ﰡ
أخرج الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون( فطأطأ رأسه واخرج ابن مردويه بلفظ كان يلتفت في السماء فنزلت وذكره البغوي أنه قال أبو هريرة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزل الذين هم في صلاتهم خاشعون رموا بأبصارهم إلى مواضع السجود واخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فنزلت. قرا ورش بإلقاء حركة همزة أفلح على دال قد وحذف الهمزة، وكلمة قد تثبت ما كان متوقعا، كما أن لما ينفيه وتدل على ثباته إذا دخل على الماضي ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين الفلاح بفضل الله صدرت بها بشارة لهم، والفلاح قال في القاموس هو الفوز ( يعني بالمقصود ) والنجاة ( يعني من المرهوب ) والبقاء في الخير، وهو دنيوي وأخروي والمراد ها هنا الفلاح الأخروي الكامل وكماله أن لا يعذب أصلا لا في القبر ولا بالمناقشة في الحساب وشدائد يوم القيامة ولا بدخول النار ولا بصعوبة المرور على الصراط وبفوز إلى أعلى المقاصد في الجنان ومراتب القرب والرؤية والرضوان من الملك الديان.
وأما الفلاح في الجملة فغير مختصر بالمنصفين بهذه الصفات المذكورة في تلك الآيات بل هو لكل من قال لا إلاه إلا الله قال الله تعالى :( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( والإيمان والتوحيد نفسه رأسه الخيرات ومن ها هنا قال ابن عباس قد سعد المصدقون بالتوحيد وبقوا في الجنة وروي عن ابن عباس مرفوعا :" خلق الله جنة عدن ودلى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها فقال تكلمني فقالت :( قد أفلح المؤمنون( فقال : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل " رواه الطبراني قلت : لعل المراد بالبخيل ها هنا هو الكافر فإنه يبخل عن أداء حق الله تعالى في التوحيد وأخرج أيض&ا الطبراني بسند آخر جيد عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال : تكلمي فقالت ( قد أفلح المؤمنون( وأخرج البزار والطبراني والبيهقي نحوه عن أبي سعيد الخذري مرفوعا والبيهقي عن مجاهد وعن كعب نحوه والحاكم عن أنس نحوه، وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خلق الله تبارك وتعالى جنة عدن من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجد خضراء وملاطها المسك وحشيشها الزعفران وحصانها اللؤلؤ وترابها العشير ثم قال لها انطقي قالت :( قد أفلح المؤمنون( قال : وعزتي لا يجاورني فيك بخيل ".
قلت : ويمكن أن يقال أن المراد بالفلاح دخول الجنة مطلقا لو بعد التعذيب وذلك لجميع المؤمنين كما تدل عليه الأحاديث المذكورة، والتقييد في القرآن بالصفات المذكورة ليس للاحتراز بل للمدح، فإن شأن المؤمن يقتضي الاتصاف بتلك الصفات وعلى تقدير كون المراد بالفلاح الفلاح الكامل وكون التقييد بالصفات للاحتراز لا يدل تلك الآيات إلا على الوعد بالفلاح الكامل للمؤمنين الكاملين المنصفين بتلك الصفات ولا تدل على نفي الفلاح عن غيرهم من المؤمنين لأنا لا نقول بمفهوم الصفة كما قرر في الأصول أن التقيد بالشرط أو الصفة يجعل ما لا يوجد فيه الشرط أو الصفة في حكم المسكوت عنه وهو المراد بالاحتراز أنه يجعله في حكم المنطوق بنفي الحكم، وقد انعقد الإجماع على أن أهل الكبائر من المؤمنين وإن ماتوا بغير مآلهم إلى الجنة وهم في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبهم ثم يدخلهم الجنة وإن شاء غفر لهم بلا تعذيب.
والخاشعون قال ابن عباس هم المخبتون أذلاء، وقال الحسن خائفون وقال مقاتل متواضعون وقال مجاهد هو غض البصر وخفض الصوت، وعن علي كرم الله وجهه هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا وقال سعيد بن جبير لا يعرف من لا على يمينه ولا من على شماله ولا يلتفت من الخشوع لله تعالى وقال عمرو بن دينار هو السكون وحسن الهيئة، وقال جماعة هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك وقال عطاء هو أن تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وقيل : الخشوع في الصلاة هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواه والتدبر فيما يجرى على لسانه من القراء والذكر، وأن لا يجاوز مصلاه ولا يلتفت ولا يغيب ولا يميل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ولا يفعل شيئا مما يكره في الصلاة، وعن أبي الدرداء هو إخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام وفي القاموس الخشوع هو الخضوع أي التواضع أو هو قريب من الخضوع أو هو في البدن والخشوع في الصوت والبصر والسكون والتذلل، وفي النهاية الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد ما كان في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي وعن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة قال :" هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " متفق عليه، وعن أنس بن مالك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال :" لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم رواه البغوي، وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم " عن جابر بن سمرة بلفظ :" لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا يرجع إليهم أبصارهم " رواه احمد ومسلم وأبو داود واب ماجة وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال :" لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه " رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه " رواه البغوي ورواه أحمد وابن عدي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبي ذر.
فصل
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد " رواه البيهقي في سننه الكبير، وعنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان لابد ففي التطوع لا في الفريضة ".
( والذين هم عن اللغو( قال عطاء عن ابن عباس عن الشرك، وقال الحسن عن المعاصر قلت : والأولى أن يقال عما لا يفيدهم في الآخرة كلاما كان أو غيره ولا يحمد عليه من قول أو فعل ( معرضون( فضلا عن ارتكابهم ما يضرهم من الشرك والمعاصي، وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب قال الله تعالى :( وإذا مروا باللغو مروا كراما( أي إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه قال البيضاوي هو أبلغ من الذين لا يلهون بوجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا مباشرة وتسبيبا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه
وكذلك قوله :( والذين هم للزكاة فاعلون( الزكاة يطلق على القدر الواجب الذي يخرجه المزكي من النصاب وعلى ما فعل المزكي والمراد ها هنا الفعل لأن الفاعل إنما يفعل الفعل دون العين وجاز أن يراد العين بتقدير المضاف يعني لأداء الزكاة فاعلون وفي لفظ فاعلون دلالة على المداومة ودخول اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل عن العمل يقال هذا ضارب لزيد ولا يقال ضرب لزيد وقيل : الزكاة ها هنا هو العمل الصالح أي والذين هم للعمل الصالح فاعلون
( والذين هم لفروجهم حافظون( الفرج اسم لجميع سوءة الرجل والمرأة وحفظ الفرج التعفف عن الحرام
( إلا على أزواجهم( صلة لحافظون من قولك احفظ علي عنان فرسي يعني لا تطلقه واستقام المعنى لتضمن الحفظ معنى نفي البزل أو صلة لمقدر وهو لا يبذلونها لدلالة قوله غير مومين عليه، وجاز أن يكون المستثني المفرغ منصوبا على الحال والتقدير حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا قادرين على أزواجهم أي زوجاتهم ( أو ما ملكت أيمانكم( أي سرياتهم يعني ناكحين أو مالكين قال البيضاوي إنما قال ما إجراء للمماليك مجرى غير ذوي العقول إذ الملك أصل شائع فيه، قلت : بل المراد منه الإماء فإن النساء لقلة عقلهن ملحقات بغير ذوي المعقول ولذلك يستعمل ضمائر التأنيث لغيرلا ذوي العقول فإيراد كلمة ما للدلالة على أن المراد به الإماء دون العبيد من المماليك فلا يجوز للنساء الاستمتاع بفروج عبيدهم ( فإنهم غير ملومين( في إتيانها والضمير المنصوب لحافظون ولمن دل عليه الاستثناء أي فإن بذلوها على أزواجهم وإمائهم فإنهم غير ملومين
( فمن ابتغى وراء ذلك( المستثنى أي طلب سوى الأزواج والإماء المملوكة لبذل الفرج ( فأولئك هم العادون( أي الكاملون في الظلم والعدوان المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام وهذه الآية ناسخة لمتعة النساء عن ابن عباس قال إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم( قال ابن عباس " فكل فرج سواهما فهو حرام " رواه الترمذي ولا شك أن النساء اللائي يتمتع بهن لسن من الأزواج للإجماع على عدم التوارث بينهم حتى لا تقول الروافض أيضا بالتوارث وقد قال الله تعالى :( ولكم نصف ما ترك أزواجكم( وقد ذكرنا مسألة متعة النساء في تفسير سورة النساء في تفسير قوله تعالى :( فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة( أيضا في هذه الآية دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول العلماء قال ابن جريح سألت عطاء عنه فقال : مكروه سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم هؤلاء وعن سعيد بن جبير قال : عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم
( والذين هم لأماناتهم( قرأ ابن كثير ها هنا وفي المعارج لأماناتهم على التوحيد والباقون بالجمع ( وعهدهم راعون( أي لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق كالصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي أوجبها الله تعالى، أو من جهة الخلق كالودائع والبضائع وما واعد الناس وعاقدهم فعلى العبد الوفاء بجميعها، عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وقد خسر فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى " انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك، وفي رواية ثم الزكاة مثل ذلك ثم يؤخذ الأعمال على حسب ذلك " رواه أبو داود ورواه أحمد عن رجل
( والذين هم على صلواتهم( قرأ حمزة والكسائي صلاتهم على التوحيد والباقون على الجمع ( يحافظون( أي يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ولفظ الحفظ لما في الصلاة من التجدد والتكرار وليس تكرارا لما وصفهم به أولا لأن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها وفي تصدير ذكر الصلاة والختم بأمرها تعظيم لشأنها ووحدت الصلاة في الأمر بالخشوع لإفادة أنه لا بد من الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت وجمعت في المحافظة عند أكثر القراء آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل
( أولئك( أي الجامعون لهذه الصفات ( هم الوارثون( الأحقاء بأن يسموا وارثا دون غيرهم جملة معترضة للمدح
( الذين يرثون الفردوس( صفة للوارثين بيان لما يرثونه والتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا يعني يرثون منازل الكفار التي أعدت لهم إن آمنوا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى :( أولئك هم الوارثون( رواه ابن ماجة وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث وأخرج عبد الرزاق وعبد الحميد وابن جرير والحاكم وصححه عن أبي هريرة بلفظ " يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله " وأخرج ابن ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فر إلى الجنة وينالونها كما يؤل أمر الوارث إلى الوارث والفردوس أعلى الجنة وقد مر ذكره مشروحا في سورة الكهف ( هم فيها( الضمير راجع إلى فردوس وتأنيث الضمير لكونه اسما للجنة ( خالدون( لا يموتون فيها ولا يخرجون منها جملة مستأنفة روى أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ثم قال :" أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ ( قد أفلح المؤمنون( حتى ختم عشر آيات قال النسائي : منكر وصححه الحاكم، وهذه الآية جامعة لأبواب الخير كلها فإن الله تعالى وصف المؤمنين بالخشوع في الصلاة والمواظبة على الزكاة والإعراض عن اللغو والتجنب عن المحرمات وسائر ما يوجب المروءة الذاتية والصفاتية والله أعلم.
( ولقد خلقنا( جنس ( الإنسان( أو آدم عليه السلام وهذا جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على قوله :( قد أفلح المؤمنون( فإنه كان في ذكر الإيمان وأصناف العبادات والطاعات وهذه الجملة لبيان استحقاقه تعالى لعباده والطاعة وسبب وجوبها، فكأنه قال وقد حق لهم أن يعبدونا ويوحدونا لأن والله لقد خلقناكم ( من سلالة( أي خلاصة سلت من بين الكدر ومن للابتداء ( من طين( من للبيان أي سلالة هو طين صفة لسلالة.
