تفسير سورة الزخرف

فتح البيان
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية
قال القرطبي : هي مكية بالإجماع وبه قال ابن عباس. قال مقاتل إلا قوله
﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ﴾ يعني فإنها نزلت بالمدينة.

(حم) الكلام ههنا كالكلام الذي قدمناه والله أعلم بمراده به
(والكتاب المبين) أقسم بالقرآن الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة من الشريعة، وقيل المبين الواضح للمتدبرين وهو من الإيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه ولعل أقسام الله بالأشياء استشهاده بما فيها من الدلالة على المقسم عليه، وجواب القسم.
(إنا جعلناه قرآناً عربياً)، وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من واد واحد إن أريد بالكتاب القرآن وإن أريد به جنس الكتب المنزلة لم يكن من ذلك والضمير في جعلناه على الأول، يعود على الكتاب، وعلى الثاني يعود على القرآن وإن لم يصرح بذكره، والجعل هنا تصيير ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تجويزه أن يكون بمعنى خلقناه قاله السمين.
والمعنى سميناه وصيرناه ووصفناه ولذلك تعدى إلى مفعولين، وقال السدي: أي أنزلناه قرآناً، وقال مجاهد قلناه وقال سفيان الثوري: بيناه، وكذا قال الزجاج أي أنزل بلسان العرب لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، وقال مقاتل لأن لسان أهل الجنة عربي.
327
(لعلكم تعقلون) أي لكي تفهموه وتتعقلوا معانيه وتحيطوا بما فيه، قال ابن زيد لعلكم تتفكرون
328
(وإنه) أي وإن القرآن (في أم الكتاب لدينا) أي عندنا (لعلي حكيم) أخبر عن منزلته وشرفه وفضله أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع القدر محكم النظم في أعلى طبقات البلاغة، ودرجات الفصاحة، لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم أو مستأنفة مقررة لما قبلها، قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، كما قال (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ).
قال ابن جريج: المراد بقوله وإنه الخ أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، عن ابن عباس قال: " إن أول ما خلق الله من شيء القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة عنده " (١)، ثم قرأ هذه الآية وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعاً.
_________
(١) سبق ذكره.
(أفنضرب عنكم الذكر صفحاً) يقال: ضربت عنه وأضربت عنه إذا تركته وأمسكت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وغيرهما، وانتصاب صفحاً على المصدرية أو على الحال أي صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك، والمراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام للإنكار والتوبيخ قال الكسائي:
المعنى أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم؟ وقال قتادة المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم، وروي عنه إنه قال: المعنى أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل، أنكم لا تؤمنون به، وقيل: الذكر التذكير كأنه قال أنترك تذكيركم.
(أن كنتم قوماً مسرفين) قرىء إن بالكسر على أنها الشرطية والجزاء
328
محذوف لدلالة ما قبله عليه وبفتحها على التعليل، أي لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرين عليه مفرطين في الجهالة مجاوزين الحد في الضلالة، قال ابن عباس في الآية أحببتم أن نصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به، ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:
329
(وكم أرسلنا من نبي في الأولين) كم هي الخبرية التي معناها التكثير والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة.
(وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) كاستهزاء قومك بك
(فأهلكنا) قوماً (أشد منهم) أي من هؤلاء القوم (بطشاً) أي قوة تمييز أو حال، أو باطشين والأول أحسن، والبطش شدة الأخذ (ومضى مثل الأولين) أي سلف في القرآن في غير موضع منه، ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل لشهرتها، وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل: صفتهم في الإهلاك والمثل الوصف والخبر، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتهديد شديد لهم لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم.
(ولئن) لام قسم (سألتهم) أي هؤلاء الكفار من قومك (من خلق السموات والأرض) أي هذه الأجرام العلوية والسفلية (ليقولن خلقهن العزيز العليم) جواب القسم لا جواب الشرط، وهذا على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم، من حذف جواب المتأخر منهما وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين، وكرر الفعل للتوكيد إذ لو جاء (العزيز) بغير (خلقهن) لكان كافياً، والمعنى أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا ذلك وهذا أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات، وهي الأصنام فجعلوها شركاء لله، ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده، وكمال قدرته في مخلوقاته فقال:
329
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
330
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) أي فراشاً كالمهد للصبي، ولو شاء لجعلها مزلة لا يثبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، ولو شاء لجعلها متحركة فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها مسطحة قارة ساكنة وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور مهاداً وقرأ الكوفيون مهداً وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مهاداً.
(وجعل لكم فيها سبلاً) أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون ولو شاء لجعلها بحيث لا يسلك في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك وقيل معايش تعيشون بها (لعلكم تهتدون) بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم في أسفاركم.
(والذي نزل من السماء ماء بقدر) أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة (١) بالغرق ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى.
(فأنشرنا به بلدة ميتاً) أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات
_________
(١) سقط من الأصل: ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرعكم ويهدم منازلكم ويهلككم...
330
وفيه التفات قرأ الجمهور ميتاً بالتخفيف وقرىء بالتشديد (كذلك) أي مثل ذلك الإِحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها (تخرجون) أي تبعثون من قبوركم أحياء فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف، قرأ الجمهور: تخرجون مبنياً للمفعول وقرىء مبنياً للفاعل.
331
(والذي خلق الأزواج كلها) أي الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود، قال سعيد بن جبير الأصناف كلها وقال الحسن الأزواج الشتاء والصيف، والليل والنهار، والسموات والأرض والجنة والنار. وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل أزواج النبات كقوله:
(وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) و (من كل زوج كريم) وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر، ونفع وضر وفقر وغنى، وصحة وسقم وهذا القول يعم الأقوال ويجمعها بعمومه، وقيل: الأول أولى، قال بعض المحققين: كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت، والربيع والخريف، واليمين واليسار، والقدام والخلف، والماضي والمستقبل والذوات والصفات، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود، محدثة مسبوقة بالعدم، فأما الحق تعالى فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد.
(وجعل لكم من الفلك) السفن (والأنعام ما تركبون) أي ما تركبونه في البحر والبر وأريد بالأنعام هنا ما يركب من الحيوان، وهو الإبل والخيل والبغال والحمير، وقرينة هذا قوله في سورة النحل (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) فحينئذ في الأنعام هنا تغليب إذ الأنعام هي الإبل والبقر والغنم وقال
331
الشوكاني: المراد بالأنعام ههنا الإبل خاصة، وقيل: الإبل والبقر والأول أولى انتهى.
332
(لتستووا) اللام لام العلة، وهو الظاهر، أو للصيرورة وجوز ابن عطية أن تكون لام الأمر، وفيه بعد لقلة دخولها على أمر المخاطب (على ظهوره) الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد، وقال الفراء أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس، والاستواء الاستعلاء أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام.
(ثم تذكروا نعمة ربكم) أي التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر (إذا استويتم عليه) أي على ما تركبون ففيه مراعاة لفظ (ما) أيضاً قال مقاتل والكلبي هو أن تقول الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه:
(وتقولوا) أي بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان: (سبحان الذي سخر لنا هذا) وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سبحان من سخر لنا هذا، وقال قتادة قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم والمعنى ذلل لنا هذا المركب الذي ركبناه سفينة كان أو دابة قاله الخطيب وصرح غيره بأنه خاص بالدابة، وأما السفينة فيقول فيها (بسم الله مجريها ومرساها) ويؤيده:
(وما كنا له مقرنين) فإن الامتناع والتعاصي والتوحش لولا تسخير الله وإذلاله إنما يتأتى في الدواب. وأما السفن فهي من عمل ابن آدم فليس لها امتناع بقوتها كامتناع الدابة. قال ابن عباس والكلبي: مقرنين مطيقين يقال أقرن هذا البعير إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين ضابطين، يقال فلان مقرن لفلان أي ضابط له، وقيل مماثلين له في القوة من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة.
332
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠)
333
(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إليه وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة، وفيه إشارة إلى الرد عليهم في إنكار البعث أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، " كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثاً، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ".
روي أن قوماً ركبوا، وقالوا سبحان الذي سخر لنا هذا الخ وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالاً فقال: إني مقرن لهذه فسقط لوثبتها واندقت عنقه، وينبغي أن لا يكون ركوب العاقل للتنزه والتلذذ، بل للاعتبار، ويتأمل عنده أنه هالك لا محالة ومنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه.
