تفسير سورة الحشر

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون، نزلت بعد سورة البيّنة. وقد نزلت السورة بكاملها في حديث بني النّضير من اليهود، وكانوا في ضواحي المدينة في الجهة الشرقية منها على بُعد عدة أميال، وكان نزولها في السنة الرابعة من الهجرة. وكان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين بني النضير حلف وعهد، فذهب رسول الله ومعه عدد من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، إلى بني النضير ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أميّة الضّمري وهو لا يعلم أن معهما عهدا من رسول الله. فاستقبل يهود بني النضير الرسول الكريم وأصحابه خير استقبال، وأظهروا له كل ترحيب ووعدوا بخير. لكنهم أضمروا الغدر. فلما أحس الرسول عليه الصلاة والسلام بالخيانة والغدر ترك أصحابه وذهب إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه لما استبطأوه، فلما لحقوا به أخبرهم بما رآه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به.
وقد بعث الرسول محمد بن مَسلمة، أحد أصحابه وقال له : " اذهبْ إلى يهود بني النضير وقل لهم : إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجّلتكم عشرا، فمن رُؤي بعد ذلك ضربت عنقه ". ومكثوا أياما يتجهزون للخروج، فجاءهم رسولان من عند رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ وقالا : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم، وأقيموا في حصونكم، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم.
وتشاوروا في الموضوع طويلا، وقال لهم بعضهم : إن ابن أبيّ غير صادق. ألم يعِد بني قيْنقاع من قبل، ولما جدّ الجدّ تخلى عنهم ! وأخيرا قال كبيرهم حُيّي بن أخطب : كلا، بل أنا مرسل إلى محمد، إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا، فليصنعْ ما بدا له، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة، وعندنا الماء. وهكذا صمّموا على البقاء.
وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا، فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة، وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ، رأس المنافقين. فلما يئسوا وملأ الرعب قلوبهم، سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة، فصالحهم على أن يخرجوا، لكل ثلاثة بعير، يحملون عليه ما شاؤوا من الطعام والمال ولا يأخذون سلاحا أبدا. وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح. وفي ذلك كله نزلت سورة الحشر، وكان نصر الله عظيما.
وقد بدئت هذه السورة الكريمة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض، ثم بينت حكم الفيء، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وللفقراء من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم. ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهم، وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروا به.
وبيّنت كذب المنافقين وعدم وفائهم بوعودهم لنصر اليهود في قولهم :﴿ لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنّكم ﴾، وفضحت كِذبهم في ذلك.
ثم ذكّرت المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله والتزود للمستقبل، والاستعداد الدائم، لا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم.
وختمت السورة بأعظم ختام ببيان شأن القرآن العظيم، وما له من تأثير كبير، وأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى.. وهكذا يتناسب البدء مع حسن الختام.

لقد تقدم مثله في أول سورة الحديد وشرحناه ما استطعنا هناك.
الذين كفروا : هم بنو النضير من اليهود، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله.
لأول الحشر : وهو جمعهم وإخراجهم من المدينة.
حصونهم : واحدها حصن، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة.
فأتاهم الله : جاءهم عذابه.
من حيث لم يحتسبوا : من حيث لم يخطر لهم ببال.
يخرِّبون بيوتهم بأيديهم : كانوا يهدمون بيوتهم من قبل أن يغادروها.
هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب « وهم بنو النضير، أكبر قبائل اليهود » أجلاهم من ديارهم، وكان هذا أول مرة حُشروا فيها وأخرجوا من المدينة فذهب بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر. وما ظننتم أيها المسلمون أن يخرجوا من ديارهم، لقوّتهم، وظنوا هم أن حصونهم تمنعهم من بأس الله.. فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا، وألقى في قلوبهم الرعب الشديد.
﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين ﴾، وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم، وتخرّبها أيدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء.
﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾، اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم، ولا أسلحتهم.
وعلينا نحن اليوم أن نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال، فلو اتفقنا واتحدنا، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد، وأعددنا لهم ما نستطيع من العدة، لكان النصر لنا بإذن الله، سيكون مآل اليهود كمآل أسلافهم المتبجّحين. ولا يمكن أن يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر إلا من عند الله، ومن عند أنفسنا وإيماننا وعزمنا على استرداد أراضينا بأيدينا. عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه.
الجلاء : الخروج عن الوطن.
ثم بين الله تعالى أن الجلاء الذي كُتب عليهم، كان أخفَّ من القتل والأسر فقال :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار ﴾.
