تفسير سورة الزمر

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي١ قاتل٢ حمزة إذ دخل المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطيق أن ينظر إليه فتوهم أن الله، عز وجل لم٣ يقبل إيمانه، فأنزل الله تعالى فيه :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ إلى آخر الثلاث الآيات٤.
١ ومبدأ هذه الآيات الثلاث. قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾.. رقم ١١ و ١٢و١٣. انظر: الإيضاح ٣٩٧، والكشف ٢/٢٣٦، والمحرر الوجيز ١٤/٥٧ لكن القرطبي في جامعة ذكر عن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا بمكيتها بدون استثناء، وذكر عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتي نزلتا بالمدينة إحداهما: ﴿الله نزل أحسن الحديث...﴾ والأخرى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...﴾ وأورد قولا آخر بأن المدني منها سبع آيات نزلن في وحشي وأصحابه، من قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...﴾ إلى آخر سبع آيات. ١٥/٢٣٢..
٢ هو وحشي بن حرب الحبشي، أبو دسمة، مولى بني نوفل، صحابي كان أحد أبطال الموالي في الجاهلية. وهو من قتل حمزة بن عبد المطلب يوم أحد. توفي بحِمص سنة ٢٥ هـ.
انظر: الكامل ٨/١١١، والأعلام ٨/١١١..

٣ (ح): (لا)..
٤ الزمر: ٥٠..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزمر
سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة إذ المدينة، فكان النبي - ﷺ - لا يطيق أن ينظر إليه فتوهم أن الله، - عز وجل - لم يقبل إيمانه، الله تعالى فيه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الثلاث الآيات.
قوله تعالى: ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ - إلى قوله - ﴿بِذَاتِ الصدور﴾.
6293
" تنزيل " رفع بالابتداء، والخبر " من الله ".
ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هذا تنزيل الكتاب.
وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه مفعول به، أي: اقرؤوا تنزيل واتبعوا كتاب الله تنزيل. وعلى الإغراء مثل: ﴿كتاب الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، أي الزموا كتاب الله.
والمعنى: الكتاب الذي أنزله الله على محمد ﷺ هو: من الله العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾، أي: أنزلنا إليك القرآن بالعدل.
روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: فصل القرآن من الذكر، يعني اللوح المحفوظ. قال: فوضع في بيت العزة في سما الدنيا، فجعل جبريل ينزله على النبي ﷺ تنزيلاً.
قال سفيان: خمس آيات ونحوها، ولذلك قال تعالى:
6294
﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ [الواقعة: ٧٥] (يعني نجوم) القرآن.
قال أبو قلابة: نزل القرآن لأربع وعشرين ليلة من شهر رمضان، والتوراة / لست، والإنجيل لاثنتي عشرة.
ثم قال: ﴿فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي: فاخشع لله بالطاعة وأخلص له العبادة ولا ترائي بها غير الله.
روي أنه يؤتى بالرجل يوم اليامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات، فيقول رب العزة تبارك وتعالى: أَصَلَيْتَ يوم كذا وكذا ليقال: صلى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص.
أتصدقت يوم كذا وكذا ليُقال تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص. فما يزال يمحو بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء فيقول ملكاه:
6295
يا فلان: الغير الله كنت تعمل؟.
قال السدي: الدين هنا التوحيد.
وروى أبو هريرة " أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء الذي أريد به وجه الله وثناء الناس (!) فقال النبي: " وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَقْبَلُ الله تَعَالى شَيْئاً شُورِك فِيه، ثُمَّ تلا رسول الله ﷺ: ﴿ أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ ".
قال قتادة: إلا لله الدين الخالص: شهادة إلا إله إلا الله.
ثم قال: ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾، أي: من دون الله آلهة يتولونهم ويعبدونهم من دون الله يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ أي: قُرْبَة شفاعتهم لنا.
وفي قراءة أبيِّ: " ما نعبدكم ". وفي قراءة ابن مسعود: " قالوا ما نعبدهم ".
6296
قال مجاهد: قريش تقوله للأوثان. قال قتادة: قالت قريش: ما نعبدهم إلا ليشفعوا لنا عند الله، وهو قول ابن زيد.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، أي: يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من عبادة الأوثان.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾، أي: لا يهدي إلى الحق من هو مفتر على الله الكذب كافر لنعمته.
ثم قال: ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾، أي لو أراد الله اتخاذ ولد - ولا ينبغي له ذلك - لاختار من خلقه ما يشاء.
﴿سُبْحَانَهُ﴾، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد.
﴿هُوَ الله الواحد﴾، أي: المنفرد بالألوهية، لا شريك له في ملكه. ﴿القهار﴾ لخلقه بقدرته.
ثم قال تعالى: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾، أي ابتدع ذلك بالعدل.
﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل﴾ قال ابن عباس: يحمل هذا على هذا (وهذا على هذا).
وقال قتادة: يغشي هذا على هذا.
6297
وقال السدي: يذهب هذا بهذا وهذا بهذا، هو قول ابن زيد.
وقال أبو عبيدة: هو مثل: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ [الحج: ٦١].
وأصل التكوير في اللغة: اللف والجمع.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾، أي: سخر ذلك لعباده ليعلموا عدد السنين والحساب، ويتصرفوا في النهار لمعايشهم ومصالح أمورهم، ويسكنون في الليل.
ثم قال: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى قيام الساعة فتكور الشمس وتنكدر النجوم.
وقيل: المعنى: إن لكل واحد منازل لا يعدوها في جريه ولا يقصر دونها.
ثم قال تعالى: ﴿أَلا هُوَ العزيز الغفار﴾: أي: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه بهذه النعم هو العزيز في انتقامه مما عاداه، الغفار لذنوب التائبين من عباده.
ثم قال تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، أي: من آدم عليه السلام وخلق حواء من ضلعه.
6298
وإنما ذكر الخلق قبل حواء وهي قبلهم في الخلق، لأن العرب ربما أخبرت عن رجل بفعلين. فترد الأول منهما على المعنى " بثم " إذا كان من خبر المتكلم يقال: قد بلني ما كان منك اليوم ثم بما كان منك أمس أعجب.
وقيل معناه: " ما روي عن النبي ﷺ إن الله جل ذكره لما خلق آدم مسح ظهره وأخرج كل نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة ثم أسكنه بعد ذلك الجنة، (فخلق بعد ذلك) حواء من ضلع من أضلاعه ".
وقيل المعنى: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها. ثم قال
6299
تعالى: ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ وهي المفسرة في سورة الأنعام: الإبل والضأن والمعز والبقر كل زوجين ذكر وأنثى.
وإنما أخبر عنها بالنزول، لأنها إنما نشأت وتكونت بالنبات، والنبات إنما نشأ وتكوّن بالمطر، فالمطر هو المُنْزَلُ، فأخبر عما اندرج وتكوّن منه بالإنزال. وهذا من التدريج وله نظائر كثيرة، ومنه قوله: ﴿يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً﴾
[الأعراف: ٢٦] فاللباس لم ينزل لكنه تكوّن عما نبت بالمطر الذي هو مُنْزَلٌ، فسمي ما تكوَن عن المطر: منزل.
ثم قال ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾، / أي: يبتدئ خلقكم في بطون أمهاتكم نطفه ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، هذا قول جماعة المفسرين إى ابن زيد فإنه قال: معناه: يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد الخلق الأول في الأصلاب.
وقوله: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾، يعني به ظُلْمَةُ البطن وظلمة الرحم وظلمة
6300
المَشِيمَةِ، هذا قول جميع المفسرين إلا أبا عبيدة فإنه قال: هي ظلمة الصلب ثم ظلمة الرحم ثم ظلمة البطن.
ثم قال: ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ﴾ ذا: إشارة إلى اسم الله جلّ ذكره، والكاف والميم للمخاطبة.
والمعنى: الذي فعل هذه الأشياء الله ربكم لا الأوثان التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع.
﴿لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ﴾، أي: لا ينبغي أن يكون معبوداً سواه، له ملك كل شيء.
﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾، أي: كيف تُصْرَف عقولكم عن هذا ومن أين تعدلون عن الحق بعد هذا البيان.
ثم قال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾.
قال ابن عباس: هو خاص (عنى به الكفار الذين) لم يرد الله أن
6301
يطهر قلوبهم.
وقوله: ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾، أي: لعباده الذين أخلصهم لطاعته وحبّب إليهم الإيمان.
وقيل: هو عام للجميع وهو الاختيار، إذ ليس يرضى الله الكفر لأحد من خلقه.
فإن جعلت " يرضى " بمعنى: يريد حسن القول الأول، وفيه نظر.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، أي: إن تطيعوه يرضه لكم.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾، أي: لا يحمل أحد ذنباً عن أحب، ولا يؤخذ أحد بذنب أحد.
ثم قال تعالى ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ﴾، أي: مصيركم إليه في الآخرة فيخبركم بما كنتم تعلمون في الدنيا من خير وشر فيجازيكم عليه، ولا يخفي عليه من أمركم شيء.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾، أي: عليم بما أضمرتم في الصدور وغير ذلك مما ظهر وبطن، فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم بل يجازيكم بها: المحسن بالإحسان، والمسيء بما يستحقه ويجب عليه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ﴾ - إلى قوله - ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
6302
أي: إذا مس الإنسان ضرّ في بدنه أو شدة أو ضيق استغاث بربه الذي خلقه في كَشْفِ ما نَزَلَ به، تائباً إليه مما كان عليه قبل ذلك من الكفر والشرك. قال قتادة: منيباً إليه: مخلصاً.
وقوله ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ﴾، أي: أعطاه عافية وفرجاً مما نزل به.
يقال لمن أعطي غيره عطية: قد خوّله كذا وكذا.
