تفسير سورة الحج

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الحج من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ ﴾ الخ، تعليل للأمر بالتقوى، والمعنى اتقوا ربكم لتأمنوا من المخاوف، فإن من دخل حضرته أمن من كل ما يزعج، قال تعالى:﴿ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾[الدخان: ٥١] وإضافة زلزلة الساعة، من إضافة المصدر لفاعله، والمفعول محذوف تقديره الأرض، وإسناد الزلزلة للساعة مجاز عقلي لأنها مقدماتها ومن علاماتها الكبرى، لما روي في حديث الصور:" إنه قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات، نفخة الفزع، ونخفة الصعق، ونخفة القيام لرب العالمين، وإن عند نفخة الفزع، يسير الله الجبال وترجف الراجعة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج، كالمناديل المعلق تحركه الرياح ". قوله: (أي الحركة الشديدة) أي وتكون تلك الحركة في نصف رمضان. قوله: (التي يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها) أشار المفسر بذلك، إلى أن تلك الزلزلة، تكون في الدنيا قبل طلوع الشمس من مغربها، ويقوي هذا القول قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾ الآية، والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقيل تكون في النفخة الأولى، وقيل تكون مع قيام الساعة عند النفخة الثانية، وحينئذ يكون قوله: ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ مبالغة، أي إن الزلزلة، من شدة هولها وعظمة شأنها، أن تذهل كل مرضعة، عن ولدها. قوله: ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ (بالفعل) والمعنى مباشرة للإرضاع. قوله: ﴿ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾ يصح أن تكون ما مصدرية، أي عن إرضاعها، ويصح أن تكون ما موصولة، أي عن الذي أرضعته. قوله: ﴿ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ ﴾ هو بفتح الحاء، ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وأما الحمل بكسر الحاء، فهو ما يحمل على الظهر. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ استدراك على محذوف تقديره: فهذه الأحوال ليست شديدة ولكن عذاب الله الخ فيما بعد، لكن مخالف لما قبلها، وهاتان الآيتان قيل: نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس حتى كانوا حوله، فقرأهما عليهم، فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام، ولم يطبخوا؛ والناس من بين باك وجالس حزين متفكر. قوله: ﴿ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ ﴾ أي في قدرته وصفاته العظيمة. قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ حال من فاعل يجادل. قوله: (وأنكر البعث) أي حيث قالوا:﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾[المؤمنون: ٨٢].
قوله: ﴿ مَّرِيدٍ ﴾ أي عات، والمراد: إما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده، وهو الأقرب لقوله في الآية الأخرى:﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾[فاطر: ٦].
قوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ ﴾ هو فعل مبني للمفعول، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل. قوله: ﴿ مَن تَوَلاَّهُ ﴾ إما شرطية والفاء واقعة في جوابها، أو موصولة، والفاء زائدة في الخير لشبه المتبدإ بالشرط. قوله: (يدعوه) أي وسمى الدعاء هداية تهكماً بهم. قوله: (أي النار) أشار بذلك إلى أن المراد بالسعير النار بجميع طبقاتها، لا الطبقة المسماة بذلك.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر من يجادل في قدرة الله بغير علم، وكان جدالهم في البعث، ذكر دليلين على ذلك، الأول في نفس الإنسان وابتداء خلقه، والثاني في الأرض وما يخرج منها، فإذا تأمل الإنسان فيهما، ثبت عنده البعث، وأنه واقع لا محالة. قوله: ﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ أي بأن تصير النطفة دماً جامداً، وهكذا يقال فيما بعده، بدليل قوله تعالى في سورة المؤمنين﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾[المؤمنون: ١٤] لما ورد: أن النطفة إذا وقعت في الرحم، وأراد الله أن يخلق منها بشراً، طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة، ثم تمكث أربعين يوماً ثم تصير دماً في الرحم، فذلك جمعها، وهو وقت جعلها علقة، واتفقوا على أن نفخ الروح فيه، يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك أربعة أشهر. قوله: (تامة الخلق) أي تامة التصوير، بأن خلق الرأس واليدان والرجلان. قوله: (أي غير تامة الخلق) أي غير تامة التصوير، بأن لم يخلق فيها شيء من ذلك. قوله: (كمال قدرتنا) قدره إشارة إلى أن مفعول نبين محذوف. قوله: ﴿ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ ﴾ أي فلا تسقطه الرحم. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي معين لإخراجه، فتارة يخرج لستة أشهر، وتارة لأكثر. قوله: ﴿ طِفْلاً ﴾ حال مفعوله ﴿ نُخْرِجُكُمْ ﴾ وأفرده لأنه مصدر في الأصل، أو لأنه يراد به الجنس، أو لأن المعنى نخرج كل واحد منكم طفلاً، كقولك: القوم يشبعهم رغيف، أي كل واحد منهم، والطفل يطلق على الولد من حين الانفصال إلى البلوغ. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ ﴾ قيل هو خمس وسبعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل تسعون، قوله: (والخوف) بفتحتين، هو فساد العقل من الكبر. قوله: ﴿ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ ﴾ متعلق بيرد، أي لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً، ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية، من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه. قوله: (قال عكرمة: من قرأ القرآن) الخ، أي فهو مخصوص بغير من قرأ القرآن والعلماء، وأما هم فلا يردون إلى الأرذل، بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم، كما هو مشاهد. قوله: ﴿ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً ﴾ هذا هو الدليل الثاني على تمام قدرته تعالى. قوله: (تحركت) أي في رأي العين بسبب حركة النبات، قوله: ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ أي هذا الصنع، بسبب أنه تعالى هو الثابت الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً، الموجد للأشياء على طبق علمه وإرادته. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ ﴾ توكيد لقوله: ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾، وكذا قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ ﴾.
قوله: (ونزل في أبي جهل) واسمه عمرو بن هشام، وأبو جهل كنيته، ويكنى أيضاً بأبي الحكم. قوله: ﴿ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ عطف على قوله: ﴿ ومِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ الأول، والمعنى أن الكفار تنوعوا في كفرهم، فبعضهم كان يقلد غيره في الكفر، وقد دلت الآية الأولى على هذا القسم، وبعضهم كان قدوة يقتدي به غيره في الضلال والكفر، وقد دلت هذه الآية عليه، وبعضهم كان يدخل الإسلام باللسان، وفي قلبه الريب والشك، وهو الآتي في قوله:﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ﴾[الحج: ١١] وحينئذ فليس في الآية تكرار. قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي معرفة، وقوله: ﴿ وَلاَ هُدًى ﴾ أي استدلال، وقوله: ﴿ وَلاَ كِتَابٍ ﴾ أي وحي. والمعنى أنه يجادل من غير مستند أصلاً.
قوله: ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ أي لاوي جنبه، والمراد منه الإعراض عن الحقن لأن شأن من أعرض عن شيء لوى جنبه عنه، فشبه عدم التمسك بالحق بليّ الجانب، واستعير اسم المشبه به لمشبه بجامع الإعراض في كل على طريق الاستعارة التصريحية الأصيلة، والعامة على كسر العين وهو الجانب، وقرئ شذوذاً بفتحها، وهو مصدر بمعنى التعطف، كأنه قال: تاراكاً تعطفه في رحمته وتمسك بالقسوة. قوله: (أي لاوي عنقه) الأوضح أن يقول جنبه، لأن العطف بالكسر الجانب، إلا أن يقال: يلزم من ليّ الجانب ليّ العنق. قوله: ﴿ لِيُضِلَّ ﴾ متعلق بيجادل، وقوله: (بفتح الياء) أي فهو فعل لازم، والمعنى ليحصل له الضلال في نفسه، وقوله: (وضمها) أي فهو متعد، والمعنى ليوقع غيره في الضلال. وهما قراءتان سبعيتان، واللام للعاقبة والصيرورة. قوله: (عذاب) في بعض النسخ زيادة ثقيل، ومعناه عظم متكرر، وأخذ ذلك من التنوين على حد: أشر هو ذا ناب. قوله: ﴿ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ من إضافة الموصوف لصفته، أي العذاب المحرق أو الحريق، طبقة من طباق جنهم. قوله: (ويقال له) أي من قبل الله على ألسنة ملائكة العذاب. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي ما ذكر من الخزي وعذاب الحريق. قوله: (عبر عنه بهما) الخ، جواب عما يقال: لم خص اليدين بالذكرك، مع أن الفاعل هو الشخص ذاته؟ قوله: (تزول) أي تعالج. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ عطف على ﴿ قَدَّمَتْ ﴾.
