذوا من همزات الشيطان بما يهمسه أو يوسوس به في نفوسهم فيثير فيها سورات الغضب الذي لا يملك الإنسان فيه نفسه ؛ فقد كان رسول الله ( ص ) يقول : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه " وروى أبو داود أن رسول الله ( ص ) كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ".
١ - مختار الصحاح ص ٦٩٨..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٢٠٣..
قوله :﴿ وأعوذ بك ربك أن يحضرون ﴾ أي أعوذ بك ان يكونوا معي في أي أمر من أموري أو حال من أحوالي ؛ فإنه لا يحضر الشيطان حالا من أحوال ابن آدم إلا بادره الوسوسة وسوّل له النزوع للسوء وفعل الشر ؛ وفي هذا أخرج الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله ( ص ) يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم في الفزع : " بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ".
قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ( ٩٩ ) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ ذلك حال الكافر الذي أعرض عن دين الله وأبى إلا الجحود والعصيان حتى إذا دهمه الموت فعاين الحق والملائكة وأيقن أنه خاسر هالك، تمنى الرجوع إلى الدنيا ليصلح ما أفسده في حياته وهو قوله :( قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٩:قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ( ٩٩ ) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ ذلك حال الكافر الذي أعرض عن دين الله وأبى إلا الجحود والعصيان حتى إذا دهمه الموت فعاين الحق والملائكة وأيقن أنه خاسر هالك، تمنى الرجوع إلى الدنيا ليصلح ما أفسده في حياته وهو قوله :( قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ).

قوله :( قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) أي فيما ضيعت وفرطت في حق الله وطاعته. لكنه لا محالة خاسر وهو من الهالكين. وحينئذ لا تنفعه الندامة، ولا تغني عنه التوبة شيئا من عذاب الله. وهو قوله :( كلا إنها كلمة هو قائلها ) ( كلا ) حرف ردع وزجر ؛ أي لا يجاب له طلب بالرجوع إلى الدنيا. وليس ما يتمناه من الرجوع إلا كلاما غير ذي اعتبار يقوله اليائس عند موته ولا يجديه نفعا.
قوله :( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) البرزخ، معناه الحاجز بين الدنيا والآخرة، أو بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وقيل : البرزخ، حجاب يحول دون الرجوع إلى الحياة الدنيا ونحو ذلك من الأقوال المتقاربة.
وجملة ذلك يعني الاستيئاس من رجوع الظالم إلى الحياة بعد معاينة ملائكة الموت وعذاب القبر ؛ فهو على حاله هذه من مصارعة التنكيل والتعذيب في القبر إلى يوم القيامة١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٤٩٧ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٥٠ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ١١٩- ١٢١..
قوله تعالى :﴿ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( ١٠١ ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( ١٠٢ ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( ١٠٣ ) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( ١٠٤ ) ﴾ ذلك إخبار من الله عن جانب من أهوال يوم القيامة. وهو النفخ في الصور. فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ؛ بُعث الناس من قبورهم أحياء ليلاقوا الحساب، وحينئذ تغشى الناس غاشية من الذعر والقلق واضطراب القلوب، فلا تنفعهم الندامة والحسرات، ولا تجديهم الخلة والصحبة والقرابات. ومثل هذه المعاني من الابتئاس والرعب واشتداد البلايا والإياس في الموقف العصيب، تُحدثنا الآيات الكريمة بأسلوبها القرآني المميز، وكلماتها الربانية المصطفاة ذات الإيقاع النفاذ والتأثير الذي يلج في أعماق المشاعر والقلوب. وهو قوله سبحانه وتعالى :( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ).
إذا نفخت النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور من القبور، فإنه لا قيمة ولا وزن يومئذ للأنساب. وإنما الأنساب كانت موضع اعتبار وفخار بين الناس في الدنيا حيث النسب والصهرية وغيرهما من العلائق الدنيوية. لكن ذلك في الآخرة غير ذي اعتبار أو أهمية ؛ إذ لا يذكر الناس الأنساب ولا يتفاخرون بها. وذلك لفرط ما يصيبهم من الحيرة والدهشة والترويع ( ولا يتساءلون ) أي لا يسأل بعضهم بعضا. فكل واحد من الناس يوم القيامة مشغول بهمه الشاغل. ولا يعنيه غير النجاة مما يحيط به من الويلات والكروب.
قوله :﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ﴾ الموازين، الحسنات ؛ أي توزن أعمال الإنسان يوم القيامة وهو يناقش الحساب، فإن كانت طاعاته وأعماله الصالحة أثقل من سيئاته فقد نجا من العذاب وكان من الفائزين بحسن الجزاء
( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ) أي الذين طغت معاصيهم وسيئاتهم فكانت أكبر مما عملوه من الصالحات والطاعات ؛ فأولئك قد ضيعوا أنفسهم بإيرادها الهلاك والخسران ( في جهنم خالدون ) بدل من صلة الموصول وهي ( الذين خسروا أنفسهم ) فإنهم ماكثون دائمون في جهنم لا يظعنون ولا يتحولون.