وقوله: ﴿نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾، أي: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به، و " ما " والفعل مصدر، والمعنى: ترك كون الدعاء منه إلى الله تعالى. ومن جعلها بمعنى " الذي " جعل " ما " لمن يعقل فيكون لله سبحانه.
والمعنى: ترك ما كان يدعو الله من قَبْلِ كَشْفِ الضُّر عنه.
ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾، أي: شركاء. قال السدي: هذا كله في الكافر خاصة.
6303
قال السدي: الأنداد هنا من الرجال يطيعونهم في معاصي الله جلّ ذكره. وقيل: الأنداد: الأوثان.
ثم قال: ﴿لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ﴾ من ضم الياء، فمعناه: فعل ذلك ليزيل الناس عن توحيد الله سبحانه والإقرار به والدخول في دينه، ومن فتح الياء، فمعناه: ليَضِلَّ في نفسه عن دين الله سبحانه.
والتقدير: إنه لما كان أمره لعبادة الأوثان يؤول إلى الضلال كان كأنه إنما فعل ذلك ليصير ضالاً. وقد تقدم شرح هذا بأبين من هذا.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾، أي: قل يا محمد لهذا الكافر (لنعم الله) تمتع بكفرك إلى أن تستوفيَ أجلك إنك في الآخرة ما الماكثين في النار.
وهذا لفظ معناه التهدد والوعيد، مثل قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
6304
وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: ٢٩].
ثم قال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً﴾ من خفف " من " جعله نداء أو رفعه بالإبتداء، ويكون الخبر محذوفاً. والتقدير: أهذا أفضل (أومن) جعل لله أنداداً.
ومن شدد ف " من " في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف على ما قدمنا في التخفيف.
وقيل: التقدير: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت لأنه ذكر من جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله.
ثم قال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾، أي: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت؟ ودل على
6305
ذلك قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩].
وقيل: " أم " بمعنى / الألف، كأنه قال: أمن هو قانت، ويكون الجواب مضمراً بعده كأنه قال: أم من هو قانت كمن مضت صفته من الكفار. قال ابن عباس: القنوت هنا: قراءة القرآن.
وآناء الليل: ساعاته، واحدة، أني كمعي وفيه وجوه قد تقدم ذكرها.
وقيل القنوت: الطاعة، وهو أصله.
وروى الخدري أن النبي ﷺ قال: " كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله تعالى ".
6306
وروى جابر أن النبي ﷺ سئل: " أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. فتأوله جماعة من أهل العلم أنه طول القيام ".
وسئل ابن عمر عن القنوت، فقال:: " ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن.
وقال مجاهد: من القنوت: طول الركوع، وغض الطرف.
ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وعن ابن عمر: إنها نزلت في عثمان رضي الله عنهـ.
وكانوا يستحبون حسن الملبس في الصلاة.
6307
روى نافع أن ابن عمر قال له: قم فصل. قال نافع: فقمت أصلي - وكان عليّ ثوب خلق - فدعاني ابن عمر فقال لي: أرأيتك لو وجهتك في حاجة وراء الجدار، أكنت تمضي هكذا؟! قال: فقلت: كنت أتزين! قال: فالله جل وعز أجل أن يتزين له!!.
قوله: ﴿سَاجِداً وَقَآئِماً﴾، أي: يقنت ساجداً أحياناً وقائماً أحياناً ﴿يَحْذَرُ الآخرة﴾.
أي: عذاب الآخرة.
﴿وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، أي: يرجو أن يرحمه ربه فيدخله الجنة.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾. أي: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذي يعلمون ما لهم في طاعة الله تعالى من الثواب وما عليهم في معصيته من العقاب، والذين لا يعلمون ذلك.
يعني: من يؤمن بالبعث والحساب والجزاء والذين لا يؤمنون بذلك. فالمعنى: لا يستوي المطيع والعاصي.
وقيل: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم، والذين لا يعلمون هو من لا ينفع بعلمه، ومن لا علم عنده.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب﴾، أي: إنما يعتبر حجج الله تعالى فيتعظ بها
6308
ويتدبرها أصحاب العقول والبصائر.
ويقف القارئ على " رحمة ربه " إن شدّد الميم، لأن الخبر المحذف مقدر قبل " قل هل ".
ومن خفف وجعل " من " مرفوعة بالابتداء وقف أيضاً على " ربه " ويقدر الخبر أيضاً محذوفاً قبل " قل هل ".
ومن جعله نداء لم يقف على " ربه "، لأن " قل هل " متصل بالمنادي.
والمعنى: يا من قانت قل هل، فإن قدرت محذوفاً تتم به فائدة النداء، وقفت على " ربه ".
والتقدير: " يا من هو قانت أبشر، ثم تبتدئ قل هل ".
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ﴾.
روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر: " يا عبادي " بياء مفتوحة.
6309
والمعنى: قل يا محمد لعبادي المؤمنين: يا عباد الذين آمنوا، أي: صدقوا بالله ورسوله.
﴿اتقوا رَبَّكُمْ﴾، أي: اتقوه بطاعته واجتناب معاصيه.
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب (الطيّار في الجنة) وأصحابه من المؤمنين لما قيل لهم: ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾، خرجوا مهاجرين من مكة إلى أرض الحبشة، وقيل لهم: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، يعني: الصابرين على دينهم يفرّون به من بلد إلى بلد.
ثم قال: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾، أي: للذين أطاعوا الله في الدنيا، حسنة في الدنيا وهي العافية والصحة، قاله السدي.
وقيل: الحسنة التي لهم في الدنيا: موالاة الله إياهم وثناؤه عليهم.
وقيل: المعنى: للذين أطاعوا الله فيالدنيا حسنة في الآخرة، وهي الجنة.
وقوله: ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾، يعني: أرض الجنة.
6310
وقيل: المعنى: أرض الدنيا واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى أرض السلام.
قال مجاهد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: ٥٦] أي: أرض الدنيا واسعة فهاجروا واعتزلوا الأوثان.
وقيل: المعنى: أرض الجنة واسعة لمن طلبها وعمل لها.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، أي: إنما يعطي الله أهل الصبر على طاعته أجرهم في الآخرة بغير حساب.
قال قتادة: ما هناكم مكيال ولا ميزان، وقال السدي: ذلك في الجنة.
قال مالك، " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها، وقد بلغني أن الصبر من / الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ".
" وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
6311
فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية: قال النبي ﷺ: رب زد أمتي. فنزلت: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ﴾ فقال النبي ﷺ: يا رب زد أمتي، فنزلت: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ".
وقيل: " بغير حساب ": بغير تقدير.
وقيل: المعنى، يزاد في أجره بغير مطالبة على ما أعطي كما يطالب بالشكر على نعيم الدنيا.
ويقال: (فلان صابر): إذا صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المصيبة، قلت: صابر على كذا.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾، أي قل يا محمد لقومك: إن الله أمرني أن أخلص له العبادة والطاعة، ولا نشرك في عبادته أحداً من أوثانكم وآلهتكم ولا من غيرها.
﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين﴾، أي: وأمرني الله لأن أكون أول من أسلم
6312
منكم، وأخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة.
واللام في " لأن " تدل على محذوف تقديره: وأمرت بذلك لأن أكون أول من أسلم.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، يعني: يوم القيامة - أي، إن عصيته فيما أمرني به عذبني.
قوله تعالى ذكره: ﴿قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي﴾ - إلى قوله - ﴿لأُوْلِي الألباب﴾، أي: قل يا محمد لقومك: أعبد الله مخلصاً له عبادتي لا أشرك في عبادتي له، بل أفرده بالعبادة من الأنداد والشركاء.
ثم قال: ﴿فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ﴾، هذا تهدد أيضاً ووعيد.
والمعنى: اعبدوا ما أحببتم ستعلمون وبال عاقبة عبادتكم إذا لقيتم ربكم وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾، (أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الخاسرين في الحقيقة هم الذين خسروا) أنفسهم
6313
بإيرادهم إياها في العذاب الجائم، وخسروا أهليهم، فليس لهم أهل.
قال ابن عباس: هم الكفار، خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فخسروا الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس أنه قال: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجه في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله، وكذلك قال قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿لْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾، أي: ألا إن خسارة هؤلاء المشركين (لأنفسهم وأهلهم) يوم القيامة، هو الخسران الظاهر.
ثم قال تعالى: ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أي: لهؤلاء في جهنم ما يعلوهم مثل الطفل، وما يسفل عنهم مثل الظل، وهو مثل قوله: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١].
وقيل: هو توسع، أصل الظلة: ما كان من فوق دون ما كان من أسفل.
6314
وقيل: إنما سمى ما تحتهم: ظلل لأنها ظلل لمن تحتها ففوقهم ظلل لهم، وهي ظلل لمن فوقهم أيضاً سمين لمن هو فوقهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم.
وقيل: إنما سمي الأسفل باسم الأعلى، على نحو قوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] سمي المجازي به باسم الأول، كذلك سمى الأسفل باسم الأعلى على طريق المجازاة لما كان الأسفل ناراً مثل الأعلى سمي باسمه لأنه كله نار يحادي الأخرى.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾، أي: هذا الذي أخبرتم به أيها الناس يخوّف الله به عباده ويحذرهم به.
﴿ياعباد فاتقون﴾.
روى عصمة أن أبا عمرو أثبت الياء في " يا عبادي " ساكنة، وروى
6315
عياش بفتح الياء.
والمعنى: يا عباد فاتقون بأداء الفرائض واجتناب المحارم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾، أي: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله.
وقيل: هو إبليس اللعين.
قال الأخفش: " الطاغوت جمع. ويجوز أن يكون واحدة مؤنثة وقال الزجاج: الطاغوت: الشياطين.
ويروى أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف
6316
وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم لما آمن أبو بكر بالنبي ﷺ وصدّقه أتاه هؤلاء فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا وصدقوا، فنزل فيهم: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ الآية.
