تفسير سورة الفرقان

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله اسم جليل شهدت بجلاله أفعاله، ونطقت بجماله أفضاله. دلت على إثباته آياته، وأخبرت عن صفاته مفعولاته.
بسم الله اسم عزيز عرفت بفعله قدرته، اسم كريم شهدت بفضله نصرته.
بسم الله اسم عزيز عرفه العقلاء بدلالات أفعاله، وعرفه الأصفياء باستحقاقه لجلاله وجماله ؛ فبلطف جماله عرفوا جوده، وبكشف جلاله عرفوا وجوده.
بسم الله اسم عزيز من دعاه لباه، ومن توكل عليه كفاه، ومن توسل خوله وأعطاه.

قوله جل ذكره :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾.
يقال بِرَكَ الطيرُ على الماء إذا ما دام وقوفُه على ظهر الماء. ومَبَارِكُ الإبلِ مَواضِعُ إقامتها بالليل. وتبارك على وزن تَفَاعَل تفيد دوامَ بقائه، واستحقاقَه لِقِدَمِ ثوبته وبقاء وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع.
في التفاسير ﴿ تَبَارَكَ ﴾ أي تعظَّمَ وتَكبَّر. وعند قوم أنه من البركة وهي الزيادة والنفع، فداومه وجودُه، وتكبره استحقاق ذاته لصفاته العلية، والبركة أو الزيادة تشير إلى فَضْلِه وإحسانه ولُطْفِه.
فوجوهُ الثناء عليه تنحصر بهذه الأوجه الثلاثة : ثناء عليه بذكر ذاته وحقِّه، وثناء بذكر وصفه وعِزِّه، وثناء بذكر إحسانه وفضله ؛ ﴿ تَبَارَكَ ﴾ مجمعُ الثناء عليه - سبحانه.
﴿ الذي نَزَّلَ الفُرْقَانَ ﴾، وهو القرآن ﴿ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ : فأكرمه بأن نَبَّاه وفَضَّلَه، وإلى الخَلْق أرسله، وبَيَّنَ مَعْجِزَتَه وأمارةً صِدْقه بالقرآن الذي عليه أنزله، وجعله بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً.
تَفَرَّدَ بالمُلْكِ فلا شريكَ يساهمه، وتَوَجَّدَ بالجلالِ فلا نظيرََ يُقاسِمُه ؛ فهو الواحد بلا قسيم في ذاته، ولا شريك في مخلوقاتِه، ولا شبيهٍ في حَقِّه ولا في صفاته.
اتخذوا من دون اللَّهِ آلهةً لا يملكون قطميراً، ولا يخلقون نقيراً، ولا يدفعون عنهم كثيراً ولا يسيراً، ولا ينفعونهم ولا يُسهِّلُون عليهم عسيراً، ولا يملكون لأحدٍ موتاً ولا نُشوراً.
ظنوه كما كانوا، ولمَّا كانوا بأمثالِهم قد استعانوا فيما عجزوا عنه من أمورِهم، واستحدثوا لأمثالهم واستكانوا - فقد قالوا من غير حُجَّةٍ وتَقَوَلُّوا، ولم يكن لقولهم تحصيل، ولأَساطيرُ الأولين تُرَّهاتُهم التي لا يُدْرَى هل كانت ؟ وإن كانت فلا يُعْرَفُ كيف كانت ومتى كانت ؟
ثم قال : يا محمد، إن هذا الكتاب - الذي أنزله الذي يعلم السِّرَّ في السموات والأرض - لا يَقْدِر أحد على الإتيان بمثله ولو تشاغلوا من الوقت الذي أتى به أعداء الدينِ، وهم على كثرتهم مجتهدون في معارضته بما يوجب مساواته ؛ فادَّعوا تكذيبه وانقطعت الأعصار وانقضت الأعمال، ولم يأتِ أحدٌ بسورة مثله. فانتفى الرَّيْبُ عن صِدْقهِ، ووَجَبَ الإقرارُ بحقِّه.
لما عجزوا عن معارضته أخذوا يعيبونه بكونه بَشَراً من جنسهم يمْشي في الأسواق، ويأكل الطعام، وعابوه بالفقر وقالوا : هَلاَّ نَزَّلَ عليه الملائكةَ فَيُرَوْنَ عياناً ؟ وهلاَّ جعل له الكنوزَ فاستكثر مالاً ؟ وهلاَّ خُصَّ بآياتٍ - اقترحوها - فَتَقْطَعَ العُذْرَ وتُزِيلَ عنَّا إشكالاً ؟ ! وما هذا الرجلُ إلا بشرٌ تعتريه مِنْ دواعي الشهوات ما يعتري غيره ! فأيُّ خصوصيةٍ له حتى تلْزَمَنا متابَعَتهُ ولن يُظْهِرَ لنا حجةً ؟ فأجاب الله عنهم وقال : إنَّ الحقَّ قادرٌ على تمليكك ما قالوا وأضعافَ ذلك، وفي قدرته إظهارُ ما اقترحوه وأضعافُ ذلك، ولكن ليس لهم هذا التخير بعدما أزيح العذرُ بإظهار معجزة واحدة، واقترح ما يَهْوَوْنَ تحكُّمٌ على التقدير، وليس لهم ذلك. ثم أخبر أنه لو أظهر تفصيل ما قالوه وأضعافَه لم يؤمنوا ؛ لأن حُكْمَ الله بالشقاوة سابق لهم.
فهم في حُكم الله من جملة الكفار، والله أَعَدَّ لهم ولأمثالهم من الكفار وعيدَ الأبدِ. . . فلا محالة يُمْتحنون به.
