تفسير سورة المؤمنون

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

خصال المؤمنين
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
الإعراب:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ انتظمت الجملة أقسام الكلم الثلاثة التي هي الاسم والفعل والحرف، فإن قَدْ حرف، وأَفْلَحَ فعل، والْمُؤْمِنُونَ اسم.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ جملة معطوفة على ما قبلها، أي يؤدون الزكاة. وقيل: أي الذين لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وتفسير القرآن بعضه ببعض أولى، لكن الظاهر الأول لأن الغالب في القرآن اقتران الزكاة بالصلاة.
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ.. إنما جمع (أمانات) جمع (أمانة) مع أنها مصدر، والمصادر لا تجمع لأنها تدل على الجنس لأنها مختلفة الأنواع، وحينئذ يجوز تثنيتها وجمعها، والأمانة هنا مختلفة، لاشتمالها على سائر العبادات وغيرها من المأمورات.
البلاغة:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ: لإفادة التحقيق، والإخبار بصيغة الماضي لإفادة الثبوت والتحقق.
8
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ.. الآيات، تفصيل بعد إجمال.
الْمُؤْمِنُونَ خاشِعُونَ مُعْرِضُونَ فاعِلُونَ حافِظُونَ العادُونَ سجع لطيف غير متكلف.
الْوارِثُونَ استعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم.
المفردات اللغوية:
قَدْ للتحقيق وهي تثبت المتوقع، كما أن (لما) تنفيه، وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي، فتقرّبه من الحال أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ فازوا بأمانيهم، وأَفْلَحَ: فاز وظفر بالمراد، والْمُؤْمِنُونَ: جمع مؤمن: وهو المصدّق بالله وبما أنزل على رسوله من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء. خاشِعُونَ متواضعون خاضعون متذللون لله خائفون منه اللَّغْوِ ما لا خير فيه من الكلام، وما لا يعني من قول أو فعل مُعْرِضُونَ أقام الإعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأسا، مباشرة وتسببا وميلا وحضورا وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام بالطاعات البدنية والمالية وتجنب المحرّمات وما يخل بالمروءة. والمراد بالزكاة هنا المعنى وهو التزكية، فجعل المزكين فاعلين له، لأن التزكية مصدر، ويقال لمحدثه فاعل، فهو فاعل الحدث، كالضارب فاعل الضرب، والقاتل فاعل القتل.
ويجوز أن يراد بالزكاة العين، أي القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير، بتقدير مضاف محذوف وهو الأداء لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ أي يحفظون فروجهم عن الحرام، والفرج: سوأة الرجل والمرأة وحفظه: التعفف عن الحرام إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي من زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي السراري حينما كان الرق شائعا، أما اليوم فقد انتهى من العالم غَيْرُ مَلُومِينَ في إتيانهن، والضمير يعود لحافظون أو لمن دل عليه الاستثناء.
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي طلب غير ذلك من الزوجات والسراري كالاستمناء باليد (العادة السرية) في إتيانهن العادُونَ المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم، أو المتناهون في العدوان وتجاوز الحدود الشرعية.
لِأَماناتِهِمْ جمع أمانة: وهي كل ما يؤتمن الإنسان عليه من الله كالتكاليف الشرعية، أو من الناس كودائع الأموال وَعَهْدِهِمْ العهد: كل ما التزمه الإنسان نحو ربه وأمره به كالصلاة والنذر وغيرهما، ونحو الناس من قول وفعل كالعقود والوعود والعطاء. وكلمة عَهْدِهِمْ مفرد
9
مضاف فيعم راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، والرعي: الحفظ، والراعي: الذي يحفظ الشيء ويصلحه.
صَلَواتِهِمْ جمع صلاة، وهي مثل لِأَماناتِهِمْ تشمل المفرد والجمع يُحافِظُونَ يواظبون عليها، ويؤدونها في أوقاتها أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات الْوارِثُونَ لا غيرهم، أي هم الأحقّاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ بيان لما يرثونه، وتقييد الوراثة بعد إطلاقها تفخيم لها وتأكيد، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم.
والْفِرْدَوْسَ: أعلى الجنة هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا. وأنث الضمير لأنه اسم للجنة، أو لطبقتها العليا. وفيه إشارة إلى المعاد، ويناسبه ذكر المبدأ بعده.
سبب النزول: نزول الآية (٢) :
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ:
روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي رافعا بصره إلى السماء، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده، وأنه رأى رجلا يعبث بلحيته، فقال: «لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه» «١».
أخرج الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه.
وأخرج ابن مردويه بلفظ: كان يلتفت في الصلاة.
وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن سيرين مرسلا بلفظ: كان يقلب بصره، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين مرسلا: كان الصحابة يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فنزلت.
التفسير والبيان:
يبشر الله تعالى بالفلاح والفوز المؤمنين المتصفين بسبع صفات، ويحكم لهم بذلك، فيقول:
(١) تفسير البيضاوي: ص ٤٥١
10
١- قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي قد فازوا وسعدوا، لاتصافهم بصفة الإيمان أي التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.
٢- الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي خائفون ساكنون، والخشوع:
خشوع القلب، وهو الخضوع والتذلل مع الخوف وسكون الجوارح. قال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس: «حبّب إليّ الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وروى الإمام أحمد أيضا عن رجل من أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا بلال، أرحنا بالصلاة».
والخشوع واجب ضروري لتعقل معاني الصلاة، ومناجاة الرب تعالى، وتذكر الله والخوف من وعيده، وتدبر آيات القرآن وتفهم معانيها، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤] وحينئذ يتخلص غالبا من وساوس الشيطان ومحاولة شغل الفكر وصرف المصلي عن صلاته، كما قال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف ٧/ ٢٠٥]. لكن جمهور العلماء لم يشترطوا الخشوع في الصلاة للخروج من عهدة التكليف، وإنما هو شرط لتحصيل الثواب عند الله تعالى.
٣- وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أي الذين يتركون رأسا كل ما كان حراما أو مكروها، أو مباحا لا خير فيه، ولا يعني الإنسان ولا حاجة له فيه.
وذلك يشمل الكذب والهزل والسب وجميع المعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان ٢٥/ ٧٢].
ومع الأسف الشديد استبد اللهو في عصرنا في أفعال وأقوال كثير من الناس
11
برؤية التلفاز، وقراءة المجلات غير النافعة واللعب بالأوراق، واللهو، والبعث، وضياع الوقت فيما لا يجدي، مع أن الوقت من ذهب، لذا وصفت أمتنا بالتخلف لإهدار قيمة الوقت بين أفراد شعبها.
٤- وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ قال ابن كثير: الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [١٤١]. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠] وكقوله: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت ٤١/ ٦- ٧] على أحد القولين في تفسيرهما. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال، فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل: هو الذي يفعل هذا، والله أعلم.
وقال الرازي: وقول الأكثرين إنه الحق الواجب في الأموال خاصة، وهذا هو الأقرب لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى «١».
٥- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ... مَلُومِينَ أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنى ولواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم بالعقد، أو بملك اليمين، أي ما ملكت أيمانهم من السراري- في الماضي حيث كان الرق قائما- فمن اقتصر على الحلال، فلا لوم عليه ولا حرج.
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي فمن طلب غير ذلك من
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٣٨، وما بعدها، تفسير الرازي: ٢٣/ ٨٠
12
الزوجات والإماء، فأولئك هم المتناهون في العدوان، المتجاوزون حدود الله.
وهذا يدل على تحريم المتعة والاستمناء باليد.
٦- وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ أي والذين يحفظون حرمة الأمانة وقدسية العهد، فإذا ائتمنوا لم يخونوا، بل يؤدون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، فأداء الأمانة والوفاء بالعهد صفة أهل الإيمان، أما الخيانة والغدر وخلف الوعد وعدم الوفاء بمقتضى العقد بيعا أو إجارة أو شركة أو غيرها، فهي صفة أهل النفاق الذين
قال فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال ٨/ ٢٧].
والأمانة والعهد يشملان جميع ما ائتمن الإنسان عليه من ربه أو من الناس، كالتكاليف الشرعية، والودائع، وتنفيذ العقود.
٧- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أي والذين يواظبون على الصلاة ويؤدونها في أوقاتها، مع استكمال أركانها وشروطها.
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: برّ الوالدين، قلت:
ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»
.
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن».
أي الزموا الاستقامة بالمحافظة على إيفاء الحقوق ورعاية الحدود، والرضى بالقضاء، ولن تحصوا ثواب الاستقامة.
ثم رتب الله تعالى الجزاء الحسن على هذه الأفعال، فقال:
13
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي أولئك البعيدون في درجات الكمال المتصفون بهذه الصفات الحميدة هم المستحقون النزول في جنات الفردوس، الماكثون فيها أبدا على الدوام،
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن».
وقيل: الفردوس هي الجنة، وهي رومية أو فارسية عرّبت.
ونظير الآية قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم ١٩/ ٦٣] وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧٢]. وهذا قانون الله من حيث العدل أن الجنة جزاء العمل الحسن في الدنيا، ومجموع الأخذ بهذه الصفات السبع محقق لهذا الفوز في عالم الآخرة. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والصوم والحج، فدخل معهن. والآية عامة في الرجال والنساء.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى وجوب الاتصاف بالصفات السبع التالية، والقيام بالأفعال الآتية المستوجبة الخلود في الفردوس الأعلى من الجنان وهي:
١- الإيمان: وهو التصديق بالله ورسله واليوم الآخر.
٢- الخشوع في الصلاة: وهو الخضوع والتذلل لله والخوف من الله تعالى، ومحله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها.
روى الترمذي عن أبي ذرّ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرحمة تواجهه، فلا يحركن الحصى».
فالسكون دليل الاطمئنان، واستيقاظ الذهن، والاتجاه نحو الله تعالى، وبه يحصل جوهر الصلاة، وتتحقق غايتها المنشودة الصحيحة.
14
وهو من فرائض الصلاة على الصحيح، وأساس قبولها، والظفر بثواب الله تعالى.
٣- الإعراض عن اللغو: أي الباطل، وهو الشرك والمعاصي كلها، وكل ما لا حاجة فيه وما لا يعني الإنسان، وإن كان مباحا.
٤- أداء الزكاة المالية المفروضة، وتزكية النفس من الدنس والمعصية، وتطهيرها من أمراض القلب كالحقد والحسد والكراهية والبغضاء ونحوها.
٥- حفظ الفرج، والتعفف من الحرام كالزنى واللواط، والإعراض عن الشهوات. وذلك يدل على تحريم المتعة (الزواج المؤقت بمدة زمنية محدودة، قصيرة أو طويلة) لأن المرأة المستمتع بها ليست زوجة بالفعل، بدليل أنهما لا يتوارثان بالإجماع، فلا تحل للرجل، لكن يدرأ الحد للشبهة.
ويدل أيضا على تحريم الاستمناء، ويستأنس له
بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره» «١».
وتحريم الاستمناء هو مذهب جماهير العلماء، لظاهر الآية التي حصرت إباحة الاستمتاع بالنساء بالزواج وملك اليمين. ونقل عن الإمام أحمد جوازه للضرورة أو الحاجة الملحة، أي لمرة واحدة مثلا دون تكرار، إذا استبدت به الشهوة، وطغت عليه، بشروط ثلاثة: أن يخاف الزنى، وألا يملك مهر امرأة حرة، وأن يكون بيده، لا بيد امرأة أجنبية، ولا بيد ذكر مثله.
(١) حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف لجهالته.
15
ومن تجاوز الحلال ووقع في الحرام كالزنى واللواط فهو معتد متجاوز حدود الله، ويجب عليه الحد لعدوانه، إلا أن يكون جاهلا التحريم كمن أسلم حديثا، أو متأولا، كما قال القرطبي.
٦- أداء الأمانة ورعاية العهد والعقد: ومعنى الأمانة أو العهد يجمع كل ما يحمّله الإنسان من أمر دينه ودنياه، قولا وفعلا، وهذا يشمل معاشرة الناس والوعود وغير ذلك. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما فيه قول أو فعل أو معتقد.
٧- المحافظة على الصلاة: بإقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها.
فمن عمل بما ذكر في هذه الآيات، فهم الوارثون الذين يرثون فراديس الجنان، وينزلون فيها منزلا كريما، ويخلدون فيها على الدوام والبقاء. ويدخل في الأمانات جميع الواجبات من الأفعال والتروك، فصارت الآيات شاملة العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة.
من أدلة وجود الله وقدرته
- ١- خلق الإنسان
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
16
الإعراب:
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً النطفة وعلقة: مفعولا خَلَقْنَا المتعدي هنا إلى مفعولين لأنه بمعنى: صيرنا، ولو كان بمعنى: أحدث لتعدى إلى مفعول واحد.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن إما بدل من اللَّهُ ولا يجوز أن يكون وصفا لأن إضافته إلى ما بعده في نية الانفصال لا الاتصال لأنه في تقدير: أحسن من الخالقين، كما تقول:
زيد أفضل القوم، أي منهم، فلا يستفيد المضاف من المضاف إليه تعريفا، فوجب أن يكون بدلا، لا وصفا. وإما خبر مبتدأ محذوف، أي هو أحسن الخالقين، وقوّى هذا التقدير أنه موضع مدح وثناء.
البلاغة:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ نزلوا منزلة المنكرين، فهم لا ينكرون الموت، ولكن غفلتهم عنه، وفقدهم العمل الصالح من علامات الإنكار، وأكد الخبر بمؤكدين (إن واللام).
طِينٍ مَكِينٍ الْخالِقِينَ سجع سائغ مقبول لا تكلف فيه.
المفردات اللغوية:
الْإِنْسانَ أصل الإنسان وهو آدم أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا مِنْ سُلالَةٍ خلاصة سلت من بين التراب، من سللت الشيء من الشيء، أي استخرجته منه مِنْ طِينٍ من: بيانية، أو متعلق بمحذوف لأنه صفة لسلالة ثُمَّ جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله- نسل آدم، فحذف المضاف نُطْفَةً منيا، أي بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة فِي قَرارٍ مَكِينٍ مستقر حصين أو متمكن، يعني الرحم. عَلَقَةً هي الدم الجامد مُضْغَةً أي صيرناها مضغة وهي قطعة لحم، قدر ما يمضغ. وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى: صيرنا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ بنفخ الروح فيه فَتَبارَكَ اللَّهُ تعالى شأنه في قدرته وحكمته وتقدس أَحْسَنُ الْخالِقِينَ المقدرين تقديرا، فحذف مميز أَحْسَنُ وهو خلقا، لدلالة الْخالِقِينَ عليه.
لَمَيِّتُونَ لصائرون إلى الموت لا محالة تُبْعَثُونَ للحساب والجزاء.
17
سبب النزول: نزول الآية (١٢) :
أخرج ابن أبي حاتم عن عمر قال: وافقت ربي في أربع، نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية، فقلت أنا: «فتبارك الله أحسن الخالقين».
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بالعبادات، أورد ما يدل على معرفة الإله الخالق المعبود، وذكر أربعة أنواع من دلائل وجوده وقدرته تعالى، واتصافه بصفات الجلال والوحدانية. وتلك الأدلة: هي خلق الإنسان، وخلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء، وخلق الحيوانات لمنافع.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، ويبين تقلبه في أدوار تسعة للخلقة وهي:
١- وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ أي لقد خلقنا أي أوجدنا الإنسان، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة، والمراد به جنس الإنسان وأصله من خلاصة سلت من طين لا كدر فيه، أو أول أفراده وهو آدم عليه السلام. وهذا دليل كاف على قدرة الله تعالى ووحدانيته واتصافه بكل صفات الكمال.
والراجح أن المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام لأنه استل من الطين، وخلق منه، كما قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم ٣٠/ ٢٠].
18
٢- ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ أي ثم جعلنا نسله أو جنس الإنسان نطفة من مني في أصلاب الذكور، ثم قذفت إلى أرحام الإناث، فصار في حرز مستقر متمكن حصين، ابتداء من الحمل إلى الولادة. وذلك كقوله تعالى:
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة ٣٢/ ٧- ٨] أي من ماء ضعيف، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات ٧٧/ ٢٠- ٢٤].
٣- ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفة العلقة: وهي الدم الجامد. أو صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل (وهو ظهره) وترائب المرأة (وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السّرّة) صيرناها علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة.
٤- فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم، بمقدار ما يمضغ، وهي قطعة كبضعة لحم، لا شكل فيها ولا تخطيط. وسمي التحويل خلقا لأنه سبحانه يفني بعض الصفات، ويخلق صفات أخرى، وكأنه تعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.
٥- فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي صيرناها عظاما يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
٦- فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي غطينا العظام بما يستره ويشده ويقويه وهو اللحم لأن اللحم يستر العظم، فجعل كالكسوة لها.
٧- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقا مباينا للخلق الأول، بأن نفخنا فيه الروح، فتحرك، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب.
19
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي تعالى شأنه في قدرته وحكمته، وتنزه وتقدس الله أحسن المقدّرين المصورين.
روى ابن أبي حاتم والطيالسي عن أنس قال: قال عمر: «وافقت ربي في أربع: قلت: يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة ٢/ ١٢٥].
وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابا، فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر، فأنزل الله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً، فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب ٣٣/ ٥٣].
وقلت لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم: لتنتهنّ أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآية [التحريم ٦٦/ ٥].
ونزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.. الآية فقلت أنا:
فتبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
٨- ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ «١»
أي ثم إنكم بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت.
٩- ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي ثم تبعثون من قبوركم للنشأة الآخرة للحساب والجزاء ثوابا وعقابا، كما قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٠] يعني يوم المعاد.
وفي هاتين الآيتين جعل الله سبحانه الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة الحياة بعد الإفناء والإعدام دليلين على قدرته بعد الإنشاء والاختراع.
(١) وقرئ «لمائتون» والفرق بين الميت والمائت: أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث، تقول: زيد ميت الآن، ومائت غدا.
20
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على خلق الإنسان، وخلقه ومروره في المراحل التسع المذكورة دليل واضح على وجود الله تعالى ووحدانيته وقدرته العظمى.
فقد بدأ الله تعالى خلق آدم عليه السلام من طين أو تراب، ثم جعل ابن آدم مخلوقا من نطفة (مني) يلتقي مع مني المرأة، فيبدأ تخلق الجنين، ثم تتحول النطفة إلى علقة (دم متخثر) ثم تصبح مضغة (قطعة لحم) ثم تصير عظاما، ثم تكسى العظام باللحم الذي تظهر فيه ملامح الإنسان، ثم يصير خلقا جديدا مباينا للخلق الأول بنفخ الروح الحركية فيه بعد أن كان جمادا.
فتبارك وتعالى الله أحسن الخالقين وأتقن الصانعين، لهذا الإبداع والإنشاء العظيم: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧].
وبعد هذه المراحل السبع، وولادة الإنسان، وتمتعه بالحياة المقدرة له، أي بعد الخلق والحياة تحدث نهاية الإنسان بالموت، ثم يأتي البعث بعد الموت، وكل من الخلق الأول (النشأة الأولى) ثم الإماتة (إعدام الحياة) ثم البعث (إعادة ما أفني وأعدم) دليل قاطع على قدرة الله تعالى.
والآيات صريحة في أن الله وحده هو الخالق، وهو المحيي، وهو المميت، وهو الباعث، والله هو الحق، ووعده بالبعث حق، والجنة حق، والنار حق.