أي سلالة كائنة من طين سلت من وجه الأرض، وكان آدم من طين سلت من الأرض وسائر الناس من النطف التي هي من الأغذية التي هي من الأرض وجاز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بمعنى سلالة لأنها بمعنى مسلولة فيكون من ابتدائية وقال الكلبي المراد بالطين آدم عليه السلام والمعنى خلقنا جنس الإنسان من نطفة سلت من طين هو آدم عليه السلام، أخرج عبد الرزاق وابن جرير وعبد بن حميد وابنأبي حاتم عن قتادة أن المراد بالطين آدم عليه السلام وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله تعالى :( من سلالة من طين( قال من مني بني آدم قال البغوي وروى عن ابن عباس أنه قال : السلالة صفوة الماء وقال عكرمة هو الماء سل من الظهر والعرب تسمي النطفة سلالة
( ثم جعلناه( أي السلالة وتذكير الضمير على تأويل المسلول ( نطفة( وجاز أن يكون الضمير راجعا إلى الإنسان ونطفة منصوبا بنزع الخافض فإن كان المراد بالإنسان آدم فمضاف الضمير محذوف أقيم المضاف إليه مقامه والمعنى ثم خلقنا ذلك الجنس من نطفة أو خلقنا بنيه من نطفة كائنة ( في قرار مكين( أي مقر حريز وهو الرحم والمكين في الصل صفة للمستقر وصف به المحل مبالغة كما عبر عنه بالقرار وهو مصدر
( ثم خلقنا( أي صيرنا ( النطفة( البيضاء ( فخلقنا( صيرنا ( العلقة مضغة( قطعة لحم قدر ما يمضغ ( فخلقنا( صيرنا ( المضغة عظاما( بأن صلبناها ( فكسونا العظام لحما( مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها ولحما منصوب بنزع الخافض أي كسونا العظام بلحم أو هو مفعول ثان لكسونا لتضمنه معنى أعطينا يقال كسوت زيدا حلة أي أعطيته إياها قرأ الجمهور عظاما والعظام في الموضعين بلفظ الجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة، وقرأ أبو بكر وابن عامر عظما والعظم على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ( ثم أنشأناه( الضمير عائد إلى السلالة أو إلى الإنسان سواء كان المراد به الجنس أو آدم عليه السلام ولا حاجة ها هنا إلى تتقدير المضاف ( خلقا ءاخر( مصدر لأنشأنا من غير لفظه يعني خلقناه خلقا آخر أو مفعول ثان له بتضمينه معنى صيرنا وجاز أن يكون بدل اشتمال للضمير المنصوب والمعنى أنشأناه أي السلالة أو الإنسان خلقا آخر قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية هو نفخ الروح فيه قلت : لعل المراد بالروح في قولهم هو الروح السفلي المسمى بالروح الحيواني وبالنفس التي هي مركب للروح العلوي الذي هو من عالم الأرواح ومقره فوق العرش في النظر الكشفي وليس هو بمكاني والنفس هي البخار المنبعث من العناصر المصور عن هيئة الجسم وهو جسم لطيف سار في الجسم الكثيف وعلى هذا يصح إرجاع ضمير أنشأناه إلى السلالة، بخلاف ما إذا كان المراد به الروح العلوي فإنه غير مأخوذ من السلالة وأيضا كلمة ثم تدل على ذلك فإن خلق الأرواح العلوية قبل خلق الأبدان فإن الأبدان لم تكن موجودة حين أخذ الله الميثاق من الأرواح وأما نفخ الروح فهو صفة من صفاته تعالى قال الله تعالى :( ونفخت فيه من روحي( وإن كان تأخره من تكسية العظام صادق باعتبار تأخر تعلق الصفة القديمة، اللهم إلا أن يقال المراد بالإنشاء نفخ الروح لا خلق الروح والله أعلم.
عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزق وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة " متفق عليه، فإن قيل : ورد في الحديث تحويلات خلق الإنسان بكلمة ثم وهي تدل على التراخي وفي كتاب الله بكلمة الفاء وهي للتعقيب فما وجه التطبيق بينهما ؟ قلت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين كل كلمة الفاء للدلالة على أن تلك المدة الطويلة وهي أربعون يوما قصيرة جدا نظرا إلى ما يقتضي تفاوت كل طور منها إلى طور آخر وأما إيراد كلمة ثم في بعض المواضع وكلمة الفاء في بعضها فلتفاوت الاستحالات ألا ترى أن استحالة السلالة إلى النطفة في غاية البعد واستحالة النطفة التي استقرت في صلب الرجل وتراتب المرأة زمانا طويلا، ثم وصلت في رحم المرأة وامتزجت هناك وبقيت في الرحم نطفة أربعين يوما ثم تحولت إلى العلقة أيضا لطول زمانه وتراخيه يقتضي العطف بكلمة ثم بخلاف التحويلات الآخر من العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى العظام وإلى تكسية العظام لحما فكل ذلك ليس بتلك المثابة من البعد ولأجل ذلك أوردها بلفظة الفاء وأورد كلمة ثم في قوله ( ثم أنشأناه خلقا ءاخر( للتراخي في الرتبة وكمال التفاوت بين الخلقتين والله أعلم.
مسألة : هذه الآية تدل على أنه من غضب بيضة فأفرخت عنده ثم مات الفرخ أو أخذ من الحرم بيضة فأخرجها إلى الحل ثم أفرخت لزمه ضمان البيضة دون الفرخ لأنه خلق آخر وفيه الروح السفلي وهو الروح الحيواني والله أعلم، وقال قتادة معنى قوله : ثم أنشأناه خلقا آخر نبات الأسنان والشعر وروى ابن جرير عن مجاهد أنه استواء الشباب، وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى، وروى العوفي عن ابن عباس إن ذلك تصريف احواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى الفطام إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم وينقلب في البلاد إلى ما بعدها قلت ويمكن أن يكون المراد بقوله تعالى :( ثم أنشأناه خلقا ءاخر( الولادة الثانية التي يكون للفقراء بالفناء والانخلاع من الصفات البهيمية والسبعية والبشرية إلى الصفات الملكية والارتقاء منها إلى الصفات الرحمانية والبقاء بذات الله تعالى أو بصفاته القدسية وهذا التأويل أليق بالعطف بكلمة ثم. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
( فتبارك الله( أي تعالى وتعظم من أن يتخذ له شريكا أو يتهاون في امتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه والفاء السببية فإن اتصافه تعالى بما ذكر من الخلق دليل على كمال قدرته وحكمته يقتضي الحكم بكبريائه وعظمته وعلو منزلته واستحالة شريكه شريكه ( أحسن الخالقين( بدل من الله أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض من التفصيلية، والتمييز لهما محذوف تقديره أحسن الخالقين خلقا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه، واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العباد خالقون لأفعالهم الاختيارية حتى يتحقق التفضيل وقد دلت البراهين العقلية والأدلة الشرعية على أن الأفعال الاختيارية للعباد مخلوقة لله تعالى حيث قال الله تعالى :( خلقكم وما تعملون( ولأن الممكن الذي لا يقتضي ذاته وجوده لا يتصور أن يقتضي ذاته وجود غيره وعليه انعقد إجماع الصحابة ومن بعدهم من علماء النصيحة، فالجواب عن استدلال المعتزلة إنا لا ننكر أن العباد في أفعالهم الاختيارية نوعا من الإرادة والاختيار وذلك الإرادة والاختيار مناط التكليف ومنشأ الثواب والعقاب وموجب لإسناد الأفعال إليهم وتسميه بالكسب لكن ذلك الإرادة والاختيار غير كافية لإيجاد معدوم أصلا جوهرا كان أو عرضا وإنما الإيجاد بقدرة الله الكاملة وإرادته واختياره وتعلق قدرته وإراداته واختياره بمخلوق نسميه خلقا وذلك كاف لإيجاد كل معدوم غير أن الله سبحانه اقتضت حكمته ( وإن خفيت علينا ) أن يجعل لكسب العبد أيضا مدخلا في بعض أفعالهم فنزاعنا مع المعتزلة في المعنى فإنهم يقولون إن قدرة العبد وإرادته كاف إيجاد المعدوم ونحن لا نقول به ولا نزاع لنا في جوهر إطلاق لفظ الخلق على كسب العبد فإنه نزاع لفظي وكلمة ( أحسن الخالقين( إنما تدل على صحة إطلاق لفظ الخلق لغة على معنى الكسب والخلق المصطلحين ومن ها هنا قال مجاهد معناه يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين يقال رجل خالق أي صانع وقال الله تعالى :( وتخلقون إفكا( وقال الله تعالى حكاية عن عيسى ( أي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير( وقيل معنى الخالقين ها هنا المصورين أو المقدرين والخلق في اللغة التقدير قيل : هذا على سبيل الفرض وفرض المحال ليس بمحال يعني لو فرضنا تعدد الخالقين وكما هو رأي المعتزلة مجوس هذه الأمة فالله تعالى أحسنهم.
أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر قال :" وافقت ربي في أربع نزلت، ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآيات فلما نزلت قلت :( فتبارك الله أحسن الخالقين( فنزلت :( فتبارك الله أحسن الخالقين( الحديث، وهذه القصة تدل على أن ما دون الآية ليس بمعجز يقدر عليه البشر حيث نطق به عمر رضي الله عنه وقيل : إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فنطلق بذلك قبل إملائه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت فقال عبد الله إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أهدر دمه فيمن أهدر من الدماء فجاء عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله فصمت طويلا ثم قال نعم فلما انصرف عثمان قال النبي صلى الله عليه وسلم ما صمت إلا لتقتلوه فقال رجل هلا أومأت إلينا يا رسول الله فقال : ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين ث أسلم ذلك اليوم وحسن إسلامه قلت : ذكر في سبيل الرشاد ارتداده وإهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه وشفاعة عثمان وغير ذلك لكن لم يذكر أن سبب ارتداده كان نطقه بهذه الآية قبل إملائه ولا يتصور أن يكون لهذا سببا لارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية والله أعلم.
( ثم إنكم بعد ذلك( أي ما ذكرنا من أمركم ( لميتون( عند انقضاء آجالكم أي لصائرون إلى الموت لا محالة ولذلك ذكر صيغة النعت الذي هو الثبوت دون اسم الفاعل وهذه الجملة مع ما عطف عليه معطوف على ولقد خلقنا الإنسان إلى آخر الناس مصرين على ارتكاب المعاصي وذلك دليل على إنكارهم الموت والبعث فنزلوا منزلة المنكرين لهما قال البغوي إن الميت بالتشديد والمائت الذي لم يمت بعد وسيموت والميت بالتخفيف من مات ولذلك لم يجز التخفيف ها هنا كقوله تعالى :( إنك ميت وإنهم ميتون( وفي القاموس مات يموت ويمات ويميت فهو ميت بالتخفيف وميت بالتشديد ضد حين ومات سكن ونام أو الميت مخففة الذي مات والميت بالتشديد والمائت الذي لم يمت بعد
( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( من القبور للمحاسبة والمجازاة ( ولقد خلقنا فوقكم( جواب قسم محذوف معطوف على قوله :( ولقد خلقنا الإنسان(
( سبع طرائق( أي سبع سماوات لأنها طوارق بعضها فوق بعض مطارقة النعل، وكل ما فوقه مثله فهو طريقة أو لأنها طراق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها ( وما كنا عن الخلق( عن جنس المخلوق ( غافلين( أي مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى يبلغ منتهى ما قدرنا لها من الكمال على ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة فتمسك السماء أن تقع على الأرض وهذه الجملة إما حال من فاعل خلقنا أو معطوف على قوله :( لقد خلقنا( وهو واقع في مقام التعليل يعني خلقنا فوقكم سبع طرائق لتفتح عليكم الأرزاق والبركات منها وتطلع عليكم الشمس والقمر والكواكب لأنا ما كنا عنكم وعما يصلح شأنكم غافلين
( وأنزلنا من السماء ماء( مطرا عطف على خلقنا ( بقدر( أي بمقدار ما علمنا صلاحهم ( فأسكناه( عطف على ما سبق أي جعلناه ثابتا مستقرا ( في الأرض( فقيل : المراد به ما يبقى في الحياض والغدر أن ينتفع ه الناس عن انقطاع المطر وقيل : المراد به ما تتشربه الأرض ويدخل في مساماتها فيخرج منها في الأرض ينابيع فماء الأرض على هذا كله من السماء ( وإنا على ذهاب به( عطف على فأسكناه يعني على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر عليكم استنباطه، وفي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإبعاد ( لقادرون( كما كنا قادرين على إنزاله يعني لو فعلنا ذلك لهلكتم أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان ودجلة والفرات وقال : روى الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد بالإجازة عن سعيد بن سابق الاسكندراني عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة منن أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبرائيل عليه السلام استودعها الجبال وأجرأها في الأرض وجعل منافع للناس فذلك قوله تعالى :( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض( وإذا كان عند يأجوح ومأجوج أرسل الله جبرائيل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله :( وإنا على ذهاب به لقادرون( فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا قلت : ولعل جميع الأنهار الدنيا من عيون الجنة، وإنما ذكر الخمسة في الحديث على سبيل التمثيل والله أعلم.