قوله: (أي بذي ظلم) أي فظلام صيغة نسبة كثمار ونجار، ودفع بذلك ما يقال: إن نفي الكثير يستدعي ثبوت أصل الظلم مع أنه مستحيل، لأن الظلم التصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولا ملك لأحد معه، لأن حكمه في ملكه دائر بين الفضل والعدل، فلا يسأل عما يفعل وحينئذ فلا يليق من الشخص الاعتراض على أحكام الله تعالى، وإنما يرضى ويسلم، ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة. قوله: (فيعذبهم بغير ذنب) أي وسماه ظلماً، لأنه وعد الطائع بالجنة، ووعده لا يتخلف، لكن لو فرض لم يكن ظلماً.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ﴾ نزلت في المنافقين وأعراب البوادي، كان أحدهم إذا قدم المدينة، فصح فيها جسمه، ونتجت بها فرسه مهراً، وولدت امرأته غلاماً، وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، وقد أصبت فيه خيراً واطمأن له، وإن أصابه مرض، وولدت امرأته جارية، ولم تلد فرسه، وقل ماله، قال: ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شراً، فينقلب عن دينه، وقوله: (على حرف) حال من فاعل يعبد أي متزلزلاً، وقد صار مثلاً، لكل من كان عنده شك في شيء. قوله: (أي شك في عبادته) أي ضعف يقين فيها. قوله: (شبه بالحال على حرف جبل في عدم ثباته) أشار بذلك إلى أن في الآية استعارة تمثيلية، حيث شبه حال من دخل الإسلام من غير اعتقاد وصحة قصد، بحال الجالس على طرف جبل، تحته مهاوي بجامع التزلزل وعدم الثبات في كلّ؟قوله: ﴿ ٱطْمَأَنَّ بِهِ ﴾ أي رضي به وسكن إليه. قوله: ﴿ فِتْنَةٌ ﴾ المراد بها هنا، كل مكروه للطبع وثقيل على النفس، ولم يقل وإن أصابه شر ليقع في مقابلة الخير، لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شراً في نفسه، بل قد يكون خيراً، إذا حصل معه الرضا والتسليم. قوله: ﴿ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ ﴾ أي ارتد للحالة التي كان عليها أولاً، من الكفر والاعتراض على الله تعالى. قوله: (بفوات ما أمله) أي وهو كثرة ماله واجتماعه بأحبائه. قوله: ﴿ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ ﴾ أي الذي لا خسران مثله، لفوات حظه في الدنيا والآخرة. قوله: (من الصنم) لا مفهوم له، بل مثله كل مخلوق، والحاصل أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية تقال أيضاً لمن التجأ للمخلوق، وترك الخالق معتمداً على ذلك المخلوق، وأما الالتجاء للمخلوق، من حيث إنه مهبط الرحمات، كمواصلة آل البيت والأولياء والصالحين فهو مطلوب، وهو في الحقيقة التجاء للخالق، يقرب ذلك أن الله تعالى أمرنا بالجلوس في المساجد، والطواف بالبيت، وقيام ليلة القدر ونحوها، وما ذاك إلا للتعرض للرحمة النازلة في تلك الأماكن والأزمان، فلا فرق بين الأشخاص وغيرها، فهم مهبط الرحمات لا منشؤها تأمل. قوله: (اللام زائدة) أي ومن مفعول يدعو، و ﴿ يَضُرُّهُ ﴾ مبتدأ، و ﴿ أَقْرَبُ ﴾ خبره، والجملة صلة ﴿ مِن ﴾ إن قلت: إنه أثبت الضر والنفع هنا، ونفاهما فيما تقدم، فقد حصل التعارض والتناقض. أجيب: بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر، والإثبات باعتبار زعمهم الباطل. قوله: (هو) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالذم محذوف. قوله: (وعقب ذكر الشاك بالخسران) الجار والمجرور حال من (الشاك) والباء للملابسة، وقوله: (بذكر المؤمنين) متعلق بعقب، والمعنى لما ذكر الشاك في الدين حال كونه ملتبساً بالخسران، ذكر عقبه المؤمنين، وما أعد لهم من الثواب الجزيل. قوله: (من الفروض) أي وهي ما أمر بها المكلف أمراً جازماً، يترتب على فعلها الثواب وعلى تركها العقاب، وقوله: (والنوافل) هي ما أمر بها الشخص أمراً غير جازم، يترتب على فعلها الثواب، وليس في تركها عقاب. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ أي من تحت قصورها. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ أي فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل.
قوله: ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ ﴾ هذه الآية مرتبطة بقوله:﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ﴾[الحج: ١١] وأما قوله:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾[الحج: ١٤] الخ، فهو معترض بين أوصاف الشك، لجري عادة الله بذكر أهل الوعد إثر أهل الوعيد. والمعنى: من كان يظن من الكفار والشاكين في دينهم، أن الله لا ينصر محمداً في الدنيا وفي الآخرة، فليأت بحبل يشده في سقف بيته وفي عنقه، ثم يختنق به حتى يموت، فلينظر هل فعل هذا يذهب غيظه وهو نصرة محمد؟ فالإتيان بالحبل والاختناق به، كانية عن كونه يموت غيضاً، فيكون بمعنى قوله تعالى:﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾[آل عمران: ١١٩] وهذا هو المشهور في تفسير الآية، ولذا مشى عليه المفسر. وقيل: إن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ثم ليقطع النصر عنه وينظر هل يذهب ما احتال به غيظه إن أمكنه ذلك؟ قوله: (بأن يقطع نفسه) بالتحريك وهو إشارة إلى أن مفعول يقع محذوف. قوله: (كما في الصحاح) راجع لجميع ما ذكر من قوله: (بحبل) ﴿ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ الخ، و(الصحاح) بفتح الصاد اسم كتاب في اللغة، للإمام أبي النصر إسماعيل بن حماد الجوهري. قوله: ﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ ﴿ مَا ﴾ اسم موصول صفة لموصوف محذوف، و ﴿ يَغِيظُ ﴾ صلته والعائد محذوف والتقدير الشيء الذي يغيظه. قوله: (منها) بيان لما الواقعة على نصرة النبي. قوله: (حال) أي من الهاء في ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾.
قوله: (على أنزلناه) أي فالمعنى وأنزلنا أن الله يهدي من يريد، أي ويضل من يريد، ففي الآية اكتفاء، قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، أي فالأديان ستة، واحد للرحمن وأصحابه في الجنة، وخمسة للشيطان وأصحابها في النار. قوله: ﴿ وَٱلْمَجُوسَ ﴾ قيل هم قوم يعبدون النار، وقيل الشمس، ويقولون: العالم له أصلان، النور والظلمة، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات، والأصل نجوس أبدلت النون ميماً. قوله: (طائفة منهم) أي من اليهود، وقيل هم طائفة من النصارى. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ تعليل لقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ﴾.
قوله: (عالم) أشار بذلك إلى أن الشهيد معناه الذي لا يغيب عنه شيء.
قوله: ﴿ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ ﴾ عطف خاص على قوله: ﴿ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ ونص عليها لما ورد: أن بعضهم كان يعبدها. قوله: ﴿ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ ﴾ عطف خاص على ﴿ مَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾ وخصها بالذكر لأن بعضهم كان يعبدها. قوله: (أي يخضع له) أشار إلى أن المراد بالسجود الخضوع والانقياد لله، وهو أحد قولين، وقيل المراد بالسجود حقيقته لأنه ورد: ما في السماء نجحم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، وقال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ ﴾[الرعد: ١٥].
قوله: ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾ أشار المفسر إلى أنه معطوف على فاعل ﴿ يَسْجُدُ ﴾.
