ﰡ
وروي: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك.
التفسير وأوجه القراءة
١ - قال الواحدي: قال المفسّرون: لما بدىء رسول الله - ﷺ - بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله - ﷺ - على كرسيّ بين السماء والأرض كالنور المتلألىء، ففزع ووقع مغشيًا عليه، فلمّا أفاق دخل على خديجة ودعا بماء، فصبه عليه وقال: "دثّروني دثّروني، فدثّروه بقطيفة". فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)﴾؛ أي: يا أيها المتلفف بالدثار، وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد؛ لأنه تدثّر فوق شعاره بقطيفة.
قرأ الجمهور (١) بتشديد الدال والثاء، أصله: المتدثّر فأدغم التاء في الدال. وقرأ أبيّ ﴿المتدثّر﴾ على الأصل. وقرأ عكرمة بتخفيف الدال، كما قرأ بتخفيف الزاي في المزمل، أي: الذي دثر نفسه. وعن عكرمة أيضًا فتح الثاء المثلثة اسم مفعول، قال عكرمة: والمعنى: يا أيها المدّثّر بالنبوة وأثقالها. قال ابن العربيّ: وهذا مجاز بعيد؛ لأنّه لم يكن نبيًّا إذ ذاك.
أي: يا أيها المتلفّف المتغشّي بدثاره
٢ - ﴿قُمْ﴾ من مضجعك ﴿فَأَنْذِرْ﴾؛ أي: خوّف الناس كافّةً من عذاب الله ووقائعه إن لم يؤمنوا، أو خوف أهل مكة من عذاب الله إن لم يسلموا. وقيل: قم قيام عزم وتصميم، وأعلم الناس بعذاب الله وانتقامه إن لم يوحّدوه ويصدّقوك؛ لأنّه - ﷺ - مرسل إلى الناس كافة، فلم تكن ملة من الملل إلا وقد بلغتها دعوته وقرعها إنذاره. وأفرد (٢) الإنذار بالذكر مع أنه أرسل بشيرًا أيضًا؛ لأن التخلية بالمعجمة قبل التحلية بالمهملة، وكان الناس وقتئذٍ عاصين مستحقّين للتخويف، فكان أوّل الأمر بالإنذار.
٣ - ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)﴾؛ أي: وخصّص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء اعتقادًا وقولًا وعظمةً عمّا يقول فيه عبدة الأوثان وسائر الظالمين. وروي: أنّه لمّا
(٢) روح البيان.
والفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: مهما يكن من شيء.. فلا تدع تكبيره ووصفه بالكبرياء، أو للدلالة على أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه وينزهه عن الشرك، فإن أول ما يجب معرفة الصانع، ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه. فالفاء على هذا تعقيبية لا جزائية، وقال ابن جنيّ: الفاء: فيه زائدة كما في قولك: زيدًا فاضرب؛ أي: زيدًا اضرب.
وقال ابن العربي (١): المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد، والأصنام، ولا يتخذ وليًّا غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلًا إلَّا له ولا نعمة إلا منه.
والمعنى: أي وخصّ ربك وسيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفّار وأعظم من أن يكون له صاحبةٌ أو ولدٌ.
وحاصل المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾؛ أي: (٢) يا أيّها الذي تدثّر بثيابه رعبًا وفرقًا من رؤية الملك عند نزول الوحي أوّل مرّة شمر عن ساعد الجد، وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت، والداعي إلى ربّه الكبير المتعالي لا يتم له ذلك إلا إذا كان متخلّقًا بجميل الخلال وحميد الصفات، ومن ثم قال: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)﴾؛ أي: عظم ربك ومالك أمورِك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد. ونحو الآية قوله: ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾.
٤ - ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾ مما ليس بطاهر بحفظها وصيانتها من النجاسات وغسلها بالماء الطاهر بعد تلطّخها، فإنه قبيح بالمؤمن الطيّب أن يحمل خبيثًا سواء كان في حال الصلاة أو في غيرها، وبتقصيرها أيضًا فإنّ طولها يؤدي إلى جرّ الذيول على
(٢) المراغي.
ومعنى التقصير (١): أن تكون إلى أنصاف الساقين، أو إلى الكتب، فإنه - ﷺ - جعل غاية طول الإزار إلى أعلى الكعب، وتوعّد على ما تحته بالنار، فإنّه أتقى وأنقى وأبقى، وهو أوّل ما أمر به - ﷺ - من رفض العادات المذمومة، فإنّ المشركين ما كانوا يصونون ثيابهم من النجاسات. وفيه انتقال من تطهير الباطن إلى تطهير الظاهر؛ لأن الغالب أن من نقى باطنه أبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهارة في كل شيء، فإن الدين مبنيّ على النظافة، ولا يدخل الجنة إلا نظيف، والله يحب الناسك النظيف.
قال الراغب: الطهارة ضربان: طهارة جسم وطهارة نفس، وقد حمل عليهما عامّة الآيات. وقوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾ قيل معناه: نفسك نزهها عن المعايب انتهى. أو طهر قلبك كما في "القاموس" أو أخلاقك فحسّن، قاله الحسن. وفي الحديث: حسّن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، أو عملك فأصلح كما في "الكواشي". ومنه: الحديث "يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيهما". أي: عمليه الخبيث والطيب، كما في "عين المعاني". وإنه ليبعث في ثيابه؛ أي: أعماله كما في "القاموس". أو أهلك فطهّرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب. والعرب تسمّي الأهل ثوبًا ولباسًا، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾، كما في "كشف الأسرار".
وسئل (٢) ابن عباس عن ذلك؟ فقال: لا تلبسها على معصية، ولا عن غدرة ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي؟
فإِنِّيْ بِحَمْدِ الله لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ | لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتقنَّعُ |
إِذَا الْمَرءُ لَمْ يَدْنسْ مِنَ اللُّؤّمِ عِرْضُهُ | فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيْلُ |
(٢) المراغي.
وقد استبان للمشتغلين (١) بأصول التشريع، وعلماء الاجتماع من الأوربّيّين أن أكثر الناس قذرًا في أمهم وثيابهم أكثرهم ذنوبًا وأطهرهم أبدانًا وثيابًا أبعدهم من الذنوب. ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام، ونظافة الثياب فحسنت أخلاقهم، وخرجوا من السجون، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل. وقال الأستاذ: "بِتْنَامُ" في كتابه "أصول الشرائع": إنَّ كثرة الطهارة في دين الإِسلام من ما تدعو معتنقية إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيلهم، ومن هذا تعلم السرّ في قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤)﴾.
٥ - ﴿وَالرُّجْزَ﴾؛ أي: الأوثان ﴿فَاهْجُرْ﴾؛ أي: اترك؛ أي: وارفض عبادة الأوثان واتركها، ولا تقربها، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾. وقيل: الرجز: العذاب، أي: واهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدّي إليه من المآثم، سمي ما يؤدّي إلى العذاب رجزًا على تسمية المسبّب باسم سببه، والمراد الدوام على الهجر؛ لأنه كان بريئًا من عبادة الأوثان ونحوها.
وقرأ الجمهور (٢) ﴿والرجز﴾ بكسر الراء، وهي لغة قريش. وقرأ الحسن، ومجاهد، والسلميّ، أبو جعفر، وأبو شيبة، وابن محيصن، وابن وثّاب، وقتادة، والنخعيّ، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وحفص بضمّها. فقيل: هما بمعنى واحد يراد بهما الأصنام والأثان. وقيل: الكسر للبين والنقائص والفجور، والضمّ لصنمين إساف ونائلة. وقال عكرمة ومجاهد والزهري: للأصنام عمومًا، وقال ابن عباس: الرجز: السخط؛ أي: اهجر ما يؤدي إليه. وقال الحسن: كلّ معصية، والمعنى في الأمر: أثبت ودم على هجره؛ لأنّه - ﷺ - كان بريئًا منه، كما مرّ آنفًا.
والمعنى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)﴾ أي: اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب في الدنيا والآخرة، فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على
(٢) البحر المحيط.
١ - الغرور والفخر والعظمة، فيقول: أنا مسد للنعم إليكم ومفيض للخير عليكم.
٢ - الأعداء وهؤلاء يؤذونه، ويتربصون به الدوائر، ويتتبعونه في كل مكان، ويتالبون عليه ليل نهار، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين، ويقولون: ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا، ولنبتعد عن الناس، فإنهم لا يعرفون قدر النعم، ولا يشكرون المنعمين.
٦ - ومن ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)﴾ برفع (١) ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾؛ لأنّه مستقبل في معنى الحال؛ أي: ولا تعط حال كونك مستكثرًا؛ أي: رائيًا لما تعطيه كثيرًا أو طالبًا للكثير على أنه نهي عن الاستغزار، وهو أن يهب شيئًا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر مما أعطاه، وهو جائز، ومنه الحديث: "المستغزر يثاب من هبته"؛ أي: يعوض منها. والغزارة بالغين المعجمة وتقديم الزاي: الكثرة، فالنهي إمّا للتحريم، وهو خاص برسول الله - ﷺ - لعلوّ منصبه في الأخلاق الحسنة، ومن ذلك حلت الزكاة لفقراء أمته، ولم تحل له، ولأهله لشرفه أو للتنزيه للكلّ؛ أي: له ولأمته.