قوله :﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾ : دليلٌ على جواز التكليف بما لا يقدر عليه العبدُ في الحالِ ؛ لأنه أخبر أنهم لا يستطيعون سبيلاً، وهم معاتبُون مُكلَّفُون.
فوحشةُ النارِ توجد من مسافة بعيدة قبل شهودِها والامتحان بها، ونسيمُ الجنةَ يوجد قبل شهودِها والدخولِ فيها، والنار تُسَجَّر منذ سنين قبل المحترقين بها، والجنة تُزَيَّن منذ سنين قَبْلَ المسْتَمتِعين بها. وكذَبَ مَنْ أحال وجودهما قبل كون سكانهما وقطانهما من المنتفعين أو المعاقبين، لأن الصادق أخبر عن صفاتهما التي لا تكون إلا بموجود.
راحةُ الجنة مقرونة بسعتها، ووحشة النار مقرونة بضيقها، فيُضيِّق عليهم مكانَهم، ويضيِّق عليهم قلوبهم، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتُهم تبطل وكانوا يتخلصون منها لم يكن البلاء كاملاً، ولكنها آلام لا تتناهى، ومِحَنٌ لا تنقضي ؛ كلما راموا فرجةً قيل لهم : فلن نزيدكم إلا عذاباً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:راحةُ الجنة مقرونة بسعتها، ووحشة النار مقرونة بضيقها، فيُضيِّق عليهم مكانَهم، ويضيِّق عليهم قلوبهم، ويضيق عليهم أوقاتهم. ولو كانت حياتُهم تبطل وكانوا يتخلصون منها لم يكن البلاء كاملاً، ولكنها آلام لا تتناهى، ومِحَنٌ لا تنقضي ؛ كلما راموا فرجةً قيل لهم : فلن نزيدكم إلا عذاباً.
المتقون أبداً في النعيم المقيم ؛ حور وسرور وحبور، ورَوْحٌ وريحان، وبهجة وإحسان، ولطف جديد وفضل مزيده، وألذُّ شرابٍ وكاساتُ محابِّ، وبسطُ قلبٍ وطيبُ حالٍ، وكمال أُنْسٍ ودوام طرب وتمام جَذَلٍ، لباسهم فيها حرير وفراشهم سندس وإستبرق. والأسماء أسماءٌ في الدنيا والأعيان بخلاف المعهودات فيها. ثم فيها ما يشاؤون، وهم أبداً مقيمون لا يبرحون، ولا هم عنها يخرجون.
ولكن لا يخلق في قلوبهم إلا إرادةَ ما عَلِم أنه سيفعله، فما هو المعلوم لله أنه لا يفعله لا تتعلق به إرادتُهم، ويمنع من قلوبهم مشيئتَه.
اللَّهُ يحشرُ الكفارَ ويحشر الأصنامَ التي عبدوها من دون الله، فَيُحْيِيها ويقول لها : هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم ؟ فيتبرأون. . كلُّه تهويلٌ وتعظيمٌ للشأن، وإلا فهو عليم بما كان وما لم يكن. فالأصنام تُتبرأ منهم، تقابلهم بالتكذيب، وهم ينادون على أنفسهِم بالخطأ والضلالِ، فيُلْقَون في النار، ويَبْقَوْنَ في الوعيد إلى الأبد.
أخبر أن الذين تَقْدَّموه من الرسل كانوا بَشَراً، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهورَ المعجزات عليهم. وفي الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال :
﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾.
فَضَّلَ بعضاً على بعض، وأمر المفضولَ بالصبر والرضاء، والفاضلَ بالشكر على العطاء وخصَّ قوماً بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصَّ قوماً بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لِمَن نَعَّمَه مناقب، ولا لِمَنْ امتحنه معايب. . . فبحُكمِه لا يِجُرْمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقذاره لا بأوزارهم، وبه لا يهم.
قوله :﴿ أَتَصْبِرُونَ ؟ ﴾ استفهام في معنى الأمر، فَمَنْ ساعَدَه التوفيقُ صبر وشكر ومن قارنه الخذلان أبي وكفر.
﴿ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾ : لا يؤمنون بالحشر والنشر والرجوع إلى الله في القيامة من الدنيا. وكما كانوا لا يخافون العذابَ، ولا ينتظرون الحَشْرَ كذلك كانوا لا يُؤْمِنون لقاءَ الله. فَمُنْكِرُ الرؤيةِ من أهل القِبْلَةِ - ممن يؤمِن بالقيامة والحشرِ - مُشَارِكٌ لهؤلاء في جُحْدِ ما وَرَدَ به الخبرُ والنقلُ ؛ لأن النَّقْلَ كما وَرَدَ بكوْنِ الحَشْرِ بكون الرؤية لأهل الإيمان.
فالذين لم يؤمنوا قالوه على جهة رؤية المقام لأنفسهم، وأنه مُسَلَّمٌ لهم ما اقترحوه من نزول الملائكة عليهم ورؤية ربهم. وذلك وإن كان في القدرة جائزاً - إلا أنه لم يكن واجباً بعد إزاحة عُذْرِهم بظهور معجزات الرسول عليه السلام، فلم يكن اقتراح ما قالواه جائزاً لهم.
اقترحوا شيئين : رؤيةَ الملائكةِ ورؤيةَ اللَّهِ، فأخبر أنهم يرون الملائكة عند التوفيِّ، ولكن تقول الملائكةُ لهم :﴿ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ ! ﴾.
﴿ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ : أي حراماً ممنوعاً يعني رؤية الله عنهم، فهذا يعود إلى ما جرى ذكره، وحَمْلُه على ذلك أَوْلى من حَمْلِه على الجنة، ولم يجر لها هنا ذكْرٌ. ثم فيه بشارة للمؤمنين بالرؤية لأنهم يرون الملائكة ويبشرونهم بالجنة، قال تعالى :
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] فكما لا تكون للكفار بشارة ٌ بالجنة وتكون للمؤمنين لا تكون الرؤيةُ للكفار وتكون للمؤمنين.