وذلك كله لإثبات البعث الذي ينكره المشركون والملحدون الماديون الذين يرون أن الدنيا هي نهاية المطاف، وألا حياة أخرى بعدئذ، وإنكارهم الحياة الآخرة وإنكار وجود الله أو وحدانيته هو مذهب المادية، وعقيدة الجاهلية، وأسّ الكفر وعماده.
أما أهل الإيمان فهم الذين يشكرون ربهم الخالق الذي أنعم عليهم بنعمة
21
الإيجاد والإحياء والرزق، وهم الذين يبادرون إلى أداء التكاليف التي كلف الله بها عباده بعد أن أصبحوا قادرين على تحمل التكليف، ثم لا بد من مجيء يوم القيامة والبعث بعد الموت لتسلم الجائزة الكبرى على العمل الصالح، ومجازاة المؤمنين بالجنة، وعقوبة الكافرين بالنار.
روى ابن أبي شيبة في مسنده أن ابن عباس استنبط شيئا من هذه الآية، فقال لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر، فقالوا: الله أعلم فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خلق السموات سبعا، والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما آتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
أراد ابن عباس بقوله: «خلق ابن آدم من سبع» مراحل خلق الإنسان المفهومة من هذه الآية، وبقوله: «وجعل رزقه في سبع» قوله: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا السبع منها لابن آدم، والأب: العشب للأنعام، والقضب: البقول، وقيل هو للأنعام.
- ٢- خلق السموات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٧ الى ٢٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
22
الإعراب:
وَشَجَرَةً معطوف بالنصب على جَنَّاتٍ أي فأنشأنا لكم به جنات وشجرة تخرج من طور سيناء.
وسَيْناءَ ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه، أي للعلمية والتأنيث، أي تأنيث البقعة.
وتَنْبُتُ بِالدُّهْنِ من قرأ بفتح التاء جعل الباء للتعدية، ومن قرأ بالضم جعله من أنبت وفي الباء ثلاثة أوجه: التعدية، وتكون أنبت بمعنى نبت، أو تكون زائدة لأن الفعل متعد بالهمزة، أو تكون للحال، ومفعوله محذوف، أي تنبت ما تنبت ومعه الدهن.
البلاغة:
سَبْعَ طَرائِقَ استعارة، شبهت السموات بطبقات النعل لأنه طورق بعضها فوق بعض، كمطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ في تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.
المفردات اللغوية:
سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات، والطرائق: جمع طريقة سميت بذلك لأنه طورق بعضها فوق بعض، مطارقة النعل، وكل ما فوقه مثله فهو طريقة، أو لأنها طرق الملائكة. وقيل:
المراد بالطرائق: الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها. والأول أصح، قال الخليل والزجاج: وهذا كقوله: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح ٧١/ ١٥] وقوله:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ.. [الطلاق ٦٥/ ١٢] الآية، أي فالطرائق والطباق بمعنى واحد.
23
وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي المخلوقات التي منها السموات السبع غافِلِينَ مهملين أمرها، بل نحفظها من الزوال والاختلال، وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال، بحسب الحكمة والمشيئة الإلهية، وهذا كقوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج ٢٢/ ٦٥].
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً السماء هنا: السحاب بِقَدَرٍ أي بمقدار معلوم، وهو مقدار كفايتهم فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا مستقرا فيها ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته، إما بتغويره في الأرض بحيث يتعذر إخراجه، أو بتغيير صفة المائية إلى عنصر آخر لَقادِرُونَ أي كما كنا قادرين على إنزاله، وحينئذ يموتون مع دوابهم عطشا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما أكثر فواكه العرب لَكُمْ فِيها في الجنات وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي ومن الجنات تأكلون ثمارها وزروعها، صيفا وشتاء.
وَشَجَرَةً أي وأنشأنا شجرة هي شجرة الزيتون طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: إنه بفلسطين، فهو جبل الطور الذي ناجى فيه موسى ربه، ويسمى طور سينين أيضا وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، أي إدام يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام، وهو زيت الزيتون.
الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم لَعِبْرَةً عظة تعتبرون بها مِمَّا فِي بُطُونِها أي اللبن مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من الأصواف والأوبار والأشعار وغير ذلك وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي من الأنعام تأكلون، فتنتفعون بأعيانها عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أي في البر والبحر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى النوع الأول من دلائل قدرته وهو خلق الإنسان، أتبعه بذكر أنواع ثلاثة أخرى من تلك الدلائل وهي خلق السموات السبع، وإنزال الماء من السماء وتأثيره في إنبات النبات، ومنافع الحيوانات وهي هنا أربعة أنواع: الانتفاع بالألبان، وبالصوف، وباللحوم، وبالركوب، وذلك كله مما يحتاج إليه الإنسان في بقائه.
24
التفسير والبيان:
خلق السموات:
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي تالله لقد خلقنا فوقكم يا بني آدم سبع سموات طباقا، بعضها فوق بعض، وهي أيضا مسارات الكواكب.
وكثيرا ما يقرن الله تعالى خلق السموات والأرض، مع خلق الإنسان، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧] وهكذا في أول سورة السجدة الم التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها في صبيحة يوم الجمعة، في أولها خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ثم بيان خلق الإنسان، وفيها أمر المعاد والجزاء.
ونظير الآية كما تقدم: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح ٧١/ ١٥] وقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق ٦٥/ ١٢].
وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أي وما كنا مهملين أمر جميع المخلوقات التي منها السموات، بل نحفظها لكفالة بقائها واستمرارها، ونحن نعلم كل ما يحدث فيها من صغير أو كبير، كما قال تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد ٥٧/ ٤] وقال سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩].
المطر والنبات:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي وأنزلنا من
25
السحاب مطرا بقدر الحاجة والكفاية للشرب والسقي، لا كثيرا يفسد الأرض والعمران، ولا قليلا لا يكفي الزرع والثمار، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها، ولا تحتمل تربتها إنزال المطر عليها، يساق الماء إليها من بلاد أخرى، كأرض مصر التي يقال لها: الأرض الجرز، يأتي حاملا معه الطين الأحمر «الغرين» من بلاد الحبشة، فيستقر الطين فيها للزراعة فيه، فتغطي الرمال به، وهي ما يغلب في تلك الأرض.
وجعلنا الماء إذا نزل من السحاب يستقر في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له، فيتغذى به ما فيها من الحب والنوى، ومنه تنبع الأنهار والآبار.
وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي ولو شئنا إزالته وتصريفه عنكم وتغويره لفعلنا، كما أنا قادرون على إنزاله. وكذلك لو شئنا لجعلناه ملحا أجاجا لا ينتفع به في الشرب والسقي، ولو شئنا ألا يمطر السحاب لفعلنا، ولو شئنا أن يبقى على سطح الأرض لفعلنا، ولكن لرحمتنا ولطفنا بكم أسكناه في الأرض بمثابة خزانات، لتأخذوا منه عند الحاجة، وتسقوا به زرعكم وثماركم وأنفسكم ودوابكم، وتنتفعوا به بسائر وجوه الانتفاع من غسل وتطهر وتنظيف وتبرد ونحو ذلك.
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق ذات بهجة أي ذات منظر حسن، وفيها النخيل والأعناب، وهذا أغلب فواكه العرب.
لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي لكم في الجنات فواكه متنوعة كثيرة، من جميع الثمار، عدا النخيل والأعناب، وتأكلون من ثمار الجنات وتنتفعون بها، وترزقون وتتعيشون.
وقوله: وَمِنْها تَأْكُلُونَ كأنه معطوف على شيء مقدر، تقديره:
26
تنظرون إلى حسنه ونضجه، ومنه تأكلون.
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ.. أي وأنشأنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في جبل الطور، وتأتي بالدهن وهو الزيت، وتتخذ إداما ينتفع به الآكلون بالدهن والاصطباغ.
روى الإمام أحمد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة» ورواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه.
أحوال الأنعام:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي وإن لكم أيها الناس في خلق الإبل والبقرة والغنم وما فيها من المنافع لعظة تعتبرون بها ونعمة تستحق الشكر والتقدير والاستدلال على قدرة الله تعالى، بتحويل الدم المتولد من الغداء في الغدد إلى لبن طيب سائغ شرابه، كامل التغذية. وتلك المنافع كثيرة ذكر منها هنا أربعة أنواع هي:
١- نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم، وتتخذون منها السمن والجبن وغير ذلك، وتنتج لكم الحملان.
٢- وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ أي وتستفيدون من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وتتخذون منها الملابس والفرش.
٣- وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي وتأكلون من لحومها بعد ذبحها، فتنتفعون بها حية وبعد الذبح.
٤- عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
أي وتركبون ظهورها وتحملون عليها الأحمال الثقال إلى البلاد والبقاع النائية، كما تنتفعون بالسفن، كما قال تعالى:
27
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [النحل ١٦/ ٧] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ، وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس ٣٦/ ٧١- ٧٣].
والامتنان بهذه النعم الجليلة بقصد الإرشاد إلى الخالق، والتعرف على قدرة الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- استنبط الإمام الرازي من الآية الأولى في خلق السموات ستة أحكام هي:
أ- أنها دالة على وجود الإله الصانع، فإن تحول الأجسام من صفة إلى صفة أخرى مغايرة للأولى يدل على أنه لا بد من محول ومغير.
ب- أنها تدل على فساد القول بالطبيعة لأن الطبيعة تقضي ببقاء الأشياء على حالها وعدم تغيرها، فإذا تغيرت تلك الصفات، دل على احتياج الطبيعة إلى خالق وموجد.
ج- تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة.
د- تدل على أنه تعالى عالم بكل المعلومات، قادر على كل الممكنات.
هـ- تدل على جواز الحشر والنشر لأنه لما كان تعالى قادرا عالما، وجب أن يكون قادرا على إعادة تركيب الأجزاء كما كانت.
28
وأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية، وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا «١».
٢- دلت الآية الثانية في إنزال المطر على نعمة عظمي تستحق التقدير هي الماء الذي هو حياة الأبدان ونماء الحيوان، فالماء في نفسه نعمة، وهو أيضا سبب لحصول النعم من إنبات النبات، وسقي الإنسان والحيوان.
والمراد بماء السماء المنزل المختزن وغير المختزن: هو الماء العذب غير الأجاج المالح.
وإنزال الماء بقدر، أي على قدر مصلح موافق للحكمة والحاجة لأنه لو كثر أهلك، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر ١٥/ ٢١].
وقوله: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي الماء المختزن في الأرض:
تهديد ووعيد، أي في قدرة الله إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، كقوله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك ٦٧/ ٣٠] وغورا: أي غائرا.
وكل ما نزل من ماء السماء مختزنا أو غير مختزن هو طاهر مطهر، يغتسل به ويتوضأ منه.
٣- من آثار الماء جعله سبب النبات، فهو ينبت أشرف الثمار، وهي الرطب والأعناب، وينبت غير ذلك من الفواكه، ولا فرق في الفاكهة بين الطري واليابس.
وبالماء تنبت الأشجار، ومن أبرك الأشجار ما ذكر في الآية وهو شجرة
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٨٨
29
الزيتون التي أنبتها الله في الأصل من جبل الطور في سيناء الذي بارك الله فيه، وطور سيناء: من أرض الشام، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام. وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان المشهوران عند العرب كثيرا.
وزيت الزيتون يصلح للادهان به وللائتدام به، لذا كان المراد بالآية:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ تعداد نعمة الزيت على الإنسان، وبيان وجوه الانتفاع به، ففي الزيت شفاء لكثير من الأمراض الجلدية الظاهرة، والباطنية الداخلية، فيدهن به الجلد فتتقوى بصلة الشعر، ويؤكل مع الخبز إداما، وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ.
٤- ذكر الله تعالى للأنعام (الإبل والبقر والغنم) أربع منافع: هي الانتفاع بالألبان، والانتفاع بالأصواف للباس والأثاث والفرش، وللبيع والاستفادة من الأثمان، والانتفاع من اللحوم بالأكل بعد الذبح، كالانتفاع بها حية، والانتفاع بالركوب على الإبل في البر والحمل عليها كالانتفاع بالفلك (السفن) في البحر، وهذا دليل على أن الركوب راجع إلى بعض الأنعام.
روي أن رجلا ركب بقرة في الزمان الأول، فأنطقها الله تعالى معه، فقالت: إنا لم نخلق لهذا! وإنما خلقت للحرث (أي العمل الزراعي).
القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
30
الإعراب:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ غَيْرُهُ: اسم ما، وما قبله: الخبر، ومِنْ: زائدة.
مُنْزَلًا مصدر لفعل رباعي وهو (أنزل) وتقديره: أنزلني إنزالا مباركا، ويجوز أن يكون اسم مكان. وقرئ بفتح الميم (منزلا) وهو مصدر لفعل ثلاثي وهو (نزل) ويجوز أن يكون أيضا اسم مكان.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ: إِنَّ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنه كنا لمبتلين. وذهب الكوفيون إلى أنّ إِنَّ بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) وتقديره: ما كنا مبتلين.
البلاغة:
اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا استعارة، عبر عن الحفظ والرعاية أو الحراسة بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء يديم مراعاته في الأغلب بعينيه.
وَفارَ التَّنُّورُ كناية عن الشدة، مثل: حمي الوطيس. وقيل: المراد بالتنور وجه الأرض مجازا.
أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا جناس اشتقاق.
31
المفردات اللغوية:
اعْبُدُوا اللَّهَ أطيعوا الله ووحدوه. تَتَّقُونَ تخافون عقوبته بعبادتكم غيره. الْمَلَأُ أشراف القوم، قالوا للعوام. يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يطلب الفضل والسيادة عليكم، بأن يكون متبوعا وأنتم أتباعه. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لوشاء أن يعبد غيره وأن يرسل رسولا لأنزل ملائكة بذلك، لا بشرا. ما سَمِعْنا بِهذا الذي دعا إليه نوح من التوحيد. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ الأمم الماضية. إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل به حالة جنون وضعف عقل.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروه واحتملوه. حَتَّى حِينٍ أي إلى زمن لعله يفيق من جنونه، أو إلى زمن موته.
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي أي قال نوح بعد يأسه من إيمانهم: ربّ انصرني عليهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي، بأن تهلكهم. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أي أمرناه إجابة لدعائه. أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ السفينة. بِأَعْيُنِنا بحفظنا ورعايتنا. وَوَحْيِنا أي أمرنا وتعليمنا. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب أو نزول العذاب والإهلاك. وَفارَ نبع. التَّنُّورُ أي مكان خبز الخباز أو وجه الأرض، وكان نبع الماء منه علامة لنوح عليه السلام. فَاسْلُكْ فِيها أي أدخل في السفينة. مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين: ذكر وأنثى من أنواع الحيوان الموجود وقتئذ. اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى، أي خذ معك على السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان صنفا من الذكور وصنفا من الإناث، كالجمال والنوق، مزدوجين. وقراءة حفص مِنْ كُلٍّ أي من كلّ نوع زوجين. واثْنَيْنِ: تأكيد وزيادة تأكيد.
وَأَهْلَكَ أهل بيتك، أو من آمن معك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي إلا من قضي عليه القول من الله بهلاكه لكفره وهو زوجته وولده كنعان، بخلاف سام وحام ويافث، فأخذهم مع زوجاتهم الثلاثة. قيل: كانوا ستة رجال مع نسائهم، وقيل: جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقد عبّر بعلى في قوله: مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ لأن المقضي به ضارّ، كما عبّر باللام حيث كان المقضي به نافعا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ...
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا بترك إهلاكهم. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن كان هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه. اسْتَوَيْتَ اعتدلت وعلوت. مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، والنجاة: هي من إهلاكهم.
وَقُلْ عند نزولك من الفلك. رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي اجعل إنزالي أو مكانه إنزالا أو مكانا مباركا، أي فيه الخير والبركة. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه، أمره به توسلا إلى الإجابة. وإنما أفرده بالأمر مع شموله من آمن معه إظهارا لفضله والاكتفاء بدعائه عن دعائهم. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من فعل نوح والسفينة، وفعل قومه وإهلاكهم. لَآياتٍ
32
دلالات على قدرة الله تعالى. لَمُبْتَلِينَ مختبرين ممتحنين قوم نوح بإرساله إليهم ووعظه، أي معاملتهم معاملة من يختبر.
المناسبة:
الارتباط بين هذه الآيات وبين ما قبلها جار على وفق العادة في سائر الآيات، بذكر قصص الأنبياء بعد بيان أدلة التوحيد، والقصد هو بيان كفران الناس بعد تعداد النعم المتلاحقة عليهم، وما حاق بهم من زوالها.
فبعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد من خلق الإنسان، والحيوان، والنبات، وخلق السموات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا الحالات المماثلة لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة، فذكر خمس قصص: هي قصة نوح، وقصة هود، وقصة صالح ولوط وشعيب، وقصة موسى وهارون وفرعون، وقصة عيسى وأمه.
التفسير والبيان:
يبين الله تعالى موقف نوح عليه السلام مع قومه حينما أنذرهم عذاب الله، وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به، وخالف أمره، وكذب رسله، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ... تَتَّقُونَ:
أي ولقد بعثنا نوحا إلى قومه، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وقال لهم: ألا تتقون، أي ألا تخافون من الله في إشراككم به؟
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي فقال السادة والأكابر منهم: ما نوح إلا بشر مثلكم، ورجل منكم، يريد أن يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة، وليس له ميزة في علم ولا خلق، فكيف يكون نبيا يوحى إليه دونكم وهو مثلكم؟!
33
وموانع نبوته هي:
١- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي ولو أراد الله أن يبعث نبيا، لبعث أحد الملائكة من عنده، لأداء رسالته، ولم يكن بشرا، فإن إنزال الملك أدعى للإيمان، وأدل على الصدق. وهذا ناشئ من تصورهم سموا الرسالة التي تقتضي جعلها في عنصر أسمى من البشر وهم الملائكة، وأنه لا يمكن تكليف البشر بالرسالة الإلهية.
٢- ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي ما سمعنا ببعثة البشر في عهد الأسلاف والأجداد في الدهور الماضية. وهذا ناشئ من اعتمادهم في العقيدة على التقليد، وإصرارهم على الكفر والعناد.
٣- إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي وما نوح إلا رجل مجنون فيما يزعمه أن الله أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي انتظروا به ريب المنون، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه، أو ييأس فيرجع إلى دينكم، أو يفيق من جنونه. وهذا مجرد مكابرة، فهم عرفوا نوحا برجحان عقله، واتزان قوله، واستقامة سيرته.
ولما يئس نوح من إجابة دعوته، وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين، فلم يؤمن معه إلا القليل، أوحى الله إليه أن يدعو ربه لنصره عليهم فقال:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي قال نوح: ربّ انصرني على هؤلاء القوم، وأهلكهم بسبب تكذيبهم إياي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر ٥٤/ ١٠]، وقوله أيضا: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح ٧١/ ٢٦].
فأجاب الله دعاءه وأمره بصنع السفينة فقال:
34
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي فأمرناه بأن يصنع السفينة بحفظنا ورعايتنا، وتعليمنا وإرشادنا كيفية الصنع.
فَإِذا جاءَ أَمْرُنا، وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي فإذا حان وقت قضائنا بالعذاب والهلاك، ونبع الماء من وجه الأرض أو من التنور المخصص للخبز، فاحمل في السفينة فردين مزدوجين ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، واحمل فيها أيضا أهل بيتك، أو كل من آمن معك، وهذا المعنى هو الأرجح، إلا من سبق عليه القول من الله بالهلاك، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته، وهو كنعان وأمه.
روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور، فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور، أخبرته امرأته، فركب.
