تفسير سورة الفتح

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ الخ، الفتح هو الظفر بالبلاد عنوة أو صلحاً، فشبه الظفر بالبلاد، لفتح الباب المغلق بجامع التمكن في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الفتح فتحنا بمعنى ظفرنا، أي مكناك من البلاد، وحذف المعمول ليؤذن بالعموم، وأسند إلى نون العظمة اعتناء بشأن الفتح، وإشارة إلى أن هذا الأمر لا يتيسر إلا بإرادة الله وتوفيقه. قوله: (قضينا بفتح مكة وغيرها) أي كخبير وحنين والطائف ونحوها، وهو جواب عما يقال: إن الآية نزلت في رجوعه من الحديبية عام ست، ومكة لم تفتح إلا في السنة الثامنة، فكيف عبر بالماضي؟ فأجاب: بأن التعبير بالماضي بالنسبة للقضاء الأزلي، والمعنى: حكما لك في الأزل بالفتح المبين وحينئذ فالتعبير بالماضي حقيقة، وأجيب أيضاً بأن التعبير بالماضي مجاز لتحقق الوقوع، نظير﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ﴾[الكهف: ٩٩، يس: ٥١].
وأجيب أيضاً: بأن الفتح على حقيقته، وأن المراد به صلح الحديبية، لأنه أصاب فيه ما لم يصب في غيره، قال الزهري: لقد كان فتح الحديبية أعظم الفتوح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما وقع الصلح، مشى الناس بعضهم على بعض، وعلموا وسمعوا من الله، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه، فما مضت تلك السنتان، وإلا المسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف، وقال الشعبي في قوله: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ هو فتح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة غيرها، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس ا هـ. قوله: (عنوة) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة، نظراً لكون النبي وأصحابه دخلوها قهراً، ووقوع القتال من بعض الصحابة لخالد بن الوليد وأصحابه في جهة وأسفلها، مذهب الشافعي أنها فتحت صلحاً نظراً للظاهر، وهو عدم حصول القتال من النبي، وتأمينه أبا سفيان، وهذا الخلاف يكاد أن يكون لفظياً. قوله: (بجهادك) متعلق بقوله: (بفتح مكة) وهو جواب عما يقال: إن الفتح ناشئ من الله، والمغفرة تكون للشخص، فكيف تترتب عليه، وإنما الشأن أن تترتب على ما يكون من الشخص؟ فأجاب: بأن الفتح وإن كان من الله، لكنه تترتب على فعل النبي وهو الجهاد، فصح أنه يترتب على الفتح المغفرة بهذا الاعتبار. قوله: (لترغب أمتك) علة لترتب الغفران على الفتح. قوله: (وهو مؤول) أي أن إسناد الذنب له صلى الله عليه وسلم مؤول، إما بأن المراد من ذنوب أمتك، أو هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو بأن المراد بالغفران، الإحالة بينه وبين الذنوب، فلا تصدر منه، لأن الغفر هو الستر، والستر إما بين العيد والذنب، أو بين الذنب وعذابه، فاللائق بالأنبياء الأول، وبالأمم الثاني، إن قلت: إن عصمة النبي عليه السلام من الذنوب، حاصلة بالفعل قبل النبوة وبعدها، فكيف تكون مرتبة على جهاده؟ أجيب: بأن المرتب اظهارها للخلق لا هي نفسها. قوله: (من الذنوب) أي صغيرها وكبيرها، عمدها وسهوها، قبل النوبة وبعدها. قوله: (للعلة الغائية) أي وهي المترتبة على آخر الفعل، وليست العلة باعثة لاستحالة الأغراض على الله تعالى في الأفعال والأحكام. قوله: (لا سبب) أي لأن السبب ما يضاف إليه الحكم، كالزوال لوجوب الظهر، والمغفرة ليست كذلك. قوله: (بالفتح المذكور) أي وهو فتح مكة وغيرها بجهادك. قوله: (يثبتك عليه) أي يديمك ويقويك عليه، أو المراد يزيدك في الهداية باتباع الشريعة وأحكام الدين. قوله: (ذا عز) جواب عما يقال: إن العزيز وصف للمنصور لا للنصر، وتوضيح جوابه أن فعيلاً صيغة نسبة، أي نصراً منسوباً للعز. قوله: (لا ذل معه) أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما مطلق النصر، فيكون حتى لبعض الكفار في الدنيا.
قوله: ﴿ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي وهم أهل الحديبية، حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب، من صد الكفار، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصود، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان، بعد أن هاج الناس وزلزلوا، حتى عمر بن الخطاب لما روي أنه قال:" أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي لله حقاً؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى أنا أخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، فقلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، فقلت: فلم نعط الدنية في ديننا؟ إذاً؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بأمره ولا تخالفه، فوالله إنه على الحق، قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البين فنطوف به؟ قال: بلى، افأخبرك أن نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه فتطوف به "قال العلماء: لم يكن سؤال عمر شكاً، بل طلباً لكشف ما خفي عنه، وحثاً على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما هو معروف من شدته وصلابته في الدين، وأما جواب أبي بكر المطابق لجواب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فصله، وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، رضي الله عنهما وعنا بهما. قوله: (بشرائع الدين) متعلق بـ ﴿ إِيمَٰناً ﴾.