ونزل فيهم:
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
قال مالك: الطاغوت: (ما يعبد) من دون الله.
6317
ثم قال تعالى: ﴿وأنابوا إِلَى الله﴾، أي: تابوا ورجعوا عن معاصيه وأجابوا داعيه.
لهم البشرى: قال السدي: لهم البشرى ف الدنيا بالجنة في الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
روى أبو عبد الرحمن وأبو حمدون عن اليزيدي " عباديَ " بياء مفتوحة في الوصل، وبغير ياء في الوقف اتباعاً للخط، وحكى ذلك أيضاً ابن واصل عن اليزيدي، (وكذلك حكى إبراهيم بن اليزيدي (وابن
6318
سعدان) كلاهما عن اليزيدي).
ولم يذكر ابن سعدان الوقف ولا إبراهيم.
وأنكر أبو عبد الرحمن الوقف بغير ياء، وقال: لا بد من الوقف بالياء لتحركها.
وقد روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر " عباديَ " بياء مفتوحة.
ومعنى الآية: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده وأهداه إلى الحق وأدله على توحيد الله تعالى والعمل بطاعته.
وقال السدي: معناه: فيتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به.
وقال الضحاك: القول هنا: القرآن.
6319
ومعنى: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، أي: يتبعون ما أمر الله به الأنبياء من طاعته فيعملون به أي: يستمعون العفو عن الظالم والعقوبة، فيتبعون العفو ويتركون العقوبة وإن كانت لهم. وإنما نزل ذلك فيما وقع في القرآن في الإباحة فيفعلون الأفضل مما أبيح لهم فيختارون العفو على القصاص والصبر على الانتقام اقتداء بقوله تعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣].
وقيل: المعنى: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
ثم قال: ﴿أولئك الذين هَدَاهُمُ الله﴾، أي: وفقهم الله للرشاد وإصابة الحق ﴿ائك هُمْ أُوْلُواْ الألباب﴾، أي: العقول. وَلَبَّ كل شيء: خالصه.
وروي أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدّوا الله وتبروا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث النبي ﷺ وهم فيما روى زيد بن أسلم: زيد بن عمرو بن
6320
نفيل وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله.
فيكون المعنى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم وأنابوا إلى الله سبحانه، أي: رجعوا إلى توحيد الله تعالى.
وقوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، هو: لا إله إلا الله.
﴿أولئك الذين هَدَاهُمُ الله﴾، أي: أرشدهم بغير كتاب ولا نبي.
وقوله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ تمام عند أبي حاتم وغيره، لأنه رأس آية.
ورفع " الذين " بإضمار رافع، أو بنصبهم على إضمار ناصب.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ أي: أفأنت
6321
تنقذه.
ودخلت الألف في الخبر للتأكيد.
وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب يتخلص أو ينجو، أي: أفمن سبق في علم الله أنه يدخل النار ينجوا أو يتخلص.
قال قتادة معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب بكفره أفأنت يا محمد تنقذه من العذاب.
وقيل: هو جواب لقصة محذوفة، كان النبي ﷺ، دعا لقوم من الكفار أن يرزقوا الإيمان. فقيل له: أفتدعو لمن حق عليه العذاب، أفأنت تنقذ من في النار.
ثم قال: ﴿لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾، أي: اتقوه بأداء فرائضه واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف ﴿فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾.
قال الزجاج: معناه: لهم في الجنة منازل رفيعة فوقها منازل أرفع منها.
﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾، أي: من تحت أشجارها.
ثم قال تعالى: ﴿وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد﴾، أي: وعد الله ذلك وعداً.
وسيبوية يسميه مصدراً مؤكداً بمنزلة: صنع الله وكتاب الله.
6322
وأجاز أبو حاتم الوقف على " الأنهار " وهو غير جائز على مذهب سيبويه لأن ما قبل " وعد " يعمل فيه لقيامه مقام العامل.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض﴾، أي: أنزل من السماء مطراً فأجراه عيوناً.
قال الحسن: هو العيون، وقال الشعبي: كل عين في الأرض من السماء نزل ماؤها.
وقيل، المعنى: أنزل من السماء مطراً فأدخله في الأرض فجعله البنابيع، أي: عيوناً.
والمعنى / كالأول سواء، وواحد الينابيع ينبوع.
ثم قال ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾، أي: يخرج بالماء أنواعاً من الزرع من بين شعير وحنطة وسمسم وأرز ونحو ذلك من الأنواع، هذا قول الطبري واختياره.
وقال غيره: معنى مختلفاً ألوانه: أخضر وأسود وأصفر وأبيض.
6323
وقوله: ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾، أي: يجف عند تمامه.
قال الأصمعي: يقال للنبات إذ تمّ، قد هاج يهيج هيجاً.
وحكى المبرد عنه: هاجت الأرض تهيج إذا إدبر نبتها وولّى.
وقوله: ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾، أي: قد يبس فصار أصفر بعد خضرته ورطوبته..
﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً﴾، أي: فتاتاً، يعني: تبن الزرع والحشيش.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب﴾، أي: إن في فعل ذلك والقدرة عليه لتذكرة وموعظة لأصحاب العقول فيعلمون أن من قدر على ذلك لا يتعذر عليه ما شاء من إحياء الموتى وغير ذلك.
قوله تعالى ذكره: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾ - إلى قوله - ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
في هذه الآية حذف واختصار لدلالة الكلام عليه على مذاهب العرب.
والتقدير: أفمن شرح الله صدره فاهتدى، كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته. ثم بيّن ذلك بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾، أي: عن ذكر الله تعالى فلا يثبت ذكر الله سبحانه فيها.
وقيل: الجواب والخبر: ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾.
وقوله: ﴿فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ معناه: على بصيرة ويقين من توحيد ربه.
6324
ويروى أن قوله: ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ نزلت في حمزة وعليّ رضي الله عنهـ.
وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله﴾ نزلت في أبي لهب وولده قال قتادة: ﴿فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾، يعني به: كتاب الله تعالى، المؤمن به يأخذ وإليه ينتهي.
" وروي أن أصحاب النبي ﷺ قالو له: " أَوَ يَنْشَرِحُ القَلْبُ "!؟
قال: نَعَمْ. إذاَ أَدْخَلَ الله فِيهِ النُّورَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ.
قالوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مشنْ عَلاَمَةٍ تُعْرَف؟
قال: نَعَمْ، التَّجَافي عَنْ دَارِ الغُروُرِ، وَالإِنَابَةِ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ المَوْتِ ".
قال المبرد، يقال: (قسا وعتا) إذا صلب، وقلب قاس لا يلين ولا يرق.
فالمعنى: فويل للذين جَفَتْ قلوبهم عن قبول ذكر الله تعالى وهو القرآن فلم
6325
يؤمنوا به ولا صدّقوه.
قال الطبري: " مِنْ " هنا، بمعنى: " عن "، أي: عن ذكر الله.
فيكون المعنى: غلظت قلوبهم وصلبت عن قبول ذكر الله.
وقيل: " من " على بابها.
والمعنى: كلما تلي عليهم من ذكر الله قست قلوبهم.
ثم بين حالهم فقال: ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾، أي: في ضلال عن الحق ظاهر.
ومن جعل جواب: ﴿أَفَمَن شَرَحَ﴾ محذوفاً وقف على ﴿نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾.
ومن جعل الجواب: ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ﴾ لم يقف عليه.
ثم قال: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾، أي: يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه ولا تضاد، هذا قول قتادة والسدي.
وقال ابن جبير: يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً ويدل بعضه على بعض.
6326
وقوله: ﴿مَّثَانِيَ﴾ معناه: ثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام والحجج.
وقال الحسن وعكرمة: " ثنى الله تعالى فيه القضاء ".
وقال قتادة: ثنى الله فيه ذكر الفرائض والقضاء والحدود.
وقال ابن عباس: ثنى الله تعالى ( الأمر فيه) مراراً.
وقيل: مثاني: ثنى فيه ذكر العقاب والثواب والقصص.
وقيل: المثاني، كل سورة فيها أقل من مائة آية أي: ثنى في الصلاة.
ثم قال تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، أي: تقشعر من سماعه إذا تلي وذكر فيه العذاب والعقاب خوفاً وحذراً.
وقوله: ﴿رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله﴾، أي: إلى العمل بما في كتاب الله تعالى والتصديق به.
وقيل: تلين إلى ذكر الثواب والرحمة والمغفرة، وتقشعر إلى ذكر (العقاب والعذاب).
6327
روى ابن عباس أن أصحاب النبي ﷺ قالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا. فنزلت: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ﴾ الآية.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى الله﴾، أي: ما يصيب هؤلاء القوم من اقشعرار جلودهم عند سماع العقاب ولينها عند سماع الثواي هو هدى الله / وفقهم لذلك.
﴿يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ﴾، أي: يهدي بالقرآن من يشاء.
وقيل: ذلك هدى الله إشارة إلى القرآن، فيكون المعنى: ذلك القرآن بيان الله يوفق به من يشاء.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، أي: من يخذل الله عن التوفيق فما له من موفق.
وقوله: (مثاني) وقف إن قطعت " تقشعر " مما قبله.
وإن جعلته نعتاً " للكتاب " لم يجز الوقف على " مثاني ".
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة﴾ " من " بمعنى " الذي مرفوعة بالابتداء والخبر محذوف.
والتقدير عند الأخفش: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل، أم من يتقيه.
6328
وقيل: التقدير: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب خير أم من ينعم في الجنان.
وقيل: التقدير: كمن يدخل الجنة، وقيل: التقدير: كمن هداه الله فأدخله الجنة، وقيل: التقدير: كمن لا يصيبه العذاب.
وهذه المعاني كلها قريب بعضها من بعض وإن اختلفت الألفاظ.
(وقيل معنى) الآية: أفمن يرمي به مكبوباً على وجهه في جهنم.
