تفسير سورة الزمر

الدر المصون
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿تَنزِيلُ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه: هذا تنزيلُ. وقال الشيخ: «وأقولُ إنه خبرٌ، والمبتدأ» هو «ليعودَ على قولِه: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [ص: ٨٧] كأنه قيل: وهذا الذِّكْرُ ما هو؟ فقيل: هو تنزيلُ الكتابِ». الثاني: أنه مبتدأٌ، والجارُّ بعده خبرُه أي: تنزيلُ الكتابِ كائنٌ من اللَّهِ. وإليه ذهب الزجاج والفراء.
قوله: «مِنَ اللَّهِ» يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مرفوعُ المحلِّ خبراً لتنزيل، كما تقدَّم تقريرُه. الثاني: أنه خبرٌ بعد خبرٍ إذا جَعَلْنا «تنزيلُ» خبرَ مبتدأ مضمرٍ كقولك: «هذا زيدٌ من أهل العراق». الثالث: أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا تنزيلٌ، هذا من الله. الرابع: أنَّه متعلِّقٌ بنفسِ «تَنْزيل» إذا جَعَلْناه خبرَ مبتدأ مضمرٍ. الخامس: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «تنزيل» عَمِل فيه اسمُ الإِشارةِ المقدرُ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً
405
عَمِلَ فيها معنى الإِشارةِ؛ لأنَّ معانيَ الأفعالِ لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً؛ ولذلك رَدُّوا على أبي العباس قولَه في بيت الفرزدق:
٣٨٨٤ -......................... وإذ ما مثلَهمْ بَشَرُ
إن» مثلهم «منصوبٌ بالخبرِ المحذوف وهو مقدرٌ: وإذ ما في الوجود في حالِ مماثلتِهم بَشَرٌ. السادس: أنه حالٌ من» الكتاب «قاله أبو البقاء. وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لكونِه مفعولاً للمضافِ؛ فإنَّ المضافَ مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه. والعامَّةُ على رَفْع» تَنْزيلُ «على ما تقدَّم. وقرأ زيد ابن علي وعيسى وابن أبي عبلة بنصبِه بإضمارِ فِعْلٍ تقديرُه: الزَمْ أو اقْرَأ ونحوهما.
406
قوله: ﴿بالحق﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالإِنزال أي: بسبب الحق، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب، أي: مُلْتبسين بالحق أو ملتبساً بالحقِّ. وفي قوله: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب﴾ تكريرُ تعظيمٍ بسبب إبرازِه في جملةٍ أخرى مضافاً إنزالُه إلى المعظِّم نفسَه.
قوله: «مُخْلِصاً» حالٌ مِنْ فاعل «اعبد»، و «الدين» منصوبٌ باسمِ الفاعلِ. والفاءُ في «فاعبُدِ» للربطِ، كقولك: «أَحْسَنَ إليك فلانٌ فاشْكُرْه». والعامَّةُ على نصبِ «الدينَ» كما تقدَّم. ورَفَعَه ابنُ أبي عبلة. وفيه وجهان،
406
أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالفاعليةِ رافعُه «مُخْلِصاً»، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ تجوُّزٍ وإضمارٍ. أمَّا التجوزُ فإسنادُ الإِخلاصِ للدين وهو لصاحبِه في الحقيقة. ونظيرُه قولُهم: شعرٌ شاعرٌ. وأمَّا الإِضمارُ فهو إضمارٌ عائدٌ على ذي الحالِ أي: مُخْلِصاً له الدينَ منك، هذا رَأْيُ البصريين في مثل هذا. وأمَّا الكوفيون فيجوزُ أَنْ يكونَ عندهم أل عوضاً مِن الضميرِ أي: مُخْلِصاً ديْنَك. قال الزمخشري: «وحَقٌّ لمَنْ رَفَعه أَنْ يَقرأ» مُخْلَصاً «بفتحِ اللامِ لقولِه تعالى: ﴿وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ﴾ [النساء: ١٤٦] حتى يطابقَ قولَه: ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾، والخالِصُ والمُخْلَص واحدٌ إلاَّ أَنْ يصفَ الدينَ بصفةِ صاحبِه على الإِسنادِ المجازيِّ كقولِهم: شعرٌ شاعرٌ». والثاني: أَنْ يَتِمَّ الكلامُ على «مُخْلِصاً» وهو حالٌ مِنْ فاعلِ «فاعبدْ» و «له الدينُ» مبتدأٌ وخبرٌ، وهذا قولُ الفراء. وقد رَدَّه الزمخشري، وقال: «فقد جاء بإعرابٍ رَجَع به الكلامُ إلى قولِك:» لله الدينُ « ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ قلت: وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ لا يظهرُ فيه رَدٌّ على هذا الإِعرابِ.
407
قوله: ﴿والذين اتخذوا﴾ : يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أن يكونَ «الدينُ» مبتدأً، وخبرُه قولٌ مضمرٌ حُذِف وبقي معمولُه وهو قولُه «ما نَعْبُدهم». والتقديرُ: يقولون ما نعبدهم. الثاني: أن يكونَ الخبرُ قولَه: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ﴾ / ويكونُ ذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي:
407
والذين اتَّخذوا قائلين كذا، إنَّ اللَّهَ يحكمُ بينهم. الثالث: أَنْ يكونَ القولُ المضمرُ بدلاً من الصلةِ التي هي «اتَّخذوا». والتقديرُ: والذين اتخذوا قالوا ما نعبدُهم، والخبرُ أيضاً: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ و «الذين» في هذه الأقوالِ عبارةٌ عن المشركين المتَّخِذين غيرَهم أولياءَ. الرابع: أن يكونَ «الذين» عبارةً عن الملائكةِ وما عُبِد من دونِ اللَّهِ كعُزَيْرٍ واللاتِ والعُزَّى، ويكونُ فاعلُ «اتَّخَذَ» عائداً على المشركين. ومفعولُ الاتخاذِ الأولُ محذوفٌ، وهو عائدُ الموصولِ، والمفعولُ الثاني هو «أولياءَ». والتقديرُ: والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ. ثم لك في خبرِ هذا المبتدأ وجهان، أحدهما: القولُ المضمرُ، التقدير: والذين اتَّخذهم المشركون أَوْلِياءَ يقول فيهم المشركون: ما نعبدهم إلاَّ. والثاني: أنَّ الخبرَ هي الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾.
وقُرِئ «ما نُعْبُدُهم» بضمِّ النونِ إتباعاً للباءِ، ولا يُعْتَدُّ بالساكن.
قوله: «زُلْفَى» مصدرٌ مؤكِّدٌ على غيرِ الصدرِ، ولكنه مُلاقٍ لعاملِه في المعنى، والتقدير: لَيُزْلِفُونا زُلْفى، أو لِيُقَرِّبونا قُربى. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مؤكدة.
قوله: «كاذِبٌ كفَّارٌ» قرأ الحسنُ والأعرجُ - ويُرْوى عن أنسٍ - «كذَّابٌ كَفَّارٌ»، وزيد بن علي «كَذُوبٌ كفورٌ».
408
قوله: ﴿يُكَوِّرُ اليل﴾ : في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنَّها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك. الثاني: أنها حالٌ، قاله أبو البقاء.
408
وفيه ضعفٌ؛ من حيث إن تكويرَ أحدِهما على الآخر، إنما كان بَعْدَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ، إلاَّ أَنْ يُقال: هي حالٌ مقدرةٌ، وهو خلافُ الأصلِ.
والتكويرُ: اللفُّ واللَّيُّ. يقال: كارَ العِمامةَ على رأسه وكَوَّرها. ومعنى تكويرِ الليلِ على النهارِ وتكويرِ النهارِ على الليل على هذا المعنى: أنَّ الليلَ والنهارَ خِلْفَةٌ يذهب هذا ويَغْشى مكانه هذا، وإذا غَشِيَ مكانه فكأنما لَفَّ عليه وأَلْبَسَه كما يُلَفُّ اللباسُ على اللابِسِ، أو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُغَيِّب الآخر إذا طرأ عليه، فشُبِّه في تَغْييبه إياه بشيءٍ ظاهرٍ لَفَّ عليه ما غَيَّبه عن مطامحِ الأبصار، أو أنَّ هذا يَكُرُّ على هذا كُروراً متتابِعاً، فَشُبِّه ذلك بتتابع أكوارِ العِمامة بعضِها على بعضٍ. قاله الزمخشريُّ، وهو أوفقُ للاشتقاقِ من أشياءَ قد ذُكِرَتْ. وقال الراغب: «كَوْرُ الشيءِ إدارتُه وضَمُّ بعضِه إلى بعضٍ كَكَوْر العِمامةِ. وقوله: ﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار﴾ إشارةٌ إلى جَرَيانِ الشمسِ في مطالعها وانتقاصِ الليل والنهار وازديادِهما، وكَوَّره إذا أَلْقاه مجتمعاً. واكتار الفرسُ: إذا رَدَّ ذَنبَه في عَدْوِه. وكُوَّارَةُ النَّحْلِ معروفةٌ. والكُوْر: الرَّحْلُ. وقيل: لكل مِصْرٍ» كُوْرَة «، وهي البُقْعَةُ التي يَجْتمع فيها قُرىً ومحالُّ».