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي ولا تسألني ولا تتشفع في الذين كفروا، ولا تأخذنك رأفة في قومك، فإني قد قضيت أنهم مغرقون، بسبب ما هم عليه من الكفر والطغيان، أي أن الغرق نازل بهم لا محالة.
ثم أمره الله أن يحمده ويثني عليه بعد ركوب السفينة:
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.. أي فإذا استقر بك وبمن معك من المؤمنين المقام في السفينة، فقل أنت وهم: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، أي أنقذنا من هؤلاء الكافرين المشركين الظلمة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا، فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
ثم أمره أيضا أن يدعوه بعد خروجه من السفينة دعاء مقرونا بالثناء فقال:
35
وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي وقل عند النزول من السفينة: ربّ أنزلني إنزالا مباركا أو مكانا مباركا، يبارك لي فيه، وأعطى الزيادة في خير الدارين، وأنت خير من أنزل عباده المنازل الطيبة لأنك تحفظ من أنزلته في سائر أحواله، وتدفع عنه المكاره، بحسب ما تقتضيه الحكمة.
وهذا وما قبله تعليم لذكر الله عند ابتداء السير وانتهائه، قال قتادة: علّمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود ١١/ ٤١]، وعند ركوب الدابة: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف ٤٣/ ١٣] أي مطيقين، وعند النزول: وَقُلْ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين لدلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإنا لمختبرون بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويتذكر، كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر ٥٤/ ١٥]. وقيل:
أي نعاملهم معاملة المختبرين.
وتقدمت القصة بتفصيل أكثر في سورة هود عليه السلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة واضحة الدلالة كغيرها من القصص القرآني على أن نزول العذاب: عذاب الاستئصال والهلاك كان بسبب العناد والإصرار على الكفر، وملازمة الشرك والوثنية.
فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم لعبادة الله وحده لا شريك له، وينذرهم بأس الله وانتقامه ممن أشرك به، وكذب رسله،
36
قائلا لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون عذاب الله، وتتقون عقابه؟ وهو زجر ووعيد ليقلعوا عما هم عليه.
فما كان منهم إلا إنكار نبوته معتمدين على شبهات خمس هي:
الأولى- إنكار كون النبي أو الرسول بشرا مماثلا لغيره في البشرية، ومساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى، ومتصفا بصفات تجعل له منزلة عليا ودرجة رفيعة وعزة سامية.
واتهموه بناء عليه بطلب الزعامة والرئاسة والترفع والسيادة عليهم.
الثانية- طلب أن يكون النبي ملكا، فلو شاء الله إرشاد البشر، لوجب إرسال ملك من الملائكة يحقق المقصود بنحو أفضل وأسرع وأنجع من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ينقاد الناس إليهم.
الثالثة- الخروج عن سنة الآباء والأسلاف، فهم لا يعرفون غير التقليد واتباع سلوك الآباء، فلما وجدوا في طريقة نوح عليه السلام خروجا عن المألوف، حكموا ببطلان نبوته.
الرابعة- اتهامه من قبل الرؤساء بالجنون، للترويج على العوام، بسبب فعله أفعالا على خلاف عاداتهم، ومن كان مجنونا لا يصلح أن يكون رسولا.
الخامسة- الصبر عليه وتركه لعاديات الزمان، فإنه إن كان نبيا حقا، فالله ينصره ويقوي أمره، وحينئذ يتبعونه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه.
ولم يجب الله تعالى عن هذه الشبه لسخافتها وسطحيتها، فإن جعل الرسول من جملة البشر أولى، لما بينه وبين غيره من الألفة والمؤانسة وإن قصد الزعامة
37
والسيادة يتنافى مع سمو الأنبياء، فهم منزهون عن هذه المقاصد الدنيوية الزائلة وأما التقليد فهو دليل القصور العقلي، وتعطيل موهبة الفكر والرأي الحر وأما اتهامه بالجنون فيناقضه أنهم كانوا يعلمون بداهة كمال عقله ورجاحة رأيه وأما التربص به إلى حين ففي غير صالحهم لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته بالمعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، وإن لم يأت بمعجزة فلا يقبل قوله.
ولما تهاوت حججهم، وأصروا على كفرهم، أمر الله نوحا بالدعاء عليهم والانتقام ممن لم يطعه، ولم يسمع رسالته، وأرسل له رسولا يوحي إليه بصناعة السفينة، فإذا تم صنعها فليأخذ من كل الأصناف زوجين: ذكرا وأنثى، حفاظا على أصول المخلوقات.
ثم أمره الله أولا بأن يحمد الله هو ومن معه على النجاة وتخليصه من القوم الظالمين ومما أحاط بهم من الغرق، والحمد الله: كلمة كل شاكر لله.
وثانيا بأن ينزله مع المؤمنين إنزالا مباركا أو موضعا طيبا مباركا، يهيئ الله به خير الدارين.
وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا: أن يقولوا هذا:
رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً.. وكذلك إذا دخلوا بيوتهم وسلّموا على أهليهم، أو على الملائكة إذا لم يوجد الأهل.
والخلاصة وعبرة القصة: أن في أمر نوح والسفينة وإهلاك الكافرين لدلالات على كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه، ويهلك أعداءهم، وأنه تعالى يختبر الأمم بإرسال الرسل إليهم ليظهر المطيع والعاصي.
38
القصة الثانية- قصة هود عليه السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٤١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
الإعراب:
ما هذا إِلَّا بَشَرٌ ما: خبرية.
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أَنَّكُمْ: إما بدل من الأولى، والتقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما، وإما تأكيد للأولى، وإما في موضع رفع بالظرف، وهو إِذا على قول الأخفش، وعامل إِذا مقدر، تقديره: أيعدكم وقت موتكم وكنتم ترابا إخراجكم، فيكون الظرف وما رفع به خبر (أن). ومُخْرَجُونَ: خبر أنكم الأولى.
هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم لبعد، وهو فعل ماض، فكان مبنيا، وفاعله مقدر، تقديره:
هيهات إخراجكم، هيهات إخراجكم.
عَمَّا قَلِيلٍ أي عن قليل، وما: زائدة، وعن: تتعلق بفعل مقدر يفسره قوله:
لَيُصْبِحُنَّ.
39
البلاغة:
نَمُوتُ وَنَحْيا بينهما طباق.
فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً تشبيه بليغ، أي كالغثاء في سرعة زواله، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه.
الَّذِينَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ، وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أسلوب إطناب للذم وبيان أنواع القبائح.
تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، لَخاسِرُونَ، مُخْرَجُونَ، تُوعَدُونَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ قَرْناً: قوما أو أمة أو جماعة مجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لتقدمهم على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان. والمراد بهم قوم هود، لقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف ٧/ ٦٩]. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام، وإنما جعل القرن موضع الإرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي بأن اعبدوا الله، أو قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله. أَفَلا تَتَّقُونَ عقابه فتؤمنوا.
وَقالَ الْمَلَأُ أشراف القوم ورؤساؤهم. وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بالمصير إليها، أو لقاء ما فيها من الثواب والعقاب. وَأَتْرَفْناهُمْ نعمناهم، أي وسّعنا عليهم وجعلناهم في ترف ونعيم.
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد. ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة والحال. يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم، أي والله لئن أطعتم، فيه قسم وشرط، وجواب أولهما، وهو مغن عن جواب الثاني هو: إِنَّكُمْ إِذاً أي إذا أطعتموه لَخاسِرُونَ مغبونون في آرائكم، حيث أذللتم أنفسكم لأمثالكم.
وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي مجردة عن اللحوم والأعصاب. أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، وأنكم هذه تأكيد الأولى لما طال الفصل. هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي بعد بعد التصديق أو الصحة. لِما تُوعَدُونَ من الإخراج من القبور والبعث والحساب، واللام زائدة للبيان.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا. وَنَحْيا بحياة آبائنا، يموت
40
بعضنا ويولد بعض. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. إِنْ هُوَ أي ما الرسول. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من الرسالة. بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين بالبعث بعد الموت.
رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم. بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي. عَمَّا قَلِيلٍ أي بعد زمان قليل. لَيُصْبِحُنَّ ليصيرن. نادِمِينَ على كفرهم وتكذيبهم.
الصَّيْحَةُ: الصوت الشديد، وهي صيحة العذاب والهلاك، وهي صيحة جبريل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا. بِالْحَقِّ بالوجه الثابت الذي لا دافع له. غُثاءً شبههم في دمارهم بغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والعيدان اليابسة، وأصل الغثاء: نبت يبس، أي صيرناهم مثله في اليبس. فَبُعْداً من الرحمة وهلاكا. لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ المكذبين.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية في هذه السورة، وهي قصة هود عليه السلام، في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين لقوله تعالى في سورة الأعراف حكاية لقول هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء.
وقال بعضهم: المراد بهم صالح وثمود لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، والعقاب المذكور هنا هو الصيحة، فالقصة هي قصة صالح عليه السلام.
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ... تَتَّقُونَ أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح الهلكى قوما آخرين، هم عاد قوم هود عليه السلام، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل: المراد ثمود، لقوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ. فأرسل الله تعالى فيهم رسولا منهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم، فقال لهم: أفلا تتقون وتخافون عقاب الله بعبادتكم غيره من وثن أو صنم، فإن العبادة لا تنبغي إلا له، ولا يستحقها غيره؟!
41
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ... تَشْرَبُونَ أي قال أشراف قومه المتصفون بصفات ثلاث هي شر الصفات:
أولها- الكفر بالخالق وجحود وحدانية.
ثانيها- الكفر بيوم القيامة والتكذيب بالبعث والجزاء والحساب، والمعاد الجثماني.
ثالثها- الانغماس في الحياة الدنيا التي أنعم الله بها عليهم، حتى بطروا وجحدوا النعمة، وقالوا: ما هود الذي يدعي أنه رسول إلا بشر عادي مثلكم في الصفات والحال، لا ميزة له عليكم، فهو يأكل من طعامكم، ويشرب من شرابكم الذي تشربون منه، فكيف يدعي الفضل عليكم، ويزعم الرسالة من الله إليكم؟
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ، إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي وأقسموا لئن أظهرتم الطاعة لبشر مثلكم، واتبعتموه، إنكم حينئذ تخسرون عقولكم، وتغبنون في آرائكم، وتضيعون مجدكم بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم.
وبشرية الرسول هي الشبهة الأولى لإنكار هؤلاء القوم. ثم ذكروا شبهة ثانية وهي الطعن في صحة الحشر والنشر، والطعن في نبوته القائمة على إثبات ذلك، فقالوا:
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ أي أيعدكم أنكم تخرجون وتبعثون من قبوركم أحياء بعد موتكم وصيرورتكم ترابا وعظاما بالية؟! ثم قرنوا بالإنكار استبعادهم الشديد وقوع ما يدعيه بقولهم:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ أي بعد بعد ما توعدون به أيها القوم من حدوث البعث الجثماني وعودة الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء. ثم أكدوا إنكار البعث بقولهم:
42
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي ما الحياة إلا واحدة وهي حياة الدنيا، فالبعض يموت، والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر ولا بعث. وبعد أن طعنوا في صحة الحشر، بنوا عليه الطعن في نبوة هود، فقالوا:
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ أي ما هود الذي يدعي النبوة ويثبت البعث إلا مجرد رجل اختلق الكذب على الله، فيما جاءكم به من الرسالة والإنذار والإخبار بالمعاد، وما نحن له بمصدقين فيما يدّعي ويزعم.
ولم يجب الله تعالى عما أوردوه من الشبهتين المتقدمتين، أما كون الرسول بشرا فهو أدعى وألزم للمؤانسة، وتيسر الأخذ عنه، ومناقشته، وتكوين القناعة من أمثالهم عقلا وفكرا ومحاكمة، فليست القضية مجرد إلزام بالقول. وأما استبعاد الحشر فلضعف عقولهم، وقصور ميزانهم لأن العاقل يدرك أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر، ولأن الإعادة أمر ضروري لإقامة صرح العدالة بين الناس، فلولا الإعادة لكان تسليط القوي على الضعيف في الدنيا ظلما، ولا رادع له، ولا عقاب عليه، وهو غير لائق بالحكيم، لذا قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه ٢٠/ ١٥].
ولما يئس هود من إيمان قومه بقولهم: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ فزع إلى ربه:
قالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ أي رب انصرني على قومي نصرا مؤزرا بسبب تكذيبهم إياي في دعوتي لهم إلى الإيمان بك وتوحيدك وإثبات لقائك.
فأجاب الله دعاءه:
43
قالَ: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ أي قال تعالى مجيبا دعاءه: ليصيرن قومك بعد زمن قليل نادمين على ما فعلوا، وذلك حين ظهور علامات الهلاك لهم، فيحصل منهم الحسرة والندامة على ترك قبول دعوتك لهم إلى الإيمان بالله والتوحيد، وعلى مخالفتك وتكذيبك ومعاندتهم إياك.
ثم كان الجزاء والعذاب، فقال تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ، فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي أهلكوا وماتوا بصيحة جبريل الرهيبة بهم، وهي صوت شديد مرعب أدى إلى الصعقة والموت، فأصبحوا بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم صرعى هلكى، كغثاء السيل: وهو الشيء الحقير التافه الذي لا ينتفع بشيء منه، قال ابن كثير: والظاهر أنه اجتمعت عليهم الصيحة، مع الريح الصرصر العاصفة القوية الباردة.
فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي بعدا من الرحمة وهلاكا، وسحقا وتدميرا للقوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وطغيانهم وعصيان رسولهم، كقوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف ٤٣/ ٧٦].
وفي هذا غاية المهانة والذلة لهم، وإظهار قدرة الله عليهم، وإنذار السامعين أمثالهم من تكذيب رسولهم بأن يصيبهم من العذاب مثل ما أصابهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة واضحة من هذه القصة، فهي إنذار مخالفي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وبيان عاقبة الكافرين الظالمين الذين ينكرون وحدانية الله، ولا يصدقون بيوم القيامة، ويعاندون رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وواضح من الآيات أن هودا عليه السلام أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له إذ لا يستحق العبادة سواه، وحذرهم من الكفر، وخوفهم من عقاب الله وعذابه.
44
أما القوم فكانوا أغبياء إذ صدقوا رؤساءهم وزعماءهم الذين كفروا بربهم وكذبوا بالبعث ولقاء الله، وانغمسوا في نعم الحياة المادية التي أنعم الله بها عليهم، وصدوهم عن الإيمان، معتمدين على شبهتين:
الأولى- بشرية الرسل وعدم تميزهم عن سائر البشر بميزة تقتضي اتباعهم.
الثانية- إنكار البعث والحشر والنشر والحساب والجزاء.
ورتبوا على ذلك إنكار نبوة هود عليه السلام، وبالغوا في إنكار البعث، وأعلنوا كبقية الماديين الملحدين أن الحياة في الدنيا هي الحياة الوحيدة، أو لا حياة إلا هذه الحياة، وأن البشر سلسلة يموت بعضهم، ويحيا بعضهم، وأن رسولهم هود رجل مفتر كذاب فيما يدعيه من الرسالة وما يزعمه من البعث والجزاء.
وكانت النتيجة الحتمية المطابقة للعدل هي هلاك القوم وتدميرهم بصيحة جبريل عليه السلام مع الريح الصرصر العاتية، صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله تعالى بها، فماتوا عن آخرهم، وجعلوا هلكى هامدين كغثاء السيل: وهو ما يحمله من بالي الشجر من الأعشاب والقصب مما يبس وتفتّت، فبعدا أي هلاكا لهم، وبعدا لهم عن رحمة الله، بظلمهم وكفرهم وعنادهم وطغيانهم.
القصة الثالثة- قصص صالح ولوط وشعيب وغيرهم عليهم السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
45
الإعراب:
وَما يَسْتَأْخِرُونَ لم يقل: تستأخر، مثل: تسبق، وإنما ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى.
تَتْرا في موضع نصب على الحال من (الرسل) أي أرسلنا رسلنا متواترين.
وتَتْرا أصلها وترى من المواترة، فأبدل من الواو تاء، كتراث وتهمة وتخمة، ويقرأ بتنوين وغير تنوين، فمن قرأ بالتنوين جعل ألفها للإلحاق بجعفر، وألف الإلحاق قليلة في المصادر، فجعلها بعضهم بدلا عن التنوين. ومن لم ينون، جعل ألفها للتأنيث كالدّعوى والعدوى، وهو ممنوع من الصرف للتأنيث ولزومه.
المفردات اللغوية:
قُرُوناً قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها بأن تموت قبله.
وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه.
تَتْرا متواترين، واحدا بعد واحد، من الوتر وهو الفرد، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، أي جعلناهم متتابعين، بين كل اثنين زمان طويل. أَرْسَلْنا رَسُولُها هذا مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة ٥/ ٣٢] وقوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [الأعراف ٧/ ١٠١] فمرة يضيف الرسل إليه تعالى، ومرة إلى أممهم لأن الإضافة تكون بالملابسة، والرسول ملابس المرسل، والمرسل إليهم جميعا، وأضاف الرسول عند الإرسال إلى المرسل في قوله: أَرْسَلْنا وعند المجيء إلى المرسل إليهم في قوله: رَسُولُها لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى، والمجيء الذي هو منتهاه إلى القوم.
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك. وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لم يبق منهم إلا حكايات يسمر بها، أي جعلناهم أخبارا يسمر بها ويتعجب منها. والأحاديث: اسم جمع للحديث في رأي الزمخشري، أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا وتعجبا، كالأضحوكة والألعوبة والأعجوبة، وهو المراد هنا. والجمهور على أن الأحاديث في غير هذا الموضع جمع حديث، ومنه أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جمعت العرب ألفاظا على أفاعيل كأباطيل وأقاطيع.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، وهي مجموع قصص ذات هدف واحد، والله تعالى يقص القصص في القرآن تارة مفصلة، كالقصتين السابقتين،
46
وأخرى مجملة كما هنا، والمراد بهذه القصص قصة لوط وصالح وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ أي ثم أوجدنا من بعد هلاك قوم عاد أمما وخلائق وأقواما آخرين، كقوم صالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ليقوموا مقام من تقدمهم في عمارة الدنيا.
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها، وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي ما تتقدم أمة مهلكة من تلك الأمم وقتها المقدّر لهلاكها أبدا، أو المؤقت لعذابها إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه. والمعنى أن وقت الهلاك محدد لا يتقدم ولا يتأخر، فلا تتعجلوا العذاب، فكل شيء عنده تعالى بمقدار، وهذا مرتبط بأجل الإنسان، كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا أي ثم بعثنا رسلا آخرين في كل أمة، يتبع بعضهم بعضا، كقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل ١٦/ ٣٦].
كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ أي كلما جاء الرسول أمة بتكليفهم بالشرائع والأحكام كذبه جمهورهم وأكثرهم، سالكين في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة، كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس ٣٦/ ٣٠].
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك، والمعنى: أتبعنا بعضهم بالهلاك إثر
47
بعض، حين كذبوا رسلهم، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء ١٧/ ١٧].
وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي وجعلناهم أخبارا وأحاديث للناس، جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به، يتحدثون بها تلهيا وتعجبا، كقوله تعالى:
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ ٣٤/ ١٩].
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي هلاكا وتدميرا وبعدا عن رحمة الله لقوم لا يصدقون به ولا برسوله. وهذا وارد على سبيل الدعاء، والذم، والتوبيخ، والوعيد الشديد لكل كافر. وهو دليل على أنهم كما أهلكوا عاجلا، فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات واضحة الدلالة على المقصود منها، وهي أن أجل الهلاك والعذاب محدد بميقات معين، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. وأن رحمة الله وحكمته وعدله اقتضت إرسال الرسل في كل الأمم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء ٤/ ١٦٥].