وقوله: ﴿ مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ ﴾ متعلق بمحذوف، أي بالله ورسوله. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ اختلف في المراد بجنود السماوات والأرض، فقيل: هم ملائكة السماوات والأرض، وقيل: إن جنود السماوات الملائكة، وجنود الأرض الحيوانات، وقيل: إن جنود السماوات مثل الصواعق والصيحة والحجارة، وجنود الأرض مثل الزلازل والخسفْ والغرق، ونحو ذلك، وكل صحيح. قوله: (لفعل) أي لكنه لم يفعل، بل أنزل السكينة على المؤمنين، ليكون إهلاك الأعداء بأيديهم، ليحصل لهم الشرف والعز دنيا وأخرى. قوله: (متعلق بمحذوف) أي لا بفتحنا، أي لئلا يلزم عليه عمل الفعل في حرفي جر متحدي اللفظ، والمعنى: من غير عطف ولا بدل ولا توكيد. قوله: ﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي يمحوها، وهو معطوف على قوله: ﴿ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ الخ، عطف سبب على مسبب، فدخول الجنة مسبب على تكفير السيئات، وقدم الإدخال في الذكر على التكفير، مسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. قوله: ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ أي المذكور من الإدخال والتكفير. قوله: ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ حال من ﴿ فَوْزاً ﴾ لأنه صفة له في الأصل، فلما قدم عليه صار حالاً، أي كائناً عند الله، أي في علمه وقضائه.
قوله: ﴿ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ قدمهم على المشركين، لأنهم أشد ضرراً من الكفار المتجاهرين، وذلك لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر، ويخالط المنافق، لظنه إيمانه. قوله: ﴿ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ﴾ إما من إضافة الموصوف لصفته على مذهب الكوفيين، أو أن ﴿ ٱلسَّوْءِ ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي ظن الأمر السوء فحذف المضاف إليه، وأقيمت صفته مقامه. قوله: (بفتح السين وضمها) أي فالفتح الذم، والضم العذاب، والهزيمة والشر. قوله: (في المواضع الثلاثة) أي هذين والثالث قوله فيما يأتي﴿ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ﴾[الفتح: ١٢] وهو سبق قلم، والصواب أن يقول: في الموضع الثاني، وأما الأول والثالث فليس فيهما إلا الفتح بإتفاق السبعة. قوله: ﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾ إما إخبار عن وقوعه بهم وأدعاء عليهم، كأن الله يقول: سلوني بقلوبكم ﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾ والدائرة عبارة عن الخط المحيط بالمركز، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بمن وقعت عليه، والجامع الإحاطة في كل. قوله: ﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الخ، ذكر هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير، فذيلها بقوله:﴿ عَلِيماً حَكِيماً ﴾[الفتح: ٤] وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيلها بقوله: ﴿ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ فلا تكرار. قوله: (أي لم يزل) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ كَانَ ﴾ في أوصاف الله معناها الاستمرار. قوله: ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ ﴾ الخ، امتنان منه تعالى عليه السلام حيث شرفه بالرسالة، وبعثه إلى كافة الخلق، شاهداً على أعمال أمته. قوله: ﴿ شَٰهِداً ﴾ (على أمتك) أي بالطاعة والعصيان. قوله: ﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ﴾ متعلق بـ ﴿ أَرْسَلْنَٰكَ ﴾.
قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: (وضميرهما لله) الخ، أي فهما احتمالان، أي فإذا أردت الجري على وتيرة واحدة، جعلتها كأنها عائدة على الله تعالى، وأما قوله: ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ فهو عائد على الله قولاً واحداً، ويؤخذ من هذه الآية، أن من اقتصر على تعظيم الله وحده، أو على تعظيم الرسول وحده، فليس بمؤمن، بل المؤمن من جمع بين تعظيم الله تعالى، وتعظيم رسوله، ولكن التعظيم في كل بحبسه، فتعظيم الله تنزيهه عن صفات الحوادث، ووصفه بالكمالات، وتعظيم رسوله اعتقاد أنه رسول الله حقاً وصدقاً لكافة الخلق، بشيراً ونذيراً، إلى غير ذلك من أوصافه السنية وشمائله المرضية.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ﴾ الخ، لما ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسله بشيراً ونذيراً، بين أن متابعته متابعة له، وطاعته له، وذلك يشعر بعظيم منزلته وقدره عند ربه، والبيعة في الأصل العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه، من بذل الطاعة للإمام، والوفاء بالعهد الذي التزمه له، والمراد بها هنا، بيعة الرضوان بالحديبية، وهي قرية ليست كبيرة، بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلة، سميت ببئر هناك، واختلف فيها، فقيل من الحرم، وقيل بعضها من الحل، يجوز فيها التخفيف والتشديد. قوله: ﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ ﴾ اعلم أن في هذا المقام، استعارة تصريحية تبعية ومكنية وتخييلية ومشاكلة، فالتبعية في الفعل هو ﴿ يُبَايِعُونَ ﴾ وذلك لأن المبايعة معناها مبادلة المال بالمال، فشبه المعاهدة على دفع الأنفس في سبيل الله، طلباً لمرضاة الله بدفع السلع في نظير الأموال، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من البيع ﴿ يُبَايِعُونَ ﴾ بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله والمكنية في لفظ الجلالة، وذلك لأن المتعاهدين إذن كان هناك ثالث، يضع يده فوق يديهما ليحفظهما، فشبه اطلاع الله ومجازاته على فعلهم، بملك وضع يده على يد أميره ورعيته، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو اليد، فإثباتها تخييل، والمشاكلة لذكر الأيدي بعده. قوله: (هو نحن من يطع الرسول) الخ، أي من حيث إنه في المعنى يرجع له، وفيه إشارة إلى أنه تعالى منزه عن الجوارح. قوله: (يرجع وبال نقضه) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضافين. قوله: (بالياء والنون) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾ أي وهو الجنة، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها بيعة الرضوان، إلا أن العبرة بعموم اللفظ، فيشمل مبايعة الإمام على الطاعة والوفاء بالعهد، ومبايعة الشيخ العارف على محبة الله ورسوله، والتزام شروطه وآدابه، ومن هنا استعمل مشايخ الصوفية هذه الآية عند أخذ العهد على المريد.