ولولا أن الله قدّر جلاءهم عن المدينة، وخروجهم أذلاّء، لعذّبهم في الدنيا بما هو أفظعُ منه من قتلٍ أو أسر، ولهم في الآخرة عذاب النار في جهنم وبئس القرار.
شاقّوا الله ورسوله : خالفوهما وحاربوهما.
كلّ ذلك الذي أصابهم في الدنيا، وما ينتظرهم في الآخرة، إنما كان لأنهم عادوا الله ورسولَه أشدّ العداء، ومن يخالف الله ويعاديهِ فإن الله سيعاقبه أشدّ العقاب.
اللينة : النخلة.
عندما حاصر الرسول الكريم وأصحابه يهودَ بني النضير قطعوا بعض نخيلهم حتى يذلّوهم ويجبروهم على الاستسلام، فقال الله تعالى : أي شيء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان، فهو بأمر الله، فلا حرجَ عليكم فيه، ليعزّ المؤمنين، وليخزيَ الفاسقين المنحرفين.
﴿ ما أفاء الله على رسوله ﴾ : ما رده الله من أموال بني النضير، والفيء : معناه في اللغة الرجوع، ومعناه في الشرع : ما أُخذ من أموال الأعداء من غير قتال.
﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ : فما أسرعتم في السير إليه بخيل ولا إبل. يبين الله تعالى هنا حكْم ما أخذ من أموال بني النضير بعد ما حل بهم من الإجلاء ويقول : إن الأموال التي تركها بنو النضير في بيوتهم هي فيءٌ لله وللرسول يضعها حيث يشاء.. لأن ما أفاءه الله وردّه على رسوله من أموالهم قد تم مع أنكم أيها المسلمون، لم تسرعوا إليهم بالخيل ولا بالإبل ولم تقاتلوهم، بل نزلوا على حكم الرسول الكريم، فالله يسلّط رسله على من يشاء من عباده بلا قتال، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :« كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقةَ سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّةً في سبيل الله تعالى ».
من أهل القرى : من أهل البلاد التي تفتح بلا قتال.
كي لا يكون دُولة بين الأغنياء : كي لا يتداوله الأغنياء بينهم دون الفقراء.
ثم بين الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامة فقال :
﴿ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ.... ﴾.
ما ردّه الله على رسوله من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله، وللرسول، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال، يُعطى ما يوصله إلى بلده.
﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ ﴾.
إنما حكمْنا بهذه الأحكام وجعلنا المال مقسما بين من ذكَرنا لئلا يأخذه الأغنياء منكم، ويتداولوه فيما بينهم، ويحرم الفقراء منه.
وما جاءكم به الرسول من الأحكام والتشريع فتمسّكوا به، وما نهاكم عنه فاتركوه. ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه فقال :﴿ واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾.
كذلك يعطَى من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله للفقراء المهاجرين الذي أُخرجوا من ديارهم وتركوا أموالهم طلباً لمرضاة ربهم، ونيلاً لثوابه، ونصرة الإسلام وإعلاء شأنه، ﴿ أولئك هُمُ الصادقون ﴾ في إيمانهم وهجرتهم، فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب.
﴿ الذين تبوَّؤا الدار ﴾ : هم الأنصار الذين سكنوا المدينة.
﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة ﴾ : الحاجة هنا : الحسد والغيظ.
﴿ مما أوتوا ﴾ : مما أُعطي المهاجرون من الفيء.
﴿ ويؤثِرون ﴾ : ويقدمون غيرهم على أنفسهم، ولو كان بهم خَصاصة : ولو كانوا فقراء.
﴿ ومن يوقَ شح نفسه ﴾ : ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال. المفلحون : الفائزون.
ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت أنفسهم عن الفيء، ورضوا أن يكون للمهاجرين من إخوانهم، وقال : إنهم مخلصون في إيمانهم، ذوو صفات كريمة، وشيم جليلة، تدلّ على كرم النفوس، ونبل الطباع.
( ١ ) فهم يحبّون المهاجرين، وقد أسكنوهم معهم في دورهم، وآخَوهم، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال المهاجرون :
« يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم : حُسْنَ مواساةٍ في قليل، وحسنَ بذل في كثير ! لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيّأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال : لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم ».
والمهيأ : كل ما يريح الإنسان من مكان أو طعام. فعلّمهم الرسول الكريم أن يثنوا على إخوانهم الأنصار ويدعوا لهم مقابل ما أكرموهم به.
( ٢ ) وهم لا يحسّون في أنفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره.
