تفسير سورة الحجر

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وفيها من المعاني والآيات والعبر ما فيه بالغ الموعظة والمزدجر ؛ فقد تضمنت السورة الحديث عن خلق آدم من طين، وعن سجود الملائكة تكريما له وإذعانا لرب العالمين. وفيها من الحديث عن حال المؤمنين الذين فازوا بدخول الجنة، وحال الظالمين الذين هووا في النار ؛ ما يستوجب دوام الرجاء والدعاء أن يكتب الله السلامة والنجاة من العقاب، والفوز بالرضوان والجنة.
وفي السورة قصص عن بعض النبيين وأقوامهم المشركين كقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وقوم صالح وهم أصحاب الحجر. أولئك كانوا من الخاسرين الذين دمر الله عليهم في الدنيا أشد تدمير ثم أفضوا بعد ذلك إلى بئس المصير. وغير ذلك من المعاني والمواقف والحقائق والعبر التي تضمنها السورة مما فيه عظيم البلاغ والاعتبار.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ آلر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ( ١ ) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ( ٢ ) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ( ٣ ) ﴾ تقدم الحديث عن مثل هذه الحروف من فواتح بعض السور.
وأما الإشارة ( تلك ) فهي إلى ما تضمنته السورة من الآيات ؛ أي أن هذه الآيات هي آيات الكتاب، وآيات قرأن مبين. وبعبارة أخرى : فالمعنى هو أن هذه الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل وهو القرآن الواضح المستبين لكل متدبر معتبر.
قوله :﴿ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ﴾ قرئ قوله :( ربما ) بالتشديد والتخفيف. فالتشديد على الأصل. والتخفيف لكثرة الاستعمال. وما، كافة عن العمل فخرجت بها عن كونها حرفا ؛ لأن رب، حرف جر، وحرف الجر يلزم للأسماء. فلما دخلت " ما " عليها جاز أن يقع بعدها الفعل فخرجت عن كونها حرفا وصارت بمنزلة ( ما ) في طالما وقلما. فإن ( طال وقل ) فعلان ماضيان، دخلت عليهما ( ما ) فخرجا عن مذهب الفعل. ولا يدخل بعد ( ربما ) إلا الفعل الماضي. وإنما جاء ههنا المضارع بعدها على سبيل الحكاية١.
والآية إخبار عن المشركين الظالمين الذين خسروا أنفسهم فصاروا إلى أسوأ المصير ؛ فغشيهم بذلك ندم شديد، ثم تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين لينجوا مما حاق بهم من شديد العقاب. وقيل : نزلت في كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل : إن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا.
وهذه واحدة من أهوال كاثرة جسام تغشى المجرمين الخاسرين ليذوقوا الوبال الشديد. سواء في الدنيا عند الاحتضار ومفارقة هذه الحياة، أو في الآخرة حيث البلايا والقوارع وكبريات النوازل مما لا يتصوره بشر. نجانا الله من هول ذلك كله نجاة تفضي بنا إلى الأمان والرضوان.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٦٣.
قوله :( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ) ذلك أمر إهانة وتحقير للمشركين الظالمين ؛ أي دع الطمع في إيمان هؤلاء الكافرين أو في ازدجارهم، وخلهم يأكلوا ما شاءوا أن يأكلوه من طعام، ويستمتعوا بما حوته هذه الدنيا من لذائذ ( ويلههم الأمل ) أي تشغلهم آمالهم وأمانيهم عن تدبر الحق والمبادرة إلى طاعة الله والتزام دينه وشرعه ( فسوف يعلمون ) سوف يعلمون حين يقبلون على الله ويعاينون العقاب الموعود أنهم كانوا في الدنيا لاهين غافلين، فصاروا إلى خسارة وتباب. وأيقنوا بعد ندامتهم الشديدة أن آمالهم في تحصيل المال والمتاع في الدنيا لم تجرجر لهم سوى الحسرات والتخسير.
قوله تعالى :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ( ٤ ) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( ٥ ) ﴾ ذلك تخويف وتهديد لمشركي مكة الذين آذوا رسول الله وناصبوه الحرب والعداء، فإن الله يبين لهم مهددا أنه ما من قرية من القرى أو أمة من الأمم التي أهلكناها فيما مضى ( إلا ولها كتاب معلوم ) أي إلا ولها أجل مؤقت أو مدة معلومة، فلا نهلكهم إلا أن يبلغوها فإذا بلغوا مدَّتهم أهلكناهم ودمرنا عليهم. وهكذا المشركون الظالمون من أهل مكة لا نهلكهم إلا أن يبلغوا أجلهم الموعود المسطور في اللوح المحفوظ.
قوله :( وما تسبق من أمة أجلها وما يستئخرون ) ( من )، زائدة مؤكدة، والمعنى : أنه لا يتقدم هلاك أمة قبل أن يحين أجلها الذي جعله الله موعدا لهلاكها. ولا يتأخر هلاكها عن الأجل الذي جعله الله لها١.
١ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٥٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٦٨ وتفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٤٥..
قوله تعالى :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( ٦ ) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ( ٧ ) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ( ٨ ) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾.
قال الكافرون من أهل مكة لرسول الله ( ص ) على سبيل الاستهزاء والتهكم :( يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر إنك لمجنون ) أي مجنون في دعائك إيانا أن نذر آلهتنا وما وجدنا عليه آباءنا من عبادة للأصنام ثم نتبعك فيما جئتنا به من ملة التوحيد.
قوله :﴿ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ﴾ ( لو ما )، أداة تحضيض بمعنى هلا. وهي مركبة من ( لو ) وهي تعني امتناع الشيء لامتناع غيره، وما، المغيرة. أي غيرت معنى لو من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره إلى معنى ( هلا ) ١. والمعنى : هلا جئتنا بالملائكة شاهدة على صدق ما تقوله لنا إن كنت تَصْدق في قولك إن الله بعثك إلينا رسولا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ جـ٢ ص ٦٥..
قوله :( ما ننزل الملائكة إلا بالحق ) أي لا تتنزل الملائكة إلى الأرض إلا بالرسالة إلى النبيين المرسلين، أو بالعذاب لمن أراد الله أن يعذبه من الظالمين الطاغين.
قوله :( وما كانوا إذا منظرين ) يعني لو أرسلنا ملائكتنا إلى هؤلاء المشركين ليكون في إرسالهم لهم آية، فكفروا، سوف لا يمهلون فيؤخر عنهم العذاب ؛ بل سيعاجلهم الله العذاب دون إمهال أو إبطاء وذلك شأن الكافرين من قبلهم الذين سألوا الآيات والمعجزات ولما أوتوا ما سألوه من الآيات وكفروا بادرناهم بالعذاب الأليم.
قوله :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ ( نحن )، في موضع نصب ؛ لأنه تأكيد للضمير الذي هو اسم إن. ويجوز أن يكون نحن في موضع رفع مبتدأ. وخبره ( نزلنا ) والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع ؛ لأنه خبر إن١.
الله الذي نزل قرآنه المجيد ليكون للبشرية هاديا ومنيرا، قد وعد أن يحفظ هذا الكتاب المبارك الحكيم من أي انتقاص من آياته وكلماته، أو أن يزاد فيه باطل.
ذلك وعد من الله ثابت وقائم. ووعد الله صدق ويقين. وهو سبحانه لا يخلف وعده بحفظ قرآنه العظيم من تمالؤ المتآمرين أو الخائنين أو المتلصِّصين الذين ما فتئوا يتدسسون في الليل والنهار للدخول على القرآن ليبدلوه تبديلا. أو يغيروا فيه بعض آياته أو كلماته إفسادا لمعانيه وإذهابا لحقيقة المقصود منه.
ما فتئ المتربصون المكذبون والحاقدون الذين يكرهون الإسلام والمسلمين يكيدون للقرآن العظيم أفظع كيد، وذلك بمختلف الحيل والأساليب للنيل من هذا الكتاب المنزل ؛ وذلك بالزيادة فيه أو حذف ما يروق لهم أن يحذفوه منه أويحرفوا فيه تحريفا. وذلك كآيات الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لإعلاء كلمة الإسلام وإشاعته في العالمين، وكذلك آيات الأسرة والقوامة والعقوبات، وآيات التوحيد والتنديد بالشرك وعبادة البشر كاتخاذ بعض النبيين آلهة مع الله.
ويضاف إلى ذلك كله الدعوة الراهنة المريبة لنشر اللغة العامية بدلا من العربية الفصحى متذرعين بسهولة العامية وصعوبة الفصحى.
وليس في ذلك إلا التمالؤ الخبيث على اللسان العربي الفصيح والسليقة العربية السليمة المميزة من أجل إضعافهما تماما. وذلك سبب يقود حتما إلى انعدام التذوق للقرآن أو ادكاره واستعذابه بضعف المذاق العربي عموما. لا جرم أن هذه سبيل فظيعة تفضي إلى إغفال القرآن ومحوه من الذاكرة العربية ليصبح على مر الزمان ضربا من الكلام العسير الثقيل. أو ضربا من رموز معميات أو النظم الغامض الذي يخالطه اللبس والإبهام فلا يدري به أو يعلمه إلا القلة النادرة من أهل التخصص في تحليل الحروف والخطوط كالذي جرى للكتب المتقدمة ؛ إذ باتت خليطا من الكلام المتضارب الملفق لكثرة ما تلاعب فيه المحرفون الخاطئون. لا جرم أن ذلك من مكر الماكرين من شياطين البشر الذي يصلون الليل بالنهار وهم يتآمرون على قرآن الله لمحوه من أذهان المسلمين بتحريفه أو تغييره أو تبديله. لكن وعد الله قائم قيام هذا الكون الراسخ المستقر الذي لا يتزعزع. فالله قد وعد بصون قرآنه ليظل على الدوام محفوظا من كل اعتبار أو تمحل أو تلاعب.
١ - نفسه..
قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( ١٠ ) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( ١١ ) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ( ١٢ ) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ( ١٣ ) ولو فتحنا عليهما بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( ١٤ ) لقالوا إنما سكرت أبصرنا بل نحن قوم مسحورون ( ١٥ ) ﴾ الشيع بمعنى الفرق. ومفرده شيعة وهي الفرقة أو الأتباع والأنصار. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة١. ويبين الله في الآية لرسوله محمد ( ص ) مسريا عنه ومسليا له أنه أرسل رسله في الأمم السابقة لهدايتهم وإرشادهم فما آمنوا وما اهتدوا ؛ بل كفروا وكذبوا.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٣٥٣..
وما كان يأتيهم من عند الله من رسول إلا كانوا يسخرون منه ويصدون عنه صدودا. وهو قوله :( وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ).