ولكن أكثر الناس وجمهورهم يكذبون الرسل ويخالفونهم فيما جاؤوا به، فتكون النتيجة إهلاك بعضهم إثر بعض، وجعلهم أحدوثة (وهي ما يتحدث به) يقص الناس أخبارهم في مجالس السمر، لأنها مدعاة للتعجب.
ثم ختمت الآيات بالإنذار والوعيد الشديد بالهلاك والدمار لكل قوم لا يصدقون بوجود الله وتوحيده وإرسال رسله، فإن الكافرين كما أهلكوا في الدنيا، يكون هلاكهم بالتعذيب في الآخرة أمرا منتظرا مؤكدا حصوله.
48
القصة الرابعة- قصة موسى وهارون عليهما السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
البلاغة:
عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع لطيف.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا بالآيات التسع كاليد والعصا، وهي المذكورة في سورة الأعراف وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بينة واضحة ملزمة للخصم، والمراد بالسلطان المبين: إما الآيات أنفسها، أي هي آيات وحجة بينة، وإما العصا لأنها كانت أمّ الآيات وأولاها، وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية، وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر، وانفجار العيون من الحجر، بضربها بها، وكونها حارسا، وشمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلوا، ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعض الآيات، لخصائصها ومزاياها وفضلها، فلذلك عطف عليها، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة ٢/ ٩٨] عطفا على الملائكة، مع أنهما منهم.
ومثل وغير: يوصف بهما الاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ [النساء ٤/ ١٤٠] وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ١٢]. ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف ٧/ ١٩٤].
فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بالله وبالآيات، والمتابعة عالِينَ متكبرين قاهرين بني إسرائيل بالظلم أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ «١» مِثْلِنا ثنّى البشر لأنه يطلق للواحد، كقوله تعالى:
(١) لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع، كما قال تعالى في إطلاقه على الواحد: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم ١٩/ ١٧] أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون ٢٣/ ٤٧]. ومثال إطلاقه على الجمع قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم ١٩/ ٢٦] وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ [المدثر ٧٤/ ٣١]
49
بَشَراً سَوِيًّا
[مريم ١٩/ ١٧] كما يطلق للجمع، كقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم ١٩/ ٢٦] ولم يثنّ المثل لأنه في حكم المصدر، فيوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
وَقَوْمُهُما يعني بني إسرائيل عابِدُونَ خادمون مطيعون، خاضعون منقادون مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في البحر الأحمر الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لعل بني إسرائيل يهتدون إلى المعارف والأحكام. ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم.
المناسبة:
هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة، ويلاحظ فيها وحدة الموضوع والهدف وشبهة إنكار النبوة، فموضوعها: وصف حال المتكبرين السادة الأشراف الملأ من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وأيوب ويوسف، وفرعون وملئه، وتكذيبهم رسلهم الذين جاءوهم بالحق وبالبينات والمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم. والهدف: هو العبرة والعظة حتى لا يستبد الكفار بآرائهم، ويمعنوا في العناد والكفر، فيستحقوا مثل عقاب من تقدمهم.
وأما شبهة إنكار النبوة من المنكرين في هذه القصص فهي واحدة وهي وحدة البشرية أو قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة، وهي شبهة زائفة باطلة لأن النفوس البشرية، وإن اشتركت في أصل القوى والإدراك، فإنها متباينة فيهما، فالناس يتفاوتون في طاقات المواهب والأفكار والمدارك، وفي الاستعدادات الفطرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف ١٨/ ١١٠].
التفسير والبيان:
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ.. قَوْماً عالِينَ أي ثم أرسلنا بعد الرسل
50
المتقدمين موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه وأتباعهم من الأقباط بالآيات والحجج الدامغة والبراهين القاطعة، ولكن هؤلاء القوم استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين، كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، وكانوا قوما متكبرين، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات ٧٩/ ١٧- ١٩] وقال سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص ٢٨/ ٤].
والآيات كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا، واليد، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنون، ونقص الثمرات.
ودلت الآية على أن النبوة كانت مشتركة بين موسى وهارون، وكذلك كانت المعجزات واحدة، فمعجزات موسى عليه السلام هي معجزات هارون عليه السلام.
وكانت صفة فرعون وقومه أمرين: أحدهما- الاستكبار والأنفة، والثاني- أنهم كانوا قوما عالين، أي رفيعي الحال في أمور الدنيا أو في الكثرة والقوة، أي على جانب من الحضارة والعلم، والعز والسلطان، بدليل الواقع التاريخي.
وكانت شبهتهم هي قولهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا، وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ؟ أي قال فرعون وملؤه (أشراف قومه) : كيف ننقاد لأمر موسى وأخيه هارون، وقومهما بنو إسرائيل خدمنا وعبيدنا المنقادون لأوامرنا؟! أي أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وأن قوم موسى وهارون أتباع أذلة لفرعون وقومه، وهكذا شأن الماديين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ويقيسون عزة النبوة وتبليغ الوحي عن الله على الرياسة أو الزعامة الدنيوية المعتمدة على الجاه والمال.
51
وهذا المعنى ذاته شبيه بما قالته قريش: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٤٣/ ٣١]. ولم يتنبهوا إلى أن معيار الاصطفاء للنبوة أو الرسالة إنما هو السمو في الفضائل والصفات التي ينعم الله بها عليهم ويؤهلهم لتلقي الوحي وتبليغه إلى البشر. وكان مآل غطرسة فرعون وقومه أمرين: التكذيب بنبوة موسى، وإنزال التوراة على موسى، أما الأول فهو قوله تعالى:
فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ أي كذب فرعون وقومه موسى وهارون، فأهلكهم الله بالغرق في يوم واحد أجمعين في بحر القلزم (البحر الأحمر) كما أهلك المستكبرين المتقدمين من الأمم بتكذيبهم رسلهم.
وأما الثاني فهو قوله سبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لقد أنزلنا على موسى التوراة المشتملة على الأحكام والأوامر والنواهي، بعد إغراق فرعون وقومه، رجاء أن يهتدي بها بنو إسرائيل إلى الحق، بامتثال ما فيها من المعارف والأحكام، وذلك كقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص ٢٨/ ٤٣].
قال ابن كثير: وبعد أن أنزل الله التوراة، لم يهلك أمة بعامة، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
في قصة موسى وهارون مع فرعون عبرة بالغة وعظة مؤثرة، فلقد بعث الله
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٤٥ [.....]
52
تعالى موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، مؤيدين بالمعجزات والأدلة الواضحة القاطعة الدالة على صدقهما، فدعواه وملأه إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده، فاستكبروا وتعالوا عن اتباعهما والانقياد لدعوتهما، لكونهما بشرين.
فكان حصاد التكذيب أمرين: إهلاك فرعون وقومه بالغرق في يوم واحد أجمعين في البحر الأحمر، وإنزال التوراة على موسى في الطور، فيها هدى ونور، وتشريع وأحكام، وخص موسى بالذكر هنا لأن هارون كان خليفة في قومه، وإيتاء التوراة كان لكليهما، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ [الأنبياء ٢١/ ٤٨].
القصة الخامسة- قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٠]
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
البلاغة:
مَعِينٍ مع فواصل الآيات السابقة، عالِينَ، الْمُهْلَكِينَ سجع مستحسن.
المفردات اللغوية:
ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السلام آيَةً حجة وبرهانا على قدرة الله تعالى، ولم يقل:
آيتين لأن الآية فيهما واحدة، وهي ولادتها إياه من غير مسيس رجل وَآوَيْناهُما جعلنا مأواهما ومنزلهما إِلى رَبْوَةٍ هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أرض بيت المقدس أو فلسطين أو الرملة، أو دمشق، فإن قراها على الرّبى ذاتِ قَرارٍ أي ذات استقرار فيها، يستقر عليها ساكنوها لأجل ما فيها من الثمار والزروع وَمَعِينٍ ماء جار ظاهر للناس.
53
المناسبة:
سبق إيراد قصة عيسى وأمه مفصلة في سورتي آل عمران ومريم، ووردت هنا بإيجاز يقتضيه المقام، وهو الاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى، وانتهى بذلك عصر المعجزات لانتهاء النبوة.
التفسير والبيان:
وجعلنا عيسى وأمه آية للناس دالة على قدرتنا إذ خلقناه من غير أب.
وقد جعلهما الله تعالى آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير رجل، لاشتراكهما في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة. وهو دليل على القدرة الإلهية القادرة على كل شيء، كقوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٩١].
وجعلنا مأواهما في مكان مرتفع من الأرض، صالح لاستقرار السكان، ذي ثمار وزروع وخصب، وماء جار ظاهر للعيون لا ينضب، وهو- كما قال قتادة- بيت المقدس، وهو الظاهر، وقيل: هو الرملة من فلسطين، كما روي عن أبي هريرة، وقال مقاتل والضحاك: هي غوطة دمشق إذ هي ذات الثمار والمياه.
قال ابن كثير: وأقرب الأقوال في ذلك: ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: المعين: الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله تعالى عنه: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم ١٩/ ٢٤] وكذا قال قتادة والضحاك: إلى ربوة ذات قرار ومعين: هو بيت المقدس، فهذا- والله أعلم- هو الأظهر لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وهذا أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار «١»
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٤٦
54
فقه الحياة أو الأحكام:
إن خلق عيسى عليه السلام من غير أب هو معجزة، وآية دالة على عظمة القدرة الإلهية.
وهو إعداد له ليكون نبيا، وقد ظهرت علائم نبوته بالنطق وهو في المهد طفل رضيع.
ومقتضى الإعداد للنبوة أن يكفله الله ويحميه، وينعم عليه بالنعم التي تعينه على تحمل أعباء النبوة، ومن تلك النعم الوفيرة: الإيواء في مكان صحي، ومنزل مريح، محاط بالخيرات من كل جوانبه، يفيض بالثمار والزروع والمياه الغزيرة المتدفقة، لتوفير سبل الحياة الكريمة.
وسبب الإيواء أن مريم أم عيسى فرت بابنها عيسى إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة. وقد ذهب بهما ابن عمها يوسف النجار، ثم رجعت إلى أهلها، بعد أن مات ملكهم.
مبادئ التشريع في الحياة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
55
الإعراب:
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً: إِنَّ بالكسر على الابتداء والاستئناف. وتقرأ بالفتح على النصب أو الجر، فالنصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وبأن هذه، أو بفعل مقدر تقديره:
واعلموا أن هذه أمتكم. والجر: بالعطف على (ما) في قوله: بِما تَعْمَلُونَ. وأُمَّةً:
منصوب على الحال، أي هذه أمتكم مجتمعة، ويقرأ بالرفع: إما بدل من أُمَّتُكُمْ التي هي خبر إِنَّ، وإما خبر بعد خبر، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي أمة واحدة.
زُبُراً حال من فاعل فَتَقَطَّعُوا.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما أَنَّما: بمعنى الذي في موضع نصب لأنها اسم (أن) وخبرها نُسارِعُ لَهُمْ به، فحذف (به) وهو حذف وقع في الصلة وفي الخبر.
البلاغة:
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ استعارة، شبه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإنسان برمته.
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ استفهام إنكاري.
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ حذف (به) أي نسارع لهم به في الخيرات، وحذف لطول الكلام.
فَاتَّقُونِ فَرِحُونَ حِينٍ بَنِينَ سجع مقبول لا تكلف فيه.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نداء وخطاب لجميع الأنبياء، ولكن ليس دفعة واحدة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أن كلّا منهم خوطب به في زمانه، فيشمل الخطاب عيسى عليه السلام، للتنبيه على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وإنما إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم، وللاحتجاج على الرهبانية في رفض الطيبات. الطَّيِّباتِ ما يستطاب ويستلذ من المباحات في المآكل والفواكه. وَاعْمَلُوا صالِحاً من فرض ونفل. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم عليه.
وَإِنَّ هذِهِ ملة الإسلام. أُمَّتُكُمْ ملتكم ودينكم وشريعتكم أيها المخاطبون، يجب ان تكونوا عليها. فَاتَّقُونِ فاحذرون. فَتَقَطَّعُوا أي الأتباع أي قطعوا ومزقوا. أَمْرَهُمْ دينهم. زُبُراً قطعا وأحزابا متخالفين، كاليهود والنصارى وغيرهم، جمع زبور. حِزْبٍ جماعة وأمة. بِما لَدَيْهِمْ عندهم من الدين. فَرِحُونَ مسرورون، معجبون، معتقدون أنهم
56
على الحق. فَذَرْهُمْ اترك كفار مكة، ودعهم. فِي غَمْرَتِهِمْ في ضلالتهم وجهالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها. حَتَّى حِينٍ إلى حين موتهم أو قتلهم. أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أن ما نعطيهم ونجعله مددا لهم. مِنْ مالٍ وَبَنِينَ في الدنيا.
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ نعجل لهم به، وهو خبر أن، والراجع ضمير محذوف، والمعنى:
أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع لهم به فيما فيه خيرهم وإكرامهم. بَلْ لا يَشْعُرُونَ أن ذلك استدراج لهم، وإنما هم كالبهائم، لا فطنة عندهم ولا شعور ليتأملوا، فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج، لا مسارعة في الخير.
المناسبة:
بعد بيان قصص بعض الأنبياء المتقدمين، أوصى الله تعالى بجملة من المبادئ في الحياة هي الأكل من الحلال، والعمل بصالح الأعمال، وإدراك أن الملة واحدة وأن الدين الحق واحد، ولكن الأمم فرقت دينها شيعا، وهم في حيرة وعمى يظنون أن إفاضة النعم عليهم، لرضا الله عليهم، ولكنها في الحقيقة استدراج، لا مسارعة في الخيرات.
التفسير والبيان:
١- يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا أمر من الله تعالى عباده المرسلين عليهم السلام بالأكل من الحلال، والقيام بصالح الأعمال، شكرا للنعمة. وهذا دليل على أن الحلال عون على العمل الصالح وسابق عليه، ثم ذكر تعالى علة هذا الأمر، فقال: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي إني مطلع على جميع أعمالكم، لا يخفى علي شيء منها، وأنا مجازيكم عليها.
ومن أمثلة الحلال أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وأن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده، كما ثبت في الصحيح، فيعمل الدروع المسردة (أي ذات الحلق من الحديد) بيده معجزة له وأمرا خارقا للعادة،
وفي
57
صحيح مسلم: «وما من نبي إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال:
نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة»
.
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، وَاعْمَلُوا صالِحاً، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة ٢/ ١٧٢]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، يمدّ يديه إلى السماء، يا ربّ، يا ربّ، فأنى يستجاب له».
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن حين فطره، وهو صائم، فرد إليها رسولها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم ردّه وقال: ومن أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها بمالي، فأخذه، فلما كان من الغد جاءته وقالت: يا رسول الله، لم رددته؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «أمرت الرّسل ألا يأكلوا إلا طيبا، ولا يعملوا إلا صالحا».
٢- وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أي وإن دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا يدل على أن الأديان متحدة في أصولها المتعلقة بتوحيد الله ومعرفته. أما اختلاف الفروع من شرائع وأحكام بحسب اختلاف الأزمان والأحوال، فلا بأس به ولا يسمى اختلافا في الدين.
ومرجع أعمال الأنبياء جميعا إلى الله تعالى، فأنا ربكم المتفرد بالربوبية، فاحذروا عقابي، ولا تخالفوا أمري، أي والحال أني أنا ربكم.
58
٣- فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أي إن أتباع الأنبياء فرقوا أمر دينهم وقطعوه ومزقوه، وجعلوه قطعا، وصاروا فرقا وأحزابا وجماعات، كل حزب يفرحون بما هم فيه من الضلال، ويعجبون بما هم عليه، معتقدين أنه الحق الصراح، ويحسبون أنهم مهتدون.
وهذا ذم واضح للتفرق والتشتت، وتوبيخ ووعيد، لذا قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا:
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أي دعهم واتركهم في جهالتهم وضلالهم إلى حين موتهم أو قتلهم ورؤيتهم مقدمات العذاب وبوادره، كما قال تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ، أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق ٨٦/ ١٧]، وقال سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا، وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر ١٥/ ٣].
٤- أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، لكرامتهم علينا، ومعزتهم عندنا؟ كلا، ليس الأمر كما يزعمون في قولهم:
نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٥].
لقد أخطئوا في ذلك، وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء لهم، لهذا قال تعالى: بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يحسون أنما نفعل ذلك بهم استدراجا وأخذا بأيديهم إلى العذاب إذا لم يتوبوا، كما قال تعالى:
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة ٩/ ٥٥]، وقال سبحانه: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران ٣/ ١٧٨]، وقال عزّ وجلّ: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم ٦٨/ ٤٤- ٤٥].
قال قتادة في قوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ.. الآية: مكر والله
59
بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدّين فقد أحبّه، والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله؟
قال: غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا يتصدق به، فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث»
.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن الأنبياء كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة، فكذلك هم متفقون على التوحيد، وعلى اتقاء معصية الله تعالى.
والدين الذي لا خلاف فيه: معرفة ذات الله تعالى وصفاته، أي إثبات وجود الله وتوحيده، أما الاختلاف في الشرائع والأحكام العملية الفرعية، فلا يسمى اختلافا في الدين.
٢- سوّى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكل في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وإذا كان هذا مع الأنبياء، فما ظنّ كل الناس بأنفسهم؟!
60
٣- الطيبات هي الحلالات، وإن لأكل الحلال أثرا ملموسا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، ففي الدنيا يبارك الله تعالى لمن أكل الحلال في جسده وصحته ورزقه وأولاده وأمواله. وفي الآخرة يمتعه الله بالجنان. أما آكل الحرام أو السحت فإنما يأكل ما يؤدي به إلى نار جهنم.
٤- اتفقت الرسل جميعا على الدعوة لعبادة الله الواحد الأحد، وكان أصل الدين واحدا بالدعوة إلى التوحيد وفضائل الأعمال، وما نشاهد من اختلاف وخصام بين أتباع الأديان، فإنما هو من اختلاف الأمم والجماعات فيما بينهم بحسب أهوائهم وعقولهم، وهو خروج عن أصل وحدة الدين الحق.
فمن تمسك بالحق المتمثل بالقرآن، ولم يصر على ما توارثه من عقائد محرفة ومشوهة، وسار على نهج خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم، كان من الفائزين الناجين.
٥- إن الافتراق المحذر منه في الآية إنما هو في أصول الدين وقواعده، لا في الفروع والجزئيات العملية، فذلك لا يوجب النار لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨]، ويؤيد الآية
حديث خرّجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة».
٦- إن الكرامة والمكانة للعبد عند الله ليست بالمال والولد، ولكن بالتقوى والعمل الصالح.
٧- لقد أخطأ أصحاب الأموال والثروات في الجاهلية وغيرها حينما ظنوا أن الإمداد بالمال والولد دليل على رضا الله تعالى، وإنما هو على العكس استدراج (أخذ قليلا قليلا) إلى مهاوي النار،
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد
61
من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج».
لهذا شبّه الله تعالى حالهم حين ستر الجهل والحيرة عقولهم بحال من غمره الماء، فقال: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ أي فذر هؤلاء الجاهلين يتيهون في جهالتهم، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شيء وقت معلوم.
والخلاصة: أن هذا الإمداد للكفار ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصي، واستجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات إكراما لهم، وتعجيلا للثواب قبل وقته.
