ﰡ
﴿الم الله﴾ حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام الله وفتحت لخفة الفتحة ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في حم ولا يصح أن يقال إن فتح الميم هو فتحة همزة الله نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف والباقون بوصل الألف وفتح الميم
والله مبتدأ ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ خبره وخبر لا مضمر التقدير لا إله في الوجود إلا هو وهو في موضع الرفع بدل من موضع لا واسمه ﴿الحي القيوم﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحى أو بدل من هو والقيوم فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت
﴿نَزَّلَ﴾ أي هو نزل ﴿عَلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿بالحق﴾ حال أي نزله حقاً ثابتاً ﴿مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لما قبله ﴿وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل﴾ هما اسمان
﴿مِن قَبْلُ﴾ من قبل القرآن ﴿هُدًى لّلنَّاسِ﴾ لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾ أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل أو الزبور أو كرر ذكره القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله﴾ من كتبه المنزلة وغيرها ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم
﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء﴾ أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه
﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ﴾ من الصور
آل عمران (٦ _ ٧)
المختلفة ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز﴾ في سلطانه ﴿الحكيم﴾ في تدبيره روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه فقال عليه السلام ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه قالوا بلى قال ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية
﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿مِنْهُ﴾ من الكتاب ﴿آيات محكمات﴾ أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها ﴿وَأُخَّرُ﴾ وآيات أخر ﴿متشابهات﴾ مشتبهات محتملات مثال ذلك ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله ﴿ليس كمثله شيء﴾ أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ الآيات ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه﴾ الآيات والمتشابه ما وراءه أو مالا يحتمل إلا وجهاً واحداً وما احتمل أوجهاً أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ ميل عن الحق وهم أهل البدع ﴿فَيَتَّبِعُونَ ما تشابه﴾ فيتعلقون بالمشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ﴿مِنْهُ ابتغاء الفتنة﴾ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ﴿وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه ﴿وَمَا يَعْلَمُ تأويله إلا الله﴾ أى لا يهتدى أى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله ﴿والراسخون فِي العلم﴾ والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور والوقف عندهم على قوله إلا الله وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه وهو مبتدأ عندهم والخبر ﴿يقولون آمنا به﴾ وهو ثناء منه
آل عمران (٧ _ ١١)
تعالى عليهم بالإيمان على
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه ﴿وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً﴾ من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت ﴿إِنَّكَ أَنتَ الوهاب﴾ كثير الهبة والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ﴾ أي تجمعهم لحساب يوم ولجزاء يوم ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شك في وقوعه ﴿إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد﴾ الموعد والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك إن الجواد لا يخيب سائله أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ برسول الله ﴿لَن تُغْنِيَ﴾ تنفع أو تدفع ﴿عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله﴾ من عذابه ﴿شَيْئاً﴾ من الأشياء ﴿وأولئك هم وقود النار﴾ حطبها
﴿كدأب آل فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم أو منصوب المحل بلن تغنى أى لن تغنى عنهم مثل مالم تغن عن أولئك كداب بلا همز حيث كان أبو عمرو ﴿كذبوا بآياتنا﴾ تفسير لدأبهم مما فعلوا أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر من حالهم ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ﴾ بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أى جازيته عليه
آل عمران (١١ _ ١٤)
﴿والله شَدِيدُ العقاب﴾ شديد عقابه فالإضافة غير محضة
﴿قل للذين كفروا﴾ هم مشكرو مكة ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ يوم بدر ﴿وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ﴾ من الجهنام وهى بئر عميقة بالياء فيها حمزة وعلي ﴿وَبِئْسَ المهاد﴾ المستقر جهنم
﴿قد كان لكم آية﴾ الخطاب لمشركي قريش ﴿فِي فِئَتَيْنِ التقتا﴾ يوم بدر ﴿فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله﴾ وهم المؤمنون ﴿وأخرى﴾ وفئة أخرى ﴿كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ﴾ يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ترونهم نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة أو مثلي أنفسهم ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لأنهم قللوا أولا فى
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينة لها لنبلوهم﴾ دليله قراءة مجاهد زين للناس على تسمية الفاعل وعن الحسن الشيطان ﴿حُبُّ الشهوات﴾ الشهوة توقان النفس إلى الشئ جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ﴿مِّنَ النساء﴾ والإماء داخلة فيها ﴿والبنين﴾ جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع ﴿والقناطير﴾ جمع قنطار وهو المال الكثير قيل ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا ﴿المقنطرة﴾ المنضدة أو المدفونة ﴿مِنَ الذهب والفضة﴾ سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق ﴿والخيل﴾ سميت به لاختيالها
آل عمران (١٤ _ ١٨)
في مشيها ﴿المسومة﴾ المعلمة من السومة
ثم زهدهم في الدنيا فقال ﴿قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم﴾ من الذي تقدم ﴿لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات﴾ كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم فجنات مبتدأ وللذين اتقوا خبره ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ صفة لجنات ويجوز أن يتعلق اللام بخير واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به ويرتفع جنات على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ جناتٍ بالجر على البدل من خير ﴿خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله﴾ أي رضا الله ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات
﴿الذين يَقُولُونَ﴾ نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد ﴿رَبَّنَا إننا آمنا﴾ إجابة لدعوتك ﴿فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ إنجازاً لوعدك ﴿وَقِنَا عَذَابَ النار﴾ بفضلك
﴿الصابرين﴾ على الطاعات والمصائب وهونصب على المدح ﴿والصادقين﴾ قولاً بإخبار الحق وفعلاً بإحكام العمل ونية بإمضاء العزم ﴿والقانتين﴾ الداعين أو المطيعين ﴿والمنفقين﴾ المتصدقين ﴿والمستغفرين بالأسحار﴾ المصلين أو طالبين المغفرة وخص الأسحار لأنه
﴿شَهِدَ الله﴾ أي حكم أو قال ﴿أَنَّهُ﴾ أي بأنه ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة﴾ بما عاينوا من عظيم قدرته ﴿وأولو العلم﴾ أي الأنبياء والعلماء ﴿قَائِمَاً بالقسط﴾ مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من هو وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت جاء زيد وعمرو راكباً لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت جاءني زيد وهند راكبا جاز لتميزه بالذكروة أو على المدح وكرر ﴿لاَ إله إِلاَّ هو﴾ للتأكيد ﴿العزيز الحكيم﴾
آل عمران (١٩ _ ٢٠)
رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف لهو لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب الحكيم الذي لا يعدل عن الحق
﴿إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ جملة مستأنفة وقرئ أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام قال عليه السلام من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ومن قال بعدها وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذا الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة
﴿فَإنْ حَاجُّوكَ﴾ فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور ﴿فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندى وما جئت بشئ بديع حتى تجادلونى فيه ونحوه قل يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ به شيئا فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ عطف على التاء في أسلمت
آل عمران (٢٠ _ ٢٤)
تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم
﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين﴾ هم أهل الكتاب راضون بقتل آبائهم الأنبياء ﴿بِغَيْرِ حَقّ﴾ حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ﴾ ويقاتلون حمزة ﴿بالقسط﴾ بالعدل ﴿مِنَ الناس﴾ أي سوى الأنبياء قال عليه السلام قتلت بنو اسرئيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم ﴿فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ دخلت الفاء فى خبران لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر
﴿أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم﴾ أي ضاعت ﴿فِي الدنيا والآخرة﴾ فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وَمَا لَهُم مّن ناصرين﴾ جمع لوقف رءوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب﴾ يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة ومن للتبعيض أو للبيان ﴿يُدْعُونَ﴾ حال من الذين ﴿إلى كتاب الله﴾ أي التوراة أو القرآن ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبى روى أنه عليه السلام دخل مدارسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد على أي دين أنت قال النبي عليه السلام على ملة إبراهيم قالا إن إبراهيم كان يهودياً قال لهما إن بيننا وبينك التوراة فهلموا إليها فأبيا ﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ منهم﴾ استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب ﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ وهم قوم لا يزال الاعراض دينهم
﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات﴾ أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوما أو سبعة أيام وذلك مبتدأ وبأنهم خبره ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة
آل عمران (٢٥ _ ٢٧)
يسيره
﴿فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ﴾ فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت {لاَ
﴿قُلِ اللهم﴾ الميم عوض من يا ولذا لا يجتمعان وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه وفيه لام التعريف وبقطع همزته في يا الله وبالتفخيم ﴿مالك الملك﴾ تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ﴾ تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك ﴿وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ﴾ أي تنزعه فالملك الاول عام والملكان الآخران خاصان مضان من الكل روي أنه عليه السلام حين فتح مكة واعدأمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم اعز وامنع من ذلك ﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ﴾ بالملك ﴿وَتُذِلُّ مَن تَشَاء﴾ بنزعه منه ﴿بيدك الخير﴾ أى الخير والشرفا كفتى بذكر أحد الضدين عن الآخر أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ﴿إِنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك وقيل المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة قال عليه السلام ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً أو ملك قيام الليل وعن
ثم ذكر قدرته بالباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما وحال الحى والميت فى إخرج أحدهما من الآخر وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله ﴿تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل﴾ فالإيلاج ادخال الشئ فى الشئ وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل ﴿وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت﴾ الحيوان من النطفة أو الفرج من البيضة أو المؤمن من الكافر ﴿وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي﴾ النطفة من الإنسان أو البيض من الدجاج أو الكافر من المؤمن ﴿وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب
آل عمران (٢٨ _ ٣٠)
من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويدلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب أنا الله ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فان العباد أطاعونى جعلتهم عليم رحمة وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم وهو معنى قوله عليه السلام كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي بالتشديد حيث كان مدني وكوفي غير أبي بكر
﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ﴾ نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم
﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله ﴿يَعْلَمْهُ الله﴾ ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم ﴿والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيكون قادراً على عقوبتكم
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً﴾ يوم منصوب بتودوا الضمير فيه بينه لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينهما وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أى مسافة بعيدة أو باذكر ويقع تجد على ما عملت وحده ويرتفع وما عملت على الابتداء وتود خبره أى والذى عملته من سوء تودهى لو تباعد ما بينها وبينه ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تود نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو
آل عمران (٣٠ _ ٣٥)
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ﴾ ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه ﴿والله رؤوف بالعباد﴾ ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله﴾ محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول الله ﷺ أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه وقيل محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به وقيل هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به وقيل علامة المحبة أن يكون دائم التفكير كثير الخلوة دائم الصمت لا يبصر إذا نظر ولا يسمع إذا نودي ولا يحزن إذا أصيب ولا يفرح إذا أصاب ولا يخشى أحداً ولا يرجوه ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول﴾ قيل هي علامة المحبة ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن قبول الطاعة ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا ﴿فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ أي لا يحبهم
﴿إن الله اصطفى﴾ اختار ﴿آدم﴾ أبا البشر ﴿وَنُوحاً﴾ شيخ المرسلين ﴿وآلَ إبراهيم﴾ إسماعيل وإسحق وأولادهما ﴿وآل عمران﴾ موسى وهرون هما ابنا عمران بن يصهر وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة ﴿عَلَى العالمين﴾ على عالمي زمانهم
﴿ذُرِّيَّةَ﴾ بدل من آل إبراهيم وآل عمران ﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة لذرية يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض موسى وهرون من عمران وعمران من يصهر ويصهر من قاهث وقاهث من لاوي ولاوي من يعقوب ويعقوب من إسحق وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثار وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحق وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله ﷺ وقيل بعضها من بعض في الدين ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يعلم من يصلح للإصطفاء أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها
﴿إِذْ قَالَتِ﴾ وإذ منصوب به أو بإضمار اذكر ﴿امرأة عمران﴾ هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا ﴿رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ﴾ أوجبت ﴿مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ هو حال من ما وهي
آل عمران (٣٥ _ ٣٧)
بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال طين حر أي خالص ﴿فتقبل مني﴾ مدنى وأبو عمرو والتقبل أخذ الشئ على الرضا به ﴿إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم﴾
﴿فلما وضعتها﴾ الضمير لما في بطني وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى﴾ أنثى حال من الضمير في وضعتها أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشئ الذى وضعت وماعلق به من عزائم الأمور وضعتُ شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا﴾ قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ قيل القبول اسم ما يقبل به الشئ كالسعوط بما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم وكانت بنو ماثان رءوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي أختها فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها وقيل هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها
آل عمران (٣٧ _ ٣٩)
ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات ونباتاً مصدر على خلاف الصدر أو التقدير فنبتت نباتا ﴿وكفلها﴾ قبلها أو ضمن القيام بأمرها وكفّلها كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاها وضامناً لمصالحها ﴿زَكَرِيَّا﴾ بالقصر كوفي غير أبي بكر في كل القرآن وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري دائم الذكر والتسبيح ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب﴾ قيل بنى لها زكريا محرابا فى السمجد أي غرفة تصعد إليها بسلم وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده ﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا﴾ كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف فى الشتاء ﴿قال يا مريم أنى لَكِ هذا﴾ من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه ﴿قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله﴾ فلا تستبعد قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد ﴿إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ﴾ من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل
﴿هُنَالِكَ﴾ في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار هنا وحيث وثم للزمان لما رأى حال
﴿فنادته الملائكة﴾ قيل ناداه جبريل عليه السلام وإنما قيل الملائكة لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم فلان يركب الخيل فناديه بالياء والإمالة حمزة وعلي ﴿وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المحراب﴾ وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات وقال ابن عطاء ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب ﴿إِنَّ الله﴾ بكسر الألف شامى وحمزة على إضمار القول أو لأن النداء قول الباقون بالفتح أي بأن الله ﴿يُبَشّرُكَ﴾ يبشرك وما بعده حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان ﴿بيحيى﴾ هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى وإن كان عربيا فللتعريف ووزن الفعل كيعمر ﴿مُصَدِّقاً﴾ حال منه ﴿بِكَلِمَةٍ مّنَ الله﴾ أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به وسمى عيسى كلمة
آل عمران (٣٩ _ ٤٣)
الله لأن تكونه بكن بلا أب أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه ﴿وَسَيّدًا﴾ هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف وكان يحيى فائقا على قومه لانه لم يركب شيئة قط وبالها من سيادة وقال الجنيد هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون ﴿وَحَصُورًا﴾ هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات ﴿وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب
﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام﴾ استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ كقولهم أدركته السن العالية أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسعة وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ لم تلد ﴿قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ من الأفعال العجيبة
﴿قال رب اجعل لي﴾ مدنى وأبو عمرو ﴿آية﴾ علامة أعرف بها الحبل لألتقى النعمة بالشكر إذا جاءت ﴿قَالَ آيتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ الناس﴾ أي لا تقدر على تكليم الناس ﴿ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا﴾ إلا إشارة بيد أو رأس أو عين أو حاجب وأصله التحرك يقال ارتمز إذا تحرك واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً أو هو استثناء منقطع وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذا قال ﴿واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشي والإبكار﴾ أي في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة والأدلة الظاهرة وإنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال والعشي من حين الزوال إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى
﴿وإذا﴾ عطف على إذ قالت امرأة عمران أو التقدير واذكر إذ ﴿قالت الملائكة يا مريم﴾ روي أنهم كلموها شفاها ﴿إِنَّ الله اصطفاك﴾ أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ مما يستقذر من
﴿يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ﴾ أديمي الطاعة أو أطيلي قيام الصلاة ﴿واسجدي﴾ وقيل أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات
آل عمران (٤٣ _ ٤٧)
الصلاة ثم قيل لها ﴿واركعي مع الراكعين﴾ أي ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم ﴿مِنْ أَنبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم﴾ أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين أو هي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركاً بها ﴿أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ متعلق بمحذوف دل عليه يلقون كأنه قيل يلقونها ينظرون أيهم يَكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ في شأنها تنافساً في التكفل بها
﴿إذ قالت الملائكة﴾ أى اذكر ﴿يا مريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾ أي بعيسى ﴿مِّنْهُ﴾ في موضع جر صفة لكلمة ﴿اسمه﴾ مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر ﴿المسيح﴾ خبره والجملة في موضع جر صفة لكلمة والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله ﴿وَجَعَلَنِى مباركا أين ما كنت﴾ وقيل سمي مسيحاً لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكاناً ﴿عِيسَى﴾ بدل من المسيح {ابن
وكذا ﴿ويكَلِّمُ النّاسَ﴾ أي ومكلماً الناس ﴿في المهد﴾ حال من الضمير في يكلم أي ثابتاً في المهد وهو ما يمهد للصبي من مضجعه سمي بالمصدر ﴿وَكَهْلاً﴾ عطف عليه أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً أي يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ﴿وَمِنَ الصالحين﴾ حال أيضاً والتقدير يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات
﴿قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يشاء﴾
آل عمران (٤٧ _ ٥١)
﴿إذا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾ أي إذا قدر تكون شيء كونه من غرتأخير لكنه عبر بقوله كن إخباراً عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه
﴿ويعلمه﴾ مدنى وعاضم وموضعه حال معطوفة على وجيهاً الباقون بالنون على أنه كلام مبتدأ ﴿الكتابَ﴾ أي الكتابة وكان أحسن الناس خطاً في زمانه وقيل كتب الله ﴿والحكمَةَ﴾ بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد والحكمة البيان باللسان ﴿والتوراة والإنجيل﴾
﴿وَرَسُولاً﴾ أي ونجعله رسولاً أو يكون في موضع الحال أي وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولا ﴿إلى بني إسرائيل أَنّي﴾ بأني {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن
﴿وَمُصَدِّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة﴾ أي قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ رد على قوله بآية من ربكم أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم وما حرم الله عليهم في شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك ﴿وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ﴾ كرر للتأكيد ﴿فاتقوا الله﴾ في تكذيبي وخلافي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في أمري
﴿إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ﴾ إقرار بالعبودية ونفي للربوبية عن نفسه
آل عمران (٥١ _ ٥٥)
يؤدي صاحبه إلى النعيم المقيم
﴿فلما أحس عيسى منهم الكفر﴾ علم ن اليهود كفراً علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ﴿قال من أنصاري﴾ مدنى هو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف ﴿إلى الله﴾ بتعلق بمحذوف حال من الياء أو من أنصارى ذاهبا إلى الله ملتجأ إليه ﴿قَالَ الحواريون﴾ حواريّ الرجل صفوته وخاصته ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ أعوان دينه ﴿آمنا بالله واشهد﴾ يا عيسى ﴿بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد
﴿ربنا آمنا بِمَا أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول﴾ أي رسولك عيسى ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية أو مع أمة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس
﴿وَمَكَرُواْ﴾ أي كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه ﴿وَمَكَرَ الله﴾ أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا في شرح التأويلات ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب
﴿إذ قال الله﴾ ظرف لمكر الله ﴿يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ﴾ أي مستوفي أجلك ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أمنفك لا قتلاً بأيديهم ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ إلى سمائي ومقر ملائكتي ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ من سوء جوارهم وخبث صحبتهم وقيل متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن إذ الواو لا توجب الترتيب قال النيى عليه السلام ينزل عيسى خليفة على أمتي يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ويتزوج ويولد له ثم يتوفى وكيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهدى من أهل بيتى فى وسطها أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك﴾ أي المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ﴿فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾ بك ﴿إلى يوم القيامة﴾ يعلمونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ في الآخرة ﴿فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾
﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين وَأَمَّا الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾
وتفسيرا لحكم هاتين الآيتان فيوفيهم حفص
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهومبتدأ ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ خبره ﴿مِنَ الأيات﴾ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ﴿والذكر الحكيم﴾ القرآن يعني المحكم أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه نزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولداً بلا أب
﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام ﴿خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ قدره جسداً من طين وهي جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب فشبه الغريب بالأغراب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استعر به وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى قالوا لأنه لا أب له قال فآدم أولى لأنه لا أبوين له قالوا كان يحيي الموتى قال فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف فقالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص قال فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن﴾ أي أنشأه بشراً ﴿فَيَكُونُ﴾ أي فكان وهو حكاية حال ماضية وثم لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه
﴿الحق من ربك﴾ خبر مبتدأ مخذوف أي هو الحق ﴿فَلاَ تَكُن﴾ أيها السامع ﴿مِنَ الممترين﴾ الشاكين ويحتمل أن يكون الخطاب للنبى ﷺ ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ من النصارى ﴿فِيهِ﴾ في عيسى ﴿مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم﴾ من البينات الموجبة للعلم وما بمعنى الذى ﴿فقل تعالوا﴾ هلموا والمراد المجئ بالعزم والرأى كما تقول تعال لنفكر في هذه المسألة
آل عمران (٦١ _ ٦٤)
العاقب وكان ذا رأيهم والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أمحمدا نبي مرسل وما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله ﷺ وقد غدا محتضنا للحسين آخذا بيدالحسن وفاطمة تمشى خلقه وعليّ خلفها وهو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكو ولا يبقى عل وجه الأرض نصراني فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبي على ألف حلة كل سنة فقال عليه السلام والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة وبمن يكاذبه لأن ذلك آكدا في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبى ﷺ لأنه لم
﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي قص عليك من نبأ عيسى ﴿لَهُوَ القصص الحق﴾ هو فصل بين اسم إن وخبرها أو مبتدا والقصص الحق خبره والجملة خبر إن وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخول على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه واصلها أن تدخل على المبتدا ومن في ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله﴾ بمنزلة البناء على الفتح لا إله إلا الله في إفادة معنى الاستغراق والمراد الرد على النصارى في تثليثهم ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز﴾ في الانتقام ﴿الحكيم﴾ في تدبير الأحكام
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا ولم يقبلوا ﴿فَإِنَّ الله عليم بالمفسدين﴾ وعيدلهم بالعذاب المذكور في قوله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بما كانوا يفسدون
﴿قل يا أهل الكتاب﴾ هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة ﴿تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء﴾ أي مستوية ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل وتفسير الكلمة قوله ﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله﴾ يعنى تعالوا إليها حتى لا تقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله وعن عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول
آل عمران (٦٤ _ ٦٩)
الله قال أليس كانوا
﴿يا أهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ﴾ زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله ﷺ والمؤمنين فيه فقيل لهم إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال
﴿ها أنتم هؤلاء﴾ هاللتنبيه وأنتم مبتدأوهؤلاء خبره ﴿حاججتم﴾ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم ﴿فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ﴾ مما نطق به التوراة والإنجيل ﴿فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم وقيل هؤلاء بمعنى الذين وحاججتم صلته ها أنتم بالمد وغير الهمز حيث كان مدني وأبو عمرو ﴿والله يَعْلَمُ﴾ علم ما تحاججتم فيه ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وأنتم جاهلون به
ثم أعلمهم بأنه برئ من دينهم فقال ﴿مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾
﴿إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم﴾ إن أخصهم به واقربهم منه من الولى والمراد محمد عليه السلام ﴿والذين آمنوا﴾ من أمته ﴿والله وَلِيُّ المؤمنين﴾ ناصرهم
﴿وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ هم اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم
آل عمران (٦٩ _ ٧٣)
﴿وما يشعرون﴾ بذلك
﴿يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله﴾ بالتوراة والإنجيل وكفرهم با أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله ﷺ وغيرها ﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ تعترفون بأنها آيات الله أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنها حق
﴿يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل﴾ تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد ﷺ ﴿وَتَكْتُمُونَ الحق﴾ نعت محمد عليه السلام ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه حق
﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب﴾ فيما بينهم ﴿آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا﴾ أي القرآن ﴿وَجْهَ النهار﴾ ظرف أي أوله يعني أظهروا الإيمان ب
﴿وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله﴾ ولا تؤمنوا متعلق بقوله ﴿أن يؤتى أحدٌ مّثل ما أوتيتم﴾ وما بينهما اعتراض أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أونوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثبابا ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام ﴿أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ﴾ عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير اتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين وكذلك قوله ﴿قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ يريد الهداية والتوفيق أو يتم الكلام عند قوله إلا لمن تبع دينكم أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ومعنى قوله أن يؤتى لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشئ آخر يعنى أن مابكم من الحسد والبغى أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلم ويدل عليه
آل عمران (٧٣ _ ٧٦)
قراءة ابن كثير آن
﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ بالنبوة أو بالإسلام ﴿مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم﴾
﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ﴾ هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ هو فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينار فجحده وخانه وقيل المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم ﴿إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه ملازما له يؤده ولا يؤده بكسر الهاء مشبعة مكي وشامي ونافع وعلي وحفص واختلس أبو عمرو في رواية غيرهم بسكون الهاء ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ﴾ أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم ليس علينا فى الأميين سبيل أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة وقيل بايع اليهود رجالاً من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في
﴿بلى﴾ إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين أي بلى عليهم سبيل فيهم وقوله ﴿من أوفى بعهده واتقى﴾ جملة مستأنفة مقررة للجملة التي سدت بلى مسدها والضمير فى بعهده يرجع إلى الله تعالى أي كل من أوفى بعهد الله واتقاه ﴿فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى من ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء قيل نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب ويجوز أن يرجع الضمير إلى من أوفى أي كل من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك
آل عمران (٧٧ _ ٧٩)
الخيانة والغدر فإن الله يحبه ونزل فيمن حرّف التوراة وبدل نعته عليه السلام من الهيود وأخذ الرشوة على ذلك
﴿إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ﴾ يستبدلون ﴿بِعَهْدِ الله﴾ بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم ﴿وأيمانهم﴾ وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك وقوله بعهد الله يقوي رجوع الضمير في بعهده إلى الله ﴿أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الآخرة﴾ أي لا نصيب ﴿وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله﴾ بما يسرهم ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ نظر رحمة ﴿وَلاَ يُزَكّيهِمْ﴾ ولا يثني عليهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ من أهل الكتاب ﴿لَفَرِيقًا﴾ هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب﴾ يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف واللّيُ الفتل وهو الصرف
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكتاب﴾ تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام وقيل قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ﴿والحكم﴾ والحكمة وهي السنة أو فصل القضاء ﴿والنبوة ثُمَّ يَقُولَ﴾ عطف على يؤتيه ﴿لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله ولكن كُونُواْ ربانيين﴾ ولكن يقول كونوا ربانيين والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته حين مات ابن عباس قال ابن الحنفية مات رباني هذه الأمة وعن الحسن ربانيين علماء فقهاء وقيل علماء معلمين وقالوا
آل عمران (٧٩ _ ٨١)
الرباني العالم العامل ﴿بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب﴾ كوفي وشامي أي غيركم غيرهم بالتخفيف ﴿وَبِمَا كنتم تدرسون﴾ أى تقرءون والمعى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدارسة وكفى به دليلاً على خيبة سعي من
﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ﴾ بالنصب عطفاً على ثم يقول ووجهه أن تجعل لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله ما كان لبشر والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم ﴿أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا﴾ كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي وبالرفع حجازي وأبو عمروا وعليّ على ابتداء الكلام والهمزة في ﴿أَيَأْمُرُكُم بالكفر﴾ للانكار والضمير فى لا يأمركم وأيأمركم للبشر أو لله وقوله ﴿بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له