409
قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا﴾ : في «ثم» هذه أوجهٌ، أحدها: أنها على بابها من الترتيب بمُهْلة، وذلك أنه يُرْوى أنه تعالى أخرجَنا من ظهرِ آدمَ كالذَّرِّ ثم خَلَق حواءَ بعد ذلك بزمانٍ. الثاني: أنها على بابها أيضاً ولكنْ لمَدْركٍ آخرَ: وهو أن يُعْطَفَ بها ما بعدها على ما فُهِم من الصفة في قولِه: «واحدة» إذ التقدير: من نفسٍ وَحَدَتْ أي انفَرَدَتْ ثم جَعَلَ منها زَوْجَها. الثالث: أنَّها
409
للترتيب في الأخبار لا في الزمان الوجوديِّ كأنه قيل: كان مِنْ أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجَها. الرابع: أنها للترتيبِ في الأحوالِ والرُّتَبِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: وما وجهُ قولِه: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ وما يُعطيه من التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملةِ الآياتِ التي عَدَّدها دالاًّ على وحدانيَّتِه وقُدْرَتِه بتشعيب هذا الخلقِ الفائتِ للحَصْرِ من نفسِ آدمَ عليه السلام وخَلْقِ حواء من قُصَيْراه، إلاَّ أَن إحداهما جعلها اللَّهُ عادةً مستمرةً، والأخرى لم تَجْرِ بها العادةُ ولم تُخْلَقْ أنثى غيرُ حواءَ من قُصيرى رجلٍ، فكانَتْ أَدخلَ في كَوْنها آيةً وأَجْلَبَ لعَجَبِ السامعِ، فعطفَها ب» ثم «على الآية الأولى للدلالةِ على مباينَتِها فضلاً ومزيةً، وتراخيها عنها فيما يرجِعُ إلى زيادةِ كونِها آيةً فهي من التراخي في الحالِ والمنزلةِ لا من التراخي في الوجودِ.
قوله: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام﴾ عطف على»
خَلَقَكم «، والإِنزالُ يَحتمل الحقيقةَ. يُرْوى أنه خَلَقها في الجنةِ ثم أَنْزَلَها، ويُحتملُ المجازُ، وله وجهان، أحدهما: أنها لم تَعِشْ إلاَّ بالنبات والماء، والنباتُ إنما يعيش بالماء، والماءُ يَنْزِلُ من السحاب أطلق الإِنزالَ/ عليها وهو في الحقيقةِ يُطْلَقُ على سببِ السببِ كقولِه:
٣٨٨٥ - أَسْنِمَةُ الآبالِ في رَبابَهْ... وقوله:
٣٨٨٦ - صار الثريدُ في رُؤوسِ العِيْدانْ...
410
وقوله:
٣٨٨٧ - إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قَوْمٍ رَعَيْناه وإنْ كانوا غِضابا
والثاني: أنَّ قضاياه وأحكامَه مُنَزَّلَةٌ من السماءِ من حيث كَتْبُها في اللوحِ المحفوظِ، وهو أيضاً سبَبٌ في إيجادِها.
قوله:» يَخْلُقكم «هذه الجملةُ استئنافيةٌ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها خبرَ مبتدأ مضمرٍ، بل اسُتُؤْنفت للإِخبار بجملةٍ فعلية. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في كسرِ الهمزةِ وفتحِها وكذا الميمُ.
قوله:»
خَلْقاً «مصدرٌ ل» يَخْلُق «و ﴿مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ صفةٌ له، فهو لبيانِ النوعِ من حيث إنه لَمَّا وُصِفَ زاد معناه على معنى عاملِه. ويجوز أن يتعلَّقَ ﴿مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ بالفعل قبلَه، فيكون» خَلْقاً «لمجرد التوكيد.
قوله:»
ظُلُمات «متعلقٌ بخَلْق الذي قبله، ولا يجوز تعلُّقُه ب» خَلْقاً «المنصوبِ؛ لأنه مصدرٌ مؤكِّدٌ، وإن كان أبو البقاء جَوَّزه، ثم مَنَعَه بما ذكرْتُ فإنه قال:» و «في» متعلِّقٌ به أي ب «خَلْقاً» أو بخلق الثاني؛ لأنَّ الأولَ مؤكِّدٌ فلا يعملُ «ولا يجوزُ تعلُّقُه بالفعلِ قبله؛ لأنه قد تعلَّقَ به حرفٌ مثلُه، ولا يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنًى إلاَّ بالبدليةِ أو العطفِ.
فإنْ جَعَلْتَ «في ظلمات»
بدلاً مِنْ ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ بدلَ اشتمالٍ؛ لأن البطونَ مشتملةٌ عليها، وتكونُ بدلاً بإعادة العاملِ، جاز ذلك، أعني تعلُّقَ الجارَّيْن ب «يَخْلُقكم». ولا يَضُرُّ الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه بالمصدرِ لأنه مِنْ تتمةِ العاملِ فليس بأجنبي.
411
قوله: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ «الله» خبراً ل «ذلكم» و «ربُّكم» نعتٌ للَّهِ أو بدلٌ منه. ويجوز أَنْ يكونَ «الله» بدلاً مِنْ «ذلكم» و «ربُّكم» خبرُه.
قوله: «له المُلْكُ» يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر، وأَنْ يكونَ «الله» بدلاً مِنْ «ذلكم» و «ربُّكم» نعتٌ لله أو بدلٌ منه، والخبرُ الجملةُ مِنْ «له الملكُ». ويجوزُ أَنْ يكون الخبرُ نفسَ الجارِّ والمجرور وحدَه و «المُلْكُ» فاعلٌ به، فهو من بابِ الإِخبارِ بالمفرد.
قوله: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأَنْ يكونَ خبراً بعد خبرٍ.
412
قوله: ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ : قرأ «يَرْضَهُوْ» بالصلة - وهي الأصلُ مِنْ غيرِ خلافٍ - ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وابنُ ذكوان. وهي قراءةٌ واضحةٌ. وقرأ «يَرْضَهُ» بضم الهاءِ مِنْ غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ. وقرأ «يَرْضَهْ» بإسكانها وَصْلاً مِنْ غيرِ خلافٍ السوسيُّ عن أبي عمروٍ. وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والصلةَ - الدُّوْريُّ عن أبي عمروٍ، وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والتحريكَ مِنْ غيرِ صلة - هشامٌ عن ابنِ عامرٍ، فهذه خمسُ مراتبَ للقُرَّاءِ، وقد عَرَفْتَ توجيهَ الإِسكانِ والقصرِ والإِشباع ممَّا تقدَّم في أوائلِ هذا الموضوع، وما أَنْشَدْتُه عليه وأسْنَدْتُه لغةً إلى قائله. ولا يُلْتَفَتُ إلى أبي حاتمٍ في تَغْليطِه راويَ السكونِ، فإنها لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب.
قوله: ﴿مُنِيباً﴾ : حالٌ مِن فاعل «دَعَا» و «إليه» متعلق ب «مُنيباً» أي راجِعاً إليه.
412
قوله: «خَوَّله» يُقال: خَوَّلَه نِعْمَةً أي: أعطاها إياه ابتداءً مِنْ غيرِ مُقْتَضٍ. ولا يُسْتَعْمَلُ في الجزاءِ بل في ابتداءِ العَطِيَّةِ. قال زهير:
٣٨٨٨ - هنالِك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالُ يُخْوِلُوْا ........................
ويُرْوَى «يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا». وقال أبو النجم:
٣٨٨٩ - أَعْطَى فلم يُبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ كُوْمُ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ
وحقيقةُ «خَوَّل» مِنْ أحدِ معنيين: إمَّا مِنْ قولِهم: «هو خائلُ مالٍ» إذا كان متعهِّداً له حَسَنَ القيام عليه، وإمَّا مِنْ خال يَخُول إذا اختال وافتخر، ومنه قولُه: «إنَّ الغنيَّ طويلُ الذيلِ مَيَّاسُ»، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ مُسْتوفىً في الأنعام.
قوله: «منه» يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «خَوَّل»، وأنْ يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نِعْمة».
قوله: ﴿مَا كَانَ يدعوا﴾ يجوزُ في «ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، مُراداً بها الضُّرُّ أي: نسي الضرَّ الذي يَدْعو إلى كَشْفِه. الثاني: أنها بمعنى الذي/ مُراداً بها الباري تعالى أي: نَسِي اللَّهَ الذي كان يَتَضرَّعُ إليه. وهذا عند مَنْ يُجيزُ «ما» على أُوْلي العلمِ. الثالث: أَنْ تكونَ «ما»
413
مصدريةً أي: نَسِي كونَه داعياً. الرابع: أن تكونَ «ما» نافيةً، وعلى هذا فالكلامُ تامٌّ على قولِه: «نَسِيَ» ثم استأنَفَ إخباراً بجملةٍ منفيةٍ، والتقدير: نَسِيَ ما كان فيه. لم يكنْ دعاءُ هذا الكافرِ خالصاً لله تعالى. و «من قبلُ» أي: من قبلِ الضررِ، على القول الأخير، وأمَّا على الأقوالِ قبلَه فالتقديرُ: مِنْ قبل تخويلِ النِّعمة.
قوله: «لِيُضِلَّ» قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ «لِيَضِلَّ» بفتح الياء أي: ليفعلَ الضلالَ بنفسه. والباقون بضمِّها أي: لم يقنع بضلالِه في نفسِه حتى يَحْمِلَ غيرَه عليه، فمفعولُه محذوفٌ وله نظائرُ تقدَّمَتْ. واللامُ يجوزُ أن تكونَ للعلةِ، وأن تكونَ للعاقبة.
414
قوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾ : قرأ الحَرميَّان: نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم، والباقون بتشديدها. فأمَّا الأُولى ففيها وجهان، أحدهما: أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على «مَنْ» بمعنى الذي، والاستفهامُ للتقريرِ، ومقابلُه محذوفٌ، تقديرُه: أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أنداداً، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه، أو التقدير: أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً﴾ ويَدُلُّ عليه قولُه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه. والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ. ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر:
414
يريد: أم غَيٌّ. والثاني: أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ، و «مَنْ» منادى، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو المأمورُ بقولِه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ﴾ كأنه قال: يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ، كقولِ الآخرِ:
٣٨٩٠ - دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
٣٨٩١ - أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائراً .............................