قال مجاهد: " يجر على وجهه النار ".
وقيل: المعنى: إنه ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمي به فيها. فأول ما تمس النار وجهه، روى ذلك عن ابن عباس.
وقيل: يرمي بالكافر في النار مغلولاً فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه.
وقيل: الإتقاء في هذا بمعنى الاستقبال كرهاً.
6329
وخصّ الوجه لأنه أعز ما في الإنسان على الإنسان وفيه الحواس الخمس.
تقول العرب: اتقيت فلاناً بحقه، أي: استقبلته به.
وقد كان الإنسان في الدنيا يتقي عن وجهه السوء بجميع جوارحه لشرفع وعزته عليه. فأعلمنا الله تعالى أن الوجه هو أعز الجوارح به يتقي الكافر سوء العذاب يوم القيامة، فما ظنك بجميع الجوارح التي هي دون الوجه، أعاذنا الله من ذلك ونجّانا منه.
ثم قال تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾، أي: وقيل للظالمين أنفسهم ذوفوا عذاب عقاب كسبكم في الدنيا معاصي الله سبحانه. وهذا فعل ماض عُطِفَ، وليس قبله ما يُعْطَفُ عليه، لكنه محمول على المعنى والحكاية. والتقدير: ويقال ذلك يوم القيامة.
ثم قال: ﴿كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي: كذبت الأمم رسلهم من قبل هؤلاء المشركين فجاءهم عذاب الله من حيث لا يعلمون بمجيئه.
﴿فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا﴾، أي: عجّل لهم الهوان والعذاب في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله إياهم في الآخرة أكبر من العذاب الذي نالهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ذلك.
والخزي، أصله: المكروه، وهو أشد الهوان وأبلغه.
قال المبرد: " يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،
6330
أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما ".
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾، أي: ولقد مثلنا للناس، يعني: المشركين في هذا القرآن من كل مثل من مثال القرون الخالية تخويفاً وتحذيرا ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ فيرجعون عمّا هم عليه من الكفر والشرك.
ثم قال: ﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾.
نصب " قرآناً " عند الأخفش على الحال.
وقال علي بن سليمان: " عربياً " هو الحال، " وقرءاناً " توطئة للحال (كما تقول مررت بزيد رجلاً صالحاً، " فصالح " هو المنصوب على الحال ورجلاً توطئة للحال).
6331
قال الزجاج: " عربياً ". منصوب على الحال، " وقرآناً " توكيد.
وقوله: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾. قال مجاهد: معناه، " غير ذي لبس "
وقال الضحاك غير مختلف.
وقال ابن عباس: غير مخلوق.
ثم قال: ﴿لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي: يتّقون ما حذّرهم الله تعالى من بأسه وعذابه.
قوله (تعالى ذكره): ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ﴾ - إلى قوله - ﴿بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
هذا مثل للمؤمن والكافر، فالكافر يعبد أرباباً كثيرة مختلفين من الشياطين والأصنام. فهو بينهم مقسم وجميعهم مشتركون فيه.
والمؤمن يعبد الله وحده لا شرك لأحد فيه، قد تسلم له عبادته فهو سالم من الإشراك.
6332
قال الفراء: متشاكسون: مختلفون: هذا معنى قول قتادة وهو قول ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك هو مثل للحق والباطل، والشركاء: الأوثان.
قال الزجاج: ضرب هذا المثل لمن وحد الله تعالى ( ولم يجعل معه شريكاً).
فالذي وحّد الله / مثله مثل السالم لرجل لا يشركه فيه غيره.
ومثل الذي عبد غير الله مثل صاحب الشركاء المتشاكسين، أي: المختلفون العسرون.
وحكى المبرد: متشاكسون: متعاسرون، من شكس يشكُسُ وهو شَكِسٌ، مثل عَسُرَ يَعْسُرُ فهو عَسِرٌ. يقال: رجل شَكِسُ أي: عسير لا يرضى بالإنصاف.
وقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾، أي: هل يستوي من يخدم جماعة هم فيه شركاء قد اختلفت مراداتهم فيلقى من (التعب والنصب ما لا قوام) له به من غير أن يبلغ
6333
ضى الجميع، أو الذي يخدم واحداً لا ينازعه فيه منازع، إذا أطاع عرف موضع طاعته فأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه.
فالمعنى: أي هذين أحسن حالاً وأروح جسماً.
قال ابن عباس: هل يستويان مثلاً، أي: هل يستوي من اختلف فيه ومن لم يختلف فيه.
ثم قال ﴿الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: الشكر لله كله والحمد كله له دون من سِواه، بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الفرق بين من فيه أرباب مشتركون ومن ليس له إلا رب واحد. فلجهلهم يعبدون آلهة شتى.
ومعنى: ضرب الله مثلا " (مَثَّلَ الله مثلاً).
وقال " مثلاً " ولم يقل " مثلين " لأنهما كليهما ضرباً مثلاً واحداً فجرى المثل فيهما بالتوحيد لذلك كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠].
ولم يقل آيتين إذ كان معناهما واحداً في الآية.
6334
ثم قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾، أي: إنك يا محمد ستموت عن قليل، وإن هؤلاء المكذبين من قومك والمؤمنين منهم سيموتون.
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾، (قال ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال).
وقال ابن زيد وابن جبير: يختصم أهل الإسلام وأهل الكفر.
وقال ابن عباس: بلغ من الخصومة يوم القيامة حتى إن الروح ليخاصم الجسد. فيقول الروح: رب، هذا الذي عمل العمل فخلد عليه العذاب.
فيقول الجسد: رب، وما كنت أنا، به كنت أبسط، وبه كنت أقبض، وبه كنت أعمل، وبه كنت أقوم وأقعد، فخلد عليه العذاب.
فيقال لهما: أرأيتما لو أنّ اعمى وصحيحاً دخلا حائطاً مثمراً، فقال البصير: لا أَنَالُهُ. فقال الأعمى: أنا أحملك على عنقي (حتى تناله فتأخذ): فحمله حتى أخذ من التمر، فأكلا جميعاً، على من يكون العذاب؟ فيقول: عليهما جميعاً!.
6335
وعن النبي ﷺ أنه قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ ".
وقيل: هو اختصام أهل الإسلام فيما بينهم.
وروي عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية (وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وقال النخعي: لما نزلت هذه الآية) قالوا ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان؟
قال: فلما قتل عثمان رضي الله عنهـ قالوا: هذه خصومتنا بيننا.
6336
قال: أبو العالية: هم أهل القبلة يختصمون يوم القيامة في مظالم بينهم.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال في الآية: " يَخْتَصِمُونَ في الدِّمَاءِ في الدِّمَاءِ " قاله مرتين).
" وروي عن الزبير أنه قال: يا رسول الله، أنختصم يوم القيامة بعدما كان بيننا؟ قال: " نعم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ". قال الزبير: إن الأمر إذن لشديد ".
وفي الحديث المسند: " أول ما تقع فيه الخصومات الدماء ".
وقوله: " مثلاً " تمام عند أبي حاتم وغيره.
6337
وليس ذلك بمختار لأن الممثل به لم يذكر بعد فهو متصل بما قبله.
وقيل: إن " مثلاً " تقديره أن يكون مؤخراً بعد " سلما لرجل "، أي: ضرب الله هذا مثلاً وفي الكلام حذف، والتقدير: ضرب الله مثلاً لمن أشرك به غيره.
وقوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾: المثل في هذا بمعنى الصفة كما قال: ﴿مَّثَلُ الجنة﴾ [الرعد: ٣٥]، أي: صفة الجنة.
ثم قال تعالى ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له ولداً وصاحبة.
و" من " استفهام، معناه: الجحد، أي: لا أحد أظلم منه.
﴿وَكَذَّبَ بالصدق﴾، أي: بالقرآن وبمحمد ﷺ إذ جاء رسولاً.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾، أي: أليس فها مأوى ومسكن لمن كفر بالله تعالى ورسله صلوات الله عليهم، ومتبه بل فيها مأوى ومسكن لهم.
ثم قال تعالى: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ " الذي " هنا واحد يدل على الجمع.
وقيل: كان أصله: " الذين "، فحذفت النون لطول الاسم.
وقيل: " الذي " للواحد وهو النبي ﷺ، جاء بـ " لا إله إلا الله " وصدق
6338
بذلك: هذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد: جاء محمد بالقرآن وصدّق به، وقال الشعبي.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: الذي جاء بالصدق رسول الله ﷺ وصدّق به أبو بكر رضي الله عنهـ.
وقال قتادة: الذي جاء بالصدق رسول الله ﷺ جاء بالقرآن والإسلام وصدّق به يعني المؤمنين، وكذلك قال ابن زيد وقال السدي: الذي) جاء بالصدق: جبريل ﷺ، جاء بالقرآن من عند الله وصدّق به، يعني: محمداً ﷺ.
وقال مجاهد: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ هم: المؤمنون يجيئون بالقرآن يوم القيامة، يقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه ".
وعن مجاهد أيضاً: (والذي جاء بالصدق) يعني ﷺ " وصدق به "
6339
يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ، وقيل: هو أبو بكر رضي الله وأصحابه.
فمن جعله لجماعة استدل بقوله: ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾.
ومن جعله لواحد حسن عنده (أولئك) بعد الواحد، لأن الجليل القدر يخير عنه بلفظ الجماعة.
وقرأ أبو صالح: (وصدق به) بالتخفيف، (يعني به النبي ﷺ.
والباء بمعنى: في. والمعنى: جاء بالقرآن وصدق فيه.
واختار الطبري أن يحمل على العموم، فيكون معنى: والذي جاء بالصدق كل من دعا إلى توحيد الله تعالى والعمل بطاعته، ويكون الصدق: القرآن والتوحيد
6340
والشرائع، والمصدق: المؤمنون والأنبياء وغيرهم من جميع من صدق به.
