تفسير سورة فاطر

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

رَوَى عكرمة قال :" ذُكِرَ عند ابن عباس بقطع الصلاة الكلب والحمار، فقرأ :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالحِ يَرْفَعُهُ ﴾ فما الذي يقطع هذا ! ".
ورَوَى سالم عن سعيد بن جبير :" الكَلِمُ الطيب يرفعه العملُ الصالح ".
قوله تعالى :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتَابٍ ﴾ ؛ رُوي عن الحسن والضحاك قالا :" ما يعمر من معمّر ولا ينقص من عمر معمِّر آخر ".
وقال الشعبي :" لا ينقص من عمره لا ينقضي ما ينقص منه وقتاً بعد وقت وساعة بعد ساعة "، والعمر هو مدة الأجل التي كتبها الله لخلقه فهو عالم بما ينقص منها بمضيّ الأوقات والأزمان.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ ؛ الحِلْيَةُ ههنا اللؤلؤ وما يُتَحَلَّى به مما يخرج من البحر.
واختلف الفقهاء في المرأة تحلف أن لا تلبس حُلِيّاً، فقال أبو حنيفة :" اللؤلؤ وحده ليس بحُليّ إلا أن يكون معه ذهب، لقوله تعالى :﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ﴾ [ الرعد : ١٧ ]، وهذا في الذهب دون اللؤلؤ إذ لا توقد عليه ". وقوله :﴿ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ إنما سمّاه حلية في حال اللبس، وهو لا يلبس وحده في العادة إنما يلبس مع الذهب، ومع ذلك فإن إطلاق لفظ الحلية عليه في القرآن لا يوجب حمل اليمين عليه، والدليل عليه قوله :﴿ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ وأراد به السمك ؛ ولو حلف أن لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث، وكذلك قوله :﴿ وجعل الشمس سراجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ] ومَنْ حلف لا يقعد في سراج وقعد في الشمس لا يحنث.
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ﴾ فيه الإبانة عن فضيلة العلم وأن به يُتَوصَّل إلى خشية الله وتقواه ؛ لأن من عرف توحيد الله وعدله بدلائله أوصله ذلك إلى خشية الله وتقواه، إذ كان من لا يعرف الله ولا يعرف عدله وما قصد له بخلقه لا يخشى عقابه ولا يتقيه ؛ وقوله في آية آخرى :﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾ [ المجادلة : ١١ ]، وقال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ﴾ إلى قوله :﴿ ذلك لمن خشي ربه ﴾ [ البينة : ٨ ]، فأخبر أن خير البرية من خشي ربه، وأخبر في الآية أن العلماء بالله هم الذين يخشونه، فحصل بمجموع الآيتين أن أهل العلم بالله هم خير البَرِيَّةِ وإن كانوا على طبقات في ذلك. ثم وصف أهل العلم بالله الموصوفين بالخشية منه فقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ فكان ذلك في صفة الخاشعين لله العاملين بعلمهم ؛ وقد ذكر في آية أخرى المعرض عن موجب علمه فقال :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴾ [ الأعراف : ١٧٥ و ١٧٦ ] إلى آخر القصة ؛ فهذه صفة العالم غير العامل، والأوّل صفة العالم المتقي لله. وأخبر عن الأولين بأنهم واثقون بوعد الله وثوابه على أعمالهم بقوله تعالى :﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ ﴾. رَوَى بعض السلف قال : من شأن المؤمن الحزن في الدنيا ألا تراهم حين يدخلون الجنة يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ؟.
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ " ؛ قيل لبعض النساك : ما بال أكثر النساك محتاجين إلى ما في يد غيرهم ؟ قال : لأن الدنيا سجن المؤمن، وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾.
رُوي عن ابن عباس ومسروق أن العمر الذي ذكّر الله به أربعون سنة.
وعن ابن عباس رواية وعن عليّ :" ستّون سنة ". وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال : أخبرني رجل من غِفَار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَقَدْ أَعْذَرَ الله عَبْداً أَحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، لَقَدْ أَعْذَرَ الله إِلَيْهِ لَقَدْ أَعْذَرَ الله إِلَيْهِ ". وحدثنا عبدالله قال : حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن أبي خيثم عن مجاهد عن ابن عباس قال :" العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة ". وبإسناده عن مجاهد مثله من قوله.
قوله تعالى :﴿ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ ؛ روى عن بعض أهل التفسير أن النذير محمد صلى الله عليه وسلم، ورُوي أنه الشيب. قال أبو بكر : ويجوز أن يكون المراد النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما أقام الله من الدلائل على توحيده وتصديق رسله ووعده ووعيده وما يحدث في الإنسان من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له، فيكون حَدَثاً شابّاً ثم كَهْلاً ثم شيخاً، وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغناء وفرح وحزن، ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صُنْعَ للمخلوقين فيها ؛ وكل ذلك دَاعٍ له إلى الله ونذير له إليه كما قال :﴿ أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ]، فأخبر أن في جميع ما خلق دلالة عليه ورادّاً للعباد إليه.
Icon