صفات المسارعين في الخيرات
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ.. خبر إِنَّ في قوله تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وأُولئِكَ: مبتدأ، ويُسارِعُونَ: جملة فعلية: خبر المبتدأ، والمبتدأ وخبره: في موضع رفع لأنه خبر إِنَّ.
البلاغة:
يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ بينهما طباق.
62
وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ استعارة، شبه الكتاب بمن له لسان ينطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان وإعلان الأحكام.
يُؤْتُونَ ما آتَوْا جناس اشتقاق.
مُشْفِقُونَ يُؤْمِنُونَ يُشْرِكُونَ سابِقُونَ سجع محكم.
المفردات اللغوية:
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ خوف من عقابه أو عذابه. مُشْفِقُونَ حذرون، والإشفاق: نهاية الخوف، وليس هذا هو المراد، وإنما المراد لازمه وأثره وهو دوام الطاعة.
بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة، أي الآيات الكونية في الأنفس والسموات والأرض، والآيات المنزلة وهي القرآن. يُؤْمِنُونَ يصدقون. لا يُشْرِكُونَ شركا جليا ولا خفيا.
يُؤْتُونَ يعطون. ما آتَوْا ما أعطوا من الصدقات والأعمال الصالحة. وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة ألا تقبل منهم. أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي بأنهم راجعون إلى الله لأن مرجعهم إليه.
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يرغبون في الطاعات أشد الرغبة، فيبادرونها. وَهُمْ لَها سابِقُونَ فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها. وُسْعَها ما يسع الإنسان فعله دون مشقة ولا حرج. كِتابٌ هو صحيفة الأعمال. بِالْحَقِّ بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع.
المناسبة:
بعد أن ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم بقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أردف بعده صفات من يسارع حقيقة في الخيرات، وهي أربع صفات: خشية الله، والإيمان بآيات ربهم، ونفي الشريك لله تعالى، ويؤدون حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة، وحقوق الآدميين كالودائع والديون، وقلوبهم خائفة ألا يتقبّل ذلك منهم.
63
التفسير والبيان:
هذه صفات المسارعين في الخيرات:
١- إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي إن الذين هم من خوفهم من عذاب ربهم دائمون في طاعته، فالمراد من الإشفاق أثره وهو الدوام في الطاعة. أو أن المراد خائفون من الله، ويكون الجمع بين الخشية والإشفاق للتأكيد.
٢- وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي والذين هم بآيات الله الكونية والقرآنية المنزلة يصدقون تصديقا تاما لا شك فيه. والآيات الكونية: هي آيات الله المخلوقة الدالة على وجوده بالنظر والفكر، كإبداع السموات والأرض وخلق النفس الإنسانية. والآيات المنزلة في القرآن، مثل الإخبار عن مريم:
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم ٦٦/ ١٢]، أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه، ومثل ما شرعه الله، فهو إن كان أمرا فهو مما يحبه ويرضاه، وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرا فهو حق.
٣- وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه لا نظير له ولا كفؤ له.
ويلاحظ أن الصفة الثانية: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى، وهو توحيد الربوبية، والصفة الثالثة هي توحيد الألوهية والعبادة ونفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصا في العبادة، بأن تكون لوجه الله تعالى وطلب رضوانه.
ولم يقتصر على الصفة الثانية لأن كثيرا من المشركين يعترفون بتوحيد
64
الربوبية، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥]، ولا يعترفون بتوحيد الألوهية والعبادة، فعبدوا الأصنام والأوثان ومعبودات أخرى.
٤- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي والذين يعطون العطاء، وهم وجلون خائفون ألا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط روى الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عزّ وجلّ؟ قال: «لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصدّيق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عزّ وجلّ».
وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي لأنهم أو من أجل أنهم.
والإيتاء لا يقتصر على العطاء المادي من زكاة أو صدقة، وإنما يشمل كل حق يلزم إيتاؤه، سواء كان ذلك من حقوق الله تعالى، كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين، كالودائع والديون والعدل بين الناس لأن من يؤدي الواجب من عبادة أو غيرها، وهو وجل من التقصير والإخلال بنقصان أو غيره، فإنه يكون مجتهدا في أن يوفّيها حقها في الأداء.
وترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والصفة الثانية دلت على أصل الإيمان والتعمق فيه، والصفة الثالثة دلت على ترك الرياء في الطاعات، والصفة الرابعة دلت على الإتيان بالطاعات مع الخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين.
65
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي أولئك الذين يبادرون في الطاعات لئلا تفوتهم، ويتعجلون في الدنيا وجوه النفع والإكرام كما قال تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران ٣/ ١٤٨]، وقال: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٧]، وهم لأجل الطاعات سابقون الناس إلى الثواب، وينالون الثمرة في الدنيا قبل الآخرة، لا أولئك الكفار الذين أمددناهم بالمال والبنين، فظنوا خطأ أن ذلك إكرام لهم.
والخلاصة: أن السعادة ليست هي سعادة الدنيا، وإنما سعادة الآخرة بالعمل الطيب، وإيتاء الصدقات، مع الخوف والخشية.
وبعد بيان كيفية أعمال المؤمنين المخلصين، ذكر الله تعالى حكمين من أحكام أعمال العباد:
الأول- وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي إن منهاج شرعنا ألا نكلف نفسا إلا قدر طاقتها، وهذا إخبار عن عدله في شرعه، ورحمته بالعباد، وهو أيضا يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس.
والثاني- وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي ولدينا كتاب الأعمال أو صحائف الأعمال، وقيل: اللوح المحفوظ، يبين بدقة وصدق لا يخالف الواقع أعمال الناس في الدنيا، كما قال تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية ٤٥/ ٢٩]، وقال سبحانه: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف ١٨/ ٤٩]، فالأظهر أن المراد بالكتاب كتاب إحصاء الأعمال.
ثم بيّن الله تعالى فضله على عباده في الحساب بعد بيان يسر التكليف فقال:
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي وهم لا يبخسون في الجزاء من الخير شيئا، بل يثابون على
66
ما قدموا من الأعمال القليلة والكثيرة، ولا يزاد في عقابهم، فهم لا يظلمون بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، بل يعفو الله عن كثير من السيئات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن ميزان قبول الأعمال يعتمد على الصفات الأربع، وهي: الخوف من عذاب الله، والإيمان بآيات الله، وإخلاص العبادة لله ونفي الشرك الخفي، وأداء الواجبات مع الاجتهاد في إيفائها حقها.
٢- نبهت الآيات على خاتمة الإنسان وهي الرجوع إلى لقاء الله تعالى، جاء في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم».
٣- إن المؤمنين المتصفين بالصفات المتقدمة هم الذين يبادرون في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات والغرفات. وأما قوله تعالى: وَهُمْ لَها سابِقُونَ فقال القرطبي: أحسن ما قيل فيه: إنهم يسبقون إلى أوقاتها. ودل بهذا أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه، وكل من تأخر عنه فقد سبقه وقته. فاللام في لَها على هذا القول بمعنى إلى، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة ٩٩/ ٥]، أي أوحى إليها «١».
وقال الزمخشري والرازي: المعنى وهم من أجل الخيرات سابقون. وهذا ما جرينا عليه في التفسير. ويجوز أن يكون معنى وَهُمْ لَها بمعنى: أنت لها وهي لك.
٤- إن الذي وصف الله به الصالحين غير خارج عن حد الوسع والطاقة.
وهذا ناسخ لجميع ما ورد في الشرع من تكليف لا يطاق. والآية تقرر مبدءا عاما في التكليف وهو التيسير ودفع الحرج، كما في آية البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [٢٨٦].
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ١٣٣
67
٥- أظهر ما قيل في قوله تعالى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ: إنه أراد كتاب إحصاء الأعمال الذي ترفعه الملائكة. وأضافه إلى نفسه لأن الملائكة كتبت فيه أعمال العباد بأمره، فهو ينطق بالحق.
وفي هذا تهديد وتأييس من الحيف والظلم.
٦- إن الجزاء على الأعمال لا ظلم فيه بزيادة عقاب أو نقصان ثواب، فلا يظلم ربك أحدا من حقه، ولا يحطه عن درجته، بل إن فضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، فإنه يعفو ويصفح عن كثير من السيئات لعباده المؤمنين.
إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٣ الى ٧٧]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
68
الإعراب:
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ مُسْتَكْبِرِينَ وسامِراً منصوبان على الحال.
وبِهِ من صلة (سامر). وقال سامِراً بصيغة الإفراد بعد قوله مُسْتَكْبِرِينَ لأن سامِراً في معنى (سمّار) فهو اسم جمع، كالجامل والباقر: اسم لجماعة الجمال والبقر.
وتَهْجُرُونَ من هجر يهجر هجرا وهجرانا، والمراد: تهجرون آياتي وما يتلى عليكم من كتابي.
وقرئ بضم التاء تَهْجُرُونَ: من (أهجر) : إذا هذى، والهجر: الهذيان فيما لا خير فيه من الكلام.
اسْتَكانُوا أصله: استكونوا بوزن استفعلوا، من الكون، فنقلت فتحة الواو إلى الكاف، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
البلاغة:
أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ جناس اشتقاق.
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف.
المفردات اللغوية:
بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفار فِي غَمْرَةٍ في غفلة غامرة لها وجهالة مِنْ هذا من كتاب الحفظة، أو مما وصف به هؤلاء، أو من القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال خبيثة متجاوزة لما وصفوا به أو أدنى مما هم عليه من الشرك أو غير ذلك هُمْ لَها عامِلُونَ معتادون فعلها، فيعذبون عليها.
حَتَّى ابتدائية يبتدأ بعدها الكلام، وهو الجملة الشرطية هنا مُتْرَفِيهِمْ متنعميهم وهم أغنياؤهم ورؤساؤهم بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلم،
فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»
فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحترقة يَجْأَرُونَ يصيحون ويضجون، وقد فاجؤوا الصراخ بالاستغاثة، وهو جواب الشرط.
لا تُنْصَرُونَ لا تمنعون منا، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا ولا ينصركم أحد،
69
وقوله: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي، أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم آياتِي القرآن تَنْكِصُونَ ترجعون وراءكم، والمراد: تعرضون مدبرين عن سماع الآيات وتصديقها والعمل بها مُسْتَكْبِرِينَ عن الإيمان بِهِ أي بالتكذيب أو بالبيت الحرام بأنهم أهله وقوامه، وأنهم في أمن بخلاف سائر الناس في مواطنهم، والباء على هذا المعنى متعلقة بمستكبرين لأنه بمعنى مكذبين سامِراً أي جماعة سمّارا، وهم الذين يتحدثون بالليل حول البيت، يسمرون بذكر القرآن والطعن فيه تَهْجُرُونَ إذا كان من الثلاثي (هجر) أي بفتح التاء: أي تتركون القرآن من الهجر وهو القطيعة، وإذا كان من الرباعي (أهجر) أي بضم التاء: أي تقولون غير الحق في النبي والقرآن، من الهجر: وهو الهذيان والفحش.
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي يتدبروا القرآن الدال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ليعلموا أنه الحق من ربهم، بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من الرسول والكتاب، أو من الأمن من عذاب الله، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقومون كإسماعيل وأعقابه، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالأمانة والصدق، وحسن الخلق، وكمال العلم، مع عدم التعلم، إلى غير ذلك من صفات الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعواه.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، فلا يبالون بقوله، وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا، وأتقنهم نظرا. والاستفهام للتقرير بالحق، من صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، ومجيء الرسل للأمم الماضية، ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة، وأن لا جنون به بَلْ للانتقال جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم، فلذلك أنكروه، وإنما قيد الحكم بالأكثر لوجود أناس منهم تركوا الإيمان خشية توبيخ قومه، لا لكراهته للحق.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ أي لو اتبع القرآن ما يستهوون، بأن كان في الواقع آلهة شتى، أو ما يهوونه من الشريك والولد لله لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي خرجت عن نظامها المشاهد بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ القرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم وفخرهم ووعظهم.
خَرْجاً أجرا أو جعلا على أداء الرسالة فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي أجره وثوابه ورزقه خير وأبقى وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل من أعطى وآجر.
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق قويم لا عوج فيه وهو دين الإسلام لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ الطريق لَناكِبُونَ عادلون عن طريق الرشاد، فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه.
ضُرٍّ جوع أصابهم بمكة سبع سنين لَلَجُّوا تمادوا فِي طُغْيانِهِمْ ضلالتهم
70
يَعْمَهُونَ يترددون وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني القتل يوم بدر أو الجوع فَمَا اسْتَكانُوا تواضعوا وخضعوا وذلوا وَما يَتَضَرَّعُونَ لا يرغبون إلى الله بالدعاء، بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم حَتَّى ابتدائية ذا عَذابٍ شَدِيدٍ صاحب عذاب، هو يوم بدر بالقتل مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير.
سبب النزول:
نزول الآية (٦٧) :
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ..: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله:
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ.
نزول الآية (٧٦) :
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ..:
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أنشدك بالله والرحم، قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ.
وأخرج البيهقي في الدلائل بلفظ أن ثمامة بن أثال الحنفي، لما أتي به للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أسير، خلّى سبيله، وأسلم، فلحق بمكة، ثم رجع، فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة، حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال: فقد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن الدين يسر لا عسر، فلا تكليف إلا بقدر الطاقة،
71
أردف ذلك بالإنكار على الكفار والمشركين من قريش، ووصفهم بأنهم في غمرة من هذا الذي بيّن في القرآن، أو من وصف المشفقين، وأن لهم أعمالا أخرى أسوأ في الكفر والعصيان، كالشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وإيذاء المؤمنين.
وبعد أن بين أنه لا ينصر أولئك الكفار، أتبعه بعلة ذلك، وهي أنه متى تليت عليهم آيات القرآن، أتوا بأمور ثلاثة: هي النفور والإعراض عن تلك الآيات وعن تاليها، والاستكبار بالبيت العتيق أو الحرم قائلين: «لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم» والسمر بذكر القرآن والطعن فيه.
ولما زيّف طريقة القوم، أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ولكن الكفار تنكبوا عن هذا الطريق وعدلوا عنه، وقد أنذرهم ربهم بإحلال العذاب عليهم بالقتل يوم بدر، والجوع وغير ذلك، فما خضعوا ولا انقادوا لربهم، وتمادوا في ضلالهم، وهم متحيرون.
التفسير والبيان:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي بل قلوب الكفار والمشركين في غفلة وضلالة من هذا البيان الشافي في القرآن، ومن هدايته لأقوم الطرق، وإسعاده للناس في دنياهم وآخرتهم.
وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ، هُمْ لَها عامِلُونَ أي ولهم أعمال سيئة منكرة غير ذلك أي غير الغفلة والجهل وهو الشرك والطعن في القرآن وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين، هم لها عاملون قطعا في المستقبل. وإنما قال ذلك لأن تلك الأعمال مثبتة في علم الله وفي اللوح المحفوظ ومكتوبة مسجلة عليهم سلفا، لإحاطة علم الله بها، وعلم الله لا يتغير.
72
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي حتى إذا أوقعنا مترفيهم (وهم المتنعمون البطرون في الدنيا) في العذاب الشديد والبأس والنقمة بهم، صرخوا واستغاثوا، كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً [المزمل ٧٣/ ١١- ١٢] وقال سبحانه: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص ٣٨/ ٣].
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي لا فائدة ولا جدوى من الصراخ، فلا يدفع عنكم ما يراد إنزاله بكم، وقد لزم الأمر ووجب العذاب، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.
وأسباب حجب نصر الله لهم وإيقاع هذا الجزاء ثلاثة هي:
١- قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي إنه متى تليت عليكم آيات القرآن نفرتم منها وأعرضتم عن سماعها وعمن يتلوها، كما يذهب الناكص (الراجع) على عقبيه، بالرجوع إلى ورائه. والمراد: أنهم يعرضون عن الحق، فإذا دعوا أبوا، وإن طلبوا امتنعوا.
٢- مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي إنهم حال نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه يكونون مستكبرين استكبارا عليه (أي على الحق) واحتقارا له ولأهله.
وضمير بِهِ عائد إلى البيت العتيق أو الحرم، فإنهم كانوا يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه، وليسوا به، أو أنه عائد إلى القرآن أو إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يصفون القرآن بأنه سحر أو شعر أو كهانة، ويقولون عن النبي صلّى الله عليه وسلم:
إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو كذاب أو مجنون، وكل ذلك باطل، فالقرآن حق، ومحمد نبي الحق، وليس الاستكبار من الحق.
٣- سامِراً تَهْجُرُونَ أي سمّارا حول البيت، تتركون القرآن، أو تأتون
73
بالهذيان، فتسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه. وعلى هذا تتعلق كلمة بِهِ ب: سامِراً.
وبعد أن وصف حالهم، أبان أن إقدامهم على هذه الأمور، لا بد من أن يكون لأحد أسباب أربعة هي:
١- أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي أفلا يتفهم المشركون هذا القرآن العظيم؟
مع أنهم خصوا به، وهو معروف لهم بيانا وفصاحة وبلاغة ومضمونا ساميا، ولم ينزل على رسول أكمل ولا أشرف منه، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا نعمة الله عليهم بقبولها، والقيام بشكرها وتفهمها، والعمل بمقتضاها.
٢- أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أي أم اعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة، مع أنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل تتالت على الأمم، مؤيدة بالمعجزات، أفلا يدعوهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول؟
٣- أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ، فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي ربما لم يكونوا عارفين رسولهم بخصاله العالية قبل النبوة؟ مع أنهم عرفوا أنه الصادق الأمين، وأنه يفر من الكذب والأخلاق الذميمة، فكيف كذبوه بعد أن اتفقوا على تسميته بالأمين؟
لهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك، إن الله بعث فينا رسولا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وقال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم مثل ذلك. وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلّى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا، فاعترفوا باتصافه بالصدق.
٤- أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل إنهم يقولون عن الرسول: إن به جنونا لا يدري ما يقول، مع أنهم يعلمون أنه أرجح الناس عقلا ورأيا.
74
ثم بيّن الله تعالى السبب الحقيقي في عدم إيمانهم فقال:
بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أي بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق الثابت الذي لا محيد عنه، وهو توحيد الله والتشريع المحقق للسعادة، لكن أكثرهم كارهون لهذا الحق، لتأصل الشرك في قلوبهم، وتمسكهم بتقليد الآباء والأجداد، وحفاظهم على المناصب ومراكز الزعامة والرياسة.
وإنما قال أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق، كما حكي عن أبي طالب.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ والحق:
كل ما قابل الباطل، فهو الشيء الثابت والصواب والطريق المستقيم، فلو اتبع أهواء الناس لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم، وقيل الحق: الإسلام لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم، وعن قتادة: أن الحق هو الله ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي، لما كان إلها، ولكان شيطانا.
والمعنى العام: أن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على الإنسان ترك الهوى واتباع الحق، فإن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم، فلو جاء القرآن مؤيدا الشرك بالله والوثنية، شارعا ما فيه الفوضى والانحراف كإباحة الظلم وترك العدل، وإقرار النهب والسلب والسرقة، وإباحة الزنى والقتل، وإهمال القيم الخلقية، لاختل نظام العالم ووقع التناقض، وتأخرت المدنية، وفسدت السموات والأرض ومن فيهن، لفساد أهوائهم واختلافها، ولو أبيح العدوان لافتقد الأمن، ولو أبيح الظلم لدمرت المدنية، ولو أبيح الزنى لاختلطت الأنساب وتهدمت الأسر، وهكذا.
ومن أفكارهم وأقوالهم ما حكاه القرآن: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ
75
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزخرف ٤٣/ ٣١] أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟
[الزخرف ٤٣/ ٣٢] قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ [الإسراء ١٧/ ١٠٠] أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء ٤/ ٥٣].