قال القرطبي علمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح عن ظهرها فهلك، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق فلما كان الركوب مباشرة أمر مخوف واتصالاً بسبب من أسباب التلف أمر أن لا ينسى عند اتصاله به موته ولا يدع ذكر ذلك بقلبه
333
ولسانه، حتى يكون مستعداً لقضاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله، وهو غافل عنه. وقال ابن العربي: ليس بواجب ذكره باللسان بل يستحب وإنما الواجب اعتقاده بالقلب والأول أولى والجمع أفضل.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال:
334
(وجعلوا له) أي بعد ذلك الاعتراف كما قاله القاضي أو معه كذا في الكشاف، والجملة حالية والجعل تصيير قولي أي حكموا وأثبتوا له أو بمعنى سموا واعتقدوا (مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا) أي ولداً وسماه جزءاً دلالة على استحالته على الواحد في ذاته، لأن المركب لا يكون واحد الذات، قال قتادة جزءاً أي عدلاً يعني ما عبد من دون الله، وقال الزجاج والمبرد الجزء هنا البنات، والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات.
وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير، وصرح بأنه مكذوب على العرب ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله
(أم اتخذ مما يخلق بنات) وقوله
(وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) وقوله (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) وقيل: المراد بالجزء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولاداً لله سبحانه قاله مجاهد والحسن قال الأزهري، ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيباً على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من الولدان.
(إن الإنسان) القائل ما تقدم (لكفور مبين) أي ظاهر الكفران مبالغ فيه قيل المراد بالإنسان هنا الكافر فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحوداً بيناً ثم أنكر عليهم هذا فقال: (أم اتخذ مما يخلق بنات) هذا استفهام تقريع وتوبيخ وأم هي المنقطعة بمعنى همزة الإِنكار وقدرها بعضهم ببل التي للانتقال وبعضهم بهما وكل صحيح لأن فيها مذاهب ثلاثة كما نقله أبو حيان والمعنى أتقولون اتخذ ربكم لنفسه البنات.
334
(وأصفاكم) أخلصكم وخصكم (بالبنين) فجعل لنفسه المفضول من الصنفين، ولكم الفاضل منهما يقال أصفيته بكذا أي آثرته به وأصفيته الود أخلصته له، ومثل هذه الآية قوله (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) وهذه الجملة معطوفة على اتخذ داخلة معها تحت الإنكار، ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال:
(وإذا بشر أحدهم) استئناف أو حال (بما ضرب للرحمن مثلاً) أي بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات، والالتفات إلى الغيبة للإِيذان بأن قبائحهم اقتضت أن يعرض عنهم، وتحكى لغيرهم ليتعجب منها والمثل بمعنى الشبه أي المشابه لا بمعنى الصفة الغريبة العجيبة، والمعنى إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر عليه أثره، وهو معنى قوله:
(ظل) أي صار (وجهه مسوداً) بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكراً مكانها (وهو كظيم) أي والحال إنه شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه قال قتادة: حزين وقال عكرمة: مكروب، وقيل ساكت ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال:
335
(أو من ينشأ في الحلية) النشوء التربية والحلية الزينة و (من) عبارة عن الأنثى أي يجعلون لله الأنثى التي تتربى في الزينة لنقصها إذ لو كملت في نفسها لما تكملت بالزينة قرأ الجمهور ينشأ بفتح الياء وإسكان النون وقرأ ابن عباس والضحاك وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين، واختار القراءة الأولى أبو حاتم واختار الثانية أبو عبيدة، وقال الهروي: الفعل على القراءة الأولى لازم، وعلى الثانية متعد، والمعنى يربى ويكبر في الحلية.
(وهو في الخصام غير مبين) أي عاجز عن أن يقوم بأمر نفسه وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته وتقرير دعواه، ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله، وضعف رأيه، وإضافة (غير) يمنع عمل ما بعدها في الجار المتقدم عليها. لأنها بمعنى النفي قال المبرد: تقدير الآية ويجعلون له من
335
ينبت في الزينة، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان.
وفيه أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويتزين بلباس التقوى. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، وقال ابن زيد والضحاك: الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة، قال ابن عباس في الآية هو النساء فرق بين زيهن وزي الرجال ونقصهن من الميراث ومن الشهادة، وأمرهن بالقعدة وسماهن الخوالف.
336
(وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول: جعلت زيداً أفضل الناس أي قلت بذلك وحكمت له به أي سموهم وحكموا، وقالوا: إنهم إناث وجمعوا في كفرهم ثلاث كفرات وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ونسبوا إليه أخس النوعين وجعلوا ملائكته المكرمين إناثاً فاستخفوا بهم قرأ الجمهور: عباد بالجمع، وبها قرأ ابن عباس وقرأ الباقون عند بنون ساكنة، واختار الأولى أبو عبيد لأن الإسناد فيها على، ولأن الله إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله فأخبرهم بأنهم عباده.
قال النسفي: وهو ألزم في الحجاج مع أهل العناد لتضاد بين العبودية والولادة انتهى، ويؤيد هذه القراءة قوله (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) واختار أبو حاتم الثانية قال: وتصديق هذه القراءة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) عن سعيد بن جبير قال كنت أقرأ هذا الحرف الذين هم عند الرحمن إناثاً فسألت ابن عباس فقال عباد الرحمن، قلت فإنها في مصحفي قال فامحها واكتبها عباد الرحمن ثم وبخهم وقرعهم فقال:
(أشهدوا خلقهم) أي أحضروا خلق الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور وفي هذا تهكم بهم، وتجهيل لهم، قرأ الجمهور: (ستكتب شهادتهم) بضم الفوقية وبناء الفعل للمفعول ورفع شهادتهم، وقرىء بالنون
336
وبناء الفعل للفاعل، ونصب شهادتهم، وقرىء شهاداتهم بالجمع، والمعنى سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك، قال البقاعي يجوز أن يكون في السين استعطاف إلى التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به (ويسألون) عنها يوم القيامة في الآخرة، وهذا وعيد. قال سليمان الجمل وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم انتهى.
337
(وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاؤوا به للاستهزاء والسخرية، ومعناه لو شاء الرحمن في زعمكم عدم عبادة الملائكة ما عبدنا هذه الملائكة، فاستدلوا بنفي مشيئته عدم العبادة على امتناع النهي عنها، أو على حسنها، وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأموراً كان أو منهياً، حسناً كان أو غيره، وبالجملة هذا كلام حق يراد به باطل، وقد مضى بيانه في الأنعام، وتعلقت المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن الله لم يشأ الكفر من الكافر، وإنما شاء الإيمان، فإن الكفار ادعوا أن الله شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام فرد الله عليهم قولهم واعتقادهم، وبين جهلهم بقوله:
(ما لهم بذلك) أي بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم (من علم) بل تكلموا بذلك جهلاً، وأرادوا بما صورته صورة الحق باطلاً، وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي. وقيل: الإشارة بذلك إلى قوله (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) قاله قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد وابن جريج أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم ثم بين انتفاء علمهم بقوله:
(إن هم إلا يخرصون) أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتمحلون تمحلاً باطلاً، قال هنا (يخرصون) وفي الجاثية (يظنون)، هذا كذب فناسبه الخرص وما هناك صدق مخلوط بالكذب فناسبه الظن.
337
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
338
(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ) أم هي المنقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري أي أأعطيناهم كتاباً من قبل القرآن، بما ادعوه بأن يعبدوا غير الله وقيل إن الضمير في (من قبله) يعود إلى ادعائهم، أي أم آتيناهم كتاباً من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه؟ والأول أولى أو أم معادلة لقوله أشهدوا فتكون متصلة، والمعنى أحضروا أم آتيناهم كتاب الخ والأول أرجح وأولى، كما أفاده الشهاب (فهم به مستمسكون) يأخذون بما فيه ويحتجون به ويجعلونه لهم دليلاً.
ثم بين سبحانه أنه لا حجة بأيديهم ولا شبهة ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال:
(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي على طريقة ومذهب، قال أبو عبيدة هي الطريقة والدين، وبه قال ابن عباس وقتادة وغيره قال الجوهري والأمة الطريقة والدين يقال فلان لا أمة له ولا نحلة أي لا دين له وقال الفراء وقطرب على قبلة. وقال الأخفش على استقامة قرأ الجمهور أمة بالضم، وقرىء بكسرها قال الجوهري والإمة بالكسر النعمة والإمة أيضاًً لغة في الأمة.
(وإنا) ماشون (على آثارهم مهتدون) بهم وكانوا يعبدون غير الله اعترفوا بأنه لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع والبيان سوى تقليد آبائهم قال الخازن جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع
338
آبائهم وتقليدهم من غير حجة انتهى؛ وعبارة أبي السعود لم يأتوا بحجة عقلية ولا نقلية، بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم اهـ.
وقال هنا: مهتدون، وفيما بعده: مقتدون، لأن الأول وقع في محاجتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين، وأنهم مهتدون كآبائهم، فناسبه مهتدون والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فناسبه مقتدون، أفاده الكرخي. ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة، وقال بها فقال:
339
(وَكَذَلِكَ) أي الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد، وقوله (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) استئناف مبين لذلك، دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضاً مستند غيره، قاله أبو السعود، والمترفون الأغنياء والرؤساء والمتنعمون جمع مترف. اسم مفعول من أترف، وأترفته النعمة أطغته.