قوله: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾ الخ، أي وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً، طلب من الأعراب وأهل البوادي حول المدينة، أن يخرجوا معه، حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب، ويصدوه عن البيت، فأحرم بالعمرة، وساق الهدي، ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وتخلفوا عنه وقالوا: يذهب إلى قوم قد غزوه في قعر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه. قوله: (حول المدينة) حال من الإعراب أو صفة لهم. قوله: (إذا رجعت منها) ظرف ليقول. قوله: ﴿ وَأَهْلُونَا ﴾ أي النساء والصبيان، فإنا لو تركناهم لضاعوا، لأنه لم يكن لنا من يقوم بهم، وأنت قد نهيت عن ضياع المال والتفريط في العيال. قوله: (فهم كاذبون في اعتذارهم) أي وطلب الاستغفار. قوله: ﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ ﴾ الخ، أي فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه؟ قوله: ﴿ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً ﴾ أي كقتل وهزيمة ونحوهما. قوله: (بفتح الضاد وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ ترق في الرد عليهم. قوله: (للانتقال من غرض إلى آخر) أي فأضرب عن تكذيبهم في اعتذارهم، إلى إيعادهم بجزاء أعمالهم، ومن التخلف والاعتذار الباطل، ثم أضرب عن بيان بطلان اعتذارهم، إلى بيان ما حملهم على التخلف، وهذا على سبيل الترقي في الرد عليهم. قوله: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ ﴾ أي لا يرجع إلى المدينة، وسبب ظنهم ذلك، اعتقادهم عظمة المشركين، وحقارة المؤمنين، حتى قالوا: ما هم في قريش إلا أكلة رجل. قوله: (جمع بائر) أي كحائل وحول، وقيل: البور مصدر بمعنى الهلاك. قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ لما بين حال المتخلفين عن رسول الله، وبين حال ظنهم الفاسد، وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر، حرضهم على الإيمان والتوبة على سبيل العموم، و ﴿ مَن ﴾ إما شرطية أو موصولة، والاسم الظاهر قائم مقام العائد، وقوله: ﴿ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً ﴾ دليل الجواب أو الخبر. قوله: (ناراً شديدة) أي فالمراد جميع طبقات النار، لا الطبقة المسماة بذلك. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي يتصرف فيهما كيف يشاء. قوله: ﴿ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ هذا قطع لطعمهم في استغفاره صلى الله عليه وسلم لهم، كأن الله يقول لهم: لا يستحق أحد عندي شيئاً، وإنما أغفر لمن أريد، وأعذب من أريد، وقد سبقت حكمتي، أن المغفرة للمؤمنين، والتعذيب للكافرين، فلا تطمعوا في المغفرة ما دمتم كفاراً.
قوله: ﴿ سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾ الخ، هذا من جملة الإخبار عما يحصل منهم. قوله: ﴿ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ ﴾ ظرف لما قبله، والمعنى يقولون عند انطلاقهم الخ. قوله: (هي مغانم خيبر) أي وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال، ولم يصيبوا من المغانم شيئاً، وعدهم الله عز وجل فتح خيبر، وجعل مغانهما لمن شهد الحديبية خاصة، عوضاً عن غنائم أهل مكة، حيث انصرفوا عنهم، ولم يصيبوا منهم شيئاً، وكان المتولي للقسمة بخيبر، جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين، وأمر صلى الله عليه وسلم بالقسم لمن حضر من أهل الحديبية ومن غاب، ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله، فقسم له صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر. قوله: ﴿ ذَرُونَا ﴾ أي دعونا، وهذا الفعل هجر مصدره وماضيه واسم فاعله استغناء بمادة ترك، وأصل مادته: وذر يذر وذراً، فهو واذر، والأمر منه ذر، وهذه الجملة مقول القول. قوله: ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ إما مستأنف أو حال من ﴿ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾.