قوله :﴿ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة لمصدر محذوف ونسلكه، من السلك بفتح السين بمعنى إدخال الشيء في الشيء مصدر سلك فانسلك ؛ أي أدخله فيه فدخل١ أي مثل ذلك الذي سلكناه وهو الكفر والضلال والاستهزاء في قلوب من تقدم من المشركين، نسلكه- أي ندخله، في قلوب المجرمين من أمتك ممن اختار الضلال والشرك والباطل.
١ - مختار الصحاح ص ٣١٠..
قوله :( لا يؤمنون به ) الجملة في محل نصب على الحال من ضمير ( نسلكه ) أي سلك الله الضلال والاستهزاء في قلوب هؤلاء المجرمين الذين اختاروا الباطل، وهم لا يؤمنون بالله وحده لا شريك له ولا يؤمنون بكتابه المنزل الحكيم. ( وقد خلت سنة الأولين ) أي مضت سنة الله بإهلاك المكذبين المجرمين بسبب جحودهم وتكذيبهم. وهو تهديد لهؤلاء المكذبين إن ظلوا سادرين في غيهم واستكبارهم ؛ فإنهم آتيهم ما أتى الذين سبقوهم من الإهلاك والتدمير. وقيل : قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم. وهو قريب من السياق.
قوله :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ﴾ ( يعرجون )، أي يصعدون. من عرج يعرج أي يصعد، والمعارج معناها المصاعد. وواحد المعارج، المعرج وهو المصعد أو المرقى١ وذلك إخبار من الله عن معاندة هؤلاء المشركين الضالين ومبلغ استكبارهم عن الحق الذي جاءهم من عند الله. والمعنى المراد. أنه لفرط عنادهم وعتوهم وتكذيبهم، سادرون في الغواية والضلالة حتى لو فتح الله عليهم في السماء معارج يصعدون فيها فيرون الملائكة والملكوت وينظرون إلى عجائب خلق الله وبالغ قدرته وسلطانه لارتابوا فلم يصدقوا.
١ - المصباح المنير جـ ٢ ص ٤٩..
بل قالوا :﴿ إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ﴾ ( سكرت أبصارنا )، أي سُدت وحبست عن النظر.
وقيل : غطيت وغشيت١ ؛ أي قالوا لما عاينوا الأعاجيب في السماء عقب صعودهم إليها : إنما سدت أبصارنا، أو سُحرت ومنعت من النظر. أو أُخذت أبصارنا أو شُبّه علينا، ونحو ذلك من اصطناع المعاذير الواهية المفتراة، على جهة العناد والمبالغة في العتو والتكذيب والتمرد على الله في دينه وقرآنه.
وذلك هو ديدن الضالين الخاسرين في كل زمان ؛ إذ يفتقدون أيما حجة في مواجهة الحق الذي جاءهم به الإسلام. وإنما يفرّون من روعة الإسلام وبهجته فرار الجبناء والأنذال والخائرين الذين ينقلبون على وجوههم انقلاب المفلسين الخاسرين كلما ظهر الحق وحصحص، وشعشع نوره وضياؤه، وتضاءل الباطل وذوى واضمحل حتى بات لحقارته وهوانه قزما تنظر منه العقول والضمائر نظرة السخرية والاستخفاف، فلم يجد أتباعه وأنصاره المفلسون الحيارى غير سبيل المكابرة والعناد واللؤم في خسة وخداع ومكايدة٢.
١ - مختار الصحاح ص ٣٠٦.
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٧٠ وتفسير القرطبي جـ ١٠ ص ٨..
قوله تعالى :﴿ ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( ١٦ ) وحفظناها من كل شيطان رجيم ( ١٧ ) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ( ١٨ ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ( ١٩ ) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ( ٢٠ ) ﴾ ذلك برهان من الله على عظيم قدرته وعزيز سلطانه ومقامه إذ خلق هذا الكون الفسيح المتسق الموزون.
هذا الكون الهائل المنتظم الذي يشهد بأن الله خالق كل شي وأنه موجد الوجود. فقال سبحانه :( ولقد جعلنا في السماء بروجا ) البروج تعني منازل الشمس والقمر. وهي اثنا عشر برجا. وهذه هي أسماؤها : الحمل، الثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
وقيل : البروج بمعنى النجوم. سميت بذلك لظهورها وارتفاعها. وقيل : البروج تعني الكواكب العظام وهي السبع السيارة وهي : القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشترى وزحل.
قوله :( وزيناها للناظرين ) أي زينا السماء بالأجرام العظيمة المختلفة كالشمس والقمر والكواكب والنجوم، وذلك للمعتبرين المتدبرين الذين يستدلون بهذه العجائب على عظيم قدرة الله وعلى وحدانيته المطلقة في الوجود وأنه ليس من إله خالق صانع مدبر سواه.
قوله :( وحفظناها من كل شيطان رجيم ) الرجيم، من الرجم وهو القتل، وأصله في اللغة الرمي بالحجارة. والرجم بضم الراء، والرجام، حجارة ضخام دون الرضام. ١ والرجم أيضا معناه السب والشتم ؛ لأنه رمي بالقول القبيح، ومنه قوله :( لأرجُمنك ) أي لأسبنك. والرجم اسم لكل ما يرمى به. ومنه قوله :( وجعلناها رجوما للشياطين ) أي مرامي لهم. والرجم القول بالظن وهو أيضا اللعن والطرد. وقوله : الشيطان الرجيم قد فسر بكل هذه الوجوه٢.
قال ابن عباس في تأويل الآية : كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلث سموات. فلما ولد رسول الله ( ص ) منعوا من السماوات كلها. فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمي بشهاب.
١ - مختار الصحاح ص ٢٣٦ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٧٣..
٢ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ١٧٣..
قوله :﴿ إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ﴾ ( من )، في موضع نصب على الاستثناء١ ؛ أي السماء محفوظة من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع ( فاتبعه شهاب مبين ) أي أدركه ولحقه شهاب وهو شعلة نار ساطعة. و ( مبين ) أي ظاهر للمبصرين، أو يبين أثره في الشيطان إما بإفساده أو بإحراقه.
١ - ا البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٦٦..
قوله :( والأرض مددناها ) مد الله الأرض مدا، إذ جعلها صالحة للحياة والمعاش. وهي تبدو في حسن الناظرين وأبصارهم أنها ممدودة ومبسوطة. ولا ينفي ذلك ما ذكر في علم الطبيعة والفلك من أن الأرض في شكل الكرة.
قال الإمام الرازي في هذا الصدد : فإن قيل : هل يدل قوله :( والأرض مددناها ) على أنها بسيطة ؟ ١ قلنا : نعم ؛ لأن الأرض بتقدير كونها كرة ؛ فهي كرة في غاية العظمة. والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها إذا نظرنا إليها، فإنها تُرى كالسطح المستوي. وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال. والدليل عليه قوله تعالى :( والجبال أوتادا ) سماها أوتادا مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية فكذا ههنا٢.
قوله :( وألقينا فيها رواسي ) الرواسي : الجبال الثوابت الرواسخ واحدتها راسية٣ ؛ أي ألقى الله في الأرض الجبال الراسخة المكينة الثقال كيلا تضطرب ( الأرض ) أو تتحرك بأهلها. كقوله :( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) أي لئلا تتحرك أو تتمايل.
قوله :( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) أي أنبتنا في الأرض من صنوف الزروع والثمرات والنبات بقدر مقدر ومعلوم. قال الزمخشري في تأويل ( موزون ) : وزن بميزان الحكمة، وقدّر بمقدار تقتضيه لا يصلح فيه زيادة أو نقصان.
١ - البسيطة: الأرض. والسطح المتبسط معناه السطح الذي يمكن بسطه إلى مستو كسطح الأسطوانة. انظر المعجم الوسيط جـ١ ص ٥٧ والقاموس المحيط جـ٣ ص ٣٦٣..
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٧٤..
٣ - مختار الصحاح ص ٢٤٣..
قوله :( وجعلنا لكم فيها معايش ) المعايش جمع، ومفرده : المعيشة. وهي المطعم والمشرب الذي يعاش به ؛ فقد ذلل الله الأرض للإنسان وجعلها صالحة لمعاشه فيجني منها في سهولة ويسر ما يحتاجه من طعام وشراب ولباس ومأوى. ذلك من نعم الله على الإنسان ؛ إذ خلقه على هذا الكوكب وذلّل فيه من أسباب العيش السليم ما يجد فيه راحته وأمنه في هذه الدنيا إلى أن تحين ساعة الفراق بالموت والرحيل إلى دار البقاء.
قوله :( ومن لستم له برازقين ) ( من )، يجوز أن تكون في موضع نصب ورفع. فالنصب بالعطف على قوله :( معايش ) وقيل : منصوب بتقدير فعل وتقديره : جعلنا لكم فيها معايش وأعشنا من لستم له برازقين.
أما الرفع : فهو الابتداء، وخبره محذوف١. والمراد بمن لستم له برازقين : الدواب والأنعام والأولاد. ولفظ ( مَنِ )، يتناول من يعقل وما لا يعقل إذا اجتمعوا. والمعنى : أن الله جعل للناس في هذه الأرض معايش ولمن ليسوا له برازقين من العيال والدواب والأنعام والخدم وغيرهم ممن لا يرزقهم سوى الله٢.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص٦٦..
٢ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ١٧٥ والكشاف جـ٢ ص ٣٨٩ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ١٣..
قوله :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( ٢٢ ) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ( ٢٣ ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين ( ٢٤ ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( ٢٥ ) ﴾.
( إن )، أداة نفي بمعنى ما. ( من )، زائدة للتأكيد. أي وما من شيء من أرزاق الخلق إلا عندنا خزائنه. والخزائن جمع ومفرده الخزانة، وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ. ويقال : خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في حزائنه. وعامة المفسرين على أن المراد بالخزائن ههنا المطر ؛ لأنه هو السبب للأرزاق والمعايش لبني آدم وغيرهم من الدواب والأنعام والطيور. والله سبحانه إنما ينزله حسبما يشاء، وبقدر ما يكفي الخلق.
وقيل : إن ذكر الخزائن من باب التمثيل، وعلى هذا يكون المعنى : ما من شيء ينتفع به العباد والدواب إلا ونحن قادرون على إيجاده وتخليقه، وما نعطيه إلا بمقدار نعلم أنه مصلحة لهم. وبذلك قد ضرب الله الخزائن مثلا لإرادته المطلقة وحكمته البالغة واقتداره على صنع ما يشاء، وذلك هو تأويل قوله :( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ).
قوله :( وأرسلنا الرياح لواقح ) اللواقح جمع لاقح بمعنى حامل. نقول : ناقة لاقح، أي حامل ؛ فقد شبهت الريح التي تحمل السحاب الماطر بالناقة الحامل ؛ لأنها " الريح " حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه.