قوله :( تلفح وجوههم النار ) أي تحرقها بلظاها الحرور ( وهم فيها كالحون ) ( كالحون ) من الكلوح، وهو التكشر في عبوس١ ؛ أي تغشى وجوههم وجلودهم النار فتشويها شويا، وتبدلها شر تبديل٢.
١ - مختار الصحاح ص ٥٧٦..
٢ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ١٥٢ وتفسير الرازي جـ ٢٣ ص ١٢٢..
قوله تعالى :﴿ ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ( ١٠٥ ) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ( ١٠٦ ) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ( ١٠٧ ) قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ( ١٠٨ ) ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. والمعنى : ألم أرسل إليكم رسولي يتلو عليكم آيات القرآن فكذبتم وأعرضتم وكنتم من الظالمين.
( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا ) الشقوة، من الشقاء وهو ضد السعادة١ والمراد به هنا : سوء المصير الذي يؤول إليه الخاسرون الظالمون. والمعنى : قامت علينا الحجة. بما ظهر لنا في الدنيا من الدلائل الواضحة لكن غلب علينا ما سبق لنا في علمك القديم، وما كتب علينا في أم الكتاب من سوء المآل. وقيل : المراد بالشقوة اللذات والأهواء. فقد غلبت هذه علينا فأودت بنا إلى التعس وسوء المصير.
قوله :( وكنا قوما ضالين ) كنا من التائهين السادرين في الضلالة والغي. وذلك إقرارهم بضلالهم عن الهدى.
١ - مختار الصحاح ص ٣٤٤..
قوله :( ربنا أخرجنا منها ) يسألون ربهم وهم يتقاحمون في النار، أن يخرجهم منها ؛ ليعودوا إلى طاعته وعبادته وحده لا يشركون به شيئا.
قوله :( فإن عدنا فإنا ظالمون ) أي إن عدنا إلى الضلال والمعصية فقد ظلمنا أنفسنا باستحقاقنا العذاب.
قوله :﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ خسأ وانخسأ، أي خضع. خسأ الكلب. أي طرده١ ( اخسئوا فيها ) أي انزجروا وامكثوا في الذل والمهانة ( ولا تكلمون ) لا تكلمون في رفع العذاب عنكم ؛ فإنه لا يرفع ولا يخفف عنكم. وذلك زيادة في التعنيف والتنكيل.
١ - مختار الصحاح ص ١٧٥..
قوله تعالى :﴿ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ( ١٠٩ ) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ( ١١٠ ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( ١١١ ) ﴾ يذكر الله المجرمين بما فعلوه من الذنوب والمعاصي في الدنيا، ومن جملة جرائمهم ومعاصيهم في حياتهم الدنيا استهزاؤهم بالمؤمنين المستضعفين كبلال وعمار وخباب وصهيب، وغيرهم من ضعفة المسلمين الذين آمنوا بربهم فكانوا من المخبتين المتضرعين لله بطلب المغفرة والرحمة.
قوله :( فاتخذتموهم سخريا ) بكسر السين. وقرئ بضمها وهما لغتان بمعنى واحد. من سخر يسخر من الهزء واللعب١. أي سخرتم منهم واستهزأتم بهم لكونهم مؤمنين لا يعبدون غير الله من الأنداد والشركاء ( حتى أنسوكم ذكري ) أي شغلكم الاستسخار بهم وبعبادتهم عن ذكركم لي ( وكنتم منهم تضحكون ) وهذا هو ديدن المجرمين من كل أمة، يضحكون من الفئة المؤمنة الثابتة على الحق، وعلى صراط الله المستقيم ؛ فلا يزيغون ولا يتحولون – يضحكون منهم استهزاء وسخرية. إنه ديدن التاعسين التافهين من الظالمين في كل زمان ؛ فإنهم يتجلجلون في الضلالة والجهالة والرجس، وهم يحسبون أنهم على شيء، وهم في الحقيقة واهمون مخدوعون مضللون ؛ إذ سوّلت لهم الشياطين من الجن والإنس أن يسخروا من المؤمنين المستضعفين ويضحكوا منهم على سبيل التهكم والاستخفاف. والله يشهد والراسخون في إدراك الحقيقة يعلمون أن هؤلاء المستسخرين جهلة، وأنهم منحدرون في دركات العماية والسفاهة وصفاقة الأذهان والضمائر.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٨٩..
قوله :﴿ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ﴾ ما، مصدرية، و ( أنهم ) في موضع نصب بقوله :( جزيتهم ) لأنه مفعول ثان. و ( هم ) ضمير فصل١ والمعنى : جزيت هؤلاء المستضعفين اليوم خير الجزاء وهي الجنة وما فيها من سعادة وهناءة ونعيم. وذلك بسبب صبرهم على طاعتي وعلى أذاكم واستهزائكم بهم وسخريتكم منهم في الدنيا٢.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - تفسير الرازي جـ ٢٣ ص ١٢٦ وما بعدها، وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٥٨..