( ٣ ) ويؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويقدّمونهم، ولو كان بهم حاجة، وهذا منتهى الكرم والإيثار، وغاية التضحية. ولذلك ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار.
ثم بين الله تعالى أن الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« اتقوا الشحّ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم » رواه الإمام أحمد والبخاري في : الأدب المفرد، والبيهقي.
وقال الرسول الكريم :« لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً » رواه الترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك، وإنما أن يؤديَ الزكاة، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم أنه قال :« بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف، وأعطى في النائبة ».
لا تجعل في قلوبنا غِلا : بغضا وحسدا.
ثم جاء المدحُ لمن تبع الأنصارَ والمهاجرين، وساروا على طريقتهم في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة فقال تعالى :﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان ﴾، وهذا يشمل المسلمين الذين اتبعوا الهدى وطبقوا الشريعة، في كل مكان وزمان.
كما جاء في سورة براءة الآية ١٠٠ ﴿ والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾، هؤلاء هم المؤمنون حقا، فهم يستغفرون لأنفسِهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان. ( ويشمل هذا جميعَ الصحابة الكرامِ وتابعيهم وكلَّ من سار على هداهم )، ثم يزيدون فيدْعون إلى الله أن لا يجعلَ في قلوبهم حَسداً وحِقدا للمؤمنين جميعا، فكيف ببعضِ من يسبُّ كرامَ الصحابة، ويُبغضهم ! عافانا الله من ذلك وطهّر قلوبنا من الغل والحسد والبغضاء.
فالقرآن تتجلّى عظمته في هذا الربط المتين : ربطَ أول هذه الأمة بآخرها، وجعلها حلقة واحدةً مترابطةً في تضامن وتكافل وتعاطف وتوادّ، ويمضي الخَلَفُ على آثار السلف، صفاً واحدا على هدف واحد، في مدار الزمان و اختلاف الأوطان.
نسأل الله تعالى أن يجمع كلمةَ العرب والمسلمين، ويوحّدَ صفوفهم تحت رايةِ القرآن وسنة رسوله الكريم، إنه سميع مجيب.
الذين نافقوا : أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر.
ثم يأتي الحديث عن المنافقين، وكَذِبهم وخداعهم، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾.
ألم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر، اليهودَ من بني النضير، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا، فإننا سننصركم، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا أبدا.
﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾، إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم. والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به.
ليولُّنّ الأدبار : ليهرُبُنَّ.
ثم بين كذبهم بالتفصيل فقال :
﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾.
وقد خرج بنو النضير من ديارهم أذلاء فلم يخرج المنافقون معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، ولو نصروهم وقاتلوا معهم لانهزموا جميعاً.
ثم بين الله السببَ في عدم نُصرتهم لليهود، والدخول مع المؤمنين في قتال فقال :
﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾.
إنكم أيها المسلمون أشدّ مهابةً في صدور المنافقين واليهودِ من الله، وذلك لأنهم قوم لا يعلمون حقيقة الإيمان.
بأسُهم بينهم شديد : خلافاتهم بينهم كثيرة.
وقلوبهم شتى : متفرقة ومملوءة بالبغضاء على بعضهم.
ثم أكد جُبن اليهود والمنافقين وشدة خوفهم من المؤمنين فقال :﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ﴾.
إن هؤلاء اليهود والمنافقين معهم قد ألقى اللهُ في قلوبهم الرعب، فلا يواجهونكم بقتالٍ مجتمعين، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصّنة أو من وراء جدرانٍ يستترون بها.
ذلك لأنهم متخاذلون، وهم في الظاهر أقوياء متّحدون، لكنهم في حقيقة الأمر قلوبُهم متفرقة، وبينهم العداوةُ والبغضاءُ والحسد.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾.
ثم بين الله أن هؤلاء قد سبقهم غيرُهم قبلَهم من يهودِ بني قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عنها ﴿ ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وحالُنا اليومَ مع اليهود مثلُ حالهم في السابق، فهم في الظاهر أقوياء، عندهم أسلحة كثيرة وطائرات حديثة وصواريخ ودبابات، وهذا كله ليس سرَّ قوتهم، وإنما سرُّ قوتهم خذلانُنا نحن وتفرُّقُ كلمتنا، ومحاربة بعضنا بعضا. فلو عدنا إلى ديننا وجمعْنا شملنا واتحدنا وأعددنا العدة بقدر ما نستطيع - لهزمنا اليهود، فإنّ بأسهم بينهم شديد وقلوبهم شتى، ومجتمعهم متفكك مملوء بالجريمة والفِسق والقذارة التي ليس لها مثيل. فمتى يفيق العربُ من سباتهم ويوحدون صفوفهم ! لو اجتمعت العراق وسوريا والأردن وفلسطين اجتماعا حقيقيا لكفى هذا، وبإمكانهم وحدهم أن يهزموا اليهود ويستعيدوا أرضهم وكرامتهم.