ويجوز أن تكون لواقح بمعنى ملاقح، جمع ملقحة. وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل. أو من ألقحت الريح الشجر. والمراد ملقحات للسحاب أو للشجر ؛ أي أن اللواقح، التي تلقح السحاب حتى يحمل الماء، وهي أيضا التي تلقح الشجر حتى يثمر. لا جرم أن هذا شاهد مبين ينطق بأن هذا الكلام رباني وأنه معجز. فمن أين لمحمد ( ص )، وهو العربي الأمي في بيئته البدائية الأمية أن يعي وحده مثل هذه الحقيقة العلمية في تلقيح النبات لولا أنه يوحى إليه بذلك من ربه ؟ ! وما كانت البشرية في ذلك الزمان لتعلم أن عملية الإثمار في الشجر يسبقها عملية التلقيح لإيناع الشجر وتحصيل الثمر، وذلك على نمط ما يجري في بقية الكائنات الحية.
قوله :( فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه ) بعد إنشاء السحاب الماطر عن طريق الريح الملقحة أنزلنا عليكم المطر المدرار لتستقوا منه ماء عذبا سائغا، ولتستقي منه مزارعكم ومواشيكم. وذلك من نعم الله الكبيرة على الناس. النعم التي تقتضي دوام الشكر لله الباسط العاطي الذي لا تنقضي آلاؤه ولا تنحصي نعماؤه.
قوله :( وما أنتم له بخازنين ) أي لستم قادرين أن تمنعوا نزول الماء من السماء. وقيل : لستم بقادرين على إيجاد الماء وخزنه في السحاب وإنزاله مطرا سائغا عذبا إلى الأرض ؛ بل نحن القادرون على منع ذلك.
قوله :﴿ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ﴾ هاتان صفتان من صفات الله ؛ وهما الإحياء والإماتة ؛ فالله جل جلاله ينشر الحياة في الكائن ليصير ذا حركة وإحساس، وما يقتضيه ذلك من ظواهر تدل على الحياة، كالسمع والبصر والإدراك وغير ذلك من ظواهر الحس. وهو سبحانه الذي ينزع هذه الظاهرة- ظاهرة الحياة- من الكائن ليصير ميتا لا حراك فيه ولا حس ولا إدراك. وكل ذلك بمشيئة الله وقدرته.
وتلك هي طبيعة الحياة والكائنات طيلة الزمان في هذه الدنيا حتى يحين الوعد المحتوم الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات. وحينئذ يرث الله وحده الملكوت كله بعد أن يعم الفناء كل شيء فلا يبقى أحد سوى الله. وهو قوله :( ونحن الوارثون ) أي الباقون بعد هلاك الخلائق كافة.
قوله :﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستئخرين ﴾ جاء في تأويل المستقدمين والمستأخرين عدة أقوال. منها : أن ( المستقدمين )، الذين ماتوا. و ( المستئخرين )، الذين مازالوا أحياء لم يموتوا. ومنها : أن ( المستقدمين ) هم الذين خُلقوا وأن ( المستئخرين )، الذين لم يخلقوا بعد.
وقيل : إن ( المستقدمين ) في صفوف الصلاة، و ( المستئخرين ) فيها. ولعل الصواب، الحمل على العموم ؛ أي أن الله يعلم المتصفين بالتقدم والتأخر في كل الأحوال والمناحي. سواء في الولادة أو الموت أو الإسلام أو في صفوف الصلاة أو غير ذلك من الأحوال والملابسات.
قوله :( وإن ربك هو يحشرهم ) يخاطب الله رسوله محمدا ( ص ) ليبين له أنه هو جامع الخلائق يوم القيامة ؛ إذ يحشرهم في يوم الحشر الموعود، حيث التلاقي والارتياع والزحام والثبور، حتى إذا حشر الله الناس جميعا فلم يتخلف منهم أحد نوقشوا الحساب ليصار بهم بعد ذلك إلى الجزاء المنتظر، ففريق إلى الجنة، وفريق إلى السعير.
قوله :( إنه حكيم عليم ) ( حكيم )، من الحكمة وهي العلم بحقائق الأشياء والإتيان بالأفعال على أحسن صورة وعلى الوجه الأمثل الأكمل. والله جلت قدرته بالغ الحكمة، عالم بالأشياء، خبير بحقائق الأمور. وإنما يصدر فعله عن تدبير قويم وإتقان كامل سليم، وعلم واسع محيط١.
١ - البيان للأنباري جـ٢ ث ٦٧ وروح المعاني جـ٧ ض ٣٠-٣٢ والتبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٢٨-٣٣٠ وتفسير الماوردي جـ٣ ص ١٥٥، ١٥٦..
قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون ( ٢٦ ) والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( ٢٧ ) ﴾.
المراد بالإنسان ههنا آدم عليه السلام. والصلصال، معناه الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة. وقيل : الصلصال، الطين الحمراء إذا خلط بالرمل١، وقيل : إن الله خلق آدم على صورة الإنسان من طين، ثم ترك حتى جف فكانت الريح إذا مرت به يسمع له صلصلة.
قوله :( من حمإ مسنون ) الحمأ، جمع حمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد، والمسنون معناه المنتن المتغير من قولهم : أسن الماء ؛ إذا تغير، وهو قول ابن عباس.
هكذا خلق الله الإنسان. خلقه من تراب قد جبل بالماء فتحول طينا أسود منتنا ثم جف ويبس فصار كالفخار يُسمع له صلصلة إذا نقر. حتى إذا نفخ الله فيه من روحه صار خلقا آخر بسريان الروح فيه. وذلكم الإنسان بصفاته وخصائصه التي تميز بها من كل الأحياء. وذلك بما أوتي من عقل مفكر مدكر، وضمير وازع حافز، وجسد وأعصاب وحواس وأعضاء كثيرة ومختلفة يكمل بعضها بعضا ليتحقق الإنسان المتكامل المنسجم المميز. لا جرم أن خلق الإنسان شاهد عظيم على قدرة الصانع الجليل الذي خلق كل شيء وأحاط علمه بكل شيء.
١ - القاموس المحيط ص ١٣٢٤..
قوله :﴿ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ﴾ المراد بالجان إبليس، وقيل : المراد أبو الجن. فآدم أبو الإنس، والجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين. قال ابن عباس : الجان أبو الجن وليسوا شياطين ؛ بل إن الشيطان ولد إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس لكن الجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر.
على أن الجان خلقه الله من قبل أن يخلق آدم. وقد خلق الله الجان ( من نار السموم ) أي من الريح الحارة التي تقتل. وسميت سموما ؛ لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن. ومنه السم القاتل. وقيل : نار السموم تعني لهب النار. وقيل غير ذلك مما جملته السموم وهو البالغ الحرارة الذي خلق الله منه الجان من قبل أن يخلق الإنسان١.
١ - روح المعاني جـ٧ ص ٣٤ وتفسير الماوردي جـ٣ ص ١٥٨، ١٥٩ والتبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٣٠..
قوله تعالى :﴿ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصل من حمإ مسنون ( ٢٨ ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ٢٩ ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( ٣٠ ) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ( ٣١ ) ﴾ ( إذ ) تدل على ما مضى من الزمان. وهي ظرف في موضع النصب بفعل تقديره، اذكر ؛ أي واذكر يا محمد وقت قوله تعالى للملائكة :( إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ) ذلك تقدير رباني لا يتخلف ولا معقب له. وهو أنه سبحانه خالق بشرا وهو الإنسان، ذكرا أو أنثى، واحدا أو جمعا. وقد يثنى، ويجمع أبشارا، وسمي بذلك ؛ لأنه ظاهر الجلد١ ( من صلصال من حمإ مسنون ) تقدم تفسيره.
١ - القاموس المحيط ص ٤٤٧..
قوله :( فإذا سويته ) أي فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا، أو منسجما متكاملا متسقا لا عوج في خلقته ولا شذوذ.
قوله :( ونفخت فيه من روحي ) النفخ معناه إجراء الريح من الفم١. والمراد هنا : إفاضة ما به الحياة في البدن ليصير إنسانا حيا واعيا مدركا. وأضاف الله روح آدم إلى نفسه إكراما له، قال الطوسي في التبيان عن هذا المعنى : الروح جسم رقيق روحاني فيها الحياة التي بها يجيء الحي فإذا خرجت الروح من البدن كان ميتا في الحكم. فإذا انتفت الحياة من الروح فهو ميت في الحقيقة٢.
قوله :( فقعوا له ساجدين ) ذلك أمر الله للملائكة الأطهار أن يسجدوا لآدم عليه السلام. وذلك على سبيل التحية والتعظيم لآدم.
وقيل : إنه سجود بالمعنى المتبادر من قوله :( فقعوا له ساجدين ) والوقوع معناه، السقوط على الأرض.
١ - القاموس المحيط ص ٣٣٤..
٢ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٣٢..
قوله :﴿ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ﴾ ( كلهم أجمعون )، توكيد بعد توكيد١ ؛ فقد استجاب الملائكة لأمر الله ؛ إذ أطاعوه مذعنين مستسلمين، لم يتخلف منهم أحد. وهو ما يؤكده قوله :( كلهم أجمعون ) فخروا جميعا ساجدين ممتثلين أمر ربهم مبادرين للطاعة دون وناء.
١ - البيان للأنباري جـ جـ٢ ص ٦٨..
قوله :﴿ إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ﴾ إبليس مشتق من الإبلاس وهو اليأس١، المراد : أن إبليس أيس من رحمة الله، فلا أمل ولا رجاء له في خير أو رحمة البتة.
أما الاستثناء فقد قيل : إنه متصل، والمعنى : أن إبليس كان من الملائكة فلذلك استثناه. وقيل كان إبليس من جملة المأمورين بالسجود لآدم فلذلك استثناه من جملتهم. وقيل : الاستثناء هنا منقطع، ومعناه لكن. وبذلك ليس إبليس من الملائكة بل كان من الجن وقد خلقه الله من نار، وهو دائم الفسق والعصيان لله. أما الملائكة فهم خيار أبرار خلقهم الله من نور وهم لا يعصون الله ما أمرهم.
قوله :( أبى أن يكون مع الساجدين ) الإباء معناه الامتناع. والسجود، معناه وضعه الجبهة على الأرض. وأصله الانخفاض والانحناء وطأطأة الرأس٢. والمعنى المراد : أن إبليس امتنع من السجود لآدم كما أمره ربه غرورا واستكبارا أن يسجد مع الملائكة. فعصى إبليس بذلك عصيانه الشنيع، وفسق عن أمر ربه ؛ فكان أشد الخليقة عتوا وتمردا واستكبارا٣.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٦٨ ومحتار الصحاح ص ٦٣..
٢ - القاموس المحيط ص ٣٦٦ ومحتار الصحاح ص ٢٨٦..