قال الكرخي: هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن من تقدمهم أيضاًً لم يكن لهم مستند منظور إليه، وتخصيص المترفين للإِشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر، وصرفهم عن النظر إلى التقليد انتهى. والأمة هي من الأم وهو القصد، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد، ومقتدون أي متبعون، قاله قتادة، قال النسفي: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن تقليد الآباء داء قديم اهـ.
قال الرازي في تفسيره: لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد، وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي، ولا بدليل نقلي ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في
339
معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل.
ومما يدل عليه أيضاًً من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق، وذلك لأنه كما حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة، فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة، فلو كان التقليد، طريقاً إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقاً، ومعلوم أن ذلك باطل، وأنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا، وحب الكسل والبطالة، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال، لقوله: (إلا قال مترفوها) والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة، أي أبطرتهم، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق أهـ.
أقول وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية، منها ما ذكره ابن القيم، وأنا أورده ههنا قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: نعم بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: حكمت به بغير حجة، قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة قال الله عز وجل.
(هل عندكم من سلطان بهذا) أي من حجة بهذا، فإذا قال أنا أعلم أني قد أصبت، وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كثيراً من العلماء، وهو لا يقول إلا بحجة خفيت على قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى، لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً؟ ولا
340
يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علماً؟ وهذا تناقض، فإن قال لأن معلمي -وإن كان أصغر- فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك، قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فليلزمه تقليده، وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك؛ فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبداً، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضاً وفساداً.
قال أبو عمرو قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين، وإدراك المعلوم على ما هو به، فمن بأن له الشيء فقد علمه، قالوا والمقلد لا علم له، لم يختلفوا في ذلك، ومن ههنا والله أعلم قال البحتري:
عرف العالمون فضلك بالعلـ ـم قال الجهال بالتقليد
وأرى الناس مجمعين على فضـ ـلك من بين سيد ومسود
وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع اهـ.
قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح. لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن اهـ. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يرد عليهم فقال:
341
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
342
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) أي أتتبعون آباءكم وتقلدونهم؟ ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ قال الزجاج المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء وإن جئتكم بأهدى منه؟ قرأ الجمهور قل وقرىء قال: وهو حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم، أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته، وقيل إن كلتا القراءتين حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم أي قال كل منذر من أولئك المنذرين لأمته المقلدين، كأنه قال لكل نبي قل بدليل قوله:
(قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) قال الشوكاني وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم، ويتبعون آثارهم، ويقتدون بهم فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها، وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير، ولا حجة واضحة، بل لمجرد قيل وقال، لشبهة داحضة، وحجة زائفة، ومقالة باطلة، قالوا بما قاله المترفون من هذه الملل (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أو بما يلاقي معناه معنى ذلك.
فإن قال لهم الداعي إلى الحق قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم ولا آباءكم من قبلكم إلا بكتابة الذي أنزله على رسوله، وبما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه
342
المبين لكتاب الله، الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله:
(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحش، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولا قوله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك رخصة له، لا يحل أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجد الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا نعمل بهذا، ولا سمع لك ولا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا لذلك ولا أذعنوا له.
وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكأون عليها عند أن يستمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون: إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع، وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم.
فإنه لو قيل لهم: إن في التابعين من هو أعظم قدراً وأقدم عصراً من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية توجب الاقتداء فتعالوا
343
حتى أريكم من هو أقدم عصراً وأجل قدراً، فإن أبيتم ذلك ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدراً من صاحبكم علماً وفضلاً وجلالة قدر، فإن أبيتم ذلك فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً وأجل خطراً، وأكثر أتباعاً، وأقدم عصراً، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم صلى الله عليه وسلم، ورسول الله إلينا وإليكم، فتعالوا فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن، وعصراً بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل، ورازق الكل، وموجد الكل، بين أظهرنا، موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم، لم يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقص، ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه، ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه، ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو مما وجدتم عليه آباءكم.
قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان القال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير، ومزعة من حياء، وحصة من دين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب انتهى. وقد أوضحه الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين فأرجع إليهما إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب، وتنقشع لك سحائب التقليد.
344
(فانتقمنا منهم) وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود بما استحقوه على اصرارهم على التقليد (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) للأنبياء من تلك الأمم. فإن آثارهم موجودة، ولا تكترث بتكذيب قومك لك، ثم لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف، وبين أنه طريق باطل، ومنهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد، أردفه بهذه الآية:
344
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
345
(وإذا قال إبراهيم) الذي هو أعظم آبائهم، ومحط فخرهم، والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن غيرهم (لأبيه) أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه من غير أن يقلده، كما قلدتم أنتم آباءكم (وقومه) أي الذين قلدوا آباءهم، وعبدوا الأصنام.
(إنني براء مما تعبدون) تبرأ مما هم عليه وتمسك بالبرهان، ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، والبراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، وقال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر في الأصل وبه قال الكسائي والمبرد والزجاج، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال:
(إلا الذي فطرني) أي خلقني، والاستثناء منقطع أي لكن الذي فطرني أو متصل من عموم (ما) لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو إلا صفة بمعنى غير، وما نكرة موصوفة، قاله الزمخشري (فإنه سيهدين) أي سيرشدني لدينه، ويوفقني لطاعته، ويثبتني على الحق، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه، وقوة يقينه، والأوجه أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار.
(وجعلها كلمة باقية في عقبه) الضمير في جعلها عائد إلى قوله إلا الذي فطرني، وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله، وفاعل جعلها
345
إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد، وأمرهم أن يدينوا به، كما في قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) الآية، وقيل: الفاعل هو الله عز وجل، أي وجعل الله سبحانه كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد، قال مجاهد وقتادة. الكلمة لا إله إلا الله، لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة، ويوحده ويدعو إلى توحيده وقال عكرمة: هي الإِسلام، قال ابن زيد: الكلمة هي قوله (أسلمت لرب العالمين) قال ابن عباس: كلمة باقية لا إله إلا الله وعقب إبراهيم ولده.
(لعلهم يرجعون) تعليل للجعل أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد، وقيل: الضمير في لعلهم يرجع إلى أهل مكة أي لعل أهلها يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها الخ، قال السدي: لعلهم يتوبون فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله، قال الرازي في تفسيره.
والمقصود من هذه الآية ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد، وتقريره من وجهين، الأول أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل، فنقول: إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرماً أو جائزاً فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنه ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول: إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء، ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.
346
وإذا ثبت هذا فنقول: فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نقله كان باطلاً، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلاً، فهذا طريق دقيق في إبطال التقليد، وهو المراد من هذه الآية، الوجه الثاني في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا والدين، أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل، لا جرم جعل الله دينه ومذهبه باقياً في عقبه إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت، فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خبر، ولا أثر، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل، وترك التقليد أولى، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية انتهى.
ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال:
347
(بل متعت هؤلاء) أي أهل مكة عقب إبراهيم (وَآبَاءَهُمْ) أضرب سبحانه عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال، والمد في الأعمار، وأنواع النعم، وسلامة الأبدان من البلايا والنقم، وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة فاغتروا بالمهلة، وأنكبوا على الشهوات، وشغلوا بالتنعم عن كلمة التوحيد، وبطروا وتمادوا على الباطل.
(حتى جاءهم الحق) يعني القرآن (ورسول مبين) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه، وفي هذه الغاية خفاء بيّنة في الكشاف وشروحه، وهو أن ما ذكر ليس غاية للتمتيع، إذ لا مناسبة بينهما مع أن مخالفة ما بعدها لما قبلها غير مرعي فيها.
والجواب أن المراد بالتمتيع ما هو سببه من اشتغالهم به عن شكر
347
المنعم، فكأنه قال: اشتغلوا به حتى (جاءهم الحق ورسول مبين) وهو غاية في نفس الأمر لأنه مما ينبههم ويزجرهم، لكنهم لطغيانهم عكسوا، فهو كقوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أفاده الشهاب ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال:
348
(ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) أي جاحدون فسموا القرآن سحراً وجحدوه واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء والأسلاف لم يتفكروا في الدليل واغتروا بطول الإمهال، وامتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق والغرض بهذا الكلام توبيخ المقلد المسيء.