هذه آفة الكفار ؛ ضاع سعيُهم وخاب جُهْدُهم، وضاع عمرُهم وخَسِرَتْ صفقتُهم وانقطع رجاؤهم ﴿ وَبَدَا لَهُمُ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٧ ]،
﴿ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ].
وأما أصحاب الحقائق وأرباب التوحيد فيلوح لقلوبهم من سماع هذه الآية ما يحصل به كمال رَوْحِهم، وتتأدَّى إلى قلوبِهم من الراحات ما يضيق عن وصفه شرحهُم، ويتقاصر عن ثنائه نُطْقُهم، حيث يسمعون قوله :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ ولقد ظهرت قيمة أعمالهم حيث قال الحقُّ لأجله ﴿ وَقَّدِمْنَا إلى. . . ﴾ فَهُم إذا سمعوا وَجَبَ لهم من الأريحية ما يشغلهم عن الاهتمام لقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ ويقولون : يا ليت لنا أعمال أهل الدارين ثم لا تُقْبَلُ منها ذرةٌ وهو يقول بسببها :﴿ وَقَدِمْنَآ إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ. . . ﴾ ! لأنهم إذا تخلصوا من مواضع الخلل وموجبات الخجل من أعمالهم عدُّواً ذلك من أجلِّ ما ينالون من الإحسان إليهم، وفي معناه أنشدوا :
سأرجع من حجِّ عامِيَ مُخْجِلاً لأنَّ الذي قد كان لا يُتَقَبَّلُ
أصحابُ الجنةِ هم الراضون بها، الواصلون إليها، والمُكتَفون بوجدانها، فحسُنَتْ لهم أوطانُهم، وطابَ لهم مُستَقَرُّهم.
يريد يومَ القيامة إذا بَدَتْ أهوالُها، وظَهَرت للمبعوثين أحوالُها، عَمِلُوا وتحققوا- ذلك اليومَ - أنَّ المُلْكَ للرحمن. ولم يتخصص ملكُه بذلك اليوم، وإنما علْمُهم ويقينهُم حَصَلَ لهم ذلك الوقت.
ويقال تنقطع دواعي الأغيار، وتنتفي أوهامُ الخلْق فلا يتجدَّدُ له - سبحانه - وصفٌ ولكن تتلاشى للخلْق أوصاف، وذلك يومٌ على الكافرين عسير، ودليل الخطاب يقتضي أنَّ ذلك اليوم على المؤمنين يسيرٌ وإلا بطل الفرقُ ؛ فيجب ألا يكون مؤمن إلاَّ وذلك اليوم يكون عليه هيناً.
يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضي سرورَ المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم في الله، وأمَّا الكافر فَيُضِلُّ صاحبَه فيقع معه في الثبور، ولكن المؤمن يهدي صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:يندم الكافر على صحبة الكفار. ودليل الخطاب يقتضي سرورَ المؤمنين بمصاحبة أخدانهم وأحبائهم في الله، وأمَّا الكافر فَيُضِلُّ صاحبَه فيقع معه في الثبور، ولكن المؤمن يهدي صاحبه إلى الرشد فيصل به إلى السرور.
شكا إلى الله منهم، وتلك سنَّةُ المرسلين ؛ أخبر الله عن يعقوب - عليه السلام - أنه قال :﴿ إِنَّمَا أَشْكُوا بثي وحزني إِلَى اللَّهِ ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] فَمنْ شكا من الله فهو جاحد، ومنْ شكا إلى الله فهو عارف واجد.
ثم إنه أخبر أنه لم يُخْلِ نبياً من أنبيائه صلوات الله عليهم إلا سلَّطَ عليه عَدُّواً في وقته، إلا أنَّه لم يغادِرْ من أعدائِهم أحداً، وأذاقهم وبالَ ما استوجبوه على كفرهم وغَيَّهم
قوله جلّ ذكره :﴿ وَكَفَى بِرَبِكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾.
كفى بربك اليوم هادياً إلى معرفته، وغداً نصيراً على رؤيته.
ويقال آخر فتنة للمؤمنين ما ورد في الخبر :" أن كل أمة ترى في القيامة الصنم الذي عبدوه يتبعونه فيحشرون إلى النار، فيُلْقَوْن فيها ويبقى المؤمنون، فيقال لهم : ما وقفكم ؟ فيقولون : إنهم رأوا معبودهم فتبعوه ونحن لم نرَ معبودنا ! فيقال لهم : ولو رأيتموه. . . فهل تعرفونه ؟ فيقولون : نعم. فيقال لهم : بِمَ تعرفونه ؟ فيقولون : بيننا وبينه علامة. فيريهم شيئاً في صورة شخص فيقول لهم : أنا معبودكم. فيقولون : معاذ الله. . . نعوذ بالله منك ! ما عبدناك. فيتجلَّى الحقُّ لهم فَيَسجدون له ".
أي إنما أنزلناه متفرقاً لِيسُهل عليك حِفْظُه ؛ فإنه كان أمياً لا يقرا الكتب، ولأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل عليه السلام بالرسالة إليه في كل وقت وكل حين. . . وكثرةُ نزوله كانت أوجبَ لسكون قلبه وكمال روحه ودوام أُنْسه، فجبريل كان يأتي في كل وقت بما كان يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، وذلك أبلغُ في كونه معجزةً، وأَبعدُ عن التهمة من أن يكون من جهة غيره، أو أن يكون بالاستعانة بمن سواه حاصلاً.