( فأنشأنا( عطف على أنزلنا ( لكم به( أي بالماء ( جنات من نخيل وأعناب لكم فيها( أي في جنات ( فواكه كثيرة( تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ( ومنها( أي من الجنات يعني من ثمارها وزروعها ( تأكلون( تغذيا أو يرزقون وتحصلون معايشكم من قوله فلان يأكل من حرفته ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه والرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وخص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما فواكه العرب وجملة :( منها تأكلون ) حال من فاعل الظرف أعني لكم فيها فواكه أو معطوف عليه ولجنات أو نخيل
( وشجرة( عطف على جنات ( تخرج من طور سيناء( وهي الزيتون قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو سيناء بكسر السين وابن عامر ويعقوب والكوفيون بفتحها اختلفوا في معناه وفي سنين : قال معناه البركة، أي من جبل مبارك وقال قتادة والضحاك وعكرمة معناه الحسن أي جبل حسن قال الضحاك هو بالنبطية وقال عكرمة بالحبشية، وقال الكلبي معناه ذو شجرة قيل هو بالسريانية الملتف بالأشجار وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سيناء وسنين بلغة النبط، وقال مجاهد سيناء اسم حجارة بعينها أضيف إليها الجبل لوجودها عنده، وقال عكرمة هو اسم المكان الذي به هذا الجبل وقيل : المركب منهما اسم لجبل بين مصر وإبلة نودي منه موسى كامرىء القيس كذا قال ابن زيد ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة والعجم لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بمعنى الرفعة أو بالقصر بمعنى النور أو ملحق بفعلال إذ لا فعلاء بألف التأنيث هذا على قراءة أهل الحجاز، وأما على قراءة الكوفيين فهو فيعال ككلسان أو فعلاء كصحراء فالألف للتأنيث لا فعلال إذ ليس في كلامهم ( تنبت بالذهن( قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم التاء وكسر الياء من الأفعال يعني زيتونها متلبسا بالدهن قال الزجاج الباء للحال أي ومعها الدهن وقيل الباء على هذا زائدة أي تنبت الدهن وقيل : أنبت بمعنى نبت والمعنى على حسب قراءة الباقين بفتح التاء وضم الباء من المجرد أي تنبت متلبسا بالدهن مستصحبا له ويجوز أن يكون للتعدية فيكون معناه تنبت الدهن ( وصيغ للآكلين( معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه آدما يصبغ به الخبز أي يغمس فيه للائتدام قال البغوي الصبغ والصباغ والإدام الذي يغمس فيه الخبز فينصبغ والإدام كلما يؤكل مع الخبز سواء ينصبغ به الخبز أولا، قال مقاتل : جعل الله في هذا السجر أدما ودهنا فالأدم الزيتون والدهن الزيت، وقال خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها، ويقال إن الزيتون أول شجرة نبت في الدنيا بعد الطوفان
( وإن لكم في الأنعام لعبرة( آية بحالها وتستدلون بها على كمال القدرة والحكمة لصانعها عطف على ( فأنشأنا لكم( ولما كان الناس غافلون عن الاعتبار نزلوا منزلة أهل الإنكار وأكد الجملة ( نسقيكم( قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بفتح النون على صيغة المتكلم من المجرد والباقون بضم النون على صيغة المتكلم من الأفعال كما ذكرنا في سورة النحل وأبو جعفر ها هنا بالتاء وفتحها على صيغة المؤنث الغائب، من المجرد والضمير حينئذ راجع إلى الأنعام ( مما في بطونها( من الألبان أو من العلف فإن اللبن يستلون منه فمن للتبعيض أو للابتداء ( ولكم فيها منافع كثيرة( في ظهورها وأشعارها وأصوافها وأوبارها ( ومنها تأكلون( فتنتفعون بأعيانها
( وعليها( أي على الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإبل والبقر وقيل المراد الإبل لأنها هي المحمول عليها عند العرب والمناسب للفلك فإنها سفائن البر وقال ذو الرمة سفينة بر تحت خذي زمامها، والضمير فيه كالضمير في ( وبعولتهن أحق بردهن( ( وعلى الفلك تحملون( في البر والبحر وجملة نسقيكم إلى آخرها بيان للعبرة فإن ما أخرج الله تعالى ( من بين فرث ودم لنا خالصا سائغا للشاربين( آية للاعتبار على كمال قدرته وانقياد الأنام للحلب وجز الصوف والشعر والحمل والذبح وغير ذلك مع كمال قوتها، وضعف الإنسان.
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه( عطف على قوله :( ولقد خلقنا الإنسان( ذكر في صدر السورة حال المؤمنين المطيعين ثم عقبه بالآيات المقتضية للإيمان والطاعة ثم عقبه بذكر الكافرين الطاغين وما آل إليه أمرهم ( فقال يا قوم اعبدوا الله( أطيعوه ووحدوه ( ما لكم من إله غيره( استؤنف لتعليل الأمر بالعبادة قرأ الكسائي غيره بالجر حملا على لفظة إله والباقون بالرفع حملا على محله ( أفلا تتقون( عطف على محذوف يعني أتشركون به فلا تتقون أن يزيل ما بكم من نعمائه ويعذبكم بإشراككم إياه غيره في العبادة وكفرانكم آلاء
( فقال الملؤا( الأشراف ( إلا بشر مثلكم( يأكل ويشرب وينام فكيف يكون رسولا من الله وهذا القصر أقصر قلب فإن من يدعي الرسالة كأنه منكر لكونه بشرا ىومدع لكونه ملكا على زعمهم الفاسد فقالوا على قلب دعواه ليس هذا ملكا وليس هذا شيئا إلا بشرا ومبنة هذا القصر على أنهم أنكروا أن يكون البشر الله رسولا مع ما أدعوا أن يكون الحجر له تعالى شريكا قاتلهم الله أنى يوفكون ( يريد( بادعائه الرسالة ( أن يتفضل عليكم( أي يطلب أن يكون له الفضل عليكم ويسودكم جملة يريد صفة بعد صفة لبشر أو مستأنفة كأنه قيل ما يريد بادعائه الرسالة ( ولو شاء الله( أن لا يعبد غيره أو أن يرسل رسولا، ( لأنزل ملائكة( رسلا ( ما سمعنا بهذا( الذي يدعيه نوح من التوحيد والمسالة والبعث بعد الموت ( في ءابائنا الأولين( وذلك إما لفرط عنادهم أو لكونهم في فترة متطاولة، جملة ما سمعنا حال من فاعل يريد والجملة الشرطية معترضة بين الحال وعامله
( إن( أي ما ( هو إلا رجل به جنة( أي جنون حيث يدعي الرسالة من الله لنفسه استئناف أو تأكيد لنفي الرسالة فإن المجنون لا يكون رسولا ( فتربصوا به( فاحتملواه وانتظروا ( حتى حين( لعله يفيق من الجنون أو يموت والفاء في فتربصوا للسببية فإن كونه مجنونا يوجب التربص وترك العجلة في الانتقام ولما أوحى إلى نوح من الله تعالى إنه لمن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
( قال( نوح ( رب انصرني( بإهلاكهم أو بإنجاز ما أوعدتهم من العذاب ( بما كذبون( يدل تكذيبهم إياي أو سببه جملة مستأنفة ( فأوحينا( عطف على مقدر تقديره فاستجبنا دعاءه
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا( أي بحفظنا أن لا يخطىء فيه أو يفسد عليك أحد أن مفسرة [ وحينا فإنه بمعنى القول ( ووحينا( أي أمرنا وتعليمنا كيف تصنع ( فإذا جاء أمرنا( بالركوب أو نزول العذاب عطف على اصنع ( وفار التنور( أي فار الماء من التنور للخباز اركب أنت ومن معك فلما نبع الماء منه وكان ذلك علامة لنوح أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وقيل في ذروة من الشام ( فاسلك فيها( أي أدخل فيها جاء سلك لازما ومتعديا يقال سلكت في كذا أي دخلت وقال الله تعالى :( ما سلككم في سفر( ( من كل زوجين اثنين( قرأ الجمهور بإضافة كل إلى زوجين فاثنين حينئذ منصوب على المفعولين يعني ادخل فيها اثنين من كل صنفين من الحيوانات يعني الذكر والأنثى وقرأ حفص كل بالتنوين عوض المضاف إليه يعني أدخل فيها زوجين كانتا من كل نوع فاثنين على هذا تأكيد للزوجين وفي القصة أن الله تعالى حشر لنوح السباع والطيور وغير ذلك فجعل نوح يضرب بيديه في كل نوع فيقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملها في السفينة ( وأهلك( يعني أهل بيتك أو من آمن معك ( إلا ما سبق( في الأزل ( عليه القول( بالإهلاك لكفره ( منهم( أي حال كون من سبق عليه القول بالإهلاك من أهلك وهي امرأته وولده كنعان، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار وإنما يجيء باللام إذا كان نافعا كما في قوله تعالى :( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى( ( ولا تخاطبني( عطف على اصنع أو على فاسلك يعني لا تخاطبني بالدعاء بالإنجاء ( في( حق ( الذين ظلموا( على أنفسهم بالكفر ( إنهم مغرقون( لا محالة لظلمهم بالإشراك جملة معللة لقوله : لا تخاطبني
( فإذا استويت( اعتدلت ( أنت ومن معك على الفلك( ونجوت من مصاحبة الجار السوء
فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني( في السفينة بعد الركوب أو في الأرض بعد الخروج من السفينة
فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني( في السفينة بعد الركوب أو في الأرض بعد الخروج من السفينة
( منزلا( قرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاء على معنى موضع النزول والباقون بضم الميم وفتح الزاء بمعنى الإنزال ( مباركا( يتسبب لمزيد الخير في الدارين فالبركة في السفينة النجاة من مصاحبة أعداء الله والفراغ للاشتغال بعادته والبركة في الأرض بعد الخروج كثرة النسل والرزق والاشتغال بعبادة الله تعالى، الجملة الشرطية معطوفة على فاسلك وأنت خير المنزلين حال من فاعل أنزلني وفيه ثناء مطابق لدعائه أمر نوحا وحده بالدعاء وعلق الدعاء بأن يستوي هو ومن معه إظهارا لفضله وإشعارا بأن في دعائه كفاية عن دعائهم.