وفيه بُعْدٌ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه. وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضاً أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده. قلت: قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبياً ممَّا بعدَه؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ. وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضاً بقريبٍ مِنْ هذا. وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي «أم» داخلةً على «مَنْ» الموصولةِ أيضاً فأُدْغِمَتْ الميمُ. وفي «أم» حينئذٍ قولان، أحدهما: أنها متصلةٌ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه: آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ. وهذا معنى قولِ الأخفشِ. قال الشيخ: ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ «. وقيل:
415
تقديرُه: أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان. وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ﴾. والثاني: أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي: بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له: تمتَّعْ بكفرِك. وقال أبو جعفر:» هي بمعنى بل، و «مَنْ» بمعنى الذي تقديرُه: بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله «. وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ: من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه. والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ:» بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة «؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه: ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾. و» آناءَ «منصوبٌ على الظرفِ. وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه.
قوله:»
ساجِداً وقائماً «حالان. وفي صاحبهما وجهان، الظاهر منهما: أنه الضميرُ المستتر في» قانِتٌ «. والثاني: أنه الضميرُ المرفوعُ ب» يَحْذَرُ «قُدِّما على عامِلهما. والعامَّةُ على نصبِهما. وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين: إمَّا النعتِ ل» قَانِتٌ «، وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر.
قوله:»
يَحْذَر «يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في» قانتٌ «وأن يكونَ/ حالاً من الضمير في» ساجداً وقائماً «، وأَنْ يكونَ مستأنفاً جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها؟ فقيل: يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه، أي: عذابَ الآخرةِ. وقُرِئ ﴿إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو﴾ بإدغامِ التاءِ في الذَّال.
416
قوله: ﴿فِي هذه الدنيا﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفعل قبله؛ وحُذِفَت صفةُ «حسنةٌ»، إذ المعنى: حسنة عظيمة؛ لأنه لا يُوْعَدُ مَنْ عمل حسنةً في الدنيا، حسنةً مطلقاً بل مقيَّدةً بالعِظَم، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ حسنة كانَتْ صفةً لها، فلمَّا تَقَدَّمَتْ بقيَتْ حالاً. و «بغيرِ حسابٍ» حالٌ: إمَّا مِنْ «أَجْرَهم»، وإمَّا من «الصابرون» أي: غيرَ محاسَبٍ عليه، أو غيرَ محاسَبين.
قوله: ﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ﴾ : في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها للتعليلِ تقديره: وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به لأَنْ أكونَ. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف عَطَفَ» أُمِرْت «على» أُمِرت «وهما واحدٌ؟ قلت: ليسا بواحدٍ لاختلافِ جهتيهما: وذلك أنَّ الأمرَ بالإِخلاصِ وتكليفَه شيءٌ، والأمرَ به ليُحْرِز به قَصَبَ السَّبْقِ في الدين شيءٌ آخرُ. وإذا اختلفَ وجها الشيء وصفتاه يُنَزَّل بذلك مَنْزِلَةَ شيئين مختلفين». والثاني أن تكونَ اللامُ مزيدةً في «أَنْ». قال الزمخشري: «ولك أن تَجْعَلَ اللامَ مزِيدَةً، مَثَلُها في قولك:» أَرَدْتُ لأَنْ أفعلَ «ولا تُزاد إلاَّ مع» أَنْ «خاصةً دونَ الاسمِ الصريح، كأنها زِيْدَتْ عوضاً من تَرْكِ الأصل إلى ما يقومُ مَقامَه، كما عُوِّض السينُ في» اسطاع «عوضاً من تَرْكِ الأصل الذي هو أَطْوَعَ. والدليلُ على هذا الوجهِ مجيئُه بغيرِ لامٍ في قولِه: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين﴾ [يونس: ٧٢] ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾ [يونس: ١٠٤] ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ [الأنعام: ١٤] انتهى.
417
قوله:» ولا تُزاد إلا مع أنْ «فيه نظرٌ، من حيث إنها تُزاد باطِّرادٍ إذا كان المعمولُ متقدماً، أو كان العامل فرعاً. وبغير اطِّرادٍ في غيرِ الموضعين، ولم يَذْكُرْ أحدٌ من النحويين هذا التفصيلَ. وقوله:» كما عُوِّض السينُ في اسْطاع «هذا على أحد القولين. والقول الآخر أنَّه استطاع فحُذِفَتْ تاءُ الاستفعالِ. وقوله:» والدليلُ عليه مجيئُه بغير لامٍ «قد يُقال: إنَّ أصلَه باللامِ، وإنما حُذِفَتْ لأنَّ حَرْفَ الجرِّ يَطَّرِدُ حَذْفُه مع» أنْ «و» أنَّ «، ويكون المأمورُ به محذوفاً تقديرُه: وأُمِرْت أن أعبدَ لأَنْ أكونَ.
418
قوله: ﴿قُلِ الله أَعْبُدُ﴾ : قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ. قال الزمخشريُّ: «ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا، وأَخَّره في الأول، فالكلامُ أولاً واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه، وثانياً فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه: ﴿فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾ ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:قوله :﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ ﴾ : قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ. قال الزمخشريُّ :" ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا، وأَخَّره في الأول، فالكلامُ أولاً واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه، وثانياً فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه :﴿ فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ ﴾ ".
قوله: ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ أحدَ الجارَّيْنِ المتقدِّمَيْنِ، وإن كان الظاهرُ جَعْلَ الأولِ هو الخبرَ، ويكون «مِنْ فوقِهم» إمَّا حالاً مِنْ «ظُلَل» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، وإمَّا متعلقاً بما تعلَّق به الخبرُ، و «مِن النار» صفةٌ ل «ظُلَل». وقوله: ﴿وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ كما تقدَّم، وسَمَّاها ظلالاً بالنسبة لمَنْ تَحْتهم.
قوله: ﴿أَن يَعْبُدُوهَا﴾ : الضميرُ عائدٌ على الطاغوتِ لأنها تُؤَنَّثُ، وقد تقدَّم القولُ عليها مستوفىً في البقرة. و «أَنْ يعبدوها» في محلِّ نصبٍ على البدل من الطاغوت بدلِ اشتمالٍ، كأنه قيل: اجْتَنِبُوا عبادةَ الطاغوتِ. والموصولُ مبتدأٌ. والجملةُ مِنْ «لهم البشرى» الخبرُ. وقيل: «لهم» هو الخبرُ بنفسِه. «والبُشْرى» فاعلٌ به وهذا أَوْلَى لأنه مِنْ بابِ الإِخبار بالمفرداتِ. وقوله: «فبَشِّرْ عبادي» من إيقاع الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي: فبَشِّرْهُمْ أي: أولئك المجتَنبين، وإنما فُعِلَ ذلك تصريحاً بالوصفِ المذكور.
قوله: ﴿الذين يَسْتَمِعُونَ﴾ : الظاهرُ أنه نعتٌ لعبادي، أو بدلٌ منه، أو بيانٌ له. وقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً. وقوله: ﴿أولئك الذين﴾ إلخ خبرُه. وعلى هذا فالوقفُ على قولِه: «عبادي» والابتداءُ بما بعدَه.
قوله: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾ : في «مَنْ» هذه وجهان، أظهرهما: أنها موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وخبرُه محذوفٌ، فقدَّره أبو البقاء «كمَنْ نجا». وقَدَّره الزمخشري: «فأنت تُخَلِّصُه» قال: «حُذِفَ لدلالةِ» أفأنت تُنْقِذُ «عليه. وقَدَّره غيرُه» تتأسَّفُ عليه «. وقدَّره آخرون» يَتَخَلَّص منه «أي: من العذاب/ وقدَّر الزمخشريُّ على عادته جملةً بين الهمزة والفاء. تقديرُه: أأنت مالِكُ أَمْرِهم، فمَنْ حَقَّ عليه كلمةُ العذاب. وأمَّا غيرُه فيدَّعي أن الأصلَ تقديمُ الفاءِ وإنما أُخِّرَتْ لِما تستحقُّه الهمزةُ من التصديرِ. وقد
419
تقدَّمَ تحقيق هذين القولين غيرَ مرةٍ. والثاني: أَنْ تكون» مَنْ «شرطيةً، وجوابُها: أفأنت. فالفاء فاءُ الجوابِ دَخَلَتْ على جملةِ الجزاءِ، وأُعيدتِ الهمزةُ لتوكيد معنى الإِنكار، وأوقع الظاهرَ وهو ﴿مَن فِي النار﴾ موقعَ المضمرِ، إذ كان الأصلُ: أفأنت تُنْقِذُه. وإنما وَقَعَ موقعَه شهادة عليه بذلك. وإلى هذا نحا الحوفيُّ والزمخشري. قال الحوفي:» وجيْءَ بألف الاستفهام لَمَّا طَال الكلامُ توكيداً، ولولا طولُه لم يَجُزْ الإِتيانُ بها؛ لأنه لا يَصْلُحُ في العربيةِ أَنْ يأتيَ بألف الاستفهام في الاسمِ وألفٍ أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تُنْقِذُه. وعلى القول بكونِها شرطيةً يترتَّبُ على قولِ الزمخشري وقولِ الجمهور مسألةٌ: وهو أنَّه على قولِ الجمهورِ يكونُ قد اجتمع شرطٌ واستفهامٌ. وفيه حينئذٍ خلافٌ بين سيبويه ويونسَ: هل الجملة الأخيرةُ جواب الاستفهام وهو قولُ يونسَ، أو جوابٌ للشرط، وهو قولُ سيبويه؟ وأمَّا على قَوْلِ الزمخشريِّ فلم يَجْتمع شرطٌ واستفهامٌ؛ إذ أداةُ الاستفهامِ عندَه داخلةٌ على جملةٍ محذوفةٍ عُطِفَتْ عليها جملةُ الشرط، ولم يَدْخُلْ على جملةِ الشرطِ. وقوله: «أفأنت تُنْقِذُ» استفهامُ توقيفٍ وقُدِّم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لست قادراً على إنقاذِه إنَّما القادرُ عليه اللَّهُ وحدَه.