قرأ الجمهور (٢): ﴿وَلَا تَمْنُنْ﴾ بفكّ الإدغام. وقرأ الحسن، وأبو السمال والأشهب العقيلييّ بالإدغام. قال ابن عباس وغيره: لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه كأنّه من قولهم: منْ إذا أعطى. قال الضحاك: هذا خاص به - ﷺ - ومباح ذلك لأمته، لكنه لا أجر لهم. وعن ابن عباس أيضًا: لا تقل دعوت فلم أحب. وقرأ الجمهور (٣): ﴿تَسْتَكْثِرُ﴾ بالرفع على أنه حال؛ أي: ولا تمنن حال كونك مستكثرًا؛ أي: رائيًا ما أعطيته كثيرًا. وقيل: على حذف (أن)، والأصل: ولا تمنن أن تستكثر؛ أي: ولا تعط لأجل أن تأخذ كثيرًا من الموهوب له بدل هبتك، فلما حذفت (أن) رفع الفعل، قال الكسائي: فإذا حذف (أن) رفع الفعل. وقرأ يحيى بن
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
قوله تعالى: ﴿يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾، وقول الشاعر:
مَتَى تَأْتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا |
فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ | إِثْمًا مِنَ الله وَلَا وَاغِلِ |
٧ - ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)﴾؛ أي: ولوجه ربك فاصبر على طاعته وعبادته. وقيل: فاصبر لحكم ربك، ولا تتألم من أذية المشركين، فإن المأمور بالتبليغ لا يخلو عن أذى الناس، ولكن بالصبر يستحيل المر حلوًا وبالتمرن يحصل الذوق. وقال ابن زيد: حملت أمرًا عضيمًا، فحاربتك العرب والعجم فاصبر عليه لله. وقيل: اصبر تحت موارد القضاء لله، وقيل: اصبر على البلوى، وقيل: على الأوامر والنواهي.
والخلاصة: لا تجزع من أذى من خالفك.
٨ - ولما أتم إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء، فقال: ﴿فَإِذَا نُقِرَ﴾ ونفخ ﴿فِي النَّاقُورِ﴾ والصور نفحة البعث
٩ - ﴿فَذَلِكَ﴾ الوقت؛ أي: وقت نقر الناقور ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ بدل
والناقور (١): فاعول بمعنى ما ينقر وينفخ فيه، والمراد به الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل مرة للإصعاق، وأخرى للإحياء. فالناقور فاعول من النقر بمعنى التصويت، وأصله: القرع الذي هو سبب الصوت. يعني: جعل الشيء بحيث يظهر منه الصوت بنوع قرع. والمراد هنا: النفخ؛ إذ هو نوع ضرب للهواء الخارج من الحلقوم، والمعنى؛ أي: فإذا نفخ في الصور. والفاء للسببية؛ أي: سببية ما بعدها لما قبلها دون العكس، فهي بمعنى اللام السببيّة كأنّه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك عليه حين ينفخ في الصور ويومئذٍ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم. والعامل في ﴿إذا﴾ ما دل عليه قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ﴾ الوقت الذي هو ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ نقر في الناقور ﴿يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
١٠ - عَلَى الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: يوم عسر فيه الأمر على الكافرين من جهة العذاب وسوء الحساب. وذلك إشارة إلى وقت النقر. وهو مبتدأ، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وهو ﴿إذ﴾ والتقدير: إذ نقر في، والخبر يوم عسير، و ﴿عَلَى﴾ متعلقة بـ ﴿عَسِيرٌ﴾، دل عليه قول تعالى: ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسر عليهم.
﴿غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ خبر بعد خبر وتأكيد لعسره عليهم لقطع احتمال يسره بوجه دون وجه مشعر بيسره على المؤمنين. ثم المراد به يوم النفخة الثانية التي يحيى الناس عندها، إذ هي التي يخص عسرها بالكافرين جميعًا، وأما النفخة الأولى فهي مختصّة بمن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في "الأخبار": "إنّ في الصور ثقبًا بعدد الأرواح كلّها، وإنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه، فيعود الجسد حيًّا بإذن الله". وفي
ومعنى ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)﴾؛ أي: يومهم عسير لا يسر فيه، ولا فيما بعده على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر، وعسره عليهم أنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم، وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد. وأمّا المؤمنون فإنه عليهم يسير، لا يناقشون فيه حسابًا، ويمشون بيض الوجوه.
١١ - وقوله: ﴿ذَرْنِي﴾؛ أي: دعني واتركني ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ﴾ ـه حالة كونه ﴿وَحِيدًا﴾؛ أي: منفردًا لا مال له ولا ولد. تهديد ووعيد؛ أي: دعني والذي خلقته حال كونه وحيدًا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، وهذا المعنى على أن ﴿وَحِيدًا﴾ حال من ﴿مَنْ﴾ الموصولة أو من الضمير العائد إليها المحذوف، ويحتمل أن يكون حالًا من الياء في ﴿ذَرْنِي﴾؛ أي: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه في الانتقام منه أو من التاء في ﴿خَلَقْتُ﴾؛ أي: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. والأوّل أولى. قال مقاتل: يقول الله: خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته. قال المفسرون: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وإنّما خصّ بالذكر لمزيد كفره وعظيم جحوده لنعم الله عليه، وكان يلقب في قومه بالوحيد زعمًا منهم أنّه لا نظير له في وجاهته، ولا في ماله، وكان يفتخر بنفسه، ويقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير، لا لأبي المغيرة نظير أيضًا. فسمّاه الله بالوحيد تهكّمًا به واستهزاء بلقبه كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾، وصرفًا له عن الغرض الذي يؤمونه من مدحه إلى جهة ذمّه بكونه وحيدًا من المال والولد، أو وحيدًا من أبيه ونسبه، لأنه كان زنيمًا، وهو من ألحق بالقوم وليس منهم، كما مرّ. أو وحيدًا في الشرارة والخيانة والدناءة.
١٢ - ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢)﴾؛ أي: مبسوطًا كثيرًا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة. قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاءً ولا صيفًا. وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل، والغنم والبساتين
وقد كان الوليد بن المغيرة مشهورًا بكثرة المال على اختلاف أنواعه. قيل: كان يحصل له من غلّة أمواله ألف ألف دينار، وقيل: أربعة آلاف دينار، وقيل: ألف دينار.
١٣ - ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣)﴾؛ أي: وجعلت له بنين حضورًا بمكة معه يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرق لطلب الرزق لكثرة مال أبيهم، فكان مستأنسًا بهم طيب القلب بشهودهم، لا يفارقونه للتصرّف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيّين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورًا معه في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم. وقيل معنى ﴿شُهُودًا﴾ إذا ذكر ذكروا معه. قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدًا. وقيل: كان له عشر بنين أسلم منهم ثلاثة. قال السهيليّ: هم: هشام بن الوليد، والوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله، وسيف رسوله. وأمّا غير هؤلاء ممن مات منهم على دين الجاهلية، فلم نسمّه انتهى. فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك، وهو فقير.
١٤ - ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤)﴾؛ أي: بسطت له بسطًا، ووسعت له توسيعًا في العيش وطول العمر والرياسة في قريب والجاه العريض، فأتممت (٢) عليه النعمة، فإنّ اجتماع المال والجاه هو الكمال عند أهل الدنيا، ولذا كان يلقب ريحانة قريش، والريحان: نبت طيب الرائحة، والولد والرزق. والتمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه: مهد الصبيّ. وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض، كما يمهد الفراش.
١٥ - ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ﴾ ويرجو ﴿أَن أَزِيدَ﴾ له على ما أوتيه من المال والولد. و ﴿ثمّ﴾ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، إمّا لأنّه لا مزيد على ما أوتيه سعة كثرة. يعني: أنه أوتي غاية ما أوتي عادة لأمثاله، أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم؛ أي: لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم.
والمعنى: أي ثم بعد هذا كله يرجو الزيادة في ماله وولده لكثرة حرصه، وشدّة طمعه مع كفرانه للنعم واشراكه بالله. وفي هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه
(٢) روح البيان.
١٦ - ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع وزجر له عن طمعه الفارغ، وقطع لرجائه الخائب، فيكون متصلًا بما قبله أو لا أفعل ولا أزيده. ثم علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾؛ أي: معاندًا دافعًا منكرًا لآياتنا القرآنية كافرًا بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال: عند إذا خالف الحق، ورده عارفًا به فهو عنيد وعاند؛ أي: منكر. والعنيد هنا بمعنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير بمعنى المجالس والمؤاكل والمعاشر، وهو تعليل لما قبله على وجه الاستئناف التحقيقيّ، فإن معاندة آيات المنعم، وهي الآيات القرآنية مع وضوحها وكفران نعمه مع سبوغها مما يوجب حرمانه بالكلية، وإنما أوتي ما أوتي استدراجًا له.
وتقديم (١) ﴿لِآيَاتِنَا﴾ على متعلقه، وهو ﴿عَنِيدًا﴾ يدلُّ على التخصيص، فتخصيص العناد بها مع كونه تاركًا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران. وفي الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحقَّ بقلبه وينكره بلسانه. وهذا أقبح أنواع الكفر.
١٧ - ثم بين ما يفعله به يوم القيامة، فقال: ﴿سَأُرْهِقُهُ﴾؛ أي: سأكلف ذلك العنيد يوم القيامة بدل ما يطمعه من الزيادة ﴿صَعُودًا﴾؛ أي: ارتقاء عقبة شاقّة المصعد، بحيث تغشاه شدّة ومشقّة من جميع الجوانب. فالكلام على حذف مضاف كما قدّرناه على أن يكون الإرهاق معناه: تكليف الشيء العظيم المشقّة بحيث تغشى المكلف شدّته ومشقته من جميع الجوانب. قال الغزالي رحمه الله: معناه: سأكلفه حالة تصعد فيها نفسه للنزع، وان لم يتعقبه موت انتهى. وهو مثال لما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يطاق، ويجوز أن يحمل على حقيقته كما قال - ﷺ -: "الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا ثم يهوى كذا أبدًا"؛ أي: سبعين عامًا؛ لأنّ الخريف آخر السنة، فيه تتمّ الثمار وتدرك، فصار بذلك كأنّه العام كلّه.
والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصائب وأنواع المشاق شبيهًا بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقّة. قال قتادة: سيكلّف عذابًا لا راحة فيه.
١٨ - ثم حكى كيفية عناده فقال: ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨)﴾ تعليل لما تقدم من الوعيد؛ أي: إنه فكر في شأن النبي - ﷺ -، وفي شأن ما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه واختلق ما يقول في طعنهما من المقال، وهيأه مما يوافق غرض قريش.
