تفسير سورة المطفّفين

زاد المسير
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة المطففين وفيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها مكية، قاله ابن مسعود، والضحاك، ويحيى بن سلام.
والثاني : مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلا أن ابن عباس، وقتادة قالا : فيها ثمان آيات مكية، من قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ﴾ [ المطففين : ٢٩ ] إلى آخرها. وقال مقاتل : فيها آية مكية، وهي قوله تعالى :﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتنا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ المطففين : ١٣ ].
والثالث : أنها نزلت بين مكة، والمدينة، قاله جابر بن زيد، وابن السائب، وذكر هبة الله ابن سلامة المفسر أنها نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة، نصفها يقارب مكة، ونصفها يقارب المدينة.

سورة المطفّفين
وفيها ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنها مكّيّة، قاله ابن مسعود، والضّحّاك، ويحيى بن سلام.
والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلّا أنّ ابن عباس، وقتادة قالا:
فيها ثمان آيات مكيّة، من قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا «٢» إلى آخرها. وقال مقاتل: فيها آية مكّيّة، وهي قوله عزّ وجلّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «٣». والثالث: أنها نزلت بين مكّة، والمدينة، قاله جابر بن زيد وابن السّائب، وذكر هبة الله بن سلامة المفسّر أنها نزلت في الهجرة بين مكّة والمدينة، نصفها يقارب مكّة، ونصفها يقارب المدينة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
(١٥١٧) قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقال السّدّيّ: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية «٤». وقد شرحنا معنى «الويل» في البقرة «٥» قال ابن قتيبة:
المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن مملوءاً. وقال الزّجّاج: إنما قيل: مطفّف،
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٧٤ وابن ماجة ٢٢٢٣ والحاكم ٢/ ٣٣ والطبري ٣٦٥٧٧ والواحدي ٨٤٨ من حديث ابن عباس، وإسناده حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح، وقد صححه السيوطي في «الدر» ٦/ ٥٣٦. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ٢٢٦٦.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٧١: سورة المطففين مدنية.
(٢) المطففين: ٢٩.
(٣) المطففين: ١٣.
(٤) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٥٠ بدون إسناد عن السدي، فهو لا شيء. وقال الحافظ في «تخريجه» ٤/ ٧١٨: لم أجده.
(٥) البقرة: ٧٩.
لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين. قال الفراء: «على»، و «من» يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك كيلا، وإذا قلت: اكتلت منك كيلا، فهو كقولك: استوفيت منك. قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا، ولم يَذْكُرْ «إذا اتَّزنوا»، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر وَإِذا كالُوهُمْ أي: كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: وزنوا لهم يُخْسِرُونَ أي: ينقصون في الكيل، والوزن.
فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا»، ومِنَ الناس من يجعل «هم» توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار الأول. قال الفراء: سمعت أعرابية تقول:
إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل.
قوله عزّ وجلّ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟! قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني به يوم القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ اليوم منصوب بقوله عزّ وجلّ «مبعوثون». قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين. ومعنى يقوم الناس، أي: من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه. وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء.
(١٥١٨) وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه». وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل: وذلك إذا أخرجوا من قبورهم.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا. وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء. وكان أبو حاتم يقول: «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا»
صحيح. أخرجه البخاري ٤٩٣٨ والبغوي في «التفسير» من طريق إبراهيم بن المنذر به. وأخرجه مسلم ٢٨٦٢ من طريق معن به. وأخرجه الطبراني ٣٠/ ٩٤ من طريق مالك به. وأخرجه البخاري ٦٥٣١ ومسلم ٢٨٦٢ والترمذي ٢٤٢٢ وابن ماجة ٤٢٧٨، وأحمد ٢/ ١٠٥ و ١٢٥ وابن أبي شيبة ١٣/ ٢٣٣ وابن حبان ٧٣٣١ والطبري ٣٦٥٨٥ و ٣٦٥٨٩ والبغوي ٤٢١١ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٤٤٢ من طرق عن نافع به.
414
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل. وروي عن مجاهد قال: «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة، جعل كتاب الفاجر تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم. والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن. والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة.
والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ هذا تعظيم لأمرها. وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
قال ابن قتيبة: والرّقم: الكتاب. قال ابن ذؤيب «١» :
عرفت الدّيار كرقم الدّواة يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
وأنشده الزجاج: «يَذْبِرها» بالذال المعجمة، وكسر الباء. قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت- بالزاي- كتبت.