(وقالوا) متحكمين بالباطل (لولا) هلا (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) أي رجل عظيم من إحدى القريتين كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من أحدهما، والمراد بهما مكة والطائف، قاله ابن عباس، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، كذا قال قتادة وغيره: وقال مجاهد وغيره عتبة بن ربيعة من مكة وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وقال ابن عباس، عمير بن مسعود وخيار قريش، وقال أيضاً العظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي، وعنه قال: يعنون أشرف من محمد الوليد بن المغيرة من أهل مكة ومسعود الثقفي من أهل الطائف، وقيل غير ذلك، وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه، واسع المال، مسود في قومه، والمعنى أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل من عظماء القريتين، فهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف، فلا يليق إلا برجل شريف، وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة، وهي أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد صلى الله عليه وسلم، ليس كذلك، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله:
348
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤)
349
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النبوة أو ما هو أعم منها والاستفهام للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة وترسم هذه التاء مجرورة اتباعا لرسم المصحف الإمام كما نص عليه ابن الجزري ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال:
(نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد، فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا مالكاً، وهذا مملوكاً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة؟ وتفويضها إلى من يشاء من خلقه؟ قال مقاتل: يقول بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا، قرأ الجمهور معيشتهم الإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن معايشهم بالجمع.
(و) معنى (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض فقال:
349
(ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً) أي ليستخدم بعضهم بعضاً فيستخدم الغني الفقير، والرئيس المرؤوس والقوي الضعيف، والحر العبد، والعاقل من دونه في العقل والعالم الجاهل وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم، ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين فجعل البعض محتاجاً إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ويحتاج هذا إلى هذا ويصنع هذا لهذا ويعطي هذا هذا.
وقال السدي وابن زيد سخرياً خولاً وخدماً، يسخر الأغنياء الفقراء، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض، وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضاً، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، قال الأخفش سخرت به، وسخرت منه، وضحكت به، وضحكت منه، وهزأت به، وهزأت منه، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي لكنه بعيد من معنى القرآن، ومناف لما هو مقصود السياق، وعلى هذا القول تكون اللام للصيرورة والعاقبة، لا للعلة والسببية.
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة. وقيل هي النبوة لأنها المرادة بالرحمة المتقدمة في قوله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً (خير مما يجمعون) أي مما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا لأن الدنيا على شرف الزوال والإنقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآبدين، ثم بين سبحانه حقارة الدنيا عنده فقال:
350
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا وزخرفها أو يرغبوا فيه إذا رأوا الكفار في سعة وتنعم (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة) جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في (يكفر) باعتبار معنى من ولفظها ولبيوتهم بدل اشتمال من
350
الموصول واللام للاختصاص، والسقف جمع سقف قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن، قال أبو عبيدة ولا ثالث لهما، وقال الفراء. هو جمع سقيف نحو كثيب وكثب ورغيف ورغف وقيل: هو جمع سقوف، فيكون جمعاً للجمع، وقرىء بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد، ومعناه الجمع لكونه الجنس قال الحسن: معنى الآية لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عندنا وقال بهذا أكثر المفسرين.
وقال ابن زيد لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة، وقال الكسائي المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا لهوانها.
(ومعارج) كالدرج من فضة، جمع معرج بفتح الميم وكسرها، وسميت المصاعد من الدرج المعارج، لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج ومعاريج جمع معراج، والمعراج السلم، وهي لغة بعض تميم وهذا كمفاتح جمع مفتح، ومفاتيح جمع مفتاح قال الأخفش إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل مرقا ومرقا والمعنى جعلنا لهم معارج من فضة.
(عليها) أي على المعارج (يظهرون) يرتقون ويصعدون يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه
351
(ولبيوتهم أبواباً وسرراً) أي وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة وتكرير لفظ البيوت لزيادة التقرير (عليها) أي على السرر، وهو جمع سرير، وقيل جمع أسرة فيكون جمعاً للجمع (يتكئون) الإتكاء والتوكؤ التحامل على الشيء ومنه (أتوكأ عليها) واتكأ على الشيء فهو متكىء والموضع متكأ.
351
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
352
(وَزُخْرُفًا) أي وجعلنا لهم زخرفاً ليجعلوه في السقف والمعارج والأبواب والسرر، ليكون بعض كل منها من فضة، وبعضه من ذهب، لأنه أبلغ في الزينة، وقيل: النصب بنزع الخافض أي أبواباً وسرراً من فضة ومن ذهب فلما حذف الخافض انتصب، والزخرف الذهب، وقيل: الزينة أعم من أن يكون ذهباً أو غيره، قال ابن زيد هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث، وقال الحسن: النقوش، وأصله الزينة، يقال: زخرفت الدار زينتها، وتزخرف فلان أي تزين، قال ابن عباس في الآية: يقول لولا أن نفعل الناس كلهم كفاراً لجعلنا لبيوت الكفار سقفاً من فضة، ومعارج من فضة، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة وزخرفاً وهو الذهب.
وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجة عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " وعن المسور بن شداد قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله ﷺ على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: فإن
352
الدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها " أخرجه الترمذي وحسنه، وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله ﷺ قال: " إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء " أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " أخرجه مسلم، قال البقاعي: ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادىء الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة، حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، أو في زمن الدجال، لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث إنه لا عداد له في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة، وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك سبحانه ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال:
(وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) قرأ الجمهور لما بالتخفيف، وقرىء بالتشديد، فعلى الأولى إن هي المخففة من الثقيلة، وعلى الثانية هي النافية، ولما بمعنى إلا ما كل ذلك إلا ما يتمتع به في الدنيا، وقرىء بكسر اللام من لما على أن اللام للعلة، وما موصولة، والعائد محذوف، أي للذي هو متاع (والآخرة) أي الجنة (عند ربك للمتقين) أي لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده، وعمل بطاعته، وترك الدنيا وآثر الآخرة فإنها الباقية التي لا تفنى، ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع.
353
(ومن يعش) يقال عشوت إلى النار قصدتها وعشوت عنها أي أعرضت عنها، كما تقول: عدت إلى فلان وعدلت عنه، أي ملت إليه
353
وملت عنه كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري، وقال الخليل: العشو النظر الضعيف، وقال أبو عبيدة والأخفش. إن معنى (ومن يعش) ومن تظلم عينه وهو نحو قول الخليل، وهذا على قراءة الجمهور من يعش بضم الشين من عشا يعشو، وقرىء بفتح الشين يقال: عشى الرجل يعشى عشا إذا عمى، وقال الجوهري: العشا مقصور مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار، والمرأة عشوى، وقرىء يعشو بالواو على أن من موصولة غير متضمنة معنى الشرط.
والمعنى ومن يعرض ويتعامى ويتجاهل ويتغافل (عن ذكر الرحمن) ولم يخف عقابه ولم يرد ثوابه، وقيل: يول ظهره عن القرآن (نقيض له شيطاناً) قرأ الجمهور بالنون، وقرى بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنياً للمفعول، ورفع شيطان على النيابة والمعنى نسبي له جزاء على كفره شيطاناً.
(فهو له قرين) أي ملازم له في الدنيا، يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ولا يفارقه. وقيل في الآخرة إذا قام من قبره قاله سعيد الجريري وقيل: فيهما قال القشيري: وهو الصحيح أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه بل يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه وقال الزجاج معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قريناً فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البيِّن.
أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي " أن قريشاً قالت قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد ﷺ رجلاً يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة ابن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو
354
بكر: إلام تدعوني؟ قال أدعوك إلى عبادة اللات. والعزى، قال أبو بكر وما اللات؟ قال أولاد الله قال وما العزى؟ قال بنات الله قال أبو بكر فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه فقال لأصحابه أجيبوا الرجل فسكت القوم فقال طلحة قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأنزل الله هذه الآية " وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرين من الجن.
355
(وإنهم) أي وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكل أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنى من (ليصدونهم عن السبيل) أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق ويمنعونهم منه ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنوا صدق ما يوسوسون به، وهو معنى قوله:
(ويحسبون أنهم) أي يحسب الكفار أن الشياطين (مهتدون) فيطيعونهم أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفسهم مهتدون، وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله:
(حتى إذا جاءنا) فإن حتى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتماً أن تكون غاية لأمر ممتد، كما مر مراراً، قاله أبو السعود قرأ الجمهور بالتثنية أي الكافر والشيطان المقارن له، وقرىء بالإفراد أي الكافر أو كل واحد منهما.
(قال) الكافر مخاطباً للشيطان: (يا ليت) كان في الدنيا (بيني وبينك بعد المشرقين) أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب المشرق على المغرب، قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة والأول أولى وبه قال الفراء (فبئس القرين) أي أنت أيها الشيطان.