والخلاصة: أنه فكر وتروى ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به حين سئل عن ذلك؟
١٩ - ثم عجب من تقديره وإصابته غرضهم، فقال: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)﴾؛ أي: لعن وعذب كيف قدر؛ أي: على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام فيه مما لا يصح تقديره، وما لا يسوغ أن يقدره عاقل، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع؛ أي: لعن علي أيّ حال كانت منه؛ أي: فلعن في الدنيا على أيّ كيفية أوقع تقديره.
٢٠ - والتكرير في قوله: ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)﴾ للتأكيد والمبالغة في التشنيع؛ أي: ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أفي حال كانت تقديره، والمراد من اللعن: الدعاء عليه بالطرد والإبعاد بسبب ما قدّره، وقاله في النبيّ - ﷺ - من أنّه ساحر، كما مرّ في أسباب النزول.
وهذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدَّث عنه. تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره، يريدون أنّه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.
وقصارى ذلك: أنّ هذا تعجيب من قوة خاطره وإصابته الغرض الذي كانت ترمي إليه قريش من الطعن الشديد في القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به. ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة
٢١ - ﴿ثُمَّ نَظَرَ (٢١)﴾ في أمر القرآن مرة بعد أخرى، وتأمل فيه لعله يجول بخاطره ما يحبون ويصل إلى ما يرجون. وهو معطوف على ﴿فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾، وما بينهما اعتراض. يعني: الدعاء بينهما.
٢٢ - ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾؛ أي: قطب وغير وجهه عبوسة حين ضاقت به الحيل، ولم يجد فيه مطعنًا، ولم يدر ماذا يقول. ثم أكد ما قبله فقال: ﴿وَبَسَرَ﴾؛ أي: كلح واسود وجهه، وزاد في العبوسة. قال سعه. بن عبادة: لمّا أسلمت راغمتني أمي، فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر. وإيراد ﴿ثُمَّ﴾ في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراخيًا. وفي هذا إيماء إلى أنه كان بقلبه صدق محمد - ﷺ -، وكان ينكره عنادًاَ، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول.. لفرح باستنباط ما استنبط وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
٢٣ - ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ عن الحق؛ أي: صرف وجهه عن الحق ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ عن اتباعه؛ أي: رجع القهقرى مستكبرًا عن الانقياد له والإقرار به.
٢٤ - ثم ذكر ما استنبطه من الترهات والأباطيل بقوله: ﴿فَقَالَ﴾ عقيب توليه عن الحق: ﴿إِنْ﴾ نافية بمعنى ما، ولذا أورد ﴿إلّا﴾ بعدها؛ أي: ما ﴿هَذَا﴾ الذي يقوله محمد - ﷺ -. يعني: القرآن ﴿إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾؛ أي: أمور تخييلية لا حقائق لها، يروى ويتعلم وينقل من الغير، وليس هو من سحره بنفسه. قال أبو حيان: ومعنى ﴿إِلَّا سِحْرٌ﴾؛ أي: إلا شبيه بالسحر انتهى. يقال: أثرت الحديث آثره أثرًا إذا حدّثت به عن قوم في آثارهم؛ أي: بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم كان بمعنى الرواية عمن كان، وحديث مأثور؛ أي: منقول ينقله خلف عن سلف، وأدعية مأثورة؛ أي: مروية عن الأكابر. وفي (١) تعلم السحر لحكمة رخصة، واعتقاد حقِّيتِهِ والعمل به كفر، كما قيل:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشَرِّ لَكِنّي لِتَوقِّيهِ | ومَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ مِنَ الناسِ يَقَعْ فِيهِ |
٢٥ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنْ هَذَا﴾؛ أي: ما هذا الذي يقوله محمد ﴿إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ تأكيد لما قبله، ولذا أخليَ عن العاطف. قاله تمرّدًا وعنادًا لا على سبيل الاعتقاد، لما روي قبل: أنّه أقر بأن القرآن ليس من كلام الإنس والجن، وأراد بالبشر يسارًا وجبرًا وأبا فكيهة. أما إلأولان فكانا عبدين من بلاد فارس، وكانا بمكة، وكان النبي - ﷺ - يجلس عندهما. وأما أبو فكيهة فكان غلامًا روميًّا، يتردد إلى مكة من طرف مسيلمة الكذّاب في اليمامة.
والمعنى (١): أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدعي. ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففي العرب ذوو فصاحة وذرابة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدًا من أهل الزكانة والمعرفة سولت له نفسه أن يعارضه بل التجؤوا إلى السيف والسنان دون المعارضة بالحجة والبرهان. وقد رووا في هذا البال مضحكات أغلبها لا يصح؛ لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغي أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر، كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل، فقال: الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب طويل ومشفر وتيل إلخ.
قال أبو حيان (٢): وقيل: ثم نظر فيما يحتج به للقرآن، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول - ﷺ -، ودام نظره في ذلك ثم عبس وبسر دلالة على تأنيه وتمهله في تأمله، إذ بين ذلك تراخ وتباعد. وكان العطف في ﴿وَبسَرَ﴾ وفي ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ بالواو؛ لأن البسور قريب من العبوس فهو كأنّه على سبيل التوكيد، والاستكبار يظهر أنه سبب للإدبار؛ إذ الاستكبار معنى في القلب، والإدبار حقيقة من فعل الجسم، فهما سبب ومسبِّب فلا يعطف بـ ﴿ثم﴾، وقدم المسبِّب على السبب؛ لأنّه الظاهر للعين، وناسب العطف بالواو. وكان العطف في ﴿فَقَالَ﴾ بالفاء: دلالة على التعقيب؛ لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل. ومعنى ﴿يُؤْثَرُ﴾: يروى وينقل. قال الشاعر:
(٢) البحر المحيط.
لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ مَا لَا يَزَا | لُ يُؤْثَرُ عَنِّيْ بِهِ الْمُسْنَدُ |
٢٦ - ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه وفظيع عمله، فقال: ﴿سَأُصْلِيهِ﴾؛ أي: سأدخل ذلك العنيد يوم القيامة نار سقر، وأغمره فيها من جميع جهاته. قال في "الصّحاح": سقر اسم من أسماء النار. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: اسم للطبقة السادسة من جهنم، يقال: سقرته الشمس إذا آذته وآلمته، وسميت سقر لإيلامها. وقوله: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)﴾ بدل من ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧)﴾ بدل الاشتمال سواء جعل مثلًا لما يلقى من الشدائد، أو اسم جبل من نار؛ لأنّ سقر تشتمل على كل منهما.
٢٧ - ثم بالغ في وصف النار وتعظيم شأنها، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧)﴾ ما (١) الأولى مبتدأ وجملة ﴿أَدْرَاكَ﴾ خبره، و ﴿ما﴾ الثانية خبر مقدم لقوله: ﴿سَقَرَ﴾ لأنّها المفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع دون العكس، كما سبق في الحاقّة.
والمعنى: وأيّ شيء أعلمك يا محمد جواب ﴿مَا سَقَرُ﴾ في وصفها، لأنّها قد بلغت في الوصف حدًّا لا يمكن معرفته، ولا يتوصّل إلى إدراك حقيقته. يعني: أنه خارج عن دائرة إدراك العقول، ففيه تعظيم لشأنه.
٢٨ - ثم بين وصفها بقوله: ﴿لَا تُبْقِي﴾ لهم لحما ﴿وَلَا تَذَرُ﴾ لهم عظمًا، فإذا أعيد أهلها خلقًا جديدًا فلا تذرهم بل تعيد إحراقهم كرّة أخرى، وهكذا أبدًا كما جاء في الآية الأخرى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾.
وعبارة "الروح": قوله: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨)﴾ بيان لوصفها وحالها، وإنجاز
٢٩ - ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)﴾؛ أي: محرقة لظاهر البشرة، وأعلى الجلد، ومغيّرة لها مسوِّدة لونَها مشوّهةً لها؛ أي: تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادًا من الليل. قال ابن عباس: تلوح الجلد فتحرقه، وتغيّر لونه، يقال (١): لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته، ولاحه السقر أو العطش إذا غيّره. وذلك أنّ الشيء إذا كان فيه دسومة نضر، فإذا أحرق أسودّ. والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان. فإن قلت: لا يمكن وصفها بتسويد البشرة مع قوله: ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨)﴾.
قلت: ليس في الآية دلالة على أنها تفني بالكلية مع أنه يجوز أن يكون الإفناء بعد التسويد. وقيل: لامحة للناس على أنّ ﴿لَوَّاحَةٌ﴾ بتاء مبالغة من لاح يلوح؛ أي: ظهر، وأن البشر بمعنى الناس. قيل: إنها تلوح للبشر من مسيرة خمس مئة عام، فهو كقوله تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦)﴾. فيصل إلى الكافر سمومها وحرورها، كما يصل إلى المؤمن ريح الجنة نسيمها من مسيرة خمس مئة عام.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَوَّاحَةٌ﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي لوّاحة، وقيل: على أنه نعت لـ ﴿سَقَرَ﴾، والأول أولى. وقرأ الحسن، وعطية العوفيّ، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر ﴿لواحةً﴾ بالنصب على الحال، أو الاختصاص للتهويل، فتكون حالًا مؤكّدة؛ لأنّ النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلّا مغيّرة للأبشار.