كان الجوابُ لما يوردونه على جهة الاحتجاج لهم مفحماً، ولفساد ما يقولونه موضحاً، ولكن الحقَّ - سبحانه - أجرى السُّنّة بأنه لم يزد ذلك للمسلمين إلا شفَاءً وبصيرةً، ولهم إلا عَمَىً وشبهة. ثم أخبر عن حالهم من مآلهم.
يحشرون على وجوههم وذلك أمارة لإهانتهم، وإن في الخبر :" الذين أمْشاهم اليومَ على أقدامهم يُمْشيهم غداً على وجوههم " وهو على ذلك قادر، وذلك منه غير مستحيل.
قلَمَّا يجري في القرآن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ذِكْرٌ إلا ويذكر الله عُقَيْبَه موسى عليه السلام. وتكررت قصته في القرآن في غير موضع تنبيهاً على علو شأنه، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور فالتكرير في الذكر يوجب التفصيل في الوصف ؛ لأن القصة الواحدة إذا أعيدت مراتٍ كثيرة كانت في باب البلاغة أتمَّ لا سيما إذا كانت في كل مرة فائدةٌ زائدة.
ثم بيَّن أنه قال لهما :﴿ فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرأً ﴾
أي فَذَهبا فَجَحَدَ القومُ فدمرناهم تدميراً، أي أهلكناهم إهلاكاً، وفي ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء، ووَعْدٌ له بالجميل في أنه سَيُهْلك أعداءَه كُلَّهم.
أَحْلَلْنا بهم العقوبة كما أحللنا بأمثالهم، وعاملناهم بمثل معاملتنا لقرنائهم. ثم عَقَّبَ هذه الآيات بذكر عادٍ وثمود وأصحاب الرَّسِّ، ومَنْ ذكرهم على الجملة من غير تفصيل، وما أهلك به قوم لوطٍ حيث عملوا الخبائث. . . كل ذلك تطييباً لقلبه صلى الله عليه وسلم، وتسكيناً لِسرِّه، وإعلاماً وتعريفاً بأنه سيهلك مَنْ يُعاديه، ويدمِّر مَنْ يناويه، وقد فَعَلَ من ذلك الكثير في حال حياته، والباقي بعد مُضِيِّه - عليه السلام - من الدنيا وذهابه.
كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته، فإذا أخبر اللَّهُ وقصَّ عليه ما كان يلاقيه كان أَوْجَبَ للسَّلْوَةِ وأقربَ من الأًُنْس، وغايةُ سلوةِ أربابِ المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا في أيام امتحانهم كما قال قائلُهم :
يودُّ بأن يمشي سقيماً لَعَلَّها إذا سمعت منه بشكوى تراسله
ويهتزُّ للمعروفِ في طَلَبِ العلَى لتُذْكَرَ يوماً عند سلمى شمائلُه
وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه - عليه السلام بعين الازدراءِ ولا تصغيرِ لشأنه ؛ لأنهم كانوا لا يعرفون قَدْرَه، قال تعالى :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾
[ الأعراف : ١٩٨ ].
كانوا يعبدون من الأصنام ما يَهْوَوْن ؛ يستبدلون صنماً بصنم، وكانوا يَجْرُون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمنُ بِحُكْمِ اللَّهِ لا بحكم نفسه، وبهذا يتضح الفرقان بين رجل وبين رجل. والذي يعيش على ما يقع له فعابِدُ هواه، وملتحِقٌ بالذين ذكرهم الحقُّ بالسوءِ في هذه الآية.
كالأنعام التي ليس لها هَمٌّ إلاَّ في أَكْلَةٍ وشَرْبَة، ومَنْ استجلب حظوظَ نَفْسِه فكالبهائم. وإنَّ الله - سبحانه - خَلَقَ الملائكةَ وعلى العقلِ جَبَلَهم، والبهائمَ وعلى الهوى فَطَرَهم، وبنى آدم ورَكّبَ فيهم الأمْرَيْن ؛ فَمَنْ غًلَبَ هواه عَقْلَه فهو شرُّ من البهائم، ومَنْ غَلَبَ عَقْلُه هواه فهو خيرٌ من الملائكة. . . كذلك قال المشايخ.
قيل نَزَلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وقت القيلولة في ظل شجرة وكانوا خَلْقاً كثيراً فَمَدَّ اللَّهُ ظِلَّ تلك الشجرة حتى وسع جميعَهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام.
وقيل إن الله في ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرضَ كلَّها ظلاً، ثم إذا طلعت الشمسُ وانبسط على وجه الأرض شعاعُها فكلُّ شخصٍ يُبْسَطُ له ظِلُّ، ولا يُصيب ذلك الموضعَ شعاعُ الشمس، ثم يتناقض إلى وقت الزوال، ثم يأخذ في الزيادة وقت الزوال. وذلك من أماراتِ قدرة الله تعالى ؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلِّ والضوء والفيء.
قوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ : أي دائماً :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ ؛ أي حال ارتفاعِ الشْمسِ ونُقصانِ الظِّلِّ.
ويقال : ألم تر إلى ربك كيف مدَّ ظل العناية على أحوال أوليائه ؛ فقومٌ هم في ظل الحماية، وآخرون في ظل الرعاية، وآخرون في ظل العناية، والفقراء في ظل الكفاية، والأغنياء في ظل الراحة من الشكاية.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة ؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم قوله ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ستراً لما كان كاشفه به أولاً، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام :
﴿ لَن تَرَانِى ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] وقال لنبينا عليه السلام :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ وشتان ماهما !
ويقال أحيا قلبه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن قال :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ فجعل استقلاله بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم أفناه بقوله :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ وكذا سُنَّتُه مع عباده ؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:قيل نَزَلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وقت القيلولة في ظل شجرة وكانوا خَلْقاً كثيراً فَمَدَّ اللَّهُ ظِلَّ تلك الشجرة حتى وسع جميعَهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام.