وذبرت- بالذال- أتقنت ما حفظت. قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم. وقال ابن قتيبة: يروى «يزبرُها» و «يذبرُها» وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويذبره. وذَبره يذبرُه، ويذبِره. وقال قتادة:
رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به.
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا منتظم بقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ، وما بينهما كلام معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «بل ران» بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة بكسر الراء.
وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء وقرأ حمزة والكسائيّ بإدغام اللام بكسر الراء، قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم يقال: الخمر ترين على عقل السكران. قال الزجاج:
قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى. ويقال: ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول:
الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن كَلَّا بَلْ رانَ.
(١٥١٩) وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب «بالغين»، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما. قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم. قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب.
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٠٢ وأبو داود ١٥١٥ وأحمد ٤/ ٢٦٠ والنسائي في «اليوم والليلة» ٤٤٢ وابن حبان ٩٣١ من حديث الأغرّ المزني بزيادة «وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة». وانظر «تفسير القرطبي» ٥١٢.
__________
(١) البيت لأبي ذؤيب خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، «ديوان الهذليين» ١/ ٦٤.
415
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يصدِّقون. ثم استأنف إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يرونه بالرّضى «١». وقال الزّجّاج: وهذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يُرى في القيامة. ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يُقالُ أي: تقول خزنة النار: هذَا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ فقال عزّ وجلّ:
لَفِي عِلِّيِّينَ وفيها سبعة أقوال «٢» : أحدها: الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد. والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، وقال مقاتل: ساق العرش. والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك. والسادس:
أنه في علو وصعود إلى الله عزّ وجلّ قاله الحسن. وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ هذا تعظيم لشأنها.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.
قوله عزّ وجلّ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي: يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين. وما بعد هذا قد سبق بيانه «٣» إلى قوله عزّ وجلّ يَنْظُرُونَ ففيه قولان:
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون.
قوله عزّ وجلّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وقرأ أبو جعفر، ويعقوب «تُعرَف» بضم التاء، وفتح الراء «نضرةُ» بالرفع. قال الفراء: بريق النعيم ونداه. قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور. وفي «الرحيق» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال: أحدها: أجود
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٧٤: وهذا الذي قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة. اه.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥٧٤- ٥٧٥: أي مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم قال مؤكدا لما كتب لهم كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم الملائكة.
(٣) الانفطار: ١٣. [.....]
416
الخمر، قاله الخليل بن أحمد. والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش. والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل. والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة.
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن.
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزّجّاج.
وفي قوله عزّ وجلّ: مَخْتُومٍ ثلاثة أقوال: أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود. والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد. والثالث: أنه ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله عزّ وجلّ: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي عاقبته. هذا قول أبي عبيدة.
قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعه الميم. وقرأ الكسائي «خَاتَمه» بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعده تاء مفتوحة. وروى الشّيزري عنه «خَاتِمه» مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو العالية: «ختمه مسك» بفتح الخاء والتاء وبضمّ الميم من غير ألف. وللمفسرين في قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ أربعة أقوال: أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس. والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة. والرابع: أن آخر طعمه مسك، قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزّجّاج في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتنافس: كالتشاحّ على الشيء، والتّنازع فيه.
قوله عزّ وجلّ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه اسم عين في الجنة، قال ابن مسعود: وهي عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك. قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصبُّ عليهم انصباباً، فيشربون الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة.
ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو. وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور.
وهذا أعجب إليَّ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة:
كأنّ بريقتها للمزاج مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً
أراد: كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلاً. قال الزجاج: المعنى:
ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف. ف «عيناً» في هذا القول منصوبة، كما قال عزّ وجلّ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً «١». ويجوز أن تكون «عيناً» منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً، أي: من عين. وقد بينا معنى «يشرب بها» في «هل أتى» «٢».
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
(١) البلد: ١٤- ١٥.
(٢) الدهر: ٦.
417
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي: أشركوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم يَضْحَكُونَ على وجه الإستهزاء بهم وَإِذا مَرُّوا
يعني: المؤمنين بِهِمْ
أي: بالكفار يَتَغامَزُونَ
أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا يعني: الكُفار إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي: متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف. وقد شرحنا معنى القراءتين في «يس» «١» قوله: وَإِذا رَأَوْهُمْ أي: رأَوْا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يقول الله تعالى: وَما أُرْسِلُوا يعني الكفار عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم فَالْيَوْمَ يعني: في الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار. قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم فذلك قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ إليهم عذاب عدوِّهم. قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى.
قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام. أي: هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير.
(١) يس: ٥٥.
418
Icon