( إن في ذلك( الذي فعلناه بنوح وقومه ( لآيات( تدل على كمال قدرة الله تعالى ورأفته بالمسلمين وغضبه على الظالمين يعتبر بها أولوا الأبصار ( وإن( مخففة من الثقيلة تقديره وإنا ( كنا لمبتلين( اللام فارقة يعني كنا المصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو ممتحنين عبادنا وقيل أن نافية واللام بمعنى إلا يعني وما كنا بإرسال نوح ووعظه وتذكيره إلا مبتلين قومه ومختبرين إياهم لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم
( ثم أنشأنا( عطف على كلام محذوف تقديره فأغرقناهم ثم أنشأنا ( من بعدهم قرنا ءاخرين( المراد بهم عاد أو ثمود قال البغوي والأول أظهر
( فأرسلنا فيهم( يعني أوحينا بين أظهرهم ( رسولا منهم( يعرفونه بالصدق والعدالة وهو هود أو صالح عليهما السلام ( أن اعبدوةا الله( أن مفسرة لأرسلنا لكونه بمعنى القول يعني قلنا لهم على لسان الرسول ( اعبدوا الله( ( ما لكم من إله غيره أفلا تتقون( مر تفسيره
( وقال الملأ من قومه الذين كفروا( العلة ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول بخلاف كلام قوم نوح وحيث استأنف الله به ذكر مقال قوم هود في الأعراف وهو بغير واو بالاستئناف كأنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل فما قال قومه في جوابه، وذكر ها هنا بالواو عطفا لما قالوه على ما قال الرسول على معنى أنه اجتمع في الحصول وهذا الحق مع هذا الباطل وليس متصلا بكلام النبي جوابا له وذكر في قصة نوح بالفاء لأنه جواب لقوله واقع عقبيه ( وكذبوا بلقاء الآخرة( أي بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب أو بمصيرهم إلى الحياة والآخرة ( وأترفناهم( أي أنعمنا هم بكثرة الأموال والأولاد ( في الحياة الدنيا ما هذا( الذي يدعي النبوة ( إلا بشر مثلكم( في الصفات والأحوال ( يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون( ما موصولة والعائد إلى الثانية منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه
( ولئن أطعتم( اللام في جواب قسم محذوف أي والله لئن أطعتم ( بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون( حيث أذللتم أنفسكم بالانقياد لمثلكم أبو اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم ما أحمقهم وما أجهلهم
( أيعدكم( الاستفهام للإنكار أو التقرير أي قد يعدكم ( أنكم إذا متم( قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم من مات يمات والباقون بضم الميم من مات يموت ( وكنتم ترابا وعظاما( مجردة عن اللحوم والأعصاب ( أنكم تخرجون( من القبور أحياء أنكم تكرير للأول أكد لطول الفصل بينه وبين خبره تقدير الكلام أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما تخرجون كذلك قرأ ابن مسعود رضي الله عنه وجاز أن يكون ( أنكم مخرجون( مبتدأ خبره الظرف المقدم، أو فاعل للفعل المقدر وجوابا للشرط والجملة خبر الأول أي أنكم إخراجكم واقع إذا متم أو أنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفا لدلالة خبر الثاني عليه، وجملة أيعدكم تقرير للطعن السابق في النبوة أو تعليل لقوله لئن أطعتم بشرا أنكم لخاسرون
( هيهات( اسم فعل وفاعله ضمير مستكن فيه أي بعد وقوع هذا الوعد عن العقل والتصور، أو بعد التصديق والإيمان به ( هيهات( تأكيد للأول ( لما توعدون( خبر مبتدأ محذوف أي هذا الاستبعاد لما توعدون كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل لهم فماله هذا الاستبعاد قالوا لما توعدون/ وجاز أن يكون اللام زائدة للبيان والموصول فاعل لهيهات كما في ( هيت لك( وقيل هيهات مصدر بمعنى البعد وهو مبتدأ خبره ( لما توعدون( قرأ الجمهور بفتح التاء على أنه مبني عليه وقرأ أبو جعفر بكسر التاء من غير تنوين وقرىء بالكسر منونا وقرأ منصر بن عاصم بضم التاء وقرىء بالفتح منونا للتنكير وبالضم منونا على أنه جمه هيهة وغير منون تشبيها بقبل وبعد، وقرىء بالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء ووقف عليها أكثر القراء بالتاء وجملة هيهات لما توعدون معترضة
( إن هي( أي الحياة جنسها شيء ( إلا حياتنا الدنيا( التي نحن فيها ودنت منا أقيم الضمير مقام الحياة الأولى لدلالة الثانية عليها حذرا عن التكرير وإشعارا بأن تعيينها مغن عن التصريح بها، فإن نافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس مثل لا التي لنفي الجنس ( نموت ونحيا( يعني يموت بعضنا ويحيى بعضنا، قال البغوي فيه تقديم وتأخير أي نحيي ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت وهذا القول مبني على كون ضمير المتكلم مع الغير لجميع الناس قلت وعلى تقدير كون الضمير لجميع الناس أيضا لا حاجة إلى القول بالتقديم والتأخير إذ الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فالمعنى يثبت لجميع الناس في الدنيا موت وحياة ولا حياة غير لهذه الحياة ( وما نحن بمبعوثين( بعد الموت حال أو عطف
( إن هو( يعني ما الذي يدعي الرسالة ( إلا رجل افترى على الله( فيما يدعيه من الرسالة أو فيما بعدها من البعث ( كذبا وما نحن له بمؤمنين( أي مصدقين وهذه الجملة تأكيد لقولهم ( ما هذا إلا بشر(
( قال( الرسول ( رب انصرني( عليهم وانتقم لي منهم ( بما كذبون( أي بسبب تكذيبهم إياي
( قال( الله ( عما قليل( ما زائدة لتأكيد معنى القلة أو نكرة موصوفة بمعنى شيء والمراد به الزمان يعني عن زمان قليل ( ليصبحن نادمين( على تكذيبهم إذا عاينوا العذاب
( فأخذتهم الصيحة( قيل : أراد بالصيحة الهلاك وفي القاموس الصيحة والصياح الصوت بأقصى الطاقة وصيح بهم نزعوا وفيهم هلكوا والصيحة العذاب فإن كان القصة لعاد فالمراد بالصيحة ها هنا العذاب وإن كان لثمود فالمراد بها الصوت وقد ذكرنا قصتهم في سورة الأعراف أنه أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتصدعت قلوبهم ( بالحق( أي بالوجه الثابت الذي لا دافع له أو بالعدل كقولك فلان يقضي بالحق أو يقول العرب لمن هلك سأل به الوادي ( فبعدا للقوم الظالمين( يحتمل الإخبار والدعاء وبعدا مصرا لبعد بمعنى هلك وهو من المصادر التي وجب إضمار فعلها في الاستعمال وسدها مسد الأفعال، والقوم الظالمون فاعل للمصدر الذي سد مسد الفعل واللام زائدة أو هي لتقوية عمل المصدر كما في قوله أعجبني جلوس لزيد وقيام لعمرو ووضع الظاهر موضع الضمير للتعليل.
( ثم أنشأنا( عطف على جعلناهم غثاء ( من بعدهم( أي بعد عاد ( قرونا ءاخرين( قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم
( ما تسبق من أمة( من زائدة للاستغراق وأمة في محل الرفع على الفاعلية ( أجلها( أي الوقت الذي لهلاكها يعني لا يهلك أمة قبل الوقت الذي قدر هلاكها فيه ( وما يستخرون( ولا يتأخر أمة عن وقت هلاكها أي لا يبقى بعد الأجل ذكر الضمير بعد تأنيثه للمعنى وهذه جملة معترضة
( ثم أرسلنا رسلنا نثرا( أصله وترى من الوتر ضد الشفع قلبت الواو بالتاء كما في التراث والتقوى منصوب على الحال من مفعول أرسلنا، قرا أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين وصلا وبالألف عوض التنوين وقفا ولذا لا يميله أبو عمرو لأن ألفه عنده كألف زيدا في النصب فهو مصدر بمعنى التواتر والمواترة وهو تتابع الأشياء وترا وترا يعني فرادي من غير اجتماع، قال في القاموس التواتر التتابع أو مع فترات ووترا مواترة ووتارا تابع إذ لا يكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة يعني اعتبر بعض الناس في التواتر إن يكون بينها فترة ومنه حديث أبو هريرة لا بأس بقضاء رمضان تترى أي متفرقا غير متتابع كذا في النهاية، قال الأصمعي يقال واترت الخبر أي أتبعت بعضها بعضا وبين الحبرين مهلة، قلت : ولذلك اشترط التواتر فغي الخبر المتواتر أن يروى من جهات شتى ورجال غير مجتمعين بحيث لا يحتمل تواطئهم على الكذب وقرأ أكثر القراء بالألف المقصورة للتأنيث على وزن سكرى من غير تنوين لعدم انصرافه للزوم التأنيث ذكر صيغة التأنيث لأن الرسل جماعة
وقوله :( ثم أرسلنا( معطوف على قوله ( ثم أنشأنا( وفيه مقابلة الجمع بالجمع بإرادة انقسام الآحاد على الآحاد فاستقام التراخي كأنه قال : ثم أنشأنا قرنا ثم أرسلنا فيه رسولا ثم أنشأنا قرنا آخر ثم أرسلنا رسولا آخر وهكذا إذ لا يستقيم أن يقال قرونا كثيرة وبعد جميع القرون أرسلنا رسلا ( كل ما جاء أمة( أضاف الرسول مع الإرسال إلى المرسل ومه مجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منها إليه ( كذبوه( أسند التكذيب إليهم لأجل صدوره من أكثرهم فإن للأكثر حكم الكل جملة مستأنفة ( فأتبعنا بعضهم بعضا( في الهلاك كما أتبعنا بعضهم بعضا في الإنشاء وبعث الرسل إليهم عطف على كذبوه ( وجعلناهم أحاديث( يعني لم يبق منهم أر إلا حكايات يسمونها ويعتبر بها المعتبرون جمع أحدوثة وهو ما يتحدثه الناس تلهبا وتعجبا قال الأخفش إنما هذا أي استعمال كلمة أحدوثة وأحاديث في الشر وأما في الخير فلا يقال أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ( فبعدا لقوم لا يؤمنون( بالرسل ولا يصدقونهم ( ثم أرسلنا موسى( عطف على ( ثم أرسلنا رسلنا( ( وأخاه هارون( بدل من أخاه بآياتنا التسع ( وسلطان مبين( حجة واضحة ملزمة ملخصهم ويجوز أن يراد به العصا وإفرادها بالذكر لأنها أول المعجزات وتعلقت بها معجزات شتى كانقلابه حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة مثمرة ورشاء ودلوا، ويجوز أن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأنيراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة للنبي على ما يدعيه
( إلى فرعون وملأيه فاستكبروا( عن الإيمان ومتابعة الرسول ( وكانوا قوما عالين( أي نعترف ولا نصدق بالفضل والنبوة
( لبشرين( فإنه يطلق على الواحد كقوله تعالى :( فتمثل لها بشرا سويا( كما يطلق على الجمع كقوله تعالى :( فإما ترين من البشر أحدا( ( مثلنا( لم يثن المثل لأنه في حكم المصدر فإن مثل وغير يوصف به الواحد والإثنان والجماعة من المذكر والمؤنث ( وقومهما( يعني بني إسرائيل ( لنا عابدون( مطيعون متذللون والعرب تسمي كل من أطاع وتذلل لأحد أنه عابد له، والجملة حال للفاعل نؤمن أو لبشرين أولهما
( فكذبوهما( عطف على أرسلنا ( فكانوا من المهلكين( بالغرق
}ولقد ءاتينا موسى الكتاب( التوراة ( لعلهم( الضمير عائد إلى قومهما ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم أي لكي ( يهتدون( إلى المعارف والأحكام
( وجعلنا ابن مريم وامه ءاية( بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد وهو الولادة مضاف إليهما أو تقديره وجعلنا ابن مريم آية بأن تكلم في المهد وظهر منه معجزات آخر وأمه آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ( وءاويناهما إلى ربوة( أي مكان مرتفع من الأرض قال عبد الله بن سلام هي دمشق وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل وقال الضحاك غوطة دمشق وقال أبو هريرة هي الرملة وقال عطاء عن ابن عباس هي بيت المقدس وهو قول قتادة وكعب وقال كعب هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا، وقال ابن زيد هي مصر والسدي هي أرض فلسطين ( ذات قرار( أي مستوية منبسطة يستقر عليها ساكنوها وقيل ذات ثمار وزروع يستقر فيها الناس لأجلها ( ومعين( أي ماء ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في الشيء أو من الماعون وهو المنفعة لأن الماء نفاع أو مفعول من عانه إذا أدر له بعينه لأنه لظهوره يدرك بالعيون.