وضمير وَمَنْ فِيهِنَّ إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض وجنّها. وأما ما لا يعقل فهو تابع لما يعقل.
ثم شنع الله تعالى عليهم لإعراضهم عن معالم الحق والهدى والخير فقال:
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أي بل جئناهم بالقرآن الذي هو وعظهم أو فيه شرفهم وفخرهم وإعلاء سمعتهم، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤] ولكنهم معرضون عن هذا الذكر الذي سطر لهم الخلود والمجد.
ثم أوضح إخلاص النبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته، وأنه لا يطمع فيهم، حتى يكون ذلك سببا للنفرة فقال:
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً، فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي أتسألهم أجرا على تبليغ الرسالة والدعوة إلى الهداية ورفع الشأن حتى لا يؤمنوا بك، ويملّوك ويبغضوك؟ والمراد أن هذه التهمة بعيدة عنه، وأنه صلّى الله عليه وسلم لا يطلب عوضا عن القيام بمهمته، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله. وإن ما عند الله من ثواب خير من ثواب الدنيا، والله أفضل من أعطى وآجر.
ونظير الآية كثير في القرآن مثل: قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ ٣٤/ ٤٧] قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص ٣٨/ ٨٦] قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى ٤٢/ ٢٣].
76
والخلاصة: أنهم غير معذورين في عدم الاستجابة لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أيده الله بدستور رفيع للحياة البشرية، وليس له مطمع مادي في ملك ولا مال ولا جاه.
ثم أبان الله تعالى صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإنك يا محمد لتدعو الناس قاطبة ومنهم هؤلاء المشركون من قريش إلى الطريق المستقيم، والدين القيم الصحيح، وسبيل العزة والكرامة، والخير والسداد والوسط، وهو الإسلام العلاج الشافي لأدواء البشرية، وحل المشكلات الدينية والدنيوية، كما شهدت بذلك العقول السليمة، والدراسات الحيادية المجردة من أعداء الإسلام وعباقرة العلم والمعرفة.
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي وإن المكذبين بالآخرة الذين لا يصدقون بالبعث بعد الموت لعادلون جائرون منحرفون عن هذا الطريق لأن طريق الاستقامة واحدة، وما يخالفه فكثير.
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي إن هؤلاء الكفار لو أسبغنا عليهم واسع رحمتنا، وأزحنا عنهم الضر، وأفهمناهم القرآن، لما آمنوا به ولما انقادوا له، ولتمادوا في ضلالهم، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم، وظلوا متحيرين مترددين، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال ٨/ ٢٣].
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ، وَما يَتَضَرَّعُونَ أي ولقد ابتليناهم بالمصائب والشدائد، فما ردّهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة، بل استمروا على غيهم وضلالهم، وما خشعوا وما خضعوا لربّهم، وما دعوا ولا تذللوا، كما قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام ٦/ ٤٣].
77
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال:
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ، إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، فنالهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيسوا من كل خير ومن كل راحة، وانقطعت آمالهم، وخاب رجاؤهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن للكفار أعمالا قبيحة جدا في ميزان شرع الله ودينه، أسوأها الشرك، وهم في غفلة وعماية عن القرآن وهديه، وهم عاملون تلك الأعمال لا محالة لأنها مثبّتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ، ولكن دون إجبار ولا إكراه، وإنما باختيار منهم.
٢- يعتاد الكافر إذا أصابه العذاب والبلاء في الدنيا أن يجأر بالشكوى ويضج ويستغيث، ولكن إذا داهمه العذاب في الآخرة لم ينفعه التضرع والجزع، ولا يجد ناصرا ينصره من بأس الله تعالى.
ومثال ذلك أن مترفي مكة تعرضوا للقتل يوم بدر، وللجوع الشديد، حين
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف»
فابتلاهم الله بالقحط والجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف، وهلكت الأموال والأولاد، كما تقدم بيانه.
٣- كانت أسباب تعذيب الكفار والمشركين ثلاثة: هي النفور عن القرآن والإعراض عن سماعه، والاستكبار بهذا التباعد عن الحق والافتخار بالبيت الحرام وأنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله تعالى، وما هم كذلك، والسمر
78
بذكر القرآن وبالطعن فيه. وضمير مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ كما قال الجمهور: هو عائد على الحرم أو المسجد أو البلد الذي هو مكة، وإن لم يذكر سابقا لشهرته في الأمر.
٤- روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما كره السّمر حين نزلت هذه الآية: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، سامِراً تَهْجُرُونَ يعني أن الله تعالى ذم أقواما يسمرون في غير طاعة الله تعالى، إما في هذيان، وإما في إذاية.
وروى مسلم عن أبي برزة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل، ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها».
أما كراهية النوم قبلها فلئلا يعرّضها للفوات عن كل وقتها أو أفضل وقتها، وهذا مذهب مالك والشافعي.
وأما كراهية الحديث بعدها، فلأن الصلاة قد كفرت خطاياه، فينام على سلامة، وقد ختم الكتّاب صحيفته بالعبادة، فإن سمر وتحدث، فيجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين. وأيضا السمر في الحديث والسهر يفوت عليه غالبا قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح.
روى أحمد حديثا: «لا سمر بعد الصلاة»
أي العشاء الآخرة.
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والسّمر بعد هدأة الرجل، فإن أحدكم لا يدري ما يبث الله تعالى من خلقه، أغلقوا الأبواب، وأوكوا السّقاء، وخمّروا الإناء، وأطفئوا المصابيح».
وهذه الكراهية إنما تختص بما لا يكون من قبيل القرب والأذكار وتعليم العلم، ومسامرة الأهل بالعلم وبتعليم المصالح وما شابه ذلك، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم وعن السلف ما يدل على جواز ذلك، بل على ندبه.
٥- إن إقدام الكفار على الأمور الثلاثة المتقدمة لأسباب أربعة: هي عدم تدبرهم القرآن أي عدم تفهمهم له، واعتقادهم أن مجيء الرسل على خلاف العادة، وتجاهلهم وإنكارهم خصال الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة، فإنهم عرفوه وعرفوا أنه من
79
أهل الصدق والأمانة، فكان في اتباعه النجاة والخير لولا العنت، ووصفهم له بأنه مجنون للاحتجاج في ترك الإيمان به.
مع أنه عليه الصلاة والسلام جاءهم بالحق، أي القرآن والتوحيد الحق والدّين الحق، وأكثرهم كارهون للحق حسدا وبغيا وتقليدا.
٦- الحق فوق الأهواء والشهوات، ولو وافق الحق أهواء الكفار، لاختل نظام العالم لأن شهوات الناس متخالفة متعارضة متضادة، لذا وجب اتباع سبيل الحق، والانقياد للحق، والتخلي عن الأهواء.
٧- القرآن الكريم شرف وفخر ومجد وعز للعرب، ومع ذلك فهم معرضون عنه وعن تعاليمه، وتلك هي الحماقة بعينها، والمكابرة.
٨- ليس للنبي صلّى الله عليه وسلم مطمع في أجر أو جعل على تبليغ ما جاء به قومه من الرسالة، بل هو أسمى من طلب ذلك، لأنه يطلب رضا الله وفضله، وما يؤتيه الله له من الأجر على الطاعة والدعاء إلى دين الله خير من عرض الدنيا، وقد عرضوا عليه فعلا أموالهم حتى يصبح أغناهم، فأبى ذلك أيما إباء ولم يجبهم إلى ذلك.
٩- إن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم دعوة إلى الاستقامة، وإلى الدين القويم، والمنهج الأعدل والأفضل، لكن الذين لا يصدقون بالبعث لعادلون عن الحق، جائرون منحرفون، حتى يصيروا إلى النار.
١٠- لو ردّ الله الكفار إلى الدنيا رحمة بهم، ولم يدخلهم النار وامتحنهم مرة أخرى، لتمادوا في طغيانهم، أي في معصيتهم، وظلوا يترددون في ضلالتهم.
ولو كشف الله ما بالكفار من ضرّ، أي من قحط وجوع، لتمادوا في ضلالتهم أيضا وتجاوزهم الحد، واستمروا يخبطون في طغيانهم.
80
١١- لقد مرّ الكفار في تجربة واضحة، فحينما جاءهم العذاب بالجوع والأمراض والحاجة، ما خضعوا لربهم وما خشعوا له، وما تضرعوا بالدعاء لله عز وجل في الشدائد التي تصيبهم.
١٢- إن عاقبة أمر الكفار واضحة، فهم إذا تعرضوا لعذاب الله الشديد في الآخرة، أيسوا من كل خير، وتحيروا لا يدرون ما يصنعون، كالآيس من الفرج ومن كل خير، كما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧- ٢٩].
والخلاصة: يصرّ المشركون على إشراكهم بالرغم من الإنذارات المتكررة وتوافر الأدلة على عظمة الله وقدرته وتحذيره من بأسه الشديد.
نعم الله العظمى على عباده
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
البلاغة:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ امتنان، وأفرد السمع وجمع الأبصار تفننا.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ التنكير للتقليل، وما لتأكيد القلة، والمعنى: شكرا قليلا، وهو كناية عن عدم الشكر.
81
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ استفهام بقصد التوبيخ والإنكار.
يُحْيِي وَيُمِيتُ طباق.
المفردات اللغوية:
أَنْشَأَ خلق السَّمْعَ الأسماع الْأَفْئِدَةَ لتتفكروا فيها وتستدلوا بها، وتحققوا منافع أخرى دينية ودنيوية قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرونها شكرا قليلا لأن الشكر الحقيقي استعمال الحواس فيما خلقت لأجله، والإذعان لمانحها من غير إشراك، وما لتأكيد القلة ذَرَأَكُمْ خلقكم وبثكم تُحْشَرُونَ تبعثون وتجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم يُحْيِي ينفخ الروح وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما بالسواد والبياض، والزيادة والنقصان، وذلك مختص بالله تعالى لا يقدر عليه غيره، كما يقال: يختلف إلى فلان، أي يتردد عليه، أَفَلا تَعْقِلُونَ صنعه تعالى بالنظر والتأمل أن كل شيء منا، وأن قدرتنا تعم كل الممكنات وأن البعث من جملتها، فتعتبروا. وقرئ بالياء (يعقلون) على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى إعراض المشركين عن تدبر القرآن وفهم أدلة وجود الله ووحدانيته وقدرته، أعقبه ببيان أوجه النعم العظمى على عباده، ليسترشدوا بها على وجود الله وقدرته. وتلك النعم هي الأسماع والأبصار والأفئدة وهي العقول والأفهام التي يذكرون بها الأشياء، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
التفسير والبيان:
امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة دالة على قدرته وحكمته وعلمه وهي أربعة:
١- وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي والله الذي خلق
82
لكم الأسماع لسماع الأصوات، والأبصار لرؤية الأشياء، والعقول لفهم الأمور، وإدراك الحقائق المؤدية إلى تحقيق منافع الدنيا والآخرة. وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال على وجود الله وقدرته متوقف عليها.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أن الشاكرين منهم قليل، فما أقل شكرهم لله على ما أنعم به عليهم، والمعنى أنهم لم يشكروا الله على نعمه العظيمة، كما يقال لجحود النعمة: ما أقل شكر فلان! وذلك كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف ١٢/ ١٠٣].
٢- وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي والله الذي خلقكم وبثّكم بالتناسل في الأرض، لعمارتها وتحضرها، ووزعكم في أقطارها مع اختلاف الأجناس والألوان واللغات والصفات، ثم يوم القيامة تجمعون جميعا لميقات يوم معلوم، فلا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا أعاده كما بدأه، وله الحكم وحده.
٣- وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي وهو الذي وهبكم نعمة الحياة، لكن تلك النعمة غير خالدة، وإنما المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب، وذلك بالإماتة بعد الإحياء، ثم بالإعادة أحياء مرة أخرى للجزاء.
٤- وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي ولله وحده تسخير الليل والنهار، وجعل كل منهما يطلب الآخر، يتعاقبان، لا يفتران ولا يفترقان بنظام دقيق وزمان محدد كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس ٣٦/ ٤٠].
ثم حذر الله تعالى من ترك النظر في كل هذا فقال:
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتفكرون في هذه الأشياء، أفلا تعقلون كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته، وأ لا تدلكم عقولكم على العزيز العليم الذي قهر كل
83
شيء، وخضع له كل شيء، لتعلموا أن الله حي موجود قادر؟! وفيه دلالة على الزجر والتهديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعريف عام بكثرة نعم الله عز وجل على عباده، فهو الذي وهبهم مفاتيح العلم والمعرفة، وأمدهم بالحواس التي تمكنهم من الاستدلال بها على كمال قدرته، وهو الذي أنشأهم وبثهم وخلقهم في الأرض لمهمة سامية هي الإعمار والتنمية، ثم يجمعون يوم القيامة للجزاء العادل، وهو الذي منحهم حق الحياة التي يعقبها الموت، حتى لا يطغى الإنسان ويستبد، فالموت يكون نعمة وراحة كالحياة نفسها، وهو الذي أوجد بيئة الحياة السلمية بخلق الليل والنهار وجعلهما متعاقبين بنظام دقيق متلائم مع مرور الفصول الأربعة.
وشأن البصير العاقل أن يتعظ ويعتبر ويفهم ويفكر في بدائع الخلق، وعظم القدرة والربوبية والوحدانية، دون أن يكون له شريك من خلقه، وأنه قادر على البعث.
إنكار المشركين البعث وإثباته بالأدلة القاطعة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨١ الى ٩٠]
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
84
الإعراب:
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ... جوابه: قراءة من قرأ: سيقولون الله وأما قراءة سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فليس بجواب قوله تعالى: قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ.. وإنما هو جوابه من جهة المعنى لأن معنى قوله: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ: لمن السموات؟ فقيل في جوابه: لِلَّهِ.
ونظيره ما بعده وهو قوله تعالى: قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فقال: لله، حملا على المعنى. وهذا كثير في كلام العرب.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه، حذف جواب الشرط لدلالة اللفظ عليه.
أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ استفهام بغرض الإنكار والتوبيخ.
وَهُوَ يُجِيرُ، وَلا يُجارُ عَلَيْهِ طباق السلب.
المفردات اللغوية:
بَلْ قالُوا أي كفار مكة الْأَوَّلُونَ آباؤهم ومن تبعهم قالُوا أي الأولون أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ استبعادا ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا، فخلقوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة، كأحدوثة وأعجوبة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خالقها ومالكها، أي إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك. وهذا استهانة بهم، وتقرير لفرط جهالتهم، وإلزام بما لا يمكن إنكاره ممن له شيء من العلم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي أن العقل الصريح المجرد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنه خالقها قُلْ بعد ما قالوه أَفَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون، فتعلموا أن القادر على الخلق ابتداء قادر على الإحياء بعد الموت؟!
85
قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الكرسي، فإنها أعظم من ذلك أَفَلا تَتَّقُونَ تحذرون عقابه، فلا تشركوا به بعض مخلوقاته، ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يغيث من يشاء ويحرسه ويمنعه من الغير وَلا يُجارُ عَلَيْهِ لا يغاث أحد ولا يمنع منه، ومعنى الجملتين: يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يحمي ولا يحمى عليه، يقال: أجرت فلانا على فلان: أي أغثته ومنعته منه سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جواب السؤال من جهة المعنى، وهو: من له ما ذكر؟ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ تخدعون، فتصرفون عن الرشد وطاعة الله وتوحيده، مع ظهور الأمر، وتظاهر الأدلة، أي كيف تخيل لكم أنه باطل؟! بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في نفيه.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أدلة التوحيد في الكون والأنفس، أعقبها ببيان إنكار المشركين (عبدة الأوثان) البعث والحشر مع وضوح الأدلة، وتقليدهم الأولين في الاستبعاد والتكذيب. ثم رد عليهم بأدلة ثلاثة تثبت البعث من غير شك.
التفسير والبيان:
بالرغم من زجر المشركين وتهديدهم في الآيات السابقة على تعطيل عقولهم التي ترشدهم إلى الإقرار بتوحيد الله وقدرته على البعث، فإنهم رددوا مقالة السابقين البدائيين وهي:
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي مع كل ما سبق، فإن هؤلاء المشركين أنكروا البعث واستبعدوه، وأعادوا مقالة أسلافهم الذين كذبوا رسلهم، تقليدا أعمى لهم دون برهان، وهذا تعيير بقولهم. وتفصيل تلك المقالة من وجهين:
الأول:
قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي هل إذا متنا، وصرنا ترابا وعظاما بالية، نعود إلى البعث والحياة؟ فهم يستبعدون وقوع ذلك
86
بعد البلى، كما قال تعالى: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٠- ١٤] وقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٧- ٧٨].
والثاني:
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي إن هذا الوعد بالبعث الذي يخبر به محمد صلّى الله عليه وسلم قد وعد به قديما الأنبياء السابقون، ثم لم يوجد ذلك مع طول العهد، وكأنهم لغباوتهم يظنون أن الإعادة تكون في دار الدنيا.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الوعد بالبعث إلا أكاذيب المتقدمين وأباطيلهم وترهاتهم، قد توارثناها دون وعي، ودون دليل مثبت لصحتها، كما يزعمون.
ثم رد الله تعالى عليهم لإثبات البعث ببراهين ثلاثة هي:
١- قُلْ: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي قل أيها النبي لمنكري الآخرة: من مالك الأرض الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وغير ذلك من المخلوقات إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك؟ وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ استهانة بهم وتأكيد لجهلهم.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون بما دل عليه العقل بداهة بأن ذلك كله لله وحده ملكا وخلقا وتدبيرا، فإذا كان ذلك:
قُلْ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي قل لهم أفلا تتعظون وتتدبرون أن من خلق
87
هذا ابتداء قادر على إعادته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره؟! وقوله هذا معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه.
وهذا البرهان القاطع يصلح للرد على منكري الإعادة وعلى عبدة الأوثان المشركين العابدين مع الله غيره، المعترفين له بالربوبية، ولكنهم أشركوا معه في الألوهية، فعبدوا غيره، مع اعترافهم أن معبوداتهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا، وإنما اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
٢- قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي قل لهم أيضا: من خالق السموات وما فيها من الكواكب والملائكة، ومن خالق العرش العظيم الكبير الذي هو سقف المخلوقات، كما قال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة ٢/ ٢٥٥] وكما
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة
، وفي الحديث الآخر: «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة».
فالعرش يجمع بين الصفتين: العظمة والكبر في الاتساع والعلو: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ والحسن والبهاء في الجمال، كما قال في آخر السورة: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي الحسن البهي.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي إنهم سيعترفون فورا بأنه لله وحده، ولا جواب سواه.
قُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ أي إذا كنتم تعترفون بذلك، أفلا تخافون عقاب الله وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟!
88
وكما أن العالمين السفلي والعلوي ملك لله تعالى، فله أيضا تدبير شؤونهما، كما قال:
٣- قُلْ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي بيده الملك والتصريف والتدبير، كما قال: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود ١١/ ٥٦] أي متصرف فيها.
وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي وهو السيد الأعظم الذي يغيث من يشاء ويحمي من يشاء، ولا يغيث ولا يحمي أحد منه أحدا، فلا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، إن كنتم من أهل العلم بذلك.
سَيَقُولُونَ: لِلَّهِ أي سيعترفون أن المالك المدبر هو الله لا غيره، فلا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه. وقرئ الله في هذا وما قبله، ولا فرق في المعنى لأن قولك: من ربه، ولمن هو؟ في معنى واحد.