قوله: (يشقه) أي يحتم عليه الشقاء، وهو عدم الاهتداء. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي فلا حرج عليه ولا منازع له في حكمه. قوله: ﴿ هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ﴾ اسم الإشارة يعود على المؤمنين والكفار كما قال المفسر، وسبب نزولها: تخاصم حمزة وعلى وعبيدة بن الحرث، مع عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، فكان كل من الفريقين يسب دين الآخر، وقيل نزلت في المسلمين وأهل الكتاب، حيث قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم، وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا وكفرتم حسداً. واختلف هل هذا الخصام في الدنيا والتعقيب بقوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ، باعتبار تحقق مضمونه، أو في الآخرة بدليل التعقيب، ولذا قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى. قوله: (وهو يطلق على الواحد والجماعة) أي لأنه مصدر في الأصل، والغالب استعماله مفرداً مذكرً، وعليه قوله تعالى:﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ ﴾[ص: ٢١] ويثنى ويجمع كما هنا. قوله: ﴿ ٱخْتَصَمُواْ ﴾ جمعه باعتبار ما احتوى عليه الفريق من الأشخاص، فالجمع باعتبار المعنى كقوله تعالى:﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ ﴾[الحجرات: ٩] قوله: (أي في دينه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ﴾ أي قدرت على قدر جثثهم، ففي الكلام استعارة تمثيلية، حيث شبه إعداد النار وإحاطتها بهم، بتفصيل ثياب لهم وسترها لأبدانهم وجمع الثياب، لأن تراكم النار عليهم، كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض، وهو أبلغ من مقابلة الجمع بالجمع. قوله: ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ ﴾ لما ذكر أن الثياب تغطي الجسد غير الرأس، ذكر ما يصيب الرأس، ولما ذكر ما يصيب ظاهر الجسد، ذكر ما يصيب باطنه، وهو الحميم الذي يذيب ما في البطون من الأحشاء، لما في الحديث:" إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم، فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان "قوله: ﴿ وَ ﴾ (تشوى به) ﴿ ٱلْجُلُودُ ﴾ أشار بذلك إلى أن الجلود مرفوع بفعل مقدر، لأن الجلود لا تذاب نظير: علفتها تبناً وماءً بارداً. ويصح أن يكون معطوفاً على ماء، ويراد بالإذابة التقطع. قوله: ﴿ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ ﴾ جمع مقمعة بكسر الميم آلة القمع أي الضرب والزجر.
قوله: ﴿ مِنْ غَمٍّ ﴾ أي من أجل حصوله لهم. قوله: ﴿ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ اي لما ورد: أن جهنم تفور بهم، فيصعدون إلى أعلاها، فيردون الخروج منها، فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد، فيهوون فيها سبعين خريفاً. قولهخ: ﴿ وَ ﴾ (قيل لهم) أي تقول لهم الملائكة ذلك. قوله: ﴿ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ من إضافة الموصوف للصفة، أي العذاب المحرق. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، لم يقل في حقهم والذين آمنوا عطفاً على قوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ إشارة لتعظيم شأن المؤمنين. قوله: ﴿ ٱلأَنْهَارُ ﴾ جمع نهر. والمعنى: تجري من تحت قصورهم. قوله: ﴿ مِنْ أَسَاوِرَ ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ إما زائدة أو للتبعيض أو لبيان الجنس، وقوله: ﴿ مِن ذَهَبٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ لابتداء الغاية. قوله: (بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب) العبارة فيها قلب، والأصل بأن يرصع الذهب باللؤلؤ، وقيل إنهم يلبسون الأساور من نوعنين: الذهب واللؤلؤ وفي آية هل أتى﴿ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ ﴾[الإنسان: ٢١] فهم يلبسونها من الأنواع الثلاثة لما ورد: أن المؤمن يسور في الجنة بثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ. وفي الحديث:" تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء ". قوله: ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ غاير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريراً، إشارة إلى أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى الجملة الاسمية يدل على الدوام. قوله: (وهو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا) أي يوصلهم الله في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام:" من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الأخرة "واختلف في معنى الحديث فقيل: لم يلبسه في الآخرة إذا مات مصراً ودخل النار، فلا ينافي أنه إذا دخل الجنة يلبسه، وقيل لم يلبسه أصلاً ولو دخل الجنة، بل يتنعم بغير الحرير، وأما هو فلا يشتهيه فيها، والمعتمد الأول، وكذا يقال في الأحاديث الواردة فيمن شرب الخمر ولبس الذهب. قوله: (وهو لا إله إلا الله) أي مع عديلتها وهي محمد رسول الله فهي أفضل القول، لما في الحديث:" أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، فهي رأس المال لذاكرها، لا يقبل شيء من الأعمال بها، فمن مات عليها حصلت له السعادة "نسأل الله الثبات عليها في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه. قوله: ﴿ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ ﴾ أي وهو دين الإسلام، وسمي صراطاً لأنه طريق يوصل إلى رضا الله تعالى. قوله: (أي طريق الله المحمودة) أشار بذلك إلى أن الحميد وصف لله تعالى، ومعناه المحمود في أفعاله.
قوله: ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ معطوف على ﴿ كَفَرُواْ ﴾ ففيه عطف المستبقل على الماضي، وحينئذ فإما أن يراد بالماضي المضارع، أو يجرد المضارع عن معناه، بأن يراد به الثبوت والاستمرار لتناسب العطف، وهذا هو الأحسن، ولا يصح جعل ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ حالاً، لأن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالاً لا تقرن بالواو، قال ابن مالك: وذات بدء بمضارع ثبت   حوت ضميراً ومن الواو خلتولا جعل الواو زائدة، لأن الأصل عدمها، وخبر ﴿ إِنَّ ﴾ محذوف يقدر بعد قوله: ﴿ وَٱلْبَادِ ﴾ لدلالة قوله: ﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ والتقدير (نذيقهم من عذاب أليم) كما سيأتي للمفسر. قوله: (منسكاً) قدره إشارة إلى أن مفعول جعلنا الثاني محذوف، وقوله: (ومتعبداً) عطف تفسير. قوله: ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ ظرف لغو، إما متعلق بمنسكاً الذي قدره المفسر أو يجعلنا، وهذا التقدير إنما هو لإيضاح المعنى، وإلا فيصح جعل جملة ﴿ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ ﴾ مفعولاً ثانياً، وعلى ما قدره المفسر تكون حالية. قوله: ﴿ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ ﴾ ﴿ سَوَآءً ﴾ بالرفع خبر مقدم، و ﴿ ٱلْعَاكِفُ ﴾ وما عطف عليه مبتدأ مؤخر، وقرأ حفص بالنصب فيعرب حالاً، والعاكف مرفوع على الفاعلية لسواء، لأنه مصدر وصف به، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق تقريره: جعلناه مستوياً فيه العاكف، الخ. والمعنى أن المقيم في المسجد والطارئ سواء في النزول به، فمن سبق إلى مكان فيه فهو حقه، لا يقيمه منه غيره، وليس المراد أن دور مكة غير مملوكة لأربابها؛ فالغريب وأهل البلد سواء فيها، بل هي مملوكة لأربابها، ويجوز بيعها وإجارتها. قوله: ﴿ وَٱلْبَادِ ﴾ بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، أو حذفها فيهما، أو حذفها وقفاً وإثباتها وصلاً، ثلاث قراءات سبعيات، وقوله: (الطارئ) دفع به ما يتوهم من قوله البادي، أن المراد به ساكن البادية، بل المراد به الطارئ كان من البادية أو لا، وإنما سمي الطارئ بادياً، لأنه لا يأتي إليها إلا من البادية. قوله: ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ ﴾ أي يقصد في المسجد الحرام. قوله: ﴿ بِإِلْحَادٍ ﴾ أي عدول عن الاعتدال قوله: (الباء زائدة) أي في المفعول. قوله: ﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي في الآخرة إلا أن يتوب. وأخذ منه أن السيئة في مكة أعظم من السيئة في غيرها، ومن هنا كره مالك المجاورة في مكة لغير أهلها وندبها بالمدينة. قوله: (ومن هذا) أي جواب الشرط. قوله: (يؤخذ خبر إن) أي ويكون مقدراً بعد قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ بَوَّأْنَا ﴾ ظرف لمحذوف. قوله: (بينا) ﴿ لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ ﴾ أي أرينا أصله ليبنيه حين أسكن ولده إسماعيل وأمه هاجر في تلك الأرض، وأنعم الله عليهما بزمزم، فدعا الله بعمارة هذا البيت، فبعث الله له ريحاً هفافة، فكشفت عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه، لأن أساسه في الأرض كما قيل ثلاثون ذراعاً بذراع آدم، وقيل بعث الله تعالى سبحانه بقدر البيت، فقامت بحذاء البيت وفيه رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبنى عليه، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعه، وأدخل الحجر في البيت، ولم يجعل له سقفاً، وجعل له باباً، وحفر له بئراً يلقى فيه ما يهدى للبيت، وبناه قبله شيث، وقبل شيث آدم، وقبل آدم الملائكة، ثم بعد إبراهيم بناه العمالقة، ثم جرهم، ثم قصي، ثم قريش، ثم الزبير، ثم الحجاج، وهي باقية الآن على بنائه، ثم يهدمها في آخر الزمان ذو السويقتين، فيجددها عسى ابن مريم عليه السلام. قوله: (وأمرناه) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ ﴾ معمول لمحذوف، وذلك المحذوف معطوف على ﴿ بَوَّأْنَا ﴾.