420
قوله: ﴿لكن الذين اتقوا﴾ : استدراكٌ بين شيئين نقيضَيْن أو ضِدَّيْن، وهما المؤمنون والكافرون.
وقوله: «وَعْدَ اللَّهِ» مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ، فهو منصوبٌ بواجبِ الإِضمار.
قوله: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ﴾ : العامَّةُ على رَفْعِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه. وقرأ أبو بشر «ثم يَجْعَلَه» منصوباً. قال الشيخ: «قال صاحب الكامل:» وهو ضعيفٌ «انتهى. يعني بصاحب الكامل» الهذليَّ «ولم يُبَيِّنْ هو ولا صاحبُ الكامل وَجْهَ ضَعْفِه ولا تخريجَه. فأمَّا ضعفُه فواضحٌ حيث لم يتقدَّم ما يَقْتَضي نصبَه في الظاهر. وأمَّا تخريجُه فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين، أحدُهما: أَنْ ينتصِبَ بإضمار» أن «ويكونَ معطوفاً على قولِه: ﴿أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ في أولِ الآيةِ، والتقدير: ألم تَرَ إنزالَ اللَّهِ ثم جَعْلَه. والثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بتقدير تَرَى أي: ثم تَرَى جَعْلَه حُطاماً، يعني أنه يُنْصَبُ ب» أنْ «مضمرةً، وتكونُ» أنْ «وما في حَيِّزِها مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ وهو» تَرَى «لدلالة» ألم تَرَ «عليه.
قوله: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله﴾ :﴿أَفَمَن يَتَّقِي﴾ [الزمر: ٢٤] كما تقدَّم في ﴿أَفَمَنْ حَقَّ﴾ [الزمر: ١٩]. والتقديرُ: أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صدرَه للإِسلامِ كمَنْ قسا قلبُه، أو كالقاسي المُعْرِضِ، لدلالةِ ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ عليه. وكذا التقديرُ
421
في: أفَمَنْ يَتَّقِي أي: كمن أَمِنَ العذابَ، وهو تقديرُ الزمخشريِّ، أو كالمُنْعَمِيْنَ في الجنةِ، وهو تقديرُ ابنِ عطية.
422
قوله: ﴿كِتَاباً﴾ : فيه وجهان، أظهرهما: أنه بدلٌ مِنْ «أحسنَ الحديث». والثاني: أنه حالٌ منه. قال الشيخ - لَمَّا نقله عن الزمخشري -: «وكأنَّه بناءً على أنَّ» أَحْسَن الحديث «معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ. فقيل: إضافتُه مَحْضَةٌ. وقيل: غيرُ محضة». قلت: وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ. والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ. و «مُتَشابِهاً» نعتٌ ل «كتاب» وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالاً، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب.
وقرأ العامَّةُ «مثانيَ» بفتح الياء صفةً ثانية أو حالاً أخرى أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري. وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها، وفيها وجهان، أحدُهما: أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالاً للحركةِ عليه كقراءة «تُطْعِمُوْن أهاليْكم». [وقوله] :
422
ونحوِهما. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو مثاني، كذا ذكره الشيخ. وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال: مثانٍ، كما تقول: هؤلاء جوارٍ. وقد يُقال: إنه وُقِفَ عليه. ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى/ الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه: بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو: هذا قاضٍ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ. ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو: ﴿مِنْ والي﴾ و ﴿باقي﴾ و ﴿هادي﴾ في قراءة ابن كثير.
قوله: «تَقْشَعِرُّ» هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل «كتاب»، وأَنْ تكونَ حالاً منه لاختصاصِه بالصفةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً. واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف، وقَفَّ شعرُه. والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضاً. ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ. ووزنُ القُشَعْرِيرة: فَعَلِّيْلَة.
و «مَثاني» جمعُ مَثْنى؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير. وإنما وُصِفَ «كتاب» وهو مفردٌ بمثاني، وهو جمعٌ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ، أو هو من باب: بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ. كذا قال الزمخشري: وقيل: ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي: فصولاً مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه.
423
قوله: ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ منصوباً على المدح؛ لأنه لَمَّا كان نكرةً امتنع إتباعُه للقرآن. الثاني: أَنْ
423
ينتصِبَ ب «يتذكَّرون» أي: يتذكَّرون قرآناً. الثالث: أن ينتصبَ على الحال مِن القرآن على أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ، وتُسَمَّى حالاً موطئة لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ «عربياً» و «قرآناً» توطئةٌ له نحو: «جاء زيدٌ رجلاً صالحاً». رضي الله عنR> قوله: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ نعتٌ ل «قرآناً» أو حالٌ أخرى. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فهلاَّ قيل: مستقيماً أو غيرَ مُعْوَج. قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفيُ أَنْ يكونَ فيه عِوَجٌ قط كما قال: ﴿وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١]. والثاني: أنَّ العِوَجَ يختصُّ بالمعاني دونَ الأعيان. وقيل: المرادُ بالعِوَجِ الشكُّ واللَّبْسُ». وأنشد:
٣٨٩٢ - كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ............. .................................
424
قوله: ﴿فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب صفةً لرجل، ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ الجارَّ وحدَه، و «شركاءُ» فاعلٌ به، وهو أَوْلَى لقُرْبه من المفردِ و «مُتَشاكِسُوْن» صفةٌ لشركاء. والتشاكُسُ: التخالُفُ. وأصلُه سوءُ الخُلُقِ وعُسْرُه، وهو سببُ التخالُفِ والتشاجُر. ويقال: التَّشاكس والتشاخُسُ بالخاء موضع الكاف. وقد تقدَّم الكلامُ على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد «ضَرَب». وقال الكسائي: انتصَبَ «رجلاً» على إسقاط الجارِّ أي: لرجل أو في رجل.
وقوله: «فيه» أي: في رِقِّه. وقال أبو البقاء كلاماً لا يُشْبه أَنْ يَصْدُرَ مِنْ
424
مثله، بل ولا أَقَلَّ منه. قال: «وفيه شركاءُ الجملةُ صفةُ ل» رجل «و» في «متعلقٌ بمتشاكسون. وفيه دلالةٌ على جوازِ تقديمِ خبرِ المبتدأ عليه» انتهى. أمَّا هذا فلا أشُكُّ أنه سهوٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَه جملةً كيف يقول بعد ذلك: إن «فيه» متعلقٌ ب «متشاكسون» ؟ وقد يقال: أراد مِنْ حيث المعنى، وهو بعيدٌ جداً. ثم قوله: «وفيه دلالةٌ» إلى آخره يناقضه أيضاً. وليست المسألةُ غريبةً حتى يقولَ: «وفيه دلالة». وكأنه أراد: فيه دلالةٌ على تقديم معمولِ الخبر على المبتدأ، بناءً منه على أنَّ «فيه» يتعلق ب «مُتشاكسون» ولكنه فاسدٌ، والفاسدُ لا يُرام صَلاحُه.
قوله: «سَلَماً لرَجُلٍ» قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ «سالماً» بالألفِ وكسرِ اللام. والباقون «سَلَماً» بفتح السين واللام. وابن جبير بكسرِ السينِ وسكونِ اللام. فالقراءةُ الأولى اسمُ فاعلٍ مِنْ سَلِمَ له كذا فهو سالمٌ. والقراءاتان الأُخْرَيان سَلَماً وسِلْماً فهما مَصدران وُصِف بهما على سبيل المبالغةِ، أو على حَذْفِ مضافٍ ما، أو على وقوعِهما موقعَ اسمِ الفاعل فتعودُ كالقراءةِ الأولى. وقُرِئ «ورجلٌ سالِمٌ» برفعِهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: وهناك رجلٌ سالمٌ لرجلٍ، كذا قَدَّره الزمخشري. الثاني: أنه مبتدأٌ و «سالمٌ» خبرُه. وجاز الابتداءُ بالنكرةِ؛ لأنه موضعُ تفصيلٍ، كقولِ امرئِ القيس:
٣٨٩٣ - وقد أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ من الإِلهِ وقولٌ غيرُ مَكْذوبِ
٣٨٩٤ - إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
وقولهم: الناسُ رجلان رجلٌ أكرمْتُ، ورجلٌ أَهَنْتُ.
425
قوله: «مَثَلاً» منصوبٌ على التمييزِ المنقولِ من الفاعليةِ إذ الأصلُ: هل يَسْتَوي مَثَلُهما. وأُفْرد التمييزُ لأنه مقتصرٌ عليه أولاً في قولِه: ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً﴾. وقرِئَ «مِثْلَيْن» فطابَقَ حالَيْ الرجلين. وقال الزمخشري - فيمَنْ قرأ مِثْلين -: «إنَّ الضميرَ في» يَسْتَويان «للمِثْلين؛ لأنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ، ومثلَ رجلٍ.
والمعنى: هل يَسْتويان فيما يَرْجِعُ إلى الوصفيَّة كما تقول: كفى بهما رجلين «.