قُلْ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟ أي قل لهم مستغربا وموبخا: فأنى تخدعون عن توحيده وطاعته، والخادع: هو الشيطان والهوى، أو فكيف تتقبل عقولكم عبادتكم مع الله غيره، مع اعترافكم وعلمكم بذلك وتصريحكم بأنه الخالق المالك المدبر؟.
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي بل جئناهم بالقول الحق، والدليل الصدق، والاعلام الثابت بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة القاطعة على ذلك، وإنهم مع ذلك لكاذبون في إنكار الحق، وفي عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم عليها، كما قال في آخر السورة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فهؤلاء المشركون لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنما اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال.
89
وفي هذا توعد وتهديد على ادعائهم أن لله ولدا وأن معه شريكا، فنسبة الولد إليه محال، والشرك باطل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ليس للمشركين ومنكري الآخرة دليل عقلي مقبول، وكل ما لديهم من بضاعة هو ترداد أقوال المتقدمين، وتقليد الآباء والأسلاف.
٢- إنهم اعترفوا صراحة بأن الله تعالى هو مالك الأرض (العالم السفلي) ومالك السماء (العالم العلوي) ومدبر كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، وهو المتصرف في كل شيء، والقادر على كل شيء.
ومن كان هذا شأنه، ألا يكون هو المستحق وحده للعبادة، والقادر على الإحياء والبعث والإعادة؟! ويكون ما أتى به القرآن من الأدلة المثبتة للوحدانية والقدرة والبعث هو الحق الثابت الذي لا مرية ولا شك فيه، وهو القول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك، ونفي البعث.
٣- دلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبّهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع، والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
٤- إن تذييل الآيات بقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ يعد حملة شديدة على المشركين للإقلاع عما هم عليه من الشرك، فقوله تعالى: أَفَلا تَذَكَّرُونَ معناه
90
الترغيب في التدبر، ليعلموا بطلان ما هم عليه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه الاستهانة بهم وتأكيد لفرط جهلهم، وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ معناه التنبيه على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة، وقوله: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إثبات تناقضهم، إذ كيف تتقبل عقولهم عبادة أحد مع الله، مع اعترافهم الصريح بأن الله هو المالك الخالق المدبر.
نفي الولد والشريك لله تعالى
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
الإعراب:
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالجر بدل من اللَّهُ في قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ...
ويقرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب والشهادة.
البلاغة:
مِنْ وَلَدٍ مِنْ إِلهٍ ذكر حرف الجر الزائد تأكيد لنفي الولد والإله في الجملتين.
المفردات اللغوية:
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدسه عن مماثلة أحد وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يساهم أو يشاركه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ جواب شرط حذف لدلالة ما قبله عليه، أي لو كان معه آلهة، كما يقولون، لذهب كل واحد منهم بما خلقه، واستبدّ واستقل به، وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ووقع بينهم التحارب والتنازع، كما هو حال ملوك الدنيا، فدل الإجماع والاستقراء وبرهان العقل على إسناد جميع الممكنات إلى واحد واجب الوجود. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لغالب بعضهم
91
بعضا، كفعل ملوك الدنيا سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عَمَّا يَصِفُونَ أي يصفونه به من الولد والشريك لما سبق من دليل فساده.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم بما غاب وبما شوهد، وهو دليل آخر على نفي الشريك لإجماع العقلاء على أنه تعالى هو المتفرد بذلك فَتَعالى تعاظم عَمَّا يُشْرِكُونَ يشركونه معه.
المناسبة:
بعد إثبات البعث والجزاء بالأدلة القاطعة، والرد على منكري البعث وعبدة الأوثان أبان الله تعالى أن المشركين كاذبون مفترون في نسبة الولد لله، واتخاذ شريك له.
التفسير والبيان:
ينفي الله تعالى وينزه نفسه عن أمرين: هما اتخاذ الولد واتخاذ الشريك فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ أي ما جعل لنفسه ولدا، كما يزعم بعض المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله.
وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ أي وما وجد معه إله آخر يشاركه في الألوهية، لا قبل خلق العالم ولا بعد خلقه، كما يتصور الوثنيون باتخاذ الأصنام آلهة.
إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لو قدّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، واستقل بما أوجد، وتميز ملك كل واحد منهم عن ملك الآخر لأن استمرار الشركة مستحيل، ولكان همّ كل واحد منهم أن يغلب الآخر، ويطلب قهره والتسلط عليه، لتظهر قوة القوي على الضعيف، كما هو حال ملوك الدنيا، ولو حدث هذا التغالب والانقسام لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
إلا أن المشاهد أن الوجود منتظم متسق، وفي غاية النظام والكمال وارتباط
92
كل من العالم السفلي بالعالم العلوي دون تصادم ولا اضطراب، كما قال تعالى:
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك ٦٧/ ٣] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. [آل عمران ٣/ ١٩٠].
ولما ثبت كون التعدد في الآلهة مستحيلا، وبطل قول الكفار في الأمرين معا، قال تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله الحق الواحد الأحد عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك.
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، أي بعلم ما غاب عن إدراك الخلق من الأشياء، ويعلم ما يشاهدونه وما يرونه ويبصرونه، فهو يعلم الأمرين معا على حد سواء، وهذا دليل آخر على نفي الشريك لأن غير الله وإن علم الشهادة أي الموجودات المرئيات أمامه، فلن يعلم معها الغيبيات غير المرئيات، وهذا دليل النقص، والله تعالى متصف بالكمال، فلا يكتمل النفع بعلم الشهادة وحدها، دون العلم بالغيب.
فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تقدس وتنزه عما يقول الجاحدون الظالمون الذين يشركون معه إلها آخر.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا دليل عقلي لا يقبل الإنكار والطعن من أحد، فالله لم يتخذ ولدا كما زعم بعض الكفار، ولا كان معه إله فيما خلق، فلو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه، كما هو مقتضى العادة، ولغالب بعضهم بعضا، وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وحينئذ لا يستحق الضعيف المغلوب الألوهية.
وهذا كما يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا لأن الولد ينازع عادة الأب في الملك منازعة الشريك.
93
فتنزه الله عن أوصاف المشركين من الولد والشريك، وتقدس عما يقوله هؤلاء الظالمون والجاحدون.
وقد ذكر علماء الكلام هذا الدليل وسموه دليل التمانع: وهو أنه لو فرض صانعان خالقان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم، والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما، كانا عاجزين، والإله الواجب الوجود لا يكون عاجزا، ويمتنع اجتماع مراديهما وتحقيق رغبتهما في آن واحد للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا.
فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب الوجود المستحق الألوهية، والآخر المغلوب يكون ممكنا لأنه لا يليق بصفة الواجب الوجود أن يكون مقهورا.
إرشادات إلى النبي صلّى الله عليه وسلم
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
الإعراب:
قُلْ: رَبِّ أي يا ربّ، وهو اعتراض بين الشرط وجوابه بالنداء.
البلاغة:
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ تأكيد بإن واللام لإنكار المخاطبين وقوع العذاب الأخروي والدنيوي.
94
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ طباق معنوي لأن المعنى: ادفع بالحسنة السيئة.
المفردات اللغوية:
رَبِّ إِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما الزائدة، أي إذا كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا والآخرة فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فأهلك بهلاكهم لأن شؤم الظلمة قد يحيق بما وراءهم، كقوله تعالى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥]. وإن تكرار كلمة رَبِّ في بدء الجملتين لزيادة التضرع وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي بقدرتنا تعجيل العذاب، لكنا نؤخره لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم.
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهو الصفح والإحسان والإعراض عنهم السَّيِّئَةَ أذاهم إياك بِما يَصِفُونَ يصفونك به أو يقولون ويكذبون، فإنا سنجازيهم عليه أَعُوذُ أعتصم هَمَزاتِ الشَّياطِينِ نزغاتهم ووساوسهم بالشر أَنْ يَحْضُرُونِ في أموري لأنهم إنما يحضرون بسوء، أو يحومون حولي في بعض الأحوال.
المناسبة:
بعد أن ردّ الله تعالى على المشركين مزاعمهم من اتخاذ الولد والشريك وأبطل سوء اعتقادهم كإنكار البعث والجزاء، وجّه رسوله صلّى الله عليه وسلم إلى الدعاء والتضرع بالنجاة من عذابهم، ثم أرشده إلى مقابلة السيئة بالحسنة لأن الإحسان يفيد أحيانا، ثم أمره أن يستعيذ من وساوس الشياطين في مختلف الأعمال.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى نبيه ببعض الأدعية عند حلول النقم، فيقول:
قُلْ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا
95
تجعلني فيهم، ونجني منهم ولا تعذبني بعذابهم لأن العذاب قد يصيب غير أهله، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥]
روى الإمام أحمد والترمذي وصححه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفني إليك غير مفتون».
وعن الحسن: أنه تعالى أخبر نبيه أن له في أمته نقمة، ولم يطلعه على وقتها، فأمره بهذا الدعاء.
والإرشاد إلى هذا الدعاء ليعظم أجره، وليكون دائما ذاكرا ربّه، ولتعليمنا ذلك.
وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ أي لو شئنا لأريناك ما نوقعه بهم من النقم والبلاء والمحن، ولكنا نؤخره لوقت معلوم لأن بعضهم أو بعض ذرياتهم سيؤمن.
ثم علمه أسلوب الدعوة حتى يتحقق لها النجاح فقال:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي قابل السيئة بالحسنة، وتحمل ما تتعرض له من أنواع أذى الكفار وتكذيبهم، وادفع بالخصلة التي هي أحسن، بالصفح والعفو، والصبر على الأذى، والكلام الجميل كالسلام، نحن على علم بحالهم وبما يصفوننا به من الشرك والتكذيب.
ونظير الآية قوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ، كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت ٤١/ ٣٤- ٣٥] أي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة إلا الذين صبروا على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل في مقابلة القبيح، وما يلهمها إلا صاحب الحظ العظيم في الدنيا والآخرة. وقيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة لأن المداراة مرغوب فيها، ما لم تتعارض مع الدين والمروءة.
96
ثم علمه الثبات على هذا الخط فقال:
وَقُلْ: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي وقل: إني أعتصم بك وألتجئ إليك من وساوس الشياطين المغرية بالسوء والمعصية ومخالفة أوامرنا، وألتجئ إليك من حضورهم في شيء من أموري، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور، فإنهم إذا حضروا الإنسان حدث الهمز، وإذا لم يكن حضور، فلا همز.
روى أبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت».
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون».
فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلّقها في عنقه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه باقة من الأدعية أمر الله بها نبيه ليدعو بها، ولتعليمنا إياها، وهي:
أولا- دعاء النجاة من العذاب الذي يقع بالكفار، ومعناه: يا ربّ، إن أريتني ما يوعدون من العذاب، فلا تجعلني معهم في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم.
97
وكان صلّى الله عليه وسلم يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره بهذا الدعاء، ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا ربّه تعالى.
والله قادر على إنزال العذاب بهم، وأراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف في يوم بدر وفتح مكة، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
وثانيا- دعاء الاعتصام من الشيطان، والمعنى: يا ربّ إني ألتجئ إليك من نزعات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى، وفي حالات الغضب.
وبين الدعاءين تعليم لأسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وهو مقابلة السيئة بالحسنة، أي بالصفح ومكارم الأخلاق، لتنقلب العداوة صداقة، والبغض محبة، قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسانه
تمني الإنسان عند الموت الرجوع إلى الدنيا ليعمل صالحا
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
الإعراب:
قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ: إنما جاءت المخاطبة بلفظ الجمع، ولم يقل: ارجعني تعظيما لله تعالى، أو على معنى التكرار، كأنه قال: ارجعني ارجعني، فجمع، كما ثنّى في قوله تعالى:
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي ألق ألق.
98
البلاغة:
إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، إذ أنه أطلق الكلمة على الجملة.
المفردات اللغوية:
حَتَّى ابتدائية. جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الكافر، وهو متعلق بقوله: يَصِفُونَ في الآيات المتقدمة، وما بينهما اعتراض، وقد يسأل المؤمن الرجعة أيضا، فإذا رأى الكافر مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن، طلب العودة إلى الدنيا، وكذلك المؤمن يسأل الرجعة، كما جاء في آخر سورة المنافقين: فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [١٠].
ارْجِعُونِ الواو لتعظيم المخاطب، أي ردوني إلى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً بأن أشهد أن لا إله إلا الله. فِيما تَرَكْتُ ضيعت من عمري. كَلَّا كلمة ردع وزجر عن حصول ما يطلب، أي لا رجوع. إِنَّها أي قوله: رب ارجعون كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها أي لا فائدة له فيها. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي من أمامهم. بَرْزَخٌ حائل أو حاجز بينهم وبين الرجعة. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إلى يوم القيامة، ولا رجوع بعده، فهو تيئيس وإقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة.
المناسبة:
بعد أن كشف الله حال المشركين وما يصفون من الشرك والتكذيب، ذكر الله حال الكافرين عند مجيء الموت، فإنهم يتمنون أن يعودوا إلى دار الدنيا ليعملوا صالحا، لكن لا يسمع لقولهم ودعائهم. والمراد أن الكفار ما يزالون على سوء الحال والاعتقاد إلى الموت، فهذه الآية متعلقة بقوله: يَصِفُونَ وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم وإهمالهم، بالاستعانة بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم، ويزحزحه عن الأناة.
99
التفسير والبيان:
هذا حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو العصاة المفرطين في أمر الله تعالى وماذا يقولون حينئذ، فقال تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي إذا دنا الإنسان الكافر أو العاصي المفرط في حقوق الله من الموت، ورأى ما ينتظره من العذاب، طلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته، وقال: ربّ ارجعني لكي أتدارك ما قصرت فيه، وأعمل العمل الصالح الذي ترضى عنه من الطاعات والخيرات وأداء حقوق الناس. وقوله:
لَعَلِّي ليس المراد بها الشك، وإنما يعني كونه جازما بأنه سيتدارك.
وذلك كما قال تعالى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم ١٤/ ٤٤] وقال سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف ٧/ ٥٣].
وقال عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً، إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة ٣٢/ ١٢] وقال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا
[الأنعام ٦/ ٢٧]، وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى ٤٢/ ٤٤]، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر ٣٥/ ٣٧].
100
وهذا كله يدل على أن تمني العودة إلى الدنيا يحدث حال المعاينة للعذاب عند الاحتضار، وحين النشور، وحين الحساب، وحين العرض على النار، وبعد دخولهم النار.
وليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر، وإنما يشمل ذلك المؤمن المقصر في الطاعات وأداء حقوق الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون ٦٣/ ١٠].
كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها، وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يجيبهم الله تعالى بقوله: كلا وهي كلمة ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى طلبه، وتلك كلمة لا بدّ من أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ولا فائدة من الرجعة، فلو ردّ لما عمل صالحا، وكذب في مقالته هذه كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٨]. ثم إنه بين الظلمة حال الاحتضار وبين الرجوع إلى الدنيا وأمامهم حاجز ومانع من الرجوع. فالبرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة، فمن مات دخل في البرزخ، أو حياة المقابر. وهذا تهديد بعذاب البرزخ، وتيئيس إلى يوم القيامة لهؤلاء المحتضرين من الظلمة من الرجوع أبدا لأنهم إذا لم يرجعوا حال وجود بقية من الحياة فلا يرجعون بعدئذ مطلقا، وإنما الرجوع إلى حياة الآخرة، وتلقي عذابها كما قال تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية ٤٥/ ١٠] وقال سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم ١٤/ ١٧].
والخلاصة: أن المراد من قوله: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أن العذاب يستمر بهؤلاء إلى يوم البعث، كما
جاء في الحديث: «فلا يزال معذبا فيها»
أي في الأرض وهم في القبور.
101
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يلي:
١- يتمنى الإنسان الكافر والمؤمن المقصر الرجعة إلى دار الدنيا ليتدارك ما فاته فيها إما من الإيمان أو العمل الصالح، ولا يطلب الرجعة إلا بعد أن يستيقن العذاب.
٢- لا رجعة بعد البعث أو دنو الموت إلا إلى الآخرة.
٣- يستمر الكافرون والعصاة في عذاب القبور أو البرزخ إلى يوم القيامة، قالت عائشة رضي الله عنها: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم، حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
موازين النجاة في حساب الآخرة
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠١ الى ١١١]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
102
الإعراب:
فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خالِدُونَ بدل من صلة الَّذِينَ أو خبر ثان لأولئك فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا بكسر السين وقرئ بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد، وهما من سخر يسخر: من الهزء واللعب.
بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ما: مصدرية، وأَنَّهُمْ في موضع نصب ب جَزَيْتُهُمُ لأنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: جزيتهم بصبرهم لأنهم الفائزون. وجَزَيْتُهُمُ ضمير فصل عند البصريين، وعماد عند الكوفيين.
البلاغة:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ.. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ.. بين الآيتين مقابلة.
أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ فيها قصر.
يَتَساءَلُونَ، الْمُفْلِحُونَ، خالِدُونَ، كالِحُونَ، تُكَذِّبُونَ، ظالِمُونَ، تُكَلِّمُونِ، تَضْحَكُونَ، الْفائِزُونَ سجع غير متكلف.
المفردات اللغوية:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ الصُّورِ بوق ينفخ فيه نفختين، النفخة الأولى لتموت المخلوقات، والثانية لتحيا المخلوقات من القبور لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ
[الزمر ٣٩/ ٦٨] والمراد هنا النفخة الثانية لقيام الساعة. وقيل: الصور جمع صورة كبسر وبسرة، والمراد: نفخ الروح في الأجساد. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبينه، وقيل: لا أنساب يفتخرون بها
103
وَلا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقص قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور ٥٢/ ٢٥] لأن الآية هنا عند النفخة، وذلك بعد المحاسبة ودخول أهل الجنة وأهل النار النار. أو لا يتساءلون عن الأنساب.
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزوناته بالحسنات من عقائد وأعمال، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله وقدر. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والدرجات. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ موزوناته بالسيئات، أي ومن لم يكن له وزن وهم الكفار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف ١٨/ ١٠٥]. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيرا.
كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان، وهذا هو الكلوح.
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي من القرآن، وهذا على إضمار القول أي يقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ.
فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله. شِقْوَتُنا وشقاوتنا بمعنى واحد: ضد السعادة، أي صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، والمراد: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، وسميت شقوة لأنهما يؤديان إليها. ضالِّينَ تائهين عن الحق والهداية. فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب. فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا.
قالَ مالك خازن النار اخْسَؤُا فِيها اسكتوا سكوت ذلة وهوان، أو اقعدوا في النار أذلاء وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب عنكم. إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي أي المؤمنون.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزءا، مثل بلال وصهيب وعمار وسلمان. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي خوف عقابي، من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم. تَضْحَكُونَ استهزاء بهم. جَزَيْتُهُمُ النعيم المقيم. بِما صَبَرُوا بصبرهم على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم. الْفائِزُونَ الظافرون بمطلوبهم.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي إن هناك حاجزا إلى يوم القيامة، ذكر أحوال ذلك اليوم، من عدم الاعتداد بالأنساب، وجعل الحسنات أساس الفوز في الآخرة، والسيئات سبب دخول جهنم.
104
التفسير والبيان:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ أي إذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة النشور، وقام الناس من القبور، فلا تنفعهم الأنساب والقرابات بالرغم من وجود التعاطف والتراحم لاستيلاء الدهشة والحيرة عليهم، وانشغال كل إنسان بنفسه، ولا يسأل القريب قريبه، لاشتغاله بنفسه، كما جاء في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧] وقوله سبحانه:
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج ٧٠/ ١٠- ١١] أي لا يسأل القريب قريبه، وهو يبصره.