قوله: (من الأوثان) قيل المراد بها الأصنام، لأن جرهماً والعمالقة، كانت لهم أصنام في محل البيت قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام، وقيل المراد نزهه عن أن يعبد فيه غيره تعالى، فهو كناية عن إظهار التوحيد، ويصح أن يكون المراد طهره من الأقذار والأنجاس والدماء، وجميع ما تنفر منه النفوس. قوله: ﴿ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ ﴾ أي بالدعاء إليه والأمر به. قوله: (على جبل أبي قبيس) أي فلما صعد للنداء، خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى، فنادى في الناس بالحج، فأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يومئذ إلى يوم تقوم الساعة، إلا من أجاب إبراهيم عليه السلام يومئذ، فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي أجبتك إجابة بعد إجابة. قوله: ﴿ يَأْتُوكَ ﴾ أي يأتوا مكانك، لأن المقصود إتيان البيت لا إتيان إبراهيم، وقوله: ﴿ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ ليس في دليل على أن راكب البحر لا يجب عليه الحج، لأن مكة ليست على البحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ التضمير في الأصل أن تعلف الفرس حتى يسمن، ثم تقلل عنه الأكل شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى حد القوت، وحينئذ فيكون سريع الجري، وقدم الراجل لما ورد: أن له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات المحرم، كل حسنة مائة ألف حسنة، وللراكب بكل خطوة سبعون حسنة، وأخذ الشافعي من هذا الحديث، أن المشي أفضل من الركوب، وقال مالك: الركوب أفضل لأنه أقرب للشكر، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج راكباً، ولو كان المشي أفضل لفعله رسول الله، أجاب عن الحديث بأنه مزية، وهي لا تقتضي الأفضلية. قوله: (حملاً على المعنى) أي حيث ألحق الفعل العلامة، ولو راعى اللفظ لقال يأتي. قوله: (بالتجارة) أي لأنها جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن مقصودة بالسفر.
قوله: ﴿ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ ﴾ أي عند إعداد الهدايا وذبحها. قوله: (عشر ذي الحجة) أي وسميت معلومات، لحرص الحجاج على علمها، لأن وقت الحج في آخرها. قوله: (إلى آخر أيام التشريق) راجع للقولين قبله. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ ﴾ أي لأجل ما رزقهم. قوله: ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ أمر إباحة لمخالفة ما كانت عليه الجاهلية من عدم الأكل من لحوم هداياهم، فأمر الله بمخالفتهم واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً جاز الأكل منه، واختلفوا في الهدي الواجب، فقال الشافعي: لا يأكل منه، وقال مالك: يأكل من كل هدي وجب، إلا من جزاء الصيد وفدية الأذى والنذر إذا قصد به المساكين، وقال أصحاب أبي حنيفة: يأكل من دم التمتع والقران، ولا ياكل من واجب سواهما. قوله: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ﴾ أي بعد تمام حجهم وتحللهم، لأن الواجب فعله يوم النحر أربعة أشياء على الترتيب: الرمي فالنحر فالحلق فطواف الإفاضة، فبعد الفراغ منها، حل له كل شيء كان محرماً عليه قبل الإحرام. قوله: (بالتشديد والتخفيف) هما قراءتان سبعيتان. قوله: (لأنه أول بيت وضع) وقيل سمي عتيقاً، لأن الله أعتقه من تسلط الجبابرة عليه، ومن الغرق لأنه رفع أيام الطوفان. قوله: (أي الأمر أو الشأن ذلك) أشارة بذلك إلى أن قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ خبر لمحذوف، وهذا على عادة الفصحاء، إذا ذكروا جملة من الكلام، ثم أرادوا الخوض في كلام آخر، يقولون هذا وقد كان كذا، فهو يذكر للفصل بين كلامين، أو بين وجهي كلام واحد. قوله: (هي ما لا يحل انتهاكه) أي وهي التكاليف التي كلف الله بها عباده، من واجب وسنة ومندوب ومكروه وحرام، وتعظيمها كناية عن قبولها والخضوع لها، فتعظيمه في الواجب والسنة والمندوب فعل كل، وفي المكروه والحرام ترك كل، بل وترك ما يؤدي لذلك. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ أي قربة وطاعة يثاب عليها في الآخرة، واسم التفضيل على بابه، باعتبار ما يزعمه أهل اللهو والفسوق، من أن من أطلق نفسه في الشهوات فقد أصاب حظه، فهو خير باعتبار ما عندهم، لاعتبار ما عند الله لما ورد: رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً. قوله: ﴿ ٱلأَنْعَامُ ﴾ أي الإبل والبقر والغنم. قوله: (بعد الذبح) أي أو النحر أو العقر. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ أي إلا مدلول الآية التي تتلى عليكم. قوله: (فالاستثناء منقطع) أي ووجهه أن في الآية ما ليس من جنس الأنعام، كالدم ولحم الخنزير. قوله: (ويجوز أن يكون متصلاً) أي ووجهه العموم في قوله الأنعام، لأن ظاهره حل الأنعام مطلقاً، ولو منخنقة وموقوذة ومتردية، فأفاد أن الحلال ما عدا ما في الآية. قوله: ﴿ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ ﴾ هو في الأصل القذر والأوساخ، وعبادة الأوثان قذر معنوي. قوله: ﴿ قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾ تعميم بعد تخصيص، لأن عبادة الأوثان رأس الزور. قوله: (أي الشرك بالله في تلبيتهم) أي فإنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك. إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. قوله: (أو شهادة الزور) أي الشهادة بما لا يعلم حقيقته. قوله: ﴿ حُنَفَآءَ للَّهِ ﴾ أي مخلصين له. قوله: (حالان من الواو) أي في ﴿ ٱجْتَنِبُواْ ﴾ لكن الأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة. قوله: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾ الخ، هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك، والمعنى أنه شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء، في أن كلاً لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع، فهو هالك لا محالة، إما بتخطف الطير لحمه، أو تفرقة الرياح لأجزائه، في أمكنة بعيدة لا يرجى خلاصه. قوله: (يقدر قبله الأمر مبتدأ) أي واسم الإشارة خبر نظير ما تقدم. قوله: ﴿ شَعَائِرَ ٱللَّهِ ﴾ جمع شعيرة أو شعارة. قوله: (وهي البدن) فسرها بذلك، وإن كانت الشعائر في الأصل أعلام الحج وأفعاله مراعاة للسياق. قوله: (بأن تستحسن) أي تختار حسنة، بأن تكون غالية الثمن، لما روي أن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. قوله: ﴿ مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ ﴾ أي من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وقوله: (منهم) قدره إشارة إلى أن العائد محذوف. قوله: (بما تعرف به) أي بعلامة يعرف بها أنها هدي. (كطعن حديدة بسنامها) أي وشق الجلال وإخراج السنام من الشق، وكتعليق النعال في رقبتها. قوله: (كركوبها والحمل عليها) أي وشرب لبنها الفاضل عن ولدها. قوله؛ (أي عنده) أشار بذلك إلى أن ﴿ إِلَىٰ ﴾ بمعنى عند. قوله: (والمراد الحرم جميعه) أي لا خصوص الكعبة. قوله: (أي ذبحاً قرباناً) مفعول للمصدر الذي هو ذبحاً والمعنى أن يذبحوا القربان، وقيل معنى منسكاً نوعا من التعبد والتقرب.