قال الشيخ:»
والظاهرُ أنه يعود الضميرُ في «يَسْتَويان» على «رَجُلَيْن». وأمَّا إذا جَعَلْتَه/ عائداً إلى المِثْلَيْنِ اللذيْن ذَكَرَ أنَّ التقديرَ: مِثْلَ رجلٍ ومِثْلَ رجلٍ؛ فإنَّ التمييزَ يكون إذ ذاك قد فُهِمَ من المميَّز الذي هو الضميرُ؛ إذ يصيرُ التقدير: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلين «. قلت: هذا لا يَضُرُّ؛ إذ التقديرُ: هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلَيْن في الوصفيةِ فالمِثْلان الأوَّلان مَعْهودان، والثانيان جنسان مُبْهمان كما تقول: كَفَى بهما رجلَيْن؛ فإنَّ الضميرَ في» بهما «عائدٌ على ما يُراد بالرجلين فلا فَرْقَ بين المسألتين. فما كان جواباً عن» كفَى بهما رجلين «يكونُ جواباً له.
426
قوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ : العامَّةُ على «مَيِّت ومَيِّتون». وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي عبلة واليماني «مائِتٌ ومائتون»، وهي صفةٌ مُشْعِرَةٌ بحدوثِها دون «مَيِّت». وقد تقدَّمَ أنَّه لا خلافَ بين القرَّاءِ في تثقيلِ مثلِ هذا. «ثم إنكم» تغليباً للمخاطبِ، وإنْ كان واحداً في قوله: «إنَّك» على الغائبين في «وإنَّهم».
قوله: ﴿والذي جَآءَ﴾ : بالصدق لَفْظُه مفردٌ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ. وقيل: لأنه قُصِدَ به الجزاءُ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ «الذي» موقع «الذين»، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه: ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ كما رُوْعِيَ معنى «مَنْ» في قولِه: «للكافرين» ؛ فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ: مثوىً لهم. وقيل: بل الأصلُ: والذين جاء بالصدق، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفاً، كقولِه: ﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩]. وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع، فكان يُقال: والذي جاؤوا، كقوله: «كالذي خاضُوا». ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى، كقولِه:
٣٨٩٥ - أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا
ولجاءَ كقوله:
٣٨٩٦ - وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
وقرأ عبدُ الله ﴿والذي جَآؤوا بالصدق وَصَدَّقَوا بِهِ﴾ وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها. وقيل: «الذي» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ
427
بمعنى الجمعِ، تقديرُه: والفريق أو الفوج ولذلك قال: ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾. وقيل: المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ، فقال: «أولئك هم» كقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٩]. قاله الزمخشري وعبارتُه: «هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومَه». وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال: «وإصلاحُه أَنْ يقولَ: أراده به كما أراده بموسى وقومِه». قلت: ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم «به» و «بموسى» لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء: ١٣١]، وقوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممتحنة: ١] : وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ. وقولُ الزمخشريِّ: «إن الضميرَ في» لعلهم يَهْتدون «لموسى وقومِه» فيه نظرٌ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ. وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية. وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أن يريدَ: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به، وهم: الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به». قال الشيخ: «وفيه توزيعُ الصلةِ، والفوجُ هو الموصولُ، فهو
428
كقولِك: جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى».
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان/ ومحمد بن جُحادة مخففاً بمعنى صَدَقَ فيه، ولم يُغَيِّرْه. وقُرِئ «وصُدِّق به» مشدَّداً مبنياً للمفعول.
429
قوله: ﴿لِيُكَفِّرَ﴾ : في تعلُّقها وَجْهان، أحدهما: أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي: يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفِّرَ. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المحسنين، كأنه قيل: الذين احسنوا ليُكَفِّرَ أي: لأجلِ التكفير.
قوله: «أسْوَأَ الذي» الظاهرُ أنَّه أَفْعَلُ تفضيل، وبه قرأ العامَّةُ. وقيل: ليسَتْ للتفضيل بل بمعنى سَيِّئَ الذي عمِلوا كقولِهم: «الأَشَجُّ والناقص أعدلُ بني مروان» أي: عادلاهم. ويَدُلُّ على هذا قراءةُ ابنِ كثير في رواية «أَسْواءَ» بألفٍ بين الواوِ والهمزةِ بزنَةِ أَحْمال جمعَ سُوء، وكذا قرأ في حم السجدة.
قوله: ﴿بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ : العامَّةُ على توحيدِ «عبدَه». والأخَوان «عبادَه» جمعاً وهم الأنبياءُ وأتباعُهم. وقُرِئ «بكافي عبادِه»
429
بالإِضافة. و «يُكافى» مضارعُ كافى، «عبادَه» نُصِب على المفعولِ به. ثم المفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى فَعَل نحو: نُجازي بمعنى نَجْزي، وبُنِيَ على لفظةِ المُفاعلةِ لِما تقدَّم مِنْ أنَّ بناءَ المفاعلةِ يُشْعِ بالمبالغةِ؛ لأنه للمغالبة. ويُحتمل أَنْ يكونَ أصلُه يُكافِئ بالهمزِ، من المكافأة بمعنى يَجْزِيْهم، فخفَّف الهمزةِ.
قوله: «ويُخَوِّفُونَك» يجوزُ أَنْ يكون حالاً؛ إذ المعنى: أليس كافيَك حالَ تَخْويفِهم إياك بكذا، ويَعْلَمُه. كأنَّ المعنى: أنَّه كافيه في كلِّ حالٍ حتى في هذه الحال. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً.
430
قوله: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ﴾ : هي المتعديةُ لاثنين، أوَّلُهما «ما تَدْعوْن» وثانيهما الجملةُ الاستفهاميةُ. والعائدُ على المفعول منها قولُه: «هُنَّ» وإنما أنَّثَه تحقيراً لِما يَدْعُون مِنْ دونِه، ولأنهم كانوا يُسَمُّونها بأسماءِ الإِناث: اللات ومَناة والعُزَّى. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه مستوفىً في مواضعَ.
قوله: ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ قرأ أبو عمرو «كاشفاتٌ مُمْسِكاتٌ» بالتنوين ونصبِ «ضُرَّه» و «رحمتَه»، وهو الأصلُ في اسم الفاعل. والباقون بالإِضافةِ وهو تخفيفٌ.
قوله: ﴿والتي لَمْ تَمُتْ﴾ : عطفٌ على الأنفس أي: يَتَوفَّى الأنفسَ حين تموتُ، ويَتَوَفَّى أيضاً الأنفسَ التي لم تَمُتْ في مَنامِها. ففي
430
منامِها ظرفٌ ل «يَتَوَّفَى». وقرأ الأخَوان «قُضِيَ» مبنياً للمفعول، «الموتُ» رفعاً لقيامَه مَقامَ الفاعلِ.
431
وقوله: ﴿أَمِ اتخذوا﴾ :«أم» منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ. وتقدَّم الكلامُ على نحوِ «أَوَلَوْ» وكيف هذا التركيبُ.
قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين﴾ : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما العاملُ في» إذا ذُكِرَ «؟ قلت: العاملُ في» إذا «الفجائية، تقديرُه: وقتَ ذِكْرِ الذين مِنْ دونِه فاجَؤوا وقتَ الاستبشار». قال الشيخُ: «أمَّا قولُ الزمخشريِّ فلا أَعْلَمُه مِنْ قولِ مَنْ ينتمي للنحوِ، وهو أنَّ الظَّرْفَيْنِ معمولان لفاجؤوا ثم» إذا «الأولى تَنْتَصِبُ على الظرفيةِ، والثانيةُ على المفعول به». وقال الحوفي: «إذا هم يَسْتَبشرون» إذا «مضافةٌ إلى الابتداءِ والخبر، و» إذا «مكررةٌ للتوكيد، وحُذف ما تُضاف إليه. والتقدير: إذا كانَ ذلك هم يَسْتبشِرون فيكون هم يستبشرون هو العاملَ في» إذا «، المعنى: إذا كان كذلك استبشروا». قال الشيخ: «وهذا يَبْعُدُ جداً عن الصواب، إذا جعل» إذا «مضافةً إلى الابتداء والخبر»، ثم قال: «وإذا مكررةٌ للتوكيد وحُذِف ما تضاف إليه» إلى آخرِ كلامه فإذا كانَتْ «إذا» حُذِف ما تُضاف إليه، فكيف تكون مضافةً إلى الابتداء
431
والخبرِ الذي هو هم يَسْتَبْشِرون؟ وهذا كلُّه أَوْجبه عَدَمُ الإِتقانِ لعلمِ النحوِ والتحذُّقِ فيه «انتهى. وفي هذه العبارةِ تحامُلٌ على أهلِ العلمِ المرجوعِ إليهم فيه.
واختار الشيخُ أَنْ يكونَ العاملُ في»
إذا «الشرطيةِ الفعلَ بعدها لا جوابَها، وأنها ليسَتْ مضافةً لِما بعدها، وإنْ كان قولَ الأكثرين، وجَعَل» إذا «الفجائيةَ معمولةً لِما بعدها سواءً كانت زماناً أم مكاناً. أمَّا إذا قيل: إنها حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ وهي رابِطةٌ لجملةِ الجزاءِ بالشرطِ كالفاء.
والاشمِئْزازُ: النُّفورُ والتقبُّضُ. وقال أبو زيد: هو الذُّعْرُ. اشْمَأَزَّ فلانٌ: إذا ذُعِرَ، ووزن افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ. قال الشاعر:
432
قوله: ﴿سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً أي: سَيِّئاتُ كَسْبِهم أو بمعنى الذي: سَيِّئات أعمالهم التي كَسَبوها.
قوله: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مهيِّئةً زائدةً على «إنَّ» نحو: إنما قام زيد، وأَنْ تكونَ موصولةً، والضميرُ عائدٌ عليها مِنْ «أُوْتِيْتُه» أي: إنَّ الذي أُوْتِيْتُه على عِلْمٍ مني أو على عِلْمٍ من الله فيَّ، أي: أستحقُّ/ ذلك.
