ﰡ
مدنية، مائتان آية، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاث كلمات، أربعة عشر ألفا وتسعمائة وسبعة وثمانون حرفا
الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ أي الذي لا يموت ولا يزول الْقَيُّومُ (٢) أي القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه.
قال الكلبي والربيع بن أنس، ومحمد بن إسحاق: نزلت هذه الآيات في شأن وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخلوا المسجد حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات، وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم:
أحدهم: أميرهم واسمه عبد المسيح.
والثاني: مشيرهم وذو رأيهم واسمه الأيهم.
والثالث: حبرهم يقال له: أبو حارثة بن علقمة. فكلم الأيهم وعبد المسيح فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلما» قالا قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء:
إثباتكما لله ولدا، وعبادتكم للصليب، وأكلكما الخنزير». قالوا: إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه! وخاصموه صلّى الله عليه وسلّم في عيسى. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم: «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟». قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟».
قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟». قالوا: بلى. قال:
«فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟». قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟». قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله؟». قالوا:
لا. قال: «فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف يشاء فهل تعلمون ذلك؟» قالوا: بلى. قال:
«ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟». قالوا: بلى، قال: «ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة، ثم غذي
. فسكتوا، فأنزل الله تعالى من ابتداء السورة إلى آية المباهلة تثبيتا لما احتج به النبي عليهم
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن.
وقرئ قراءة شاذة بتخفيف نزل ورفع الكتاب بِالْحَقِّ أي بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره وفي وعده ووعيده، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله تعالى، أو بالقول الفصل وليس بالهزل ولا بالمعاني الفاسدة المتناقضة. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه من الكتب السالفة في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بشأنه تعالى وفي الأمر بالعدل والإحسان، وفي أنباء الأنبياء والأمم الخالية وفي بعض الشرائع. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ جملة على موسى بن عمران، وَالْإِنْجِيلَ (٣) جملة على عيسى ابن مريم مِنْ قَبْلُ أي من قبل تنزيل القرآن هُدىً لِلنَّاسِ أي حال كونهما هاديين من الضلالة، أو أنزل هذه الكتب الثلاثة لهداية الناس وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ قيل: المراد الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الداعية إلى الخير، الزاجرة عن الشر، الفارقة بين الحق والباطل، ثم المختار عند الفخر الرازي أن المراد من الفرقان هو المعجزات التي قرنها تعالى بإنزال هذه الكتب الثلاثة لأنه لما أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق دعوى الرسل حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي القرآن وغيره كوفد بني نجران ونحوهم بأن كذبوا بالآيات الناطقة بالتوحيد والتنزيه المبشّرة بنزول القرآن ومبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم بها وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغلب ذُو انْتِقامٍ (٤) أي عقوبة عظيمة. فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب. فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قصيرا أو طويلا، حسنا أو قبيحا، ذكرا أو أنثى، سعيدا أو شقيا. وهذه الآية واردة في الرد على النصارى. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين: بالعلم والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب فيقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، وصنعت في دارك كذا. وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فالإله يجب أن يكون حيا قيوما، وعيسى لم يكن كذلك. فيلزم القطع بأنه لم يكن إلها. ولما قالوا: إن عيسى أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. والمعنى لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل في الكتاب وعمدة ترد إليها آيات متشابهات. ومثال المتشابه قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
[الإسراء: ١٦]. فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا والمحكم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: ٢٨] ردا على الكفار فيما حكى عنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والآية المتشابهة قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: ٦٧]. والآية المحكمة قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. [مريم: ٦٤] وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي وآيات أخر محتملات لمعان متشابهة لا يتضح
أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذلك هو المحكم حقا.
وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره.
وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين
عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي وما يعلم تأويل المتشابه حقيقة إلا الله وحده. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يمكن لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالكتاب كُلٌّ أي كل واحد من المحكم والمتشابه مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والراسخ في العلم: هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا رأى شيئا متشابها ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى وقطع بأن ذلك المعنى على أي شيء كان فهو الحق والصواب، لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا أي وما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائفة- وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر- وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ويوافق اللغة والإعراب، ومن تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله تعالى. ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي لا تمل قلوبنا عن دينك بعد إذ هديتنا لدينك أو يقال: يا ربنا لا تجعل
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»
«١». رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) أي الوعد وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة فكأنهم قالوا: ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب، والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي إن الذين كفروا ككعب بن الأشرف وأصحابه وأبي جهل وأصحابه لن تنفعهم كثرة أموالهم وكثرة أولادهم. مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله أو عند الله شَيْئاً.
وقيل: إن المراد بهؤلاء وفد نجران. وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز: إني لأعلم أن محمدا رسول الله حقا وهو النبي الذي كنا ننتظره، ولكنني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عذاب الله في الدنيا والآخرة. نعم إن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ وَأُولئِكَ المتصفون بالكفر هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) أي حطب النار الذي تسعر به
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي شأن هؤلاء في تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من مكذبي الرسل كقوم هود وقوم صالح كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي المعجزات. ومتى كذبوا بها فقد كذبوا بالأنبياء بلا شك فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي عاقبهم الله بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل. وإنما استعمل الأخذ في العقاب لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ لا يقدر على التخلص وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
وعن سعيد بن جبير وعكرمة
: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هم يهود بني قينقاع سَتُغْلَبُونَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده بقتل بني قريظة، فقد قتل منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع، وأمر السياف بضرب أعناقهم، وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها. وبإجلاء بني النضير، وفتح خبير، وضرب الجزية على أهلها. وبالأسر على بعض كل. وَتُحْشَرُونَ في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ دلت الآية على حصول البعث في يوم القيامة والنشر والحشر وعلى أن مرد الكافرين النار وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) أي الفراش جهنم.
وقرأ حمزة والكسائي بالغيبة في الفعلين أي بلغهم أنهم سيغلبون ويحشرون. والباقون بالخطاب أي قل لهم في خطابك إياهم ستغلبون وتحشرون. والفرق بينهما أنه على الخطاب يكون الإخبار بمعنى كلام الله تعالى، وعلى الغيبة تكون بلفظه. قَدْ كانَ لَكُمْ أيها اليهود آيَةٌ أي علامة لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فِي فِئَتَيْنِ أي فرقتين الْتَقَتا بالقتال يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وهم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة ومن السيوف ثمانية، ومن الخيل فرسان للمقداد بن عمر ولمرثد بن أبي مرثد. وَأُخْرى كافِرَةٌ أي وجماعة أخرى كافرة بالله والرسول وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وكان في الرجال دروع سوى ذلك يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ أي يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا، وعشرين رأيا ظاهرا عيانا بالعين. في ذلك أنه تعالى كثّر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.
قال ابن عباس: يرون أنفسهم مثلي أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ نافع وأبان عن عاصم من السبعة، ويعقوب ترونهم بالخطاب. والمعنى ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة ومع ذلك غلبهم المؤمنون مع قلتهم جدا. فيكون هذا أبلغ في إكرام المؤمنين وعناية الله بهم وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ولو بدون الأسباب العادلة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في
العدد والعدة فإنكم ستغلبون. ثم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك القول فقال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا.
ثم قيل: روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في قوله، إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه. وأيضا روينا أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبيّن الله تعالى أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة وأن الآخرة خير وأبقى فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي الأشياء المشتهيات مِنَ النِّساءِ وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم وَالْبَنِينَ ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، خصّه الله تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم من حيث السرور بهم وغير ذلك.
وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والقنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. والقنطار واحد والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة. ومعنى القناطير المقنطرة أي الأموال المجموعة والأموال المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي المطهمة الحسان بأن تكون غرا محجلة وَالْأَنْعامِ وهي الإبل والبقر والغنم وَالْحَرْثِ أي المزروع ذلِكَ أي جميع ما سبق مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي منفعة للناس في الدنيا ثم تفنى. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) أي المرجع في الآخرة، وهو الجنة. قُلْ يا أشرف الخلق للكفار أو للناس عامة- وهو أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتفصيل ما أجمل أولا- في قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي زينة الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي تبتلوا إلى الله تعالى وأعرضوا عما سواه فلا تشغلهم الزينة عن طاعة الله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي عند ربهم بساتين تطرد من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والعسل واللبن والماء. خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي مهذبة من الحيض والنفاس والبصاق، والمني وتشويه الخلقة، وسوء العشرة والأخلاق الذميمة. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ ورضا ربهم أكبر مما هم فيه من النعيم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) أي بأحوال الذين اتقوا ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ في الدنيا رَبَّنا إِنَّنا
بك وبرسولك فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي استرها وتجاوز عنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) أي ادفع عنا ذلك الصَّابِرِينَ على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي وَالصَّادِقِينَ في أيمانهم وأقوالهم ونياتهم. وَالْقانِتِينَ أي المواظبين على العبادات.
وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل الله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) أي في أواخر الليل بأيّ صيغة كانت. وقيل: أي المصلين التطوع فيها، وأعظم الطاعات قدرا أمران:
أحدهما: الخدمة بالمال وإليه الإشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الشفقة على خلق الله»
والإشارة بقوله تعالى هنا: وَالْمُنْفِقِينَ.
وثانيهما: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «التعظيم لأمر الله»
. والإشارة بقوله تعالى هنا: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. شَهِدَ اللَّهُ أي بيّن لخلقه بالدلائل السمعية والآيات العقلية أَنَّهُ لا إِلهَ أي لا مستحقا للعبودية موجود إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد»
«١» وهذا يدل على أن الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. فشهادة الله تعالى على توحيده. هو أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم هي إقرارهم بتوحيده تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل في جميع أموره، وهذا بيان لكماله تعالى في أفعاله بعد بيان كماله في ذاته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) فالعزة في الملك تلائم الوحدانية. والحكمة في الصنع تلائم القيام بالقسط.
قال الكلبي قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالا له: أنت محمد؟ قال: «نعم».
قالا له: وأنت أحمد؟ قال: «أنا محمد وأحمد». قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك. فقال لهما: «سلا» «٢». قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأسلم الرجلان
. وفي المدارك: من قرأها عند منامه وقال بعدها:
أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي عنده وديعة، يقول الله يوم القيامة: إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فلا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة التي عليها
(٢) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (٥٧٧٧)، والبخاري في التاريخ الصغير (١: ١٥)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢١٦٧)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١: ٦٥).
وقرأ الكسائي بفتح همزة «أن» وهو إما بدل من أنه بدل كان من كل إن فسر الإسلام بالتوحيد نفسه أي بالإيمان بكونه تعالى واحدا. وبدل كل من بعض إن فسر الإسلام بالشريعة، فإنها تشتمل على التوحيد والعدل ونحوهما. أو معطوف على أنه بحذف حرف العطف، أو مبني على أن شهد واقع على أن الدين إما بإجراء أنه على التعليل، والتقدير شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو: إِنَّ الدِّينَ الآية. أو بإجرائه على قراءة ابن عباس وهو بكسره على جعل جملة «أنه» اعتراضا وعلى أن الدين من باب تقديم وتأخير، والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، وشهد بذلك الملائكة والنبيون والمؤمنون، أو بإجراء «شهد» مجرى قال، مع جعل «إن الدين» معمولا للحكيم، بإسقاط الجار، أي الحكيم بإن الدين. أما جعله بدل اشتمال من أنه فممتنع بذلك التفسير لأنه صار البدل أشمل من المبدل منه، ولأن شرط بدل الاشتمال أن يكون المخاطب منتظرا للبدل عند سماع المبدل منه وهنا ليس كذلك. ولا سيما أن هنا فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى في دين الإسلام وأنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش- لأنهم أميون- ونحن أهل الكتاب. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي لأجل الحسد الكائن بينهم وطلب الرياسة لا لشبهة وخفاء في الأمر وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بأن الدين عند الله هو الإسلام بأن لم يعمل بمقتضاها فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) أي فإن الله يجازيه على كفره عن قريب، فإنه يأتي حسابه عن قريب. فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصمك اليهود والنصارى في أن الدين عند الله الإسلام بعد قيام الحجة عليهم فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي أخلصت نفسي أو عملي لِلَّهِ لا أشرك به في ذلك غيره وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب: أَأَسْلَمْتُمْ أي فهل أسلمتم بعد أن أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام أم أنتم على الكفر؟
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟». فقالوا: معاذ الله. وقال صلّى الله عليه وسلّم للنصارى:
«أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟». فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدا
. فَإِنْ أَسْلَمُوا كما أسلمتم فَقَدِ اهْتَدَوْا للفوز والنجاة في الآخرة وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام والاتباع لدينك لم يضروك شيئا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلّغت ما جاءك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا جرم وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أي فأعلمهم بعذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟
قال: «رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» ثم قرأ هذه الآية ثم قال: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم»
«١».
قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء.
وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»
«٢» أُولئِكَ المتصفون بالصفات القبيحة الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت محاسن أعمالهم في الدارين أما بطلانها في الدنيا فبإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن وبما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ المال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم. وأما بطلانها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) من عذاب الله في إحدى الدارين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظا من علم التوراة- وهم العلماء- منهم النعمان بن عمرو والحرث بن زيد. كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ أي التوراة لِيَحْكُمَ أي كتاب الله بَيْنَهُمْ. وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض طائفة منهم بنو قريظة والنضير من أهل خيبر عن الحكم وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) أي مكذبون بذلك.
روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا في خيبر وكانا ذوي شرف، وكان في
(٢) رواه أبو داود في كتاب الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي في كتاب الفتن، باب:
١٣، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحمد في (م ٥/ ص ٣٤٧).
جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فقال له: «اقرأ» فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله. فرفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديين فرجما، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية
. ذلِكَ أي التولي والإعراض بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي لن تصيبنا في الآخرة إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي سبعة أيام وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ أي في ثيابهم على دينهم اليهودية ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) من قولهم ذلك وما أشبهه فَكَيْفَ صنعهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك في مجيئه وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ برة وفاجرة ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من ثواب أو عقاب وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) فلا ينقص أحد من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ.
روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم. فقال المنافقون- منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول- واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فنزلت هذه الآية.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خط الخندق في عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فذهب إليه، فجاء رسول الله وأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها- أي المدينة- كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر، وكبّر المسلمون، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أضاء لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية فقال: «أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم»، ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا» «١». فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الخوف فنزلت هذه الآية.
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى التعب: قال تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. وبمعنى العدد: قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: ١٠]. وبمعنى المطالبة: قال تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ [ص: ٣٩] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالا ولا اشتراكا مع المؤمنين وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضا فقط. واعلم أن كون المؤمن
مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله. وهذا ممنوع لأن الرضا بالكفر كفر.
وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر. وذلك غير ممنوع.
وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فهذا هو الذي هدد الله فيه بقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الموالاة مع الكافرين بالاستقلال أو بالاشتراك مع المؤمنين فَلَيْسَ أي الموالي مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ليس من ولاية الله في شيء يطلق عليه اسم الولاية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي لا تتخذوا الكافرين أولياء ظاهرا، أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم
روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. قال الحسن: أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، نعم، نعم. فقال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه. ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال:
أفتشهد أني رسول الله؟ فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه»
. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي ذاته المقدسة في التقية عن دم الحرام، وفرج الحرام، ومال الحرام، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والشرك بالله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) أي المرجع فاحذروه ولا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه. والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي ما في قلوبكم من البغض والعداوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه بالشتم له والطعن والحرب يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يحفظه الله عليكم فيجازيكم به وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخير والشر والسر والعلانية وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم قَدِيرٌ (٢٩) نزلت هذه الآية في حق المنافقين واليهود يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي مكتوبا في ديوانها وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي من قبيح تجده مكتوبا في ديوانها تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً أي والذي عملته نفس من سوء تتمنى تباعدا ما بين النفس وبين السوء مكانا بعيدا- كما بين المشرق والمغرب- لو أن بينها وبينه أجلا طويلا من مطلع الشمس إلى مغربها لفرحت بذلك. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ عند المعصية ذكر الله تعالى هذا أولا: للمنع من موالاة الكافرين. وثانيا: للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) أي المؤمنين، أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي أي فاتبعوا ديني فإنكم إذا اتبعتم ديني فقد أطعتم الله فالله تعالى يحب كل من أطاعه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي إن اتبعتم شريعتي يرض الله عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما سلف من ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) لمن يتحبب إليه بطاعته. نزلت هذه الآية في حق اليهود لقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه.
وقال الضحاك عن ابن عباس: وقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد
«يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل». فقالت قريش: إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية.
وقيل: إن نصارى نجران قالوا: إنما نعظم المسيح حبا لله، فنزلت هذه الآية. ولما نزلت قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى المسيح. وقالت اليهود: يريد محمد أن نتخذه ربا حنّانا كما اتخذت النصارى عيسى حنّانا فأنزل الله بسبب قولهم قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أي في جميع الأوامر والنواهي. أي إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعتهما فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) أي اليهود والمنافقين الذين ألقوا شبهة في الدين. فلما نزلت هذه الآية قالت اليهود: نحن على دين آدم مسلمين فأنزل الله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق، والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَآلَ عِمْرانَ موسى وهارون. وقيل: عيسى وأمه. حكاه الكرماني ورجحه ابن عساكر والسهيلي.
عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) أي على أهل رمان كل واحد منهم بالإسلام وبالخصال الحميدة ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض في النسب.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ (٣٤) بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويقال: والله سميع لمقالة اليهود نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه وعلى دينه. ولمقالة النصارى المسيح ابن الله عليم بعقوبتهم. واذكر يا محمد إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ حنة بنت فاقوذا أم مريم حين شاخت وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا، فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم ومات عمران، فلما عرفت بالحمل قالت يا رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ أن أجعل لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله ومخلصا للعبادة وخادما لمن يدرس الكتاب ويعلم في مسجد بيت المقدس فَتَقَبَّلْ مِنِّي أي خذ مني ما نذرته على وجه الرضا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لتضرعي ودعائي وندائي. الْعَلِيمُ (٣٥) بما في ضميري وقلبي ونيتي. فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت المنذورة التي في بطنها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أي ما في بطني أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ.
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «وضعت» بضم التاء على حكاية كلامها، وإنما قالت ذلك للاعتذار ولإزالة الشبهة التي في قولها: «إني وضعتها أنثى»، فإنها خافت أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى. وقرأ الباقون بسكون التاء أي إنه تعالى قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ تعظيما لولدها وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد. والمعنى والله أعلم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسن وأفضل من الذكر، وهي غافلة عن ذلك، فلذلك تحسرت. وقرأ ابن عباس: «والله أعلم بما
الشيطان اللعين فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ بأن اختص الله تعالى مريم بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل أنثى قبلها أو بأن أخذها الله من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وقالت: خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح، فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فقالت الأحبار: لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر حار في حلب يقال له: قرمق فألقوا فيها أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح، وعلى كل قلم اسم صاحبه، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي رباها الله بما يصلحها في جميع أحوالها وغذاها بالسنين والشهور والأيام غذاء حسنا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعله الله مربيا لها وضامنا لمصالحها، وقائما بتدبير أمورها ولما أخذها بنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا وهو من ذرية سليمان بن داود الْمِحْرابَ أي الغرفة وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي فاكهة الشتاء في الصيف مثل القصب، وفاكهة الصيف في الشتاء مثل العنب ولم ترضع ثديا قط بل يأتيها رزقها من الجنة.
قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أتاني به جبريل من الجنة فتكلمت وهي صغيرة في المهد، كما تكلم ولدها عيسى عليه السلام وهو صغير في المهد. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) أي بغير تقدير لكثرة الرزق من غير مسألة في حينه وفي غير حينه هُنالِكَ أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم وشاهد تلك الكرامات، أو في ذلك الوقت الذي رأى
قرأ ابن عامر وحمزة «إن» بكسر الهمزة. والباقون بالفتح مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى ابن مريم. ومعنى كونه كلمة من الله كونه مخلوقا بلا أب.
قال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدّق بأنه كلمة الله، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة وَسَيِّداً أي رئيسا للمؤمنين في العلم والحلم والعبادة والورع. قال ابن عباس: أي حليما عن الجهل. وقال مجاهد: أي كريما على الله وَحَصُوراً أي مانعا من النساء للعفة والزهد لا للعجز وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) أي من المرسلين قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي قال زكريا لجبريل: يا سيدي من أين يكون لي ولد وقد أدركني كبر السن وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أي عقيم لا تلد؟. قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشّر بالولد ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته إيشاع بنت فاقوذ بنت تسعين وثمان قالَ أي جبريل: كَذلِكَ أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما وأنتما على حالكما من الكبر اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) من الأفاعيل الخارقة للعادة
قالَ أي زكريا: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة في حبل امرأتي.
قالَ أي الله تعالى: آيَتُكَ أي علامتك في حبل امرأتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير خرس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ متوالية بلياليها إِلَّا رَمْزاً أي إلا تحريكا بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين وَاذْكُرْ رَبَّكَ باللسان والقلب في مدة الحبسة عن كلام الدنيا مع الخلق شكر الله تعالى على هذه النعمة كَثِيراً أي ذكرا كثيرا على كل حال وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) أي صل عشيا وغدو كما كنت تصلي وَاذكر إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل لمريم مشافهة: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ بتفرغك لعبادته وتخصيصك بأنواع اللطف والهداية، والعصمة والكفاية في أمر المعيشة وسماع كلام جبريل شفاها وَطَهَّرَكِ من المعصية ومسيس الرجال ومن الأفعال الذميمة ومن مقالة اليهود وتهمتهم. ويقال: أنجاك من القتل وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) بولادة عيسى من غير أب ونطقه حال انفصاله من مريم حتى شهد ببراءتها عن التهمة.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة،
«١». يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي دومي على طاعته بأنواع الطاعات شكرا لذلك. ويقال: أطيلي القيام في الصلاة شكرا لربك وَاسْجُدِي أي صلي منفردة وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أي صلي مع أهل الصلاة في بيت المقدس- فإن اقتداء النساء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء- قال المفسرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات على مريم شفاها قامت مريم في الصلاة ورمت قدماها وسال الدم والقيح من فمها.
ذلِكَ الذي مضى ذكره من حديث حنة ومريم وزكريا مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار الغائب عنك يا محمد نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نرسل جبريل بإلقاء الغائب إليك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند الذين تنازعوا في تربية مريم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي كانوا يكتبون بها الكتب في جري الماء ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أي أيّ أحدهم يربي مريم. وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) أي وما كنت هناك إذ يتقارعون تربية مريم وإذ يختصمون بسببها إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون مخلوقا بكلمة من الله أي من غير واسطة الأسباب العادية فإن عيسى من كل علوق وإن وجد بكلمة كن لكنه بواسطة أب اسْمُهُ أي الولد الْمَسِيحُ سمي بالمسيح لأنه يسيح في البلدان ولأنه ما مسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه. عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وإنما نسبه الله تعالى إلى الأم إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته. وَجِيهاً أي ذا جاه وشرف فِي الدُّنْيا بالنبوة وبإحياء الموتى وبإبراء الأكمه والأبرص بسبب دعائه وَالْآخِرَةِ بجعله شفيع أمته وبقبول شفاعته فيهم، وبعلو درجته عند الله تعالى وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) إلى الله في جنة عدن وهذا الوصف كالتنبيه على أن عيسى سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حجر أمه وهو ابن أربعين يوما بقوله: إني عبد الله وَكَهْلًا أي بعد ثلاثين سنة أي أن عيسى يكلم الناس مرة واحدة في حجر أمه لإظهار طهارة أمه من الفاحشة، ثم عند الكهولة يتكلم بالنبوة وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) أي من المرسلين.