ودل على هذا العموم ما قبله من العموم في قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق﴾ فهذا عام في جميع المكذبين بالقرآن والتوحيد والشرائع، وفي جميع الكاذبين على الله سبحانه فكذلك يجب أن يكون التصديق عقيبه عاما في جميع المصدقين والصادقين فيترتب الشيء وضده على نظام واحد لأن الذين كانوا عند بعث النبي ﷺ قوم مكذبون لما أتاهم به كاذبون على الله سبحانه، ثم أعقبهم ممن آمن قوم مصدقون بما أتى به النبي ﷺ صادقون في قولهم.
وفي قراءة ابن مسعود: " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به بالجمع.
ثم قال تعالى ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يعني، يوم القيامة لهم ما تشتهيه أنفسهم.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين﴾، ذلك: إشارة إلى قوله: لهم ما يشاءون.
والكاف في " ذلك " للنبي ﷺ، أي: هذا الذي لهم عند ربهم جزاء كل محسن في الدنيا بطاعة الله تعالى.
ثم قال: ﴿لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ﴾، أي: فعل بهم ذلك لكي يكفر عنهم أسوأ ما عملوا في الدنيا مما بينهم وبين ربهم ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ﴾، أي: في الآخرة.
﴿بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا (لا بأسوئه).
6341
قوله تعالى ذكره: ﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ - إلى قوله - ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، أي أليس الله بكاف محمداً ﷺ أمر أعداء المشركين.
قال مجاهد: بكافيه الأوثان.
وروي أنهم قالوا للنبي ﷺ: لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنأمرنها فتخبلك.
فالمعنى: يخوفك يا محمد هؤلاء المشركون بالأوثان أن تصيبك بسوء، ألي الله بكافيك؟! أي: هو كافيك ذلك.
ومن قرأ " عباده " بالجمع أدخل فيه النبي ﷺ ومن تقدمه من الأنبياء صلوات الله عليهم الذين توعدتهم أممهم بمثل ما توعدت به أمة محمد محمداً ﷺ.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حيثن قرأ النبي ﷺ سورة " والنجم " عند باب الكعبة.
ثم قال تعالى ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾، أي: من
6342
يخذل الله فيضله عن طريق الحق فما له سواه من مرشد، ومن يوفقه الله إلى طريق الحق فماله من مضل.
ثم قال تعالى ﴿أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام﴾، أي: أليس الله يا محمد يعزيز في انتقامه ممن / كفر به، ذي انتقام منهم.
ثم قال: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾، (أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين منْ خلق السماوات والأرض ليقولن الله) خلقهن، فإذا أقروا بذلك فقل لهم يا محمد: أفرأيتم هذه الألهة التي تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرّ، أي: سقم أو شدة في معيشتي هل هن كاشفات عني ما أصابني، وإن أرادني الله تعالى برحمة، أي بصحة وَسَعَةٍ في الرزق هل هن ممسكات عني ما أعطاني.
والجواب في هذا محذوف لعلم السامع بالمعنى.
والتقدير: فإنهم سيقولون لا نقدر على شيء من ذلك، فإذا قالوا ذلك فقل يا محمد حسبي الله، أي: كافيِي الله مما سواه من الأشياء.
﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾، أي: من هو متوكل فليتوكل عليه لا بغيره.
وقال قتادة: ولئن سألتهم من خلق السماوات، يعني:
6343
الأصنام فيكون المسؤول في هذا القول: الأصنام. والقول الأول عليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ معنى الكلام التهدد والوعيد، أي: اعلملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه مثل قوله: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩].
وقال مجاهد: معناه اعملوا على ناحيتكم، (أي: على) ناحيتكم التي اخترتموها وتمكنت عندكم، إني عامل على ناحيتي.
وقيل: المعنى إنى عامل على عمل من سلف من الأنبياء عليهم السلام قبلي.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي سوف تعلمون من يهان ويذل ممن يكرم وينعم إذا جاءكم بأس الله تعالى فيظهر لكم المحق منا من المبطل وهو معنى قوله: ﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾.
ثم قال تعالى ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق﴾، أي: أنزلناه تبياناً بالحق.
﴿فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ﴾، أي من آمن به واتبعه فلنفسه عمل، لأنه أكسب نفسه باتباعه الحق وإيمانه الفوز والرضى من الله تعالى والخلود في النعيم المقيم.
6344
ثم قال: ﴿وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾، أي: ومن جار على ما أنزل إليك فإنما يجُورُ على نفسه، لأنه أكسبها بكفره وجوره عن الحق العطب والخزي الدائم، والخلود في نار جهنم.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾، أي: ما أنت يا محمد على من أرسلناك إليهم برقيب ترقب أعمالهم وتحفظ أفعالهم، إنما أنت رسول وما عليك غير البلاغ المبين وحسابهم علينا، قال قتادة، والسدي: بوكيل: بحفيظ.
ثم قال تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (أي يقبض الأرواح عند فناء آجالها وانقضاء مدة حياتها ويقبض أيضاً التي لم تمت في منامها) كما يتوفى التي ماتت عند مماتها فيرسل نفس النائم ويمسك نفس الميت، فإذا جاء وقت أجل النائم قبض نفسه ولم يردها إليه.
قال ابن جبير: يقبض الله تعالى أرواح الأحياء النائمين وأرواح الموتى فتلتقي أرواح الأحياء وأرواح الموتى، ثم يرسل الله الأحياء النائمين، ويمسك أرواح الموتى.
6345
وعن ابن عباس أنه قال: يلتقي أرواح الموتى وأرواح النائمين فيتساءلون بينهم، ثم يمسك الله تعالى أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى أجل مسمى، وهو الموت.
قال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها، قال: وقد يكون توفيها نومها، فالتقدير عنده: والتي لم تمت، نومها: وفاتها.
وقال ابن جبير: معناه أن الله جل ذكره يجمع بين أرواح الأحياء والموتى، فيتعارف منهما ما شاء الله أن يتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها.
وقال السدي: يقبض الله تعالى روح النائم في منامه الأرواح بعضها بعضاً أرواح الموتى وأرواح النيام (فتلتقي فتسأل).
6346
قال فيخلي الله تعالى عن أرواح الأحياء فترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى - أي: إلى بقية آجالها - وتريد الأخرى أن ترجع فيحبس التي قضى عليها الموت، وهو قول ابن زيد.
وقال بعض أهل اللغة: النفس على معنيين: نفس التمييز، ونفس الحياة. ونفس التمييز هي من نفس الحياة وليس / نفس الحياة هي نفس التمييز لوجدنا النائم معه نفس الحياة ولا تمييز له.
فنفس التمييز ترتبط بنفس الحياة في حال وتفارقها في حال.
فتنفرد نفس الحياة، وليس تنفرد التمييز بالبقاء البتة في الجسد، وتنفرد نفس الحياة بالبقاء في البدن. فالتي تقبض عند النون هي نفس التمييز لا نفس الحياة، والتي تقبض عند الموت هي نفس الحياة، (فذهاب نفس الحياة) لا عودة بعده في الدنيا، وذهاب نفس التمييز له رجعة في الدنيا.
ونفس الحياة بها يكون التمييز والحركة والنفس، ونفس التمييز لا تكون إلا تابعة لنفس الحياة فهي جزء منها. ألا ترى أن التمييز يذهب والحياة والنفس والحركة
6347
باقية، ولو ذهبت نفس الحياة لم يبق (تمييز ولا نفس) ولا حركة. فالجملة نفس واحدة إلا أنها تنقسم في المنافع.
فصاحب هذا القول ينحو إلى أن النفس التي هي التمييز هي العقل، كأن التمييز هو العقل الذي تميز به الأشياء فهو مرتبط بالحياة، فسمي نفساً لارتباطه بالنفس والحياة.
وقيل: إن المعنى على هذا التأويل: الله يتوفى الأنفس حين موتها بإزاله أرواحها وتمييزها ويتوفى التي لم تمت في منامها بإزالة تمييزها دون حياتها، وهذا هو القول الذي قبله مختصراً.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، أي: في قبض الله تعالى نفس النائم وردّها عليه، وقبضه نفس الميت ومنها من الرد عليه، لَعِبَراً وعظات لمن تفكر وتدبر، وبياناً أن من فعل هذا يقدر على أن يحيى الموت إذا شاء.
ثم قال تعالى ذكره وجل ثناءه: ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ﴾، أي اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهتهم التي يعبدون (شفعاء) تشفع لهم عند الله.
6348
ثم قال: ﴿قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾، أي: قل لهم يا محمد: أتتخذونهم آلهة وإن كانوا لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً ولا يعقلون عنكم شيئاً.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾، أي: قل يا محمد: لله الشفاعة جميعاً فاعبدوه ولا تعبدوا ما لا يملك لكم شفاعة ولا غيرها.
﴿لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾، أي: له سلطان ذلك وملكه، فما تعبدون أيها المشركون داخل في ملكه وسلطانه فاعبدوا المالك دون المملوك، فإليه ترجعون بعد موتكم فيجازيكم على أعمالهم.
قال قتادة: أم اتخذوا من دون الله شفعاء، يعني: الآلهة. قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً يعني: لا يملكون الشفاعة.
قال مجاهد: قل لله الشفاعة جميعاً، أي: " لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ".
قوله تعالى ذكره: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت﴾ - إلى قوله - ﴿وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾، أي: إذا أفرد الله تعالى بالعبادة والذكر فقيل: لا إله إلا الله نفرت وانقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث.
﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ﴾، يعني: الأصنام.
﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، أي: يفرحون.
6349
عنى بذلك ما ألقى الشيطان على لسان النبي ﷺ في سورة " والنجم " إذ قرأ: تلك الغرانيق العلى ووإن شفاعتهم لترتجى.