432
قوله: «بل هي» الضميرُ للنعمةِ. ذكَّرها أولاً في قوله: «إنما أوتيتُه لأنها بمعنى الإِنعامِ، وأنَّث هنا اعتباراً بلفظِها. وقيل: بل الحالةُ أو الإِتيانةُ.
433
قوله: ﴿قَدْ قَالَهَا﴾ : أي: قال القولةَ المَذْكورةَ. وقُرِئَ «قد قاله» أي: هذا القولَ أو الكلامَ. وإنما عُطِفَتْ هذه الجملةُ، وهي قوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان﴾ بالفاء والتي في أول السورة بالواو؛ لأن هذه مُسَبَّبَةٌ عن قوله: «وإذا ذُكِر» أي: يَشْمَئِزُّون مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ويَسْتَبْشِرون بذِكْرِ آلهتِهم، فإذا مَسَّ أحدَهم بخلاف الأولى حيث لا تَسَبُّبَ فيها، فجيء بالواوِ التي لمطلقِ العطفِ، وعلى هذا فما [بين] السببِ والمُسَبَّبِ جملٌ اعتراضيةٌ، قال معناه الزمخشريُّ. واستبعده الشيخُ من حيث إنَّ أبا عليٍّ يمنع الاعتراضَ بجملتينِ فكيف بهذه الجملِ الكثيرةِ؟ ثم قال: «والذي يَظْهر في الرَّبْطِ أنه لَمَّا قال: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ [الزمر: ٤٧] الآية كان ذلك إشعاراً بما يَنالُ الظالمين. مِنْ شِدَّةِ العذاب، وأنه يَظْهر لهم يومَ القيامة من العذاب، أَتْبع ذلك بما يَدُلُّ على ظُلمِه وبَغْيه، إذ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا اللَّهَ، فإذا أَحْسَن إليه لم يَنْسُبْ ذلك إليه».
قوله: «فما أَغْنى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» نافيةً أو استفهاميةً مؤولةً بالنفيِ، وإذا احْتَجْنا إلى تأويلها بالنفيِ فَلْنَجْعَلْها نافيةً استراحةً من المجاز.
قوله: ﴿قُلْ ياعبادي﴾ : قيل في هذه الآيةِ من أنواع المعاني والبيانِ أشياءُ حسنةٌ، منها: إقبالُه عليهم ونداؤهم، ومنها: إضافتُهم إليه
433
إضافةَ تشريفٍ، ومنها: الالتفاتُ من التكلم إلى الغَيْبةِ في قوله: ﴿مِن رَّحْمَةِ الله﴾، ومنها: إضافةُ الرحمةِ لأجلِ أسمائِه الحُسْنى، ومنها: إعادةُ الظاهرِ بلفظِه في قولِه: «إنَّ اللَّهَ»، ومنها: إبرازُ الجملةِ مِنْ قولِه: ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ مؤكَّدةً ب «إنَّ»، وبالفصلِ، وبإعادة الصفتين اللتين تضَّمَنَتْهما الآيةُ السابقةُ.
434
قوله: ﴿أَن تَقُولَ﴾ : مفعولٌ مِنْ أجلِه، فقدَّره الزمخشري كراهةَ أنْ تقول، وابنُ عطية: أَنِيْبوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تقولَ. وأبو البقاء والحوفي: أَنْذَرْناكم مخافةَ أَنْ تقولَ. ولا حاجةَ إلى إضمارِ هذا العاملِ مع وجودِ «أَنيبوا» وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثيرَ، كقولِ الأعشى:
٣٨٩٧ - إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ ووَلَّتْه عَشَوْزَنَةً زَبُوْنا
٣٨٩٨ - ورُبَّ بَقيعٍ لو هَتَفْتُ بجَوِّه أتاني كريمٌ يَنْفُضُ الرأسَ مُغْضَبا
يريد: أتاني كرام كثيرون لا كريمٌ فَذٌّ؛ لمنافاتِه المعنى المقصودَ. ويجوزُ أَنْ يريد: نفساً متميِّزةً من بينِ الأنفسِ باللَّجاجِ الشديدِ في الكفرِ أو بالعذابِ العظيمِ.
قوله: «يا حَسْرتا» العامَّةُ على الألفِ بدلاً مِنْ ياءِ الإِضافةِ. وعن ابن كثير «يا حَسْرَتاهْ» بهاءِ السكت وَقْفاً، وأبو جعفر «يا حَسْرَتي» على
434
الأصل. وعنه أيضاً «يا حَسْرتاي» بالألفِ والياء. وفيها وجهان، أحدُهما: الجمعُ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. والثاني: أنه تثنيةُ «حَسْرَة» مضافةً لياءِ المتكلمِ. واعْتُرِضَ على هذا: بأنه كان ينبغي أَنْ يُقالَ: يا حَسْرتيَّ بإدغامِ ياءِ النَّصْبِ في ياءِ الإِضافةِ. وأُجيب: بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ راعى لغة الحارِث ابن كعبٍ وغيرهم نحو: «رأيتُ الزيدان». وقيل: الألفُ بدلٌ من الياءِ والياءُ بعدها مزيدةٌ. وقيل: الألفُ مزيدةٌ بين المتضايفَيْنِ، وكلاهما ضعيفٌ.
قوله: ﴿على مَا فَرَّطَتُ﴾ «ما» مصدريةٌ أي: على تَفْرِيطي. وثَمَّ مضافٌ أي: في جَنْبِ طاعةِ الله. وقيل: ﴿فِي جَنبِ الله﴾ المرادُ به الأمرُ والجهةُ. يقال: هو في جَنْبِ فلانٍ وجانبِه، أي: جهته وناحيته. قال الراجز:
٣٨٩٩ - الناسُ جَنْبٌ والأميرُ جَنْبُ... وقال آخر:
٣٩٠٠ - أفي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْني مَلامةً لَعَمْري لقد طالَتْ ملامَتُها بيا
ثم اتُّسِع فيه فقيل: فَرَّط في جَنْبِه أي في حَقِّه. قال:
435
قوله: ﴿فَأَكُونَ﴾ : في نصبِه وجهان، أحدهما: عَطْفُه على «كرَّة» فإنها مصدرٌ، فعُطِفَ مصدرٌ مؤولٌ على مصدرٍ مُصَرَّح به كقولها:
٣٩٠١ - أَمَا تَتَّقِيْنَ اللَّهَ في جَنْبِ عاشِقٍ له كَبِدٌ حَرَّى عليكِ تَقَطَّعُ
٣٩٠٢ - لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
وقول الآخر:
٣٩٠٣ - فما لَكَ منها غيرُ ذكرى وحَسْرةٍ وتَسْأَلَ عن رُكْبانِها أينَ يَمَّموا
والثاني: أنه منصوبٌ/ على جوابِ التمني المفهومِ مِنْ قولِه: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾. والفرقُ بين الوجهين: أن الأولَ يكونُ فيه الكونُ مُتَمَنَّى، ويجوزُ أَنْ تُضْمَرَ «أَنْ» وأَنْ تظهرَ، والثاني يكون فيه الكونُ مترتباً على حصولِ المُتَمَنَّى لا مُتمنى ويجب أَنْ تُضْمَرَ «أَنْ».
قوله: ﴿بلى﴾ : حرفُ جوابٍ وفيما وقعَتْ جواباً له وجهان، أحدُهما: هو نَفْيٌ مقدرٌ. قال ابنُ عطية: «وحَقُّ بلى أَنْ تجيْءَ بعد نفيٍ عليه تقريرٌ، كأنَّ النفسَ قالَتْ: لم يَتَّسِعْ لي النظرُ ولم يَتَبَيَّنْ لي الأمرُ». قال الشيخ: «ليس حَقُّها النفيَ المقررَ، بل حَقُّها النفيُ، ثم حُمِل التقريرُ عليه، ولذلك أجاب بعضُ العربِ النفيَ المقررَ ب نعم دونَ بَلى، وكذا وقع في
436
عبارةِ سيبويه نفسه». والثاني: أنَّ التمنيَ المذكورَ وجوابَه متضمنان لنَفْيِ الهدايةِ، كأنه قال: لم أهتدِ، فَرَدَّ الله عليه ذلك. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلاَّ قُرِنَ الجوابُ بما هو جوابٌ له، وهو قولُه: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي﴾ ولم يَفْصِلْ بينهما. قلت: لأنه لا يَخْلو: إمَّا أَنْ يُقَدَّم على إحدى القرائنِ الثلاثِ فيُفَرَّقَ بينهنَّ، وإمَّا أن تُؤَخَّرَ القرينةُ الوسطى. فلم يَحْسُنِ الأولُ لِما فيه من تَبْتير النَّظْم بالجمع بين القرائنِ، وأمَّا الثاني فلِما فيه من نَقْضِ الترتيبِ وهو التحسُّر على التفريط في الطاعةِ ثم التعلُّلُ بفَقْدِ الهدايةِ ثم تمنِّي الرَّجْعَة، فكان الصواب ما جاءَ عليه: وهو أنَّه حكى أقوالَ النفسِ على ترتيبها ونَظْمِها، ثم أجاب مِنْ بينِها عَمَّا اقتضى الجوابَ».