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي قالت مريم لجبريل: يا سيدي من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالحلال ولا بالحرام- لأن المحررة لا تتزوج أبدا كالذكر المحرر- قالَ أي جبريل:
كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منك بلا أب اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد خلق شيء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لا غير فَيَكُونُ (٤٧) من غير ريث فنفخ جبريل في جيب درعها فوصل نفسه إلى فرجها فدخل رحمها فحملت منه وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ.
قرأ نافع وعاصم «يعلمه» بالياء معطوف على الحال وهي قوله: «وجيها» - فكأن جبريل
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي
أي كلهم. وقيل:
هو معطوف على الأحوال السابقة كأنه قيل: حال كونه وجيها ورسولا. وقرئ ورسول بالجر عطفا على كلمة والمعتمد عند الجمهور أن عيسى إنما نبىء على رأس الأربعين وأنه عاش في الأرض قبل رفعه مائة وعشرين سنة وهو آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن أولهم يوسف بن يعقوب أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بفتح الهمزة مجرور بالياء المقدرة التي للملابسة المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر لما فيه من معنى النطق والتقدير، فلما جاءهم قال لهم: إني رسول الله فيكم ملتبسا بأني قد جئتكم بِآيَةٍ أي بعلامة على صدقي في الرسالة مِنْ رَبِّكُمْ قالوا: وما هي؟ قال:
هي أَنِّي أَخْلُقُ أي أصوّر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي شيئا مثل صورة الطير فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في فم ذلك المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ أي فيصير طَيْراً حيا يطير بين السماء والأرض بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره تعالى. فطلبوه بخلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين ساعة بعد المغرب وساعة بعد طلوع الفجر، والأنثى منه لها ثدي وتحيض وتطهر وتلد، فلما صور لهم خفاشا قالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ بالدعاء أي وأصحح الذي ولد أعمى أو الممسوح العينين وَالْأَبْرَصَ وهو الذي في جلده بياض شديد فلما فعل ذلك قالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟
قال: نعم وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ أي بالاسم الأعظم وهو «يا حي يا قيوم» فأحيا أربعة أنفس: أحيا عازرا بعد موته بثلاثة أيام حتى عاش وولد له. وأحيا ابن العجوز وهو ميت محمول على السرير فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله وعاش وولد له. وأحيا بنت العاشر- أي الذي يأخذ العشور من الناس- بعد يوم من موتها فعاشت وولد لها، فقالوا: لعيسى: إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا حقيقة بل أصابهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح وهو قد مضى من موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقام على قبره فدعا الله باسمه الأعظم فقام من قبره وقال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله ومات في الحال فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟
قال: نعم وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ غدوة وعشية وَما تَدَّخِرُونَ أي ترفعون من غداء لعشاء ومن عشاء لغداء فِي بُيُوتِكُمْ مما لم أعاينه إِنَّ فِي ذلِكَ أي في ما قلت لكم من هذه الخمسة لَآيَةً أي لمعجزة قوية دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) أي مصدقين انتفعتم بها وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ أي لما قبلي مِنَ التَّوْراةِ وبين موسى وعيسى
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وإنما أظهر سيدنا عيسى الخضوع، وأقر بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا: إنه إله وابن إله لأن إقراره بالعبودية لله يمنع مما تدعيه جهال النصارى عليه فَاعْبُدُوهُ أي لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، أي لما كان الله تعالى رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالتوحيد. وقوله:
فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى أن استكمال القوة العملية بالطاعة هذا أي الجمع بين التوحيد والعبادة صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) أي دين قائم يرضاه الله تعالى- وهو الإسلام- ونظير
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قل آمنت بالله ثم استقم» «١» لرجل قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي فلما سمع عيسى بأذنه من بني إسرائيل تكرار الكفر وطلبوا قتله لأنهم كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشّر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم. قالَ لأصفياء أصحابه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من أنصاري حال التجائي إلى الله؟ ويقال: من أعواني؟ - مع الله على أعدائه- قالَ الْحَوارِيُّونَ أي القصارون أي الذين يبيضون الثياب نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي نحن أعوانك مع الله على أعدائه. قيل: كانوا تسعة وعشرين. سمي منهم قطرس ويعقوب ولحيس وإيدارانيس، وقيلس وابن تلما، ومتنا وبوقاس ويعقوب بن حليفا، وبداوسيس، وقياسا، وبودس وكدمابوطا، وسرجس وهو الذي ألقى عليه شبهه. أخرج ذلك ابن جرير عن ابن إسحاق. وقيل: كان الحواريون اثني عشر رجلا آمنوا بعيسى عليه السلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا: جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان. وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون. فقالوا: من أفضل منا؟ قال عليه السلام: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة، فسموا حواريين، أي إن اليهود لما طلبوا عيسى عليه السلام للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم: آمَنَّا بِاللَّهِ فهذا استئناف يجري مجرى العلة لما قبله.
وقال ابن عباس: فاكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه أو فاكتبنا مع محمد وأمته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة وَمَكَرُوا أي أراد اليهود قتل عيسى وَمَكَرَ اللَّهُ أي أراد الله قتل صاحبهم تطيانوس. وقيل: مكرهم بعيسى همهم بقتله، ومكر الله تعالى بهم رفع عيسى إلى السماء. وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل لا يفارقه ساعة، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقي شبهه على غيره فأخذ وصلب. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) أي أقوى المريدين ويقال: أفضل الصانعين.
روي عن ابن عباس أن ملك بني إسرائيل اسمه يهوذا لما قصد قتل عيسى أمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم يقال له تطيانوس: ادخل عليه فاقتله. فدخل البيت فلم ير عيسى فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه، فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! فوقع بينهم قتال عظيم إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفي أجلك المسمى وعاصمك من أن يقتلك الكفار وَرافِعُكَ إِلَيَّ من الأرض إلى محل كرامتي وإلى محل ثوابك وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك أي منجيك منهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ أي الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله والذين صدقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وهم اليهود بالحجة والسيف، والقهر والسلطان، والاستعلاء والنصرة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإن ملك اليهود قد ذهب فلم تبق لهم قلعة ولا سلطان، ولا شوكة في جميع الأرض بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة، وملك النصارى باق قائم إلى قريب من قيام الساعة فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود. وذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء فشمسوهم وعذبوهم فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته. ثم
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ بالموت والخطاب لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) أي تخاصمون في الدين فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والجزية والذلة وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) أي مانعين من عذاب الله في الدنيا والآخرة وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله والكتاب وبنبوة عيسى وبنبوة محمد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي فيوفرهم أجورهم وأعمالهم في الجنة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) أي لا يريد إيصال الخير إلى المشركين.
وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء والفاعل راجع إلى الله. والباقون بالنون ذلِكَ أي خبر عيسى نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي ننزل عليك جبريل به مِنَ الْآياتِ أي من آيات القرآن أو من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) أي الذي ينطق بالحكمة أو المحكم فإن القرآن ممنوع من تطرق الخلل إليه.
وروي أنه حضر وفد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا وتسبه فقال: «من هو؟» قالوا: عيسى. قال: «وما أقول» قالوا: تقول إنه عبد، قال: «أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول». فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب ومن لا أب له فهو ابن الله ثم خرجوا من عنده صلّى الله عليه وسلّم فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي إن صفة تخلق عيسى في تقدير الله وحكمه بلا أب كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفة قالب آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ بلا أب وأم ثُمَّ قالَ لَهُ أي لآدم كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) أي نفخ فيه الروح.
وكذلك عيسى قال له: كن من غير أب فكان ولدا بلا أب، فإذا كان آدم كذلك ولم يكن ابنا لله فكذلك عيسى فمن لم يقر بأن الله خلق عيسى من غير أب مع إقراره بخلق آدم بغير أب وأم فهو خارج عن طور العقلاء. وأيضا إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب فجواز خلق الله تعالى عيسى من دم مريم من باب أولى فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب إلى العقل من تولده من التراب اليابس. الْحَقُّ أي الذي أنزل عليك من خبر عيسى أنه لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه هو مِنْ رَبِّكَ والباطل من النصارى واليهود فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت
ثم ذكر الله تعالى خصومة وفد نجران مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما بين لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فقالوا: ليس كما تقول: إن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه فقال الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ أي خاصمك من نصارى نجران فِيهِ أي في شأن عيسى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدلائل الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا أي نخرج بأنفسنا وَأَنْفُسَكُمْ أي اخرجوا بأنفسكم ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نجتهد في الدعاء ونخلصه أو نلاعن بيننا وبينكم فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ فيما بيننا عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) على الله في حق عيسى وهم من يقولون: إن عيسى ابن الله أو أنه إله.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم» فقالوا يا أبا القاسم: حتى نرجع فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غدا فلما رجعوا إلى قومهم قالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال:
والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا الإقامة عفى دينكم والإصرار على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد خرج من بيته إلى المسجد، وعليه مرط من شعر أسود، محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول لهؤلاء الأربعة: «إذا دعوت فأمنوا». فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها ولو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا، ثم قالوا يا أبا القاسم: رأينا أنا لا نباهلك وأن نثبت على ديننا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين». فأبوا، فقال: «إني أناجزكم القتال» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة. ألفا في صفر وألفا في رجب. وثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح فصالحهم رسول الله على ذلك
. إِنَّ هذا الذي ذكرت من الدلائل التي دلت على أن عيسى لم يكن الله ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ دون أكاذيب النصارى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ بلا شريك ولا ولد ولا زوجة وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمنع القادر على جميع المقدورات الْحَكِيمُ (٦٢) أي العالم بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العزيز الحكيم هاهنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى القدرة على الإحياء ونحوه
وقيل: نزلت في حق يهود المدينة. وقيل: نزلت في شأن الفريقين وذلك لما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود، واختصموا في دين إبراهيم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وأنهم على دينه، وأولى الناس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا ونحن على دينه وأولى الناس به.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه. بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» «١» فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى:
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي يا معشر اليهود والنصارى: هلموا إلى قصة عادلة مستقيمة بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب فإذا آمنا نحن وأنتم بها كنا على السواء والاستقامة، ثم فسر الكلمة بقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أي أن نوحده بالعبادة ونمحضه بها وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نعتقده أهلا لأن يعبد وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع أحد منا أحدا من الرؤساء في معصية الله تعالى وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله لأنهما بشران مثلنا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أبوا إلا الإصرار على الشرك فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) أي فأظهر
أنت والمؤمنون بأنكم على هذا الدين وقولوا: اعترفوا بأنا مقرون بالتوحيد والعبادة لله تعالى دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي لم تخلطون المنزل من التوراة بالمحرف من عندكم كما نقل عن الحسن وابن زين أو لم تشككون الناس بإظهار الإسلام بالتواضع أول النهار، ثم بالرجوع عنه في آخر النهار كما نقل عن ابن عباس وقتادة.