355
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
356
(ولن ينفعكم اليوم) هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة (إذ ظلمتم) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا، وقيل: إن إذ بدل من اليوم لأنه تبين ذلك في اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا (أنكم في العذاب مشتركون) قرأ الجمهور بفتح إن على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، قال المفسرون لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب، لأن لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه وقيل إنها للتعليل لنفي النفع، أي لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا ويقوي هذا المعنى قراءة إن بالكسر.
ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال
(أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) الهمزة لإنكار التعجب أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا، وفيه تسلية لرسول الله ﷺ وإخبار له بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل.
(ومن كان في ضلال مبين) عطف على العمي للتغاير العنواني، وإلا فالمصداق واحد، أي إنك لا تهدي من كان كذلك، ومعنى الآية أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصم الذين لا يعقلون ما جئت به، وبمنزلة العمي
356
الذين لا يبصرون لإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة.
357
(فإما نذهبن بك) بالموت قبل أن ننزل بهم العذاب، وقيل: المعنى نخرجنك من مكة (فإنا منهم منتقمون) إما في الدنيا أو في الآخرة، قال علي كرم الله وجهه: ذهب الله بنبيه ﷺ وبقيت نقمته في عدوه
(أو نرينك الذي وعدناهم) من العذاب قبل موتك (فإنا عليكم مقتدرون) متى شئنا عذبناهم.
قال كثير من المفسرين قد أراه ذلك يوم بدر وبه قال ابن عباس وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي ﷺ من الفتن، وقد كان بعد النبي ﷺ فتنة شديدة فأكرم الله نبيه ﷺ وذهب به فلم يره في أمته شيئاًً من ذلك والأول أولى.
(فاستمسك بالذي أوحي إليك) من القرآن وإن كذب به من كذب (إنك على صراط مستقيم) أي طريق واضح تعليل للإستمساك أو للأمر به (وأنه) أي وإن القرآن (لذكر لك ولقومك) أي شرف لك ولقريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم، ومثله قوله:
(لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم) وقيل بيان لك ولأمتك فيما لكم حاجة، وقيل تذكره تذكرون بها أمر الدين وتعملون به، وعن علي وابن عباس قالا: " كان رسول الله ﷺ يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه لا يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت
(وإنه لذكر لك ولقومك) فكان إذا سئل بعد قال لقريش فلا يجيبوه حتى قبلته الأنصار على ذلك ".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " أخرجه الشيخان، وعن معاوية قال سمعت رسول الله ﷺ يقول " إن هذا الأمر في
357
قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه، ما أقاموا الدين " أخرجه البخاري.
(وسوف تسألون) عما جعله الله لكم من الشرف، كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما، وقيل يسألون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به وعن تعظيمهم له، وشكرهم لهذه النعمة يوم القيامة.
358
(واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن) أي غيره (آلهة يعبدون) قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد أن جبريل قال ذلك للنبي ﷺ لما أسرى به فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم، وبه قال جماعة من السلف.
وقال المبرد والزجاج وجماعة من العلماء إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا وبه قال ابن عباس ومجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن، وفائدة إيقاع السؤال على الرسل مع أن المراد أممهم التنبيه على أن المسؤول عنه عين ما نطقت به ألسنة الرسل، لا ما تقوله علماؤهم من تلقاء أنفسهم، وعلى الأول هي مكية، وعلى الثاني مدنية.
ومعنى الآية على القولين سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل؟ وهل سوغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع. وقيل ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم، والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه فحصاً ونظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها.
ولما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد، أتبعه بذكر قصة موسى وفرعون، وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال:
358
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١)
359
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) التسع التي تقدم بيانها (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) أي القبط (فقال إني رسول رب العالمين) أرسلني إليكم ما أجابوه به عند قوله هذا محذوف دل عليه قوله
(فلما جاءهم بآياتنا) وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية (إذا هم منها يضحكون) استهزاء وسخرية وجواب لما هو إذا الفجائية لأن التقدير فاجأوا وقت ضحكهم.
(وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها وأعظم قدراً مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها وقيل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس هما أخوان كل واحد منهما أكبر من الآخر وقيل المعنى إن الأولى تقتضي علماً والثانية تقتضي علماً فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ومعنى الأخوة بين الآيات أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها
359
على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان في المعنى وقيل المعنى أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات.
(وأخذناهم) بسبب تكذيبهم بتلك الآيات (بالعذاب) أي بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، كما قال تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) الآية، ثم بين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء رجوعهم، فقال: (لعلهم يرجعون) أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان، ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات، ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.
360
(وقالوا يا أيها الساحر) وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرون السحرة ويعظمونهم، ولم يكن السحر صفة ذم عندهم، قال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، أو نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم، وفرط حماقتهم، والأظهر أن النداء كان باسمه العلم، كما في الأعراف في قوله: قالوا: يا موسى.
(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) لكن حكى الله سبحانه هنا كلامهم لا بعبارتهم، بل على وفق ما أضمرته قلوبهم من اعتقادهم أنه ساحر، لاقتضاء مقام التسلية ذلك فإن قريشاً سموه ساحراً، وسموا ما أتى به سحراً، أفاده الكرخي، والمعنى: ادع الله به، أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا (إننا لمهتدون) أي فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ومؤمنون بما جئت به.
(فلما كشفنا عنهم العذاب) في الكلام حذف، والتقدير فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب (إذا هم ينكثون) فاجأوا نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث النقض وكانوا ينقضونه في كل مرة من مرات العذاب.
(ونادى فرعون) افتخاراً (في قومه) قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم، أو أمر منادياً ينادي بقوله: (قال يا قوم أليس لي ملك مصر) لا ينازعني فيه أحد، ولا يخالفني فيه مخالف.
(وهذه الأنهار تجري من تحتي) أي والحال أن الأنهار تجري من تحت قصري، والمراد هنا أنهار النيل، وقال قتادة: المعنى تجري بين يدي وفي بساتيني، قال الحسن: تجري بأمري أي تجري تحت أمري وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة، وأنهم يسيرون تحت لوائه، وقيل: أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى.
(أفلا تبصرون) ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظم قدري، وضعف موسى عن مقاومتي، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان خادمه على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها، فلما شارفها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال (أليس لي ملك مصر) والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه.
361
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)
362
(أم أنا خير) أم هي المنقطعة المقدرة ببل، التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار أي بل أنا خير، قال أبو عبيدة أم بمعنى: بل، والمعنى قال فرعون لقومه بل أنا خير، وقال الفراء: إن شئت جعلتها من الإستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله - وقيل: هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة، والمعنى أنا خير من هذا، وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ فقال: أنا خير، وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي وقفا على أم على تقدير أم تبصرون فحذف لدلالة الأول عليه، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة والأول أولى، وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ أما أنا خير؟ أي ألست خيراً؟
(من هذا الذي هو مهين) أي ضعيف حقير ممتهن في نفسه، لا عز له لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً وينفذ بها أمراً (ولا يكاد يبين) الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه، قال ابن عباس في الآية: كانت بموسى لثغة في
362
لسانه، واللثغة بالضم أن تصير الراء غيناً أو لاماً أو السين ثاء، وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ، وقيل المعنى لا يكاد يبين حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي، ولم يرد به أنه لا قدرة له على الكلام، والأول أولى.
363
(فلولا ألقي عليه) من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة (أسورة) جمع سوار، وبها قرأ حفص، وقرأ الجمهور أساور جمع أسورة، وقال أبو عمرو بن العلاء واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار، وقرأ أبيّ أساور، وابن مسعود أساوير، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوارين، وطوقوه بطوق ذهب، علامة لسيادته، أرادوا بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه، أي فهلا حلي بأسورة (من ذهب) إن كان عظيماً مقدماً سيداً.
(أو جاء معه الملائكة مقترنين) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقاً يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوة، ويمشون معه، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، ومحفوفين بالملائكة
(فاستخف قومه) أي حملهم على خفة الجهل والسفه، بقوله وكيده، واستفزهم بالقول، واستزلهم وعمل فيهم كلامه، وقيل: طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع، قال ابن الأعرابي المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه لخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، فقال استخفه الفرح، أي أزعجه، استخفه أي حمله، ومنه (ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)، وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه وعزروه وقيل استخف قومه أي وجدهم خفاف العقول، فصيغة الاستفعال للوجدان، وفي نسبته إلى القوم تجوز.
(فأطاعوه) فيما أمرهم به وقبلوا قوله وكذبوا موسى (إنهم كانوا قوماً فاسقين) أي خارجين عن طاعة الله.