وقرأ العَامَّةُ «جاءَتْكَ» بفتح الكاف فكذّبْتَ واستكبرتَ، وكنتَ، بفتح التاءِ خطاباً للكافر دونَ النفس. وقرأ الجحدريُّ وأبو حيوةَ وابن يعمر والشافعيُّ عن ابن كثير، ورَوَتْها أمُّ سَلَمَةَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وبها قرأ أبو بكر وابنتُه عائشةُ رضي الله عنهما، بكسرِ الكاف والتاءِ خطاباً للنفسِ. والحسن والأعرج والأعمش «جَأَتْكَ» بوزنِ «جَفَتْك» بهمزةٍ دون ألفٍ. فتحتمل أَنْ تَكونَ قَصْراً كقراءةِ قُنْبل ﴿أَن رَّأهُ استغنى﴾ وأَنْ يكونَ في الكلمةِ قَلْبٌ: بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ على العين، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ لالتقائِهما، نحو: رَمَتْ وغَزَتْ.
437
قوله: ﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ : العامَّةُ على رفعِهما، وهي جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ. وفي محلِّها وجهان، أحدهما: النصبُ على الحالِ من الموصولاتِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ، وكذا أَعْرَبَها الزمخشريُّ. ومِنْ مذهبِه أنه لا يجوزُ إسقاطُ الواوِ مِنْ مثلِها إلاَّ شاذَّاً، تابعاً في ذلك الفراءَ فهذا رجوعٌ منه عن ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ الرؤيةَ قلبيةٌ. وهو بعيدٌ لأن تَعَلُّقَ الرؤيةِ البصريةِ بالأجسام وألوانِها أظهرُ مِنْ تعلُّقِ القلبيةِ بهما. وقُرِئ «وجوهَهم مُسْودَّة» بنصبِهما، على أنَّ «وجوهَهم» بدلُ بعضٍ مِنْ كل، و «مُسْوَدَّةً» على ما تقدَّم من النصبِ على الحال أو على المفعولِ الثاني. وقال أبو البقاء: «ولو قُرِئ» وجوهَهم «بالنصب لكانَ على بدلِ الاشتمالِ». قلت: قد قُرِئ به والحمدُ لله، ولكنْ ليس كما قال على بدلِ الاشتمال، بل على بدلِ البعضِ، وكأنه سَبْقُ لسانٍ أو طغيانُ قَلَم. وقرأ أُبَيٌّ «أُجوهُهم» بقلبِ الواوِ همزةً، وهو فصيحٌ نحو: ﴿أُقِّتَتْ﴾ [المرسلات: ١١] وبابِه.
قوله: ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾ : قرأ الأخَوان وأبو بكرٍ «بمفازاتِهم» جمعاً لَمَّا اختلفَتْ أنواعُ المصدرِ جُمِعَ. والباقون بالإِفرادِ على الأصلِ. وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: بدواعي مَفازتِهم أو بأسبابِها. والمَفازَةُ: المَنْجاة. وقيل: لا حاجةَ لذلك؛ إذ المرادُ بالمَفازةِ الفلاحُ.
438
قوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السواء﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مفسِّرةً لمفازَتهم كأنَّه قيل: وما مفازَتُهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهم السوءُ فلا مَحَلَّ لها. ويجوزُ أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الذين اتَّقَوا.
439
قوله: ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ﴾ : جملةٌ مستأنفةٌ. والمَقاليد: جمعُ مِقْلاد أو مِقْليد، أو لا واحدَ له مِنْ لفظِه كأَساطير وأخواتِه ويُقال أيضاً: إِقْليد وأَقاليد، وهي المفاتيح والكلمةُ فارسيةٌ مُعَرَّبَةٌ. وفي هذا الكلامِ استعارةٌ بديعة نحو قولك: بيدِ فلانٍ مِفْتاحُ هذا الأمرِ، وليس ثَمَّ مِفْتاح وإنما هو عبارةٌ عن شِدَّةِ تمكُّنِهِ من ذلك الشيءِ. /
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّها معطوفةٌ على قوله: ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا﴾ [الزمر: ٦١] أي: يُنَجِّي المتقين بمَفازَتِهم، والكافرون هم الخاسرون. واعتُرِضَ بينهما بأنَّه خالِقُ الأشياءِ كلِّها ومُهَيْمِنٌ عليها، قاله الزمخشري. واعترض عليه فخر الدين الرازي: بأنَّه عَطْفُ اسميةٍ على فعليةٍ، وهو لا يجوزُ، وهذا الاعتراضُ مُعْتَرَضٌ [عليه] إذ لا مانعَ من ذلك. الثاني: أنها معطوفةٌ على قولِه: ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات﴾ ؛ وذلك أنه تعالى لَمَّا وَصَفَ نفسَه بأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ في السماوات والأرضِ، ومفاتيحُه بيده، قال: والذين كفروا أَنْ يكونَ الأمرُ كذلك أولئك هم الخاسرون.
قوله: ﴿أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهرُ - أنَّ «غير» منصوبٌ ب «أَعْبُدُ». و «أعبدُ» معمولٌ ل «تَأْمرونِّي» على إضمارِ «أنْ» المصدريةِ، فلَمَّا حُذِفَت بَطَل عملُها وهو أحد
439
الوجهين. والأصل: أفتأمرونِّي بأَنْ أعبدَ غيرَ اللَّه، ثم قُدِّم مفعولُ «أعبدُ» على «تَأْمُرونِّي» العاملِ في عامِله. وقد ضَعَّف بعضُهم هذا: بأنه يَلْزَمُ منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ وذلك أنَّ «غيرَ» منصوبٌ ب «أعبدُ»، و «أعبدُ» صلةٌ ل «أنْ» وهو لا يجوزُ. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا حُذِفَ لم يُراعَ حُكْمُه فيما ذُكِرَ، بل إنما يراعَى معناه لتصحيح الكلامِ. قال أبو البقاء: «لو حَكَمْنا بذلك لأَفْضَى إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وذلك لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ. وهذا الذي ذكره فيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ ب» أنْ «دونَ سائرِ الموصولات، وهو أنها تُحْذَفُ وتَبْقى صلتُها، وهو منقاسٌ عند البصريين في مواضعَ تُحْذَفُ ويَبْقى عملُها، وفي غيرِها إذا حُذِفَتْ لا يبقى عملُها إلاَّ في ضرورةٍ، أو قليلٍ، ويُنْشَدُ بالوجهين:
٣٩٠٤ - ألا أيُّهذا الزاجريْ أحضرُ الوغى وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي
ويَدُلُّ على إرادة»
أنْ «في الأصل قراءةُ بعضِهم» أعبدَ «بنصب الفعل اعتداداً بأَنْ. الثاني: أنَّ» غيرَ «منصوبٌ ب» تأمرونِّي «و» أعبد «بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ، و» أنْ «مضمرةٌ معه أيضاً. والتقديرُ: أفغيرَ اللَّهِ تأمرونِّي عبادتَه. والمعنى: أفتأمرونِّي بعبادة غيرِ الله. وقدَّره الزمخشري: تُعَبِّدُوني وتقولون لي: اعْبُدْه. والأصل: تَأْمُرونني أن أعبدَ، فَحَذَفَ» أنْ «ورَفَع الفعلَ. ألا ترى
440
أنك تقول: أفغيرَ اللَّهِ تقولون لي اعبده، وأفغيرَ اللَّهِ تقولون لي: اعبد، فكذلك أفغيرَ الله تقولون لي أَن أعبده، وأفغيرَ الله تأمروني أَنْ أعبدَ. والدليلُ على صحةِ هذا الوجهِ قراءةُ مَنْ قرأ» أعبدَ «بالنصبِ.
وأمَّا»
أعبد «ففيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مع» أَنْ «المضمرةِ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ» غير «وقد تقدَّم. الثاني: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال. الثالث: أنه لا محلَّ له البتَةَ.
قوله:»
تَأْمُرُوْنِّي «بإدغامِ نونِ الرفعِ في نونِ الوقايةِ وفتح الياءِ ابنُ كثير، وأَرْسلها الباقون. وقرأ نافع» تَأْمرونيَ «بنون خفيفة وفتح الياء. وابنُ عامر» تأْمرونني «بالفَكِّ وسكونِ الياء. وقد تقدَّم في سورة الأنعام والحجر وغيرِهما: أنه متى اجتمع نونُ الرفعِ مع نونِ الوقاية جاز ثلاثةُ أوجهٍ، وتقدَّم تحقيقُ الخلافِ في أيتِهما المحذوفةِ؟
441
قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ : الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ لأنها هي المُوْحاةُ. وأصولُ البصريين تأبى ذلك، ويُقَدِّرون أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلاً عندهم، والقائمُ هنا مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ وهو «إليك». وقرئ «لَيُحْبِطَنَّ» أي اللَّهُ. و «لَنُحْبِطَنَّ» بنونِ العظمةِ. و «عَمَلَكَ» مفعولٌ به على القراءتين.
قوله: ﴿بَلِ الله فاعبد﴾ : الجلالةُ منصوبةٌ ب «اعبُدْ». وتقدَّم الكلامُ في مثل هذه الفاء/ في البقرة. وجعَلَه الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ أي: إنْ كنتَ عاقلاً فاعبدِ اللَّهَ فَحَذَفَ الشرطَ وجَعَلَ تقديمَ المفعولِ عِوَضاً منه. ورَدَّ الشيخُ عليه: بأنه يجوزُ أَنْ يجيءَ: «زيدٌ فعَمْراً اضرِبْ» فلو كان التقديمُ عِوَضاً لجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّض منه. وقرأ عيسى «بل اللَّهُ» رفعاً على الابتداءِ، والعائدُ محذوفٌ أي: فاعْبُدْه.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى «قَدَّروا» بتشديد الدالِ، «حَقَّ قَدَره» بفتح الدال. وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ «قَدَره».
قوله: ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ﴾ مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي: ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ، كقولِه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً﴾ [البقرة: ٢٨] ؟ و «جميعاً» حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها. والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها «قبضَتُه» سواءً جَعَلْته مصدراً - لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله - أم مراداً به المقدارُ.