وقرئ «تلبسون» بتشديد الباء. وقرأ يحيى بن وثاب «يلبسون» بفتح الياء أي تكتسون الحق مع الباطل وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وتعلمون أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم أي أنتم أرباب العلم والمعرفة. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم اثنا عشر حبرا من أحبار يهود خيبر لسفلتهم منهم عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحرث وكعب وأصحابه من الرؤساء آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد أي آمنوا ببعض القرآن أي بالقبلة التي صلى إليها محمد وأصحابه وَجْهَ النَّهارِ أي أوله. وهو صلاة الفجر. وَاكْفُرُوا بالقبلة الأخرى التي وصلوا إليها آخِرَهُ صلاة الظهر فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة، ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم. فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة عند صلاة الظهر شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف لأصحابهما: آمنوا بالذي أنزل على محمد في شأن القبلة وصلوا إليها أول النهار، ثم ارجعوا إلى قبلتكم وصلوا إلى الصخرة آخر النهار لَعَلَّهُمْ أي أصحابه العوام يَرْجِعُونَ (٧٢) عن دينه وقبلته وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه على متابعته أي غرضهم بالإتيان بذلك التلبيس إبقاء أتباعهم على دينهم. أو المعنى لا تصدقوا بالنبوة إلا من وافق دينكم اليهودية وقبلتكم بيت المقدس فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إن الدين دين الله وهو الإسلام، والقبلة قبلة الله وهي الكعبة. أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وهذا من جملة كلام الله تعالى فلا تنكروا يا معشر اليهود أن يعطى أحد سواكم من الدين والقبلة مثل ما أعطيتموه أو أن يحاجج المسلمون إياكم بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم.
وقرأ ابن كثير أن «يؤتى» بهمزتين مع قصر الأولى، وتسهيل الثانية على الاستفهام الذي للإنكار والتوبيخ. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه. وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر، وغاية ما في هذا الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار مادة الإنكار لأن عليه دليلا وهو قوله تعالى: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان الأمر كذلك لزم ترك
أحدهما: أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام، فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر.
وثانيهما: أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أي كامل القدرة فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء عَلِيمٌ (٧٣) أي كامل العلم فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس من النبوة والرسالة والدين مَنْ يَشاءُ محمدا وأصحابه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بغير تعب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بل يستحله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي مطالبا مخاصما ككعب بن الأشرف وأصحابه.
قال ابن عباس: أودع رجل قرشي عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه.
وأودع قرشي آخر فنحاص بن عازوراء فخانه، فنزلت هذه الآية.
تنبيه: معنى الباء إلصاق الأمانة كما، أن معنى على في قولك أمنته على كذا، استعلاء الأمانة، فمن ائتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به، وصار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ذلك الاستحلال والخيانة مستحق بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. أي قدرة على المطالبة والإلزام فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا. أو المعنى ليس علينا في أخذ أموال العرب سبيل أي إثم فإنهم قالوا: أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم. وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(٧٥) أي إنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش بَلى على اليهود في العرب سبيل وهذا رد على اليهود ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ فيما بينه وبين الله أو بينه وبين الناس وَاتَّقى عن نقض العهد بالخيانة وترك الأمانة فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦). وهذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن
وقيل: نزلت في شأن الأشعث بن قيس كان بينه وبين رجل خصومة في أرض وبئر اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال للرجل: «أقم بيّنتك». فقال: ليس لي بيّنة، فقال للأشعث: «فعليك باليمين» «١». فهمّ الأشعث باليمين. فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم، واعترف بالحق وهذا قول ابن جريج
. وقيل: نزلت في شأن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب، وأبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق بدلوا نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة وأخذوا الرشوة على ذلك وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا- كما قاله عكرمة- أو كتبوا بأيديهم كتابا في ادعائهم أنه ليس علينا في الأميين سبيل وحلفوا أنه من عند الله- كما قاله الحسن- وهذه الآية دلت على أنها نزلت في أقوام حلفوا بالأيمان الكاذبة فتحمل على جميع الروايات. وَإِنَّ مِنْهُمْ أي من اليهود لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي طائفة يحرّفون اللفظة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة- حركات الإعراب- تحريفا يتغير به المعنى. وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وشعبة بن عمير لِتَحْسَبُوهُ.
وقرئ شاذة بالياء مِنَ الْكِتابِ أي لكي يظن السفلة أو المسلمون أن المحرف من التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر وفي اعتقادهم وَيَقُولُونَ هُوَ أي المحرف مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي موجود في كتب سائر الأنبياء مثل شعياء وأرخياء وحيفوف وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، والأذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى
وقال ابن عباس: لما قالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله نزلت هذه الآية. وقال أيضا- في مقالتهم-: نحن على دين إبراهيم وأمرنا هو بهذا الدين. وقال ابن عباس وعطاء: إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريد أن نعبدك ونتّخذك ربا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» «١». فنزلت هذه الآية.
وقيل: قال رجل يا رسول الله: نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله». فنزلت هذه الآية
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي ولكن يقول ذلك البشر الذي رفعه الله إلى أعلا المراتب كونوا علماء عاملين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ.
قرأ عبد الله ابن كثير وأبو عمرو ونافع بفتح التاء وسكون العين. والباقون بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة. أي تعلمون الناس من الكتاب وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) أي وبسبب كونكم تقرؤون من الكتاب وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً.
قرأ عاصم وحمزة وابن عامر «يأمركم» بفتح الراء، والفاعل ضمير يعود على البشر و «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي، أي ما كان لبشر أن يجعله الله نبيا، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف، كما يدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: «ولن يأمركم» والفاعل حينئذ ضمير يعود على «الله» - كما قاله
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ أي أعطيناكم.
قرأ نافع «آتيناكم» بالنون على التفخيم ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام. وقرأ حمزة بكسر اللام. وقرأ سعيد ابن جبير «لما» مشددة. أما القراءة بالفتح ف «لما» وجهان «ما» هو اسم موصول مرفوع بالابتداء وخبره قوله:
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وإما هو متضمن لمعنى الشرط ف «اللام» في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي المتلقية للقسم أما اللام في «لما» هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى وهذا اختيار سيبويه والمازني والزجاج. وقال أبو السعود واللام في «لما» موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، و «ما» تحتمل الشرطية. و «لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية، وأما القراءة بكسر اللام فلأنها للتعليل، وإما مصدرية أو موصول. وأما قراءة «لما» بالتشديد فإما هي بمعنى حين أو لمن أجل
ما، على أن أصله لمن ما، وأما معنى «وإذ أخذ الله» فقال ابن جرير الطبري: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين.
وقال الزجاج: واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيين. والمقصود بهذه الآية أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس.
وقيل: إنما أخذ الله الميثاق من النبيين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن يبين بعضهم لبعض صفة محمد وفضله، وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي. وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيا- آدم فمن بعده- إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه. وقيل: إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم يؤمنون به وينصرونه- وهذا قول كثير من المفسرين- والمراد من قوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمراد بكونه مصدقا لما معهم هو أن كيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان
أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان به والنصرة له وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم على ما قلت عهدي قالُوا أي النبيون: أَقْرَرْنا بذلك. قالَ الله تعالى: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا من الشاهدين فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أي من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول بنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الخارجين عن الإيمان أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) والوجه في هذه الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد، فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين دينا غير دين الله، ومعبودا سوى الله تعالى، ثم بيّن أن الإعراض عن حكم الله تعالى مما لا يليق بالعقلاء فقال: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لجلال الله تعالى لا لغيره انقاد في طرفي وجوده وعدمه، لأن كل ما سوى الله ممكن لذاته وكل ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه سواء كان عقلا أو نفسا، أو روحا أو جسما أو جوهرا، أو عرضا، أو فاعلا أو فعلا. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: ١٥] فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من الفقر والمرض والموت وما أشبه ذلك. أما الكافرون فهم منقادون لله تعالى كرها على كل حال لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ويخضعون له تعالى في غير ذلك كرها لأنه لا يمكنهم دفع قضائه تعالى وقدره. وأيضا كل الخلق منقادون لإلهيته تعالى طوعا بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥] ومنقادون لتكاليفه تعالى وإيجاده للآلام كرها، ثم الهمزة للاستفهام التوبيخي وموضعها لفظة يبغون، والتقدير: أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال الحوادث. وقرأ حفص عن عاصم «يبغون» و «يرجعون» بالياء على الغيبة فيهما. أي إنما ذكر الله تعالى حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلما أصروا على كفرهم قال تعالى على جهة الاستنكار: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ. وقرأ أبو عمرو «تبغون» بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكفار، و «يرجعون» بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب فيهما لأن ما قبلهما خطاب كقوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر: أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له تعالى من في السموات والأرض وأن مرجعكم إليه. وهو كقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ
[آل عمران: ١٠١] ولما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين الله تعالى من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم كونه مصدقا لما معهم فقال: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو القرآن وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ من الصحف. والمراد بالأسباط أحفاد يعقوب وأبناؤه الاثنا عشر وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ من الكتب والمعجزات لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي نقرّ بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله ولا نكفر بأحد منهم كما فعل اليهود والنصارى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة لا لسمعة ورياء وطلب مال وتلك صفة المؤمنين بالله والكافرون يوصفون بالمحاربة لله، ولما قال تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بين أن الدين ليس إلا الإسلام فقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) بحرمان الثواب وحصول العقاب ولحوق التأسف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وعلى ما تحمله من التعب في الدنيا في تقرير الدين الباطل. ولفظ «دينا» إما مفعول و «غير الإسلام» حال منه مقدم عليه أو تمييز أو بدل من غير كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا أي كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر بَعْدَ إِيمانِهِمْ بالقلب وَشَهِدُوا أي والحال هم قد أقروا باللسان أَنَّ الرَّسُولَ محمدا صلّى الله عليه وسلّم حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة على صدق النبي وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أي الكافرين الأصليين والمرتدين.
وهذه الآية نزلت في شأن الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وهم اثنا عشر رجلا، منهم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت، ووضوح بن الأسلت، وطعيمة بن بيرق. كما أخرجه عكرمة وابن عساكر. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) فإن لعنة الله هي الإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة، واللعنة من الملائكة والناس هي بالقول وكل ذلك مستحق لهم بسبب كفرهم، فصلح أن يكون جزاء لذلك وجميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في ذلك أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وهو في علم الله كافر فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك. خالِدِينَ فِيها أي اللعنة فلا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لا عن من هؤلاء لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) أي لا يؤخر عذابهم من وقت إلى وقت إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكفر مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الارتداد وَأَصْلَحُوا باطنهم وظاهرهم بالعمل الصالح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لقبائحهم في الدنيا بالستر رَحِيمٌ (٨٩) في الآخرة بالعفو. نزلت هذه الآية في شأن الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار فإنه لما لحق مكة مرتدا ندم على ردته فأرسل إلى قومه بالمدينة أن يسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله والرسول وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ بالله والرسول فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ أي مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ.
وجاهكم في معاونة الناس وبدنكم في طاعة الله ومهجتكم في سبيله وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ تريدون به وجه الله أو مدحة الناس فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) هذا تعليل للجواب المحذوف أي فيجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عالم بكل شيء تنفقونه من ذاته وصفاته علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء كُلُّ الطَّعامِ أي كل طعام حلال على محمد وأمته كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كان حلالا أكله على أولاد يعقوب إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي يعقوب عَلى نَفْسِهِ بالنذر مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى وذلك بعد إبراهيم بألف سنة.
روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها»
«١». قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى- كما يفعله كثير من الزهاد- فعبّر عن ذلك الامتناع بالتحريم.