٣ - التبيان جـ٦ ص ٣٣٢ وروح المعاني جـ٧ ص ٤٥، ٤٦..
قوله تعالى :﴿ قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ( ٣٢ ) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ( ٣٣ ) ﴾ ( ما )، في موضع رفع مبتدأ. وخبره. ( لك ). والتقدير : أي شيء كائن لك ألا تكون ؛ أي في ألا تكون. وقيل : أن، زائدة. ويكون ( ألا تكون ) في موضع نصب على الحال١.
خاطب الله إبليس بهذا القول على لسان بعض رسله. وقيل : خاطبه الله جل جلاله على سبيل الإنكار والتحقير والإهانة. كقوله يوم القيامة مخاطبا أهل النار في النار ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) والمعنى : لمَ لمْ تسجد يا إبليس مع الساجدين ؟ وهو في خطابه الكريم هذا يحقر إبليس اللعين غاية التحقير، ويندد به أبلغ تنديد، ويكشف للعالمين بشاعة الطبع المقبوح الذي يستقر في حقيقة هذا الكائن الشقي المتمرد بعصيانه أمر رب العالمين الذي سجدت له السموات والأرض وما فيهن.
١ - البيان للأنباري جـ ٢ ص ٦٩..
قوله :﴿ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ﴾ اللام في ( لأسجد )، لتأكيد النفي ؛ أي لا يستقيم مني ولا يليق بي أن أسجد لبشر مخلوق من طين أسود منتن. وإبليس اللعين يعني بذلك أن آدم ذو أصل خسيس وضيع وهو الصلصال ؛ فكأنه يقول : كيف يسجد من هو في مثلي عظيم الأصل. والخلقة لمن أصله الطين المنتن المهين ؟
هكذا كان تصور إبليس للمسألة. وهو أن الخلائق إنما تقاس بأصولها وأحسابها، أو تقاس بأشكالها وظواهرها المكشوفة. لا جرم أن نظرة كهذه للأمور والحياة جد خاطئة ؛ بل إن المعيار الصحيح لقيم المخاليق ومقاديرها لهو جمال الفطرة الأصيلة وسلامة الطبع السوي، وما يفضي إليه ذلك كله من مقتضيات ومآلات عظيمة، غاية في الخير والبراءة والسمو والرحمة. فما يغني المخلوق هيئته وصورته أو حقيقة أصله مادام أثيم الفعل، منكود الطبع، قبيح الخصال. وإنما ينبغي التعويل كله على روعة الجوهر واستقامة السلوك وحسن الفعال١.
١ - التبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٣٤ وروح المعاني جـ٧ ص ٤٧..
قوله تعالى :﴿ قال فاخرج منها فإنك رجيم ( ٣٤ ) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( ٣٥ ) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ( ٣٦ ) قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ( ٣٧ ) ﴾ الضمير في قوله :( منها ) يعود إلى السماء. وقيل : إلى الجنة ؛ فقد أمره الله بالخروج منها. فمثله من الخبث والعصيان وسوء الطبع، ما لا يضاهيه في ذلك كائن ؛ فهو غير خليق بالمكث في الجنة أو السماء حيث العلّيون، مقام الأبرار والأطهار من خلق الله. وذلك أول الإبعاد والدحر العاتي المتمرد ؛ إذ دحره الله وأخرجه من دار فضله ورحمته بقوله :( فاخرج منها فإنك رجيم ) أي مطرود من كل خير وفضل ورحمة. أو مرجوم بالذم والشتم.
قوله :﴿ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ﴾ ومع طرده من مقامات عليين حيث الأخيار والمصطفون الأكارم ؛ فقد لعنه الله بلعنته إلى يوم الدين. وهو يوم القيامة حيث الجزاء والتعذيب في النار. واللعن، معناه الإبعاد من الرحمة والخير مقرونا بالشتم والدعاء عليه من كل المؤمنين إلى يوم القيامة وذلك على سبيل السخط أو التنكيل بهذا الشقي الأثيم الذي رأى من آيات الله في السموات ما يذهل العقل ويزلزل الكيان كله. لكنه مع كل ذلك أبى واستكبر، وعتا عتوا يتجاوز كل تصور. لا جرم أن إبليس لذو طبع خبيث شرير، تجتمع فيه كل سمات الشر والشقوة والتعس والباطل. فما بات بعد ذلك غير الكائن الأثيم المشؤوم الذي لا رجاء البتة في استقامته أو عوده إلى حظيرة الخير والصلاح.
قوله :﴿ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ الإنظار معناه الإمهال أو التأخير، فقد سأل إبليس رب العالمين أن يمهله فلا يميته حتى يبعث الناس يوم القيامة. وأراد إبليس من إمهاله حيا إلى يوم القيامة أن يكون له متسع وفسحة لإغواء الناس وإضلالهم وإشفاء لغليله المتعطش للانتقام والأخذ بالثأر. فأجاب الله سؤاله، لحكمة بالغة هو وحده يعلم حقيقة معانيها وكامل أبعادها ومراميها.
فقال :﴿ فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ أي إنك من جملة الممهلين.
﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ وهو وقت النفخة الأولى ؛ إذ يصعق الخلق أجمعون إيذانا بفناء الحياة والعالمين وقيام الساعة١.
١ - رواح المعاني جـ٧ ص ٤٨ والتبيان للطوسي جـ٦ ص ٣٣٥ وتفسير الماوردي جـ٣ ص ١٦٠ وفتح القدير جـ٣ ص ١٣١..
قوله تعالى :﴿ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ( ٣٩ ) إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) قال هذا صراط على مستقيم ( ٤١ ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ( ٤٢ ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( ٤٣ ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( ٤٤ ) ﴾ ما، في قوله :( بما ) مصدرية ؛ أي بسبب إغوائك إياي، وقيل : الباء للقسم ؛ أي أقسم بإغوائك إياي ( لأزينن لهم في الأرض ) فقد أقسم إبليس على أن يزين المعاصي لذرية آدم في الدنيا بما يجعلها تروق لهم فيستحسنونها ويجدون فيها ما يثير فيهم القبول والاستمتاع فيقبلون عليها إقبالا جامحا ومغاليا. وهم بذلك يركضون لاهثين جامحين ؛ إذ تستنفرهم الغرائز المشبوبة وتؤزهم الشهوات المستشرية في العميق من طبائعهم. والمراد بالأرض، الدنيا ؛ فهي محل متاعها ودارها. بل هي دار غرور يفتتن الناس بطيباتها ولذائذها وزخرفها ؛ فهي بذلك مستقر للتزيين والإغواء والإضلال.
قوله :( ولأغوينهم أجمعين ) إغواء الشيطان يعني تزيينه الباطل في أعين الناس وحسهم لكي يفعلوه. ولأغوينهم، أي لأضلنهم عن الهدى وأرغبنهم في الباطل وصنع كل محظور. ثم استثنى إبليس من جملة ذرية آدم عباد الله المخلصين وهو قوله :( إلا عبادك منهم المخلصين ) بفتح اللام ؛ أي الذين أخلصتهم لطاعتك والتزام شرعك ومنهاجك بأن وفقتهم لذلك. فأولئك ليس لي عليهم سلطان، ولا اقتدار على إضلالهم. وقرأ آخرون اللام بالكسر في المخلصين ؛ أي إلا عبادك الذين أخلصوا لك العبادة والطاعة ولم يشركوا معك في ذلك أحدا سواك فكانوا مبرأين من كل شرك أو رياء.
قوله :﴿ قال هذا صراط على مستقيم ﴾ الإشارة إلى عدم إغواء إبليس المخلصين من عباد الله. و ( صراط ) بمعنى حق ؛ أي هذا حق علي مراعاته.
وقيل : يراد بالصراط. الدين المستقيم ؛ فالله يبينه ويوفق المهتدين لاتباعه. وكلمة ( على ) تفيد الوجوب في قول المعتزلة ؛ إذ يقولون بوجوب الأصلح على الله تعالى. وما ينبغي أن يقال مثل ذلك في حق الله ؛ بل الصواب القول : إن ذلك تفضل من الله وامتنان. وقد شبه بالحق الواجب هنا ؛ لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده سبحانه. و ( مستقيم ) أي لا انحراف فيه، فلا يُمال عنه إلى غيره.
قوله :( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) المراد بالعباد العموم. والاستثناء متصل. وذلك إخبار من الله تعالى أنه ليس للشيطان تسلط على عباده إلا الذين أغواهم الشيطان فأطاعوه واتبعوا مسالكه المعروفة بالاعوجاج. وقيل : الاستثناء منقطع، والإضافة في عباده للعهد. وهو إخبار من الله بأن عباده الذين يطيعونه ويخلصون له العبادة، ويمضون على صراطه المستقيم ؛ ليس للشيطان عليهم سلطان. أي تسلط أو اقتدار أن يغويهم إلا الذين اتبعوا إبليس على إغوائه فاستجابوا لوسوساته وإيحاءاته الخبيثة، وانقادوا له مخدوعين مضللين ؛ فهم من أجل طاعتهم للشيطان وإذعانهم لأمره ووسوسته بات له سلطان عليهم.
قوله :﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ﴾ ( جهنم ) اسم غير منصرف من أجل التعريف والتأنيث. وهي في اللغة تعني البعيدة الغور١. والمراد بها : المكان الذي تستعر فيه النار ليعذب بها المجرمون والمكذبون والعصاة.
فقد جعلها الله موعدا للغاوين الذين عتوا عن أمر الله وزاغوا عن دينه ومنهجه.
أولئك جميعا موعدهم جهنم بما حوته من فظائع العذاب والتحريق. نجانا الله من كل ذلك، وجعلنا في زمرة الناجين الآمنين.
١ - القاموس المحيط ص ١٤٠٩..
قوله :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾ أي لجهنم سبعة طباق بعضها فوق بعض يهوي فيها المجرمون الخاسرون الذين استزلهم إبليس وجنوده فغلبت عليهم شقوتهم وأهواؤهم الشريرة. فإذا هووا في طبقات جهنم كانوا فيها بحسب مراتبهم ودركاتهم من حيث مستوى العصيان والغواية. وقد روى البيهقي وأحمد عن علي كرم ٠الله وجهه أنه قال : " أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيملأ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تملأ كلها ". وروي عن ابن عباس قوله في أسماء الأبواب السبعة على أنها هي : جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية، وهي أسفلها.
قوله :( لكل باب منهم جزء مقسوم ) أي لكل باب من أبواب النار من الغاوين والخاسرين ( جزء مقسوم ) يعني فريق معين مفروز، وذلك على قدر استحقاقهم من العذاب من حيث القلة والكثرة، بحسب معاصيهم. فباب للموحدين العصاة، وباب لليهود، وباب النصارى وباب للصائبين، وباب للمجوس، وباب للمشركين، وباب للمنافقين١.