٣٠ - ﴿عَلَيْهَا﴾؛ أي: على سقر ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾؛ أي: ملكًا يتولّون أمرها، ويتسلّطون على أهلها. وهم مالك وثمانية عشر معه. قال المفسرون: يقول الله سبحانه: على
(٢) الشوكاني.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ مبنيّين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان بإسكان الشين من ﴿عَشْرَ﴾، كراهة توالي الحركات. وقرأ الجمهور بفتحها. وقرأ أنس بن مالك، وابن عباس، وابن قطيب، وإبراهيم بن قنّة بضمّ التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب؛ لأنّها لو كانت حركة إعراب لأعرب ﴿عشر﴾. وقرأ أنس أيضًا ﴿تسعةُ﴾ بالضم ﴿أعشرَ﴾ بالفتح. وقال صاحب "اللوامح": فيجوز أنه جمع العشرة على أعثر، ثم أجراه مجرى تسعة عشر. وعنه أيضًا: ﴿تسعة وعشر﴾ بالضم وقلب الهمزة من أعثر واوًا خالصة تخفيفًا والتاء فيهما مضمومة ضمّة بناء؛ لأنها معاقبة للفتحة فرارًا من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة. وعن سليمان بن قنة وهو أخو إبراهيم: أنه قرأ ﴿تسعةُ أعشرٍ﴾ بضم التاء ضمة إعراب، وإضافته إلى أعشرٍ، وأعشرٍ مجرور منون، وذلك على فك التركيب. قال صاحب "اللوامح": ويجيء على هذه القراءة وهي قراءة من قرأ ﴿أعشرَ﴾ مبنيًّا، أو معربًا من حيث هو جمع أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكًا نتهى. وفيه بعض تلخيص. قال الزمخشري: وقرىء ﴿تسعةُ أعشرٍ﴾ جمع عشير مثل: يمين وأيمن انتهى.
٣١ - ولما نزل قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾ قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مئة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم يخرجون من النار، فقال أبو الأشد وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فادفع عشرة بمنكبي، الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة. فأنزل الله
والمعنى: أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، وهؤلاء هم النقباء والمدبرون لأمرها. وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسًا، وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه"، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقوا لهم، ويرحموهم.
ثم ذكر الحكمة في اختيار هذا العدد القليل، فقال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ﴾؛ أي: وما جعلنا في القرآن عددهم هذا العدد القليل ﴿إِلَّا فِتْنَةً﴾؛ أي: محنة وضلالة ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الذين استقلوا عددهم؛ أي: ما جعلنا تلك العدّة، وهي تسعة عشر إلا سبب فتنة وضلالة للذين كفروا حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم، ويكثر غضب الله عليهم. وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزؤوا به واستبعدوه، وقالوا: كيف يتوتى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين. وقوله: ﴿إِلَّا فِتْنَةً﴾ مفعول لـ ﴿جعل﴾ على حذف مضاف؛ أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة لـ ﴿فِتْنَةً﴾، وليست ﴿فِتْنَةً﴾ مفعولًا له اهـ "سمين".
أي (١): وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي تسبّب لافتتانهم ووقوعهم في الكفر، وهو التسعة عشر، فعبّر بالأثر عن المؤثّر؛ أي: عبّر بالفتنة عن العدد المخصوص تنبيهًا على التلازم بينهما، وحمل الكلام على هذا؛ لأن ﴿جعل﴾ من دواخل المبتدأ والخبر، فوجب حمل مفعوله الثاني على الأول، ولا يصح حمل افتتان الكفار على عدد الزبانية إلا بالتوجيه المذكور، فإن عدتهم سبب للفتنة لا فتنة
قال الإِمام الرازّي (١): إنما صار هذا العدد سببًا لفتنة الكفار من وجهين:
الأول: أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لا يكونون عشرين مثلًا، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد؟
والثاني: أنّ الكفار يقولون: هذا العدد القليل كيف يكون وافيًا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة؟
وأجيب عن الأول: بأن هذا السؤال لازم عن كل عدد يفرض، وبأن أفعال الله لا تعلل فلا يقال فيها: لِمَ، وتخصيص هذا العدد لحكمة اختص الله بها.
وعن الثاني: بأنه لا يبعد أن الله تعالى يعطي ذلك العدد القليل قوة تقي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. وأيضًا فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا، ولا للعقل فيها مجال اهـ "خازن" و"خطيب".
وقوله: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ متعلق بالجعل الثاني على المعنى المذكور. والسين (٢) للطلب؛ أي: وجعلنا عدتهم العدد المذكور القليل الذي تسبَّب لضلال الكفار ليكتسب الذين أوتوا الكتاب اليقين بنبوته - ﷺ - وصدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقًا لما في كتابهم. وفي "عين المعاني": سأل اليهود رسول الله - ﷺ - عن خزنة النار وعددهم؟ "فأجاب عليه السلام: بأنهم تسعة عشر؛ أي: إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدّة، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد - ﷺ - لموافقة ما في القرآن لكتبهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وغيرهم. وقيل: ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾
(٢) روح البيان.
والمعنى: ليزدادوا يقينًا إلى يقينهم، لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم.
وقوله: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، فإن نفي ضد الشيء بعد إثبات وقوعه أبلغ في الإثبات، ونفي لما قد يعتري المستيقن والمؤمن من شبهة ما، فيحصل له يقين جازم بحيث لا شك بعده. وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل: ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالًا، فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود، ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما.
والتعبير (٢) عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده، ورسوخهم في ذلك. والمراد نفي الارتياب عنهم في الدين، أو في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك من المنافقين.
والمعنى: أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله من أمّة محمد - ﷺ - في حقّية ذلك العدد.
﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: شك أو نفاق، فإن كلًّا منهما من الأمراض الباطنة، فيكون إخبارًا بما سيكون في المدينة بعد الهجرة، إذ الاتّفاق إنما حدث بالمدينة، وكان أهل مكة إما مؤمنًا حقًا وإما مكذّبًا وإمّا شاكًّا. ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ المصرّون على التكذيب من أهل مكة وغيرهم. فإن قلت: كيف يجوز أن يكون قولهم هذا مقصودًا لله تعالى؟.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي وليقول الذين في قلوبهم شك في صدق الرسول - ﷺ - والقاطعون بكذبه: ما الذي أراد الله بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل؟.
ثم بين أن الاختلاف في الدين سنة من سنن الله تعالى، فقال: ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما أضل الله سبحانه هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدّة خزنة جهنم: أيّ شيء أراد الله بهذا الخبر حتى يخوفنا بعدتهم ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ سبحانه من خلقه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ إضلاله، فيخذله عن إصابة الحق. ﴿و﴾ كما هدى الله سبحانه المؤمنين من أصحاب محمد - ﷺ -، ومن أهل الكتاب إلى هذا المثل ﴿يهدي﴾ من عباده ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ هدايته، فيوفقه لإصابة الصواب.
واسم الإشارة إلى ما تقدم ذكره، وهو قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾. والكاف نعت لمصدر محذوف، والمعنى: يضل الله من خلقه من يشاء إضلاله إضلالًا كائنًا كإضلال هؤلاء المنكرين لخزنة جهنم وعددهم من أبي جهل وأصحابه، ويهدي من خلقه من يشاء هدايته هداية كائنة كهداية المصدّقين لخزنة جهنم، وعددهم من أصحاب محمد - ﷺ - وأهل الكتاب.
﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ﴾ يا محمد؛ أي: جموع خلقه التي من جملتها الملائكة المذكررون. والجنود (١): جمع جند بالضمّ، وهو العسكر، وكل مجتمع، وكل صنف من الخلق على حدة. وفي الحديث: "إنّ لله جنودًا منها العسل". ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى لفرط كثرتها. وفي حديث موسى عليه السلام: "أنه سأل ربه عن عدد أهل السماء؟ فقال تعالى: اثنا عشر سبطًا عدد كل سبط عدد التراب". وفي "الأسرار المحمدية": ليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو معمور بما لا يعلمه إلا الله، والدليل على ذلك أمر النبي - ﷺ - بالتستر في الخلوة، وأن لا يجامع الرجل امرأته عريانين. وفيه إشارة إلى أنَّ لله في اختيار عدد الزباينة حكمةً، وإلا فجنوده خارجة عن داثرة العدّ والضبط. قال الفاشاني: وما يعلم عدد الجنود وكمّيتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيّات وأحوالها.
والمعنى: وما يعلم عدد خلقه ومقدار جموعه من الملائكة وغيرهم إلا هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد. وقال عطاء: يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدّتهم إلا الله. والمعنى: أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه. وهذا رد على استهزائهم يكون الخزنة تسعة عشر جهلًا منهم وجه الحكمة في ذلك.
ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر، فقال: ﴿وَمَا هِيَ﴾؛ أي: وما سقر، وما ذكر معها من عدد خزنتها ﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾؛ أي: إلا تذكرة وموعظة وإنذارًا للبشر والإنس بسوء عاقبة الكفر والضلال. وتخصيص (٢) الإنس مع أنها تذكرة للجن أيضًا؛ لأنهم هم الأصل في القصد بالتذكرة. أو المعنى: وما عدة الخزنة إلا تذكرة لهم ليتذكروا، ويعلموا أن الله سبحانه قادر على أن يعذب الكثير غير المحصور من
(٢) روح البيان.
٣٢ - ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع لمن أنكر سقر؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن إنكار سقر، فإنها حق لا سبيل لكم إلى إنكارا لتظاهر الأدلة عليها. أو إنكار ونفي لكونها تذكرة لهم، فإن كونها ذركما للبشر لا ينافي أن بعضهم لا يتذكرون، بل يعرضون عنها بسوء اختيارهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)﴾؟ قال الفرّاء: ﴿كلا﴾ (١) صلة للقسم التقدير أي: والقمر، وقيل المعنى: حقًّا والقمر. وقال ابن جرير: المعنى: رد زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم؛ أي: ليس الأمر كما يقول. ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية. ﴿وَالقَمَرِ﴾ مقسم به، مجرور بواو القسم. وفي "فتح الرحمن": وهذا تخصيص تشريف، وتنبيه على النظر في عجائبه وقدرته في حركاته المختلفة التي هي مع كثرتها واختلافها على نظام واحد لا يختل. وقال أبو الليث: وخالق القمر يعني: الهلال بعد ثالثه.