﴿وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين﴾ هو على ظاهره من أخد الميثاق على النبيين بذلك أو المراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف واللام فى ﴿لما آتيتكم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ﴾ لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف وفي لتؤمنن لام جواب القسم وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً وأن تكون موصولة بمعنى الذى آتيتكموه لتؤمنن به ﴿ثُمَّ جَاءكُمْ﴾ معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به ﴿رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لّمَا مَعَكُمْ﴾ لكتاب الذي معكم ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ﴾ بالرسول ﴿وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ أي الرسول وهو محمد ﷺ لما آتيتكم حمزة وما بمعنى الذي أو مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب
آل عمران (٨١ _ ٨٤)
﴿قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا﴾ فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ﴿وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين﴾ وأنا معكم على ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض وقيل قال الله للملائكة اشهدوا
﴿فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك﴾ الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ المتمردون من الكفار
﴿أفغير دين الله يبغون﴾ دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ثم توسطت الهمزة بينهما ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ﴿وله أسلم من في السماوات﴾ الملائكة ﴿والأرض﴾ الإنس والجن ﴿طَوْعاً﴾ بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه ﴿وَكَرْهًا﴾ بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بنى اسرئيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت فلما رأوابأسنا قالوا آمنا بالله وحده وانتصب طَوْعًا وَكَرْهًا على الحال أى طائعين ومكرهين ﴿وإليه ترجعون﴾ فيجازيكم على الأعمال يبغون ويرجعون بالياء فيهما حفص وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن
﴿قل آمنا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا﴾ أمر رسول الله ﷺ بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في قل وجمع في آمنا أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه وعدي أنزل هنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنييم إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر وقال صاحب اللباب والخطاب في البقرة للأمة لقوله قُولُواْ فلم يصح إلا إلى لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً وهنا قال قل وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به علي لأن الكتب منزلة عليه لاشركة للأمة فيه وفيه نظر لقوله تعالى آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا ﴿وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾ أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء ﴿وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون﴾ كرر في البقرة وما أوتي ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لما آتيتكم ﴿مّن رَّبّهِمُ﴾ من عند ربهم ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ﴾ فى الإيمان كما
آل عمران (٨٤ _ ٩١)
فعلت اليهود والنصارى ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً فى عبادتنا
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام﴾ يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام ﴿دِينًا﴾ تمييز ﴿فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة
﴿كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم﴾ والواو في ﴿وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ﴾
﴿أولئك﴾ مبتدأ ﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ مبتدأ ثانٍ خبره ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله﴾ وهما خبر أولئك أو جزاؤهم بدل الاشتمال من أولئك ﴿والملائكة والناس أجمعين﴾
﴿خالدين﴾ حال من الهاء والميم في عليهم ﴿فِيهَا﴾ في اللعنة ﴿لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ الكفر العظيم والارتداد ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ﴾ لكفرهم ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم ونزل في اليهود
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ بعيسى والإنجيل بَعْدَ إيمانهم بموسى والتوراة ﴿ثم ازدادوا كفرا﴾ بمحمد ﷺ والقرآن أو كفروا برسول الله ﷺ بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة وازديادهم الكفران قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون ﴿لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ﴾ أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون﴾
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض﴾ الفاء في فلن يقبل يؤذن بأن الكلام بنى
آل عمران (٩١ _ ٩٣)
على الشرط والجزاء وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ﴿ذَهَبًا﴾ تمييز ﴿وَلَوِ افتدى بِهِ﴾ أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به فيقول نعم فيقال له لقد سئلت أيسر من ذلك قيل الواو لتأكيد النفي ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم ﴿وَمَا لَهُم مّن ناصرين﴾ معينين دافعين للعذاب
﴿لَن تَنَالُواْ البر﴾ لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه ﴿حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها وعن الحسن كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو ثمرة فهو داخل في هذه الآية قال الواسطي الوصول البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين وقال أبو بكر الوراق لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب وعن عمر بن عبد العزيز إنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له لم لا تتصدق بثمنها قال لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عليم﴾ أى هو عليم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه ومن الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله حتى تنفققوا بعض ما تحبون والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه
ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله فقالت اليهود إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم ﴿كُلُّ الطعام﴾ أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم ﴿كان حلا لبني إسرائيل﴾ أى حلالا وهو مصدر يقال حل الشئ حلا ولذا استوى فى صفته المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى لاهن حل لهم ﴿إلا ما حرم إسرائيل﴾ أي يعقوب ﴿على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة﴾ وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها وكانا أحب الطعام إليه والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوارة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه ﴿قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أمر بأن
آل عمران (٩٤ _ ٩٧)
يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه فلم يجرءوا على إخراج التوراة وبهتوا وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه
﴿فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب﴾ بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام ﴿من بعد ذلك﴾ من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾ المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات
﴿قُلْ صَدَقَ الله﴾ في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون ﴿فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم﴾ وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه ﴿حَنِيفاً﴾ حال ن إبراهيم أى مائلا عن الأديان الباطلة ﴿وَمَا كَانَ مِنَ المشركين﴾
ولما قالت اليهود للمسلمين قبلتنا قبل قبلتكم نزل ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ والواضع هو الله عزوجل ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال إن أول متعبد للناس الكعبة وفى الحديث أن المسجد الحرم وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة قيل أول من بناه إبراهيم وقيل هو أول بيت حج بعد الطوفان وقيل هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وقيل هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض وقوله وضع للناس فى موضع جر صفة لبيت والخبر ﴿لَلَّذِى بِبَكَّةَ﴾ أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام ومكة وبكة لغتان فيه وقل مكة البلد وبكة موضع المسجد وقيل اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله ﴿مُبَارَكاً﴾ كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيآت ﴿وهدى للعالمين﴾ لأنه قبلتهم ومتعبدهم ومباركا وهدى حالان من الضمير فى موضع
﴿فيه آيات بينات﴾ علامات واضحات لا تلتبس على أحد ﴿مَّقَامُ إبراهيم﴾ عطف بيان لقوله آيات بينات وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهرور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد أو لاشتماله على آيات لأن
آل عمران (٩٧)
من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله والاثنان في معنى الجمع ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما لدلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحوا نمحاق الأحجار مع كثرة الرماة وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا والثالث يطوى وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه وقيل إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة اسمعيل عليه السلام إِنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا وكان الرجل لوجنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب وعن عمر رضى الله عنه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب مامسته حتى يخرج منه ومن لزمه الفتل فى الحل بقود اوردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وقيل آمنا من النار لقوله عليه السلام من مات في أحد الحرمين بعث يوم
المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج ﴿فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين﴾ مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد منها اللام وعلى أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس ومنها الابدال ففيه تنبيه للمراد وتكرير له ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ومنها قوله ومن كفر مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج ومنها ذكر
آل عمران (٩٨ _ ١٠١)
وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظيم السخط الذى وقع عبارة عنه
﴿قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ﴾ الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدلالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها
﴿قل يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ﴾ الصد المنع ﴿عَن سَبِيلِ الله من آمن﴾ عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل ﴿تَبْغُونَهَا﴾ تطلبون لها نصب على الحال ﴿عِوَجَا﴾ اعوجاجاً وميلا عن القصد والاستقامة بتغيركم صفة رسول الله ﷺ عن وجهها ونحو ذلك ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل ﴿وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد
ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين﴾ قيل مرّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا السلاح السلاح فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال أتدعون
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر ﴿وَأَنْتُمْ تتلى عليكم آيات الله﴾ والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية ﴿وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم ﴿وَمَن يَعْتَصِم بالله﴾ ومن يتمسك بدينه أو بكتابه أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم ﴿فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ﴾ أرشد إلى الدين الحق أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً
آل عمران (١٠٢ _ ١٠٤)
عند الشبه يحفظه عن الشبه
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه وقيل لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت
﴿واعتصموا بحبل الله﴾ تمسكوا بالقرآن لقوله عليه السلام القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم ﴿جَمِيعاً﴾ حال