١ - روح المعاني جـ٧ ص ٥٠، ٥١ والتبيان جـ٦ ص ٣٣٧ وتفسير الماوردي جـ٣ ص ١٦١.
قوله تعالى :﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ٤٥ ) ادخلوها بسلام آمنين ( ٤٦ ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( ٤٧ ) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ( ٤٨ ) نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( ٤٩ ) وأن عذابي هو العذاب الأليم ( ٥٠ ) ﴾ المراد بالمتقين الذين يخشون الله فيجتنبون الشرك وكبائر الإثم والفواحش وقيل : المراد بهم الذين اتقوا الشرك بالله والكفر به، أولئك مقامهم يوم القيامة جنات وعيون ؛ يعني بساتين وأنهار حيث النعيم والخير والبهجة والسرور.
قوله :﴿ ادخلوها بسلام آمنين ﴾ أي يقال لهؤلاء المؤمنين المتقين : ادخلوا الجنة سالمين من كل مكروه وآفة وأذى، أو يقال ذلك لهم على سبيل التحية ( آمنين ) من كل ما تكرهونه من فناء وزوال وبلاء وموت.
قوله :( ونزعنا ما في صدورهم من غل ) النزع، معناه القلع ؛ أي قلع الله من قلوب المؤمنين يوم القيامة في الجنة ما كان يستكن فيها من حقد على غيرهم من المؤمنين وهم في الدنيا. فإن كان لأحدهم غل ( حقد ) في الدنيا على آخر ؛ نزع الله ذلك من قلبه في الجنة ؛ لتكون بذلك نفوس المؤمنين جميعا طيبة لا يشوبها غل أو حسد، ولا يعمرها غير المحبة والود.
ذلك هو شأن الناس في الدنيا، سواء فيهم المؤمنون والعصاة. فما تخلوا قلوبهم في كثير من الأحيان من أوضار الحقد أو الحسد مما يقع بينهم من خلافات وزلات تفضي في الغالب إلى شحن القلوب بالغل والاضطغان. وذلك هو ديدن الإنسانية ذات المركبات المفترقة والمتكاملة. ومن بين ذلك قابلية الإنسان للكراهية واحتمال الضغن على أخيه المسلم لما يلقاه منه من إساءات ينفر منها طبعه فيحمل له من أجل ذلك الغيظ والحقد. وهذه حقيقة تنسحب على الناس جميعا إلا الرفافين المخبتين الأبرار الذين أوتوا من جمال الطبع ونصوع الفطرة وبساطة العريكة ورقتها ما يجعلهم في غاية التسامح والصبر.
أما المؤمنون في الجنة يوم القيامة لا جرم تتبدل طبائعهم وأخلاقهم وسجاياهم غير ما هي عليه ؛ ليتحولوا بذلك إلى أناسي من صنف مبرأ طاهر جديد، سالم عن عيوب النفس وأدران الطبيعة التي كانوا عليها في الدنيا. وبذلك ينزع الله من قلوبهم الغل نزعا كيلا يبقى بعد ذلك غير المودة والتآلف والانسجام الكامل. قال علي كرم الله وجهه في هذا الصدد : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ؛ أي ممن تعنيهم الآية.
قوله :( إخوانا على سرر متقابلين ) ( إخوانا )، منصوب على الحال من ( المتقين ) أي يكونون في الجنة على أحسن هيئة وخير حال من التآخي والتواد فيما بينهم وهم قاعدون على الأسرة ( متقابلين ) يقابل بعضهم بعضا يتشاطرون فيما بينهم الحديث الكريم الودود في غاية من الأنس والرضا.
قوله :( لا يمسهم فيها نصب ) أي لا ينالهم في الجنة إعياء ولا تعب. قوله :( وما هم منها بمخرجين ) أي أنهم خالدون في الجنة لا يتحولون وهم فيها ماكثون لا يموتون ولا يزولون.
قوله :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ﴾ روي في سبب نزول هذه الآية عن رجل من أصحاب النبي ( ص ) أنه قال : طلع علينا رسول الله ( ص ) من الباب الذي دخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال : " لا أراكم تضحكون " ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : " إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد يقول الله تعالى عز وجل : لم تُقَنِّط عبادي ؟ ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) ١ " والله جل وعلا يخاطب نبيه محمدا ( ص ) : أن أخبر عبادي يا محمد أني أنا الرحيم بهم فأستر على ذنوبهم إذا تابوا منها وأتابوا إلى ربهم، فلا أفضحهم ولا أكشف عن معايبهم وجرائرهم وآثامهم.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٧..
وأخبرهم أيضا أن عذابي أليم ووجيع أصيب به الذين يفعلون المعاصي والخطايا، ويصرون عليها غير تائبين ولا منيبين ولا نادمين. وهو قوله :( وإن عذابي هو العذاب الأليم ).
إن ذلكم هو العدل المطلق والفضل الأمثل الكامل ؛ فإن من عدل الله أن يعذب المسيئين الخاطئين الذين يأتون الذنوب مصرّين غير راجعين ولا متورعين ومن فضله السامي ورحمته البالغة أن يعفو عن التائبين النادمين المستغفرين١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٢٧، ٢٨ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٧٤ وتفسير الرازي جـ١٩ ص ١٩٥..
قوله تعالى :﴿ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ( ٥١ ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ( ٥٢ ) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ( ٥٣ ) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ( ٥٤ ) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ( ٥٥ ) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( ٥٦ ) ﴾.
يخاطب الله رسوله محمدا ( ص ) أن أخبر عبادي ( عن ضيف إبراهيم ) والضيف واحد ويجمع. وقد يجمع على أضياف ضيوف وضيفان. وأضاف الرجل وضيّفه تضييفا ؛ أي أنزله به ضيفا، وضافه ضيافة ؛ إذا نزل عليه ضيفا١.
وضيف إبراهيم الملائكة.
١ - مختار الصحاح ص ٣٨٦..
إذ دخلوا عليه لما أرسلهم ربهم إلى قوم لوط لتدميرهم من أجل فعلهم الخبائث ( فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ) قالت الملائكة لخليل الله إبراهيم ( سلاما ) أي نسلم عليك سلاما، ففزع إبراهيم منهم وهو قوله :( إنا منكم وجلون ) من الوجل وهو الخوف.
( قالوا لا توجل ) أي لا تخف ؛ فقد جئناك لنبشرك بغلام ذي علم ؛ أي بصير كذلك، وهو إسحاق عليه السلام.
قوله :﴿ أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ﴾ ( أن )، مصدرية ؛ أي أبشرتموني مع مس الكبر إياي وزوجتي بأن يولد لي غلام عالم ( فبم تبشرون ) استفهام تعجب ؛ أي فبأي شيء بشرتموني ؟ !.
قوله :( قالوا بشرناك بالحق ) أي بشرناك باليقين الذي لا ريب فيه وهو أن الله قد وهب لك غلاما عليما ( فلا تكن من القانطين ) أي لا تكن من الآيسين الذي ييأسون من فضل الله. وكان إبراهيم قد يئس من الولد لكبر سنه.
﴿ قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ﴾ أي من ييأس من رحمة الله إلا المكذبون أو الذين أخطأوا سبيل الصواب، فإبراهيم عليه السلام ما أيس من رحمة الله ولكنه استبعد الولد لكبر سنه١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٥ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ٢٨.
قوله تعالى :﴿ قال فما خطبكم أيها المرسلون ( ٥٧ ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٥٨ ) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( ٥٩ ) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ( ٦٠ ) ﴾ لما أيقن إبراهيم عليه السلام أن أضيافه من الملائكة سألهم : ما شأنكم أيها المرسلون، أو ما أمركم الذي أرسلتم به ؟
فأجابوه :﴿ إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ﴾ أي أرسلنا الله لنهلك قوما ضالين فاسقين عن أمر الله.
﴿ إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ﴾ ( آل لوط )، منصوب ؛ لأنه استثناء منقطع ؛ لأن قوم لوط ليسوا من القوم المجرمين١.
وآل لوط، هم أتباعه الذين هم على دينه وهي ملة التوحيد ؛ فهؤلاء لن نهلكهم بل ( إنا لمنجوهم أجمعين ) باستثناء امرأته ؛ فقد كانت من القوم الضالين، وكانت من المفسدين الخائنين.
١ - البيان للأنباري جـ٢ ص ٧١..
وقوله :﴿ إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ﴾ ( امرأته ) منصوب على الاستثناء من آل لوط. و ( قدرنا ) أي قضى الله وكتب ( إنها لمن الغابرين ) أي الباقين. غبر الشيء أي بقي. فقد أخبرت الملائكة إبراهيم أن امرأة لوط من الظالمين المجرمين، وقد قضى الله أنها من ( الغابرين ) يعني الباقين في العذاب١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٢٨ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٦..
قوله تعالى :﴿ فلما جاء آل لوط المرسلون ( ٦١ ) قال إنكم قوم منكرون ( ٦٢ ) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ( ٦٣ ) وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ( ٦٤ ) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ( ٦٥ ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( ٦٦ ) ﴾ لما جاءت الملائكة لوطا في صورة شباب حسان نكرهم فلم يعرفهم. وهو قوله :( إنكم قوم منكرون )
( إنكم قوم منكرون ) أي لا نعرفكم.
فقالت له الملائكة :( بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) ( يمترون ) من الامتراء، والاسم المرية وهي الشك١ ؛ أي جئناك يا لوط بخبر العذاب النازل بساحة هؤلاء المجرمين الفسقة. العذاب الذي كانوا يشكون في حصوله ويكذبونه ؛ فهو نازل بهم ولا مندوحة لهم عنه ولا مناص.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٣٥..
قوله :﴿ وأتيناك بالحق وإنا لصادقون ﴾ أي جئناك بخبر اليقين عن عذابهم النازل بساحتهم ( وإنا لصادقون ) فيما نخبرك به عن هلاكهم وتدميرهم.
قوله :( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) أسر، وسرى أسرى يسْري سُرىً ؛ أي سار ليلا١. أمرت الملائكة لوطا أن يسير بأهله ( بقطع من الليل ) أي ببقية من الليل. أو بآخره.
قوله :( واتبع أدبارهم ولا يتلفت منكم أحد ) أي امض خلف أهلك الذين تسري بهم فكن من ورائهم وهم أمامك ( ولا يلتفت منكم أحد ) أي لا تلتفتوا إلى الذين وراءكم ممن حاق بهم العذاب. وذلك كيلا يتخلف منكم أحد فيصيبه من العذاب ما أصاب قوم لوط. أو كيلا يرى ما نزل بالقوم المجرمين من العذاب والنكال.