وروي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تدّعي أنك على ملة إبراهيم فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن
. أي فالحرمة عليهم ناشئة من نذره أيضا. فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وباستخراج آية منها تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام، فعجزوا عن ذلك، فظهر أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) في دعواكم بأن التحريم قديم. قال تعالى: فَمَنِ افْتَرى
أي اختلق عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بادعاء أنه تعالى حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل وعلى من قبلهم من الأمم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم فَأُولئِكَ
المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال هُمُ الظَّالِمُونَ
(٩٤) المستحقون لعذاب الله قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي ملة الإسلام التي هي الأصل ملة إبراهيم لأنها ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائغة كلها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) في أمر من أمور دينه فإنه لم يدع مع الله إلها آخر ولم يعبد سواه كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود في ادعاء أن عزيرا ابن الله. وكما فعله النصارى في ادعاء أن المسيح ابن الله. ولما حوّل صلّى الله عليه وسلّم القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا: إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، لأنه وضع قبل الكعبة وتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل. فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ أي إن أول بيت بني لعبادات الناس للبيت الذي هو ببكة، سميت مكة بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، أي يزدحمون في الطواف.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما فقال: «أربعون سنة»
«١». أي أن آدم بنى الكعبة ثم بنى الأقصى وبين بنائهما أربعون سنة. مُبارَكاً أي ذا بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) أي قبلة لكل نبي ورسول، وصدّيق ومؤمن يهتدون بذلك البيت إلى جهة صلاتهم وذلك لأن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: ٥٨]. فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بدّ لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس
قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم، وقال: «إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا» «١». فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله
: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي ومن ترك اعتقاد وجوب الحج فإن الله غني عنه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) أي لم تكفرون بآيات الله دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجترئوا على الكفر بآياته. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ أي لم تصرفون عن دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو ملة الإسلام. من آمن بالله وبمحمد وبالقرآن بإضلالكم لصفة المسلمين تَبْغُونَها عِوَجاً أي تطلبون للسبيل زيفا لأنكم قلتم النسخ يدل على البدء. وقولكم: ورد في التوراة إن شريعة موسى باقية إلى الأبد وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أن في التوراة أن دين الله هو الإسلام لا يقبل غيره وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) فإنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ أي كيف يوجد منكم الكفر والحال أن القرآن الذي فيه بيان الحق من الباطل يتلى عليكم على لسان نبيكم غض طري، ومعكم رسول الله الذي يبين الحق ويدفع الشبه.
روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون وقد زال ما
كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهود، فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث وهو موضع في المدينة، وكان يوم بعاث يوما اقتتل فيها الأوس والخزرج قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بمائة وعشرين سنة وكان الظفر فيه للأوس. وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار، فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فوصل الخبر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال: «أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألّف بين قلوبكم». فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. قال الإمام الواحدي: اصطفوا للقتال. فنزلت الآية إلى قوله تعالى
: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي من يستمسك بكتاب الله وهو القرآن فَقَدْ هُدِيَ أي فقد حصل له الهدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) أي إلى طريق موصل إلى المطلوب.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق معاذ وأصحابه، ثم نزل في أوس وخزرج لخصومة كانت بينهم في الإسلام افتخر فيهم ثعلبة بن غنم وأسعد بن زرارة بالقتل والغارة في الجاهلية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أي كما يجب أن يتقى وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كما في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. ويقال: أطيعوا الله كما ينبغي. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) لفظ النهي واقع على الموت. والمقصود الأمر بالإقامة على الإسلام أي ودوموا على الإسلام إلى الموت وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم»
«١». وَلا تَفَرَّقُوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم لأن الحق لا يكون إلا واحدا وما عداه يكون ضلالا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نعمة دنيوية وأخروية إِذْ كُنْتُمْ في الجاهلية أَعْداءً يبغض بعضكم بعضا ويحارب بعضكم بعضا فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أي قذف الله فيها المحبة بتوفيقكم للإسلام فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أي فصرتم بدينه الإسلام إِخْواناً في الدين وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي على طرفها، أي وكنتم قريبين من الوقوع في نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها. فليس بين الحياة والموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء الذي هو مثل الحياة، وبين ذلك الشيء الذي هو مثل الموت فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي فأنجاكم من تلك الحفرة بأن هداكم للإسلام كَذلِكَ أي مثل البيان المذكور يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) أي لكي تهتدوا من الضلالة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتوجد منكم جماعة يقتدي بها فرق الناس يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ فأفضل الدعوة هي دعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والآمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجبا فواجب، وإن كان مندوبا فمندوب وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فالنهي عن الحرام واجب كله لأن تركه واجب وهذه الأمور من فروض الكفايات- لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال- وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور أو المنهي في زيادة الفجور فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) أي المختصون بكمال الفلاح.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه
«٢». وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا أي تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين، أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل. قال الفخر الرازي: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة. فنسأل الله العفو والرحمة
(٢) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٥٥٦٤)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦: ٢١٠٤).
وقرئ «ابياضّت»، كما قرئ «اسوادّت» هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) أي لا يظعنون عنها ولا يموتون تِلْكَ أي الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار آياتُ اللَّهِ أي دلائل الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي بالمعنى الحق أو متلبسة بالعدل من أجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) أي ما يريد الله فردا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يفعله. وأما ظلم بعضهم بعضا فواقع كثيرا، وكل واقع فهو بإرادته تعالى وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) فيجازي كلا منهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميّزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك ومخالفة الرسول وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء. وقال قتادة: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة للناس وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى إيمانا كاملا كإيمانكم لَكانَ أي ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ فإنهم آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الزيادة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي ورهطة من النصارى. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) في أديانهم فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم، والكفار لا يقبلونهم لكونهم فاسقين فيما بينهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي لن يضركم
أراضيهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي صودفوا فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين إِلَّا أن يعتصموا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي المؤمنين فالأمان الحاصل للذمي قسمان:
أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية.
وثانيهما: الذي فوض الله إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد. فالأول:
هو المسمى بحبل الله. والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي داموا في غضب الله أو استوجبوا لعنة الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي جعل عليهم زي الفقر. واليهود في غالب الأحوال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى ذلِكَ أي لزوم الذلة والمسكنة والمكث في اللعنة بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى يحرفونها بسائر الآيات القرآنية وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا جرم. فإن الذين قتلوا الأنبياء أسلافهم، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب إليهم كما أن التحريف من أفعال أحبارهم ينسب إلى كل من يتبعهم ذلِكَ أي الكفر والقتل بِما عَصَوْا في السبت وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) أي يتجاوزون حدود الله باستحلال المحارم. قال أرباب المعاملات مع الله: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر لَيْسُوا أي جميع أهل الكتاب سَواءً أي فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي جماعة عدل مهتدية بتوحيد الله وهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم معهم من اليهود كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: هم عبد الله بن سلام وأخوه ثعلبة بن سلام وسعية وميس وأسيد وأسدهما ابنا كعب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود:
ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية: يَتْلُونَ
فإن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي فهو فساد سواء كان في العقائد أو في الأعمال، فإذا حصل كل ما ينبغي فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء في الفعلين. لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، فإن جهّال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان. قال تعالى: وَما يَفْعَلُوا أي عبد الله بن سلام وأصحابه من خير مما ذكر ويقال: من إحسان إلى محمد وأصحابه. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن ينسى ثوابه بل يثابوا.
وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي وما
والمعنى مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات- نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل- وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا، فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعا وتوقّع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح، فأحرقته، فلا يبقى إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات. أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه من الخيرات وهو من المعاصي- مثل إنفاق الأموال في إيذاء رسول الله، وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم- فهو أشد تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ حيث لم يقبل نفقاتهم ولكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) حيث أتوا بالنفقات مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه- كما قاله ابن عباس- أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال فالله تعالى منعهم عن ذلك- كما قاله مجاهد- وقال الله تعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي خاصة تباطنون في الأمور مِنْ دُونِكُمْ أي من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفسادكم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر أي فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءكم في أشد أنواع الضرر. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم بالطعن وغيره مما يدل على نفاقهم وبأنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من الحقد أَكْبَرُ مما يظهر على ألسنتهم. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي علامة الحسد والعداوة إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) الفرق بين ما يستحقه العدو والولي ها أَنْتُمْ أُولاءِ أي أنبهكم أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان
حدّث نفسك بذلك- إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) أي إنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أي إن تصبكم منفعة الدنيا تحزنهم وذلك كصحة البدن، وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة بين الأحباب. وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي مضرة كمرض وفقر وانهزام من عدو، وقتل ونهب وغارة وحصول التفرقة بين الأقارب يَفْرَحُوا أي اليهود والمنافقون بِها فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم وَإِنْ تَصْبِرُوا على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم وَتَتَّقُوا كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ أي حيلتهم التي دبروها لأجلكم شَيْئاً من الضرر لأن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره حيل المحتالين.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «لا يضركم» بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء. والباقون «لا يضركم» بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للاتباع.
وروى المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء للتخفيف. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) بالياء باتفاق القراء العشرة. أي إنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه. وفي قراءة شاذة بالتاء. والمعنى أنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم مستحقون له
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أي واذكر يا أشرف الخلق لأصحابك وقت خروجك من عند أهلك أي من حجرة عائشة إلى أحد ليتذكر، وإما وقع في ذلك الوقت من الأحوال الناشئة من عدم الصبر فيعلموا أنهم لو لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة.
. وكل ذلك يؤكد قوله تعالى:
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً والظفر إنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله وإلا لم يقوموا مع عدوهم تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أي تنزل المؤمنين بأحد أمكنة لقتال عدوهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ (١٢١) بضمائركم ونياتكم فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شاور أصحابه في ذلك الحرب، فمنهم من قال له: أقم بالمدينة وهو عبد الله بن أبيّ، وأكثر الأنصار. ومنهم من قال له: اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج وهما جناحا العسكر أَنْ تَفْشَلا أي بأن تجبنا عن قتال العدو يوم أحد وترجعا.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج مع تسعمائة وخمسين، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا عند جبل أحد انعزل ابن أبي المنافق مع ثلاثمائة من أصحابه المنافقين وقال: يا قوم لأي شيء نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وأبو جابر السلمي وقالا: أسألكم بالله في حفظ نبيكم وأنفسكم أي فإنكم لو رجعتم فاتتكم نصرة نبيكم، وفاتتكم وقاية أنفسكم من العذاب لتخلفكم عن نبيكم فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الطائفتان باتباع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي عاصمهما عن اتباع تلك الخطوة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) في جميع أمورهم فإنه حسبهم، ولما حكى الله عن الطائفتين أنهما همّتا بالجبن والضعف أيّد ذلك بقصة بدر، فإن المسلمين كانوا في غاية الفقر والضعف والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا أعداءهم وفازوا
قرأ ابن عامر «منزلين» مشدد الزاي مفتوحة. والباقون بفتح الزاي مخففة. وقرئ قراءة شاذة باسم الفاعل من الصيغتين أي منزلين النصر بَلى يكفيكم إِنْ تَصْبِرُوا مع نبيكم في الحرب وَتَتَّقُوا معصية الله ومخالفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَيَأْتُوكُمْ أي يأتيكم المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي من ساعتهم هذه من جهة مكة يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ أي ينصركم على عدوكم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو أي معلمين أنفسهم أو خيلهم. والباقون بفتح الواو أي معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها أو مجذوذة أذنابهم أو مرسلين وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بالمدد. وفي ذكر الإمداد مطلوبان: إدخال السرور في قلوبكم وحصول الطمأنينة على أن إعانة الله معهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لا من العدة والعدد ولا من عند الملائكة لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا واللام متعلق بقوله: وما النصر.
والمعنى والمقصود من نصركم إن يهلك الله طائفة من كفار مكة بقتل وأسر أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يهزمهم ويخزيهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) أي يرجعوا منقطعي الآمال غير فائزين بمطلوبهم بشيء لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وهذه الآية نزلت في قصة أحد لمنعه صلّى الله عليه وسلّم من الدعاء عليهم لما روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته- وهي السن التي بين الثنية والناب- ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية، ولما
روى سالم بن عبد الله بن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعن أقواما فقال: «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية» «١». فنزل قوله تعالى:
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم.
ولما حصل له صلّى الله عليه وسلّم من الهم بأنه رأى
ومات في ذلك اليوم من المسلمين سبعون، وأسر عشرون ومات من الكفار ستة عشر.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا يوم أحد فمنعه الله من ذلك، وإنما نصّ الله تعالى على المنع تقوية لعصمته أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ وهذان إما معطوفان على الأمر. والمعنى ليس لك يا أشرف الخلق من شأن هذه الحادثة شيء ومن التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء، لأنه ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وليس لك من سؤال إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح، فربما تاب الله عليهم أو معطوفان على «شيء» أي ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم.