قوله: ﴿ لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ ﴾ معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله. قوله: ﴿ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾ أي عند ذبحها ونحرها. قوله: (انقادوا) أي خضعوا وفوضوا أمورهم إليه ورضوا بأحكامه. قوله: (المتواظعين) هذا أصل معناه، لأن الإخبات نزول الخبت، وهو المكان المنخفض. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ ﴾ أي بأنهم سمعوا الذكر من غيرهم، أو ذكروا بأنفسهم. قوله: (من البلايا) أي المحن بأن لا يجزعوا عند نزولها بهم. قوله: (يتصدقون) أي صدقة التطوع، ويعلم منه أنهم يخرجون الزكاة الواجبة بالأولى. قوله: (وهي الإبل) أي فالبدن عند الشافعي خاصة بالإبل، وقال أبو حنيفة: البدن الإبل والبقر، وعلى كل حال، فالبقر من شعائر الله أيضاً. قوله: ﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ الجملة إما حالية أو مستأنفة. قوله: ﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ أي بأن تقولوا عند ذبحها: بسم الله والله أكبر، اللهم إن هذا منك وإليك. قوله: (قائمة) المناسب أن يقول قائمات. قوله: ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ كناية عن الموت وجمع الجنوب، مع أن البعير إذا سقط عن النحر، إنما يسقط على أحد جنبيه، لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن. قوله: (سقطت إلى الأرض) أي فالوجوب السقوط، يقال وجبت الشمس أي سقطت. قوله: ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ أي إن كانت مستحية باتفاق، وكذا إن كانت واجبة عند مالك، إلا في جزاء الصيد وفدية الأذى والنذر إذا قصد به المساكين، ولا يأكل من الواجبة عند الشافعي. قوله: ﴿ وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ ﴾ أي المستغني بما أعطيه، المتعفف عما في أيدي الناس، الذي لا التفات له إليهم، الذي قال الله في حق من اتصف بصفته﴿ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً ﴾[البقرة: ٢٧٣] وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي   فإن النفس ما طمعت تهونوأحييت القنوع وكان ميتاً   ففي إحيائه عرضي مصونإذا طمعٌ يحل بقلب شخص   علته مهانة وعلاه هونقوله: (أي في مثل التسخير) أي المفهوم من قوله صواف. قوله: (وإلا لم تطق) أي وإلا تسخرها لم يقدر على نحرها وركوبها. قوله: ﴿ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا ﴾ رد لما كانت عليه المشركون من تشريح اللحم، وجعله حول الكعبة، وتضميخها بالدم، تقريباً إلى الله تعالى. قوله: (أي لا يرفعان إليه) أي وإنما يرفع إليه العمل الصالح ومنه التصدق. قوله: ﴿ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾ أي بأن تقولوا: الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا. قوله: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي برضا الله والدرجات الرفيعة. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الله تعالى لما ذكر جملة من أفعال الحج والترغيب فيه، وذكر أن الكفار يصدون الناس عن المسجد الحرام، كأن قائلاً يقول: بأي شيء تتمكن الناس من الحج والهدايا مع وجود المانع، فأنزل الله هذه الآية بشارة للمؤمنين، وأنهم يتمكنون من المسجد الحرام، ويدفع عنهم أعداءهم، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها ما ذكر، إلا أن العبرة بعموم اللفظ، ولذا حذف المعمول ليؤذن بالعموم، فالمؤمنون مآلهم للعز والنصر والفوز الأكبر، وإن امتحنوا ببلاء أو غيره، فذلك لتكفير سيئاتهم ورفع درجاتهم، فهم بخير على حال. قوله: (غوائل المشركين) قدره إشارة إلى أن المفعول محذوف لدلالة المقام عليه، والغوائل جمع غائلة، وهي ما يصيب الإنسان من المكروه. قوله: (في أمانته) مفرد مضاف أي أماناته، وهي الأوامر والنواهي. قوله: (وهم المشركون) أي لأنهم خائنون كافرون في كل وقت، وأما العصاة من المؤمنين فليسوا كذلك، وهذا وعيد للكفار إثر وعيد المؤمنين، لأن شأن الخائن يجازى على خيانته بالخزي والعقاب.
قوله: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ أي يريدون القتال، والمأذون فيه محذوف قدره المفسر بقوله: (أن يقاتلوا) وفي قراءة سبعية أيضاً يقاتلون بالبناء للمفعول. قوله: (وهذه أول آية نزلت في الجهاد) أي بعد أن نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نيف وسبعين آية؛ وذلك أن مشركي مكة، كانوا يؤذون أصحاب رسول الله ويعذبونهم، فيشكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: اصبروا فإني لم اؤمر بقتال، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، فحينئذ كان يوم عيد عند المسلمين. قوله: ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ جملة مستأنفة، سيقت لوعد المؤمنين بالنصر على طريق الكناية. قوله: (هم) ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن الموصول خبر لمحذوف، وهو أحد أوجه في إعرابه، ويصح أن يكون نعتاً أو بياناً أو بدلاً من الذين ألاول، أو منصوباً على المدح. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ﴾ استثناء مفرغ من محذوف، قدره المفسر بقوله: (ما أخرجوا) وهو متصل، والمعنى لم يكن لهم سبب في إخراجهم، إلا تعصب المشركين عليهم من أجل مخالفتهم في الدين. إن قلت: إن سبب خروجهم أمر الله لنبيه. أجيب بأن سبب الخروج باطناً، أمر الله لهم بالخروج، وظاهراً تعصب المشركين عليهم، ولا يصح استثناؤه من المذكور، لأنه يصير المعنى: الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله، وهو لا يصح. قوله: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ ﴾ ﴿ لَوْلاَ ﴾ حرف امتناع لوجود، و ﴿ دَفْعُ ﴾ مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير موجود، وإضافة ﴿ دَفْعُ ﴾ لما بعده من إضافة المصدر لفاعله. وقوله: ﴿ بَعْضَهُمْ ﴾ أي للكافرين، وقوله: ﴿ بِبَعْضٍ ﴾ أي المؤمنين، والمعنى لولا دفع الله الكافرين بالمؤمنين موجود، لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن نبينا المساجد، وهذا الدفع حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ، وأما من يوم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد بطل كل دين يخالف دينه، قال تعالى:﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[آل عمران: ٨٥] فالمعنى: لولا عز الإسلام وقوة شوكته، ما عبد الله في أي زمن. قوله: (بالتشديد للتكثير) باعتبار المواضع. قوله: (وبالتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ صَوَامِعُ ﴾ جمع صومعة وهي المحل المرتفع البناء في الأماكن الخلية. قوله: (للبرهان) أي وقيل للصابئين. قوله: ﴿ وَصَلَوَاتٌ ﴾ جمع صلاة، سميت الكنائس بذلك لأنه يصلى فيها، وقيل هي كلمة معربة، أصلها بالعبرانية صلوثا، بفتح الصاد والثاء المثلثة والقصر، ومعناه في لغتهم المصلى. قوله: (أي ينصر الله دنيه)، أي وأولياءه، ومعنى نصره تعالى، هو أن يظفر أولياءه بأعدائه، ومعنى نصر العبيد لربهم، هو تجلدهم بالقتال لأعداء الله، أو بإيضاح الأدلة الحجج على أعداء الله كالعلماء،. قوله: (منيع في سلطانه) المناسب أن يقول غالب على أمره، وقد أنجز الله وعده، بأن أذل الكفار، وأعز المسلمين، فأورثهم أرضهم وديارهم.
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الخ، يجوز في هذا الموصول ما جاز في الذي قبله. قوله: (جواب الشرط) أي قوله: ﴿ أَقَامُواْ ﴾ وما عطف عليه. قوله: (وهو وجوابه) أي الشرط وفعله وجوابه. قوله: (صلة الموصول) أي لا محل لها من الإعراب. قوله: (ويقدر قبله) الخ، أي على أحد الاحتمالات المتقدمة، وهي إخبار من الله عما يكون عليه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأُمُورِ ﴾ أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه، فيجازي كل شخص بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. قوله: ﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾ أي يدوموا على تكذيبك وعدم الإيمان بك، والضمير عائد على أهل مكة، والمعنى لا تحزن وتسلّ، فلست بأول من كذبه قومه. قوله:(باعتبار المعنى) أي وهو الأمة والقبيلة. قوله: ﴿ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴾ لم يقل قوم هود وقوم صالح، لاشتهارهما بهذين الأسمين. قوله: ﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ خصهم بالذكر، وإن كان شعيب أرسل إلى أصحاب الأيكة وكذبوه أيضاً، لأنهم سابقون عليهم في التكذيب له، فخصوا بالذكر لسبقهم بالتكذيب. قوله: (كذبه القبط لا قومه) أشار بذلك إلى وجه بناء الفعل في هذه الأخير للمفعول، والقبط بوزن القسط أهل مصر. قوله: ﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التشنيع عليهم. قوله: (أي إنكاري عليهم) أشار بذلك إلى أن نكبر مصدر بمعنى الإنكار. قوله: (بإهلاكهم) أي بعذاب الاستئصال. قوله: (للتقرير) أي والمعنى: فليقر المخاطبون بأن إهلاكي لهؤلاء كان واقعاً موقعه، وفي الحقيقة هو مضمن معنى التعجب. والمعنى ما أشدّ ما كان إنكاري عليهم.