( يأيها الرسل كلوا من الطيبات( أي الحلالات دون المحرمات فالأمر للتكليف لأنه في معنى النبي عن تناول المحرمات أو المستلذات من المباحات فالأمر للترفيه وللرد على الرهبانية في رفض الطيبات، وقيل : هي الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصي الله فيه وضده الحرام والصافي ما لا ينسى الله فيه وضده ما يلهيه ويوقعه في انهماك الشوهات والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والقوي وضده القدر الزائد على الشبع ( واعملوا صالحا( أي عملا يراد به وجه الله على وفق ما أمر به خالصا له تعالى من غير شرك جلي ولا خفي وضده الفاسد وهو ما يركهه الله تعالى من قول أفعل وتقدير الكلام وقلنا لهم يا أيها الرسل كلوا إلى آخره فهو حكاية عما خوطب به الأنبياء كل نبي في زمانه لا على أنهم خوطبوا به دفعة، وقال الحسن ومجاهد وقتادة والكلبي وجماعة خوطب به محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواد بلفظ الجمع، قلت : ومبنى ذلك على التعظيم وفيه إشارة إلى فضله أو لقيامه مقام جماعة فإنه أرسل إلى الناس كافة، وجاز أن يكون المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته فإنهم برازخ بين الرسول وأمته كما أن الرسول برزخ بينهم وبين الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العلماء ورثة الأنبياء " قيل خوطب به عيسى عليه السلام عند إيوائه وامه إلى الربوة فذكر لهما ما خوطب به الأنبياء كل نبي في زمانه ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا ويفتضيه سياق القصة ( إني بما تعملون عليم( فأجازيكم على حسب أعمالكم فالجملة في مقام التعليل
( وإن هذه( أي أكل الطيبات والعمل الصالحات قرأ بالكوفيون بكسر الهمزة على أنه جملة في محل النصب حال من فاعل كلوا أو هي معطوفة على جملة سابقة فيكون في مقولة قلنا على تقديره، والباقون بفتحها عطفا على ( ما تعملون( أو بتقدير الام يعني ولأن هذه أمتكم أو منصوب بتقدير اعلموا أن هذه ( أمتكم( أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم بأجمعكم عليها ( أمة( أي ملة ( واحدة( وهي الإسلام متحدا في العقائد وأصول الشرائع والعمل في الفروع على حسب ما أمر الله به في كل زمان وعلى الناسخ بعد ترك المنسوخ وقوله :( أمة واحدة( حال مؤكدة لقوله :/ ( أمتكم( على طريقة زيد أبوك عطوفا والعامل فيه معنى الإشارة ( وأنا ربكم فاتقون( الفاء السببية يعني اتقوني لأجل أني ربكم
( فتقطعوا أمرهم بينهم( يعني تقطيع وتفرق الذين أرسلوا إليهم بعد الإرسال أمر دينهم وجلعوه أديانا مختلفة في أصول الدين، فآمن ببعض دون بعض كاليهود والنصارى والصابئين وبعضهم كفروا بأجمعهم كالمجوس أهل الأوثان فالتفعل بمعنى التفعيل وأجاز أن يكون معناه فتفرقوا وتحزبوا في أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة، فعلى هذا أمرهم منصوب بنزع الخافض أو على التمييز من نسبة التفرق إليهم والضمير في تفرقوا راجع إلى المرسل إليهم المذكورين في القصص المذكورة حيث قال :( ولقد ارسلنا نوحا إلى قومه( وأنشأنا قرونا فأرسلنا فيهم رسلنا تترى وغير ذلك والجملة معطوفة على أرسلنا ( زبرا( أي فرقا وطوائف وقطعاف جمع زبور بمعنى الفرقة ومنه زبر الحديد فهو إما منصوب على المصدرية من غير لفظ الفعل نحو : أنبته الله نباتا أو حال من أمرهم أو من فاعل تقطعوا أو مفعول ثان لتقطعوا لتضمنه معنى الجمل يعني قطعوا أمرهم وجعلوه زبرا فرقا، وقيل معناه كتبا من زبرت الكتاب، إذا كتبته كتابة غليظة وكل كتاب غليظ الكتابة يقال زبور يعني جعلوا دينهم كتبا محرفة بعد ما كان كتابا واحدا من الله منزلا، فيكون مفعولا ثانيا لتقطعوا أو من حال من أمرهم والمعنى فرقوا أمرهم أي دينهم حال كون دينهم كتبا منزلة من السماء متفقة في أصول الدين مصدقا بعضها بعضا فقالوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وعن الحسن قطعوا كتاب الله قطعاف وحرفوه ( كل حزب( منهم ( بما لديهم( من الدين أو الهوى ( فرحون( معجبون معتقدون أنهم على الحق جملة مستأنفة
( فذرهم( يا محمد ( في غمرتهم( قال ابن عباس في كفرهم وضلالتهم وقيل في غفلتهم وجهالتهم جهلا مركبا شبهها بالماء الذي يغمر القامة أي يسترها ( حتى حين( أي إلى زمان موتهم أو إلى أن نأمرك بالقتال يعني لا تحزن على تفرقهم وكفرهم فإنا نأخذهم إما بالعذاب من عندنا أو بأيديكم
( أيحسبون( أي الذين يفرحون بما لديهم من الضلال ولا يتبعون الرسل ويكذبونهم ( أنما نمدهم به( أي ما نعطيهم ونجعلها مددا لهم ( من مال وبنين( بيان لما
( نسارع لهم في الخيرات( خبر لأن والعائد محذوف، وأن مع اسمها وخبرها قائم مقام مفعولي يحسبون والاستفهام للتوبيخ والرد على حسبانهم والمعنى أيزعمون أن الذي نعطيهم في الدنيا وندهم بها من الأموال والأولاد نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم ثوابا لأعمالهم وعقائدهم لأجل مرضاتنا عنهم وهذا الحسبان سبب لفرحهم بما لديهم ليس الأمر كذلك ( بل لا يشعرون( يعني بل هم كالأنعام لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتأملوا فيعلموا ان لهذه الأعمال والعقائد غير مستوجبة للثواب والمرضاة وإنما ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخيرات هذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم الأصلح للعباد في الدين على الله واجب
( إن الذين هم من خشيه ربهم( أي من خوف عذابه ( مشفقون( حذرون من موجبات العذاب أو المعنى أنهم بسبب اتصافهم بخشية الله خائفون من عقابه وجاز أن يكون المراد بالخشية ما به الخشية والمعنى أنهم من عذاب ربهم مشفق'ون قال الحسن البصري المؤمن جمع إحساناف وخشية والمنافق جمع إساءة وأمنا
( والذين هم بربهم لا( المنزلة أو بآياته المنصوبة الدالة على التوحيد ( يؤمنون( يصدقون بمدلولاتها
( والذين هم بربهم لا يشركون( في العبادة أحدا غيره شركا جليا ولا خفيا فلا تكرارا فإن الإيمان بالله وحده لا ينفي الإشراك في العبادة غيره
( والذين يؤتون ما ءاتوا( أي يعطون من الصدقات ما أعطوه، قال البغوي وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ ما أتوا أي يعملون ما عملوا من أعمال البر ( وقلوبهم وجلة( أي خائفة. . . أن لا يقبل منهم أو أن لا يقع على الوجه الذي لا يليق بجناب كبريائه فيؤاخذوا به أولا ينجيهم من عذاب الله لكثرة الخطايا وقلة الطاعات ( أنهم إلى ربهم راجعون( أي لأن مرجعهم إلى الله أو قلوبهم خائفة من أن مرجعهم إلى الله وهو يعلم ما يخفي قال الحسن عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم عن عائشة قالت :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ( والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة( الذين يشربون الخمر ويسرقون قال :" لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات " رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وروى البيهقي أنها قالت قلت يا رسول الله :( والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة( أهو الذي يربي ويشرب الخمر ويسرق قال :" لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يقوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه " الموصولات المعطوفة بعضها على بعض اسم لأن وإنما كرر الموصول ولم يعطف الصلات بعضها على بعض للدلالة على أن كل واحد من الصفات المذكورة مستقل لثبوت الخبر وخبرها
( أولئك يسارعون في الخيرات( أي يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيسارعون في إتيانها كيلا يفوت منهم إتيانها أو المعنى يسارعون في نيل الخيرات الأخروية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يرد البلاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر " فيكون إثباتا لهم ما نفي عن أضدادهم قلت لعل المراد بالخيرات التي يسارع إليها المؤمنون في الدنيا هو الاطمئنان بذمر الله والالتذاذ به والشيع بالكفاف وعدم الخوف من زوال نعماء الدنيا وعدم الخوف والرجاء عن أحد سوى الله تعالى، والمبشرات التي يدرك بالإلهام أو المنام ( وهم لها سابقون( أي لأجل الخيرات سابقون الناس إلى الجنات أو فاعلون السبق إلى الطاعات أو الثواب أو الجنة أو سابقون إلى خيرات ينالونها في الدنيا قبل الآخرة حيث عجلت لهم وقيل : اللام ها هنا بمعنى إلى يعني وهم إلى الخيرات سابقون كقوله تعالى :( لما نهوا عنه( أي إلى ما نهوا عنه ومن ها هنا قال الكلبي سبقوا الأمم إلى الخيرات وقال ابن عباس معنى الآية سبقت لهم من الله السعادة.
( ولا نكلف نفسا إلا وسعها( جملة في محل النصب على الحال من فاعل يسارعون في الخيرات يعني ما مسارعتهم إلى الاجتهاد إلا بطيب أنفسهم التذاذا، وما كلفناهم إلا قدر طاقتهم ( ولدينا كتاب( يعني اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال ( ينطق بالحق( أي بما هو الثابت المتحقق في الواقع يعني أعمالهم ثابتة لدينا لا نضيع منها شيئا بل نثيب عليها ( وهم لا يظلمون( أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم شيء قوله ولدينا كتاب حال ثان مرادف للأول وقوله ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون( إلى آخره جملة معترضة لبيان أحوال المؤمنين في أثناء ذكر الكافرين
فقوله :( بل قلوبهم( الخ متصل بقوله تعالى ك ( بل لا يشعرون( يعني بل قلوب الكفرة الذين لا شعور لهم ( في غمرة( أي في غفلة غامرة ( من هذا( يعني من عدم شعورهم فهم كما لا يشعرون لا يشعرون أنهم لا يشعرون أو المعنى عم في غمرة من نفس الشعور فهم كما لا يشعرون حالا لا يشعرون في الاستقبال لانتفاء صلاحية الشعور فيهم لأجل الغمرة، أو أنهم في غمرة من أنعم تفرقوا دينهم وتركوا دين الله المرضي إلى ما اقتضته أهواؤهم، وقيل : في غمرة من هذا القرآن أو مما اتصف به المؤمنون وذكر فيما سبق أو من كتاب الحفظة ( ولهم أعمال( خبيثة كائنة ( من دون ذلك( الأعمال التي اتصف بها المؤمنون أو المعنى لهم أعمال خبيثة متزائدة على ما هم عليه من الشرك ( هم لها( لتلك الأعمال الخبيثة ( عاملون( معتادون بها هذه الجملة صفة للأعمال
( حتى إذا أخذنا مترفيهم( يعني متنعميهم ( بالعذاب( أخرج ابن جرير عن ابن جريح عن ابن عباس أنه قال هو السيف يوم بدر وقال الضحاك هو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوةا الكلاب والجيف والعظام المحترقة، " والدعاء عليهم مروي في الصحيحين من حديث ابن مسعود ( إذا هم يجئرون( الجئر رفع الصوت بالاستغاثة جواب شرط وإذا للمفاجأة ينوب على الجملة الاسمية مناب الفاء الجزائية، وحتى ابتدائية يدل على سببية ما قبلها لما بعدها كما في قولك مرض فلان حتى لا يرجونه فإن غفلتهم سبب لهلاكهم واستغاثتهم وجاز أن يكون
( إذا هم يجئرون( بدلا من إذا أخذنا وجواب الشرط قوله :
( لا تجئروا اليوم( فإنه مقدر بالقول يعني قيل لهم :( ولا تجئروا( وعلى التأويل الأول هذا استئناف
( إذا هم يجئرون( بدلا من إذا أخذنا وجواب الشرط قوله :
( لا تجئروا اليوم( فإنه مقدر بالقول يعني قيل لهم :( ولا تجئروا( وعلى التأويل الأول هذا استئناف
( إنكم منا لا تنصرون( تعليل للنهي يعني لا تجثروا فإنه لا ينفعكم الجثر ولا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا يمكن دفع عذاب الله إلا من نصر من جهته
قد كانت ( آياتي( المنزلة في القرآن ( تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون( النكوص الرجوع قهقري يعني كنتم تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها والجملة تعليل لقوله ( إنكم منا لا تنصرون(
( مستكبرين( عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به مستعلين أنفسكم على سائر الناس ( به( الضمير راجع إلى غير مذكور وهو الحرم، يعني مستكبرين بالحرم قائلين نحن أهل الحرم وجيران بيت الله لا يظهر علينا أحد لا نخاف أحدان كذا قال ابن عباس ومجاهد وجماعة ولما كان افتخارهم واستكبارهم بالبيت مشهورا أغنى ذلك عن ذكر المرجع، وقيل : الضمير راجع إلى آياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلق بمستكبرين لتضمينه معنى مكذبين، أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استمتاعهم القرآن وقوله مستكبرين حال من فاعل تنكصون وكذا قوله ( سامرا( حال منه أو من فاعل مستكبرين يعني حال كونهم تسمرون أي تتحذثون بالليل في مجالسكم حول البيت والسمر الحديث بالليل والسامر اسم جمع كالباقر للبقر والجامل للجمل ويقال سمر القوم يسمرون فهم سمار وسامر كذا في النهاية ومنه حديث قبلة إذ جاء زوجها من السامر أي من قوم يسمرون وفي القاموس سمر سمرا لم ينم وهم السمار والسامرة والسامر اسم الجمع والسمر محركة الليل وحديثه وظل القمر والدهر والظلمة، قال البيضاوي السامر في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعافية، وقيل هو مفرد في محل الجمع كما في قوله تعالى :( يخرجكم طفلا( أي أطفالا وقيل السامر الليل المظلم فعلى هذا يكون سامرا منصوبا على الظرفية يعني تنكصون وتستكبرون في الليل في أحاديثكم ( تهجرون( قرا نافع بضم التاء وكسر الجيم من الأهجار وهو الأفحاش أي تفحشون وتسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم من هجر يهجر هجرا بضم الهاء بمعنى الفحش والقول القبيح فيكون معنى القراءتين واحدا أو هجرا بفتح الهاء بمعنى القطيعة والإعراض أو بمعنى الهذيان أي تعرضوا عن القرآن أو تهذون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن وتقولون ما لا تعلمون أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال كانت قريش تسمر حول البيت ولا تطوف به ويفتخرون فأنزل الله تعالى :( مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول(