وقيل: المراد بالأمر ضد النهي. والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء، أو من توبتهم أو من تعذيبهم شيء إلا إذا كان على وفق أمري. والمقصود من الآية منعه صلّى الله عليه وسلّم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) أي بالمعاصي وهذه جملة مستقلة لكن المقصود من ذكرها تعليل لحسن التعذيب. والمعنى أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فإنه تعالى إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. فعلم ذلك مفوّض إلى الله وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه وتقديم المغفرة على التعذيب للإعلام بأن رحمته تعالى سبقت غضبه وبأن الرحمة من مقتضيات الذات دون الغضب فإنه من مقتضيات سيئات العصاة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) والمغفرة والرحمة على سبيل الإحسان، أما التعذيب فعلى سبيل العدل لأن الطاعة لا توجب الثواب، والمعصية لا توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وإرادته. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً على الدرهم مُضاعَفَةً في الأجل وكان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال، قال: زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله: أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين بلا ألف قبلها.
وقال القفال: يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا. فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال، وينفقوه على العسكر فيتمكنوا من الانتقام منهم فحقا نهاهم الله عن ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه من أخذ الربا وغيره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) أي لكي تنجوا من
وَاتَّقُوا النَّارَ بأن تجتنبوا ما يوجبها وهو استحلال ما حرم من الربا وغيره الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وكان أبو حنيفة يقول: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، وفي الآية تنبيه على أن النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به وينهاكم عنه من أخذ الربا وغيره وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) الذي يبلغكم أوامر الله ونواهيه فإن طاعة الرسول طاعة لله وَسارِعُوا.
قرأ نافع وابن عامر بغير واو أي بادروا واقبلوا. وقرئ شاذة وسابقوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي إلى الإسلام- كما قاله ابن عباس- وإلى أداء الفرائض- كما قاله علي بن أبي طالب- والصلوات الخمس وإلى الإخلاص- كما قاله عثمان بن عفان- وإلى الجهاد- كما قاله الضحاك ومحمد بن إسحاق- وإلى التكبيرة الأولى- كما قاله سعيد بن جبير- وإلى جميع الطاعات- كما قاله عكرمة- وإلى التوبة من الربا والذنوب- كما قاله الأصم وابن عباس- وَجَنَّةٍ أي فكما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة. فمعنى الغفران إزالة العقاب، ومعنى الجنة إيصال الثواب فلا بد للمكلف من تحصيل الأمرين عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها مثل عرض السموات والأرض لو جعلت السموات والأرض طبقا طبقا، بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله تعالى أُعِدَّتْ أي هيئت الجنة لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم في سبيل الله تعالى فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في حال الغنى والفقر أو في سرور وحزن، أو على وفق طبعهم وعلى خلافه كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الكافين غيظهم.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا»
«١».
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء»
«٢».
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»
«٣».
(٢) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: من كظم غيظا، والترمذي في كتاب البرّ، باب: ٧٤، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: الحلم، وأحمد في (م ٣/ ص ٤٣٨).
(٣)
رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الكرم قلب المؤمن»، ومسلم في كتاب البرّ، باب: ١٠٦، والموطأ في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في الغضب،
«ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك». واعلم أن الإنسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه، أما إيصال النفع إليه فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات، وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى فهذا داخل في كظم الغيظ، وأما في الآخرة بأن يبرئ ذمة الغير عن المطالبات فهذا داخل في العفو عن الناس. فهذه الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي معصية أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أتوا أيّ ذنب كان ذَكَرُوا اللَّهَ أي خافوا الله. قال بعضهم: لما وصف الله تعالى الجنة بأنها معدة للمتقين بيّن أن المتقين قسمان:
أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات وهم الذين وصفهم الله بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا. وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على الموصول قبله. وقيل: لما ندب الله تعالى في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير ندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على المحسنين.
روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين- أنصاري وثقفي- والرسول صلّى الله عليه وسلّم كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله يتعاهدهم فكان يفعل ذلك، ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم سكت حتى نزلت هذه الآية.
وقال عطاء: نزلت في شأن أبي سعيد نبهان التمار فإنه أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا بالشراء، فقال لها: هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ذلك فنزلت هذه الآية: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح لأجل ذنوبهم، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار انقطاعه إلى الله
.
أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدي.
والثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة، وإنما خصص الله المتقين بالهدي والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا عن الجهاد مع عدوكم وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الغنائم يوم أحد، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحة وكان قد قتل يومئذ سبعون رجلا خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وشماس بن عثمان وسعد مولى عتبة وباقيهم من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي والحال أنكم في آخر الأمر الغالبون بالنصرة لكم دون عدوكم فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسب ما شاهدتم من أحوال أسلافهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وهذا إما منصب بالنهي أو بوعد النصر والغلبة، أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وقلة المبالاة بالأعداء، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضي العلو بلا شك إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أي إن أصابكم جرح يوم أحد فقد أصاب أهل مكة يوم بدر جرح مثل ما أصابكم يوم أحد ثم لم يضعف ذلك قلوبكم فأنتم أحق بأن
وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟
أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر! فقال أبو سفيان: يوم بيوم، والأيام دول، والحرب سجال. فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: إن كان الأمر كما تزعمون فقد خبنا إذا وخسرنا. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا واللام متعلقة بفعل مضمر. والتقدير وفعلنا هذه المداولة لكي يرى الله الذين أخلصوا في إيمانهم متميزين من المنافقين إذا أصابتهم المشقة كما وقع في أحد وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي يكرم الله من يشاء منكم بالشهادة وهم شهداء أحد وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) أي المشركين وإنما يظفرهم في بعض الأحيان استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليطهرهم من ذنوبهم بما يصيبهم في الجهاد إن كانت الغلبة للكافرين على المؤمنين وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أي يهلكهم في الحرب إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) والخطاب للذين انهزموا يوم أحد. أي أظننتم أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر- أي الجمع بينهما- أي لا تحسبوا ذلك والحال أن الله تعالى لم ير المجاهدين منكم في سبيل الله يوم أحد والصابرين على قتال عدوهم مع نبيهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ بالشهادة في الحرب مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي الموت يوم أحد حيث قلتم: ليت لنا يوما كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه من الكرامة وكانوا قد ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد في الخروج، ثم ظهر منهم خلاف ذلك فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي إن كنتم صادقين في تمنيكم الحرب فقد رأيتم الموت بمشاهدة أسبابه يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي قد مضت من قبل محمد أمثاله من رسل الله تعالى.
قال ابن عباس ومجاهد والضحّاك: لما نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ثم قتل على طلحة صاحب لواء الكفار، وشد الزبير والمقداد على المشركين فانهزم الكفار، ثم بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم، وفرق جمعهم، ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر رباعيته وشجّ وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر وأحد فقتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ففشا في الناس خبر قتله فهناك قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال قوم من المنافقين: لو كان محمدا نبيا لما قتل وإن كان قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حيّ لا يموت وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المنافقين، ثم سلّ سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى.
ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ويقول: «إليّ عباد الله» «١» فأول من عرفه صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك وقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار إلي أن أمسك، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية:
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي أصرتم كفارا بعد إيمانكم إن مات محمد أو قتل كغيره من الرسل فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم. أي لا ينبغي منكم الارتداد حينئذ لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مبلّغ لا معبود وقد بلّغكم والمعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أي ومن يرجع إلى دينه الأول- وهو الشرك- فلن ينقص الله رجوعه شيئا وإنما يهلك نفسه بإقباله على
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين: منهم من يريد الدنيا كالذين كانوا المركز طلبا للغنيمة والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا. ومنهم من يريد الآخرة كالذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا والذين حضروا للدين لا بد وأن لا ينهزموا. واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي. والمقصود لا ظواهر الأعمال كما
في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»
«١».
فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قرأ ابن كثير «كائن» بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة. والباقون بهمزة بعد الكاف بعدها ياء مشدودة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وقتل مبنيا للمفعول. وقتادة كذلك إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة «قاتل» وضمير الفعل يعود على المبتدأ والجملة خبر المبتدأ. وجملة «معه ربيون» من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال من ضمير الفعل، و «كثير» صفة ل «ربيون».
والمعنى على القراءة الأولى وكثير من الأنبياء قتلوا وبعدهم الذين بقوا من جماعتهم فما وهنوا أي ضعفوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي المنافقين في قولهم للمؤمنين المنهزمين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى دينكم الأول. قال علي: والمراد بالذين كفروا: المنافقون، كما تقدم.
وقال السدي وغيره: المراد بهم أبو سفيان بن حرب لأنه شجرة الفتن وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم.
وقيل: المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين لأنهم قالوا: لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس: والمراد بهم اليهود كعب وأصحابه. والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) أي فترجعوا مغبونين في الدارين بالانقياد للعدو والتذلل له وبالحرمان عن الثواب المؤبد، والوقوع في العقاب المخلد بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي ناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) أي أقواهم بالنصرة. فلا ينبغي أن تطيعوا الكفار لينصروكم لأنهم عاجزون
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي سنقذف
ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم قتلا كثيرا في أول الحرب بِإِذْنِهِ أي بعلمه ونصرته حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي إلى أن ضعفتم في الرأي أو إلى حين الغنيمة وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي اختلفتم في أمر الحرب أو في امتثال أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير، فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلا خيلهن فقالوا: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وَعَصَيْتُمْ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة في أصل الجبل وتركتم المركز لأجل تحصيل الغنيمة مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أي بعد ما أراكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النصرة والغنيمة مِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا بجهاده، وهم الذين تركوا المركز لأجل الغنيمة وَمِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ بجهاده وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى قتلوا وهم عبد الله بن جبير وأصحابه ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ثم رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم من ندمكم على المخالفة وتفضلا منه تعالى وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) حيث لم يستأصل الرماة إِذْ تُصْعِدُونَ أي تذهبون في الأرض وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي ولا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي وهو واقف في آخركم وكان يقول: «إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله أنا رسول الله من يقرّ فله الجنة» «١» فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي جازاكم الله عما حصل لكم بسبب الانهزام، وقتل
قال أبو السعود: أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) أي عالم بأعمالكم ومقاصدكم قادر على مجازاتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً من العدو نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي يأخذ النعاس المهاجرين وعامة الأنصار وَطائِفَةٌ وهم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي أوقعهم في الهموم لأن أسباب الخوف وهي قصد العدو كانت حاصلة لهم والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلذلك عظم الخوف في قلوبهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه، فإن النبوة خلعة من الله تعالى يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا من النصر الذي وعدنا به محمد نصيب قط. وهذا الكلام إن كان قائله من المنافقين كعبد الله بن أبي فإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي الإسلام وإن كان من المؤمنين المحققين كان غرضه منه إظهار الشفقة أنه متى يكون الفرج ومن أين يكون تحصل النصرة. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ أي التدبير كُلَّهُ لِلَّهِ فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب مخافة القتل يَقُولُونَ أي معتب بن قشير وعبد الله بن أبي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان لنا من التدبير والرأي شيء ما قتل من قتل منا في هذه المعركة وما غلبنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي قل يا أشرف الخلق لهم لو جلستم في بيوتكم في المدينة لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مصارعهم أي أماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد فإن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا لأن الله تعالى لما أخبر يقتل فلو لم يقتل لا نقلب علمه جهلا وذلك محال وَفرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليعاملكم من يختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق
وسبعة من الأنصار: الخباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي في نفس الأمر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم في النسب أو في الكفر والنفاق إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي ساروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا أي مقيمين في المدينة ما ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في غزواتهم لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا ولم يحضروا القتال لعاشوا حَسْرَةً أي حزنا فِي قُلُوبِهِمْ واللام لام العاقبة أي أنهم قالوا ذلك لإعماء قلوب المسلمين ليضيق صدرهم وليتخلفوا عن القتال فلما كان المؤمنون لم يلتفتوا إلى قولهم فيضيع سعيهم، ويبطل كيدهم فتحصل الندامة في قلوبهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الخوف، ويميت القاعد عن القتال والمقيم مع حيازتهما لأسباب السلامة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) فيجازيهم على قولهم واعتقادهم ويجازيكم أن تماثلوهم في ذلك وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في سفركم للغزو مع الكفار أو في بيوتكم وكنتم مخلصين من النفاق لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ منه لكم خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيرات.