قوله: ﴿ فَكَأَيِّن ﴾ مبتدأ، و ﴿ مِّن قَرْيَةٍ ﴾ تمييز، وقوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ خبره، وقوله: ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ الجملة حالية. والمعنى عدد كثير من القرى أهلكتها، والحال أنها ظالمة. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ﴾ أي تهدمت حيطانها، فسقطت الحيطان فوق السقوف. قوله: ﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ﴾ قدر المفسر (كم) الجار إشار إلى أنه معطوف على ﴿ قَرْيَةٍ ﴾ والمعنى عدد كثير من الآبار معطلة عن الاستقاء منها بموت أهلها، وقيل أن البئر الواحدة معهودة، وهي التي نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم الله من العذاب وهم بحضرموت. وسميت بذلك، لأن صالحاً حين حضرها مات، وهناك بلدة عند البئر اسمها حاضورا، بناها قوم صالح، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس، وأقاموا بها زماناً، ثم كفروا وعبدوا صمناً، وأرسل الله تعالى عليهم حنظلة بن صفوان نبياً فتقلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم، والمتبادر من الآية العموم، ولذا مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عطافة عليه تقديره: أغفلوا فلم يسيروا؟ فهو تحريض لهم على السير، ليشاهدوا آثار من قبلهم من الكافر ليعتبروا، وهم وإن كانوا سافروا، ولم يسافروا للاعتبار والنظر، فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. قوله: ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ ﴾ مفرع على قوله: ﴿ يَسِيرُواْ ﴾ فهو منفي أيضاً. قوله: (ما نزل بالمذكبين) مفعول يفعلون. قوله: (أي القصة) أي وما بعده تفسير له. قوله: ﴿ لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ ﴾ الخ، أي فالخلل ليس في حواسهم الظاهرية، وإنما هو في قلوبهم، فترتب على ذلك أنهماكهم في الشهوات وعدم إذعانهم للحق، لأن عمى القلب هو الضار في الدين، لما ورد في الحديث:" ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". قوله: (تأكيد) أي قوله: ﴿ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ ﴾ تأكيد للقلوب، لأن من المعلوم أن القلوب حالة في الصدور، ومنه قولهم: سمعت بأذني ونظرت بعيني. قوله: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ ﴾ أي يطلب كفار مكة تعجيل العذاب استهزاء حيث يقولون: أين ما توعدتنا به مع كوننا كذبناك كما كذبت الأمم الماضية رسلهم؟ قوله: ﴿ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ تضمن ذلك نزول العذاب بهم في الدنيا، وتضمن قوله: ﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ ﴾ الخ؛ عذابهم في الآخرة، فهم يعذبون مرتين: في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بدخول النار الدائم. قوله: (فأنجزه يوم بدر) أي فقتل منهم سبعون، وأسر سبعون من صناديدهم. قوله: ﴿ كَأَلْفِ سَنَةٍ ﴾ اقتصر على الألف، لأنه منتهى العدد لا تكرار، وهو كناية عن طول العذاب وعدم تناهيه. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ أتى هنا بالواو لمناسبة ما قبلها في قوله: ﴿ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً ﴾ الخ، بخلاف الأولى، فأتى بالفاء لمناسبة ما قبلها في قوله:﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾[الحج: ٤٤] فأتى في كل بما يناسبه. قوله: ﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ أي الموصوفون باستعجال العذاب، وقد جرت عادة الله في كتابه، أنه يخاطب المؤمنين: بيا أيها الذين آمنوا، وكفار مكة: بيا أيها الناس. قوله: (وأنا بشير للمؤمنين) قدره إشارة إلى أن في الآية اكتفاء، بدليل التعميم المذكور بعد.
قوله: ﴿ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي من الذنوب الصغائر والكبائر. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ ﴾ أي اجتهدوا. قوله: (بإبطالها) الباء بمعنى في، والمعنى اجتدوا في إبطالها حيث قالوا في القرآن: (إنه أساطير الأولين) وسحر وكهانة. قوله: (من ابتع النبي) أشار به إلى أن معفول معجزين محذوف. قوله: (يثبطونهم) أي يعوقونهم ويشغلونهم. قوله: (أو مقدرين عجزنا) أي فالمفعول محذوف تقديره الله. والمعنى عليه ظانين عجزنا عنهم. قوله: (وفي قراءة معاجزين) أي وهي سبعية أيضاً، وتقدير المفعول عليها معاجزين الله، أي مسابقين له، ومعنى مسابقتهم ظنهم الفرار من عذا ب الله، ومعنى مسابقة الله العذاب بهم وعدم فرارهم منه. قوله: (يظنون أن يفوتونا) أي فلا يلحقهم عذابنا. قوله: ﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ أي مآله لها، وهي معدة لهم.
قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ ﴾ الخ، هذه تسلية ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مِن رَّسُولٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ زائدة في المفعول أي رسولاً. قوله: (هو نبي أمر بالتبليغ) أي إنسان ذكر حر، أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. قوله: ﴿ وَلاَ نَبِيٍّ ﴾ عطف على ﴿ رَّسُولٍ ﴾.
إن قلت: إن تفسير النبي بكونه لم يؤمر بالتبليغ، ينافي قوله أرسلنا. أجيب: بأن الإرسال معناه البعث لنفسه، لأنه أوحي إليه شرع يعمل به في نفسه، وليس مأموراً بتبليغه للخلق، أو يقدر قبل قوله ولا نبي ما يناسبه، كأنه يقال مثلاً: ولا نبأنا من نبي على حد: علفتها تبناً وماءً بارداً. قوله: (أي لم يؤمر بالتبليغ) أشار المفسر بهذا، إلى أن العطف في الآية مغاير، وإن كان لفظ النبي أعم. قوله: (قراءته) إنما سميت القراءة أمنية، لأن القارئ إذا وصل إلى آية رحمة تمنى حصولها، أو أية عذاب تمنى البعد عنه. قوله: (ما ليس من القرآن) مفعول ألقى. قوله: (مما يرضاه) بيان لما. قوله: (المرسل إليهم) أي وهم الكفار. قوله: (وقد قرأ النبي) أشار بذلك إلى أن سبب نزول هذه الآية، قراءة النبي سورة النجم، وذلك كان في رمضان سنة خمس من البعثة، وكانت الهجرة إلى الحبشة في رجب من تلك السنة، وقدوم المهاجرين إلى مكة كان في شوال من تلك السنة. قوله: (بإلقاء الشيطان) متعلق يقرأ. قوله: (تلك الغرانيق) معمول (قرأ) والغرانيق في الأصل الذكور من طير الماء واحدها غرنوق كفردوس، أو غرنوق كعصفور، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع. قوله: (ففرحوا بذلك) أي بما سمعوه وقالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم. قوله: (يبطل) أي يزيل، فالنسخ في اللغة معناه الإزالة، وما ذكره المفسر من قصة الغرانيق، رواية عامة للمفسرين الظاهريين. قال الرازي: أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا على البطلان بالقرآن والسنة والمعقول، أما القرآن فبوجوه: أحدها قوله تعالى:﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ ﴾[الحاقة: ٤٤] الآية. ثانيها﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِيۤ ﴾[يونس: ١٥] الآية: ثالثها قوله تعالى:﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴾[النجم: ٣].
وأما السنة فمنها ما روي عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هي من وضع الزنادقة، وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، فقد روى البخاري في صحيحه، أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والكفار والإنس والجن، وليس في حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن أوجه: أحدها: أن من جوز على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأوثان فقد كفر. ثانيها: لو كان الإلقاء على الرسول ثم الإزالة عنه، لكانت عصمته من أول الأمر أولى، وهو الذي يجب علينا اعتقاده في كل نبي. ثالثها، وهو أقوى الأوجه: أنا لو جوزنا ذلك، لارتفع الأمان عن شرعه. ثم قال الرازي: وقد عرفنا أن هذه القصة موضوعة، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة، قاله الخطيب، ثم قال: وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب، وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها، انتهى. ويكون معنى الآية على هذا التحقيق، ألقى الشيطان في أمنيته أي تلاوته شبهاً وتخيلات في قلوب الأمم، بأن يقول لهم الشيطان: هذا سحر وكهانة، فينسخ الله تلك الشبه من قلوب من أراد لهم الهدى، ويحكم الله آياته في قلوبهم، والله عليم بما ألقاه الشيطان في قلوبهم، وحكيم في تسليطه عليهم، ليميز المفسد من المصلح. قوله: وَ ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ﴾ متعلق بيحكم أي ثم يحكم الله آياته ليجعل، الخ. قوله: ﴿ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ عطف على الذين، أي فتنة للقاسية قلوبهم. قوله: (حيث جرى على لسانه) الخ، قد علمت أن هذا خلاف الصواب، والصواب أن يقول حيث سلط الشيطان عليهم بالوسوسة والطعن في القرآن. قوله: ﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾ عطف على ليجعل. قوله: ﴿ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ أي بالقرآن. قوله: (أي دين الإسلام) أي وسمي صراطاً لأنه يوصل لمرضاة الله، كما أن الصراط يوصل لدار النعيم.