قال قتادة: " اشمأزت، أي: كفرت واسكتبرت ".
وقال مجاهد: اشمأزت انقبضت وهو قول المبرد.
وقال مجاهد: وذلك يوم قرأ عليهم " والنجم " عند باب الكعبة.
وقال السدي: اشمأزت: نفرت، وهو قول أبي عبيدة.
ثم قال تعالى: ﴿قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة﴾، أي: قل يا محمد: يالله، يا خالق السماوات والأرض، يا عالم ما غاب وما ظهر.
6350
﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾، أي: تفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من تقبضهم عند توحيدك، واستبشارهم عند ذكر الأوثان وفي غير ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾، أي: كفروا بالله تعالى، ﴿ مَا فِي الأرض جَمِيعاً﴾ يعني: يوم القيامة.
﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ لفدو به أنفسهم لو قُبِل ذلك منهم، فكيف وهم لا يكون لهم شيء من ذلك يوم القيامة، ولو كان لهم لم يقبل منهم.
ثم قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾، (أي: وظهر لهؤلاء الكفار يوم القيامة من عذاب الله لم يكونوا يحتسبون) انه أعده لهم.
وقال مجاهد: معناه: أنهم علموا / أعمالاً توهموا (أنها حسنات، فإذا هي سيئات.
وقيل: معناه: أنهم " علموا أعمالاً توهموا) أنهم يتوبون قبل الموت منها فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة ".
وقيل: معناه أنهم توهموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم من الله دخول النار على ما قدموا.
وقيل: معناه أنهم عملوا أعمالاً توهموا أنها تنفعهم فأحبطها الشرك.
6351
قال محمد بن المنكدر: وعملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها تنجيهم (فإذا بها) قد أهلكتهم وأوبقتهم.
ثم قال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾، أي: وبدا لهم عقاب سيئات أعمالهم.
وقيل: المعنى: وظهر سيئات عملهم في كتبهم إذا أُعْطَوْهَا بشمائلهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: وجب عليهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزءون به إذا ذكر لهم، وخوفوا به تكذيباً له وإنكاراً.
ثم قال: ﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا﴾، أي: إذا أصابه بؤس وشدة دعا الله مستغيثاً به، فإذا خوّله نعمة منه وفرج عنه ﴿قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ﴾، أي: قال: إنما الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن على علم من الله بأني له أهل ومستحق لشرفي، ورضاه بعملي.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي بالتجارة والطلب وغير ذلك.
وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي، أي: إذا أوتيت هذا في الدنيا إن لي عند الله منزلة. فرد الله تعالى عليه ذلك فقال تعالى:
6352
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً﴾ [القصص: ٧٨] وقد مضى ذكر هذا في القصص ".
وقوله: ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾، معناه: بل أعطينا إياهم تلك النعمة ابتلاء ابتليناهم بها واختباراً.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي: لا يعلمون أنه ابتلاء واختبار لسوء رأيهم وجهلهم.
ثم قال تعالى: ﴿قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، أي قد قال في نعم الله تعالى عليه، أي: إنما أوتيته على علم الذين كانوا من قبل هؤلاء من القرون الخالية لرسلهم تكذيباً لهم واستهزاءً، فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله تعالى ما كانوا يكسبون من الأعمال، يعني: عبادتهم الأوثان لم تغن عنهم شيئاً، ولم تشفع لهم كما يقول هؤلاء أنها تشفع لهم عند الله سبحانه، ولكنها أسلمتهم لما أتاهم من العذاب.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾، أي: فأصاب الأمم الخالية الذين قالوا مثل مقالة هؤلاء وبال عملهم فعذبوا في الدنيا، يعني: قارون وشبهه حين قال: إنما أوتيته على علم فخسف به وبداره الأرض.
ثم قال تعالى: ﴿والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾، أي: والذين
6353
كفروا من قومك يا محمد سيصيبهم أيضاً وبال عملهم السيء كما أصاب أولئك.
﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾، أي: بفائتين ربهم هرباً في الأرض من عذابه إذا نزل بهم فأحلَّ الله تعالى عليهم عذابه فقتلوا بالسيف يوم بدر.
ثم قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ﴾، أي: أَوَلَمْ يعلم هؤلاء الذين قالوا إنما أوتينا المال والصحة وغير ذلك على علم أن الله يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيّق على من يشاء.
ثم قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾، أي: إن في توسيع الله تعالى على خلق، وتقتيره على خلق لحججاً ودلالات لقوم يؤمنون، أي: يصدقون بالحق.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾.
قال ابن عباس: قال بعض أهل مكة: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهاً آخرن وقتل النفس لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك، فأنزل الله تعالى ﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الآية.
وقيل: إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم: ما نظن أن الله تعالى يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد ﷺ كل شر: أخرجناه، وقتلنا أصحابه، وقاتلناه.
فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا
6354
من رحمته.
قال مجاهد: الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية. وقال عطاء بن يسار: نزلت هذه الثلاث الآيات في وحشي وأصحابه، وروى ذلك عن ابن عباس، قال: فكان النبي لا يطيق أن ينظر لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله تعالى لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات.
وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي ﷺ فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا، فكان بعضهم يقول: إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد ﷺ ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله تعالى هذه الآيات فيهم.
فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول، أي: أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة، وظنهم أن الله تعالى لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أن قوماً أصابوا عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام
6355
أشفقوا إن لم يتب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية.
قال السدي: هي في المشركين، كقول ابن عباس: وهو قول ابن زيد.
وكان ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجاً في القرآن: ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الآية.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنها نزلت في أهل الإسلام. قال: كنا نقول: لمن افتن من توبة. وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئاً، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته. فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أنزل فيهم: ﴿ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ﴾ الثلاث الآيات.
قال عمر: فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي. قال هشام: فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِمَا كُنَّا نقول، قال: فجلست
6356
على بعيري ثم لحقت بالمدينة.
وروي عن ابن عمر: أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به! فنزلت هذه الآيات.
وقال ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. فرد عليه ابن عباس وقال: بل أرجى
6357
آية في القرآن. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦].
وروى شهر عن أسماء أنها سمعت النبي ﷺ يقرأ في هذه الآية: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، إنه هو الغفور الرحيم ".
وقال القرظي هي للناس أجمع.
وقيل: المعنى: يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب.
6358
(وهذا لجماع) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها.
وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣] الآية، وبقوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة على ما بينَا من المعنى الذي ذكرنا.
وقوله: ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ يدل على أن الآية نزلت فيمن هو على غير الإسلام، وإن بالإسلام تغفر الذنوب كلها التي اكتسبت في الكفر.
وروى ثوبان مولى رسول ﷺ أن النبي ﷺ قال: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية. فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟! فسكت رسول الله ﷺ ثم
6359
قال: ألا ومن أشرك (ألا ومن أشرك) - ثلاث مرات ".
وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ نقول: إنه ليس من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣] فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها، قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ و ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
6360
فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئاً خِفْنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له.
وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: القنوط من رحمة الله من الكبائر. واختار الطبري أن / تكون الآية عامة في أهل الإيمان وأهل الشرك لأن الله تعالى عَمَّ المُسرفين ولم يُخصِصّ به أحداً، فالشرك أعظم الذنوب وهو مغفور مع التوبة منه والرجوع عنه.
وكان ابن عباس يقرأ: " يغفر الذنوب لمن شاء ".
وقد قيل: إن قوله: ﴿يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ منسوخ بقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣]، وقيل: بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
والصواب أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، والله يغفر كل الذنوب لمن يشاء من المؤمنين، فلا نسخ فيه.
ومعنى " لا تقنطوا ": لا تيئسوا.
6361
﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾، أي: يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها إذا تابوا منها.
﴿جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور﴾، أي: الساتر لذنوب التائبيبن.
﴿الرحيم﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
ثم قال تعالى: ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾، أي: ارجعوا إلى طاعة ربكم، وأقبلوا على عبادته، واخضعوا له، وأجيبوا داعيه.
﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب﴾ على كفرهم.
﴿ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾، أي: لا ينصركم ناصر فينقذكم من عذاب الله تعالى.
والإنابة هنا: الإيمان والتوبة من الكفر.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " إن الإيمان إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. فقيل له: يا رسول الله، فهل لذلك من آية يعرف بها؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
ثم قال: ﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾، أي: اعملوا بما في كتاب الله.
وقيل: معناه: إن الله أباح الانتصار بعد الظلم وأعلمنا أن العفو أحسن.
وقيل: المعنى: إن الله تعالى قد أخبر عن قوم أنهم عصوا، وعن قوم أنهم
6362
أطاعوا فأمر أن تتبع الطاعة دون المعصية.
وقيل: المعنى: إن الله عز جل قد نسخ أحكاماً بما شاء فأمرنا أن تنبع الناسخ دون المنسوخ.
وقوله: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً﴾، أي: فجأة.
﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾، أي: لا تعلمون، وهذا ما توعد من الله جل ذكره لمن لم يَتُبْ.
ثم قال تعالى: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ " أن " مفعول من أجله. والأصل في " حسرتا ": يا حسرتي، ثم أبدل من الياء ألف.
والفائدة في نداء الحسرة أن حرف النداء يدل علة تمكن القصة من صاحلها وملازمتها له. فذلك أبلغ في الخبر.
وأجاز الفراء في الوصل: " يا حسرتاه " بضم الهاء وكسرها.
ولا يجيز النحويون إثبات الهاء في الوصل وقد جاء ذلك في الشعر. والمعنى: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تصيروا إلى حال الندامة غداً.
6363
ومعنى ﴿على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾، أي: على ما ضيّعته من العمل بما أمرني الله به، وقصّرت فيه في الدنيا.
قال مجاهد والسدي " في جنب الله "، أي: في أمر الله.