٣٣ - ﴿وَاللَّيْلِ﴾ معطوف على ﴿القمر﴾، وكذا ﴿الصبح﴾ ﴿إِذْ﴾ بسكون الذال، وهو ظرف لما مضى من الزمان. ﴿أَدْبَرَ﴾ على وزن أفعل؛ أي: انصرف وذهب فإنّ الإدبار ضدّ الإقبال.
وقرأ (٢) ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وعطاء، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة، وأبو الزناد، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وطلحة، والنحويّان والابنان، وأبو بكر ﴿إذا﴾ على أنّه ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿دبر﴾ بفتح الدال بزنة ضرب. وقرأ ابن جبير، والسلميّ، والحسن بخلاف عنهم، وابن سيرين، والأعرج، وزيد بن عليّ، وأبو شيخ، وابن مُحَيّصن، ونافع، وحمزة، وحفص ﴿إذْ﴾ بسكون الذال على أنه ظرف لما مضى من الزمان. ﴿أدبر﴾ بوزن أكرم. ودبر وأدبر لغتان، كما يقال: أقبل الزمان، وقبل الزمان، ويقال دبر الليل، وأدبر الليل
(٢) البحر المحيط.
٣٤ - ﴿وَالصُّبْحِ﴾؛ أي: الفجر أو أوّل النهار ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. واتفقوا على ﴿إِذَا﴾ هاهنا نظرًا إلى تأخره عن الليل من وجه. ﴿أَسْفَرَ﴾؛ أي: أضاء، وانكشف، وظهر. وقرأ الجمهور (١) ﴿أَسْفَرَ﴾ رباعيًا. وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل ﴿سفر﴾ ثلاثيًّا، والمعنى: طرح الظلمة عن وجهه.
٣٥ - ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)﴾ جواب للقسم. و ﴿الْكُبَرِ﴾ (٢): جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائه، وألحقت بها، فكما جمعت فعلة على فعل كركبة وركب جمعت فعلى عليها، وإلا ففعلى لا تجمع على فعل بل على فعالى كحبلى وحبالى.
والظاهر: أن الضمير عائد على سقر؛ أي: إن سقر لإحدى البلايا، أو لإحدى الدواهي الكبر الكثيرة، وهي؛ أي: سقر واحدة في العظم لا نظير لها كقولك: إنه أحد الرجال. هذا إذا كان منكرًا لـ ﴿سَقَرَ﴾، وإن كان منكرًا لعدة الخزنة فالمعنى: أنها من إحدى الحجج ﴿الْكُبَرِ﴾، ﴿نَذِيرًا﴾ من قدرة الله على قهر العصاة من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة من الجنّ والإنس، حيث استعمل على تعذيبهم هذا العدد القليل. وإن كان منكر الآيات فالمعنى: أنها لإحدى الآيات الكبر.
وقرأ الجمهور ﴿لَإِحْدَى﴾ بالهمزة، وهي منقلبة عن واو، أصله: لوحدى، وهو بدل لازم. وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، ووهب بن جرير عن ابن كثير بحذف الهمزة، وهو لا ينقاس، وتخفيف هذه الهمزة أن تجعل بين بين.
٣٦ - ﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦)﴾ حال من الضمير في ﴿إِنَّهَا﴾، قاله الزجاج. وروى عنه عن الكسائي، وأبي علي الفارسيّ: أنّه حال من قوله: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾؛ أي: قم يا
(٢) روح البيان.
ومعنى الآيات: أقسم بالقمر الوضّاح والليل إذا ولى، وذهب والصبح إذا أشرق إنّ جهنم لإحدى البلايا الكبار، والدواهي العظام لإنذار البشر.
٣٧ - ثم بين أصحاب النذارة، فقال ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)﴾ بدل من قوله: ﴿لِلْبَشَرِ﴾ بإعادة الجار، و ﴿أَنْ يَتَقَدَّمَ﴾ مفعول ﴿شَاءَ﴾، و ﴿مِنْكُمْ﴾ حال مِنْ ﴿مَنْ﴾ الموصولة؛ أي: نذيرًا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير والجنة والطاعة، فيهديه الله. أو لم يشأ ذلك، ويتأخّر بالمعصية، فيضله. وفيه إشارة إلى أنَّ لكسب العبد دخلًا في حصول المرحومية والمحروميّة. وقال السدي: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة. أو المعنى (٢): لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها، ويردها. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)﴾.
وخلاصة ما سلف: ها أنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه، ومن تأخر عنه سلكناه فيها. قال ابن عباس: هذا تهديد لاعلام بأنّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد - ﷺ - جوزي بثواب لا ينقطع أبدًا، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدًا - ﷺ - عوقب عقابًا لا ينقطع أبدًا. وقال الحسن:
(٢) المراغي.
٣٨ - ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من نفوس الإنس والجنّ المكلّفين ﴿بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾؛ أي: مرهونة عند الله بكسبها محبوسة ثابتة. وفي بعض التفاسير: بسبب ما كسبت من الأعمال السيئة. وقيل: مأخوذة بعملها، ومرتهنة إما خلّصها أو أوبقها. من (١) رهن الشيء إذا دام وثبت، وارتهنته؛ أي: تركته مقيمًا عنده وثابتًا. والرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، والمرتهن: هو الذي يأخذ المرهون، ونفس المكلّف محبوسة ثابتة عند الله بما أوجبه عليه من التكاليف التي هي حق خالص له تعالى، فإن أدّاها المكلّف كما وجبت عليه فك رقبته وخلص نفسه، وإلا بقيت نفسه مرهونة محبوسة عنده. وقال بعضهم: الرهينة: اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم على أن تكون التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية. وفي فتح الرحمن: التاء للمبالغة أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان ونحوه، وليس أي: الرهينة صفة وإلا لقيل: رهين؛ لأنّ فعيلًا بمعنى مفعول لا تدخله التاء، بل يستوي فيه المذكر والمؤنث، إلا أن يحمل على ما هو بمعنى الفاعل، فإنه يؤتى في مؤنثه بالتاء كما في عكسه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
٣٩ - ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩)﴾ استثناء متصل (٢) من ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ لكثرتها في المعنى. و ﴿أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾: أهل الأعمال الصالحة من المؤمنين. أي: فإنهم فاكّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين.
والمعنى: أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند الله غير مفكوكة عنه كافرة كانت أو مؤمنة عاصية أو طائعة إلا أصحاب اليمين، فإنّهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.
واختلف (٣) في تعيين أصحاب اليمين. فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: أولاد المسلمين، وقيل: الذين كانوا عن يمين آدم، وقيل: أصحاب الحق، وقيل: هم المعتمدون على الفضل دون العمل، وقيل: هم الذين
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٤٠ - ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ في محل رفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم في جنّات لا يكتنه كنهها، ولا يوصف وصفها، كما دل عليه التنكير. والمراد أن كلا منهم ينال جنة منها. والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا واقعًا في جواب سؤال نشأ مما قبله، كأنّه قيل: ما بال أصحاب اليمين؟ فقيل: هم في جنات. ويجوز أن يكون ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ حالًا من ﴿أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾، وأن يكون حالًا من فاعل ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾، وأن يكون ظرفا لـ ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾. وقوله: ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ يجوز أن يكون على بابه فيكون قوله: ﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)﴾ متعلقًا بـ ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي: يسأل بعضهم بعضًا عن أحوال المجرمين. ويجوز (١) أن يكون تفاعل هنا بمعنى فعل،
٤١ - و ﴿عَنِ﴾ في قوله: ﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)﴾ زائدة؛ أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم. وقد حذف المسؤول لكونه عين المسؤول عنه ولدلالة ما بعده عليه. ويروى: "أنّ الله يطلع أهل الجنة، وهم في الجنة حتى يروا أهل النار، فيسألونهم.
٤٢ - وقوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾ مقول لقول قدر وقع حالًا مقدرة من فاعل يتساءلون؛ أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم حال كونهم قائلين لهم أي شيء أدخلكم في سقر؟ وأيُّ شيء كان سببًا لدخولكم فيها؟. من سلكت الخيط في الإبرة سلكًا، أي: أدخلته فيها، فهو من السلك بمعنى الإدخال لا من السلوك بمعنى الذهاب. فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك؟
قلت: توبيخًا لهم وتحسيرًا ولتكون حكاية الله سبحانه ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقرأ أبو عمرو "سلكّم" بإدغام الكاف في الكاف، والباقون بالفكّ.
والمعنى: أي (٢) هم في غرفات الجنات يسألون المجرمين، وهم في الدركات قائلين لهم: ما الذي أدخلكم في سقر؟
٤٣ - فأجابوهم: بأنّ هذا العذاب كان لأمور أربعة:
١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المجرمون مجيبين للسائلين ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ للصلوات الواجبة، فعدم إقرارنا بفرضيّة الصلاة وعدم أدائها سلكنا فيها. أصله:
(٢) المراغي.
والمعنى: أي لم نكن في الدنيا من المؤمنين الذين يصلّون لله؛ لأنّا لم نكن نعتقد بفرضيّتها.
٢ - ٤٤ ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)﴾؛ أي: ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا المتصدّقين عليهم بما تجود به نفوسنا، وهو على معنى استمرار نفي الإطعام لا على نفي استمرار الإطعام. والمراد أيضًا لإطعام للواجب كالزكاة والكفّارة والنذر، وإلاّ فما ليس بواجب من الصلاة والإطعام لا عذاب على تركه، وكانوا يقولون: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾. فكانوا لا يرحمون المساكين بالإطعام، ولا يحضّون عليه أيضًا. ففيه (١) ذمّ للبخل، ودلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة في الآخرة. قال في "التوضيح": الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات إجماعًا، أمّا العبادات فهم مخاطبون بها في حق المؤاخذة في الآخرة اتفاقًا أيضًا لقوله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾ الآيات، أمّا في حق وجوب الأداء فمختلف فيه. قال العراقيّون من مشايخنا: نعم، وقال مشايخ ديارنا: لا. وفي بعض التفاسير: وللحنفيّ أن يقول: هذا إنما هو تأسّف منهم على تفريطهم في كسب الخير وحرمانهم مما ناله المصلّون، والمزكّون من المؤمنين، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا مأمورين بالعمل قبل الإيمان.