(فلما آسفونا) أي اغضبونا قاله المفسرون، والأسف الغضب وقيل أشد الغضب، وقيل السخط، وقيل، المعنى أغضبوا رسلنا قال ابن عباس فلما أسخطونا وأغضبونا أي بالإفراط في الفساد والعصيان (انتقمنا منهم) ثم بين العذاب الذي وقع به الانتقام فقال (فأغرقناهم أجمعين) في البحر وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء في قوله (وهذه الأنهار تجري من تحتي) ففيه إشارة إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به وقد استضعف اللعينُ موسى وعابه بالفقر والضعف، فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استضعف أحد شيئاًً إلا غلبه، أفاده القشيري.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة ابن عامر أن رسول الله ﷺ " قال إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له وقرأ (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) وعن طاوس بن شهاب قال كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجاءة فقال تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر (فلما آسفونا انتقمنا منهم).
(فجعلناهم سلفاً) أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار، في استحقاق العذاب، لأجل الاعتبار بهم، قرأ الجمهور سلفاً بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس وحارس، يقال سلف يسلف إذا تقدم ومضى، قال الفراء والزجاج جعلناهم متقدمين سابقين، ليتعظ بهم الآخرون اللاحقون، وقرىء سلفاً بضم السين واللام، قال الفراء هو جمع سليف نحو سرر وسرير، وقال أبو حاتم هو جمع سلف نحو خشب وخشب، وقرىء بضم السين وفتح اللام جمع سلفة، وهم الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة، كذا قال النضر بن شميل، وقال ابن عباس سلفاً أهواء مختلفة.
364
(ومثلاً للآخرين) أي عبرة وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال، وتسير سير الأقوال، ولما قال سبحانه (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا ما يريد محمد ﷺ إلا أن نتخذه إلهاً، كما اتخذ النصارى عيسى بن مريم فأنزل الله
365
(ولما ضرب ابن مريم مثلاً) كذا قال قتادة ومجاهد.
وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي ﷺ لما نزل قوله تعالى (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال ابن الزبعرى: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح؟ واليهود عزيراً؟ وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا به، وضحكوا وارتفعت أصواتهم، فأنزل الله (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) ونزلت هذه الآية المذكورة هنا، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء، ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله، وباطل برمته فإن الله سبحانه قال: (إنكم وما تعبدون) ولم يقل: ومن تعبدون، حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير والملائكة، قال الشهاب: ابن الزبعري هو عبد الله الصحابي المشهور، وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل إسلامه.
(إذا قومك) يا محمد ﷺ (منه) أي من ذلك المثل المضروب (يصدون) أي يضجون ويصيحون، فرحاً بذلك المثل المضروب، والمراد بقومه هنا كفار قريش، إذ ظنوا أنه ألزم وأفحم النبي ﷺ به، وهو إنما سكت انتظاراً للوحي.
قرأ الجمهور: يصدون بكسر الصاد، وقرىء بضمها، وهما سبعيتان قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش: هما لغتان ومعناهما يضجون،
365
قال الجوهري: صد يصد صديداً أي ضج، وقيل: إنه بالضم للإعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله قطرب، قال أبو عبيدة: لو كانت من الصدود عن الحق يقال: إذا قومك عنه يصدون، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لقريش: " إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، قالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً؟ وعبداً من عباد الله صالحاً؟ وقد عبدته النصارى، فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتهم، فأنزل الله: ولما ضرب ابن مريم مثلاً " الآية، قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون.
366
(وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) عندك (أَمْ هُوَ) أي المسيح، قال السدي وابن زيد: خاصموه وقالوا إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة، وقال قتادة يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، أي أآلهتنا خير أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ويقوي هذا قراءة ابن مسعود أآلهتنا خير أم هذا.
(ما ضربوه لك إلا جدلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك لا لطلب الحق حتى يرجعوا له عند ظهوره وبيانه، على أن جدلاً منتصب على العلة، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال وقرىء جدالاً.
(بل هم قوم خصمون) أي شديدو الخصومة، كثيرو اللدد، عظيمو الجدل، وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "، ثم تلا هذه الآية، وقد ورد في ذم الجدل بالباطل أحاديث كثيرة، ثم بيّن سبحانه أن عيسى ليس برب، وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوته فقال:
366
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
367
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) بما أكرمناه به من النبوة، وأنعمنا عليه برفعة المنزلة والذكر (وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) أي آية وعبرة لهم، يعرفون به قدرة الله سبحانه، فإنه كان من غير أب، وكان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، وكل مريض بإذن الله، فمن أين يدخل في قوله (إنكم وما تعبدون)؟.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال إن المشركين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا أرأيت من يعبد من دون الله أين هم؟ قال في النار، قالوا الشمس والقمر قال والشمس والقمر قالوا فعيسى ابن مريم؟ قال: قال الله (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل).
(ولو نشاء لجعلنا منكبم ملائكة في الأرض يخلفون) الخطاب لقريش، أي لو نشاء لأهلكناكم، وجعلنا بدلكم في الأرض ملائكة مكرمين يعمرونها، ويعبدوننا، فهذا تهديد وتخويف لقريش، قال السمين في (من) هذه أقوال أحدها أنها بمعنى بدل أي لجعلنا بدلكم، ومنه قوله تعالى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي بدلها، والثاني وهو المشهور أنها ابتدائية وتأويل الآية عليه لولدنا منكم يا رجال ملائكة في الأرض يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى دون ذكر، ذكره الزمخشري، والثالث أنها تبعيضية قال أبو البقاء وقيل المعنى لحولنا بعضكم ملائكة، وقال ابن عطية لجعلنا بدلاً منكم، ومقصود الآية
367
أنا لو نشاء لأسكنّا الملائكة الأرض، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا.
368
(وإنه لعلم للساعة) قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة إن المراد المسيح، وأن خروجه أي نزوله مما يعلم به قيام الساعة، أي قربها لكونه شرطاً من أشراطها لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة، وقال الحسن وسعيد بن جبير المراد القرآن لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها، وقيل المعنى أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث، وقيل الضمير لمحمد ﷺ والأول أولى.
قال ابن عباس " أي خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة " (١)، وأخرجه الحاكم وابن مردويه عنه مرفوعاً، وعن أبي هريرة نحوه أخرجه عبد بن حميد قرأ الجمهور لعلم بصيغة المصدر، جعل المسيح علماً للساعة مبالغة، لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله، وقرأ جماعة من الصحابة بفتح العين واللام، أي خروجه علم من أعلامها، وشرط من شروطها، وقرىء للعلم بلامين مع فتح العين واللام أي للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة.
(فلا تمترن بها) أي فلا تشكن في وقوعها، ولا تكذبن بها، فإنها كائنة لا محالة (واتبعون) قرأ الجمهور بحذف الياء وصلاً ووقفاً، وقرىء بإثباتها وصلاً ووقفاً وقرىء بحذفها في الوصل دون الوقف أي اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وفرائض الله التي فرضها عليكم (هذا) أي الذي آمركم به وأدعوكم إليه (صراط مستقيم) أي طريق قيم، موصل إلى الحق.
_________
(١) وقد قال به ابن كثير في تفسيره.
368
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧)
369
(ولا يصدنكم الشيطان) أي لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي أو من الإيمان بالساعة، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه، ثم علل نهيهم عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال: (إنه لكم عدو مبين) أي مظهر لعدواته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين آدم، وما ألزم به نفسه من إغراء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين.
(ولما جاء عيسى) إلى بني إسرائيل (بالبينات) أي بالمعجزات الواضحة، والشرائع النيرة، قال قتادة البينات ههنا الإنجيل (قال قد جئتكم بالحكمة) أي النبوة وقيل: الإنجيل، وقيل ما يرغب في الجميل ويكف عن القبيح.
(و) جئتكم (لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) من أحكام التوارة، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حتى جعلت كأنها كلام برأسه والبعض هو أمر الدين قال قتادة يعني اختلاف الفرق الذين تحزبوا في أمر عيسى، قال الزجاج: الذي جاء به عيسى
369
في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وقال أبو عبيدة إن بعض هنا بمعنى كل كما في قوله (يصبكم بعض الذي يعدكم) وقال مقاتل هو كقوله (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرماً في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال:
(فاتقوا الله) أي اتقوا معاصيه (وأطيعون) فيما آمركم به من التوحيد والشرائع وأبلغه عنه
370
(إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه) هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه (هذا) أي عبادة الله وحده والعمل بشرائعه (صراط مستقيم) وهذا تمام كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله يدل على ما هو المقتضى للطاعة في ذلك.