قوله :( وامضوا حيث تؤمرون ) أي حيث أمركم الله بالمضي إليه. قال ابن عباس : يعني الشام. وقيل : إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال اليقين. وإنما سمي اليقين ؛ لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم. فقال لجبريل : من أين يُخسف بهم ؟ قال : " من هاهنا " وحدّ له حدّا. وذهب جبريل. فلما جاء لوط جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم : أيقنتُ بالله ؛ فسمي اليقين.
١ - مختار الصحاح ص ٢٩٧..
قوله :﴿ وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ﴾ أي أوحينا إليه ( ذلك الأمر ) وفسر الأمر بقوله :( أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) ( أن )، في موضع نصب على البدل من ( ذلك ) ( مصبحين )، حال من هؤلاء١ والمعنى : أن الله أوحى إلى نبيه لوط عليه السلام أن دابر قومه ؛ أي أولهم وآخرهم مستأصل حين يصبحون، أو عند طلوع الصبح. ودابرهم، معناه آخرهم ؛ فهم مجذوذون عن آخرهم كيلا يبقى منهم أحد٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٢.
٢ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٢٧٦ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٨..
قوله تعالى :﴿ وجاء أهل المدينة يستبشرون ( ٦٧ ) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ( ٦٨ ) واتقوا الله ولا تخزون ( ٦٩ ) قالوا أو لم ننهك عن العالمين ( ٧٠ ) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ( ٧١ ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( ٧٢ ) ﴾ يقول الله مبينا قصة لوط عليه السلام مع قومه الأشرار أهل الفاحشة والأقذار : إن أهل مدينة سدوم وهم قوم لوط لما سمعوا أن أضيافا قد ضافوا لوطا جاءوا ( يستبشرون ) أي جاءوا لوطا وأضيافه مستبشرين فرحين بنزول هؤلاء الشباب أولي الوضاءة والوجوه الصبيحة الحسان طامعين في مقارفة الفاحشة.
قوله :﴿ قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ﴾ قال لوط لقومه واعظا مترفقا عسى أن يرجعوا إلى أنفسهم فينقلبوا منصرفين قافلين : إن هؤلاء الذين تبتغون منهم الفحش والمنكر أضيافي ( فلا تفضحون ) من الفضيحة وهي العيب والجمع فضائح. فضحه فضحا : كشف معايبه، فهو فاضح. افتضح الرجل ؛ أي انكشفت معايبه. وفي الدعاء : لا تفضحنا بين خلقك ؛ أي استر عيوبنا ولا تكشفها١. والمعنى المقصود : أن الضيف يجب إكرامه. فإذا جئتم تبتغون ما قصدتموه من المنكر والفحش فتلك إهانة لي وخزي.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ١١٠ والمعجم الوسيط جـ٢ ص ٦٩٢..
ثم قال :﴿ واتقوا الله ولا تحزون ﴾ أي خافوا ربكم أن ينتقم منكم فيحل عقابه بكم ( ولا تحزون ) أي ولا تحملوني في ذلك هوانا وذلا، أو حياء وخجلا.
قوله :﴿ قالوا أو لم ننهك عن العالمين ﴾ قال قوم لوط لنبيهم في توقح وفحش : ألم ننهك أن تضيف أحدا من الناس ؟ فأنت تعلم أننا نقصده بالفاحشة. أو أننا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة.
قوله :﴿ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ﴾ المراد ببناته اللواتي من صلبه، وقيل : المراد نساء قومه ؛ لأن نبي الأمة كالأب لهم. وذلك كقوله عز وعلا :( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ).
والمعنى : أن لوطا عليه السلام في ساعاته الحرجة هذه التي أصابه فيها من الكرب والحراجة والضيق ما أصابه قد استحث قومه مرغبا لهم في النكاح الحلال وهو يريد بذلك دفع أذاهم وفسادهم عن أضيافه الأطهار.
قوله :( إن كنتم فاعلين ) أي إن كنتم تحبون الحلال من الشهوة دون ما حرم الله من الشهوات المستقذرة. أو إن كنتم تفعلون ما آمركم به من فعل الحلال وترك الحرام.
قوله :﴿ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ﴾ العمر والعمر، أي بفتح العين وضمها. وهما بمعنى واحد وهو الحياة. عمر الرجل عمرا ؛ أي عاشا زمانا طويلا. ولم يستعمل في القسم إلا المفتوح منهما. فنقول : لعمر الله. فاللام لتوكيد الابتداء والخبر محذوف تقديره : لعمر الله قسمي. أو لعمر الله ما أقسم به١، والله تعالى بقول لنبيه محمد ( ص ) : وحياتك يا محمد إن قومك من قريش ( لفي سكرتهم يعمهون ) أي في حيرتهم وغوايتهم يتيهون ويترددون.
وبذلك أقسم الله بحياة نبيه محمد ( ص ). لاجرم أن هذا تشريف عظيم وتقدير بالغ من الله لرسوله ؛ إذ كرمه خير تكريم بأن أقسم حياته الكريمة الفضلى. قال ابن عباس في ذلك : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد ( ص ). وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياة محمد ( ص ) قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا ( إنهم لفي سكرتهم يعمهون ). وقد أجمع المفسرون على أن الله تعالى قد أقسم ههنا بحياة محمد ( ص ) تشريفا له أن قومه من قريش في ( سكرتهم يعمهون ) أي في حيرتهم يترددون.
ويستفاد من الآية كراهة الحلف بغير الله. كأن يحلف المرء بنفسه أو بعمره أو حياته ؛ فإن ذلك منهي عنه أو محظور. وفي الخبر : " من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " ٢.
١ - مختار الصحاح ص ٤٥٤ وتفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٠٧..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٥٥ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٩، ٤٠ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ٢٠٧..
قوله تعالى :﴿ فأخذتهم الصيحة مشرقين ( ٧٣ ) فجعلنا عليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ( ٧٤ ) إن في ذلك لآيات للمتوسمين ( ٧٥ ) وإنها لبسبيل مقيم ( ٧٦ ) إن في ذلك لآيات للمؤمنين ( ٧٧ ) ﴾ ( الصيحة )، هي صيحة جبريل عليه السلام. و ( مشرقين ) منصوب على الحال ؛ أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس أو شروقها ؛ فإنه في وقت الشروق أخذت قوم لوط صاعقة العذاب، إذ صاح فيهم جبريل صيحة التدمير فأبيدوا عن آخرهم.
قوله :( فجعلنا عليها سافلها ) أي جعل الله عالي أرضهم سافلها. وذلك أن جبريل الأمين عليه السلام قد رفع أرض قوم لوط- القوم الذين كانوا متفحشين في المنكر ويعملون الخبائث- إلى السماء، ثم قلبها قلبا فصار العالي منها سافلا، والسافل عاليا.
قوله :( وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ) السجيل : حجارة من طين طبخت بنار جهنم١ ؛ فإنه فوق ما جاءهم به جبريل من الصوت القاصف المدمر فقد أمطرهم الله بحجارة من طين زيادة في تعذيبهم والتنكيل بهم.
١ - مختار الصحاح ص ٢٨٧..
قوله :﴿ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ﴾ يعني إن ما حل بقوم لوط من الهلاك والتدمير لهي علامات ودلالات ( للمتوسمين ) أي المعتبرين والمتبصرين والمتفكرين. وقيل : للمتفرسين. والتوسم من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوب. يقال : توسمت في فلان خيرا ؛ أي رأيت فيه أثرا منه وتفرسته فيه١، ويعزز هذا التأويل ما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ص ) : " اتقوا فراسة المؤمن ؛ إنه ينظر بنورا الله " ثم قرأ ( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ).
قال الحسن البصري في معنى المتوسمين : المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار.
١ - مختار الصحاح ص ٧٢٢ والمصباح المنير جـ٢ ص ٣٣٦ وتفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٠٨..
قوله :﴿ وإنها لبسبيل مقيم ﴾ الضمير عائد إلى قرى قوم لوط، والسبيل المقيم معناه الطريق الثابت الذي لم يندرس ؛ أي أن هذه القرى التي أتى عليها التدمير والإهلاك لهي بطريق واضح ثابت لم يخف ولم يدرس بعد. وهي طريق يمر بها هؤلاء المشركون كلما ضربوا في الأرض من الحجاز إلى الشام من أجل التجارة ؛ فهم إذا مروا بقرى قوم لوط شاهدوا آثار التدمير والعذاب الذي حل بهم بما جنوه من شنيع المنكرات والفواحش.
قوله :﴿ إن في ذلك لآية للمؤمنين ﴾ الإشارة عائدة إلى ما صنع الله بقوم لوط من شديد النوازل وعظيم التنكيل ؛ فإنه فيما حل بهم من هذا العذاب الوبيل علامة واضحة للمؤمنين يستدلون بها على أن الله ينتقم للنبيين والمؤمنين من الطغاة الظالمين الذين يثيرون في الأرض الفساد والباطل ويكيدون لدين الله المكائد١.
١ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٠٧، ٢٠٨ وتفسير الطبري جـ١٤ ص ٣٢، ٣٣..
قوله تعالى :﴿ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ( ٧٨ ) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ( ٧٩ ) ﴾ إن، المخففة من إن الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف. والتقدير : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة. وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب. والأيكة بمعنى الغيضة وهي الشجر الكثير المتلف، وجمعها الأيك١. فقوم شعيب كانوا أصحاب موضع ذي شجر وآجام. وكانوا سادرين في الشرك والظلم وقطع الطريق ونقص المكيال والميزان.
١ - مختار الصحاح ص ٣٦..
ومن أجل ذلك انتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظّلّة، إذ اشتد الحر فيهم أياما لا يظلمهم من اضطرامه أو يقيهم من حره شيء، فبعث الله عليهم سحابة، فراحوا يستظلون بظلها يلتمسون تحتها النجاة من لظى الهجير المتأجج، فبعث الله عليهم نارا فاحترقوا. وذلك هو عذاب يوم الظّلّة.
قوله :( وإنهما لبإمام مبين ) المراد بالضمير في قوله :( وإنهما ) قرى قوم لوط، وأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب.
قوله :( لبإمام مبين ) اللام للتوكيد، والإمام، ما يؤتم به. والمراد به الطريق الواضح وإنما جعل الطريق إمام ؛ لأنه يؤم ويتبع. والمبين، الظاهر في نفسه. إذ يهتدي به المسافرون١.
١ - تفسير النسفي جـ٢ ص ٢٧٧ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٠..
قوله تعالى :﴿ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( ٨٠ ) وآتيناهم آيتنا فكانوا عنها معرضين ( ٨١ ) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ( ٨٢ ) فأخذتهم الصيحة مصبحين ( ٨٣ ) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ( ٨٤ ) ﴾ المراد بالحجر هنا ديار ثمود قوم صالح عليه السلام. وهي ما بين مكة وتبوك : أو الوادي الذي كانت تسكنه ثمود ؛ فلقد كذب هؤلاء المرسلين. إذ جحدوا نبيهم صالحا وكذبوا نبوته وآذوه أيما إيذاء. والذي يكذب نبيا من النبيين فكأنما كذب سائر النبيين ؛ لأنهم جميعا على ملة واحدة وهي ملة التوحيد الخالص لله، فما يجوز التفريق بينهم بل يجب الإيمان بهم جميعا.