هذا عند النفخة، أما بعد القرار في الجنة أو النار، فيسأل أهل الجنة بعضهم عن بعض، كما في قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٧].
وجاء في السنة ما أخرجه الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني، يغيظني ما يغيظها، وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري».
وأصل هذا الحديث
في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما آذاها».
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: «ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرط «١» لكم إذا جئتم».
(١) أنا فرطكم: أي متقدمكم، يقال: فارط وفرط: إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء.
105
وروى الطبراني والبزار والبيهقي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله، ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي».
ثم شرح أحوال السعداء والأشقياء فقال:
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من رجحت حسناته على سيئاته، ولو بواحدة، فأولئك الذين فازوا بالمطلوب، فنجوا من النار، وأدخلوا الجنة.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي ثقلت سيئاته على حسناته، فأولئك الذين خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة، بأن صارت منازلهم للمؤمنين. وهذه هي الصفة الأولى لأهل النار، ثم أتبعها بصفات ثلاث أخرى، فصارت أربعا:
١- فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي ماكثون في جهنم على الدوام، مقيمون فيها إلى الأبد، وفيه دلالة بيّنة على خلود الكفار في النار.
٢- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحرق النار وجوههم، وتأكل لحومهم وجلودهم كما قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠] وقال سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ، وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ [الأنبياء ٢١/ ٣٩]. وإنما خص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء.
أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
106
٣- وَهُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون متقلصو الشفاه عن الأسنان. فالكلوح:
أن تتقلص الشفتان وتتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية.
ثم ذكر الله تعالى ما يقال لأهل النار تقريعا وتوبيخا على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم فقال:
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي ألم تكن آياتي من القرآن تتلى عليكم للتذكير والموعظة وإزالة الشّبه، فتكذبون بها، وتعرضون عنها. وهذا كما قال تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك ٦٧/ ٨- ٩] وقال سبحانه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١].
وهذا من المخطط العام لرسالات الأنبياء وإنزال الكتب، كما جاء في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥] وقوله عز وجل: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء ٤/ ١٦٥].
فأجابوا عن السؤال هنا:
قالُوا: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي غلبت علينا شهوات نفوسنا وملذاتنا، بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وأخطأنا طريق الحق والهدى، كما قال تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر ٤٠/ ١١].
رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها، فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي يا ربنا أخرجنا من
107
النار، وارددنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى مثل ما سلف منا، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة.
فأجابهم الله تعالى بقوله:
قالَ: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ أي قال الله للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى الدنيا: امكثوا فيها- أي في النار- أذلاء صاغرين مهانين، واسكتوا ولا تعودوا إلى سؤالكم هذا، فإنه لا جواب لكم عندي، ولا رجعة إلى الدنيا.
ثم ذكر سبب عذابهم فقال:
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ: رَبَّنا آمَنَّا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي إنه كان جماعة من عبادي المؤمنين يقولون: يا ربنا صدقنا بك وبرسلك، وبما جاؤوا به من عندك، فاستر ذنوبنا، وارحم ضعفنا، فأنت خير من يرحم.
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ أي فما كان منكم إلا أن سخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي، حتى حملكم بغضهم على نسيان ذكري، وعدم الاهتمام بشأني، ولم تخافوا عقابي، وكنتم تضحكون استهزاء من صنيعهم وعبادتهم، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ [المطففين ٨٣/ ٢٩- ٣٠] أي يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر الله تعالى عما جازى به عباده الصالحين فقال:
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي إني جازيتهم في يوم القيامة بصبرهم على أذاكم لهم واستهزائكم بهم بالفوز بالسعادة والسلامة، والنعيم
108
المقيم في الجنة، والنجاة من النار، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين ٨٣/ ٣٤- ٣٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إذا حدثت النفخة الثانية ليوم القيامة شغل كل امرئ بنفسه، ولم يلتفت إلى أحد من أقربائه، ولو كانوا من الوالدين والأولاد والزوجات، ولا تنفع أحدا روابط الدم والنسب التي كانت تربط الأسر فيما بينهم في الدنيا.
لكن جاء في الحديث الثابت كما تقدم استثناء صلة النسب والقرابة بالنبي صلّى الله عليه وسلم.
٢- إن ميزان النجاة من النار والفوز بالجنة هو رجحان الحسنات على السيئات، ولو بواحدة. وإن سبب اقتحام النار هو العكس أي رجحان السيئات على الحسنات.
٣- لأهل النار أثناء العذاب صفات أربع: هي خسارة أنفسهم أي غبنها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وخلودهم في نار جهنم، وإضرام النار في أجسادهم حتى تأكل لحومهم وجلودهم، وظهور أمارات العذاب على الأوجه بالكلوح: وهو تقلص الشفاه عن الأسنان، كالرءوس المشوية.
٤- اعترف أهل النار حين اقتحام العذاب بالأسباب التي أدت بهم إلى العقاب: وهي غلبة أهوائهم وشهواتهم على نفوسهم، حتى ساءت أحوالهم، وصاروا إلى سوء العاقبة، وضلالهم عن الحق والهداية، وظلمهم أنفسهم، وتكذيبهم بآيات ربهم، واستهزاؤهم من المؤمنين، ونسيانهم ذكر الله والخوف من عقابه.
109
٥- لقد طلب الكفار الرجعة إلى الدنيا وهم في النار، كما طلبوها عند الموت لتدارك ما فاتهم من الأعمال الصالحة والإيمان الصحيح، ولكن لا رجعة لأحد إلى دار الدنيا بعد البعث والحساب.
٦- اقتضى العدل مجازاة المؤمنين الذين صبروا على الأذى والسخرية جزاء عادلا وهو الفوز بالجنة يوم القيامة، والنجاة من النار.
٧- على المؤمن إكثار الدعاء بقوله تعالى: رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
التنبيه على قصر مدة اللبث في الدنيا وعقاب المشركين ورحمة المؤمنين
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٨]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
الإعراب:
كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ كَمْ: منصوبة ب لَبِثْتُمْ. وعَدَدَ سِنِينَ:
تمييز، وسِنِينَ: جمع سنة، وأصل سنة: سنهة أو سنوه، فلما حذفت اللام، جمع جمع التصحيح، أي جمع المذكر السالم، عوضا عما دخلها من الحذف.
110
فَسْئَلِ الْعادِّينَ جمع العادّ من العدّ. ومن قرأه بالتخفيف جعله جمع (عادي) من قولهم: بئر عاديّة، أي قديمة، فلما جمع جمع المذكر السالم (أي بالواو والنون) حذف منه ياء النسب، وصارت ياء الجمع عوضا عن ذلك، كالأعجمين والأشعرين، جمع أعجمي وأشعري، وقيل في قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ أنه جمع إلياسيّ، منسوب إلى إلياس. عَبَثاً حال بمعنى عابثين، أو مفعول لأجله.
البلاغة:
وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
قالَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أحياء في الدنيا وأمواتا في قبوركم، واللبث: الإقامة. لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصروا مدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار وما هم فيه من العذاب. فَسْئَلِ الْعادِّينَ الذين يتمكنون من عدّ أيامها، أو الملائكة الذين يعدّون أعمار الناس ويحصون أعمالهم. قالَ تعالى بلسان مالك خازن النار.
إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم. لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مدة لبثكم بالنسبة إلى لبثكم في النار.
عَبَثاً ما خلا من الفائدة، أو لا لحكمة، توبيخ على تغافلهم. والمراد: إنا لم نخلقكم تلهيا بكم، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم، وهو كالدليل على وجود البعث. وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أو عَبَثاً، وقرئ بفتح التاء. والمراد أننا خلقناكم لنتعبدكم بالأمر والنهي وترجعون إلينا، ونجازي على ذلك.
فَتَعالَى اللَّهُ تنزه الله عن العبث وغيره مما لا يليق به. الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الكرسي الحسن، وهو مركز تدبير العالم، ووصف بالكريم لشرفه.
يَدْعُ أي يعبد. لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ لا دليل له عليه، وهو صفة كاشفة لا مفهوم لها. حِسابُهُ جزاؤه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يسعدون، والضمير في إِنَّهُ للشأن والأمر. ويلاحظ أنه تعالى بدأ السورة بتقرير الفلاح للمؤمنين، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين.
اغْفِرْ وَارْحَمْ المؤمنين، وطلب الرحمة زيادة عن المغفرة.
111
المناسبة:
بعد بيان إنكار الكفار للبعث، وأنه لا رجعة إلى الدنيا بعده، ذكر تعالى أنهم يسألون في النار سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، دون أن يكون القصد مجرد السؤال. ثم ذكر تعالى ما هو كالدليل على وجود البعث، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه، تعليما وإرشادا للأمة، حتى لا يكونوا مثل أولئك الكفار.
التفسير والبيان:
ينبه الله تعالى الكفار على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده، ولو صبروا لفازوا كالمؤمنين، فيقول:
قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي قال الله أو الملك المأمور بسؤالهم: كم كانت مدة إقامتكم في الدنيا؟
والغرض من السؤال التبكيت والتقريع والتوبيخ، تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا، فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه من البعث، فتحصل لهم الحسرة على سوء اعتقادهم في الدنيا.
قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ نسوا مدة لبثهم في الدنيا، لعظم ما هم فيه من الأهوال والعذاب، حتى ظنوا أن المدة يوم أو بعض يوم، أو المراد تحقير مدة لبثهم بالنسبة إلى ما وقعوا فيه من أليم العذاب.
فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي فاسأل الحاسبين، أو الملائكة الحفظة الذين يحصون أعمال العباد وأعمارهم.
قالَ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال لهم الملك: ما لبثتم إلا
112
زمنا يسيرا، على كل تقدير، ولو كنتم تعملون شيئا من العلم لآثرتم الباقي على الفاني، ولعملتم بما يرضي ربكم، ولو صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.
روى ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي الذي خطب الناس فقال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين!! ثم قال: يا أهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي، امكثوا فيها خالدين مخلدين».
ثم شدد الله تعالى في توبيخهم على غفلتهم فقال:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا، أي لعبا وباطلا بلا قصد ولا حكمة لنا، بل خلقناكم للعبادة والتهذيب والتعليم وإقامة أوامر الله تعالى. وهل ظننتم أنكم لا تعودون إلينا في الدار الآخرة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي هملا [القيامة ٧٥/ ٣٦].
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي تنزه وتقدس الله صاحب الملك الواسع، الثابت الذي لا يزول، أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، وهو ذو العرش العظيم الحسن البهي الذي يدبر فيه نظام الكون بحكمة ومقصد سام.
113
ثم ردّ الله تعالى على من نسب إليه ولدا أو شريكا فقال:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعبد إلها آخر مع الله الذي لا يستحق العبادة سواه، دون أن يكون له دليل على صحة معتقده وعبادته، فجزاؤه محقق شديد عند ربه وخالقه، وذلك توبيخ وتقريع وتهديد بما لا يوصف، فمن ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلا من حيث لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إنه لا يفوز الكفار بشيء من النعيم، وإنما مصيرهم إلى الجحيم، وهذا يقابل افتتاح السورة، فإنه بشر بفلاح المؤمنين، وختم هنا بخيبة الكافرين.
وَقُلْ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي قل أيها النبي:
يا رب اغفر لي ذنوبي، واستر عيوبي، وارحمني بقبول توبتي، ونجاتي من العذاب، فأنت خير من رحم عباده.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن حبّان عن أبي بكر أنه قال: «يا رسول الله، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم».
والآيتان الأخيرتان من آيات الشفاء،
أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود أنه مرّ برجل مصاب، فقرأ في أذنه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً..
حتى ختم السورة، فبرأ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: «بماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره، فقال: «والذي نفسي بيده، لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال».
وواضح من ذلك أن المعول عليه هو إيمان القارئ ويقينه وصفاؤه، واستعداد المريض وقابليته للتداوي بالقرآن.
114
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- التنبيه على قصر مدة المكث في الدنيا، والاستفادة من تلك المدة بأقصى قدر ممكن للقيام بالطاعات والتقرب بالقربات، واجتناب المحظورات والمنهيات.
٢- إن شدة العذاب التي يرتع بها الكفار في نار جهنم أنستهم مدة مكثهم في الدنيا أحياء، وفي القبور أمواتا. لذا أحالوا الجواب على الحاسبين العارفين بذلك، أو على الملائكة الذين كانوا معهم في الدنيا.
٣- قرر الله تعالى أن مدة المكث أو اللبث في الدنيا قليلة لتناهيها بالنسبة إلى المكث في النار، لأنه لا نهاية له، لو علم الناس بذلك، فيكون المراد من قوله تعالى: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن زمن الدنيا قليل لو علمتم البعث والحشر، لكنكم لما أنكرتم ذلك صرتم تعدونه طويلا.
٤- إن للمخلوقات رسالة سامية في الحياة، وهي إطاعة الله تعالى فيما أمر، وعبادته بحق، واجتناب ما نهى عنه، فإنه تعالى لم يخلق الناس عبثا أي لعبا باطلا، دون قصد ولا حكمة، وإنما خلقهم لأداء مهمة خطيرة معينة، هي إظهار العبودية لله، قال الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي: إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رقّ الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية، فهم اليوم عبيد أبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النار.
وروى ابن أبي حاتم عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة
115
خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيكم للحكم بينكم، والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم، وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان.
ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم الباقين، حتى تردوا إلى خير الوارثين؟
ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأحباب، وباشر التراب، وواجه الحساب، مرتهن بعلمه، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم.
فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم.
ثم جعل طرف ردائه على وجهه، فبكى وأبكى من حوله.
٥- من قصر النظر وجهالة الإنسان وغبائه أن يظن كما يظن الماديون أن الدنيا هي كل شيء، وألا رجعة إلى الله والدار الآخرة، ليجازى الناس على أعمالهم.
٦- تقدس الله وتنزه عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها لأنه الحكيم، والملك الحق الثابت المبين الذي لا يزول ولا يبيد ملكه وقدرته، ويحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، وهو الثابت الذي لا يزول، وذو العرش العظيم الكريم، لا إله غيره، ولا رب سواه، فما عداه
116
مصيره إلى الفناء، وما يفنى لا يكون إلها. والمراد بالعرش: العرش حقيقة، ووصفه بالكريم لتنزل الرحمة والخير والبركة منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين.
٧- إن من يعبد مع الله إلها آخر لا بينة ولا حجة ولا دليل له عليه، فإن الله هو الذي يعاقبه ويحاسبه، وإنه لا يفلح الكافرون، ولا يفوزون بالنعيم والسعادة الأبدية، فمن ادعى إلها آخر، فقد ادعى باطلا إذ لا برهان له فيه، وما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، وهذا دليل على وجوب التأمل والنظر في إثبات العقيدة، وبطلان التقليد.
٨- إن المؤمن الحق هو الذي يديم النظر والتأمل في بديع خلق الله وقدرته، ليتوصل بذلك إلى إثبات البعث وإمكانه، ويستمر في عبادته ربه حتى الموت، ويكثر من دعاء الله تعالى قائلا: رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين لأن الانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته عاصمان عن كل الآفات والمخاوف.
٩- من براهين البعث أنه: لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق، والرجوع إلى الله تعالى معناه الرجوع إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه، لا أنه رجوع من مكان إلى مكان، لاستحالة ذلك على الله تعالى.
١٠- شتان بين فاتحة السورة وخاتمتها، فقال في الفاتحة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وفي الخاتمة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.
117

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النور
مدنية، وهي أربع وستون آية.
تسميتها:
سميت سورة النور لتنويرها طريق الحياة الاجتماعية للناس، ببيان الآداب والفضائل، وتشريع الأحكام والقواعد، ولتضمنها الآية المشرقة وهي قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [٣٥] أي منورهما، فبنوره أضاءت السموات والأرض، وبنوره اهتدى الحيارى والضالون إلى طريقهم.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ من وجهين:
الأول- أنه تعالى لما قال في مطلع سورة المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزناة، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى، والاستئذان الذي جعل من أجل النظر، وأمر بالتزويج حفظا للفروج، وأمر من عجز عن مؤن الزواج بالاستعفاف وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنى.
118
الثاني- بعد أن ذكر الله تعالى في سورة المؤمنين المبدأ العام في مسألة الخلق، وهو أنه لم يخلق الخلق عبثا، بل للتكليف بالأمر والنهي، ذكر هنا طائفة من الأوامر والنواهي في أشياء تعد مزلقة للعصيان والانحراف والضلال.
فضلها:
في هذه السورة أنس وشعور بالطمأنينة لأن المؤمن يرتاح للعفة والطهر، ويشمئز من الفحش وسوء الظن والاتهام،
ذكر مجاهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور»
وقال حارث بن مضرّب رضي الله عنه: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلّموا سورة النساء والأحزاب والنور. وتعليم هذه السورة للنساء مروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها.
مشتملاتها:
اشتملت هذه السورة على أحكام مهمة تتعلق بالأسرة، من أجل بنائها على أرسخ الدعائم، وصونها من المخاطر والعواصف، والتركيز على تماسكها وتنظيمها، وحمايتها من الانهيار والدمار.
فكان مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والسّتر.
لقد بدأت ببيان حد الزنى، وحد قذف المحصنات، وحكم اللعان عند الاتهام بالفاحشة أو لنفي نسب الولد، من أجل تطهير المجتمع من الانحلال والفساد واختلاط الأنساب، وبعدا عن هدم حرمة الأعراض، وصون الأمة من التردي في حمأة الإباحية والفوضى.
ثم ذكرت قصة الإفك المبنية على سوء الظن والتسرع بالاتهام لتبرئة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومحاربة شيوع الفاحشة، وترديد الإشاعات
119
المغرضة التي تهدم صرح الأمة، وتقوّض بنيتها التي ينبغي أن تقوم على الثقة والمحبة، والابتعاد عن وساوس الشيطان.
ثم تحدثت السورة عن باقة من الآداب الاجتماعية في الحياة الخاصة والعامة، وهي الاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وإبداء النساء زينتهن لغير المحارم مما يدل على تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وتزويج الأيامى (غير المتزوجين) من الرجال والنساء، والاستعفاف لمن لم يجد مؤن الزواج، من أجل تحقيق الاستقامة على شريعة الله، وصون الأسرة المسلمة، ورعاية حال الشباب والفتيات، والبعد عن الفتنة.
ثم أبانت مزية تشريع الأحكام وأنه نور وهدى، وفضل آيات القرآن، ومزية بيوت الله وهي المساجد، وعدم جدوى أعمال الكفار وتشبيهها بالسراب الخادع أو ظلمات البحار.
وأعقب ذلك تنبيه الناس إلى أدلة وجود الله ووحدانيته في صفحة الكون الأعلى والأسفل من تقليب الليل والنهار وإنزال المطر وخلق السموات والأرض، وخضوع جميع الكائنات الحية لله عز وجل، وطيران الطيور، وخلق الدواب ذات الأنواع العجيبة.
ثم انتقل إلى وصف مواقف المنافقين والمؤمنين الصادقين من حكم الله والرسول بإعراض الأولين وإطاعة الآخرين، ووعده تعالى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض.
ثم عادت الآيات لبيان حكم استئذان الموالي والأطفال في البيوت في أوقات ثلاثة، وحكم رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد، وعن الأقارب والأصدقاء في الأكل من بيوت أقاربهم بلا إذن، واستئذان المؤمنين الرسول صلّى الله عليه وسلم عند
120
Icon