442
قال الزمخشري: «ومع القصدِ إلى الجمع - يعني في الأرض - وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها». وقال أبو البقاء: «وجميعاً حالٌ من الأرض، والتقدير: إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي: مقبوضه، فالعامل في» إذا «المصدرُ، لأنه بمعنى المفعولِ. وقال أبو علي في» الحجة «: التقدير: ذاتُ قبضَتِه. وقد رُدَّ عليه: بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه» انتهى. وهو كلامٌ فيه إشكالٌ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في «إذا» التي لم يُلْفَظْ بها.
وقوله: «قَبْضَتُه» إنْ قَدَّرْنا مُضافاً كما قال الفارسي أي: ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَه، وحينئذٍ يُقال: كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ؟ لا يُقال: «حُلَّة نَسْجة اليمن» بل نَسْجُ اليمن أي: منسوجته. والجواب: أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد، وهذه لمجرد التأنيثِ. كذا أُجيب، وليس بذاك، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ. واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك.
والقَبْضَةُ بالفتحِ: المرَّةُ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة. والعامَّةُ على رفعِ «قَبْضَتُه»، والحسنُ بنصبها. وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ، أي: في قبضته. وقد رُدَّ هذا: بأنها ظرفٌ
443
مختصُّ فلا بُدَّ مِنْ وجود «في» وهذا هو رأيُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم؛ إذ يُجيزون: «زيد دارَك» بالنصب أي: في دارك. وقال الزمخشري: «جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم» فوافق الكوفيين. والعامَّةُ على رَفْعِ «مَطْوياتٌ» خبراً، و «بيمينِه» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلقٌ ب «مَطْوِيَّات».
الثاني: أنه حالٌ من الضمير في «مَطْوِيَّات». الثالث: أنه خبرٌ ثانٍ، وعيسى والجحدري نصباها حالاً. واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو: «زيدٌ قائماً في الدار». وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين، أحدهما - وهو الأظهرُ - أَنْ تكونَ «السماوات» نَسَقاً على «الأرض»، ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه، وتكون «مَطْوِيَّاتٍ» حالاً من «السماوات» كما كان «جميعاً» حالاً من «الأرض»، و «بيمينه» متعلقٌ بمطويَّات. والثاني: أن يكون «مطويَّات» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، و «بيمينه» الخبرُ، و «مَطْويَّات» وعاملُه جملةٌ معترضةٌ، وهو ضعيفٌ.
444
قوله: ﴿فِي الصور﴾ : العامَّةُ على سكونِ الواوِ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمعَ «صُوْرة». وهذه تَرُدُّ/ قولَ ابنِ عطية أنَّ الصُّوْرَ هنا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ القَرْنَ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ صُورَة. وقرِئَ «فَصُعِقَ» مبنياً للمفعولِ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولهم: صَعَقَتْهم الصاعقةُ. يُقال: صَعَقَه اللَّهُ فصَعِقَ.
444
﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ متصلٌ والمستثنى: إمَّا جبريلُ وميكائيل وإسْرافيلُ، وإمَّا رِضوانُ والحُوْرُ والزَّبانية، وإمَّا الباري تعالى قاله الحسن. وفيه نظرٌ من حيث قولُه: ﴿مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ فإنه تعالى لا يَتَحَيَّزُ. فعلى هذا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ منقطعاً.
قوله: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ يجوزُ أَنْ تكونَ «أخْرى» هي القائمةَ مقامَ الفاعلِ، وهي في الأصلِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُفِخَ فيه نَفْخَةٌ أخرى، ويؤيِّدُه التصريحُ بذلك في قولِه ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣] فصرَّحَ بإقامة المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَه الجارَّ، و «أخرى» منصوبةٌ على ما تقدَّم.
قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ﴾ العامَّة على رفع «قيام» خبراً. وزيد بن علي نصبَه حالاً وفيه حينئذٍ أوجهٌ، أحدهما: أنَّ الخبرَ «يَنْظرون» وهو العاملُ في هذه الحالِ أي: فإذا هم يَنْظُرون قياماً. والثاني: أنَّ العاملَ في الحالِ ما عَمِلَ في «إذا» الفجائيةِ إذا كانت ظرفاً. فإن كانت مكانيةً - كما قال سيبويه - فالتقدير: فبالحَضْرة هم قياماً. وإنْ كانت زمانيةً كقول الرُّمَّانيِّ ففي ذلك الزمانِ هم قياماً، أي: وجودهم. وإنما احتيج إلى تقديرِ مضافٍ في هذا الوجهِ لأنَّه
445
لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ. الثالث: أن الخبرَ محذوفٌ هو العاملُ في الحال أي: فإذا هم مبعوثون، أو مجموعون قياماً. وإذا جَعَلْنا الفجائيةَ حَرْفاً - كقولِ بعضِهم - فالعاملُ في الحالِ: إمَّا «يَنْظُرون»، وإمَّا الخبرُ المقدرُ كما تقدَّم تحقيقُهما.
446
قوله: ﴿وَأَشْرَقَتِ﴾ : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على بنائه للمفعول، وهو منقولٌ بالهمزة، مِنْ شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ، وليس مِنْ أشرقَتْ بمعنى أضاءَتْ لأنَّ ذاك لازمٌ. وجعله ابنُ عطية مثل: رَجَعَ ورَجَعْتُه، ووَقَفَ ووقَفْته، يعني فيكون أَشْرَق لازماً ومتعدياً.
قوله: ﴿زُمَراً﴾ : حالٌ. وزُمَر جمع زُمْرَة، وهي الجماعاتُ في تفرقةٍ بعضُها في إثْر بعضٍ وتَزَمَّروا: تجمَّعُوا قال:
٣٩٠٥ - حتى احْزَألَّتْ زُمَرٌ بعد زُمَرْ... هذا قولُ أبي عبيدة والأخفشِ. وقال الراغب: «الزُّمْرَة الجماعةُ القليلةُ، ومنه شاةٌ زَمِرة أي: قليلة الشَّعْر، ورجلٌ زَمِرٌ أي: قليلُ المروءةِ. وزَمَرَتِ النَّعامةُ تَزْمِرُ زَماراً، ومنه اشتقَّ الزَّمْرُ والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة».
446
قوله: «حتى إذا» تقدَّمَ الكلامُ في حتى الداخلةِ على «إذا» غيرَ مرةٍ. وجوابُ «إذا» قوله: «فُتِحت» وتقدَّم خلافُ القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام. وقرأ ابن هرمز «ألم تَأْتِكم» بتاء التأنيث الجمعِ. و «منكم» صفةٌ ل «رسل» أو متعلِّق بالإِتيان، و «يَتْلون» صفةٌ أخرى، و «خالدين» في الموضعَيْن حالٌ مقدرةٌ.
447
قوله: ﴿وَفُتِحَتْ﴾ : في جواب «إذا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: قوله: «وفُتحت» والواو زائدةٌ، وهو رأيُ الكوفيين والأخفش، وإنما جيْءَ هنا بالواوِ دونَ التي قبلها؛ لأنَّ أبوابَ السجون مغلقةٌ إلى أَنْ يَجيْئَها صاحب الجريمة فتُفتَحَ له ثم تُغْلَقَ عليه فناسَبَ ذلك عَدَم الواوِ فيها، بخلافِ أبوابِ السرورِ والفرحِ فإنَّها تُفْتَحُ انتظاراً لمَنْ يَدْخُلُها. والثاني: أن الجوابَ قولُه: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ على زيادةِ الواوِ أيضاً أي: حتى إذا جاؤُوها قال لهم خَزَنَتُها. الثالث: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، قال الزمخشري: وحَقُّه أَنْ يُقَدَّرَ بعد «خالدين». انتهى يعني لأنه يجيْء بعد متعلَّقاتِ الشرطِ وما عُطِف عليه، والتقدير: اطمأنُّوا. وقدَّره المبرد: «سُعِدُوا». وعلى هذين الوجهين فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه: و «فُتِحَتْ» في محلِّ نصب على الحال. وسَمَّى بعضُهم هذه
447
الواوَ واوَ الثمانية. قال: لأنَّ أبوابَ الجنة/ ثمانيةٌ، وكذا قالوا في قوله: ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] وقيل: تقديرُه حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها، يعني أنَّ الجوابَ بلفظِ الشرطِ ولكنه بزيادةِ تقييده بالحالِ فلذلك صَحَّ.
448
قوله: ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ : جملةٌ حاليةٌ، و «حيثُ» مفعولٌ به. ويجوز أن تكونَ ظرفاً على بابِها، وهو الظاهرُ.
قوله: ﴿حَآفِّينَ﴾ : جمعُ حافّ، وهو المُحْدِقُ بالشيءِ، مِنْ حَفَفْتُ بالشيءِ إذا أَحَطْتُ به قال:
٣٩٠٦ - يَحُفُّه جانبا نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ مثلَ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ
وهو مأخوذٌ من الحِفاف وهو الجانبُ. قال الشاعر:
٣٩٠٧ - له لَحَظاتٌ عن حِفافي سَرِيْرِه إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائل
وقال الفراء وتبعه الزمخشري: «لا واحدَ ل حافِّين» وكأنهما رَأَيا أنَّ
448
الواحدَ لا يكون حافًّا؛ إذِ الحُفُوْفُ هو الإِحداقُ بالشيء والإِحاطةُ به، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ في جمعٍ.
قوله: «مِنْ حَوْلِ» في «مِنْ» وجهان أحدُهما - وهو قولُ الأخفش - أنها مزيدةٌ. والثاني: أنها للابتداءِ، والضميرُ في «بينهم» إمَّا للملائكةِ، وإمَّا للعبادِ، و «يُسَبِّحون» حالٌ من الضمير في «حافِّين».
449
Icon