قوله: ﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ رجوع لذكر حال الكفار وما هم عليه. قوله: (أي القرآن) أشار بذلك إلى أن الضمير عائد على القرآن، وقيل عائد على الرسول، أي في شك من أمر الرسول من كونه صادقاً أو لا. قوله: (بما ألقاه الشيطان على لسان النبي) هذا خلاف الصواب، والصواب أن يقول بما ألقاه الشيطان في قلوب من أضلهم الله. قوله: ﴿ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ العقم في الأصل عدم الولادة، فشبه اليوم الذي لا خير فيه بمرأة عقيم، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو العقم، فإثباته تخييل، والجامع عدم الثمرة في كل. قوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ التنوين عوض عن جملة أي الملك يوم تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم العذاب يوم القيامة لله، ومعنى كونه لله، عدم نسبة شيء في الملك لأحد سواه في ذلك اليوم. قوله: (ناصب للظرف) أي قوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾.
قوله: ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ جملة مستأنفة سيقت جواباً لسؤال مقدر تقديره ماذا يصنع بهم. قوله: (فضلاً من الله) أي لا بسبب أعمالهم. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ مبتدأ وخبره ﴿ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ ﴾، وخصهم بالذكر وإن كانوا داخلين في جملة المؤمنين تعظيماً لشأنهم. قوله: ﴿ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ ﴾ أي في الحروب، وقوله: ﴿ أَوْ مَاتُواْ ﴾ أي على فراشهم من غير قتل. قوله: (هو رزق الجنة) أي التنعم فيها. قوله: (أفضل المعطين) أي فالمراد بالرزق الإعطاء، وهو ينسب للخلق كما ينسب للخالق، إلا أن نسبته للخالق حقيقة، ولغيره مجاز. قوله: ﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ ﴾ الخ، إما مستأنف أو بدل من قوله ليرزقنهم. قوله: (بضم الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي فلا يعجل بالعقوبة على من عصاه، بل يمهله ليتوب فيستحق الجنة.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ (الذي قصصناه عليك) أي من وعد المؤمنين ووعيد الكفارين، واسم الإشارة خبر لمحذوف تقديره الأمر الذي قصصناه عليك، أي لا تغيير فيه ولا تبديل، فهي كلمة يؤتى بها للانتقال من كلام إلى آخر. قوله: ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ ﴾ العقاب مأخوذ من التعاقب، وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذ فقوله: ﴿ عَاقَبَ ﴾ بمعنى جازى حقيقة لغوية، وأما قوله: ﴿ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ أتى به لمشاكلة الأولى للازدواج نظير﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ١٩٤]، والباء في ﴿ بِهِ ﴾ للسببية. قوله: (أي قاتلهم) أي قاتل من كان يقاتله، نزلت هذه الآية في قوم من المشركين، لقوا قوماً من المسلمين، لليلتين بقيتا من المحرم، فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا، فحملوا عليهم وثبت المسلمون ونصرهم الله عليهم، وإلى هذا يشير المفسر بقوله: ﴿ غَفُورٌ ﴾ (لهم عن قتالهم في الشهر الحرام) وقيل نزلت في قوم من المشركين، مثلوا بقوم من المسلمين، قتلوهم يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله، وقل إنها عامة في النبي وأصحابه، وذلك أن المشركين كذبوا نبيهم، وآذوا من آمن به، وأخرجوهم من مكة، فوعد الله بالنصر محمداً وأصحابه فإنهم حزب الله، والكفار حزب الشيطان. قوله: ﴿ غَفُورٌ ﴾ (لهم) أي ما فعلوه، لأنهم فعلوه دفعاً عن أنفسهم، لا تجرياً على المحرم. قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ خبره. قوله: (بأن يزيد) أي الآخر، وقوله: (ذلك) أي الإيلاج، فهو إشارة إلى أن الإيلاج دليل القدرة، والقدرة دليل النصر، لأن القادر على إدخال كل منهما في الآخر، قادر على نصر أحبائه وخذلان أعدائه. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ بالفتح في قراءة العامة، عطف على أن الأولى، وقرئ شذوذاً بالكسر استئنافاً. قوله: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ مبتدأ وخبر، وقوله: ﴿ هُوَ ﴾ إما مبتدأ أو ضمير فصل. قوله: (الثابت) الذي لا يقبل الزوال أزلاً ولا أبداً. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (الزائل) أي الفاني الذي لا بقاء له. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ ﴾ نتيجة ما قبله من الأوصاف. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ شروع في ذكر ستة أدلة على كونه هو الحق، وما سواه باطل، وفي الحقيقة كل دليل نتيجة للدليل الذي قبله ففي الأدلة الترقي في الاحتجاج والمعرفة فتأمل. الأول: إنزال الماء الناشئ عنه اخضرار الأرض. الثاني: قوله: ﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾.
الثالث: تسخير ما في الأرض. الرابع: تسخير الفلك. الخامس: إمساك السماء. السادس: الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء ثانياً. قوله: (تعلم) فسر الرؤية بالعلم دون الإبصار، لأن الماء وإن كان مرئياً، إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي. قوله: (مطراً) لا مفهوم له، لأن النيل وماء الآبار من السماء، إلا أن يقال اقتصر على المطر، لأنه هو المشاهد نزوله من جهة السماء دون غيره. قوله: ﴿ فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ عبر بالمضارع إشارة إلى استمرار النفع به بعد نزوله. قوله: (بما في قلوبهم عند تأخير المطر) أي من التأثر والقنوط. قوله: (على جهة الملك) أي فلا ملك لأحد معه.
قوله: ﴿ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي ذلل لكم ما فيها من الدواب لتنتفعوا بها. قوله: ﴿ وَٱلْفُلْكَ ﴾ بالنصب في قراءة العامة، عطف على ما في قوله: ﴿ مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي وسخر لكم الفلك وأفردها بالذكر، لكون تسخيرها أعجب من سائر المسخرات، والفك يطلق على الواحد والجمع بلفظ واحد، فوزن الواحد قفل، ووزن الجمع بدن. قوله: (من) ﴿ أَن ﴾ (أو لئلا) ﴿ تَقَعَ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ أَن تَقَعَ ﴾ إما في محل نصب على المفعول لأجله، أي لأجل أن لا تقع، أو في محل جر على حذف حرف الجر، والتقدير من أن تقع أي من وقوعها. قوله: ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ استثناء مفرغ من معنى قوله: ﴿ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ ﴾ والتقدير لا يتركها تقع في حال من الأحوال، إلا في حال كونها ملتبسة بمشيئة الله تعالى. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ ﴾ أي أوجدكم من العدم لتسعدوا أو تشقوا، فكل من الإحياء الأول والثاني، إما نعمة أو نقمة. قوله: ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ (عند البعث) أي للثواب أو العقاب. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ أي جحود لنعم خالقه.
قوله: ﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ ﴾ أي أهل دين، فالمراد بالأمة من له ملة وشرع. قوله: (بفتح السين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (شريعة) أي أحكام دين لكل أمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى منسكهم التوراة، ومن مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل، والأمة الموجودون عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم إلى يوم القيامة منسكهم القرآن لا غيره، وحينئذ فقوله: ﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ ﴾ أي لا ينازعنك هؤلاء الأمم في أمر دينك، زعماً منهم أن شريعتهم باقية لم تنسخ، فإن التوراة والإنجيل شريعتان لمن مضى من الأمم قبل بعث محمد، ومن وقت بعثته انتسخ كل شرع سوى شرعه صلى الله عليه وسلم إذا علمت ذلك، فقول المفسر: ﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ ﴾ (أي أمر الذبيحة) الخ، لا يسلم لأنه يقتضي أن يكون أكل الميتة من جملة المناسك والشرائع التي جعلها الله لبعض الأمم، ولا شك في بطلان ذلك، فكان المناسب له أن يفسر الآية بما فسرناه به. قوله: ﴿ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾ أي ادعهم أو ادع الناس عموماً. قوله: (وهذا قبل الأمرم بالقتال) أي فهو منسوخ بآية القتال، وهذا أحد قولين، وقيل إن الآية محكمة، وحينئذ فيكون المعنى: أترك جدالهم، وفوض الأمر إلى الله بقولك: الله أعلم بما تعملون، فيكون وعيداً لهم على أعمالهم، حيث داموا على الكفر، وهو لا ينافي قتالهم، لأن القتال يرفعه أحد أمرين: الإسلام أو الجزية، مع البقاء على الكفر. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ أي يقضي ويفصل. قوله: (الاستفهام فيه للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بالحكم. قوله: (أي علم ما ذكر) أي الموجود في السماء والأرض. قوله: (هو اللوح المحفوظ) هو من درة بيضاء فوق السماء السابعة معلق في الهواء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب. قوله: ﴿ سُلْطَاناً ﴾ أي من جهة الوحي. قوله: ﴿ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي دليل عقلي. قوله: (حال) أي من آيات.