وقيل إن الله في ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرضَ كلَّها ظلاً، ثم إذا طلعت الشمسُ وانبسط على وجه الأرض شعاعُها فكلُّ شخصٍ يُبْسَطُ له ظِلُّ، ولا يُصيب ذلك الموضعَ شعاعُ الشمس، ثم يتناقض إلى وقت الزوال، ثم يأخذ في الزيادة وقت الزوال. وذلك من أماراتِ قدرة الله تعالى ؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلِّ والضوء والفيء.
قوله :﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ : أي دائماً :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ ؛ أي حال ارتفاعِ الشْمسِ ونُقصانِ الظِّلِّ.
ويقال : ألم تر إلى ربك كيف مدَّ ظل العناية على أحوال أوليائه ؛ فقومٌ هم في ظل الحماية، وآخرون في ظل الرعاية، وآخرون في ظل العناية، والفقراء في ظل الكفاية، والأغنياء في ظل الراحة من الشكاية.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة ؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم قوله ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ ستراً لما كان كاشفه به أولاً، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام :
﴿ لَن تَرَانِى ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] وقال لنبينا عليه السلام :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ وشتان ماهما !
ويقال أحيا قلبه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن قال :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ فجعل استقلاله بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ ثم أفناه بقوله :﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ وكذا سُنَّتُه مع عباده ؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء.

جعل الليلَ وقتاً لسكون قومٍ ووقتاً لانزعاج آخرين ؛ فأربابُ الغفلة يسكنون في ليلهم، والمحبون يسهرون في ليلهم إنْ كانوا في رَوْحِ الوصال، فلا يأخذهم النومُ لكمال أُنْسِهم، وإن كانوا في ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم، فالسّهرُ للأحباب صِفَةٌ : إمَّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النومَ للأحباب وقتَ التجلِّي بما لا سبيلَ إليه في اليقظة، فإذا رَأَوْا ربَّهم في المنام يؤثِرون النومَ على السَّهر، قال قائلهم :
وإني لأَستغفي وما بي نَعْسَةٌ لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا
وقال قائلهم :
رأيتُ سرورَ قلبي في منامي فأحببتُ التَّنَعُّسَ والمناما
ويقال النوم لأهلِ الغفلة عقوبةٌ ولأهل الاجتهادِ رحمةٌ ؛ فإن الحقَّ - سبحانه - يُدْخِلُ عليهم النوم ضرورةً رحمةً منه بنفوسهم ليستريحوا من كَدِّ المجاهدة.
يُرْسِلُ رياحَ الكَرَم فتهب على قلوب ذوي الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارِّه، ويرسل رياحَ الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتُكْفَى بالله لله، ويرسِلُ رياحَ الخوفِ على قلوبِ العُصَاةِ فتحملهم على النَّدَمِ، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب، فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شيء إلا عن اللواعج فلا يستقِرُّ إلا بالكشف والتجلَّّي.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:يُرْسِلُ رياحَ الكَرَم فتهب على قلوب ذوي الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارِّه، ويرسل رياحَ الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتُكْفَى بالله لله، ويرسِلُ رياحَ الخوفِ على قلوبِ العُصَاةِ فتحملهم على النَّدَمِ، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب، فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شيء إلا عن اللواعج فلا يستقِرُّ إلا بالكشف والتجلَّّي.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:يُرْسِلُ رياحَ الكَرَم فتهب على قلوب ذوي الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارِّه، ويرسل رياحَ الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتُكْفَى بالله لله، ويرسِلُ رياحَ الخوفِ على قلوبِ العُصَاةِ فتحملهم على النَّدَمِ، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب، فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شيء إلا عن اللواعج فلا يستقِرُّ إلا بالكشف والتجلَّّي.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و ﴿ الطَّهُور ﴾ هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.

إنَّ الله - سبحانه - خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم بأن فضَّله على الكافة، وأرسله إلى الجملة، وبألا يُنْسَخَ شَرْعُه إلى الأبد. وبهذه الآية أدَّبه بأدقِّ إشارة، حيث قال :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ﴾ وهذا كما قال :﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ [ الإسراء : ٨٦ ].
وَقَصْدُ الحقِّ أن يكون خواصُّ عباده أبداً معصومين عن شواهدهم.
وفي القصة أن موسى عليه السلام تَبَرَّمَ وقتاً بكثرة ما كان يُسْأل، فأوحى الله في ليلة واحدة إلى ألف نبي من بني إسرائيل فأصبحوا رُسلاً، وتفرَّقَ الناسُ عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلبُ موسى وقال : يا رب، إني لا أطيق ذلك ! فقبض اللَهُ أرواحهم في ذلك اليوم.
أي كُنْ قائماً بحقِّنا من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا أو مبالاةٌ بِمَنْ سوانا، فإنَّا نَعْصِمُكَ بكلِّ وجهٍ، ولا نرفع عنك ظِلَّ عنايتنا بحالٍ.
البحر المِلْح لا عذوبة فيه، والعَذْبُ لا ملوحة فيه، وهما في الجوهرية واحد، ولكنه سبحانه - بقدرته - غَايَر بينهما في الصفة، كذلك خَلَقَ القلوبَ ؛ بعضُها مَعْدِنُ اليقينِ والعرفانِ، وبعضُها مَحَلُّ الشكِّ والكفران.
ويقال أثبت في قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء ولا الرجاء يغلب الخوف.