قوله: ﴿ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ أي يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية به، من جعل غنائم خيبر لهم، عوضاً عن فتح مكة في ذلك العام. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ لَّن تَتَّبِعُونَا ﴾ نفي في معنى النهي للمبالغة. قوله: ﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي مثل هذا القول وهو لن تتبعونا. قوله: ﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي حكم بأن غنيمة خيبر، لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب. قوله: ﴿ فَسَيَقُولُونَ ﴾ أي عند سماعهم النهي. قوله: ﴿ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾ أي فليس هذا النهي حكماً من الله تعالى، بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنائم. قوله: (من الدين) أشار بذلك إلى أن الإضراب الأول معناه رد منهم أن يكون حكم الله أن يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني إضراب عن وصفهم، بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعم، وهو الجهل وقلة الفهم.
قوله: ﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ ﴾ كرر وصفهم بهذا الاسم، إشعاراً بشناعته، ومبالغة في ذمهم. قوله: (قيل هم بنو حنيفة) أي وهم جماعة مسيلمة الكذاب، والداعي للمخلفين على قتالهم حينئذ أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أصحاب اليمامة) اسم لبلاد في اليمن، ولامرأة كانت بها ويقال لها زرقاء، كانت تبصر الركب من مسيرة ثلاثة أيام. قوله: (وقيل فارس والروم) أي والداعي لهم عمر بن الخطاب، وقيل: إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين، والداعي لهم رسول الله، إن قلت: إن الله تعالى أمر رسوله أن لا يدعو المخلفين إلى الجهاد في قوله:﴿ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾[التوبة: ٨٣] وحينئذ فيبعد أن ذلك في غزوة حنين، والداعي لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجيب: بأنه لا بعد، إذ قوله: ﴿ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً ﴾ الخ، إنما نزلت بعد الفتح في غزوة تبوك، فتحصل أن الأقوال ثلاثة، وكل صحيح. قوله: ﴿ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أن الجملة مستأنفة، وليست أو بمعنى إلى، أو إلا، وإلا لنصب الفعل بحذف النون، ومعنى ﴿ يُسْلِمُونَ ﴾ ينقادون ولو بعقد الجزية، فإن الروم نصارى، وفارس مجوس، وكل منهما يقر بالجزية، وأما بالنسبة لبني حنيفة، فمعناه يسلمون بالفعل، لأنهم كانوا مرتدين، والمرتد لا يقر بالجزية، بل إما السيف أو الأسلام. قوله: ﴿ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ أي في الحديبية. قوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ ﴾ نزلت لما قال أهل الزمانة والعاهة والآفة: كيف بنا يا رسول الله؟ حين سمعوا قوله تعالى: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ﴾ الخ. قوله: (في ترك الجهاد) أي في التخلف عن الجهاد، وهذه أعذار ظاهرة، وذلك لأن الأعمى لا يمكنه الكر ولا الفر، وكذلك الأعراج والمريض، ومثل هذه الأعذار الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يقضي مصالحه وأشغاله التي تعوق عن الجهاد، وكل هذا ما لم يفجأ العدو، وإلا وجب على كل بما يمكنه. قوله: (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: ﴿ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي فعل بهم فعل الراضي من الثواب والفتح المبين؛ وفي ذلك تلميح إلى أن الكافرين غير راض عنهم، فلهم الخذلان في الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم،" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على جملة صلى الله عليه وسلم ليبلغ أشرافهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء معتمراً، ولم يجيء محارباً، فعقروا جمل رسول الله وأرادوا قتله، فمنعهم الأحابيش فخلوا سبيله، فأتى لرسول الله فأخبره، فدعا رسول الله عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف على نفسي قريشاً، وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أقربها مني، لوجود عشيرته فيها، وهو عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته، وكتب له كتاباً بعثه معه، وأمره أن يبشر المستضعفين بمكة بالفتح قريباً، وأن الله سيظهر دينه، فخرج عثمان وتوجه إلى مكة، وقبل أن يدخلها، فنزل عن فرسه وحمله بين يديه، ثم أردفه وأجاره، حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتاب واحداً واحداً، فصمموا على أنه لا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المسلمون قالوا: هنيئاً لعثمان خلص إلى البيت وطاف به دوننا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن ظني له أن لا يطوف حتى يطوف مهنا، وبشر عثمان المستضعفين، واحتسبته قريش عندها، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه وقال: هذه عن عثمان، وهذا يشعر بأن النبي قد علم بنور النبوة، أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما بايع الناس: " اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك " فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يده لعثمان، خيراً من أيديهم لأنفسهم، ولما سمع المشركون بهذه البيعة، خافوا وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين وكانوا عشرة، دخلوا بإذنه صلى الله عليه وسلم ". قوله: ﴿ إِذْ يُبَايِعُونَكَ ﴾ ظرف لرضي، وعبر بصيغة المضارع استحضاراً لصورة المبايعة. قوله: ﴿ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾ معمول ليبايعونك. قوله: (هي سمرة) بضم الميم من شجر الطلح وهو الموز، كما عليه جمهور المفسرين في قوله تعالى:﴿ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ ﴾[الواقعة: ٢٩] وهذه الشجرة قد أخفيت، لئلا يحصل الافتتان بها، وروي أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة ويصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت. قوله: (أو أكثر) وقيل أربعمائة وهو الصحيح، وقيل خمسمائة. قوله: (أن يناجزوا قريشاً) أي يقاتلوهم. قوله: ﴿ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ معطوف على ﴿ يُبَايِعُونَكَ ﴾.