(فاختلف الأحزاب من بينهم) قال مجاهد والسدي الأحزاب هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقال الكلبي ومقاتل هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى، قال قتادة المعنى أنهم اختلفوا فيما بينهم، وقيل اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى والأحزاب هي الفرق المتحزبة قيل هم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية، وهذا مبني على أنه بعث لجميع بني إسرائيل فتحزبوا في أمره، وقيل المراد بالأحزاب الذين تحزبوا على النبي ﷺ وكذبوه وهم المرادون بقوله:
(هل ينظرون إلا الساعة) والأول أولى.
(فويل للذين ظلموا) من هؤلاء المختلفين وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه، وقالوا في عيسى ما كفروا به (من عذاب يوم أليم) أي أليم عذابه وهو يوم القيامة.
370
(هل ينظرون) أي هل يترقب وينتظر هؤلاء الأحزاب أو الكفار (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون) أي لا يفطنون بذلك لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها، كقوله تأخذهم وهم يخصمون.
371
(الأخلاء) في الدنيا أي المتحابون فيها (يومئذ) أي يوم تأتيهم الساعة (بعضهم لبعض عدو) أي يعادي بعضهم بعضاً لأنه، قد انقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسباباً للعذاب، فصاروا أعداء ثم استثنى المتقين فقال (إلا المتقين) فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها.
عن علي بن أبي طالب في الآية " قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران توفي أحد المؤمنين فبشر بالجنة فذكر خليله فقال: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم لا تضله بعدي حتى تريه ما أريتني، وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له: اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيراً ولبكيت قليلاً، ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار، فيذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، وينبئني أني غير ملاقيك اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل لصاحبه. بئس الأخ وبئس الصاحب، وبئس الخليل "، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه وابن جرير والبيهقي وابن مردويه وابن أبي حاتم.
371
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١)
372
(يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة تشريفاً لهم وتطييباً لقلوبهم، فيذهب عند ذلك خوفهم، ويرتفع حزنهم
(الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) لله منقادين له مخلصين في أمر الدين.
(ادخلوا الجنة) أي يقال لهم ذلك، قال مقاتل، إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد يا عبادي لا خوف عليكم، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقال: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين.
(أنتم وأزواجكم) المراد بها نساؤهم المؤمنات وقيل قرناؤهم من المؤمنين وقيل زوجاتهم من الحور العين (تحبرون) تكرمون أو تنعمون أو تفرحون أو تسرون أو تعجبون أو تلذذون بالسماع، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة، ناداهم بأربعة أمور الأول نفي الخوف، والثاني نفي الحزن، والثالث الأمر بدخول الجنة، والرابع البشارة بالسرور.
(يطاف عليهم بصحاف من ذهب) جمع صحفة وهي القصعة الواسعة العريضة، قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة، وهي تشبع عشرة ثم الصحفة، وهي تشبع الخمسة، ثم الميكلة، وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة، والمعنى أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في
372
صحاف الذهب.
(وأكواب) أي ولهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الأكواب، وهي جمع كوب قال الجوهري الكوب كوز لا عروة له والجمع أكواب، قال قتادة الكوب المدور القصير العنق، القصير العروة، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة، وقال الأخفش الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها، وقال قطرب هي الأباريق التي ليست لها عرى، والعروة ما يمسك منه ويسمى أذناً، قال ابن عباس الأكواب الجرار من الفضة.
(وفيها) أي في الجنة (ما تشتهيه الأنفس) أي أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة، والأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة ونحوها. مما تتطلبه النفس وتهواه كائناً ما كان، جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا قرأ الجمهور تشتهي وفي مصحف عبد الله ابن مسعود تشتهيه بإثبات الضمير العائد إلى الموصول.
(وتلذ الأعين) من كل المستلذات التي يستلذ بها ويطلب مشاهدتها، وأعلاها النظر إلى وجهه الكريم، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق، تقول لذ الشيء يلذ لذاذاً ولذاذة إذا وجده لذيذاً أو التذ به، وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذات في العيون.
عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل " يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل، قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل؟ فإني أحب الإبل قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك " أخرجه الترمذي (وأنتم فيها خالدون) لا تموتون ولا تخرجون منها.
373
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩)
374
(وتلك الجنة التي أورثتموها) أي يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة أي صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث (بما كنتم تعملون) في الدنيا من الأعمال الصالحة، وتلك مبتدأ والجنة صفته والموصول مع صلته صفة للجنة، والخبر بما كنتم الخ، وقيل الخبر الموصول مع صلته، والأول أولى وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف، والمخاطب كل واحد من أهل الجنة، فلذلك أفرد الكاف، ولم يقل وتلكم الذي هو مقتضى أورثتموها إيذاناً بأن كل واحد مقصود بذاته.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله وتلك الجنة التي أورثتموها ".
(لكم فيها) سوى الطعام والشراب (فاكهة كثيرة) أي كثيرة الأنواع والأصناف والفاكهة معروفة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها (منها تأكلون)
374
وكل ما يؤكل يخلف بدله ومن تبعيضيه أو ابتدائية، وقدم الجار لأجل الفاصلة، ثم شرع سبحانه في الوعيد بعد ذكر الوعد كما هو دأب القرآن الكريم فقال:
375
(إن المجرمين) أي أهل الإجرام الكفرية، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا (في عذاب جهنم خالدون) لا ينقطع عنهم العذاب أبداً
(لا يفتر عنهم) أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب جملة حالية وكذلك.
(وهم فيه مبلسون) أي آيسون من النجاة وقيل ساكتون سكوت يأس، وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام، ولا يشكل على هذا قوله الآتي؛ (ونادوا) الخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج ويشتد عليهم العذاب تارة فيستغيثون، وقرأ عبد الله: هم فيها أي في النار لدلالة العذاب عليها.
(وما ظلمناهم) أي ما عذبناهم بغير ذنب، ولا بزيادة على ما يستحقونه (ولكن كانوا هم الظالمين) لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب، قرأ الجمهور الظالمين، بالنصب على أنه خبر كان والضمير ضمير فصل، وقرىء الظالمون بالرفع على أن الضمير مبتدأ، وما بعده خبره، والجملة خبر كان.
(ونادوا يا مالك) أي نادى المجرمون هذا النداء، والإتيان بالماضي على حد (أتى أمر الله) ومالك هو خازن النار، قرأ الجمهور بغير الترخيم، وقرىء يا مال بالترخيم، قيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ يا مال، فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم (ليقض علينا ربك) بالموت من قضى عليه إذا أماته قال تعالى: (فوكزه موسى فقضى عليه) توسلوا بمالك خازن النار إلى الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم
375
بالموت ليستريحوا من العذاب، وقال البيضاوي: هو لا ينافي إبلاسهم فإنه جؤار وتمن للموت من فرط الشدة.
(قال إنكم ماكثون) أي مقيمون في العذاب، هانت والله دعوتهم على مالك وعلى رب مالك قيل سكت عن إجابتهم أربعين سنة قاله الخازن والسنة ثلثماثة وستون يوماً واليوم كألف سنة مما تعدون قاله القرطبي وقيل: ثمانين سنة، وقيل مائة سنة وقال ابن عباس يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم بهذا الجواب.
376
(لقد جئناكم بالحق) يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه أو من كلام مالك والأول أظهر، والمعنى: إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا وهو معنى قوله.
(ولكن أكثركم للحق كارهون) أي لا تقبلونه وتنفرون منه، لأن مع الباطل الدعة ومع الحق التعب، قيل معنى أكثركم كلكم وقيل أراد الرؤساء والقادة ومن عداهم أتباع لهم والمراد بالحق كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه وقيل هو خاص بالقرآن:
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلى الله وسلم. وأم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أبرموا أمراً وفي ذلك انتقال من توبيخ أهل النار وحكاية حالهم إلى حكاية ما يقع من هؤلاء والإبرام الإتقان والإحكام، يقال برمت الشيء أحكمته وأتقنته وأبرم الحبل إذا أحكم فتله.
والمعنى بل أحكموا كيداً للنبي ﷺ فإنا محكمون لهم كيداً قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ومثل هذا قوله: تعالى: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون) وقيل المعنى أم قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب قاله الكلبي.
376
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٨١) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
377
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون في أنفسهم أو ما يتحادثون به سراً في مكان خال، وما يتناجون به فيما بينهم (بلى) نسمع ذلك ونعلم به (ورسلنا لديهم يكتبون) أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل. عن يحيى بن معاذ قال من ستر من الناس ذنوبه وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من أمارات النفاق.
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: " بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد: إذا جهرتم يسمع، وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت هذه الآية ".
ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يقول للكفار قولاً يلزمهم به الحجة، ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال:
(قل إن كان للرحمن ولد) وصح ذلك ببرهان صحيح، أو إن كان له ولد في قولكم، وعلى زعمكم (فأنا أول العابدين) أي أول من عبد الله وحده لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، قاله ابن قتيبة وقال الحسن والسدي. إن المعنى ما كان للرحمن ولد، ويكون قوله: فأنا أول العابدين ابتداء كلام.