٣ - ٤٥ ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ﴾ ونشرع في الباطل ﴿مَعَ الْخَائِضِينَ﴾؛ أي: مع الشارعين فيه. والمراد بالباطل ذمّ النبي - ﷺ - وأصحابه رضي الله عنهم وغيبتهم، وقولهم: بأنّه شاعر أو ساحر أو كاهن أو غير ذلك، والطعن في القرآن وقولهم هو سحر أو شعر أو كهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل. والخوض في الأصل: الشروع مطلقًا في أيّ شيء كان، ثم غلب في العرف بمعنى الشروع في الباطل والقبيح وما لا ينبغي. وفي الحديث: "أكثر الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في معصية الله".
٤ - ٤٦ ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)﴾؛ أي: بيوم الجزاء. أضافوه إلى الجزاء مع أنّ فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له، لأنه أدهاها وأنهم ملابسوه، وقد مضت
٤٧ - حسبما ينطق به قولهم: ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧)﴾؛ أي: الموت ومقدّماته، فإنه أمر متيقن لا شك في إتيانه، كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)﴾. أو حتى علمنا صحة ذلك عيانًا بالرجوع إلى الله في الدار الآخرة.
فان قلت: أيريدون أن كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟
قلت: يحتمل الأمران جميعًا كما في "الكشاف".
٤٨ - ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)﴾؛ أي: لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين كما تنفع المؤمنين؛ أي: لو قدّر اجتماعهم على شفاعتهم على سبيل فرض المحال لا تنفعهم تلك الشفاعة، فليس المراد أنّهم يشفعون لهم فلا تنفعهم شفاعتهم؛ إذ الشفاعة يوم القيامة موقوفة على الإذن، وقابليّة المحل، فلو وقعت من المأذون للقابل قبلت، والكافر ليس بقابل لها، فلا إذن في الشفاعة له فلا شفاعة، ولا نفع في الحقيقة. وفيه دليل على صحة الشفاعة ونفعها يومئذٍ لعصاة المؤمنين، وإلا لما كان لتخصيصهم بعدم منفعة الشفاعة وجه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: تشفع الملائكة والنبيّون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣)﴾ إلى قوله: ﴿بِيَوْمِ الدِّينِ﴾.
٤٩ - ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)﴾؛ أي: فأيّ شي حصل لهم معرضين عن القرآن. والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين. و ﴿مُعْرِضِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرًا لـ ﴿ما﴾ الاستفهامية، و ﴿عَنِ﴾ متعلّقة به؛ أي: فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأيّ شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه، وتأكد الدواعي للإيمان به.
والمعنى: أي أيّ شيء حصل لأهل مكة حال كونهم معرضين عن القرآن
٥٠ - ثمّ شبّههم في نفورهم عن القرآن بالحمر، فقال: ﴿كَأَنَّهُمْ﴾؛ أي: كأن هؤلاء المشركين في إعراضهم عن القرآن ﴿حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾؛ أي: حمر وحشية هاربة مما يفزعها. والجملة حال من الضمير المستكن في ﴿مُعْرِضِينَ﴾ على التداخل. والحمر: جمع حمار، وهو معروف، ويكون وحشيًّا، وهو المراد هنا.
وقرأ الجمهور ﴿حُمُرٌ﴾ بضمّ الميم، والأعمش بإسكانها. ومستنفرة بمعنى نافرة هاربةً، من نفرت الدابّة إذا هربت، لا من نفر الحاج، يقال: نفر واستنفر بمعنى هرب، مثل: استعجب بمعنى عجيب. وقرأ الجمهور (١) ﴿مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ بكسر الفاء؛ أي: نافرة، ويناسب الكسر قوله ﴿فَرَّتْ﴾. وقرأ نافع وابن عامر بفتحها؛ أي: منفّرة مذعورة، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال في "الكشاف": المستنفرة: الشديدة النفار والهرب كأنّها تطلب النفار من نفوسها بسبب أنهم جمعوا نفوسهم للنفار، وحملوها عليه. فأبقى السين على بابها من الطلب.
والمعنى: حال كونهم مشبهين في إعراضهم عن القرآن بحمر نافرة
٥١ - ﴿فَرَّتْ﴾ وهربت ﴿مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ أي: من أسد أو من الرماة لها للاصطياد؛ لأنّ الوحشة إذا عاينت الأسد تهرب أشدّ الهرب، ومثل القسورة الحيدرة وزنا ومعنى وهي فَعْولَةٌ من القسر، وهو القهر والغلبة؛ لأنه يغلب السباع ويقهرها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: القسورة هو الأسد بلسان الحبشة، كذا قاله عطاء والكلبي. وقيل: القسورة هي جماعة الرماة الذين يتصيّدونها، ويرمونها، وهو جمع قسور، وهو الرمي، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان. وقيل: القسورة: أصوات الناس. وقيل: القسورة أوّل الليل؛ أي: فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة وابن الأعرابي. والتفسير الثاني أولى.
شبهوا (٢) في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمرٍ جدّت في نفارها مما أفزعها، وفيه من ذمهم وتهجين حالهم، ما لا يخفى.
(٢) روح البيان.
والمعنى: كأن هؤلاء المشركين في فرارهم من محمد - ﷺ - ومن استماع القرآن حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويعقرونها لصيدها وافتراسها.
٥٢ - ثم بين أنهم بلغوا في العناد حدّا لا يقبله عقل ولا يستسيغه ذو نفس حاسّة، فقال: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ معطوف على مقدّر يقتضيه المقام، كأنّه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة، ولا يرضون بها عنادًا ومكابرةً، بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ، وذلك أنهم؛ أي: أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأصحابهما قالوا لرسول الله - ﷺ -: لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، أو يصبح عند رأس كل رجل منا أوراق منشورة عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها باتباعك؛ أي: بأن يقال: أَتبع محمدًا فإنه رسول من قبلي إليك، كما قالوا: ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾. والمرء: الإنسان أو الرجل، ولا يجمع من لفظه. والصحف: جمع صحيفة، وهي الكتاب. والمنشرة: المنشورة المفتوحة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿صُحُفًا﴾ بضم الصاد والحاء. وقرأ سعيد بن جبير بإسكان الحاء. وقرأ الجمهور ﴿مُنَشَّرَةً﴾ بالتشديد، وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف، من نشّر وأنشر، مثل: نزَّل وأنزل.
والمعنى: أي هم قد بلغوا في العناد حدًّا لا تجدي معهم فيه التذكرة، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيّه - ﷺ -.
٥٣ - ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة، وزجرهم فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم وزجر عن اقتراحهم الآيات وإرادتهم ما أرادوه، فإنهم إنما اقترحوها تعنّتًا وعنادًا لا هدى ورشادًا؛ أي: فهم لا يؤتونها. وقيل: ﴿كَلَّا﴾ بمعنى حقًّا. ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح، فقال: ﴿بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾؛ أي: عذاب الآخرة
والمعنى (١): أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم، وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافون أهوالها. ومن ثم أعرضوا عن التأمل في تلك المعجزات الكثيرة، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية في الدلالة على صدق دعوى محمد - ﷺ - للنبوة، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوغ له. وقرأ الجمهور ﴿يَخَافُونَ﴾ بياء الغيبة، وأبو حيوة بتاء الخطاب التفاتًا.
٥٤ - ثم وبّخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة ﴿إِنَّهُ﴾ الضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ وفي ﴿ذَكَرَهُ﴾؛ للتذكرة؛ لأنها بمعنى الذكر أو القرآن كالموعظة بمعنى الوعظ والصيحة بمعنى الصوت. ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ بليغة كافية. فالتنوين فيه للتعظيم. وفي "برهان القرآن" أي: تذكير للحق، وعدل إليها للفاصلة؛ أي: ليس الأمر كما يقول المشركون في هذا القرآن من أنه سحر يؤثر، بل هو تذكرة من الله لخلقه، ذكّرهم به، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكرًا ولا معرفًا.
٥٥ - ثم ما ذكر هو كالنتيجة لما سلف، فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ من عباده أن يذكره، ولا ينساه، ويتعظ به قبل حلوله في رمسه. ﴿ذَكَرَهُ﴾؛ أي: جعله نصب عينيه، وحاز بسببه سعادة الدارين، فإنه ممكن من ذلك.
٥٦ - ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه، فقال: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾ بمجرد مشيئتهم للذكر، كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥)﴾، إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله. وضمير (٢) الجمع إمّا أن يعود إلى الكفرة؛ لأنّ الكلام فيهم أو إلى ﴿مَن﴾ الموصولة نظرًا إلى عموم المعنى لشموله لكلّ من المكلّفين.
وقرأ نافع وسلام ويعقوب ﴿تذكرون﴾ بتاء الخطاب ساكنة الذال، وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج ﴿يَذْكُرُونَ﴾ بالياء. وروي عن
(٢) المراغي.
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ استثناء مفرغ من أعم العلل أو من اعم الأحوال؛ أي: وما يذكرون لعلة من العلل، أو في حال من الأحوال إلا بأن يشاء الله أو حال أن يشاء الله ذكرهم. وهذا تصريح بأنّ أفعال العبد بمشيئة الله لا برادة نفسه.
والمعنى (١): أي وما يذكرون هذا القرآن، ولا يتعظون بعظاته، ويعملون بما فيه، إلا أن يشاء الله أن يذكروه، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا إلا أن يعطيه الله القدرة على فعله؛ إذ لا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء، كما قال سبحانه: وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَهْلُ التَّقْوَى﴾؛ أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه، والعمل بطاعاته؛ أي: حقيق بأن يتّقى عقابه ويؤمن به ويطاع. فالتقوى مصدر من المبنيّ للمفعول. ﴿وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾؛ أي: وهو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم. وقيل: هو أهل أن تُتَّقى محارمه، وأهل أن يغفر لمن اتقاه.