﴿وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ بما استحسنه الشرع والعقل ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ عما استقبحه الشرع والعقل أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة والمنكر ما خالفهما أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف
آل عمران (١٠٤ _ ١٠٩)
عليه خاص ومن للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ثم قال فقاتلوا أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ﴾ بالعداوة ﴿واختلفوا﴾ في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات﴾ الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
! ونصب ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أي وجوه الكافرين والبياض من النور والسواد من الظلمة ﴿فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾ فيقال لهم ﴿أَكْفَرْتُمْ﴾ فحذف الفاء والقول جميعا للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ﴿بَعْدَ إيمانكم﴾ يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً أو أهل الكتاب وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله ﷺ بعد اعترافهم به قبل مجيئه ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
﴿وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله﴾ ففي نعمته وهي الثواب المخلد ثم استأنف فقال ﴿هُمْ فِيهَا خالدون﴾ لا يظعنون عنها ولا يموتون
﴿تِلْكَ آيات الله﴾ الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك {نَتْلُوهَا
﴿وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته ترجع شامي وحمزة وعلي كان عبارة عن وجود الشئ في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على إنقطاع
آل عمران (١١٠ _ ١١٢)
طارئ ومنه قوله
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ كأنه قيل وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به ﴿أخرجت﴾ أظهرت ﴿للناس﴾ اللام يتعلق بأخرجت ﴿تَأْمُرُونَ﴾ كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه ﴿بالمعروف﴾ بالإيمان وطاعة الرسول ﴿وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ عن الكفر وكل محظور ﴿وَتُؤْمِنُونَ بالله﴾ وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضى الترتيب ﴿ولو آمن أَهْلُ الكتاب﴾ بمحمد عليه السلام ﴿لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم عن دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لكان خيرا لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين ﴿منهم المؤمنون﴾ تعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون﴾ المتمردون في الكفر
﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من
﴿ضُرِبَتْ﴾ ألزمت ﴿عَلَيْهِمُ الذلة﴾ أي على اليهود ﴿أينما ثُقِفُواْ﴾ وجدوا ﴿إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله﴾ في محل النصب على الحال والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله ﴿وَحَبْلٍ مّنَ الناس﴾ والحبل العهد والذمة والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عز لهم قط الاهذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية ﴿وباؤوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ استوجبوه ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة﴾ الفقر عقوبة لهم على قولهم إِنَّ الله فقير ونحن أغنياء أو خوف الفقر مع قيام اليسار ﴿ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾
ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ثم قال ﴿ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده
﴿لَيْسُواْ سَوَاءً﴾ ليس أهل الكتاب مستوين ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ كلام مستأنف لبيان قوله ﴿ليسوا سواء﴾ كما وقع قوله ﴿تَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ بياناً لقوله ﴿كنتم خير أمة﴾ ﴿أمّةٌ قائمةٌ﴾ جماعة مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام أي استقام وهم الذين أسلموا منهم ﴿يَتْلُونَ آيات الله﴾ القرآن ﴿آناء الليل﴾ ساعاته واحدها إنى كمعنى أو إنو كقنو أو إنى كنحى ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يصلون قيل يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها وقيل عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود
﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف﴾ بالإيمان وسائر أبواب البر ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ عن الكفر ومنهيات الشرع ﴿ويسارعون فِى الخيرات﴾ يبادرون اليها خشية الفوت وقوله يتلون ويؤمنون في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون ووصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله لأن ايمانهم به كلا ايمان لا شراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به ﴿وأولئك﴾ الموصفون بما وصفوا به ﴿مّنَ الصالحين﴾ من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم
﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو مخير غيرهم بالتاء وعدي يكفروه إلى مفعولين وإن كان شكر
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئًا﴾
أي من عذاب الله ﴿وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون﴾
﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا﴾ في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾ كمثل مهلك ربح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ برد شديد عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة لربح مثل ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بالكفر ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ عقوبة على كفرهم ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ الله﴾ بإهلاك حرثهم ﴿ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بارتكاب ما استحقوا به العقوبة أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لاثقة للقبول
ونزل نهيا للمؤمنين عن مصافاة المنافقين ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة﴾ بطانة الرجل ووليجته خصيصته وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال فلان شعاري وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار ﴿مّن دُونِكُمْ﴾ من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي
﴿ها أنتم أولاء﴾ ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقى أهل الكتاب ﴿تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ﴾ بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء وأولاء موصول صلتة تحبونهم والواو فى
آل عمران (١١٩ _ ١٢١)
﴿وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ﴾ للحال وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشئ من كتابكم وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم وقيل الكتاب للجنس ﴿وإذا لقوكم قالوا آمنا﴾ أظهروا كلمة التوحيد ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ﴾ فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام ﴿قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ فهو يعلم
﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ رخاء وخصب وغنيمة ونصرة ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تحزنهم إصابتها ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ﴾ أضداد ما ذكرنا والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحدا ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿إِن تُصِبْكَ حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة﴾ ﴿يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ بإصابتها ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ على عداوتهم ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ ما نهيتم عنه من موالاتهم أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ مكرهم وكنتم في حفظ الله وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى وقال الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك لاَ يَضُرُّكُمْ مكي وبصري ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغي أن يكون بفتح الراء كقراءة المفصل عن عاصم إلا أن ضمة الراء لا تباع ضمة الضاد نحو مد يا هذا ﴿إِنَّ الله بما تعملون﴾ بالتاء سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما ﴿مُحِيطٌ﴾ ففاعل بكم ما أنتم أهله وبالياء غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة والمراد غدوه من حجرة عائشة رضى الله عنها إلى أحد
آل عمران (١٢١ _ ١٢٤)
{تبوئ
﴿إِذْ هَمَّتْ﴾ بدل من إذ غدوت أو عمل فيه معنى عليم ﴿طائفتان منكم﴾ حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله ﴿أَن تَفْشَلاَ﴾ أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾ محبهما أو ناصرهما أو متولى أمر هما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه قال جابر والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا
ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسرلهم من الفتح يوم بدر
﴿إذ تقول للمؤمنين﴾ ظرف لنصركم على أن تقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه أو بدل ثانٍ من إذ غدوت على أن
آل عمران (١٢٤ _ ١٢٧)
تقول لهم ذلك يوم أحد ﴿أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ﴾ منزّلين شامي مُنزلِين أبو حيوة أي للنصرة ومعنى ألن يكفيكم إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وجئ بلن الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر
﴿بلى﴾ إيجاب لما بعد لن أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية ثم قال ﴿إِن تَصْبِرُواْ﴾ على القتال ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ خلاف الرسول عليه السلام ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ يعني المشركين ﴿مّن فَوْرِهِمْ هذا﴾ من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء ن صاحبها فقيل خرج من فوره كما تقول من ساعته لم يلبث ومنه قول الكرخي الأمر المطلق على الفور لا على التراخي والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه ﴿يُمْدِدْكُمْ ربكم بخمسة آلاف مِّنَ الملائكة﴾ في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن
﴿وَمَا جَعَلَهُ الله﴾ الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه أن يمدكم ﴿إِلاَّ بشرى لَكُمْ﴾ أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة ﴿العزيز﴾ الذي لا يغالب في أحكامه ﴿الحكيم﴾ الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه
واللام في ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ﴾ ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله ولقد نصركم الله أو بقوله وما النصر إلا من عند الله أو يمددكم ربكم ﴿أَوْ يَكْبِتَهُمْ﴾ أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة وحقيقة الكبت شدَّة وهن تقع في القلب فيصرع فى الوجه
آل عمران (١٢٧ _ ١٣٣)
لأجله ﴿فينقلبوا خائبين﴾ فيرجعو غير ظافرين بمبتغاهم
﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْءٌ﴾ اسم ليس شيء والخبر لك ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة مقدمة ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ عطف على ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن
﴿وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ للمؤمنين ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ﴾ الكافرين ﴿والله غفور رحيم﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة﴾ مضعفَّة مكي وشامي هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل ﴿واتقوا الله﴾ في أكله ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
﴿واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين﴾ كان أبو حنيفة رضى الله عنه يقول هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله
﴿وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وفيه رد على المرجئة في قولهم لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً وعندنا غير الكافرين
﴿وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾ سَارَعوا مدني وشامي فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها ومن حذفها استأنفها ومعنى المسارعة إلى المغفرة
آل عمران (١٣٣ _ ١٣٥)