وقال الضحاك: " في ذكر الله، قال: يعني القرآن والعمل به ".
وقال أهل اللغة: المعنى: في جنب الله.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشىً ولا جَلَسَ اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه إلا كانت عليه ترة يوم القيامة، أي: حسرة ".
6364
وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله تعالى يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه وعمل فيه بالحق كان له أجره وعلى الآخر وِزْرُه. ومن الحسرات أن يرى الرجل عنده الذي خوله الله في الدنيا (أقرب منه) منزلة من الله جل ذكره، أو يرى رجلاً يعرفه في الدنيا أعمى قد أبصر يوم القيامة وعمي هو.
وأصل الحسرة الندامة التي تلحق الإنسان حتى يصير معها حسيراً، أي: معيباً.
وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما تفرق قوم قط من مجلسهم، ولم يذكروا الله فهي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة.
وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما جلس رجل ولا قوم مجلساً، ولا مشىً رجل ممشى، ولا اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه يوم القيامة
6365
حسرة ".
وقوله: ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾، أي: وما كنت إلا من الساخرين، أي: كنت من المستهزئين بأمر الله سبحانه وكتابه.
قال قتادة: (لم يكفه) أن ضيع طاعة الله تعالى حتى جعل بأهل طاعة الله سبحانه.
قال قتادة: هذا قول صنف منهم /، فقال صنف آخر: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي...﴾ الآية، وقال صنف آخر: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾ الآية، أي: رجعة.
قال ابن عباس: أخبر الله جل ذكره ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وما هم عاملون قبل أن يعملوا (فقال ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: ١٤] وقال: ﴿لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَلَوْ رُدُّواْ﴾ [الأنعام: ٢٨]. وقال: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: ١١٠].
ومعنى: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي﴾، أي: وفقني للرشاد.
6366
ثم قال: ﴿بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا﴾ دخلت (هنا " بلى ") لأن معنى لو أن الله هداني (ما هداني). ودخلت جواباً للنفي حملاً على المعنى: (بلى هداني).
ومعنى الآية أنها تكذيب من الله جل ذكره للقائل: " لو أن الله هداني "، ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾، فأعلمهم أن كتابه وحججه قد أتاهم فكذبوا واستكبروا عن الإيمان به وكانوا من الكافرين به.
وروت أم سلمة أن النبي ﷺ قرأ: ﴿جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت﴾ بكسر الكاف والتاء على مخاطبة النفس. وبذلك قرأ الجحدري.
6367
وقرأ الأعمش: " بلى قد جاءته " بالهاء.
وقيل: يلزم من كَسَرَ التاء والكاف (أن يُقْرَأَ وكنت) من الكوافر والكافرات. وهذا لا يلزم لأنه يحمل على المعنى.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ﴾ - إلى قوله - ﴿وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
أي: يوم القيامة يا محمد ترى الذين زعموا أن لله سبحانه ولداً وأن له شريكاً.
﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾: يقال: مسودة ومسوادة، لغتان، وأسْوادَّ وجهه وأسَوَدَّ وأحْمَرَّ وأحْمَارَّ.
ثم قال: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾، أي: أليس في جهنم مأوَىَ ومسكنَ لمن تكبر على الله تعالى، وامتنع من طاعته جلت عظمته.
روي أن النبي ﷺ قال: " يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن في جهنم ".
6368
وقال ﷺ في تفسير الكبر: " هو سفه الحق وغمط الناس "، اي: احتقارهم.
قال عطاء بن يسار: يقال: إن في جهنم سجناً يقال له بولس يحشر فيه المتكبرون يوم القيامة ويأتون يوم القيامة على صور الذر.
ومن رواية ابن وهب يرفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: " المتكبرون في الدنيا يحشرون يوم القيامة أِباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار، ثم يساقون حتى يدخلوا سجناً يقال له بولس في نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال "، يعني: من صديد أهل النار وما يخرج منهم
. ثم قال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾، أي بفوزهم.
قال السدي: بمفازتهم، بفضيلتهم.
6369
وقال ابن زيد: " بأعمالهم ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " يحشر الله تعالى مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المومن معه في أحسن صورة وأطيب ريح. فكلما كان من رعب أو خوف قال له: لا تُرَعْ، فما أنت (بالمراد ولا أنت بالمعني به). فإذا كثر عليه قال له: ما أحسنك! فمن أنت؟! فيقول: أما تعرفني؟! أنا عملك الصالح! حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك اليوم ولأدفعن عنك " فهي التي قال سبحانه. ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ الآية.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾، أي: الذي له الألوهية والتفرد هو خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، أي قيم بالحفظ والكلأة.
ثم قال تعالى: ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾.
قال ابن عباس وقتادة: مقاليد: مفاتيح.
6370
والمعنى: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض، يمسك ما يشاء ويفتح ما يشاء، وقال السدي: " المقاليد: الخزائن "، واحدها مقليد، وقيل: مقلد، وقال أبو عبيدة: (واحد المقاليد مقليد)، وواحد الأقاليد إقليد.
ثم قال تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون﴾، أي: هم المغبونون حظوظهم من خيرات خزائن الله التي بيده مفاتيحها.
ثم قال (تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾.
" غير " نصب " بأعبد ".
قال الأخفش: " تأمروني " ملغى، كقولك: ذلك زيد بلغني.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أعبد غير الله فما تأمروني أيها الجاهلون؟!
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾،
6371
(أي: ولقد أوحي إليك يا محمد وإلى الرسل من قبلك لئن اشركت بالله ليحبطن عملك)، أي: يبطل عملك ويفسد.
يقال: حبط بطنه من داء إذا فسد منه.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير /: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وأوحي إلي الرسل من قبلك مثل ذلك.
ومعنى ﴿مِنَ الخاسرين﴾: من المغبونين حظوظهم الهالكين.
ثم قال تعالى: ﴿بَلِ الله فاعبد﴾، الفاء زائدة واسم الله نصب بأعبد.
وقال الفراء: هو نصب بإضمار فعل.
6372
والفاء عند أبي إسحاق غير زائدة دخلت لمعنى المجازات.
والمعنى على القول الأول: بل اعبد الله ولا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون ﴿وَكُن مِّنَ الشاكرين﴾، أي: كن شاكراً لله على نعمه عليك إذا هداك للإيمان وبرَّأك من عبادة الأوثان.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾، أي: ما عظموه حق عظمته.
قال ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى عليهم، ومن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك لم يقدر الله حق قدره.
قال أبو عبيدة: معناه: ما عرفوا الله حق معرفته.
وقيل التقدير: ما قدروا نعم الله حق قدر نعمه.
وأكثر المفسرين على أن المعنى: ما عظّموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته: إذ عبدوا غيره معه، فهو خالق جميع الأشياء ومالكها، والأرض جميعاً كلها قبضته يوم القيامة.
6373
(قال ابن عباس وغيره: الأرض والسماوات جميعا في يمينه يوم القيامة).
قال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله جلّ ذكره إلا كخردلة في يد أحدكم.
قال الحسن: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، قال: كأنها جوزة بقضها وقضيضها.
قال الضحاك: السماوات والأرض مطويات بيمينه جميعاً.
وروى ابن عمر أن النبي ﷺ قال وهو على المنبر يخطب:
" يأخذ الله تعالى السماوات والأرض السبع فيجعلها في كفيه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة: أنا الله، أنا الواحد، أنا العزيز " حتى لقد رأيت المنبر وإنه ليكاد يسقط به.
6374
" وروي عن النبي ﷺ أن يهودياً جاءه فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الله. فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجده، ثم قال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾. قال: فضحك النبي ﷺ تعجباً وتصديقاً ".
" وروي أن رهطاً من اليهود أتوا النبي ﷺ فقالوا: يا محمد: هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟!. فغضب النبي ﷺ حتى انتقع لونه، ثم شاورهم غضباً لربه تعالى فجاءه جبريل ﷺ يسكنه. وجاءه من الله تعالى جواب ما سألوه عنه، فقال: يقول الله: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ السورة فلما تلا عليهم النبي عليه السلام، قالوا: صف لنا ربك، كيف هو خلقه، وكيف هو عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب النبي ﷺ أشد من غضبه الأول ثم شاورهم. فأتاه جبريل ﷺ فقال مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه:
6375
﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ - إلى - ﴿يُشْرِكُونَ﴾ ".
وقيل: معنى ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾، أي: يملكها، لا مدعي لملكها ذلك اليوم غيره، كما تقول: هذا في قبضتي.
وقال المبرد: بيمينه: بقوته. وهذا القول هو قول علماء أهل السنة.
" وذكر ابن وهب أن ناساً أتوا النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، هاتان القبضتان، فأخبرنا عن سائر العظمة.
قال: فكروا في خلق ممن خلق الله تعالى: إسرافيل، رجلاه في التخوم السابعة، والعرش على جمجمته. ما بين قدميه إلى ركبته مسيرة خمسين ألف سنة. وما بين عاتقه إلى رأسه مسيرة خمسين ألف سنة ".
ويروى أن إسرافيل مؤذن أهل السماء، يؤذن لاثني عشرة ساعة من النهار
6376
ولاثنتي عشرة ساعة من الليل، لكل ساعة تأذين يسمع تأذينه من في السماوات السبع، ومن في الأرضين السبع إلا الثقلان: الجن والإنس. ثم يتقدم بهم عظيم الملائكة فيصي بهم. /
وذكر أن ميكائيل يوم الملائكة في البيت المعمور. هذا كله من حديث ابن وهب عن الليث عن رجاله.
" وروى ابن عباس عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ عن قوله: ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾ قالت له: فأين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ".
وقال أبو أيوب الأنصاري: " أتى النبي ﷺ حَبْرٌ من أحبار اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه:
6377
﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ فأين الخلق عند ذلك؟ قال: " هم كرقم في الكتاب ".
