ﰡ
إن قلتَ كيف وصف الحساب بالقرب، وقد مضى من وقت هذا الإخبار، أكثر من تسعمائة عام ولم يوجد( ١ ) ؟
قلتُ : معناه إنه قريب عند الله، وإن كان بعيدا عندنا كقوله تعالى :﴿ إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ﴾ [ المعارج : ٦، ٧ ] وقوله :﴿ وإن يوما عند ربّك كألف سنة مما تعدّون ﴾ [ الحج : ٤٧ ].
أو إنه : قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان.
أو إن المراد : قربه لكل واحد في قبره، ويؤيده خبر «من مات قامت قيامته ».
قاله هنا : بلفظ " من ربّهم " وفي الشعراء بلفظ " من الرحمن "، لأن " الرّب " يأتي مضافا، بخلاف " الرحمن " لم يأت مضافا غالبا.
ولموافقة ما هنا قوله بعد :﴿ قال ربّ يعلم القول ﴾ [ الأنبياء : ٤ ] وموافقة ما في الشعراء قوله بعد :﴿ وإن ربّك لهو العزيز الرحيم ﴾ [ الشعراء : ٦٨ ] إذِ الرحمن والرحيم أخوان( ١ ).
فإن قلتَ : كيف وصف الذّكر بالحدوث، مع أن الذّكر الآتي هو القرآن، وهو قديم ؟
قلتُ : المراد أنه مُحدَث إنزاله، أو أنه ذكر غير القرآن، وأُضيف إلى الربّ، لأنه آمر به وهاد له.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن النجوى المسَّارة ؟ !
قلتُ : معناه بالغوا في إخفاء المسَّارة، بحيث لم يفهم أحد تناجيهم ومسارَّتهم، تفصيلا ولا إجمالا.
قاله هنا : بحذف " مِنْ " تبعا لحذفها من قوله قبل ﴿ ما آمنت قبلهم من قرية ﴾ [ الأنبياء : ٦ ] وقاله بعدُ بذكرها( ١ )، جريا على الأصل.
قوله تعالى :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ [ الأنبياء : ٧ ].
أمر مشركي مكة بأن يسألوا " أهل الذكر " أي أهل الكتاب، عمّن مضى من الرسل، هل كانوا بشرا أم ملائكة ؟
فإن قلتَ : كيف أمرهم بذلك، مع أنهم قالوا :﴿ لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ﴾ ؟ [ سبأ : ٣١ ].
قلتُ : لا مانع من ذلك، إذِ الإخبار بعدم الإتيان بشيء، لا يمنع أمره بالإتيان به، ولو سُلِّم فهم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب، لكن النّقل المتواتر من أهل الكتاب في أمر، يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم، ولمن لا يؤمن به.
إن قلتَك كيف قال ذلك، الشّامل لقوله في النور ﴿ والله خلق كلّ دابة من ماء ﴾ [ النور : ٤٥ ] مع أنّ لنا أشياء أحياء، لم تُخلق من الماء، وهم : الملائكة، والجنّ، وآدم، وناقة صالح ؟ ! إذ الملائكة خُلقت من نور، والجنّ من نار، وآدم من تراب، وناقة صالح من حجر لا من ماء ؟ !
قلتُ : المراد به البعض كما في قوله تعالى :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ [ النمل : ٢٣ ] وقوله :﴿ وجاءهم الموج من كل مكان ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
أو الكلّ مخلوقون من الماء، لأن الله خلق قبل خلق الإنسان جوهره، ونظر إليها نظر هيبة، فاستحالت ماء، فخلق من ذلك الماء جميع المخلوقات( ١ ).
أو خلقهم من الماء، إما بواسطة أو بغيرها، ولهذا قيل : إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجنّ من نار خلقها من الماء، وآدم من تراب خلقه من الماء.
أي إلى الجنة أو النار.
قال ذلك هنا بالواو، موافقة للتعيين بها، فيما زاده هنا بقوله ﴿ ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ].
وقال في العنكبوت( ١ ) ب " ثُم " لدلالتها على تراخي الرجوع، المذكور عن بلوى الدنيا – ولم يقع بينهما تعبير بواو ثم ما زاده هنا – اختصارا.
قاله ( استهزاء وتهكّما ) بمن سفّهوه، وإلا ففاعله هو نفسه.
أو أنه لمّا كان الحامل له على الفعل، تعظيمهم للأصنام، وكان كبيرها أبعث له على الفعل، لمزيد تعظيمهم له، أُسند الفعل إليه لأنه السبب فيه( ١ ).