قال ابن عباس في الآية يقول إن يكن للرحمن ولد (فأنا أول العابدين) أي الشاهدين، وعن زيد بن أسلم قال هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط، أي ما كان، وعن قتادة نحوه وقيل: المعنى قل يا محمد: إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه، وأتم عبارة، وأحسن أسلوب، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، لأن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض والمراد نفي الولد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها، ومن هذا القبيل قوله تعالى:
(وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به فتكون إن في (إن كان) شرطية ورجح هذا ابن جرير وغيره.
وقيل: معنى العابدين الآنفين من العبادة وهو تكلف لا ملجىء إليه ولكنه قرىء العبدين: بغير ألف؛ من عبد يعبد عبداً بالتحريك إذا أنف وغضب، فهو عبد، والإسم العبدة مثل الأنفة ولعل الحامل على هذه القراءة الشاذة البعيدة لمن قرأها هو استبعاد معنى (فأنا أول العابدين) وليس بمستبعد ولا مستنكر وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله: (فأنا أول العابدين) أنه من الأنف أو الغضب؛ وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي
378
وبه قال الفراء، وكذا قال ابن الأعرابي إن معنى العابدين الغضاب الآنفين.
وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى عبدني حقي أي جحدني ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب، وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجىء إليه ومن التعسف الواضح، وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال: إنما يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقل ما يقال: عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من البغة ولا الشاذ، قرأ الجمهور ولد بالإفراد وقرىء بضم الواو وسكون اللام.
379
(سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون) أي تنزيهاً له وتقديساً عما يقولون من الكذب، بأن له ولداً ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه نفسه الكريمة عما قالوه وإن كان من تمام كلام رسوله ﷺ الذي أمره بأن يقوله فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه.
(فذرهم يخوضوا ويلعبوا) أي اترك الكفار حيث لم يهتدوا لما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم؛ ويلهوا في دنياهم (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) وهو يوم القيامة، وقيل العذاب في الدنيا: وقيل يوم الموت وهو الأظهر فإن خوضهم ولعبهم إنما ينتهي بيوم الموت، قيل: وهذا منسوخ بآية السيف وقيل: هو غير منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد، وفيه دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، قرأ الجمهور يلاقوا وقرىء يلقوا.
(وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود، أو مستحق للعبادة والمعنى وهو الذي معبود في السماء ومعبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض وبما تقرر من أن المراد بإله معبود اندفع ما قيل هذا يقتضي تعدد الآلهة
379
لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تعددت؛ كقولك: أنت طالق وطالق وإيضاح الاندفاع أن الإله هنا بمعنى المعبود؛ وهو تعالى معبود فيهما والمغايرة إنما هي بين معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض، لأن المعبودية من الأمور الإضافية فيكفي التغاير فيها من أحد الطرفين؛ فإذا كان العابد في السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض، مع أن المعبود واحد، وفيه دلالة على اختصاصه باستحقاق الألوهية، فإن التقديم يدل على الإختصاص أفاده الكرخي. (١)
قال أبو علي الفارسي وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي في السماء هو إله وفي الأرض هو إله وحسن حذفه لطول الكلام قال والمعنى على الإخبار بالإلهية لا على الكون فيهما، قال قتادة يعبد في السماء والأرض وقيل في بمعنى على أي هو القادر على السماء والأرض، كما في قوله (ولأصلبنكم في جذوع النخل).
وقرأ عمر وعلي وابن مسعود: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله على تضمين العلم معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية (وهو الحكيم العليم) أي البليغ الحكمة الكثير العلم.
_________
(١) زاد المسير ٢٣٣.
380
(وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما) تبارك تفاعل من البركة؛ وهي كثرة الخيرات والمراد بما بينهما الهواء وما فيه من الحيوانات (وعنده علم الساعة) أي علم الوقت الذي يكون فيه قيامها (وإليه ترجعون) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر، وفيه وعيد شديد، قرأ الجمهور بالفوقية على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرىء بالتحتية.
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) أي لا يملك من يدعونه
380
من دون الله من الأصنام ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم قرأ الجمهور يدعون بالتحتية وقرىء بالفوقية (إلا من شهد بالحق) أي التوحيد.
(وهم يعلمون) أي هم على علم وبصيرة بما شهدوا به، والإستثناء متصل والمعنى إلا من شهد بالحق وهم المسيح وعزير والملائكة فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها، وقيل هو منقطع.
والمعنى ليكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء، وقيل المستثنى منه محذوف، أي لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الآية أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة قال قتادة: لا يشفعون لعابديها بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية، وقيل: مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاماً لكل ما يعبد من دون الله ومدار الانقطاع على جعله خاصاً بالأصنام.
381
(ولئن سألتهم) اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى: لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام (من خلقهم ليقولن الله) جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة أي أقروا واعترفوا بأن خالقهم الله ولا يقدرون على الإنكار، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.
(فأنى يؤفكون) أي فيكف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان، وعبده مع الله، أو عبده وحده، فقد عبد بعض مخلوقات الله، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره يقال: أفكه يأفكه إفكاً إذا قلبه وصرفه عن الشيء، وقيل: المعنى ولئن سألت المسيح وعزيراً والملائكة من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لهم آلهة، وقيل المعنى ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعاً.
381
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
382
(وَقِيلِهِ) قرأ الجمهور بالنصب عطفاً على محل الساعة، كأنه قيل إنه يعلم الساعة ويعلم قيله، أو عطفاً على سرهم ونجواهم، أي يعلم سرهم ونجواهم؛ ويعلم قيله أو عطفاً على مفعول يكتبون المحذوف، أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله، أو عطفاً على مفعول يعلمون المحذوف، أي يعلمون ذلك ويعلمون قيله، أو هو مصدر أي قال قيله، أو منصوب بإضمار فعل أي الله بعلم قيل رسوله، أو هو معطوف على محل بالحق أي شهد بالحق وبقيله، أو منصوب على حذف حرف القسم، ومن المجوزين للأول المبرد وابن الأنباري، وللثاني الفراء والأخفش، وللنصب على المصدرية أيضاًً الفراء والأخفش.
وقرىء قيله بالجر عطفاً على لفظ الساعة أي (وعنده علم الساعة) وعلم (قيله) والقول والقال والقيل والمقال كلها مصادر بمعنى واحد، جاءت على هذه الأوزان، وقال أبو عبيدة: يقال قلت قولاً وقالاً وقيلاً أو على أن الواو للقسم.
وقرأ قتادة ومجاهد والحسن وأبو قلابة والأعرج بن هرمز ومسلم بن جندب قيله بالرفع عطفاً على علم، أي (وعنده علم الساعة) وعنده (قيله) أو على الابتداء وخبره الجملة المذكورة بعده أو خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت، أو وقيله مسموع، والضمير في وقيله راجع إلى النبي ﷺ قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه وقيل عائد إلى المسيح وعلى الوجهين فالمعنى أنه قال منادياً لربه:
(يا رب إن هؤلاء) الذين أرسلتني إليهم (قوم لا يؤمنون) ثم لما
382
نادى ربه بهذا، أجابه بقوله:
383
(فاصفح عنهم) أي أعرض عن دعوتهم.
(وقل سلام) أي أمري تسليم منكم، ومتاركة لكم، وقال الفراء إن سلام مرفوع بإضمار عليكم، قال عطاء: يريد مداراة حتى ينزل حكمي، ومعناه المتاركة كقوله (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) فليس في الآية مشروعية السلام على الكفار كما قيل، وقال قتادة أمره بالصفح عنهم، ثم أمره بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف، وقيل هي محكمة لم تنسخ (فسوف يعلمون) قرأ الجمهور بالتحتية، وقرىء بالفوقية، وفيه تهديد شديد لهم ووعيد عظيم من الله عز وجل وتسلية له صلى الله عليه وسلم.
383
سورة الدخان
(هي ست أو سبع أو تسع وخمسون آية)
قال القرطبي: هي مكيّة بالاتفاق إلا قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " أخرجه البيهقي في الشعب، ورفعه الثعلبي أيضاً والترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن أبي خثعم ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث، وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له ". أخرجه البيهقي وابن مردويه ومحمد بن نصر والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام بن مقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد.
ويشهد له طرق أخرى منها ما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال: " من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفوراً له، وزوج من الحور العين "، وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة "، قال الشهاب: في سورة الواقعة، ولم يذكر البيضاوي في فضائل السورة حديثاًَ غير موضوع من أول القرآن إلى هنا غير ما هنا، وما مر في سورة يس والدخان.
385

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
(بسم الله الرحمن الرحيم
387
Icon