قوله: ﴿ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر تبكيتاً عليهم. قوله: (أي الإنكار لها) أشار بذلك إلى أن المنكر مصدر ميمي على حذف مضاف. قوله: ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ ﴾ هذه الجملة حال، إما من الموصول أو من الوجوه، وضمن يسطون معنى يبطشون، فعداه بالباء، وإلا فهو متعد بعلى. قوله: ﴿ ٱلنَّارُ ﴾ قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن النار خبر لمحذوف، كأنه قيل: وما الأشر؟ فقيل: هو النار. قوله: ﴿ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وعد يتعدى لمفعولين الهاء مفعول ثان مقدم، و ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مفعول أول مؤخر، نظير قوله تعالى:﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾[التوبة: ٦٨] ويصح العكس، بأن يجعل الضمير هو المفعول الأول، و ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هو المفعول الثاني، وإليه يشير المفسر بقوله: (بأن مصيرهم إليها) حيث جعل الذين كفروا هو الموعود به، والنار هي الموعودة. والمعنى جعل الله الكفار طعاماً للنار وعدها بهم، والأول أنسب من جهة العربية، لأن المفعول الأول شرطه صلاحيته للأخذ، كأعطيت زيداً درهماً. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ ﴾ هذه الآية مرتبطة بقوله:﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾[الحج: ٧١] فالخطاب وإن كان لأهل مكة، إلا أن المراد به عموم من كان يعبد الأصنام، والمثل في اللغة مرادف للمثل والشبه والنظير، ثم صار حقيقة عرفية في ما شبه مضربه بمورده، كقولهم: الصيف ضيعت اللبن، وليس مراداً هنا، بل المراد به الأمر الغريب والقصة العجيبة، وإليه يشير المفسر في آخر العبارة بقوله: (هذا أمر مستغرب). قوله: ﴿ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ ﴾ أي اصغوا إليه لتعتبروا. قوله: (وهو) أي المثل المضروب. قوله: (واحدة ذبابة) أي ويجمع على ذبان بالكسر كغربان، وذبان بالضم كقضبان، وأذبة كأغربة، مأخوذ من ذب إذا طرد، وآب إذا رجع، لأنه يذب فيرجع، وهو أحرص الحيوانات وأجهلها، لأنه يرمي نفسه في المهلكات. ومدة عيشه أربعون يوماً، وأصل خلقته من العفونات، ثم يتوالد بعضه من بعض، يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض. قوله: ﴿ وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ الجملة حالية كأنه قال: انتفى خلقهم الذباب على كل حال، ولو في حال اجتماعهم. قوله: ﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ﴾ أي يأخذ ويختطف منهم. قوله: (مما عليهم من الطيب والزعفران) الخ، أي لأنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، ورؤوسها بالعسل، ويغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وكانوا يحلونها باليواقيت والآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بأنواع الطيب، فربما سقط شيء منها، فيأخذه طائر أو ذباب، فلا تقدر الآلهة على استرداده. قوله: (الملطخون بها) المناسب أن يقول المتلطخين، لأنه نعت سببي للطيب والزعفران. قوله: ﴿ لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ﴾ أي لا يخلصون منه. قوله: (عبر عنه بضرب المثل) جواب عما يقال: إن الذي ضرب وبين ليس بمثل حقيقة، فكيف سماه مثلاً؟ فأجاب: بأن القصة العجيبة تسمى مثلاً، تشبيهاً لها ببعض الأمثال في الغرابة.
قوله: ﴿ مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ هذه الآية قيل غير مرتبطة بما قبلها، وعليه فيكون سبب نزولها كما قيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وحوله أصحابه، وفي القوم مالك بن أبي الصيف من أحبار اليهود، فقال له رسول الله: ناشدتك الله، هل رأيت في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟ فقال: نعم، فقال له رسول الله: وأنت حبر سمين، فضحك القوم، فالتفت مالك إلى عمر بن الخطاب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقيل سبب نزولها أن اليهود قالوا: خلق الله السماوات يوم الأحد، والأرض يوم الاثنين، والجبال يوم الثلاثاء، والأوراق والأشجار يوم الأربعاء، والشمس والقمر في يوم الخميس، وخلق آدم وحواء في يوم الجمعة، ثم استوى على ظهره، ووضع إحدى رجليه على الأخرى واستراح، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقل إنها من تتمة المثل، وعليه درج المفسر. قوله: ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي ﴾ أي يختار. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ إن قلت إن هذا يقتضي أن يكون الرسل بعض الملاكئة لا كلهم وآية فاطر تقتضي أن الكل رسل. أجيب بأن التبعيض بالنسبة لإرسالهم لبني آدم والجميع رسل بالنسبة لبعضهم بعضاً. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ (رسلاً) أشار بذلك إلى أن في الآية الحذف من الثاني لدلالة الأولى عليه. قوله: (نزل لما قال المشركون) القائل هو الوليد بن المغيرة، ووافقه على ذلك قومه. قوله: (كجبريل) الخ، مثل باثنين من الملائكة واثنين من الإنس. قوله: (ما قدموا) أي من الأعمال. قوله: (وما خلفوا) أي لم يعملوه بالفعل. قوله: (أو ما عملوا) أي بالفعل، وقوله: (وما هم عاملون) أي في المستقبل. قوله: ﴿ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ أي تصير أمور الخلائق اليه تعالى، ويجازي كلاً بعمله. قوله: (أي صلوا) أي وعبر عنها بالركوع والسجود، من باب تسمية الشيء باسم أشرف أجزائه. قوله: (كصلة الرحم ومكارم الأخلاق) أي وغيرها من الخيرات الواجبة والمندوبة. قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق، فالفلاح محقق لمن فعل هذه الأمور.
قوله: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ ﴾ أي أعدائكم الظاهرية والباطنية، فالظاهرية فرق الضلال والكفر، ومجاهدتها معلومة، ويسمى الجهاد الأصغر، والباطنية النفس والهوى والشيطان، ومجاهدتها الامتناع من شهواتها شيئاً فشيئاً، ويسمى الجهاد الأكبر كما في الحديث، ووجه تسميته أكبر، أن الأعداء الظاهرية، تحضر تارة وتغيب أخرى وتصالح، وإذا قتلها الشخص أو قتلته فهو في الجنة، بخلاف الأعداء الباطنية، فلا تغيب أصلاً، ولا يمكن الصلح معها، وإذا قتلت صاحبها وغلبته فهو في النار. قوله: ﴿ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ من إضافة الصفة للموصوف، أي جهاداً حقاً. قوله: ﴿ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ ﴾ أي اصطفاكم وجعلكم أمة وسطاً. قوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ المراد بالدين أصوله وفروعه، وحيث لم يشدد عليهم كما شدد على من قبلهم، فمن ذلك قبول توبتهم إذا ندموا وأقعلوا، ولم يجعل توبتهم قتل أنفسهم، وإذا أذنب الشخص منهم ذنباً، ستره الله ولم يفضحه في الدنيا، بأن يجده مكتوباً في جبهته أو على باب داره، كما كان فيمن قبلهم، وجعل النجاسة تزال بالماء دون قطع محلها وغير ذلك، إن قلت: كيف لا حرج في الدين، من أن اليد تقطع بسرقة ربع دينار، والمحصن يرجم بالزنا مرة ونحو ذلك؟ أجيب: بأن رفع الحرج لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السراق وأصحاب الحدود، فقد انتهكوا حرمة الشرع، وانتقلوا من السهولة للصعوبة، لأن الله لم يحرم المال مطلقاً، ولا النكاح مطلقاً، بل أحل أشياء وحرم أشياء، فما جزاء من يتعدى الحدود، إلا التشديد عليه. قوله: (بنزع الخافض الكاف) أي كلمة أبيكم، فالتشبيه في أصول الدين وفي سهولة الفروع. قوله: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ أشار المفسر إلى أن الضمير عائد على الله تعالى، وقيل الضمير عائد على إبراهيم. قوله: (أي قبل هذا الكتاب) أي في تفسير الكتب القديمة. قوله: ﴿ وَفِي هَـٰذَا ﴾ أي بقوله:﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً ﴾[المائدة: ٣].
قوله: ﴿ لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ ﴾ متعلق بسماكم واللام للعاقبة. قوله: (داوموا عليها) أي بشروطها وأركانها. قوله: ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ ﴾ لمستحقيها. قوله: (ثقوا) أي في جميع أموركم. قوله: ﴿ هُوَ ﴾ قدره إشارة إلى المخصوص بالمدح محذوف، وحذفه من الثاني لدلالة هذا عليه.
Icon