( أفلم يدبروا القول( الاستفهام للإنكار وإنكار النفي إثبات والفاء للعطف على محذوف تقديره ألم يسمعوا فلم يدبروا القول أي القرآن فإن اللام للعهد يعني فلم يقدروا على إتيان مثل قصر سورة منه فظهر عليهم بإعجازه وأخباره وقصصه انه ليس من كلام البشر ( أم جاءكم ما لم يأت ءاباؤهم الأولين( أم منقطعة بمعنى بل والهمزة التي للإنكار والمعنى بل لم يجئهم ما لم يأت آباؤهم الأولين يعني بل قد جاءهم ما أتى آباؤهم إسماعيل عليه السلام وأعقابه من الرسول والكتاب وقد كانت القريش يعترفون بنبوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفضلهما فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلهما ولا استحالة في ذلك
( أم لم يعرفوا رسولهم( محمد صلى الله عليه وسلم يعني قد عرفوه صغيرا وكبيرا وعرفوا نسبه وأمانته وصدقه وحسن أخلاقه ووفاء عهوده وكمال علمه وأدبه من غير تعلم من البشر إلى غير ذلك كذا قال ابن عباس ( فهم له منكرون( الفاء للسببية معطوف على لم يعرفوا وما عطف هو عليه يعني لا يجوز الإنكار إلا بسبب أحد هذه الوجوه المذكورة ولو يوجد شيء منها بل قد تحقق أضدادها
( أم يقولون به جنة( أم ها هنا أيضا منقطعة والهمزة التي في ضمنها للردع والتوبيخ يعني بل أيقولون أنه مجنون وهم يعلمون أنه ارجحهم عقلا وأتقنهم نظرا لا ينسب الجنون إلى مثله إلا معاند أو مجنون وجاز أن يكون أم في هذه المواضع متصلة معطوفة على ما دخل عليه همزة الاستفهام لنفي المفهوم المردد وجملة أفلم يدبروا مستأنفة كان السامع لما سمع قوله تعالى ( قد كانت ءاياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون( قال ما سبب هذا النكوص والاستكبار والهجر أكان شيئا من هذه الأمور المذكورة وهي عدم تدبرهم في القرآن أو عدم علمهم بإتيان النبي قبلهم أو عدم معرفتهم أمانة الرسول وصدق وغير ذلك أو زعمهم كونه مجنونا فقال الله في جوابه ليس شيء من هذه الأمور ( بل( سبب ذلك المكابرة والعناد حيث ( جاءهم( محمد صلى الله عليه وسلم ( بالحق( أي القول الثابت المتحقق الظاهر صدقه عقلا ونقلا لا يخفى صحته وحسنه على عاقل ( وأكثرهم للحق كارهون( الجملة حال من مفعول جاءهم يعني جاءهم الحق وهم له كارهون عنادا أو ظلما لحب الرياسة واتباع الشهوات وتقليد الجهال والتمسك بالعادات لا لحكم الكياسة، وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإيمان خوفا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته أو عدم فكرته لا لكراهة الحق
( ولو اتبع الحق أهواءهم( بأن كان في الواقع آلهة متعددة ( لفسدت السموات والأرض ومن فيهن( أي لبطلت ولم يخرج شيء منها من كتم العدم لما ذكرنا في تفسير قوله تعالى :( لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا( في سورة الحج وقال ابن جريح ومقاتل والسدي وجماعة الحق هو الله وقال الفراء والزجاج المراد بالحق القرآن والمعنى لو اتبع الله مراده وجعل لنفسه شركاء أو اتخذ ولدا وأنزل القرآن على حسب شهواتهم ونطق القرآن بالشرك والقبائح لم يكن الله إلها فإن الألوهية لا يحتمل الشركة والله يأمر بالفحشاء فإن الأمر بالفحشاء رذيلة والألويهة يقتضي التنزه عن الرذائل ولو لم يكن الله إلها لبطل وجود الممكنات بأسرها وقيل معناه لو اتبع الحق أهوائهم وانقلب باطلا لذهب ما قام به العالم فلا يبقى له قوام، أو المعنى لو اتبع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين أهواءهم وانقلب شركا لأنزل الله عليهم العذاب وأهلك العالم من فرط غضبه ( بل أتيناهم( عطف على قوله :( بل جاءهم بالحق( الخ وجملة ( ولو اتبع الحق أهواءهم( معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لبيان بطلان أهوائهم ( بذكرهم( أي بالكتاب الذي يذكرهم الله أو هو ذكرهم أي وعظهم أو الذكر الذي تمنوه لقولهم ( لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين( وقال ابن عباس يعني بما هو ذكرهم أي بما فيه فخرهم وشرفهم يعني القرآن نظيره قوله تعالى :( ( ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم( أي شرفكم ( وإنه لذكر لك( فإن القرآن نزل بلغة قريش وجعل الله الناس تبعا لقريش وانحصر الإمامة فيهم ( فهم عن ذكرهم معرضون( لا يلتفتون إليه ولا يريدون الشرف،
( أم تسئلهم خرجا( يعني أجرا على هدايتهم والرسالة إليهم عطف على قوله ( أم به جنة( وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فالاستفهام ها هنا أيضا للإنكار يعني لا ستألهم أجرا حتى لا يؤمنوا بك مخافة الغرامة ( فخراج ربك( أي أجره وثوابه الذي يعطيك في الآخرة قرأ حمزة والكسائي خراجا فخراج ربك بالألف في الموضعين وقرأ ابن عامر بغير ألف فيهما ومعناهما واحدا وهو الأتاوة أي الجعل والأجر على العمل قال في القاموس الخرج الأتاوة كالخراج وقرأ الباقون أم تسألهم خرجا بغير ألف ( فخراج ربك( بالألف قال البيضاوي والخرج بإزاء الدخل يقال لكم ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة التي يأخذها السلطان على الأرض ففي هذه القراءة في إضافة الخراج إلى الله إشعارا بالكثرة واللزوم ( خير( لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم هذه الجملة تعليل لنفي السؤال ( وهو خير الرازقين( عطف على خراج ربك خير أم حال من ربك
( وإنك( يا محمد ( لتدعوهم إلى صراط مستقيم( تشهد العقول السليمة على استقامته وعدم الاعوجاج فيه بين الله سبحانه عدم الأسباب الموجبة لإنكاره دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كراهة للحق وقلة الفطنة، وذكر الداعي إلى الإيمان وهو كون المدعو إليه صراطا مستقيما مرغوبا بجميع العقلاء عامة وكونه شرفا لهم داعيا إلى الإسلام قريش خاصة فظهر أن إنكارهم لم يكن لا لكراهة الحق عندهم عنادا أو قلة تفطنهم ومبنى ذلك الشقاوة الأزلية المكتوبة عليهم فإنهم كانوا عقلاء كانوا يدركون منافع الدنيا على ما ينبغي فعدم إدراكهم المنافع العاجلة والآجلة المؤيدة الخالصة عن شوب الكذر لم يكن إلا لشقاوتهم ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(
( وإن الذين لا يرمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون( أي لمائلون لسوء استعدادهم فإنهم خلقوا من ظلال الاسم المضل فلا يمكنهم الاهتداء إلى الصراط المستقيم ويكرهون الحق بعد ظهوره.
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر( أي من عذاب أخذنا مترفيهم به سواء أريد به السيف يوم بدر كما قال به ابن عباس أو الجوع كما قال به الضحاك وقد ذكرنا القولين فيما سبق للجوا( اللجاج التمادي في العناد وتعاطي الفعل المزجور عنه ( في طغيانهم( أي في استكبارهم عن الحق وإفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ( يعمهون( من الهدى حال من فاعل لجوا وهذه الجملة الشرطية معطوفة على مضمون ( لا يجثروا اليوم إنكم منا لا تنصرون( فإن معناه قيل لهم لا تجرؤوا الخ ومضمونه أنا لم نرحمهم ولو رحمناهم لتمادوا في الطغيان ولم يتوبوا فكان هذا تعليل لعدم الترحم عليهم
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العلهز والدم فأنزل الله تعالى :( ولقد أخذناهم بالعذاب( يعني القتل يوم بدر أو الجوع ( فما استكانوا لربهم( يعن لم يرجعوا إلى ربهم بالتوبة بل أقاموا على عتوهم ومضوا على نمردهم وما استكانوا إما معناه ما استفعلوا السكون فإن المفتقر ينتقل من كون إلى كون وإما معناه أفتلعوا السكون وعلى هذا الألف من إشباع الفتحة ( وما يتضرعون( يعني ليس من عادتهم التضرع والخشوع وأخرج البيهقي في الدلائل بلفظ أن ابن أثال الحنفي لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة ثم رجع فحال بين مكة وبين الميرة من اليمامة حتى اكلت قريش العهن فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ قال : بلى، قال : فقد قتلت الآباء بالسيف والأنباء بالجوع فنزلت هذه الآية، وفي هذه الآية استشهاد على ما سبق فإنهم لما لم يتضرعوا بالأخذ بالعذاب فلو رحمناهم وكشفنا عنهم العذاب لم يتضرعوا بالطريق الأولى فإن قيل : ما ذكرت في تفسير الآية يدل على أنه تعالى لم يكشف عنهم العذاب الذي أخذ به مترفيهم وقد قال البغوي دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم القحط فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ قال : بلى، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القطح فدعى فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذه القصة تدل على أن الله تعالى كشف عنهم عذاب الجوع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه التوفيق ؟ قلت : الآية إنما دلت على نفي المرحمة وكشف العذاب في الزمان الماضي لعلمه تعالى بلجاجهم عند الكشف أيضا ولا تدل على على أنه يكشف عنهم في المستقبل لأمر حادث فالله سبحانه كشف عنهم العذاب لأمر معترض وهو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يتضرعوا ولجوا في طغيانهم يعمهون ولم يستكنوا.
( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد( كلمة حتى ابتدائية والمراد بالعذاب ها هنا عذاب الجوع إن كان المراد بالعذاب في قوله :( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب( القتل والأسر ويوم بدر كما قال ابن عباس فإن الجوع أشد من الأسر والقتل يعني إذا فتحنا عليهم بابا من عذاب الجوع ( إذا هم فيه مبلسون( متحيرون أيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك وإن كان المراد بالعذاب فيما سبق عذاب الجوع كما قاله الضحاك فالمراد بالعذاب ها هنا الموت وعذاب القبر وقيل : قيام الساعة وعذاب النار فقوله فتحنا بمعنى المستقبل أورد صيغة الماضي لتيقن وقوعه كما في قوله ( إذا الشمس كورت( والمعنى إنا محناهم كل محنة من القتل والجوع فما استكانوا ولم يتضرعوا حتى إذا عذبوا بنار جهنم ( إذا هم فيه مبلسون( كقوله تعالى ( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون(
( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار( لتحسوا بها الآيات المنصوبة ( والأفئدة( لتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية ( قليلا ما تشكرون( ما زائدة للتأكيد منصوب على المصدرية أو الظرفية يعني لشاكرون شكرا قليلا أو في زمان قليل لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجلها والأذعان لما نحها من غير إشراك وقيل : معنى هذه العبارة في العرف لا تشكرون أصلا
( وهو الذي ذرأكم( تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم
( وهو الذي يحي ويميت وله( أي لأمره وقضائه ( اختلاف اللليل والنهار( في السواد والبياض والمنافع أو اختلاف الليالي الشتائية والصيفية في الطول والقصر والأيام كذلك ( أفلا تعقلون( بالنظر والتأمل أن كل ذلك منا وإن قدرتنا تعم الممكنات كلها ومن جملتها البعث بعد الموت وقوله تعالى :( وهو الذي أنشأكم( إلى هنا جملة معترضة لتعديد النعم وشكايتهم على كفرهم بعد تلك النعم الجسام
وقوله :( بل قالوا مثل ما قال الأولون( عطف على قوله :( بل أتيناهم بذكرهم( يعني بل قال كفار مكة مثل ما قال الأولون من كفار الأمم السابقة
( قالوا( بدل من قالوا المذكور سابقا ( أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون( الاستفهام للإنكار أنكروا واستبعدوا ذلك ولم يتأملوا في بدء خلقهم انهم كانوا قبل ذلك ترابا ولم يكونوا قبل ذلك شيئا أصلا فخلقوا من غير سبق مادة،
( لقد وعدنا نحن وءاباؤنا هذا( يعني البعث بعد الموت وعدها قوم ذكروا أنهم رسل الله ( من قبل( ظرف لفعل دل عليه حرف العطف يعني وعد بهذا آباؤنا من قبل هذا الزمان ولم يقع على الآن مع تطاول الزمان ( إن هذا( الوعد ( إلا أساطير الأولين( السطر هو الصف من الكتاب ومن الشجر المغروس والقوم الوقوف المراد ها هنا الأول يقال سطر فلان كذا أي كتب سطرا وجمعه أسطر وسطور وأسطار والأساطير والمعنى أن هذا ليس منزلا من الله بل شيء كبته الأولون كذبان وقال المبرد الأساطير جمع أسطورة نحو أرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وأعجوبة وأعاجيب وأضحوكة وأضاحيك واستعماله فيما يكتب كذبا يتلهى به ولهذا فسروه بالأكاذيب وقوله لقد وعدنا إلى آخره تعليل وتقرير للإنكار المذكور.