ويقال خَلَقَ القلوبَ على وصفين : قلبَ المؤمن مضيئاً مشرقاً وقلبَ الكافر أسود مظلماً، هذا بنور الإيمان مُزَيَّن، وهذا بظلمة الجحود مُعَلَّم.
ويقال قلوبُ العوام في أسْرِ المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوبُ الخواصِّ مُعْتَقَةٌ عن المطالب، مُجَرَّدَةٌ عن رِقِّ الحظوظ.
الخَلْقُ متشاكلون في أصل الخِلْقة، متماثلون في الجوهرية، متباينون في الصفة، مختلفون في الصورة ؛ فنفوسُ الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلْقُ بَشَرٌ. . ولكن ليس كلُّ بَشَرٍ كبشر ؛ واحدٌ عدوٌّ لا يسعى إلا من مخالفته، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظِّه، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقي عن حدِّ الوقاحة والخساسة، وواحدٌ وليٌّ لا يَفْتَرُ عن طاعته، ولا يَنْزِل عن هِمَّتِه، فهو في سماء تعززه بمعبوده.
وبينهما للناس مناهل ومشارب ؛ فواحِدٌ يكون كما قال :﴿ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ﴾.
يكتفي بالمنحوتِ من الخشب، والمصنوعِ من الصَّخْرِ، والمُتَّخَذِ من النحاس، وكلُّها جمادات لا تعقل ولا تسمع، ولا تضر ولاَ تنفع.
أما المؤمنُ فإنَّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش - وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوقٍ - وإن اتصف بمناقب لا تُحْصَى.
رسولاً مِنَّا، مأموراً بالإنذار والتبشير، واقفاً حيث وقفناك على نعت التبليغ، غيرَ طالب منهم أجراً، وغير طامع في أن تجد منهم حظَّاً.
﴿ إِلاَّ ﴾ أداة استثناء منقطع ؛ إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربِّهم ليس بأجرٍ يأخذه منهم، فهو لِمَنْ أقْبَلَ بشيرٌ، ولِمَنْ أعرض نذير.
التوكلْ تفويضُ الأمور إلى الله وحقُّه وأصْلُهُ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحدٌ على الإيجاد غيرُه.
فإذا عَرَفَ هذا فهو فيما يحتاج إليه - إذا عَلِمَ أن مرادَهُ لا يرتفع إلا مِنْ قِبَلِ الله - حصل له أصل التوكل. وهذا القَدْرُ فَرْضٌ، وهو من شرائط الإيمان، فإن الله تعالى يقول :﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ المائدة : ٢٣ ] وما زاد على هذا القَدْرِ - وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار - فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.
فإن تقرَّرَ هذا فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلِّ درجةٍ من هذه الأقسام اسم : إمَّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفي بما فيه يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. . وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحبها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له فلا يستزيد ثم اكتفاءُ كلِّ أحدٍ يختلف في القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء في التخلص من الْحِرصِ وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكونُ القلب في حالة عَدَمِ وجود الأسباب، فيكون مجرداً عن الشيء، ويكون في إرادته متوكلاً على الله. وهؤلاء متباينون في الرتبة، فواحد يكتفي بوعده لأنه صَدَقَه في ضمانه، فيسكن - عند فقد الأسباب - بقلبه ثقةً منه بوعد ربه. . ويسمى هذا توكلاً، ويقال على هذا : إن التوكل سكون القلب بضمان الربِّ، أو سكون الجاش في طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعِلْمِ أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله ؛ ويعمل على طاعته ؛ ولا يراعي إنجاز ما وَعَدَهَ ؛ بَل يِكلُ أمرَه إلى الله. . وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض، وهو أنْ يَكِلَ أمرَه إلى الله. ولا يقترح على مولاه بحالٍ، ولا يختار ؛ ويستوي عند وجودُ الأسباب وعَدَمُها ؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله ؛ ولا يفكر في حال نَفْسِه ؛ ويعلم أنه مملوكٌ لمولاه ؛ والسيِّدُ أوْلَ بِعَبْدِهِ من العبد بنفسه.
فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ راحةً في المَنْع ؛ واستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ. . . وتلك هي مرتبة الرضا ؛ ويصلح له في هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه ما لا يحصل لِمَنْ دونَه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا الموافقة ؛ وهي ألا يجد الراحة في المَنْعِ، بل يجد بَدَلَ هذا عند نسيم القربِ زوائد الأُنْس بنسيان كلِّ أرَبٍ، ونيسان وجود سبب أو عدو وجود سبب ؛ فكما أنَ حلاوة الطاعة تتصاغر عند بَرْدِ الرضا - وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجاباً - فكذلك أهل الأُنْسِ بالله. بنسيانِ كلِّ فَقْدٍ ووَجْدٍ، وبالتغافل عن أحوالهم في الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف نقصاناً في الحال.
ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء. . وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أُنْسَ ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم فأمّا دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين - على تباين شِرْبِهم. - يختلف على على حسب اختلاف محالِّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل في المهد ؛ لا شيء مِنْ قِبَلِه إلا أن يرضعه مَنْ هو في حضانته.
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجاري الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب بجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح في توكله.
ويقال عوام المتوكلين إذا أُعْطُوا شكروا، وإذا مُنعُوا صبروا. وخواصُّهم إذا أَعْطُوا آثروا، وإذا مٌنِعُوا شكروا.