قوله :﴿ وآتيناهم آيتنا فكانوا عنها معرضين ﴾ أي آتيناهم علاماتنا وأدلتنا الظاهرة على صدق نبيهم صالح وأنه مرسل من ربه. والمراد بآياته، الناقة الهائلة التي أخرجها الله من الصخرة الصماء فكانت في ضخامتها ليس لها في النوق نظير. وكانت تسرح في بلاد القوم ؛ إذ كان لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. لكنهم مع ذلك قد عَتَوا عُتُوا فاجرا لئيما، إذ عقروها ( فكانوا عنها معرضين ) لقد أعرضوا عما آتاهم الله من الآيات والدلالات مما فيه اعتبار وازدجار لكنهم لم يعتبروا ولم يتعظوا.
قوله :﴿ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ﴾ ( ينحتون ) أي ينجرون من النجر. نحت نحتا ونحيتا ؛ أي قشر وبرى ونجر. والنحاتة، البراية١ ؛ أي كان أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح ينقبون في الجبال بيوتا، أو يبنون من حجارتها بيوتا ( آمنين ) أي من عذاب الله، أو من الخراب والهدم. وقيل : آمنين من الموت ؛ فهم يتوهمون أن بيوتهم المكينة التي نحتوها من حجر الجبال سوف تحول دون كل احتمالات العذاب أو الخراب أو الموت. وذلك محض وهم وضلال يتيه فيهما الجاهلون والغافلون والسفهاء في كل زمان.
١ - المعدم الوسيط جـ٢ ص ٩٠٦ ومختار الصحاح ص ٦٤٨..
قوله :﴿ فأخذتهم الصيحة مصبحين ﴾ أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا في يومهم الرابع من اليوم الذي توعدهم الله فيه العذاب بعد تمتعهم في دارهم ثلاثة أيام.
قوله :﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾ يعني ما دفع عنهم البلاء والعذاب النازل بهم ما كان لهم من أموال وحصون وما أتوه من قوة الأجسام١.
١ - تفسير الطبري جـ١٤ ص ٣٤ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٧٧..
قوله تعالى :﴿ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ( ٨٥ ) إن ربك هو الخلاق العليم ( ٨٦ ) ﴾ ما خلق الله هذه الخلائق الكاثرة المبثوثة كالسموات والأرض وما فيهن وما بينهن من كائنات وأجرام عجاب ( إلا بالحق ) أي إلا بالعدل وما يقتضيه ذلك من فوائد ومنافع وحكمة. ولم يخلق ذلك بالباطل أو العبث. والله جل جلاله من صفاته العدل ؛ فإنه لم يظلم أحدا البتة وما يقضي في حكمه إلا بالحق والإنصاف وليس بالباطل والجور. وكذلك فإنه خلق السماوات والأرض وما حوته من أشياء بالعدل.
قوله :( وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) القيامة جائية لا محالة ؛ بل إن القيامة لهي الخبر اليقين المقطوع الذي يدهم الكون بهوله وفظائعه، وحينئذ ينتقم الله من الظالمين الخاسرين الذين كذبوك يا محمد وأعرضوا عنك إعراضا. وما عليك إلا أن تعرض عنهم بإحسان، وتعفو عنهم العفو الرفيق الحسن. وقيل : إن ذلك منسوخ بآيات القتال.
قوله :﴿ إن ربك هو الخلاق العليم ﴾ الله الذي خلق الخلق جميعا وهو أعلم بالصالحين منهم والطالحين، وأعلم بما يأتيه العباد من أفعال وتدبير.
قوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ( ٨٧ ) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ( ٨٨ ) ﴾.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل جاءت من بصرى وأذرعات إلى يهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البز ( الثياب ) وأوعية الطيب والجواهر وأمتعة البحر. فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها فأنفقناها في سبيل الله. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال : لقد أعطيتكم سبع آيات خير لكم من هذه السبع القوافل١.
والله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله محمد ( ص ) فيمتن عليه وعلى المؤمنين أن آتاهم ( سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) وليت شعري أي عطاء ومنة وفضل خير وأكبر مما أعطاه الله نبيه محمدا ( ص ) والمسلمين ؛ فقد أعطاهم السبع المثاني وأعطاهم قرآنه الكريم. وأعظم به من عطاء هائل مبارك. لا جرم أن ذلك خير البركات التي تتنزل على الأرض.
والمثاني والقرآن العظيم بما فيهما من الخيرات والبركات والأحكام والدلالات والمواعظ والمشاهد والأخبار وغير ذلك من المعاني العظام خير ما تؤتاه أمة من ربها.
أما المثاني : فقد اختلف المفسرون في المراد بها. وثمة قولان في تأويل ذلك.
القول الأول : إن المراد بالسبع المثاني، السور السبع الطوال، وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ؛ ففيهن الفرائض والحدود والقصاص والأحكام والأمثال والأخبار والعبر. وهو قول ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك وآخرين.
القول الثاني : إنها الفاتحة. وهي سبع آيات، والبسملة الآية السابعة، وقد روي ذلك عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وآخرين. وقد سميت بالمثاني ؛ لأنها تثنى في كل صلاة أي تقرآ في كل ركعة. فهي من التثنية ومعناها التكرير ؛ لأن الفاتحة مما يتكرر في كل صلاة سواء منها الفريضة أو التطوع. وقيل : من الثناء ؛ لأنها تشتمل على الثناء على الله. وقيل : سميت بالمثاني ؛ لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة. وقيل غير ذلك. وواحدة المثاني، مثناة، أو مثنية صفة للآية.
والصواب من هذه الأقوال الثاني وهو المراد بالسبع المثاني سورة الفتاحة وهي أم الكتاب لما يعزز ذلك من أخبار. منها ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي سعيد بن المعلى قال : مر بي النبي ( ص ) وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " فقلت : كنت أصلي. فقال : " ألم يقل الله ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) ؟ ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد " فذهب النبي ( ص ) ليخرج فذكرت فقال :( الحمد لله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".
وكذلك أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم ".
على أن ذلك لا ينافي وصف غير الفاتحة من السور الطوال بالمثاني كما لا ينافي وصف القرآن كله بهذا الوصف ؛ فقد قال جل وعلا :( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني ) وسيأتي تأويل هذه الآية في موضعها من هذا التفسير إن شاء الله.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٨٧..
قوله :﴿ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ﴾ أي لا تتمنين ما فضلنا به أحدا من الظالمين من متاع الدنيا وزينتها. ومد العينين إلى الشيء، بدوام النظر إليه وهو ما يدل على استحسانه وتمنيه. والأزواج يراد بهم الأصناف. وهم هنا أصناف الكافرين الذين لا تنشغل قلوبهم وعقولهم إلا في المتاع والمال وكيفية تحصيل ذلك وتكثيره، فما ينبغي للمؤمنين أن يتمنوا ما فضل الله به غيرهم من المشركين والضالين الخاسرين. ولئن أعطى الله هؤلاء الظالمين من مختلف النعم والخيرات والمال ما يغترون به اغترارا، فقد أعطى الله المسلمين خيرا من ذلك وأعظم وأدوم لقد أعطاهم خير الدنيا والآخرة، وذلكم المثاني والقرآن العظيم. وهما تقيض منهما على العالمين الرحمات والبركات حيث التشريع الأمثل الكامل والعقيدة الراسخة السمحة والمعاني الزاخرة الكاثرة الودود. لا جرم أن القرآن خير ما حفلت به السماوات والأرض من ظواهر عجاب، لما حواه هذا الكتاب المعجز من بالغ الحكمة وكريم الملة وكامل التشريع. التشريع الذي بني على الرحمة والمودة والأمان للبشرية كافة.
ذلكم هو القرآن الذي انبثقت منه ملة الإسلام لتكون خير هداية للإنسان وهو يمضي مكافحا عاملا على متن هذا الكوكب. ملة الإسلام قد جيء بها للعالمين كيما تكون مشكاة يتلألأ منها الإشعاع والنور وتستضيء بإشراقها البشرية على مر الزمن لتمضي في الحياة آمنة سالمة مطمئنة وهي يحفها الأمان والسلام وتتفجر من خلالها الرحمة والإخاء والعدل. إن ذلكم خير مما تمتد إليه أبصار الناس من الضالين الغافلين من متاع الدنيا الفانية الغرور.
قوله :( ولا تحزن عليهم ) أي لا تبتئس بإعراضهم عن دين الله. وقيل : لا تحزن على إمتاعهم في الدنيا بزينتها وزخرفها، فما أوتيته أنت من قرآن حكيم خير مما أوتوه من مال وزينة.
قوله :( واخفض جناحك للمؤمنين ) الخفض نقيض الرفع. والجناح معناه اليد. وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع، والله جل وعلا يأمر رسوله الكريم ( ص ) بجميل التواضع واللين لمن آمن بدعوته واتبع هداه، وأن لا يلتفت إلى المشركين وما كسبوه من ثراء ومتاع١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٥٥٧ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ٢١٣- ٢١٥ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٥٦، ٥٧..
قوله تعالى :﴿ وقل إني أنا النذير المبين ( ٨٩ ) كما أنزلنا على المقتسمين ( ٩٠ ) الذين جعلوا القرآن عضين ( ٩١ ) فوربك لنسألنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ( ٩٣ ) ﴾
يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) أن يقول للناس : إنني نذير مظهر لكم العذاب الأليم أن يحل بكم كما حل بمن قبلكم من المقتسمين الظالمين الخاسرين.
وبذلك فإن الكاف في قوله :( كما ) تتعلق بقوله :( أنا النذير المبين ) أي أنذركم من العذاب كما أنزلنا على المقتسمين من العذاب. وقيل : الكاف تتعلق بقوله : " آتيناك سبعا من المثاني كما أنزلنا على المقتسمين " ١ اختلفوا في المراد بالمقتسمين. وفي ذلك عدة أقوال.
منها : أنهم الذين اقتسموا طرق مكة ليصدوا الناس عن الإيمان برسول الله ( ص ). ويقرب عددهم من أربعين. وقيل : كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها : لا تغتروا بالخارج منها والمدعي للنبوة فإنه مجنون. وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم الخزي والمهانة فماتوا شر ميتة. والمعنى : أنني أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين. وذلك قول ابن عباس.