( قل لمن الأرض ومن فيها( جملة مستأنفة كأنه في جواب قول الرسول ماذا أقول لهم حين أنكروا البعث والاستفهام للتقرير أي حمل المخاطب على الإقرار ( إن كنتم تعلمون( شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه تقديره إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك فأجيبوا وفيه استهانة بهم وتقرير لفرط جهلهم فإن حالهم ومقالهم يشهد على جهلهلم بمثل هذا الجلي الواضح الذي يعرفه الصبيان والمجانين وإلزام بما لا يمكن إنكاره لمن له أدنى تميز،
ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا فقال :( سيقولون لله( لأن العقل الصريح والنقل من كل ناطق واعتارف الناس أجمعين بذلك يضطرهم إلى هذا الجواب ( قل( بعد اعترافهم بذلك ( أفلا تذكرون( قرأ حمزة وعلي وحفص بالتخفيف بحذف إحدى التائين من تتذكرون والباقون بالتشديد والإدغام والاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أتعترفون فلا تتذكرون أن من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانيا فما الوجه لإنكاره
( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم( فإنها أعظم من ذلك استئناف آخر لتلقين الإلزام بعد اللا لزام
( سيقولون لله( باللام والجر أي هم لله كذا قرأ العامة ها هنا وفيما بعده فهو جواب على المعنى كقول القائل في جواب من مولاك لفلان أي أنا لفلان فهو مولاي، وقرأ أهل البصرة فيهما الله الله بالرفع على ما يقتضيه السؤال وكذلك في مصحف أهل البصرة وفي سائر المصاحف مكتوب بلا ألف كالأول ( قل أفلا تتقون( يعني أتعترفون بأن خالق السموات والعرش هو الله لا غير فلا تتقون عقابه حيث تشركون به بعض مخلوقاته وتنكرون قدرته على بعض مقدورات
( قل من بيده ملكوت كل شيء( الملكوت هو الملك أي العز والسلطان والوا والتاء فيه للمبالغة فهو غاية ما يتصور من السلطان ولهذا يختص استعانه بملك الله تعالى وقيل المراد به خزائنه ( وهو يجير( أي يحرس ويمنع من السوء ويؤمن من يشاء ( ولا يجار عليه( عطف على ما سبق أو حال من فاعله أي لا يؤمن من أخاف الله ولا يمنع من السوء من أراد الله به سوءا أو لا يقدر أحد على أن يضره حتى يجار عليه وتعديته لعلى لتضمنه معنى النصرة ( إن كنتم تعلمون( وشرحه قد مر
( سيقولون لله قل فأنى تسحرون( يعني إذا اعترفتم بذلك فمن أين تخذعون فتصرفون عن الرشد أو المعنى إذا اعترفتم فكيف يخيل إليكم الحق باطلا
( بل أتيناهم بالحق( من التوحيد والوعد بالنشور عطف على قوله ( بل قالوا مثل ما قال الأولون( إضراب عنه وبينهما معترضات ( وإنهم لكاذبون( في إنكارهم ذلك عطف على ما سبق أو حال من الضمير المنصوب
( ما اتخذ الله من ولد( لتقدسه عن المماثلة والمجانسة بأحد من زائدة لتأكيد النفي والجملة في مقام التعليل على قوله :( وإنهم لكاذبون( ( وما كان معه من إله( في الألوهية ( إذا( جواب لمن أشرك وجزاء الشرط محذوف يدل عليه قوله :( وما كان معه من إله( تقديره لو كان معه آلهة إذن ( لذهب كل إله بما خلق( واستبد به ومنع غيره من التصرف فيه وامتاز ملكه عن ملك الاخر ( ولعلا( أي غلب ( بعضهم على بعض( أي على بعضهم إذا وقع بينهم التحارب كما يقع بين ملوك الدنيا لا مكان ذلك عند تعدد الآلهة فلا يكون المغلوب إلها لأنه إمارة العجز والحديث ويظهر منه أنه لو لم يغلب أحدهما على الآخر لزم عجزهما وذلك مناف للألوهية ( سبحان الله عما يصفون( أي عما يصفون من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده
( عالم الغيب والشهادة( قرأ أهل المدينة والكوفة غير حفص بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والباقون بالرج على أنه صفة لله، وهذا دليل آخر على نفي الشرك بناء على اتفاقهم على أنه متفرد به ولهذا رتب عليه بالفاء قوله :( فتعالى عما يشركون( يعني عن إشراكهم يعني أن أعظم من أن يوصف بالولد أو الشريك
( قل رب إما تريني( اصل ( إن ما ترينني ) فأدغمت النون في الميم وحذفت نون الوقاية كراهة اجتماع النونات وهذا شرط أكدت بما المزيدة والنون فالمعنى إن كان لابد من أن يريني ( ما يوعدون( أي ما يوعد به الكفار من العذاب في الدنيا والآخرة
( رب فلا تجعلني في القوم الظالمين( قرينا لهم في العذاب جملة معترضة لتلقين الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به لزيادة التضرع والجوار وفي تلقين الدعاء إشارة إلى وجوب الخوف وهضم النفس وإلى أن شؤم الظلوم قد يحيق بمن ورائهم قال الله تعالى :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة(
( وإنا على أن نريك ما نعدهم( منن العذاب ( لقادرون( لكنا لم نعذبهم عذاب استئصال لأنك بين أظهرهم ولعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون جملة معترضة ثانية لرد إنكارهم الموعود أو استعجالهم استهزاء
( ادفع بالتي( أي بالخصلة ( هي أحسن( الخصال وهي الصفح والإعراض والصبر والإحسان ( السيئة( مفعول لا دفع يعني ادفع شرهم بإحسان منك فعلى هذا امر بالصبر على الأذى والكف عن القتال نسختها آية السيف، وقيل الحسنة كلمة التوحيد والسيئة كلمة الشرك وقيل : السيئة المنكر والحسنة النهي عنه وهذا أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل معترضة أخرى ( نحن أعلم بما يصفون( أي بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك وأقدر على جزائهم فكل إلينا أمرهم ولا تتصد على الانتقام منهم وهذه الجملة في مقام التعليل لقوله ادفع
( وقل رب أعوذ بك( أي امتنع واعتصم به ( من همزات الشياطان( الهمز شدة الدفع يعني من دفع الشياطين بالإغواء والوساوس على المعاصي
( وأعوذ بك رب أن يحضرون( أي يحضروني في شيء من أموري في الصلاة وغيرها فإنه إذا حضر وسوس قرأ يعقوب يحضروني بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين وجملة ( وقل رب أعوذ بك( عطف على قوله ( قل رب إما تريني(.
( حتى إذا جاء أحدهم الموت( حتى ابتدائية متعلق بقوله : يصفون أو يقوله : كذبون ( قال( يعني إذا رأى مقعده من الجنة لو آمن ثم مقعده من النار ويقال له قد أبدل الله لك هذا بذلك لأجل كفرك قال ( رب ارجعون( قرأ يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء في الحالين يعني ارجعون إلى الدنيا أورد ضمير الجمع للتعظيم وقيل : لتكرير الفعل أصله أرجعني أرجعني كما قيل في قفار وأطرقا، وقيل هذا خطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه، ابتدأ بخطاب الله تعالى لأنهم استغاثوا أولا بالله تعالى ثم رجعوا إلى مسألةى الملائكة الرجوع إلى الدنيا
( لعلي( قرأ الكوفيون ويعقوب بسكون الياء والباقون بفتحها ( أعمل صالحا( أي عملا صالحا منصوب على المفعولية أو على المصدرية ( فيما تركت( أي في الإيمان الذي تركته أي لعلي آتي بالإيمان وأعمل فيه صالحا وقيل : فيما تركت أي في المال أو فلي الدنيا فعلى هذا فيما تركت ظرف كما هو الظاهر وقيل : ما تركت مفعول به وفي زائدة أي أعمل ما تركت حال كونه صالحا من الإيمان وغيره أو عملا صالحا بلا فساد أخرج ابن جرير من حديث ابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا عاين المؤمن الملائكة قال نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله واما الكافر فيقول رب ارجعون " وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وأما الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه " ( كلا( ردع من طلب الرجعة واستبعاد أي لا رجعة إليها ( إنها( يعني قوله : رب ارجعوني إلى آخره أنت الضمير لمجانسة الخبر ( كلمة( وهو طائفة من الكلام المنتظر بعضها مع بعض فهو لا يقع إلا على الجملة المركبة المفيدة وإطلاق الكلمة على اللفظ المفرد إنما هو اصطلاح النحاة ( هو( أي الكافر ( قائلها( لا محالة لتسلط الحسرة عليه ومخافة العذاب ( ومن ورائهم( أي إمامهم والضمير للجماعة ( برزخ( قال مجاهد يعني حجاب بينهم وبين الرجعة، وجملة من ورائهم برزخ ( إلى يوم يبعثون( وقال قتادة البرزخ بقية عمر الدنيا لا يكون فإنه لا رجوع إلى الحياة ما لم ينته عمر الدنيا وقال الضحاك البرزخ ما بين الموت إلى البعث وقيل البرزخ القبر وعم فيه إلى يوم يبعثون
( فإذا( كان يوم القيامة ( نفخ في الصور( روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد به النفخة الأولى نفخة الصعق ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون( ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون( لكن الصحيح أنها النفخة الثانية نفخة البعث كذا قال ابن مسعود قال يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان بن فلان فمن كان له قبله حق فليات إلى حقه فيرفح المرآن قد وجب له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه قرأ ابن مسعود ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون( وكذا روى عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي لا يتفاخرون بينهم بالأنساب كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا أو المعنى لا ينفعهم الأنساب يومئد لعدم التعاطف والتراحم منهم لفرط الدهشة واستبلاء الخبرة بحيث ( يوم يفر المرء من أخيه وامه وأبيه وصاحبته وبنيه( وضمير بينهم عائد إلى الكفار لذكرهم فيما سبق دون المؤمنين وقوله تعالى في المؤمنين :( ألحقنا بهم ذريتهم( وقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين بأيديهم الشراب فيقول الناس لهم إسقونا فيقولون أبوينا أبوينا حتى السقط بباب الجنة يقول : لا أدخل الجنة حتى يدخل أبوي " رواه أبي الدنيا عن عبد الله بن عمر الليثي وعن أبي ذرارة بمعناه فإن قيل قد ورد في الحديث " كان نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا في النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أبو المؤمنين وأزواجه أمهاتهم " وقال البغوي معنى الحديث لا ينفع يوم القيامة سبب ونسب إلا نسبع وسببه وهو القرآن والإيمان ومعنى قوله تعالى :( ولا يتساءلون( سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيلة أنت، فإن قيل قد قال الله تعالى في موضع آخر ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون( قلنا : قال ابن عباس أن للقيامة أحوالا ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساءل فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون
( فمن ثقلت موازينه( جمع موزون يعني عقائده وأعماله الموزونة والمراد به الصالحات منها يعني كثرت وترجحت حسناته على سيئاته أو هو جمع ميزان والمراد به ترجحت كفة حسناته من الميزان وإيراد صيغة الجمع إما مبني على أن يكون لكل إنسان ميزان على حدة، وإما على أن يعتبر تعدد الميزان بتعدد الوزن والموصول مع صلته مبتدأ خبره ( فأولئك هم المفلحون( الفائزون بالنجاة والدرجات والجملة معطوفة على محذوف فوضع الميزان ( فمن ثقلت( الخ، أجمع علماء أهل السنة على أن وضع ميزان ووزن الأعمال حق وأنكره المعتزلة والروافض والخوارج وأكثر أهل الأهواء أخرجه البيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب في حديث سؤال جبرائيل عن الإيمان قال : يا محمد مكا الإيمان ؟ قال :" أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال : فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن قال : نعم، قال : صدقت، " وأخرجه الحاكم في المستدركم وصححه على شرط مسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يوضع الميزان يوم القيامة فلو وضع فيه السماوات والأرض لوسعت " الحديث، وأخرج ابن المبارك في الزهد والأجري في الشريعة له لسان وكفتان وأخرج ابن جرير في تفسيره وابن أبي الدنيا عن حذيفة قال : صاحب الميزان يوم القيامة جبرائيل عليه السلام وأحاديث الميزان قد توارثت بالمعنى.
فصل
اختلف العلماء في كيفية الوزن ؟ قال بعضهم يوزن العبد مع عمله فيكون للمؤمن ثقل بقدر حسناته ولا يكون للكافرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا( متفق عليه من حديث أبي هريرة فالمراد بمن خفت موازينه هم الكفار لا غير وقيل يوزن صحائف الحسنات وصحائف السيئات روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاب برجل من أمتي على رؤوس الأشهاد يوم اليامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول : أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مه هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء " وأخرج أحمد بسند حسن صحيح عن ابن عمر نحوه، وقيل يجسد العمل ويوزن قال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ووضعت في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن " رواه الطبراني واخرج ابن عبد الرزاق في فصل العلم بسنده عن ابراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فيثقل فيقال ما تدري ما هذا فيقول لا يفقال هذا فضل العلم الذي كنت تعلم الناس واخرج الذهبي في فضل العلم عن عمر بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤذن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهادة فيترجح مداد العلماء على دماء الشهداء ".