ويقال الحقُّ يجود على الأولياء - إذا توكلوا - بتيسير السبب من حيث يُحْتَسَبُ ولا يُحْتَسَبُ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب. . . وإذا لم يكن الأرَبُ فمتى يكون الطلب ؟
ويقال التوكل في الأسباب الدنيوية إلى حدَّ، فأمَّا التوكل على الله في إصلاحه - سبحانه - أمورَ آخرِة العبد فهذا أشدُّ غموضاً، وأكثرُ خفاءً. فالواجبُ في الأسباب الدنيوية أن يكون السكونُ عن طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً. فأمَّا في أمور الآخرة وما يتعلَّقُ بالطاعةِ فالواجبُ البِدارُ والجِدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتَّصِفُ بالتواني في العبادات، ويتباطؤ في تلافي ما ضيَّعَه من أرضاء الخصوم والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله وأنه - سبحانه - يعفو عنه فهو مُتَّهَمٌ معلولُ الحالِ، ممكورٌ مُسْتَدْرَجٌ، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه. ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستنِدُ إلى سكونه وحركته، ويتبرأُ بِسِرِّه من حَوْلِهِ وقوَّتِه. ثم يكون حَسَنَ الظنِّ بربِّه، ومع حُسْنِ ظنه بربه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقتُ غالِبٌ، وهو أحد ما قيل في معاني قولهم : الوقت سيف.
انتظم به الكونُ - والعرشُ من جملة الكون - ولم يتجمَّل الحقُّ - سبحانه - بشيءٍ من إظهار بَرِيَّتهِ ؛ فعلوُّه على العرش بقهره وقدرته، واستواؤه بفعلٍ خص به العرش بتسوية أجزائه وصورته.
أقبل الحقُّ - سبحانه - بلطفه وبفضله على أقوام فلذلك وجدوه، وأعرض عن آخرين بتكبره وتعزُّزِه فلذلك جحدوه ؛ فَطَرَهُم على سِمَةِ البُعْدِ، وعَجَنَ طينتهم بماء الشقاوة والصدِّ ؛ فلما أظهرهم ألبسهم صدار الجهل والجحد.
زيَّنَ السماء الدنيا بمصابيح، وخلَق فيها البروجَ، وبَثَّ فيها الكواكب، وصان عن الفطورِ والتشويش أقطارَها ومناكبَها، وأدار بقدرته أفلاكها، وأدام على ما أراد إمساكها.
وكما أثبت في السماء بروجاً أثبت في سماء قلوب أوليائه وأصفيائه بروجاً ؛ فبروجُ السماء معدودة وبروج القلب مشهودة.
وبروجُ السماء بيوتُ شمسها وقمرها ونجومها، وبروجُ القلب مطالعُ أنوارها ومشارِقُ شموسها ونجومها. وتلك النجوم هي نجوم القلوب كالعقل والفهم والبصيرة والعلم، وقمرُ القلوبِ المعرفةُ.
قمرُ السماء له نقصان ومحاق، وفي بعض الأحايين هو بَدْرٌ بوصف الكمال، وقمر المعرفة أبداً له إشراق وليس له نقصان أو محاق، ولذا قال قائلهم :
دع الأقمارَ تخبو أو تنير لها بَدْرٌ تذلُّ له البدور
فأمّا شمسُ القلوب فهي التوحيد، وشمسُ السماءِ تغرب ولكن شمسَ القلوب لا تغيب ولا تغرب، وفي معناه قالوا :
إن شمسَ النهارِ تغرب بالليل وشمسُ القلوب ليست تغيب
ويصحُّ أن يقال إن شمس النهار تغرب بالليل، وشمس القلوب سلطانُها في الضوء والطلوع بالليل أتمُّ.
الأوقاتُ متجانِسةٌ، وتفضيلُها بعضها على بعضٍ على معنى أنَّ الطاعة في البعض أفضل والثوابُ عليها أكثر. والليلُ خلفَ النهار والنهارُ خلفَ الليلِ، فَمَنْ وقع له في طاعة الليل خَلَلٌ فإذا حضر بالنهار فذلك وجود جُبْرانه، وإن حصل في طاعة النهار خللٌ فإذا حضر بالليل ففي ذلك إتمامٌ لنقصانه.
الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفِّقُوا للطاعات، فبرحمتِه وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعِبادُ الرحمن الذين يستحقون غداً رحمته هم القائمون برحمته ؛ فبرحمته وصلوا إلى طاعته. . . هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جَنَّتِه. . . هكذا لسان الشريعة.
ومعنى ﴿ هَوْناً ﴾ متواضعين متخاشعين.
ويقال شرْطُ التواضع وحَدُّه ألا يستَحْسِنَ شيئاً من أحواله، حتى قالوا : إذا نَظَرَ إلى رِجْلِه لا يستحسن شِسْعَ نَعْلِهِ، وعلى هذا القياس لا يُساكِنُ أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
قوله :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً ﴾ : قيل سداد المنطق ؛ ويقال مَنْ خاطَبَهم بالقَدْح فهم يجاوبونه بالمدح له.
ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، والطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرِّفق، وحُسْنِ الخُلقِ، والقولِ الحَسَنِ والكلام الطيب.
ويقال يخبرون مَنْ جفاهم أنهم في أمانٍ من المجافاة.
يبيتون لربهم ساجدين، ويصبحون واجدين ؛ فَوَجْدُ صباحهم ثمراتُ سجودِ أرواحهم، كذا في الخبر :" مَنْ كَثُرَتْ صلاتُه بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار " أي عَظُم ماءُ وجهه عند الله، وأحسنُ الأشياء ظاهِرٌ بالسجود مُحَسَّنٌ وباطنٌ بالوجود مُزَيَّنٌ.
ويقال متصفين بالسجود قياماً بآداب الوجود.
يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التَنَصُّل كما قيل :
وما رُمْتُ الدخولَ عليه حتى حَلَلْتُ محلة العبد الذليل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٥:يجتهدون غاية الاجتهاد، ويستفرغون نهاية الوسع، وعند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التَنَصُّل كما قيل :
وما رُمْتُ الدخولَ عليه حتى حَلَلْتُ محلة العبد الذليل.