إن قلتَ : كيف خاطب النار مع أنها لا تعقل ؟ !
قلتُ : خطاب التّحويل والتكوين، لا يختصّ بمن يعقل كما مرّ، قال تعالى :﴿ يا جبال أوّبي معه والطّير ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وقال :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ﴾ [ فصلت : ١١ ] وقال :﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ﴾ [ هود : ٤٤ ].
قاله هنا : بلفظ " الأخسرين " وفي الصافات( ١ ) بلفظ " الأسفلين "، لأن ما هنا تقدّمه أن إبراهيم كادهم، وأنهم كادوه، وأنه غلبهم في الكيد، فخسرت تجارتهم حيث كسر أصنامهم، ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم، فناسب ذكر ﴿ الأخسرين ﴾.
وما في الصافات : تقدّمه ﴿ قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ﴾ [ الصافات : ٩٧ ] فأجّجوا نارا عظيمة، وبنوا بنيانا عظيما، ورفعوا إبراهيم إليه ورموه منه إلى أسفل، فرفعه الله إليه، وجعلهم في الدنيا من الأسفلين، وردّهم في العقبى أسفل سافلين، فناسب ذكر الأسفلين.
٢ - المقصود في هذه السورة، ذكر مريم وما آل إليه أمرها، فلذلك أنّث الضمير هنا، بخلاف سورة التحريم، فإن الغرض ذكر عفّتها وإحصانها، فلذلك ذكّر الضمير..
قال ذلك هنا، وقال في المؤمنين ﴿ وأنا ربّكم فاتّقون فتقطّعوا ﴾ [ المؤمنون : ٥٢، ٥٣ ] لأن الخطاب هنا للكفار، فأمرهم بالعبادة التي هي التوحيد، ثم قال : " وتقطعوا " بالواو لا بالفاء، لأن مدخولها ليس مرتبا على ما قبلها، بل هو واقع قبله، ومن قال : الخطاب مع المؤمنين، فمعناه : دوموا على العبادة.
والخطاب ثَم للنبي وأمته، بدليل قوله قبل ﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات... ﴾ الآية [ المؤمنون : ٥١ ]. والأنبياء وأمّتهم مأمورون بالتقوى... ثم قال ﴿ فتقطّعوا أمرهم ﴾ [ المؤمنون : ٥٣ ] بالفاء، أي ظهر منهم التقطّع بعد هذا القول، والمراد أمتهم.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنه لا بدّ من رجوعهم إلى الله ؟ !
قلتُ : معناه لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان، أو لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا.
وقيل : معنى " حرام " واجب، ف " لا " حينئذ زائدة، أي واجب رجوعهم( ١ ).
فإن قلتَ : كيف يكونون مبعدين عنها، وقد قال تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ [ مريم : ٧١ ] وورودها يقتضي القرب منها ؟ !
قلتُ : معناه : مبعدون عن ألمها، وعَنَاها، مع ورودهم لها.
أو معناه : مبعدون عنها بعد ورودها، بالإنجاء( ١ ) المذكور بعد الورود.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن رحمة للكافرين بل نقمة، إذ لولا إرساله إليهم، ما عُذّبوا بكفرهم، لقوله تعالى :﴿ وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا ﴾ ؟ ! [ الإسراء : ١٥ ].
قلتُ : بل كان رحمة للكافرين أيضا، من حيث إنّ عذاب الاستئصال أُخّر عنهم بسببه( ١ ).
أو كان رحمة عامة، من حيث إنه جاء بما يُسعدهم إن اتّبعوه، ومن لم يتّبعه فهو المقصّر، أو المراد ب " الرحمة " الرحيم، وهو صلى الله عليه وسلم كان رحيما للكفار أيضا، ألا ترى أنهم لما شجّوه، وكسروا رباعيته، حتى خرّ مغشيا عليه، قال بعد إفاقته :) اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون(.
فإن قلتَ : ما فائدة قوله " بالحق " ؟
قلتُ : ليس المراد " بالحقّ " هنا نقيض الباطل، بل المراد ما وعده الله تعالى إيّاه، من نصر المؤمنين، وخذلان الكافرين، ووعدُه لا يكون إلا حقا، ونظيره قوله تعالى :﴿ ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ].
أو أنّ قوله " بالحقّ " تأكيد لما في التصريح بالصّفة من المبالغة( ١ ) وإن كانت لازمة للفعل، ونظيره في عكسه من صفة الذم قوله تعالى :﴿ ويقتلون الأنبياء بغير حقّ ﴾ [ آل عمران : ١١٢ ].