قلت : وعندي أنه يوضع العبد مع حسناته المتجسدة أو مه صحائف الحسنات في كفة وما لهما واحد فإن ثقل الصحائف ويوضع سيئاته متجسدة أو صحائفها الثقيلة بثقل السيئات في كفة أخرى فالكافر لا تزن جناح بعوضة وهو الذي قال الله تعالى فيه :( ومن خفت موازينه( أي لا يكون لميزانه ثقل أصلا وأما المؤمن فلا يخلو ميزانه من ثقل ولو بشهادة أن لا إله إلا الله وهو المكنى بقوله تعالى :( فمن ثقلت موازينه( غير أن لثقله مراتب فمنهم من اجتنبوا الكبائر وكفر الله عنهم سيئاتهم فموازينهم أثقل الموازين طاشت كفة سيئاتهم خاليا فارغا ومنهم من ( خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا( وهم الذين قال ابن عباس فيهم أنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحد دخل الجنة ومن كانت سيبئاته أكثر من حسناته دخل النار يعني ليصهر ويخلص من الذنوب كما أن الحديد يخلص في النار من الخبث فيصلح لدخول الجنة قال ابن عباس وإن الميزان يخف بمثال حبة ويرجع من استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف يعني حتى يحكم الله تعالى فيهم بدخول الجنة روى قول ابن عباس هذا ابن أبي حاتم وليس المذكور في هذا الأثر حال الكفار إذ لا حسنة لهم أصلا والمذكور في القرآن إنما هو حال صالحي المؤمنين وحال الكفار وأما حال عصاة المؤمنين فمسكوت عنه في القرآن غالبا، ولعل ذلك لأن المؤمنين في زمن نزول القرآن وهم الصحابة رضي الله عنهم كانوا عدولا كلهم مجتنبين من الكبائر أو التائبين والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فالمراد بقوله تعالى :( ومن خفت وازينه( خفت أعماله الحسنة أو كفة حسناته بحيث لا يكون لها تتل أصلا، وذلك هو الكافر لا محالة، أخرج البزار والبيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يؤتى ابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان ويؤكل به ملك فإن ثقلت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان لا يشقى بعده أبدا وإن خفت موازينه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقي فلان شقاوة لا يسعد بعده أبدا " والمراد بالخفة في هذا الحديث أيضا ما لا يكون له ثقل أصلا قلت لعل عصاة المؤمنين يوزن أعمالهم مرتين فغن كان في حسناته بعض خفة يدخل في النار حتى يخلص ثم يوزن ثانيا بعد التطهير فيثقل موازينه وحينئذ ينادى الملك سعد فلان سعادة لا يشقى بعده أبدا وقد ذكرنا بعض تحقيقات المقام في سورة القارعة، والدليل على أن المراد بهذه الآية هم الكفار خاصة دون عصاة المؤمنين قوله تعالى خبرا للموصول ( فأولئك الذين خسروا أنفسهم( غبنوها وضيعوا زمان استكمالها ( في جهنم خالدون( بدل من الصلة أو خبر ثان لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو ( في جهنم خالدون(
( تلفح وجوههم النار( أي تحرقها كذا في القاموس وأما المؤمن فلا يحرق وجوههم النار لما أخرج مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل قوم النار من هذه الأمة فتحرقهم إلا درات وجوههم ثم يخرجون منها " وأخرج ابن مردويه والضياء عن أبي الدرداء قال :" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :( تلفح وجوههم النار( قال تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن جهنم لما سبق إليها أهلها تلفتهم يعني فلفحتهم لفحة فما أبقت لحما على عظم إلا ألقته على أعقابهم " ( وهم فيها كالحون( الجملة حال من الضمير المجرور المضاف إليه والكلوح تقلص الشفتين عن أسنان أخرج الترمذي وصححه عن أبي سعيد الخذري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :( وهم فيها كالحون( قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته " وأخرج هناد عن أبي مسعود في قوله تعالى :( وهم فيها كالحون( قال مثل الرأس النضيج بدت أسنانهم وتقلصت شفاههم
( ألم تكن( تقديره يقال لهم توبيخا وتذكيرا عما استحقوا العذاب لأجله ألم تكن ( ءاياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون(
( قالوا( في جواب ذلك ( غلبت علينا شقوتنا( قرأ الجمهور وألف بعدها وهما لغتان يعني ملكتنا شقاوتنا حتى صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة ( وكنا قوما ضالين( عن الحق
( ربنا أخرجنا منها( أي من النار ( فإن عدنا( إلى التكذيب ( فإنا ظالمون( لأنفسنا فحينئذ لا تخلصنا من العذاب بعد ذلك.
( قال( الله سبحانه في جوابهم ( اخسئوا فيها( أي اسكنوا سكوت هوان فغنها ليست مقام السؤال وأبعدوا في القاموس خسا الكلب بالنصب كمنع أي رده خساء وخسوءا أو خسا الكلب بالرفع أي بعد كانحسا فهو لازم ومتعد ( ولا تكلمون( قرأ يعقوب بالياء وصلا ووقفا والباقون بلا ياء، يعني لا تكلموني في رفع العذاب فإني لا أرفعه منكم فحينئذ يئسوا عن الفرج أو لا تكطلموني مطلقا قال الحسن هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ويكون لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون، وقال القرطبي إذ قيل لهم ( اخسئول فيها ولا تكلمون( انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم أخرج هناد والطبراني وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وعبد الله بن أحمد في روائد الزهد عن عبد الله بن عمرو قال إن أهل النار ينادون مالكا ( يا مالك ليقض علينا ربك( فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم ( إنكم ماكثون( ثم ينادون ربهم ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون( فيذرهم مثل الدنيا مرتين لا يجيبهم ثم يجيبهم ( اخسئوا فيها ولا تكلمون( قال فييأس القوم فلا يتكلمون بعدها بكلمة ومن هو إلا الزفير والشهيق وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب أنه قال لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع فذا كانت الخامسة لا يتكلمون بعدها أبدا ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل( فيجيبهم ( ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير( ثم يقولون :( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون( فيجيبهم ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون( ثم يقولون :( ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل( فيجيبهم ( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال( ثم يقولون :( ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل( فيجيبهم الله تعالى :( أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين( ثم يقولون :( ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمين( فيجيبهم الله تعالى :( قال اخسئوا فيها ولا تكلمون( عادت وجوههم قطعة لحم لسي فيها أفواه ولا مناخر يرتدد النفس في أجوافهم وإنها ليسقط عليهم حيات من نار وعقارب منها ضربت أهل الدنيا احترقوا من نفحت بالمشرق احترق من بالمغرب ولو أن عقربا منها ضربت أهل الدنيا احترقوا من آخرهم وإنها لتسقط عليهم فتكون بين لحومهم فتكون بين لحومهم وجلودهم وإن ليسمع لها هناك جلية كجلية الوحش في الفيافي
( إنه( أي الشأن ( كان فريق من عبادي( يعني المؤمنين ( يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين
{ فاتخذتموهم سخريا( قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بضم السين ها هنا وفي سورة صاد والباقنون بكسرها واتفقوا على الضم في سورة الزخرفن قال الكسائي والفراء السخر بكسر السين بمعنى الاستهزاء بالقول والبضم بمعنى التسخير والاستبعاد بالفعل ولذلك اتفقوا في سورة الزخرف لأنه بمعنى التسخير لا يحتمل غيره وقال الخليل هما لغتان مترادفان نحو لجى بضم اللام وكسرها وكوب دري بضم الدال وكسرها وفي القاموس نحو ذلك حيث قال سخريا منه وبه هزي كاستخروا الاسم والسخرية والسخري بالضصم وبكسر مسخره كمنعه زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة والمراد ها هنا الاستهزاء بقرينة قوله تعالى :( حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون( فإن الضحك يترتب على الاستهزاء دون التسخير وحتى ابتدائية كما في مرض فلان حتى لا يرجونه يعني حتى أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم والضحك ذكرى أسند الإنسان إلى المؤمنين مجازا قال مقاتل نزلت الآية في عمتار وصهيب وسلمان وغيرهم من فقراء الصحابة كان كفار قريش يستهزئون بهم
( إني جزيتهم( أي المؤمنين ( اليوم بما صبروا( أي بسبب صبرهم على أذاكم واتسهزائكم إياكم ( أنهم هم الفائزون( دونكم قرا حمزة والكسائي بسكر الهمزة على الاتسنئاف والباقون بفتحها على أنه ثاني مفعولي جزيتهم
( قال( قرأ البعض قال على أنه أمر من الله تعالى للملك أو لبعض رؤساء أهل النار يوم البعث أن يسألوا جماعة أهل النار وقيل هو خطاب لكل واحد من أهل النار قل جواب هذا وقرأ الباقون بالألف يعني قال الله تعالى للكفار يوم البعث ( كم لبثتم في الأرض( أحياء وأمواتا في القبور ( عدد سنين( تميز لكم
( قالوا( يعني الكفرة في الجواب استقصار المدة لبثتهم فيها إما لأن العذاب يستطيل أيام شدته ويستقصر بأمر قبل ذلك وإما لكونها منقضية والمنقضي في حكم المعدول وإما لكون مدة حياة الدنيا وأيام القبور في غاية الاقتصار بالنسبة إلى مدة الحياة الآخرة لعدم انتهائها وأما لكونها أيام سرورهم وأيام السرور قصار، وهذا على تقدير كون السؤال مقتصرا على مدة حياتهم في الدنيا دون مدة لبثهم في القبور لأنها ليست أيام السرور لثبوت عذاب القبور فيها بالقطعيات والإجماع ( لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين( من الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم فغنهم أحفظ لمدة لبثنا أو من البشر الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها
( قال( قرأ حمزة والكسائي بغير ألف على صيغة الأمر من الله تعالى والباقون بالألف على صيغة الحكاية يعني قال الله تعالى :( إن لبثتم( يعني ما لبثتم في الدنيا ( إلا( زمانا أو لبثا ( قليلا( بالنسبة إلى ما تستقبلونه من مدة العذاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه اليم فلينظر بم يرجع " رواه أحمد ومسلم وابن ماجة عن المستورد ( لو أنكم( يعني لو ثبت أنكم ( كنتم تعلمون( ذلك وكلمة لو للتمني والتوبيخ يعني ليتكم تعلمون أن لبثكم في الدنيا قليل فلم تضيعوها في الملاهي والشهوات وما نسيتم لقاء يومكم هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كن في الدنيا كأنك غرب أو عابر سبيل " رواه البخاري عن ابن عمرو وزاد أحمد والترمذي وابن ماجة " وعد نفسك من أهل القبور "
( أفحسبتم( الفاء للعطف على محذوف والهمزة للإنكار والتوبيخ تقديره أتوهمتم فحسبتم أي ظننتم ( أنما خلقناكم عبثا( ما كافة لعمل إن فدخلت على الجملة الفعلية وهي مع جملتها قائم مقام المفعولين لحسبتم وعبثا إما مفعول مطلق من قبيل ضربته سوطا أو مفعول له أو حال من الفاعل أو المفعول أو منصوب بنزع الخافض يعني لم نخلقكم خلقا عبثا لا لحكمة أو للتلهي بكم أو عابثين أي غير مريدين من خلقكم حكمة أو حال كونكم مبعوثين غير مراد منكم حكمة التكليف بالطاعة والمعرفة والجزاء أو لتلعبوا أو تعبثوا بل خلقناكم لتعرفوا وتعبدوا ربكم وتطيعوه ( وأنكم إلينا لا ترجعون( قرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم على أنه مبني للفاعل من المجرد والباقون بضم التاء وفتح الجيم على أنه مبني للمفعول من الإرجاع وإن مع جملتها عطف على إنما خلقناكم والمعنى أحسبتم عدم وجوهكم إلينا للجزاء وهو معطوف على عبثا يعني ما خلقناكم غير راجعين إلينا
( فتعالى الله الملك الحق( الذي يحق له الملك فإن من عداء مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه في حال دون حال والفاء للتعليل والجملة في مقام التعليل للإنكار تعالى الله وتنزه من أن يكون فعله عبثا ( لا إله إلا هو رب العرش الكريم( وصفة الكرم لاختصاصه بتجليات كريمة من أكرمن الأكرمين
( ومن يدع مع الله إلها ءاخر( يعني يعبد غير الله ( لا برهان له به( صفة أخرى لإإله لا زمة له، فإن الباطل لا برهان به جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على بطلانه أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك ( فإنما حسابه عند ربه( جزاء لمن الشرطية يعني أنه تعالى مجازيه مقدار ما يستحقه ( إنه( أي الشأن ( لا يفلح الكافرون( بيان لجزائهم يعني ليس لهم نجاة من النار وفوز إلى الجنة،
بدأ الله السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين ثم أمر رسوله بان يستغفر واسترحمه حتى يتأسى به المؤمنون من أمته فيفوزوا على مدارح الفلاح فقال :( وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين( جملة أنت خير الراحمين حال من فاعل أرحم وحذف المفعول من أغفر وأرحم لتعميم الدعاء بالمغفرة متكفل لسلب جميع المضرات وبالرحمة لجلب جميع المنافع روى البغوي في التفسير عن حنش أن رجلا مصابا مر به على ابن مسعود فرقى في أذنيه ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون( حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا رقيت في أذنه ؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال " تمت تفسر سورة المؤمنين خامس عشر شهر صفر سنة أربع وألف ومائتين ويتلوه سورة النور إنشاء الله تعالى وصلى الله على محمد وأله وصحبه وسلم.