قوله: (بعد انصرافهم من الحديبية) أي في ذي الحجة، فأقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقيته وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع. قوله: ﴿ مَغَانِمَ ﴾ معطوف على ﴿ فَتْحاً ﴾ و ﴿ يَأْخُذُونَهَا ﴾ صفة لمغانم أو حال منها. قوله: ﴿ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان، وهو لأهل الحديبية. قوله: (من الفتوحات) أي غير خيبر، مما استقبلهم بعد، كفتح مكة وهوازن وبلاد كسرى والروم. قوله: (غنيمة خيبر) مقتضى ما تقدم، من أن السورة نزلت كلها في رجوعه من الحديبية أن يكون قوله: ﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ ﴾ من التعبير بالماضي عن المستقبل، لتحقق وقوعه من الإخبار بالغيب. قوله: (في عيالكم) أي عن عيالكم، والجار والمجرور بدل من قوله: ﴿ عَنْكُمْ ﴾ والمراد بالناس، أهل خيبر وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان. قوله: (لما خرجتم) أي للحديبية، وقوله: (وهمت بهم اليهود) أي يهود خيبر، هما بأخذ عيال النبي والصحابة من المدينة، في غيبة النبي للحديبية، وكان هو السبب في أخذ خيبر. قوله: (عطف على مقدر) هذا أحد قولين، والآخر أنها زائدة، وعليه فيكون تعليلاً لقوله: ﴿ كَفَّ ﴾.
قوله: ﴿ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي أمارة يعرفون بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم، عند الرجوع من الحديبية بتلك الغنائم. قوله: (أي طريق التوكل عليه) فسر الصراط المستقيم بما ذكر، لأن الحاصل من الكف ليس إلا ذلك، ولأن أصل الهدى حاصل قبله.- تنبيه - أن" رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع، وكان إذا غزا قوماً ينتظر الصباح، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً أغار عليهم، فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب عليهم، فخرجوا بمكاتلهم ومساحييهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا محمد والخميس أي الجيش، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين، وعن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:_@_تالله لولا الله ما اهتدينا_@_ ولا تصدقنا ولا صلينا_@_ _@_ونحن عن فضلك ما استغنينا_@_ فثبت الأقدام إن لاقينا_@_ _@_وأنزلن سكينة علينا_@_ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا؟ قال: أنا عامر، قال: غفر لك ربك، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد، قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله، لولا متعتنا بعامرـ قال: فلما قدمنا خيبر، قدم مهلكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:_@_قد علمت خيبر أني مرحب_@_ شاكي السلاح بطل مجرب_@_ _@_إذا الحروب أقبلت تلهب_@_ قال: وبرز له عمي عامر فقال:_@_قد علمت خيبر أني عامر_@_ شاكي. السلاح بطل مغامر_@_ قال: فاختلفا بضربتيهما، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل، فرجع سيفه على نفسه فقطه أكحله، فكانت فيها نفسه رضي الله عنه، قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله، بطل عمر عمي عامر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال ذلك؟ قلت: ناس من أصحابك، قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين، ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله؛ قال: فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد، حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية، فخرج مرحب فقال:_@_قد علمت خيبر أني مرحب_@_ شاكي السلاح بطل مجرب_@_ _@_إذا الحرب أقبلت تلهب_@_ فقال علي رضي الله عنه:_@_أنا الذي سمتني أمي حيدره_@_ كليث غابات كريه المنظره_@_ _@_أو فيهم بالصاع كيل السندرة_@_ قال: فضرب مرحبا فقتله، ثم كان الفتح على يده "، أخرجه مسلم بهذا اللفظ، وفي رواية أخرى" أنه خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز، فخرج إليه الزبير بن العوام، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب، أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: بل ابنك يقتله إن شالله الله، ثم التقيا فقتله الزبير، ثم لم يزل رسول الله يفتح الحصون، ويقتل المقاتلة، ويسبي الذرية، ويحوز الأموال، فجمع السبي فجاء دحية فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فلما دخل بها، رأى في عينها أثر خضرة، فسألها عن سببها فقالت: إني رأيت في المنام وأنا عروس بكنانة بن الربيع، أن قمراً وقع في حجري، فقصصت رؤياي على زوجي فقال: ما هذا إلا أنك تمنيت ملك الحجاز محمداً، ثم لطم وجهي لطمة اخضرت منها عيني، فلما ظهر رسول الله على خيبر، أراد اخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها، على أن يكفوهم العمل، ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء "قال محمد بن إسحاق: لما سمع أهل فدك بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم، ويخلوا لهم الأموال، ففعلوا بهم، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم على النصف كأهل خيبر ففعل، فكانت خيبر للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، فلما تطمأن رسول الله، أهدت له زينب بنت الحرث، امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية - يعني مشوية - وسألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم، وسمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدري رسول الله، تناول الذراع، فأخذها فلاك منها قطعة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، يعني ابتلعها، وأما رسول الله فلفظها ثم قال: إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك، فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكاً استرحنا منه، وإن كان نبياً فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر على مرضه الذي توفي فيه، فقال: يا أمر بشر، ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني، فهذا أول قطع أبهري؛ فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، مع ما أكرمه الله به من النبوة. قوله: (مبتدأ) أي وخبره قوله: ﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾ قوله: ﴿ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾ صفة لمغانم المقدر، وسوغ الابتداء بالنكرة الوصف، وهذا أسهل الأعاريب، ولذا اختاره المفسر. قوله: (هي فارس والروم) أي وباقي الأقطار. قوله: ﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾ أي أعدها لكم في قضائه وقدره، فهي محصورة لا تفوتكم. قوله: (أي لم يزل متصفاً) أشار بذلك إلى أن المراد من ﴿ كَانَ ﴾ الاستمرار.
قوله: ﴿ وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ ﴾ أي وهم أهل مكة ومن وافقهم، وقد كانوا اجتمعوا وجمعوا الجيوش، وقدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم، ولم يكن أسلم حينئذ، فما شعر بهم خالد، حتى إذا هم بفترة الجيش، أي بغبار أثرهم، فانطلق يركض نذيراً لقريش. قوله: ﴿ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ﴾ أي مضوا منهزمين. قوله: (من هزيمة الكافرين) (من) بيانية. قوله: ﴿ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ ﴾ أي مضت، وقوله: ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي فيمن مضى من الأمم. قوله: ﴿ تَبْدِيلاً ﴾ (منه) أي من الله تعالى، والمعنى: أن الله لا يبدل ولا يغير سنته وطريقته، من نصر المؤمنين، وخذلان الكافرين. قوله: (بالحديبية) بيامن لبطن مكة، والمراد بمكة الحرم، والحديبية تقدم فيها الخلاف، هل هي منه أو بعضها؟ فعلى الأول التعبير بالبطن ظاهر، وعلى الثاني فالمراد بالبطن الملاصق والمجاور. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ ﴾ أي أظهركم فتعديته بعلى ظاهرة. قوله: (فكان ذلك) أي العفو عنهم وتخلية سبيلهم. قوله: (سبب الصلح) أي لعلمهم أن هذا الأمر لا يقع إلا من قادر على قتالهم، غير مكترث بهم. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (معطوف على كم) أي الضمير المنصوب في صدوركم، وهو أحسن الأعاريب. قوله: (محبوساً) أي فالمعكوف الاحتباس، ومنه الاعتكاف المشهور، وه حبس النفس على ما تكره، مع ملازمة المسجد. قوله: (أي مكانه) أي المعهود، وهو منى للمحرم بالحج، والمروة للمحرم بالعمرة، وهو الأفضل، وإلا فالحرم كله محل النحر. قوله: (بدل اشتمال) أي من الهدي، والمعنى: صدوا بلوغ الهدي محله، ويصح أن يكون على اسقاط الخافض، أي عن أن يبلغ الهدي محله، والجار والمجرور إما متعلق بصدوكم، أو بمعكوفاً. قوله: (موجودون) هو خبر المبتدأ. قوله: (بل اشتمال من هم) أي والمعنى: لم تعلموا وطأهم، ويصح أن يكون بدلاً من رجال ونساء، والمعنى: ولولا وطء رجال ونساء قوله: (إثم) أي مكروه كالتأسف عليهم، أو المراد بالإثم حقيقته بسبب ترك التحفط.
قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (منكم به) أي بالقتل. قوله: (وجواب لولا محذوف) أي والمعنى: لولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين أظهر الكفار، حال كونكم جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه، لما كف أيديكم عنهم. قوله: (حينئذ) أي عام الحديبية. قوله: ﴿ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ ﴾ الخ، علة لما قدره المفسر بقوله: (لكن لم يؤذن). قوله: (كالمؤمنين المذكورين) أي كالمشركين، لأنه آل أمر أهل مكة إلى الإسلام إلا ما قل. قوله: (تميزوا) أي تفرقوا وانفردوا، ولكن لم يتميزوا، بل اختلط المستضعفون بالمشركين، والأصول المشركون بالفروع المسلمين، كالذراري الذين علم الله إسلامهم، فلم يحصل العذاب. قوله: (الأنفة) بفتحتين أي الكبر.
قوله: ﴿ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ﴾ بدل من الحمية قبلها، وهي فعلية مصدر يقال: حميت من كذا حمية، وحمية الجاهلية عدم الإذعان للحق ونصرة الباطل. قوله: ﴿ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾ معطوف على شيء مقدر، أي فضاقت صدور المسلمين، واشتد الكرب عليهم.
﴿ فَأَنزَلَ ﴾ الخ،" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية، بعثت قريش سهل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأحنف، على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامة ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتبوا بينهم كتاباً، فقال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: ما نعرف هذا، اكتب باسمك اللهم، ثم قال اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون، فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقروا وحلموا. قوله: (على أن يعودوا من قابل) أي وعلى وضع الحرب عشر سنين، قال البراء: صالحوهم على ثلاثة أشياء: على أن من أتاهم من المشركين مسلماً ردوه إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم فيها ثلاثة أيام، ولا يدخلها بسلاح، فكتب بذلك كتاباً، فلما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا وانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم أحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، لما حصل لهم من الغم، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له: يا نبي الله، اخرج ولا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج ففعل، فلما رأوا ذلك منه قاموا فنحروا، وجعل يحلق بعضهم بعضاً وروى ثابت عن أنس، أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم واشترطوا أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاء منا ردوه علينا، فقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال: نعم، إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم، فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. روي أنه بعد عقد الصلح، جاء جندل بن سهل بن عمرو بقيوده قد انفلت، وخرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال له سهل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي، قال: ما أنا بمجيره لك، قال: بل فافعل، قال: ما أنا بفاعل، ثم جعل سهل يجره ليرده إلى قريش، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً. وفي الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا جندل احتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وعقداً، وإنا لا نغدر، فقام عكر وتكلم طويل منه ما تقدم لنا عند قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ثم بعد رجوع رسول الله وأصحابه إلى المدينة، جاءه أبو بصير عتبة بن أسد من قريش مسلماً، فأرسلوا في طلبه رجلين، فسلمه النبي صلى الله عليه وسلم فقتل أحدهما، وفر عنه الآخر، فأتى أبو بصير سيف البحر وجلس هناك، فبلغ ذلك أبا جندل وأصحابه من المستضعفين، فلحقوا به حتى تكاملوا نحواً من سبعين رجلاً، فما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا تعرضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهما فأحضرهم المدينة. "قوله: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ أي اختار لهم، فهو إلزام إكرام وتشريف، والمراد تقوى الشرك. قوله: (لا إله إلا الله) هذه رواية أبي بن كعب، وقيل إنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وقيل إنها: بسم الله الرحمن الرحيم. قوله: ﴿ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا ﴾ أي في علم الله، لأنه اختارهم لدينه. قوله: (تفسيري) أي لاحق بها، أو الضمير في ﴿ بِهَا ﴾ لكلمة التوحيد، وفي أهلها للتقوى.
قوله: ﴿ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا ﴾ أي رؤياه صادقة محققة، لم يدخلها الشيطان، لأنه معصوم منه هو وجميع الأنبياء، وتأخيرها لا ينافي كونها حقاً وصدقاً، نظير رؤيا يوسف الصديق، أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدون له، فتأخرت الزمن الطويل، وبعد ذلك تحققت. قوله: (وراب بعض المنافقين) أي ارتاب، حيث قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام. قوله: (أو حال من الرؤيا) أي فهو متعلق بمحذوف، والتقدير ملتبسة بالحق، ويصح أن يكون ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ قسماً وجوابه قوله: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ ﴾ الخ، وعليه فالوقف على قوله: ﴿ ٱلْحَقِّ ﴾ وقوله: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف. قوله: (للتبرك) أي مع تعليم العباد الأدب، وتفويض الأمر إليه، وهو جواب عما يقال: إن الله تعالى خالق للأشياء كلها، وهو عالم بها قبل وقوعها، فكيف وقع منه التعليق بالمشيئة، مع أن التعليق إنما يكون من المخبر المتردد، أو الشاك في وقوع المعلق، والله منزه عن ذلك؟ فأجاب: بأن المقصود التبرك لا التعليق، ويجاب أيضاً: بأن المشيئة باعتبار جميع الجيش، فإن الذين حضروا عمرة القضاء كانوا سبعمائة، وأما باعتبار المجموع، فالقضاء مبرم لا تعليق فيه، ويجاب أيضاً: بأنه حكاية عن كلام الملك المبلغ للرسول كلام الله، أو حكاية عن كلام الرسول عليه السلام. قوله: ﴿ آمِنِينَ ﴾ حال مقارنة للدخول، والجملة شرطية معترضة. قوله: (مقدرتان) دفع بذلك ما قد يقال: إن حال الدخول هو حال الإحرام، وهو لا يتأتى معه حلق ولا تقصير. قوله: ﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾ (أبداً) أشار بذلك إلى أنه غير مكرر مع قوله: ﴿ آمِنِينَ ﴾ والمعنى: آمنون في حال الدخول، وحال المكث، وحال الخروج، وقد كان عند أهل مكة، أنه يحرم قتال من أحرم ومن دخل المحرم، فأفاد أنه يبقى أمنهم بعد خروجهم من الإحرام، قوله: (من الصلاح) أي وهو حفظ دماء المسلمين المستضعفين. قوله: ﴿ مِن دُونِ ذَلِكَ ﴾ أي قبله. قوله: (هو فتح خيبر) وقيل هو صلح الحديبية، وقيل هو صلح الحديبية، وقيل هو فتح مكة. قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ ﴾ تأكيد لتصديق الله رؤياه، والمعنى: حيث جعله رسولاً، فلا يريه خلاف الحق. قوله: ﴿ بِٱلْهُدَىٰ ﴾ أي القرآن أو المعجزات. قوله: ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾ أي ليعليه على جميع الأديان، فينسخ ما كان حقاً، ويظهر فساد ما كان باطلا. قوله (بما ذكر) أي ﴿ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ ﴾.