والجنة الاقبال على ما يوصل اليها ثم قيل هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى أو الطاعة أو الإخلاص أو التوبة أو الجمعة والجماعات ﴿عرضها السماوات والأرض﴾ أى عرضها عرض السموات والأرض كقوله عرضها كعرض السماء والأرض والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس خلقه وأبسطه وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة وعن ابن عباس رضى الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه انها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقا فى الدار بستان وإن كان يريد عليها لأن المراد أن بابه إليها ﴿أُعِدَّتْ﴾ فى موضع جر صفة لجنة أيضاً أي جنة واسعة معدة ﴿لّلْمُتَّقِينَ﴾ ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال وَجَنَّةٍ عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة ويوقف عليه إن جعل
﴿الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ والضراء﴾ في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة وجعل الخبر أولئك وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة وجعل الخبر أولئك وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف فإن قلت الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين
﴿والذين إذا فعلوا فاحشة﴾ فعلة متزايدة
آل عمران (١٣٥ _ ١٣٩)
القبح ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك ﴿وظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ قيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما ﴿ذَكَرُواْ الله﴾ بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة ﴿فاستغفروا لذنوبهم﴾ فتابوا عنها لقبحها نادمين قيل بكى إبليس حين نزلت
﴿أولئك﴾ الموصوفون ﴿جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ﴾ بتوبته ﴿وجنات﴾ برحمته ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ المخصوص بالمدح محذوف أى ونعم أجر العاملين وذلك يعنى المغفرة والجنات نزلت فى ثمار قال لامرأة تريد التمر في بيتي تمر أجود فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى
﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ يريد ما سنه الله تعالى في
﴿هذا﴾ أي القرآن أو ما تقدم ذكره ﴿بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى﴾ أي إرشاد ﴿وَمَوْعِظَةٌ﴾ ترغيب وترهيب ﴿لّلْمُتَّقِينَ﴾ عن الشرك
﴿وَلاَ تَهِنُواْ﴾ ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة ﴿وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد أو أنتم الأعلون بالنصر والظفر فى العاقبة
آل عمران (١٣٩ _ ١٤٣)
وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولاعلاء كلمته وقتالهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه أو بالأعلون أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة
﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ بضم القاف حيث كان كوفى غير حفص وبفتح القاف غيرهم وهما لغتان كالضعف والضعف وقيل بالفتح الجراحة وبالضم ألمها ﴿فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ﴾ أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منه يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم
﴿وليعلم الله الذين آمنوا﴾ أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود ﴿وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾ وليكرم ناسا منكم بالشهادة يريد للمستشهدين يوم أحد أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله لتكونوا شهداء على الناس ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ اعتراض بين بعض التعليل وبعض ومعناه والله لا يحب من لبس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون
﴿وليمحص الله الذين آمنوا﴾ التمحيص التطهير والتصفية ﴿وَيَمْحَقَ الكافرين﴾ ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين للتمييز والاستشهاد والتمحيض وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة﴾ أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ﴾ أي ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه تقول ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى بعلمه ولما بمعنى لم إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل ﴿وَيَعْلَمَ الصابرين﴾ نصب باضماران والواو بمعنى الجمع نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن أو جزم للعطف على يعلم الله وإنما
﴿وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تلقوه﴾
خوطب به الذين لم يشهدوا بدرا وكان يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله ﷺ لينالوا كرامة الشهادة وهم الذين ألحو على رسول الله ﷺ في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تنظرون﴾ أى رأيتموه معا بين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله ﷺ بإلحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من علبة الكفار كمن شرب الدواء من طيبب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقا لصناعته
لما رمى ابن قمئة رسول الله ﷺ بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله ﷺ فقال قتلت محمدا وخرج صارخا قيل هو الشيطان ألا إن محمداً قد قتل ففشا في الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول الله ﷺ يدعوا إليّ عباد الله حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ سيخلوكما خلوا وكما أن أتباعهم بقوا متمسكنين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينهم بعد خلوه لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه ﴿أفإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم﴾ الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى
﴿وَمَا كَانَ﴾ وما جاز ﴿لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي بعلمه أو بأن بأذن ملك الموت في قبض روحه والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله وفيه تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو وإعلام بأن الحذر لا ينفع وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك ﴿كتابا﴾ مصدر مؤكد لأن المعنى
آل عمران (١٤٦ _ ١٤٩)
كتب الموت كتاباً ﴿مُّؤَجَّلاً﴾ مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ﴿وَمَن يُرِدْ﴾ بقتاله ﴿ثَوَابَ الدنيا﴾ أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ من ثوابها ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة﴾ أي إعلاء كلمة الله والدرحة فى الآخرة ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين﴾ وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد
﴿وَكَأَيّن﴾ أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصار فى معنى كم التى للتكثير وكائن يوزن كاع حيث كان مكي ﴿مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ﴾ قتل مكي وبصري ونافع ﴿مَعَهُ﴾ حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه ﴿ربيون كثير﴾ والربيون والربانيون وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب والضم والكسر من تغييرات النسب ﴿فَمَا وَهَنُواْ﴾ فما فتروا عند قتل نبيهم {لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا
﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضمالها ﴿وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا﴾ تجاوزنا حد العبودية ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ في القتال ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ بالغلبة وقدم الدعاء الاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة
﴿فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا﴾ أي النصرة والظفر والغنيمة ﴿وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة﴾ المغفرة والجنة وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عنده ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي هم محسنون والله يحبهم
﴿يا أيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم﴾ يرجعوكم إلى الشر ﴿فَتَنقَلِبُواْ خاسرين﴾ قيل هو عام في جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم فى شيء حتى لا يستجروهم إن موافقتهم وعن السدي إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم وقال علي رضى الله عنه نزلت فى قول المنافقين
آل عمران (١٥٠ _ ١٥٢)
للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا فى دينهم
﴿بَلِ الله مولاكم﴾ ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره ﴿وَهُوَ خَيْرُ الناصرين﴾
﴿سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب﴾ الرعب شامي وعلي وهما لغتان قيل قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة ﴿بِمَا أَشْرَكُواْ بالله﴾ بسبب إشراكهم أي كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به ﴿مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا﴾ آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله... ولا ترى الضب بها ينجحر...
أي ليس بها ضب فينجحر ولم يعن أن بها ضباً ولا ينجحر ﴿وَمَأْوَاهُمُ﴾ مرجعهم ﴿النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ النار فالمخصوص بالذم محذوف
ولما رجع رسول الله ﷺ مع أصحابه إلى المدينة فالناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزل ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ﴾ أي حقق ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم قتلاً ذريعاً وعن ابن عيسى حسه أبطل حسه بالقتل ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بأمره وعلمه ﴿حتى إِذَا فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم ﴿وتنازعتم فِى الأمر﴾ أي اختلفتم ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة ﴿مِن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ﴾ من الظفر وقهر الكفار ومتعلق إذا محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره وجاز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم
آل عمران (١٥٢ _ ١٥٤)
جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ﴾ أى كفك معونته عنكم فغلبوكم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازي على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله ﷺ ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ بالعفو عنهم وقبول توبتهم أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة
وانتصب ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض أو الابعاد فيه وانتصب بصرفكم أو بقوله ليبتليكم أو بإضمار اذكروا ﴿ولا تلوون على أحد﴾ ولا تلتفتون وهو عبارة عن غاية انهزامهم وخوف عدوهم ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ﴾ يقول إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة
﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً﴾ ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم عن أبي طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه والأمنة الأمن ونعاسا بدل من أمنة أو هو مفعول وأمنة حال منه مقدمة عليه نحو رأيت راكباً رجلاً والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ويجوز أن يكون أمنة مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة ﴿يغشى﴾ يعني النعاس تغشى بالتاء والإمالة حمزة وعلي أي الأمنة ﴿طَائِفَةٌ مّنكُمْ﴾ هم أهل الصدق واليقين ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ هم المنافقون ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ ما يهمهم إلا هم انفسهم
آل عمران (١٥٤ _ ١٥٥)
وخلاصها لاهم
﴿إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ﴾ انهزموا ﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ جمع محمد عليه السلام
آل عمران (١٥٥ _ ١٥٨)
وجمع أبي سفيان للقتال بأحد ﴿إِنَّمَا استزلهم الشيطان﴾ دعاهم إلى الزلة وحمهلم عليها ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ﴾ بتركهم المركز الذي امرهم رسول الله ﷺ بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب وكان أصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلاً منهم أبو بكر وعلي وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار ﴿وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ﴾ تجاوز عنهم ﴿إن الله غفور رحيم﴾ للذنوب ﴿حليم﴾ لا يعاجل بالعقوبة
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ﴾ كابن أبيّ وأصحابه ﴿وَقَالُواْ لإخوانهم﴾ أي في حق إخوانهم في النسب أو في النفاق ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض﴾ سافروا فيها للتجارة أو غيرها ﴿أَوْ كَانُواْ غُزًّى﴾ جمع غازٍ كعافٍ وعفّى وأصابهم موت أو قتل ﴿لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم﴾ اللام يتعلق بلا تكونوا أي لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم أو بقالوا أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة فى قلوبهم خصاة والحسرة الندامة على فوت المحبوب ﴿والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ﴾ رد لقولهم إن القتال يقطع الآجال أي الأمر بيده قد يحيي المسافر والمقاتل ويميت
﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ﴾ متم وبابه بالكسر نافع وكوفي غير عاصم تابعهم حفص إلا في هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم غيرهم بضم الميم في جميع القرآن فالضم من مات يموت والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت ﴿لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورحمة خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ ما بمعنى الذي والعائد محذوف وبالياء حفص
﴿وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ﴾ لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم الله في هذا الموضع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن غني عن البرهان لمغفرة جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط وكذلك لالى الله تحشرون كذب الكافرين أولاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن
آل عمران (١٥٩ _ ١٦١)
الجهاد ثم قال لهم ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ ما مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه
﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله﴾ كما نصركم يوم بدر ﴿فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته ﴿وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ كما خذلكم يوم أحد ﴿فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم من بعده﴾ من مبعد خذلانه وهو ترك المعونة أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ﴾ مكي وأبو عمرو وحفص وعاصم أي يخون وبضم الياء وفتح الغين غيرهم يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً إذا أخذه في خفية ويقال أغله إذا وجده غالاً والمعنى ما صح له ذلك يعني أن النبوة تنافي الغلول وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه وما صح له أن
آل عمران (١٦١ _ ١٦٥)
يوجد غالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين لعل رسول الله ﷺ أخذها فنزلت الآية ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غل يوم القيامة﴾ أى يأت بالشئ الذي غله بعينه حاملاً له على ظهره كما جاء في الحديث أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نفس ما كسبت﴾ تعطى جزاؤها وافياً ولم يقل ثم يوفى ما كسب ليتصل بقوله يغلل بل جيئ بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي جزاء كل على قدر كسبه
﴿أَفَمَنِ اتبع رضوان الله﴾ أي رضا الله قيل هم المهاجرون والأنصار ﴿كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله﴾ وهم المنافقون والكفار ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ المرجع
﴿هُمْ درجات عِندَ الله﴾ هم متفاوتون كما يتفاوت الدرجات أو ذوو درجات والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين والتفاوت بين الثواب والعقاب ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسابها
﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين﴾ على من آمن مع رسول الله عليه السلام من قومه وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ من جنسهم عربياً مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده والمنة في ذلك من حيث إنه إذا كان منهم كان اللسان واحدا فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه وكان لهم شرف بكونه منهم وفي قراءة رسول الله من أنفسهم أى من أشرفهم ﴿يتلو عليهم آياته﴾ أي القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي ﴿وَيُزَكّيهِمْ﴾ ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة ﴿وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ القرآن والسنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ﴾ من قبل بعثة الرسول ﷺ ﴿لَفِى ضلال﴾ عمى وجهالة ﴿مُّبِينٍ﴾ ظاهر لا شبهة فيه إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين
﴿أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ﴾ يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا﴾ يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو فى
آل عمران (١٦٥ _ ١٦٨)
موضع رفع صفة لمصيبة ﴿قُلْتُمْ أنى هذا﴾ من أين هذا ﴿قُلْ هو من عند أنفسكم﴾
﴿وَمَا أصابكم﴾ ما بمعنى الذي وهو مبتدأ ﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر ﴿فَبِإِذْنِ الله﴾ فكائن بأذن الله أي بعلمه وقضائه
﴿وَلِيَعْلَمَ المؤمنين وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ﴾ وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هولاء ونفاق هؤلاء ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ للمنافقين وهو كلام مبتدأ ﴿تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي جاهدوا للآخرة كما تقاتل المؤمنون ﴿أو ادفعوا﴾ أى قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة وقيل أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم﴾ أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا تبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشئ ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان﴾ يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية المشركين ﴿يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ﴾ أي يظهرون خلاف ما يضمرون من
﴿الذين قَالُواْ﴾ أي ابن أبيّ وأصحابه وهو في موضع رفع على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون أو نصب باضمارأعنى أو على البدل من الذين نافقوا أو جر على البدل من الضمير فى أفواهم أو قلوبهم ﴿لإخوانهم﴾ لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتلوين يوم أحد ﴿وَقَعَدُواْ﴾ أي قالوا وقد قعدوا عن القتال ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ لو أطاعنا إخواننا
آل عمران (١٦٨ _ ١٧٢)
فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله ﷺ والقعود ووافقوا نافيه لما قتلوا كما لم نقتل ﴿قل فادرؤوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين﴾ بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت أو معناه قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال فخذوا إلى دفع الموت سبيلاً وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً
ونزل في قتلى أحد ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ شامي وحمزة وعلى وعاصم وبكسرالسين غيرهم والخطاب لرسول الله ﷺ أو لكل أحد ﴿الذين قَتَلُواْ﴾ قتلوا شامي ﴿فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء﴾ بل هم أحياء ﴿عِندَ رَبّهِمْ﴾ مقربون عنده ذوو زلفى ﴿يُرْزَقُونَ﴾ مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله
﴿فرحين﴾ حال من الضمير في يرزقون ﴿بِمَا آتاهم الله مِن فَضْلِهِ﴾ وهو التوفيق في الشهادة وما ساق اليهم من الكراهة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلالهم رزق الجنة ونعيمها وقال النبي عليه السلام لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة ﴿وَأَنَّ الله﴾ عطف على النعمة والفضل وإن الله عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض ﴿لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين﴾ بل يوفر عليهم
﴿الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول﴾ مبتدأ خبره للذين أحسنوا وصفة للمؤمنين أو نصب على المدح ﴿مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح﴾ الجرح روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا
آل عمران (١٧٢ _ ١٧٥)
من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب النبى واصحابه للخروج في طلب أبي سفيان فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين
﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس﴾ بدل من الذين استجابوا ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل فقال عليه السلام إن شاء الله فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب فى قلبه فبداله أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى وافوا بدرا وأقاموا بها ثمان ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتأكلوا السوق فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه والثاني أبو سفيان وأصحابه ﴿فاخشوهم﴾ فخافوهم ﴿فَزَادَهُمُ﴾ أي المقول الذي هو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو القول أو نعيم ﴿إيمانا﴾ بصيرة وإيقاناً ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾ كافينا الله أي الذي يكفينا الله يقال أحسبه الشئ إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول هذا رجل حسبك فتصف به النكرة
﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله﴾ وهي السلامة وحذر العدو منهم ﴿وفضل﴾ روهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء﴾ لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في انقلبوا وكذا بنعمة والتقدير فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء ﴿واتبعوا رضوان الله﴾ بجزاءتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على انقلبوا ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا
﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان﴾ هو خبر ذلكم أي
آل عمران (١٧٥ _ ١٧٨)
إنما ذلكم المثبط هو الشيطان وهو نعيم ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته أو الشيطاتن صفة لاسم الاشارة ويخوف الخبر ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ﴾ أي أولياءه ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره وخافونى في الوصل والوقف سهل ويعقوب وافقهما أبو عمرو في الوصل
﴿وَلاَ يَحْزُنكَ﴾ يحزنك في كل القرآن نافع إلا فى سورة الأنبياء لا يحزنهم الفراغ الأكبر ﴿الذين يسارعون في الكفر﴾ يعنى لا يحزنونك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله ﴿يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الآخرة﴾ أي نصيباً من الثواب ﴿وَلَهُمْ﴾ بدل الثواب ﴿عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه والآية تدل على إرادة الكفر
﴿إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان﴾ أي استبدلوه به ﴿لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام والثانية في جميع الكفار أو على العكس ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ﴾ وثلاثة بعدها مع ضم الباء فى يحسبنهم بالياء مكى وأبو عمر وكلها بالتاء حمزة وكلها بالياء مدني وشامي إلا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فإنها بالتاء الباقون الأوليان بالياء والأخريان بالتاء ﴿الذين كَفَرُواْ﴾ فيمن قرأ بالياء رفع أى ولا يحسبن الكافرون وإن مع اسمه وخبره في قوله ﴿أَنَّمَا نُمْلِى لهم خير لأنفسهم﴾ فى موضع المفعولين ليحسبن والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم وما مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين أي ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم وان مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين والإملاء لهم امهالهم وإطالة عمرهم ﴿إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً﴾ ما هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قبل ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم فقيل إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وارادة المعاصى ﴿ولهم عذاب مهين﴾
آل عمران (١٧٩ _ ١٨٠)
واللام في ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ من اختلاط
﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ من قرأ بالتاء قدر مضافاً محذوفاً أي ولا تحسبن بخل الباخلين وهو فصل وخيرا لهم مفعول ثانٍ وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله أو ضمير أحد ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان التقدير ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرا لهم وهو فصل وخيرا لهم مفعول ثانٍ ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي البخل ﴿شَرٌّ لَّهُمْ﴾ لأن أموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ
آل عمران (١٨١ _ ١٨٤) أبلغ في الوعيد والياء على الظاهر
﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى ﴿مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ وقالوا إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير ومعنى سماع الله له انه لم يخف عليه وأنه أعدله كفاء من العقاب ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾ سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ مافيه فسمى به مجازا وما مصدرية أو بمعنى الذي ﴿وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ معطوف على ما جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا بأنهما في العظم أخوان وأن من قتل من الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول ﴿وَنَقُولُ﴾ لهم يوم القيامة ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي عذاب النار كما أذقتم المسلين الغصص قال الضحاك ويقول لهم ذلك خزنة جهنم وإنما أضيف إلى الله تعالى لأنه بأمره كما في قوله سنكتب سيكتب وقتلهم ويقول حمزة
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما تقدم من عقابهم ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصي والإضافة إلى اليد لأن أكثر
﴿الذين قَالُواْ﴾ في موضع جر على البدل من الذين قالوا أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم ﴿إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أمرنا في التوراة وأوصانا ﴿أَلاَّ نُؤْمِنَ﴾ بأن لا نؤمن ﴿لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار﴾ أي يقرب قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله لأن أكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتي به لكونه معجزة فهو إذاً وسائر المعجزات سواء ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات﴾ المعجزات سوى القربان ﴿وبالذى قُلْتُمْ﴾ أي بالقربان يعني قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم وراضون بفعلهم ﴿فلم قتلتموهم﴾ أى كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوا به ولم قتلتموهم ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا
﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ﴾ فإن كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك ﴿جاؤوا بالبينات﴾ بالمعجزات الظاهرات ﴿والزبر﴾ الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة
آل عمران (١٨٤ _ ١٨٧)
وبالزبر شامى ﴿والكتاب﴾ جنسه ﴿المنير﴾ المضئ قيل هما واحد في الأصل وإنما ذكرا الاختلاف الوصفين فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة والكتاب الهادى
﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ مبتدأ والخبر ﴿ذَائِقَةُ الموت﴾ وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إليّ فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء ﴿فَمَن زُحْزِحَ﴾ بعد والزحزحة الإبعاد ﴿عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ ظفر بالخير وقيل فقد حصل له الفوز المطلق وقيل الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه ﴿وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور﴾ شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور وعن سعيد بن جبير إنما هذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب الاخرة فإنها متاع بلاغ وعن الحسن كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ والله لتبلون أي لتختبرن ﴿فِى أموالكم﴾ بانفاق فى سبيل الله وبما يقع فيها ن الآفات ﴿وأَنفُسِكُمْ﴾ بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب وهذه الآية دليل على أن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطل كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة كذا في شرح التأويلات ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ يعني اليهود والنصارى ﴿وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً﴾ كالطعن في الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من آمن ونحو ذلك ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ﴾ على أذاهم ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ مخالفة أمر الله ﴿فَإِنَّ ذلك﴾ فإن الصبر والتقوى ﴿مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ من معزومات الأمور أي مما يجب العزم عليه من الأمور خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على
﴿وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ﴿لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن وبالياء مكى وأبو
آل عمران (١٨٧ _ ١٩٠)
عمر وأبو بكر لأنهم غيب والضمير للكتاب أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ﴾ فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم أي لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم أو لجر منفعة أو دفع أذية أو لبخل بالعلم وفي الحديث من كتم علماً عن أهله ألجمه الله بلجام من نار ﴿واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ عرضاً يسيراً ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾
والخطاب في ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾ لرسول الله وأحد المفعولين ﴿الذين يَفْرَحُونَ﴾ والثاني بمفازة وقوله فلا تحسبنهم تأكيده تقديره لا تحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين ﴿بِمَا أَتَوْاْ﴾ بما فعلوا وهي قراءة أبى وجاء وأنى يستعملان بمعنى فعل إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لقد جئت شيئا فريا وقرأ النخعي بما آتوا أي أعطوا ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب﴾ بمنجاة منه ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أليم﴾ مؤلم
﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ فهو يملك أمر هما وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ﴿والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ﴾ فهو يقدر على عقابهم
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيَاتٍ﴾ لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر ﴿لأُوْلِى الألباب﴾ لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر فيرى أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر لأن جوهراً ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى مالا يتناهى وحسن صنعه يدل على علمه وإتقانه يدل على
آل عمران (١٩١ _ ١٩٣)
حكمته وبقاؤه يجب على قدرته قال عليه السلام ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وحكى فيها أن في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلانين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه لعل فرطة فرطت منك في
﴿الذين﴾ فى موضع جر نعت لأولى أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم ﴿يَذْكُرُونَ الله﴾ يصلون ﴿قِيَاماً﴾ قائمين عند القدرة ﴿وَقُعُوداً﴾ قاعدين ﴿وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ أي مضطجعين عند العجز وقياماً وقعوداً حالان من ضمير الفاعل فى يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو عن هذه الاحوال فى الحديث من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات والأرض﴾ وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه وعن النبي عليه السلام بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفرلى فنظر الله إليه فغفر له وقال عليه السلام لا عبادة كالتفكر وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا﴾ أي يقولون ذلك وهو في محل الحال أي يتفكرون قائلين والمعنى ماخلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك وهذا إشارة إلى الخلق عى أن المراد به المخلوق أو إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً ﴿سبحانك﴾ تنزيها لك عن الوصف يخلق الباطل وهو اعتراض ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ الفاء دخلت إمنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ أهنته أو أهلكته أو فضحته واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين آمنوا معه في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد قلنا قال جابر إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً ﴿وَمَا للظالمين﴾ اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار ﴿مِنْ أَنصَارٍ﴾ من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين
﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً﴾ تقول سمعت رجلاً يقول كذا فتوقع الفعل على الرجل ونحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان والمنادي هو الرسول عليه السلام
آل عمران (١٩٣ _ ١٩٥)
أو القرآن ﴿يُنَادِى للإيمان﴾ لأجل الإيمان بالله وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من مناد ينادى للايمان ﴿أن آمنوا﴾ بأن آمنوا أو أى آمنوا ﴿بربكم فآمنا﴾ قال الشيخ أبو منصور رحمه الله فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان ﴿رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ كبائرنا ﴿وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا﴾ صغائرنا ﴿وتوفنا مع الأبرار﴾ مخوصين بصحبتهم معدودين فى جملتهم والأبرار المتمسكون بالسنة جمع بر أو بار كرب وأرباب وصاحب وأصحاب
﴿ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ أي على تصديق رسلك أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك أو على ألسنة رسلك وعلى متعلق بوعدتنا والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤتك يؤيده قوله ﴿وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة﴾
﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ أي أجاب يقال استجاب له واستجابه ﴿إني﴾ يأنى ﴿لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ﴾ منكم صفة لعامل ﴿من ذكر أو أنثى﴾ بيان لعامل ﴿بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ﴾ الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنوا آدم لو بعضكم من بعض في النصرة والدين وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين عن جعفر الصادق رضى الله عنه من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أتجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات ﴿فالذين هاجروا﴾ مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام ﴿وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم﴾ التي ولدوا فيها ونشئوا ﴿وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى﴾ بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين ﴿وقاتلوا وقتلوا﴾ وغروا المشركين واستشهدوا وقتّلوا مكي وشامي وقتلوا وقاتلوا على التقديم والتأخير حمزة وعلي وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر ﴿لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ وهو جواب قسم محذوف ﴿ثَوَاباً﴾ فى موضع المصدر
آل عمران (١٩٥ _ ١٩٩)
المؤكد يعني إثابة أو تثويباً ﴿مِنْ عِندِ الله﴾ لأن قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم ﴿والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب﴾ أي يختص به ولا يقدر عليه غيره
وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع فنزل ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد﴾
﴿متاع قَلِيلٌ﴾ خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم فى البلاد متاع قليل وأراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جهنم وبئس المهاد﴾ وساء مامهدوا لأنفسهم
﴿لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ﴾ عن الشرك ﴿لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ﴾ النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من جنات لتخصصها بالصفة والعامل اللام في لهم أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء ﴿مّن عند الله﴾ صفة له ﴿وَمَا عِندَ الله﴾ من الكثير الدائم ﴿خَيْرٌ لّلابْرَارِ﴾ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل لكن بالتشديد يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على عيسى عليه السلام فأسلموا
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله﴾ دخلت لام الابتداء على اسم إن لفصل الظرف بينهما ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من القرآن
آل عمران (١٩٩ _ ٢٠٠)
فى قوله أولئك يؤتون اجرهم مرتين ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ لنفوذ علمه في كل شيء
﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا﴾ على الدين وتكاليفه قال الجنيد رضى الله عنه الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع ﴿وَصَابِرُواْ﴾ أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً ﴿وَرَابِطُواْ﴾ وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو ﴿واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الفلاح البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ولعل لتغيب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال وقيل اصبروا في محبتي وصابروا في نعمتي ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتى قال النبى ﷺ اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
بسم الله الرحمن الرحيم
النساء (١)