لغد : يوم القيامة، كأنه من قربه يوم غد، وكل آت قريب.
في هذه الآية الكريمة نصيحةٌ للمؤمنين وتعليم وتهذيب لهم أن يلزموا التقوى، ويعملوا الصالحات ويقدّموا الخيرات والمالَ والجاه للمحتاجين، حتى يجدوه أمامهم يوم القيامة. وقد كرر الله تعالى الحديث على التقوى لما لها من فوائد وعليها يبنى المجتمع الصالح.
﴿ واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾. لا يخفى عليه صغيرة ولا كبيرة في هذا الكون الواسع.
نسوا الله : لم يطيعوه وجروا وراء أهوائهم وملذاتهم.
فأنساهم أنفسهم : بما ابتلاهم من الغفلة وحب الدنيا، فصاروا لا يعرفون ما ينفعها مما يضرها.
ثم ضرب الأمثالَ لنا تحذيراً وإنذاراً من أن نقع في حب الدنيا، فننسى واجباتنا، ونغفُل عما ينقصنا فقال :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله..... ﴾.
لا تكونوا كالذين نسوا حقوق الله وما عليهم من الواجبات، فأنساهم الله أنفسَهم حتى أصبحوا كالحيوانات لا همَّ لهم إلا شهواتهم وملذاتهم والجري وراء الدنيا.
﴿ أولئك هُمُ الفاسقون ﴾، الخارجون عن طاعة الله، فاستحقّوا عقابه يوم القيامة. فالإنسان له حقوق وعليه واجبات، والدنيا أخذٌ وعطاء، فلا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حِلْمَهُ، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله.
ثم بين الله تعالى أن من يعمل الحسناتِ يذهب إلى الجنة، وأن من يعمل السيئاتِ يذهب إلى النار، وأنهم لا يستوون. فلا يستوي من يذهب إلى النار يعذَّب فيها، ومن يذهب إلى الجنة ينعُم فيها، ﴿ أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ بكل ما يحبّون.
خاشعا : منقادا متذللا.
متصدعا : متشققا.
في ختام هذه السورة الكريمة يُشيدُ الله تعالى بالقرآن الكريم، وأنه هو الإمام المرشدُ الهادي للمؤمنين، وأن مِن عظمة هذا القرآن أن له قوةً فائقة لو أُنزل مثلها على جبلٍ لخشع ولانَ من خشية الله وكلامه، وأن البشر أَولى أن يخشعوا لكلام الله وتَلينَ قلوبهم فيتدبّروا ما فيه ويسيروا على هديه.
﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. في حكم القرآن، وعظمة مُنزله، ويهتدون بنوره إلى سواء السبيل، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٧ ].
عالمَ الغيب : كل ما غاب عن حواسنا من العوالم التي لا نراها.
الشهادة : ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها.
ثم وصف الله تعالى نفسَه بجليل الأسماء والصفات التي هي سرُّ العظمة والجلال، وذكر أن عظمةَ القرآن جاءت من عظمة الخالق. فأورد سبحانه أحدَ عشر اسماً من أسمائه الحسنى فسّرناها باختصار.
القدّوس : المنزه عن النقص.
السلام : الذي ينشر السلام في هذا الكون والأمان والنظام.
المؤمن : واهب الأمن للخلق أجمعين.
المهيمن : الرقيب الحافظ.
العزيز : الغالبُ على أمره.
الجبار : الذي جَبَرَ خلقه على ما أراد، والعالي الذي لا يُنال.
المتكبر : صاحب الكبرياء والعظمة المنفرد بها.
وقد شرحنا التسبيح فيما مضى، وتجيء هذه التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى بحسن الختام.
الخالق : الموجِد للأشياء على مقتضى الحكمة.
البارئ : المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها، والغرض الذي وجدت له.
المصوِّر : موجد الأشياء على صورها ومُختلف أشكالها كما أراد.
الأسماء الحسنى : الأسماء الدالّة على المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته.
فهو الإله الذي لا ربَّ غيره ﴿ لَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ يسبّح له ما في السموات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم.
Icon