وعن أنس رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله - ﷺ - قرأ هذه الآية، فقال: "قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهًا، فأنا أهل أن أغفر له". أخرجه أحمد، والدارميّ، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث غريب، وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي، وليس بالقوي في الحديث، وقد تفرّد به عن ثابت، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)﴾.
﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، وفيها معنى التسبّب والعلّة، كأنّه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه مغبّة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك. ﴿إذا﴾
{كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر له لقطع رجائه وطمعه وتهالكه، ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الردع والزجر، واسم ﴿كَانَ﴾ ضمير يعود على الوليد بن المغيرة، ﴿لِآيَاتِنَا﴾ متعلق بـ ﴿عَنِيدًا﴾، و ﴿عَنِيدًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿سَأُرْهِقُهُ﴾ السين: حرف استقبال، ﴿أرهقه﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول، ﴿صعُوًدا﴾ مفعول ثاني لتضمين ﴿أرهقه﴾ معنى أكلّفه. والصعود في اللغة: العقبة الشاقّة. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿فَكَّرَ﴾ خبره، ﴿وَقَدَّرَ﴾ معطوف على ﴿فَكَّرَ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الإرهاق، ﴿فَقُتِلَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قتل﴾ فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعل مستتر، تقديره. هو، معناه: لعن. والجملة معطوفة على ﴿فَكَّرَ﴾. ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل ﴿قَدَّرَ﴾، ﴿قَدَّرَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة جملة تعجبية لا محل لها من الإعراب، والمقصود من هذا الاستفهام توبيخه والاستهزاء به والتعجيب من تقديره. ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، وأتى بها للدلالة على أنَّ هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى، فهي للتفاوت في الرتبة، وهي مؤكّدة لنظيرتها المتقدمة، فالتكرار للتأكيد، ﴿قُتِلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل مستتر معطوف على نظيرتها المتقدمة، وجملة ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ مؤكدة أيضًا لنظيرتها المتقدمة، فتلخص أن جملتي ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ متحدتان، وإنما كرر للتأكيد.
﴿ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب ﴿نَظَرَ﴾ فعل ماض وفاعل مستر، معطوف على ما قبله، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف، ﴿عَبَسَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ما قبله، ﴿وَبَسَرَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ﴿عَبَسَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب، ﴿أَدبَرَ﴾ فعل ماض، معطوف على ﴿عَبَسَ﴾، ﴿وَاسْتَكْبَرَ﴾ معطوف على ﴿أَدْبَرَ﴾، ﴿فَقَالَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿قال﴾ فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿هَذَا﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿سِحْرٌ﴾ خبر، وجملة ﴿يُؤْثَرُ﴾ صفة لـ ﴿سِحْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿إِنْ﴾ نافية، ﴿هَذَا﴾
﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾ نافية، ﴿جَعَلْنَا﴾ فعل وفاعل، ﴿أَصْحَابَ النَّارِ﴾ مفعول أول ومضاف إليه، ﴿إلا﴾ أداة حصر، ﴿مَلَائِكَةً﴾ مفعول ثان، والجملة مستأنفة، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول
﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾.
﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد لام كي، معطوف على ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾، ﴿في قُلُوبِهِم﴾ خبر مقدم، ﴿مَرَضٌ﴾ مبتدأ مؤخّر، والجملة صلة الموصول، ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ معطوف على الموصول، ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿ذا﴾ اسم موصول في محل الرفع خبر، وجملة ﴿أَرَادَ اللَّهُ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: أراده الله. والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾، ﴿بِهَذَا﴾ متعلق بـ ﴿أَرَادَ﴾، ﴿مَثَلًا﴾ تمييز لـ ﴿هذا﴾.
﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ صفة لمصدر محذوف، والتقدير: يضلّ الله إضلالًا مثل ذلك، ﴿يُضِلُّ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: من يشاء إضلاله، ﴿وَيَهْدِي﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يُضِلُّ﴾، ﴿مَن﴾ مفعول به، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلته، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾ نافية، ﴿يَعْلَمُ﴾ فعل
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾.
﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ مبتدأ ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿رَهِينَةٌ﴾، وجملة ﴿كَسَبَتْ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ هو الموصولة، ﴿رَهِينَةٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، ﴿أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ مستثنى متصل، أو منقطع على الخلاف المذكور عندهم، منصوب، ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ حال من ﴿أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم كائنون في جنات، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة إما حال
﴿قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَمْ نَكُ﴾ ﴿لَمْ﴾ حرف نفي وجزم، ﴿نَكُ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه السكون الظاهر على النون المحذوفة للتخفيف؛ لأنّها تحذف من مضارع كان المجزوم لكثرة استعمالها إذا لم يلها ساكن، واسمها ضمير مستتر تقديره: نحن. ﴿مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ خبرها، والجملة الناسخة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾، ﴿وَلَمْ نَكُ﴾ جازم وفعل ناقص واسمه المستتر، وجملة ﴿نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ من الفعل والفاعل المستتر والمفعول في محل النصب خبر ﴿نكون﴾، وجملة ﴿نكون﴾ في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَكُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿نَخُوضُ﴾ خبره، والجملة الناقصة معطوفة على ما قبلها أيضًا، ﴿مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ مع ظرف زمان باعتبار التكلم متعلق بـ ﴿نَخُوضُ﴾، ﴿الْخَائِضِينَ﴾ مضاف إليه، ﴿وَكُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، معطوف على ما تقدم، وجملة ﴿نُكَذِّبُ﴾ خبره، ﴿بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ متعلق بـ ﴿نُكَذِّبُ﴾، ﴿حَتَّى﴾ حرف جرّ وغاية، والغاية للأمور الأربعة الآنفة، ﴿أَتَانَا﴾ فعل ماض ومفعول به مقدم في محل النصب بأن المضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة، ﴿الْيَقِينُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية مع أنْ المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: إلى إتيان اليقين والموت إيّانا، الجار والمجرور تنازع فيه كل من الأكوان الأربعة السابقة. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ما﴾ نافية، ﴿تَنْفَعُهُمْ﴾ فعل مضارع ومفعول به، ﴿شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ فاعل، ومضاف إليه والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿ما﴾ اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَهُمْ﴾ خبر لـ ﴿ما﴾ الاستفهامية، ﴿عَنِ التَّذْكِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿مُعْرِضِينَ﴾، و ﴿مُعْرِضِينَ﴾ حال من ضمير ﴿لهم﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿حُمُرٌ﴾ خبره، ﴿مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ صفة لـ ﴿حُمُرٌ﴾، والجملة التشبيهية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿مُعْرِضِينَ﴾ فهي حال متداخلة، ﴿فَرَّتْ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿حُمُرٌ﴾، ﴿مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ متعلق بـ ﴿فَرَّتْ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿حُمُرٌ﴾. ﴿بَل﴾ حرف إضراب وانتقال عن محذوف، هو جواب الاستفهام السابق، كأنّه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال؛ أي: لا سبب لهم في الإعراض بل يريد إلخ. ﴿يُرِيدُ﴾ فعل مضارع، ﴿كُلُّ امْرِئٍ﴾ فاعل، ومضاف إليه، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة ﴿امْرِئٍ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿أَن﴾ حرف نصب، ﴿يُؤْتَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ امْرِئٍ﴾، ﴿صُحُفًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿يُؤْتَى﴾، ﴿مُنَشَّرَةً﴾ صفة ﴿صُحُفًا﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب، على أنه مفعول به لـ ﴿يُرِيدُ﴾، تقديره: بل يريد كلّ امرىء منهم إيتاء صحف منشرة.
﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)﴾.
﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر عن الإرادة المذكورة، ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وانتقال لبيان سبب هذا التعنت، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به والجملة الإضرابية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر عن الإعراض، ﴿إِنَّه﴾ ناصب واسمه؛ أي: القرآن. ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ خبره، والجملة مستأنفة. ﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مَن﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما ﴿شَاءَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، ومفعول ﴿شَاءَ﴾ محذوف تقديره: فمن شاء أن
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)﴾؛ أي: يا أيها الذي لبس الدثار، وهو ما فوق الشعار الذي يلي الجسد، وأصله: المتدثّر، أدغمت التاء بعد قلبها دالاًّ في الدال، كما مر في المزمل. ﴿قُمْ﴾ من مضجعك واترك التدثّر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له، وهو الإنذار اهـ خطيب.
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)﴾؛ أي: خصّص ربك بالتكبير والتعظيم عما لا يليق به من النقائص والشركاء. ﴿وَثِيَابَكَ﴾ الياء في ﴿ثيابك﴾ مبدلة من واو؛ لأن أصله: ثواب، فأبدلت الواو ياء لوقوعها إثر كسرة. ﴿وَالرُّجْزَ﴾ بكسر الراء وضمّها بمعنى وحد، يراد بهما الأصنام والأوثان. ﴿النَّاقُورِ﴾ فاعول من النقر، وهو الصوت كالجاسوس من التجسّس، والمراد به هنا الصور، وهو القرن. ﴿شُهُودًا﴾ جمع شاهد، مثل: قاعد وقعود، وشهده كسمعه: حضره؛ أي: بنين حضورًا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم، لا يفارقونه للتصرّف في عمل أو تجارة، كما مرّ.
﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤)﴾ التمهيد في الأصل: التسوية والتهيئة، ويتجوز به عن بسط المال والجاه. ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)﴾ أصله: أزيد بوزن أفعل، نقلت حركة الياء إلى الزاي فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مدّ. ﴿لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ يقال: عند إذا
﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢)﴾ ﴿عَبَسَ﴾ من باب جلس، وبسر من باب دخل كما في "المختار" فيهما. وفي "السمين": قوله: ثمّ عبس يعبس عبسا وعبوسًا؛ أي: قطب وجهه، "يقال: قطب بين عينيه إذا جمع، وبابه: ضرب وجلس". والعبس: ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول، ويقال: بسر يبسر بسرًا وبسورًا إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء، واسودّ وجهه، منه يقال: وجه باسر؛ أي: منقبض أسود، وأهل اليمن يقولون: بسر المراكب، وأبسر إذا وقف، وأبسرنا؛ أي: صرنا إلى البسور. وقال الراغب: البسر استعجال الشيء قبل أوانه، نحو: بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها، وماء بسر؛ أي: متناول من غدير قبل سكونه، ومنه: قيل للذي لم يدرك من الثمر بسر.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ يقال: أثرت الحديث أثره أثرًا إذا حدّث به عن قوم في آثارهم؛ أي: بعدما ماتوا، هذا هو الأصل ثمّ كان بمعنى الرواية عمّن كان، وحديث مأثور؛ أي: منقول ينقله خلف عن سلف، وأدعية ماثورة؛ أي: مروية عن الأكابر. ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦)﴾؛ أي: أدخله جهنم، لما قال في "الصحاح": سقر اسم من أسماء النار، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)﴾؛ أي: محرقة لظاهر الجلد، وهي بناء مبالغة، وفيها معنيان، كما مرّ أحدهما من لاح يلوح؛ أي: ظهر؛ أي: إنها تظهر للبشر، وثانيهما وهو الأرجح أنّها من لوّحه؛ أي: غيّره وسوّده. والبشر: جمع بشرة كثمر وثمرة، وهو ظاهر الجلد. ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أصله: يزتيد بوزن يفتعل، أبدلت تاء الافتعال دالًا وأبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أصله: يرتَيبْ بوزن يفتعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها
﴿لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ والكبر: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائه وألحقت بها، فكما جمعت فعلة على فعل كركبة وركب جمعت فعلى عليها، وإلا ففعلى لا تجمع على فعل، بل على فعالى كحبلى وحبالى. ﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦)﴾؛ أي: لبني آدم، سمّوا بشرًا لبدوّ بشرتهم؛ أي: خلوّها عن الشعر. ﴿بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ قال الراغب: ﴿رَهِينَة﴾ إنّه فعيل بمعنى فاعل؛ أي: ثابتة مقيمة. وقيل بمعنى مفعول؛ أي: كل نفس مقامة في جزاء ما قدّم من عملها، ولما كان الرهن يتصور من حبسه أستعير ذلك للمحتبس أي شيء كان. ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩)﴾ سمّوا بهم؛ لأنهم يأخذون كتبم بأيمانهم. ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾ من سلكت الخيط في الإبرة سلكًا؛ أي: أدخلته فيها، فهو من السلك بمعنى الإدخال، لا من السلوك بمعنى الذهاب. ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أصله: نكون، هذا قبل نقل حركة الواو إلى الكاف؛ لأنّ الأصل:
وَمِنْ مُضَارعِ لِكَانَ مُنْجَزِمْ | تُحْذَفُ نُوْنٌ وَهْوُ حَذْفٌ مَا التُزِمْ |
﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾؛ أي: من أسد، وهي فعولة من القسر، وهو القهر والغلبة؛ لأنّه يغلب السباع ويقهرها. ﴿كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ﴾ قال في "القاموس": المرء مثلثة الميم: لا الإنسان أو الرجل، ولا يجمع من لفظه، ومع ألف الوصل ثلاث لغات: فتح الراء دائمًا وضمها دائمًا وكسرها دائمًا. ﴿صُحُفًا﴾ جمع صحيفة بمعنى الكتاب. ﴿مُنَشَّرَةً﴾؛ أي: منشورة؛ أي: غير مطوية؛ أي: طرية لم تطو بل تأتينا وقت كتابتها، وهذا من زيادة تعنّتهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨)﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿عَسِيرٌ﴾ و ﴿يَسِيرٍ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤)﴾.
ومنها: تقديم الجارّ على متعلقه في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ للدلالة على التخصيص، فتخصيص العناد بها مع كونه تاركًا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧)﴾؛ لأن الصعود حقيقة في العقبة الشاقّة المصعد فاستعير لكل مشاق.
ومنها: الإطناب بتكرار الجملة في قوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)﴾ لإفادة التأكيد والمبالغة في التشنيع.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)﴾؛ لأنه تأكيد لما قبله، ولذلك خلي من العاطف.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧)﴾ لإفادة التهويل والتفظيع منها.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، لأنّه تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، فإن نفي ضد الشيء بعد إثبات وقوعه أبلغ في الإثبات كما مرّ.
ومنها: التعبير عن الذين آمنوا باسم الفاعل في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة من الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وبين ﴿يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾.
ومنها: المقابلة بين ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣)﴾، وبين ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤)﴾.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ تفخيمًا لشأنها بأنها بلغت غاية لا يكتنه كنهها ولا يوصف وصفها.
ومنها: تأخير قوله: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)﴾ عمّا قبله مع كونه أعظم جناياتهم؛ إذ هو تكذيب بالقيامة وإنكارها كفر، والأمور الثلاثة المتقدمّة فسق لتفخهيم هذه الجناية، وللترقّي من القبيح إلى الأقبح، ولبيان كون تكذيبهم به مقارنًا لسائر جناياتهم المعدودة قبله مستمرًّا إلى آخر عمرهم، كما مرّ.
ومنها: أسلوب التقريع والتوبيخ بطريق الاستفهام في قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)﴾.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾، حيث شبههم بالحمر المستنفرة في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه.
وفي ذلك مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل، ولا توى مثل نفار حمار الوحش وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.
ومنها: الإيجاز بحذف بعض الجمل في قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾؛ أي: قائلين لهم: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾، فحذف اعتمادًا على فهم المخاطبين.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)﴾ تعظيمًا لشأنه وتفخيمًا له؛ أي: كلّا إن هذا القرآن تذكرةٌ بليغةٌ كافيةٌ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
١ - وصفه - ﷺ - بالتدثّر، وأمره بالإنذار والتكبير والطهارة واجتناب الأوثان والصبر.
٢ - التصريح بعسر يوم القيامة على الكافرين، والتعريض بيسره على المؤمنين.
٣ - ذكر قصة الوليد بن المغيرة مع النبي - ﷺ - وتهديده بعذاب سقر.
٤ - ذكر كون أصحاب النار المدبرين لها ملائكة وبيان عدتهم.
٥ - جعل عدتهم فتنة للكافرين وزيادة لايمان المؤمنين.
٦ - بيان كون الإضلال والهداية بيد الله سبحانه وتعالى.
٧ - بيان كثرة جنود الله تعالى حتى لا يعلم عدّتهم أحد إلا الله سبحانه.
٨ - بيان قسمه سبحانه بما شاء من مخلوقاته.
٩ - بيان كون كلّ نفس مرهونة بعملها.
١٠ - بيان تساؤل أصحاب اليمين عن أحوال المجرمين توبيخًا لهم مع بيان جواب المجرمين عن سؤالهم.
١١ - تشبيه المجرمين بالحمر المستنفرة في إعراضهم عن القرآن وشرادهم عن استماعه.
١٢ - بيان أن الشفاعة لا تنفع الكافرين.
١٣ - بيان أن القرآن تذكرة لمن ذكره (١).
والله أعلم
* * *
سورة القيامة مكّية بلا خلاف، نزلت بعد سورة القارعة. وأخرج (١) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة القيامة وفي لفظ سورة لا أقسم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: أنزلت سورة لا أقسم بمكة.
وآيها: تسع وثلاثون أو أربعون آية. وكلماتها (٢): مئة وتسع وتسعون كلمة. وحروفها: ستّ مئة واثنان وخمسون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها (٣): أنه ذكر في السورة السابقة قوله: ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)﴾، وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه، فوصف يوم القياة وأهواله وأحواله. ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن، ثمّ ما قبل ذلك من مبدأ الخلق.
عبارة أبي حيان (٤): مناسبتها لما قبلها: أنَّ في ما قبلها ﴿كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)﴾، وفيها كثير من أحوال القيامة، فذكر هنا يوم القيامة وجملًا من أحوالها انتهى.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم: سورة القيامة جميعها محكم إلا قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)﴾، نسخ معناها لا لفظها بقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾ الآية (٦) من سورة الأعلى اهـ.
والله أعلم
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠)﴾.المناسبة
تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، ثم اعْلمْ أن الله سبحانه أقسم بعظمة القيامة، وبالنفس الطموحة إلى الرقي الجانحة إلى العلوّ التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها، ولا إلى حال إلا أحبّت ما تلاها. إن هناك حالًا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها في عالم أكمل من هذا العالم عالم السعادة الروحية للمطيعين، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين. وهذا القسم، وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل، فهم كانوا يقسمون بالأب والقمر والكعبة ونحو ذلك.
قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن
ثم عاد إلى ذكر السبب في إنكار البعث، وهو حب بني آدم للعاجلة وتركهم للآخرة، ثم ذكر ما يكون في ذلك اليوم من استبشار المؤمنين، وبسور المشركين، وملاقاتهم للشدائد والأهوال، وظنّهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم.
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لمّا ذكر أحوال يوم القيامة، وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء. بين أن الدنيا لها نهاية ونفاد، ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة في الدنيا، فلا هو صدق بأوامر دينه، ولا هو أدّى فرائضه، ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:
١ - أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيّئها، وثواب كل عامل بما يستحق، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جلّ وعلا.
٢ - أنّه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منى يمنى فأهون عليه أن يعيده خلقًا آخر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما روي أن عدي بن أبي ربيعة سأل رسول الله - ﷺ - عن يوم القيامة متى يكون؟ وما حاله وما أمره؟. فأخبره به فقال: لو عاينت ذلك اليوم.. لم أصدّقك، ولم أومن بك، أو يجمع الله هذه العظام. فنزلت هذه الآيات، ولهذا كان النبيّ - ﷺ - يقول: "اللهم اكفني شر جاري السوء" يعني: عديَّ بن ربيعة والأخنس بن شريق".
قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن