تفسير سورة المطفّفين

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ جمع مُطفّف وهو الذي ينقص في الكيل والوزن، والتطفيف: النقصان وأصله من الطفيف وهو الشيء اليسير، لأن المطفّف لا يكاد يسرف في الكيل والوزن إِلا الشيء اليسير ﴿رَانَ﴾ غطَّى وغثَّى كالصدأ يغشى السيف، وأصله الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبته قال الشاعر:
«وكمْ رانَ من ذنبٍ على قلب فاجر»... ﴿رَّحِيقٍ﴾ أجود الخمر وأصفاه وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر وقال الأخفش: هو الشراب الذي لا غش فيه قال الحسن:
بَرَدى يُصفِّق بالرحيقِ السَّلْسَلِ... ﴿فَكِهِينَ﴾ معجبين متلذين ﴿يَتَغَامَزُونَ﴾ يشيرون إِليهم بالأعين استهزاءً ﴿ثُوِّبَ﴾ جوزي ﴿تَسْنِيمٍ﴾ عنيٌ عالية شرابها أشرف شراب، وأصل التسنيم الارتفاع ومنه سنام البعير.
سَبَبُ النّزولك عن ابن عباس قال «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل اله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ فأحسنوا الكيل بعد ذلك».
التفسِير: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله ﴿الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ﴾ أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف ب «أبي جهينة» كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم المكيال والميزان، وفي الحديث «ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين» ﴿أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي ألا يعلم ويستقين أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب، شديد الهول، كثير الفزع؟! ﴿يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين﴾ أي يوم يقفون
506
في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال في البحر: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين﴾ حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه.. ثم ذكر تعالى مآل الفجار، ومآل الأبرار فقال ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ﴾ أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن الغفلة عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما هو سجين؟ ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير: ﴿سِجِّينٌ﴾ مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أي هلاك ودمار للمكذبين ﴿الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين﴾ أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناقطة بحصول البعث والجزاء، قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم، فيهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عَزَّ وَجَلَّ وقال مالك: لما حجب أعداءه لم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم﴾ أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لدخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم ﴿ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا
﴿أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الطور: ١٥] ؟.. وبعد الحديث عن حال الفجار، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ ﴿كَلاَّ﴾ ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل كتابه في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهو مكان عالٍ مشرَّف في أعلى
507
الجنة، قال في التسهيل: ولفظ ﴿عليين﴾ للمبالغة، وهو مشتق من العلو لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليون؟ ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون﴾ أي كتابٌ الأبرار كتابٌ مسطَّر، مكتوب فيه أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون: إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب يشهده المقربون ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾ أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة، والضلال الممتدة يتنعمون ﴿عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾ أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم﴾ أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾ أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي آخر الشراب تفووح منه رائحة المسك ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾ أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال الطبري: التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عليه الناس، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى «التسنيم» ولهذا قال بعده ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون﴾ أي هي عينٌ في الجننة يشر منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة قال في التسهيل: تسنيم أسمٌ لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار.
. ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ أي أن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل: نزلت هذه الآية في صناديق قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين بالكفار، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم عليهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين ﴿وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾ أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إلى
508
منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذيين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال في البحر: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾ أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم ﴿وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول: أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بفحظ أعمال عبادي المؤمنين، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم؟ ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ﴾ أي ففقي هذا اليوم يوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً ﴿عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾ أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون ﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كنوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء؟ نعم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير للتهويل والتفخيم ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾.
٢ - الطباق بي ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ و ﴿يُخْسِرُونَ﴾.
٣ - المقابلة بين حال الفجار والأبرار ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار..﴾ الخ و ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ..﴾ الخ.
٤ - التفخيم والتعظيم لمراتب الأبرار ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ ؟
٥ - جناس الاشتقاق ﴿فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾.
٦ - الإِطناب بذكر أوصاف ونعيم المتقين ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم﴾.
٧ - التشبيه البليغ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
٨ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل ﴿يَضْحَكُونَ، يَنظُرُونَ، يَكْسِبُونَ، يَفْعَلُونَ﴾ الخ.
509
Icon