قوله: (كما قال) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ﴾ مؤكد لقوله:﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ ﴾[الفتح: ٢٨].
قوله: (لا يرحمونهم) أي لا يرأفون بهم، وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم، وقد بلغ من تشديدهم على الكفار، أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس أبدانهم. قوله: ﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي فكان الواحد منهم إذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه. قوله: ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً ﴾ إما خبر آخر أو مستأنف، والمعنى: أنهم في النهار على الأعداد أسود، وفي الليل ركع سجود. قوله: (حالان) أي من مفعول ﴿ تَرَاهُمْ ﴾.
قوله: (مستأنف) أي واقع في جواب مقدر، كأنه قيل: ماذا يريدون بركوعهم وسجودهم؟ فقيل: ﴿ يَبْتَغُونَ ﴾ الخ. قوله: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾ اختلف في تلك السيما، فقيل: إن مواضع سجودهم يوم القيامة ترى كالقمر ليلة البدر، وقيل: هو صفرة الوجوه من سهر الليل، وقيل: الخشوع الذي يظهر على الأعضاء، حتى يتراءى أنهم مرضى وليسوا بمرضى، وليس المراد به ما يصنعه بعض الجهلة المرائين من العلامة في الجبهة، فإن من فعل الخوارج، وفي الحديث:" إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود "قوله: (من ضميره) أي من ضمير ما تعلق به الخبر وهو كائنة. قوله: (المنتقل إلى الخبر) أي وهو الجار والمجرور. قوله: (أي الوصف المذكور) أي وهو كونهم ﴿ أَشِدَّآءُ ﴾ ﴿ رُحَمَآءُ ﴾ ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً ﴾ الخ.
﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ أي وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال. قوله: (مبتدأ وخبره) أي أن قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ والجملة خبر عن ذلك. قوله: ﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ ﴾ الخ، ويصح أن يكون مبتدأ خبره قوله: ﴿ كَزَرْعٍ ﴾ وحينئذ فيتوقف على قوله: ﴿ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾ ويكونان مثلين، وعليه مشى المفسر، ويصح أنه معطوف على ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ الأول، وحينئذ فيتوقف على قوله: ﴿ ٱلإِنجِيلِ ﴾ ويكونان مثلاً واحداً في الكتابين، وقوله: ﴿ كَزَرْعٍ ﴾ خبر لمحذوف أي مثلهم كزرع الخ، وهو كلام مستأنف. قوله: (بسكون الطاء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والشطء أفراخ النخل، والزرع أوراقه. قوله: (فراخه) بكسر الفاء جمع فرخ كفرع، لفظاً ومعنى. قوله: (بالمد) أي وأصله أأزره بوزن أكرمه، قلبت الهمزة الثانية ألفاً للقاعدة المعلومة، وقوله: (والقصر) أي فهو من باب ضرب، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (غلظ) أي فهو من باب استحجر الطير. قوله: ﴿ عَلَىٰ سُوقِهِ ﴾ متعلق باستوى. قوله: ﴿ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾ الجملة حالية، والمعنى حال كونه معجباً. قوله: (فكثروا) هو مأخوذ من قوله: ﴿ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾.
قوله: ﴿ فَآزَرَهُ ﴾ مأخوذ من قوله: ﴿ فَٱسْتَغْلَظَ ﴾ وقوله: (على أحسن الوجوه) مأخوذ من قوله: ﴿ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾.
قوله: ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ﴾ تعليل لما دل عليه التشبيه كأن قال: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ الخ. قوله: (لبيان) أي لا للتبعيض كما زعمه بعضهم. قوله: (لمن بعدهم) أي كالتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة. قوله: (في آيات) متعلق بما تعلق به قوله: (لمن بعدهم) أي كالتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة. قوله: (في آيات) متعلق بما تعلق به قوله: (لمن بعدهم) والمعنى: وهما ثابتان لمن بعد الصحابة في آيات كقوله تعالى﴿ سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾[الحديد: ٢١] - إلى قوله -﴿ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾[الحديد: ٢١].
- خاتمة - قد جمعت هذه الآية، وهي قوله: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ﴾ إلى آخر السورة، جميع حروف المعجم، وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية، باجتماع أمرهم، وعلو نصرهم رضي الله عنهم، وحشرنا معهم، نحن والدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه. وهذا آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصره له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً، ومن أجل ذلك اتخذ العارفون هذه الآية، ورداً وحصناً منيعاً.
Icon