قوله تعالى :﴿ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ( ١١٢ ) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ( ١١٣ ) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ( ١١٤ ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( ١١٦ ) ﴾ ( كم ) في موضع نصب للفعل. ( لبثتم ) وعدد منصوب على التمييز. و ( سنين ) جمع سنة. وأصل سنة سنهة أو سنوة. حذفت الواو وجمعت جمع سالم، وأدخل فيها ضرب من التكسير فصارت سنين١. في عرصات القيامة يسأل الله الذين ظلموا أنفسهم فكانوا من الخاسرين ( كم لبثتم في الأرض ) أي موتى في قبوركم من السنين. أو كم كانت مدة إقامتكم في الدنيا
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٨٩..
( قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ) لقد أذهلتهم الساعة بأهوالها وأخبارها ودواهيها فظنوا أنهم لم يمكثوا في قبورهم أو في حياتهم الدنيا غير يوم أو بعض يوم. أو أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور. فقد رأوا ذلك نزرا يسيرا بالنسبة لما هو فيه من البلاء وفرط الخوف والشدة.
قوله :( فاسأل العادين ) أي اسأل الحاسبين الذين يعدون ما لبثناه من زمان ؛ فقد نسينا كم مكثنا. أو اسأل الملائكة ؛ فقد كانوا يعدون ذلك.
فأجابهم الله ( إن لبثتم إلا قليلا ) أي لم تلبثوا في الأرض إلا زمنا يسيرا.
فإن ما يمكثه الناس في الدنيا وما يلبثونه في قبورهم موتى لا يعدل شيئا أمام ما يجدونه من فظاعة التعذيب الماكث الدائم يوم القيامة ( لو أنكم كنتم تعلمون ) أي لو كنتم تعلمون هذه الحقائق عن أهوال القيامة وهوان مكثكم في الدنيا، وطول بقائكم في العذاب يوم القيامة.
قوله :( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) يخاطب الله هؤلاء الأشقياء التاعسين، الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة معنفا موبخا : هل حسبتم أنما خلقناكم للعب أو اللهو. أو لنجعلكم هملا كالبهائم خُلقت لغير حساب أو جزاء. لم نخلقكم لغير فائدة، بل خلقناكم لنكلفكم ولتناط بكم المسؤوليات والأوامر والواجبات ثم تناقشون الحساب على أعمالكم يوم القيامة.
ذلك هو الإنسان ما جيء به إلى هذه الدنيا للهو والعبث، أو ليكون لُقى١ مهملا بغير حساب وإنما خلقه الله لعبادته، ولينيط به من المسؤوليات على اختلافها وتعددها ما يناسب فطرته وقدرته على احتمال التكليف. وأساس ذلك قوله سبحانه وتعالى :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ثم يرد يوم القيامة إلى ربه فهو محاسبه ومجازيه على ما فعله من صالح وطالح.
١ - اللّقى: بفتح اللام، وبوزن العصا. وهو الشيء الملقى المطروح لهوانه. انظر مختار الصحاح ص ٦٠٣ والمصباح المنير جـ٢ ص ٢٢١..
قوله :( فتعالى الله الملك الحق ) تقدس الله وتعظم أن يخلق شيئا عبثا وسدىً ؛ فإنه الإله الملك الحق المنزه عن العبث والباطل. أو تنزه وتعالى عما يصفه به المشركون بأن له شركاء وأندادا ( لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) ما من إله سوى الله وحده. وما من معبود تنبغي له العبادة والطاعة والامتثال غيره سبحانه. فهو الإله الواحد، مالك الخلق الهائل، وهو العرش، ووصف العرش بالكريم ؛ لاستواء الله عليه. أو لما يتنزل منه من خير ورحمة١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٥٥١ وتفسير الطبري جـ ١٧ ص ٤٩، ٥٠ وتفسير القرطبي جـ ١٢ ص ١٥٦..
قوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( ١١٧ ) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ( ١١٨ ) ﴾ ذلك وعيد من الله لمن يعبد معه إلها آخر ( لا برهان له به ) جملة معترضة ؛ أي ليس له في ذلك دليل ولا حجة إلا ركوب الهوى، وتقليد الآباء والأجداد في سفاهتهم وجهالتهم ( فإنما حسابه عند ربه ) جواب الشرط ؛ أي يحاسبه الله على كفره ويجازيه من أليم الجزاء ما هو كفاء.
قوله :( إنه لا يفلح الكافرون ) الهاء ضمير الشأن أي أن المشركين الذين اتخذوا أندادا من دون الله، والذين جحدوا رسالة ربهم فإن مصيرهم إلى التعس وخسران الدار الآخرة.
قوله :﴿ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ﴾ ذلك ترشيد من الله لنبيه والمؤمنين أن يدعوه بهذا الدعاء الكريم. وهو أن يغفر لهم الذنوب وذلك بسترها عليهم وبعفوه لهم عنها. وأن يرحمهم برحمته فيكتب لهم التوفيق والسداد والسلامة والغفران. فإنه سبحانه خير من يرحم العباد ويرأف بهم ويتجاوز عن ضعفهم وسيئاتهم١.
١ - تفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢٦٠ وتفسير الطبري جـ ١٧ ص ٥٠..
Icon