وقرأ حفص عن عاصم بالغيبة أي خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم. قال الفخر الرازي: والأصوب عندي أن اللام في «ولئن» للتأكيد فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا أو تقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة والرحمة فلماذا تحترزون عن الموت والقتل بل ذلك مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون لأن الموت الذي يستحق الثواب العظيم كان خيرا من الموت من غير فائدة وَلَئِنْ مُتُّمْ في حضر أو سفر أَوْ
في الجهاد أو غيره لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فجميع العالمين يوفقون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عبيده بالعدل.
واعلم أن الله تعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالمغفرة والرحمة وفي هذه الآية بالحشر إلى الله زيادة في إعلاء الدرجات.
يروى «أن عيسى ابن مريم مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال:
هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ورأى آثار العبودية عليهم أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقّون».
فقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه. وقوله: وَرَحْمَةٌ إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه. وقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية وهذا أعلا المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته فَبِما رَحْمَةٍ فما استفهام للتعجب تقديره فبأي رحمة مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وذلك لأنه لما كانت جنايتهم عظيمة ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يظهر تغليظا في القول ألبتة علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا باللسان غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسية لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك ولو يسكنوا إليك ولو انفضوا من حولك فات المقصود من الرسالة فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فإن المشاورة تقتضي شدة محبتهم له صلّى الله عليه وسلّم لأنها تدل على رفعة درجتهم فترك المشاورة معهم إهانة لهم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم»
. فَإِذا عَزَمْتَ عقب المشاورة على شيء فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في إمضاء أمرك على ما هو أصلح وليس التوكل إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله وإعانته إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي يترك الله نصرتكم كيوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي فلا أحد ينصركم على عدوكم من بعد
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين، أي وما جاز لنبي أن يخون أمته في الغنائم.
قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟». فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ظننتم أنا نغفل فلا نقسم لكم». فنزلت هذه الآية
. وقرأ الباقون من السبعة «يغل» بضم الياء وفتح الغين أي وما جاز لنبي أن يخان لأن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا ولأن الخيانة في حقه صلّى الله عليه وسلّم أفحش لأنه أفضل البشر، ولأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر، كما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وقعت في يده يوم حنين غنائم هوازن غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ أي يأت بالذي غله بعينه يحمله على عنقه يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي تعطى وافيا ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من الغلول وغيره وَهُمْ أي كل نفس لا يُظْلَمُونَ (١٦١) بزيادة عقاب أو بنقص ثواب لأنه تعالى عادل في حكمه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي أمن اتقى فاتبع رضوان الله بالإيمان به والعمل بطاعته كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي كمن استحق سخطا من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته وَمَأْواهُ أي الغال أو من استوجب سخط الله جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) جهنم هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي الفريقان مختلفون في درجات الثواب والعقاب في حكم الله وعلمه باختلاف مراتب الطاعات والمعاصي وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) أي بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم بحسبها لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي لقد أحسن إليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي بعث آدميا ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله من أول العمر إلى آخره أنه ملازم الصدق والأمانة وهو صار شرفا للعرب وفخرا لهم، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه اليهود والنصارى والعرب، ثم إن اليهود يفتخرون بموسى والتوراة والنصارى يفتخرون بعيسى والإنجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. فهذا وجه الفائدة في قوله تعالى من أنفسهم: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن. أي يبلغ الوحي من عند الله إلى الخلق بالأمر والنهي وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم بالتوحيد من الشرك وبأخذ الزكاة من الذنوب ويكمل نظرهم بحصول المعارف الإلهية وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي ظواهر الشريعة أو يعرفهم التأويل وَالْحِكْمَةَ أي محاسن الشريعة وأسرارها وعللها وَإِنْ
أي والحال أنهم كانوا من قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أو المعنى وما كانوا من قبل مجيء محمد والقرآن إلا في ضلال بيّن وذلك لأن دين العرب قبل ذلك كان أرذل الأديان- وهو عبادة الأوثان- وأخلاقهم أرذل الأخلاق- وهو الغارة والنهب، والقتل وأكل الأطعمة الرديئة- ثم لما بعث الله سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم إليهم انتقلوا ببركته من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أحسنها، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيباتها ولا شك أن هذا أعظم المنة. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي أقلتم متعجبين من أين أصابنا هذا ونحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله فكيف صاروا منصورين علينا وقد تقدم الوعد بالنصر حين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل. وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والأسير في حكم المقتول لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. قُلْ هُوَ أي حصول هذا الأمر مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي بشؤم معصيتكم بترككم المركز وحرصكم على الغنيمة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) فإنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما هو قادر على التخلية بينكم وبين عدوكم إذا خالفتم وعصيتم وَما أَصابَكُمْ في أحد من القتل والجراحة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع محمد وجمع أبي سفيان فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فهو بقضائه وإرادته وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ أي وليظهر الله للناس الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق والامتناع من الجهاد مع وجود الطلب. وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حيث رجعوا يوم أحد إلى المدينة قال لهم عبد الله بن جبير أو عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر بن عبد الله الأنصاري
-: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو تَعالَوْا إلى أحد قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا أي كونوا إما من رجال الدين وإما من رجال الدنيا فإن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا لهما في طاعة الله، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم وبلدكم. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أي لو نحسن قتالا ونقدر عليه لَاتَّبَعْناكُمْ إلى أحد هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان، فإنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين وأيضا قولهم ذلك يدل على كفرهم لأنه إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكل واحد منهما كفر.
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فإنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحد منهما.
أحدهما: عدم العلم بالقتال. والآخر: الاتباع على تقدير العلم به. وقد كذبوا فيهما فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين على الانخزال عازمين على
الارتداد. وَاللَّهُ
(١٦٧) أي يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره الَّذِينَ قالُوا أي الذين نافقوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو أقاربهم وَقد قَعَدُوا عن القتال بالانخذال: لَوْ أَطاعُونا أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك ما قُتِلُوا كما لا نقتل قُلْ للمنافقين فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) في أن القعود ينجي منه.
وروي أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً نزلت هذه الآية في حق قتلى أحد وكانوا سبعين رجلا: أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، وعبد الله بن جحش، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأما شهداء بدر فنزلت فيهم آية البقرة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله الآية بَلْ هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) التحف من الجنة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في صفة الشهداء إن أرواحهم في أجواف طير خضر وأنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله». ثم قال: «ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟» فقال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو شرف الشهادة والقرب من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) أي أن الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا.
أي يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا بدوام انتفاء الخوف والحزن وبلحوقهم بهم لأن الله بشرهم بذلك
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بثواب أعمالهم من الله وَفَضْلٍ أي زيادة عظيمة من الكرامة وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) من الشهداء وغيرهم الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في أحد. منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وابن عوف وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح وجابر بن عبد الله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ في طاعة الرسول في ذلك الوقت وَاتَّقَوْا في التخلف عن الرسول أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢).
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم! بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم. فهموا
فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: «لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال بالأمس» فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه قيل: كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت هذه الآية:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وهو أعرابي من خزاعة أو جماعة راكبون من عبد القيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي إِنَّ النَّاسَ أي أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ في اللطيمة وهي سوق في قرب مكة فَاخْشَوْهُمْ بالخروج إليهم.
روي أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر إن شئت. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى». فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين، وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبا سفيان بموسم بدر أن نقتتل فيها، فقال لهم: ما هذا بالرأي! أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم فكره الخروج. فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك قال: «والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو لم يخرج معي أحد». فخرج في سبعين راكبا، وباقي الجماعة يمشون وفيهم ابن مسعود فذهبوا وكلهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل. إلى أن وصلوا إلى بدر وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق أحدا من المشركين، ووافقوا السوق وباعوا ما كان معهم من التجارات واشتروا أدما وزبيبا بحوافي الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى
: فَزادَهُمْ إِيماناً أي زادهم هذا الكلام المخوف جراءة بالخروج إليهم وعزما متأكدا على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله وثقتنا به وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) أي الكفيل بالنصرة والكافي فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فخرجوا إلى بدر فرجعوا من بدر ملتبسين بسلامة وثواب من الله وَفَضْلٍ أي ربح في التجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ أي لم يصبهم في الذهاب والمجيء سُوءٌ أي قتل ولا جراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) يدفع العدو عنهم ويعطيهم ثواب الغزو ويرضى عنهم إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.
وقال الحسن والسدي: معنى هذه الآية الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويختارون أمره- وهم المنافقون- ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياءه الله فإنهم لا يخافون الكفار إذا خوّفهم الشيطان ولا ينقادون لأمره فَلا تَخافُوهُمْ أي أولياء الشيطان بالخروج إليهم وَخافُونِ في مخالفة أمري بالجلوس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) فإن الإيمان يقتضي تقديم خوف الله على خوف الناس ويستلزم عدم الخوف من شر الشيطان وأوليائه وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
قرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي في جميع ما في القرآن إلا قوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الآية: ١٠٣] في سورة الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي كباقي القراء في جميع ما في القرآن إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فقيل: إنها نزلت في شأن كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم. والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر بمحاربتك وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة. وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك فإنهم لن يضروا الله شيئا بهذا الصنيع وإنما يضرون أنفسهم. وقيل: نزلت في شأن المنافقين إنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصر والظفر. وقيل: نزلت في شأن رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لمتاع الدنيا يُرِيدُ اللَّهُ بذلك أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا من الثواب فِي الْآخِرَةِ أي الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) في النار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) قال ابن عباس: هم المنافقون اختاروا الكفر على الإيمان فإنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شيطانهم كفروا وتركوا الإيمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. ويمكن حمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويؤمنون به قبل مبعثه، ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ أي نمهل لهم بتطويل الأعمار خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً أي ذنبا
في الدنيا ودركات في الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) يهانون به يوما فيوما وساعة بعد ساعة.
قال الفخر الرازي: بيّن الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين عن القتال ليس
قرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأربعة: «ولا تحسبن الذين كفروا»، ولا تحسبن الذين يبخلون، لا تحسبن الذين يفرحون ف «لا تحسبنهم» بالتاء وضم الباء في قوله تعالى:
«تحسبنهم».
وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: «فلا تحسبنهم» فإنه بالتاء. وقراءة حمزة كلها بالتاء.