ومنها : أن المقتسمين هم اليهود والنصارى. وسموا مقتسمين ؛ لأنهم جعلوا القرآن عضين، آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي. وقيل : لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به. فقال بعضهم : سورة كذا لي : وقال بعضهم : سورة كذا لي. وقال بعضهم : القرآن سحر. وقال آخرون : إنه شعر. وقال آخرون : أساطير الأولين. وتلك رواية عن ابن عباس.
ومنها : أنهم قوم صالح قد تقاسموا لنبيتنه وأهله ؛ فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم. فعلى هذا، الاقتسام من القسم وهو الخلف وليس من القسمة.
١ - البيان للأنباري جـ٢ ض ٧٢..
قوله :﴿ الذين جعلوا القرآن عضين ﴾ أي جعلوه أعضاء حين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، و ( عضين ) جمع عضة. كقلين جمع قلة. وعرين جمع عرة، وثبين جمع ثُبة١، وأصل العضة، العضوة، من عضيت الشيء ؛ إذا فرقته. وكل قطعة عضة. والتعضية بمعنى التجزئة والتفريق ؛ يقال : عضيت الجزور والشاة تعضية ؛ إذ جعلتها أعضاء وقسمتها. فقوله :( جعلوا القرآن عضين ) أي جزءوه أجزاء فقالوا : سحر وشعر ومفترى وأساطير الأولين. قال ابن عباس في تأويل الآية : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء ؛ فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه.
١ - البيان للأنباري جـ٢ ص ٧٢.
قوله :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ( ٩٣ ) ﴾ الضمير في ( لنسألنهم ) عائد إلى ( المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) فإن الله عز وعلا يقسم بذاته أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي. وبهذا يمكن جعل القول من عمل اللسان. فما قالوه في الاقتسام مندرج فيما كانوا يعملونه.
وقيل : الضمير عائد إلى جميع المكلفين. وبذلك فإن الآية تدل بعمومها على أن الله سائل الناس ومحاسبهم جميعا سواء فيهم الكافرون والمؤمنون إلا من دخل الجنة بغير حساب. فلسوف يسأل الله الناس جميعا عما عملوه، ولا يسألهم سؤال استخبار واستعلام : هل عملتم كذا وكذا. فإن الله عليم بكل شيء، ولكنه يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، وهو قول ابن عباس١.
١ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢١٦، ٢١٧ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:قوله :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ( ٩٢ ) عما كانوا يعملون ( ٩٣ ) ﴾ الضمير في ( لنسألنهم ) عائد إلى ( المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) فإن الله عز وعلا يقسم بذاته أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي. وبهذا يمكن جعل القول من عمل اللسان. فما قالوه في الاقتسام مندرج فيما كانوا يعملونه.
وقيل : الضمير عائد إلى جميع المكلفين. وبذلك فإن الآية تدل بعمومها على أن الله سائل الناس ومحاسبهم جميعا سواء فيهم الكافرون والمؤمنون إلا من دخل الجنة بغير حساب. فلسوف يسأل الله الناس جميعا عما عملوه، ولا يسألهم سؤال استخبار واستعلام : هل عملتم كذا وكذا. فإن الله عليم بكل شيء، ولكنه يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، وهو قول ابن عباس١.
١ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢١٦، ٢١٧ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٢..

قوله تعالى :( فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين ( ٩٤ ) إنا كفيناك المستهزئين ( ٩٥ ) الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( ٩٦ ) } ( فاصدع )، من الصدع وهو الشق. وتصدع القوم : إذ انشقوا أو تفرقوا، وصدع بالحق : تكلم به جهارا، والمراد هنا : أظهر دينك، أو فرق بين الحق والباطل بإظهار ما تؤمر به. وما، في قوله :( بما ) تحتمل وجهين. احدهما : أن تكون ما، اسما موصولا بمعنى الذي. والتقدير : فاصدع بالذي تؤمر به. وثانيهما : أن تكون ما، مصدرية. والتقدير : فاصدع بالأمر١.
وذلك أمر من الله لنبيه ( ص ) بتبليغ رسالته للناس جهارا دون استخفاء ؛ فقد قالوا : ما زال النبي ( ص ) مستخفيا حتى نزلت هذه الآية التي يأمر الله فيها بإبلاغ ما بعثه الله به والصدع به مجاهرة وظهورا. ويقتضي ذلك مواجهة المشركين علانية بالقرآن وما فيه للناس من رسالة التوحيد وإخلاص العبودية لله دون سواه، وما حمله أيضا من شرائع وأحكام تسوق البشرية إلى النجاة والسلامة والخير في الدنيا والآخرة.
قوله :( واعرض عن المشركين ) أي بلغ قومك ما أرسلت به إليهم، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يصدون عن دين الله، واكفف عن قتالهم وحربهم. ثم نسخ ذلك بآيات القتال كقوله :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ).
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٧٣..
قوله :﴿ فإن كفيناك المستهزئين ﴾ أي لا تعبأ بالمشركين ولا تخش أذاهم وكيدهم فإن الله كافيك الذين يستهزئون بك من المشركين، الذين يناصبونك العداء والصد والأذى.
وقيل : نزلت هذه في خمسة نفر كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله ( ص ) وفي الاستهزاء به فأهلكهم الله انتقاما لدينه ولرسوله ( ص )، وهؤلاء هم الوليد بن المغيرة ؛ فقد مرّ بنبّال فتعلق بثوبه سهم فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات. والعاص بن وائل دخل في أخمصه شوكة فانتفخت رجله فمات. والأسود بن عبد المطلب عمي. والأسود بن عبد يغوث جعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. والحارث بن قيس امتخط قيحا ومات.
قوله :( الذين يجعلون مع الله إلها آخر ) هذا وصف للمستهزئين الذين أهلكهم الله ؛ فقد وصفهم الله بالشرك ؛ إذ عبدوا مع الله آلهة أخرى فما كان ذنبهم الاستهزاء وحده ؛ بل كان لهم ذنب شنيع آخر لا يقل عن الإشراك فظاعة ونكرا، وهو الاستهزاء برسول الله ( ص ). فما يستهزئ برسول الله ( ص ) إلا كل فاجر خاسر أو عتلّ متوقّح ظلوم قد سخر من خير من حملت الغبراء وأظلت السماء وذلكم هو خير البرية والأنام : محمد رسول الله ( ص ). وما الاستسخار بنبي الله إلا الاستسخار بالرسالة المنزلة من عند الله للعالمين، الرسالة التي جاءت تحمل للبشرية ملة التوحيد وسبيل الهداية والحق، وتسوق الناس طيلة الزمان إلى الحق والخير والنجاء. وليس الاستسخار من ذلك إلا محض الكفران والعصيان والتمرد.
قوله :( فسوف يعلمون ) ذلك تهديد من الله ووعيد لهؤلاء الخاسرين المستهزئين الذين يسخرون من نبي الله ( ص ) وهو المبعوث إليهم هداية ورحمة ؛ فقد توعدهم الله بالعذاب ؛ وهو ما يلاقونه من شديد البلاء والويل عند مصيرهم إلى ربهم يوم القيامة١.
١ - تفسير الرازي جـ١٩ ص٢٣٠ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٩٧ وفتح القدير جـ٣ ص ١٤٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٥٩..
قوله تعالى :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾ الله يعلم أن رسوله الكريم يضيق صدره مما يسفهه قومه عليه. والنبي ( ص ) بشر من البشر ؛ فهو في جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية لا جرم يألم مما يتقوله الظالمون الكافرون عليه وعلى دينه من طعون وإساءات. وفي هذه الكلمات القرآنية الحانية ما يسرّي عن قلب رسول الله ( ص ) وعن قلوب المؤمنين الغيورين على دين الله مما ينتابهم من حين لآخر من شديد الاغتمام والابتئاس والمضاضة، وذلك لما يسمعونه من فاسد التقول الظالم ومن خبيث الطعون والشبهات والأكاذيب التي يرسلها المنافقون والمشركون الحاقدون على اختلاف مللهم وعقائدهم وثقافاتهم.
الله يعلم ما يصيب قلوب المؤمنين الغيورين من عباده على دينه من لاذع القول المهين، مما تزدرده حناجر الأفاكين والخراصين الدجاجلة في كل حين وزمان، وهي تفتري على الإسلام وعقيدته وشرعه وأحكامه وقيمه وتعاليمه. تفتري عليه باصطناع الأباطيل الملفقة من سقط الفكر التافه مما يثير في أذهان الناس والمسلمين جملة من الشكوك والظنون والأوهام التي تحملهم على الافتتان عن دين الله، والارتياب في روعة هذا الدين الكامل المميز وصلاحه.
الله يعلم الضيق الشديد الذي يمس باحتراره شغاف القلوب المؤمنة الغيورة على الإسلام مما يتقاطر من أكاذيب وطعون ملفقة تفيض بها أقلام الحاقدين من أعداء الإسلام الذي يكيدون في كل آن للإسلام بمختلف أساليب التخريص والباطل من أجل تشويه الأذهان وتلويث الثقافات والمعارف الإنسانية. وهم في ذلك إنما يفترون على الله ورسوله ودينه افتراءات ظالمة شتى. سواء في ذلك الطعن في شخصية رسول الله ( ص ) أو الطعن في نظام الإسلام بسوء التحليل والتأويل، ومختلف الأساليب في التزييف والتزوير والتضليل وذلك هو ديدن الظالمين من خصوم الإسلام في كل زمان، بدءا بجيئة رسول الله ( ص ) إلى الدنيا حتى زماننا الراهن هذا.
هذا هو ديدنهم في التضليل والتشويه واختلاف الطعون والشبهات لتنفير الناس والمسلمين من دين الله الكامل الشامل. دين الإسلام.
ومع فظاعة الكيد للإسلام والإفراط في الخيانة والتآمر عليه من المتمالئين والكائدين والمتخرصين الأفاكين ؛ مع ذلك كله فقد كتب الله النصر والغلبة لدينه وللمؤمنين بالرغم مما يصيبهم في كثير من الأحيان من شديد الانتكاس والتقهقر بسبب تقصيرهم وتفريطهم ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
قوله تعالى :﴿ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( ٩٨ ) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( ٩٩ ) ﴾ إذا ضاق صدرك من قول المشركين الظالمين وهم يفترون عليك وعلى دينك بالباطل، فأصابك من ذلك ابتئاس ومضاضة ؛ فافزع إلى رحاب الله بالصلاة والتسبيح والذكر والدعاء يكفك الله ما أهمك من الضيق والأسى.
وكذلك اعبد الله حتى يأتيك الموت وهو تأويل اليقين. وسمي الموت باليقين ؛ لأنه أمر متيقن وهو قول ابن عباس١.
١ - تفسير الرازي جـ١٩ ص ٢٢٠، ٢٢١ وتفسير اقلرطبي جـ١٠ ص ٦٣..
Icon