الإسرافُ أن تنفق في الهوى وفي نصيب النّفْس، فأمّا ما كان لله فليس فيه إسراف، والإقتارُ ما كان ادخاراً عن الله. فأمَّا التضييقُ على النَّفْس منعاً لها عن اتباع الشهوات ولتتعودَ الاجتراء باليسير فليس بالاقتار المذموم.
﴿ إِلَهاً ءَاخَرَ ﴾ : في الظاهر عبادة الأصنام المعمولة من الأحجار، المنحوتة من الأشجار.
وكما تتصف بهذا النفوسُ والأبْشارُ فكذلك توَهَّمُ المبارِّ ولا مضارِّ من الأغيار شِرْكٌ.
﴿ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ﴾ من النفوس المُحَرَّم قَتْلُها على العبد نَفْسه المسكينةُ، قال تعالى :
﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وقَتْلُ النّفس من غير حقِّ تمكينُك لها من اتباع ما فيه هلاكُها في الآخرة ؛ فإنَّ العبدَ إذا لم يُنْهَ مأمورُ.
ثم دليل الخطاب أن تقتلها بالحقِّ، وذلك بِذَبْحِها بسكين المخالفات، فما فَلاحُكَ إلا بقتل نَفْسِكَ التي بين جنبيك.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾.
يضاعَفُ لهم العذابُ يومَ القيامة بحسرات الفرقة وزفرات الحرقة. وآخرونَ يضاعف لهم العذابُ اليومَ بتراكم الخذلان ووشك الهجران ودوام الحرمان. بل مَنْ كان مضاعَفَ العذاب في عقباه فهو الذي يكون مضاعَفَ العذاب في دنياه ؛ جاء في الخبر :" مَن كان بحالةٍ لقي الله بها ".
إلا من تاب من الذنب في الحال ؛ وآمن في المآل.
ويقال :﴿ وَءَامَنَ ﴾ أن نجاته بفضل الله لا بتوبته، ﴿ وَعَمَلَ صَالِحاً ﴾ لا ينقض توبتُهُ.
ويقال إن نقَضَ توبته عَمِلَ صالحاً أي جَدَّدَ توبتَه ؛ ﴿ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيْئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ ويخلق لهم التوفيق بدلاً من الخذلان.
ويقال يبدل الله سيئاتهم حسنات فيغفر لهم ويثيبهم على توبتهم.
ويقال يمحو ذِلَّة زَلاَّتِهِم، ويثبت بَدَلَها الخيرات والحسنات، وفي معناه أنشدوا :
ولما رضوا بالعفو عن ذي زلةٍ حتى أنالوا كفَّه وأفادوا
يستمكنون في مواطن الصدق لا يبرحون عنه ليلاً ونهاراً، وقولاً وفعلاً. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين مُعْرِضين لا يساكِنون أهل تلك الحالة.
ويقال نزلت الآية في أقوام مرُّوا - لمَّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرةً - متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فَشَكَرَ اللَّهُ لهم ذلك.
ثم قال في صفتهم :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٢:يستمكنون في مواطن الصدق لا يبرحون عنه ليلاً ونهاراً، وقولاً وفعلاً. وإذا مروا بأصحاب الزلات ومساكن المخالفات مروا متمكنين مُعْرِضين لا يساكِنون أهل تلك الحالة.
ويقال نزلت الآية في أقوام مرُّوا - لمَّا دخلوا مكة بأبواب البيوت التي كانوا يعبدون فيها الأصنام مرةً - متكرمين دون أن يلاحظوها أو يلتفتوا إليها فَشَكَرَ اللَّهُ لهم ذلك.
ثم قال في صفتهم :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.

قرة العين مَن به حياة الروح، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقِّ الله قائماً.
ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقاً، ولمخالفة أمره مفارقاً.
﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ الإمام مَنْ يُقْتَدى به ولا يَبْتَدِع.
ويقال إن الله مدح أقواماً ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدَّعوا فيها اختيارهم ؛ فالإمامةُ بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا :﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾.
يعطي - سبحانه - كثير من عطائه ويعده قليلاً، ويقبل اليسيرَ من طاعة العبد ويعده كثيراً عظيما، يعطيهم الجنة ؛ قصوراً وحوراً ثم يقول :﴿ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ﴾ ويقبل اليسير من العبد فيقول :﴿ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٢ ].
لَيَرْوه من غير تكلف نقل، ولا تحمل قطع مسافة.
ويقال :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ﴾ [ الرحمن : ٦٠ ] : اليومَ يحضر العبدُ بيتَه لأداء العبادة، وينقل أقدامه إلى المساجد، وغداً يجازيهم بأن يكفيهم قطعَ المسافة، فهم على أرائكهم - في مستقرِّ عِزِّهم - يسمعون كلام الله، وينظرون إلى الله.
قوله :﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي صبروا عمَّا نهوا عنه، وصبروا على الأحكام التي أجراها عليهم بِتَرْكِ اختيارهم، وحُسْن الرضا بتقديره.
مقيمين لا يبرحون منازلهم، وفي أحوالهم حَسُنَ مستقرُّهم مستقراً، وحَسُن مقامهم مقاماً.
لولا عبادتكم الأصنامَ ودعاؤكم إياها باستحقاق العبادةِ وتسميتكم لها آلهةً. . . متى كان يخلدكم في النار ؟
ويقال لولا تضرعكم ودعاؤكم بوصف الابتهال لأدام بكم البلاء، ولكن لما أخذْتُم في الاستكانةِ والدعاء، وتضَرَّعتُم رحِمَكم وكَشَفَ الضرَّ عنكم.
Icon