وقيل: نزلت الآية من قوله: وَلا يَحْزُنْكَ إلى هاهنا في حق مشركي أهل مكة يوم أحد. ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليترك المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها الناس من اختلاط المنافقين بالمخلصين وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ أي المنافق مِنَ الطَّيِّبِ أي المؤمن بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن فإن المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بذلك وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي إن عادة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات من التكاليف الشاقة كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فخصّهم بإعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق، أو المعنى فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان. أو المعنى وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي لما طعن المنافقون في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بوقوع الحوادث المكروهة في أحد بين الله تعالى أنه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب، ولم يبق بعد جواب هذه الشبهة إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وَإِنْ تُؤْمِنُوا حق الإيمان وَتَتَّقُوا أي الكفر والنفاق فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) أي ثواب وافر في الجنة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أي لا يتوهمن هؤلاء البخلاء ببذل المال في الجهاد أن بخلهم هو خير لهم بل هو شرّ لهم لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي سيجعل ذلك المال طوقا من النار في عنقهم. وقيل: إن المراد البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان ذلك الكتمان بخلا فحينئذ كان معنى سيطوقون أن
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة»
«١». والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من البخل والسخاء خَبِيرٌ (١٨٠) فيجازيكم عليه أو فيجازيهم عليه.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا أي فنحاص بن عازوراء- كما قاله ابن عباس والسدي- أو حيي بن أخطب- كما قاله قتادة- أو كعب بن الأشرف كما نقله ابن عساكر.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض.
فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنكر ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله عنه والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك:
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ محتاج يطلب منا القرض وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ولا نحتاج إلى قرضه سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي من العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة ليقرأوا ذلك يوم القيامة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله، أو المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة جهلهم وطعنهم في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل ما قدروا عليه وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ في اعتقادهم كما في نفس الأمر أي نكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء بغير جرم. أو المعنى سنحفظ عن الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم وَنَقُولُ عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب أو عند الإلقاء في النار ويحتمل أن يكون هذا القول كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول.
وقرأ حمزة «سيكتب» بالياء وضمها على لفظ ما لم يسم فاعله وقتلهم برفع اللام ويقول بالياء. والباقون بالنون ونصب اللام من قتلهم. وقرأ الحسن والأعرج «سيكتب» بالياء وبالبناء للفاعل ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) أي المحرق ذلِكَ أي العذاب المحرق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ما اقترفتموه من التفوه بتلك العظيمة وغيره من المعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. الَّذِينَ قالُوا نصب على الذم أو جر نعتا ل «الّذين» الأول. أي لقد سمع الله قول الذين قالوا.
وقرأ ابن عامر «بالزبر» بإعادة الباء كقراءة ابن عباس دلالة على المغايرة. وقرأ هشام «وبالكتاب» بإعادة الباء. والباقون بغير الباء فيهما كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي
كل حيوان حاضر في دار التكليف يذوق الموت. وروي عن الحسن أنه قرأ «ذائقة الموت» بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الأعمش بطرح التنوين مع نصب «الموت». وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي وإنما تعطون أجزية أعمالكم على التمام يوم قيامكم من القبور. وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما يدل عليه
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»
«١» فَمَنْ زُحْزِحَ أي أبعد عَنِ النَّارِ بالتوحيد والعمل الصالح وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ أي نال غاية مقصوده.
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يزحزح عن النار
«١». وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) أي ليس ما في الدنيا من النعيم إلا كمتاع البيت في بقائه مثل الخزف والزجاجة وغير ذلك أي إن العيش في هذه الدنيا يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب، وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم. قال بعضهم: الدنيا ظاهرها مطيّة السرور وباطنها مطية الشرور.
قال سعيد بن جبير: إن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي والله لتختبرن في ذهاب أموالكم بالمهلكات كالغرق والحرق وبالتكاليف كالزكاة والجهاد، وفي ما يصيب أنفسكم من البلايا كالأمراض والأوجاع والقتل والضرب ومن التكاليف كالصلاة والجهاد والصبر فيهما.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً أي ولتسمعن من اليهود والنصارى ومشركي العرب: أنواع الإيذاء من الطعن في الدين الحنيف، والقدح في أحكام الشرع الشريف، وصدّ من أراد أن يؤمن، وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرابه من هجاء المؤمنين وتشبيب نسائهم، وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحو ذلك مما لا خير فيه. وَإِنْ تَصْبِرُوا على تلك البلوى وأذى الكفار وتستعملوا احتمال المكروه ومداراة الكفار في كثير من الأحوال وَتَتَّقُوا أي تحترزوا عما لا ينبغي وعن المداهنة مع الكفار وعن السكوت عن إظهار الإنكار فَإِنَّ ذلِكَ أي الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) أي من حزم أمور المؤمنين وخيرها ومن صواب التدبير. أو المعنى فإن ذلك ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ومما يجب أن يعزم عليه كل أحد لأنه حميد العاقبة. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ أي واذكر وقت أخذه تعالى العهد على علماء اليهود والنصارى لتذكرن الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والإنجيل وللناس، ولا تلقوا فيها التأويلات الفاسدة والباطلة.
قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بالغيبة في الفعلين. والباقون بالخطاب فيهما.
فَنَبَذُوهُ أي طرحوا الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي فلم يعملوا به وَاشْتَرَوْا بِهِ أي الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا أي شيئا تافها من الدنيا أي أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي للناس وكتم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار»
«١». وعن محمد بن كعب قال: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وكان قتادة يقول: طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبرا فوعاه. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة وتفسيرها بتفسيرات باطلة وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أي يحبون أن يوصفوا بالدين والفضل والعفاف والصدق. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ أي بمباعدة مِنَ الْعَذابِ.
وقيل: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث إنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحمدهم على الإيمان الذي لم يكن موجودا في قلوبهم. ولا شك أن هذه الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله بالصبر على أذاهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود. والأولى إجراء الموصول على العموم فيشتمل على كل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله.
وقرأ حمزة وعاصم والكسائي «تحسبن» و «تحسبنهم» بالتاء الفوقية وكلاهما بفتح الباء، والتقدير: لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع أو كلاهما بضم الباء، والخطاب للمؤمنين والمفعول الأول: «الذين يفرحون»، والثاني: «بمفازة». وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد والفاء مقحمة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء التحتية، وكلاهما بفتح الباء، والفاعل للرسول وبضمها والفاعل من يتأتى منه الحسبان أو بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، والفاعل هو الموصول والمفعول الأول محذوف، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما. أي لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين أو على أن الفعل الأول مسند للرسول أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني محذوف مفعول الفعل الثاني عليه، والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم
المتدبرين في حكمه المودعة في الأنفس والآفاق.
وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل مستلق على فراشه، إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له»
«١».
وقال: «لا عبادة كالتفكر»
«٢».
وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبد في تلك المدة فتى من فتيانهم فما أظلته سحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك. فقال:
ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر! قال: نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي الذين لا يغفلون عن الله تعالى في جميع أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره تعالى، واستغراق سرائرهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال في أنفسهم ولا في الآفاق إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شؤونه تعالى. فالمراد ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللساني أولا. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعتادة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا. والمراد تعميم الذكر للأوقات.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله»
«٣»
(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠: ٢٨٣)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (٤: ٢٢١).
(٣) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠: ٣٠٢)، وابن عبد البر فيه التمهيد (٦: ٥٨)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٥: ٦)، والمتقي الهندي في كنز العمال (١٨٨٧)، والعراقي في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق»
«١» أي لأن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، وإنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة. فإذا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف نفسه عرف ربه» «٢». معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء.
فكان التفكر في الخالق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فإذا لا تتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا في الجهة. ولا شك أن حقيقة المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله فلهذا السبب نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات. فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآية بذكره ولم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالتفكر في مخلوقاته.
قال بعض العلماء: «الفكرة تذهب الغفلة وتجلب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع».
وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تفضلوني على يونس بن متّى فإنه كان يرفع كل يوم مثل عمل أهل الأرض»
«٣». أي وذلك لأن عمله هو التفكر في معرفة الله لأنه لا يقدر أحد أن يعمل بجوارحه مثل ما عمل أهل الأرض، وإنما هو عمل القلب. واعلم أن دلائل التوحيد محصورة في قسمين:
دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس. ولا شك أن دلائل الآفاق أعظم وأعجب فلو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة الورقة
(١) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (١: ١٦٢)، والسيوطي في الدر المنثور (٢: ١١٠)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٥٧٠٦).
(٢) رواه السيوطي في الحاوي للفتاوي (٢: ٤١٢)، والعجلوني في كشف الخفاء (٢: ٣٦٢)، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة (٣٥١).
(٣) رواه القاضي عياض في الشفا (١: ٢٦٥)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٢: ١٠٥).
وقيل: المراد بالأول ما يزول بالتوبة، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة. وقيل: المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) أي على مثل أعمالهم لنكون في درجاتهم يوم القيامة. أو المعنى توفنا على الإيمان، واجمعنا مع أرواح النبيين والصالحين رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ والجار والمجرور متعلق بوعدتنا أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة
رسلك. وقيل: والمعنى وفقنا للأعمال التي نصير بها أهلا لوعدك من الثواب، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وَلا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع
وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال: ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد واستدلّ بهذه الآية. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فيما سألوه من غفران الذنوب وإعطاء الثواب
. أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ وقرأ الجمهور بفتح الهمزة.
وقرأ أبي بأني بالباء التي للسببية. وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة. والمعنى أني لا أبطل ثواب عمل عامل منكم. والمراد حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فلا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا في التمسك بالطاعة على السوية بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي ألجأهم الكفار إلى الخروج من منازلهم التي ولدوا فيها وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي بسبب طاعتي ومن أجل ديني وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا.
قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو «وقاتلوا» بالألف، «وقتلوا» مخففة. والمعنى قاتلوا العدو معه صلّى الله عليه وسلّم حتى قتلوا في الجهاد. وقرأ ابن كثير وابن عامر «وقاتلوا» بالألف، «وقتلوا» مشددة لتكرر القتل فيهم. وقيل: معناه قطعوا. وقرأ حمزة والكسائي «وقتلوا» بغير ألف أولا، «وقاتلوا» بالألف ثانيا، أي وقد قاتلوا. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) أي إن الله تعالى وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة:
أولها: محو السيئات وغفران الذنوب. وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا.
وثانيها: إعطاء الثواب العظيم وهو دخول الجنان وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك.
وثالثها: كون الثواب مقرونا بالتعظيم وهو المشار إليه بقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو الذي طلبوه بقولهم: ولا تخزنا يوم القيامة. وقوله تعالى: ثَواباً مصدر مؤكد لمعنى ما قبله لأن معنى مجموع قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ لأثيبنهم. فكأنه قيل: لأثيبنهم إثابة من عند الله. وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ تأكيد لكون الثواب في غاية الشرف.
روي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: إني لم أسمع ذكر النساء في الهجرة فنزل قوله تعالى:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إلى هنا ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط في المكاسب والمتاجر
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» «١» رواه مسلم
. ثُمَّ مَأْواهُمْ أي مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ من الشرك والمعاصي وإن أخذوا في التجارة لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها فلا يضرهم ذلك لكسب نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي حال كون الجنات عطاء وإكراما من الله لهم كما تعد الضيافة للضيف إكراما وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب الدائم خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) أي للموحدين مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا من المتاع القليل السريع الزوال وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ أي التوراة والإنجيل.
قال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت هذه الآية في شأن أضحمة النجاشي حين مات وأخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم بموته فقال النبيّ لأصحابه: «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» «٢» فخرج إلى البقيع وكشف الله له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه، واستغفر له. فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه.
وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في حق عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقال عطاء: نزلت في حق أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فأسلموا. وقال مجاهد: نزلت في حق مؤمني أهل الكتاب كلهم خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين لله في الطاعة لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا يكتمون أمر الرسول ونعته كما يفعله غيرهم من أهل الكتاب لغرض المأكلة والرياسة أُولئِكَ أي المتصفون بصفات حميدة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) أي سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل لكونه عالما بجميع الأشياء فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على مشقة الاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات نحو الفلاسفة وعلى مشقة أداء الواجبات والمندوبات وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات وعلى شدائد الدنيا من المرض والفقر والخوف. وَصابِرُوا على تحمل المكاره الواقعة بينكم وبين غيركم
(٢) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٣: ٣٨)، والسيوطي في الدر المنثور (٢: ١١٣)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٣: ١١٧١). [.....]