وروى ابن الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: إن السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما في يد الله تبارك وتعالى كخردلة في يد أحدكم.
قال أبو محمد مؤلفه ( C) : ويجب على أهل الدين والفضل والفهم أن يجروا هذه الأحاديث التي فيها ذكر اليد والإصبع ونحوه على ما أتت، وألا يعتقد في ذلك جارحة (ولا تشبيه، فليس كمثل ربنا) شيء. ومن توهم في ذلك جارحة فقد شبه الله سبحانه وعدل عن الحق
ثم قال: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، أي: تنزيهاً له وتبرية من السوء والشرك.
قوله تعالى ذكره ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ﴾ - إلى قوله - ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، أي: ونفخ إسرافيل في القرن فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وهذه هي النفخة الثانية.
6378
وقيل: الصور جمع صورة.
فالمعنى: ونفخ إسرافيل في صورة بني آدم فماتوا. والأول أكثر.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾. قال السدي وغيره: هو جبريل وميكائيل وملك الموت.
وكذلك روى أنس عن النبي ﷺ: " لا يموتون في هذه النفخة (صلوات الله عليهم) ثم يموتون بعد ذلك، فلا يبقى إلا الله الحيّ القيوم، ثم يحيي الله تعالى إسرافيل عليه السلام ويأمره أن ينفخ في القرن لإحياء الخلق بإذن الله تعالى. والله المميت للخلق بالنفخة التي هي نفخة الصعق وهو المحيي للخلق بالنفخة التي هي نفخة الأحياء ".
6379
قال ابن جبير: عنى بذلك (شهداءهم) حول العرش (متقلدو السيوف).
وقيل: استثناء الشهداء، إنما هو في [نفخة الفزع. وهي الأولى.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ينفخ في الصور ثلاث نفخات]: النفخة الأولى، نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله جل ذكره إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، فمن استثنى حين يقول: ﴿فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾؟
قال: أولئك الشهداء. (وإن ما يصير) الفزع إلى الأحياء. أولئك أحياء عند
6380
ربهم يرزقون (ووقاهم الله) فزع ذلك اليوم وأمنهم.
ثم يأمر الله تعالى إسرافيل بنفخة الصعق فيقول: نفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شئت، فيقول له وهو أعلم: من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!).
فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتاب الموت على من كان تحت عرشي.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله تعالى وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل.
(وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!).
فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي.
ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله تعالى وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي (لا تموت وبقي) حملة عرشك وبقيت أنا، فيقول له: فليمت حملة عرشي، فيموتون، ويأمر الله تعالى العرش فيقبض الصور.
ثم يأتي ملك الموت، فيقول: يا رب، قد مات حملة عرشك، فيقول: ومن بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خُلِقْتَ لما رأيت فمَتْ، فيموت ".
6381
وروي أن النبي ﷺ قال: " أتاني ملك الموت فقال: يا محمد، اختر: نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً. فأومأ إليَّ جبريل أن تواضع.
قال: فقلت: نبياً عبداً. فأعطيت خصلتين: جعلت أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، فأرفع رأسي فأجد (موسى آخذاً) بالعرش فالله أعلم، بعد الصعقة الأولى أم لا ".
وفي حديث آخر: " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من يرفع رأسه. فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع / رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى ".
6382
وفي حديث آخر: " فلا أرى أحداً إلا موسى متعلقاً بالعرش، فلا [أدري، أممن استثنى] الله جل ثناؤه ألا تصيبه النفخة أو بعث قبلي ".
وقوله: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾، يعني: نفخة البعث.
﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " ما بين النفختين [أربعون]، ثم ينزل الله جل ذكره من السماء ماء فينبتون كما يُنْبَتُ البقْلُ. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عَظْم واحد وهو عَجْبُ الذَّنْب ومنه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة ".
6383
وكان أصحاب النبي ﷺ يتأولون الأربعين أربعين سنة.
وقال الحسن: لا أدري، أهي أربعون سنة، أم أربعون شهراً، أم أربعون ليلة، أم أربعون ساعة.
قال قتادة: ذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مَطَر يُقَالُ له مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثالثة فإذا هم قيام ينظرون.
قال النبي ﷺ: " يبعث الله المؤمنين يوم القيامة جُرْداً مُرْداً بنو ثلاثين سنة ".
6384
وقال أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، فلا يبقى الله بين السماوات والأرض - إلا من شاء الله - إلا مات. ثم يرسل الله من تحت العرش مَنَيَّا كمني الرجال جسمانهم ولحمانهم من ذلك كما تنبت الأرض، ثم قرأ عبد الله ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ [فاطر: ٩]- إلى قوله - ﴿كَذَلِكَ النشور﴾ [فاطر: ٩] قال: ويكون بين النفختين ما شاء الله ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا﴾، أي: أضاءت.
يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وَصَفَت، وَشَرَقَت إذا طلعت.
وذلك حين يجيء الرحمان لفصل القضاء بين خلقه.
وروي أن الأرض يومئذ أرض من فضة تضيء وتشرق بنور ربها لا بشمس ولا بقمر.
والمعنى: أضاءت الأرض بنور (خلقه الله).
فإضافة النور إليه تعالى على طريق خلقه له مثل قوله: ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١] تبارك وتعالى.
وقيل: معناه: أشرقت بعد الله تعالى وحُكمه الحق تبارك وتعالى لأن له نوراً
6385
كنور الشمس والضياء، وهو أعظم وأجل من ذلك، ليس كمثله شيء. وهذا كقوله تعالى: ﴿ الله نُورُ السماوات والأرض﴾ [النور: ٣٥]، أي: بِهُدَاه يهتدي أهل السماوات والأرض. لم يُرِدِ النُّور الذي هو الضياء، ولو كان ذلك، لم يوجد ظلام لأنه باق في الليل والنهار.
وقد ثبتت الأحاديث عن النبي ﷺ أنه قال: " تنظرون إلى الله سبحانه لا تضامون في رؤيته ".
وقد اختلف في هذه اللفظة على أربعة أوجه:
- لا تُضامُون - مُخَفَّفاً -، أي: لا يلحقكم ضيم كما يلحق في الدنيا في النظر إلى الملوك.
- والوجه الثاني: لا تُضامُّون - مشدداً -، أي: لا ينضم بعضكم لبعض ليسأله أن يريه إياه.
- والوجه الثالث: (لا تُضارُون) - مخففاً -، أي: لا يلحقكم ضير في رؤيته من ضارَه يضيرُه.
- والوجه الرابع: (لا تُضارُّون) - مشدداً، أي: لا يخالف بعضكم
6386
بعضاً في صحة رؤيته. يقال: ضاررته مضارة، أي: خالفته.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾، يعني: كتاب أعمال العباد وحسابهم.
وقيل: هو اللوح المحفوظ.
﴿وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء﴾، أي: جيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابت به] أممهم وردت عليهم في الدنيا.
والشهداء، يعني: الذين يشهدون على الأمم. وهو قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ [البقرة: ١٤٣]، أي: عدلاً ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقيل: عنى بالشهداء هنا: الذين قتلوا في سبيل الله. والأول (أولى وأبين).
وقال السدي: الشهداء: الذين استشهدوا في طاعة الله تعالى.
وقال ابن زيد: هم الحفظة يشهدون على الناس بأعمالهم.
6387
وقوله: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق﴾، أي: قضى / بين النبيين وأممهم بالحق؛ فلا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يظلم أحد فينقص من عمله. ثم قال تعالى:
﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾، أي: جزاء عملها من خير وشر.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ في الدنيا من طاعة له أو معصية. فيثيب المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا تظلم نفس شيئاً.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ - إلى آخر السورة.
أي: وحشر الذين كفروا بالله تعالى إلى ناره يوم القيامة.
﴿زُمَراً﴾، أي جماعة جماعة. حتى إذا جاءوا جهنم فتحت أبوابها لهم ليدخلوها.
﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ﴾، أي خزنة جهنم.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾، أي: بشر مثلكم.
﴿يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾، أي: كتب الله سبحانه.
﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾، أي: مصيركم إلى هذا اليوم (وما تلقون فيه.
﴿قَالُواْ بلى﴾، أي: بلى قد جاءتنا الرسل وأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم).
6388
﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾، أي: كلمة الله أن عذابه لاحق بمن كفر به. بكتبه ورسله.
ثم قال تعالى ﴿قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، أي: قالت لهم الخزنة ادخلوا أبواب جهنم) السبعة على قدر منازلكم فيها ماكثين فيها لا تنقلون عنها إلى غيرها.
﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾، أي: فبيس مسكن المتكبرين على الله سبحانه جهنم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً﴾، أي: حشروا إلى دخول الجنة جماعة جماعة.
﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا﴾، أي: جاؤا الجنة.
﴿وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾. قال الكوفيون: " فتحت " جواب " إذا " والواو زائدة.
وقال بعضهم: الجواب: قال لهم خزنتها، والواو في " وقال " زائدة.
وقال المبرد: الجواب محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها
6389
سَعِدُوا.
وقال الزجاج: تقدير الجواب المحذوف: " طبتم فادخلوها خالدين، دخولها.
ودلت الواو في " وفتحت " أن الجنة كانت مفتحة لهم الأبواب منها قبل أن يجيؤها.
(ودل حذف الواو في قصة أهل النار من " فتحت " أنها مغلقة قبل أن يجيؤها) ففتحت عند مجيئهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾، (أي: قال للذين اتقوا ربهم خزنة الجنة سلام عليكم)، أي: أمنة من الله لكم.
وقوله ﴿طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾، أي: طابت أعمالكم في الدنيا فطاب اليوم مثواكم.
6390
وقال مجاهد: معناه: " كنتم طيبين (بطاعة) الله تعالى ". فادخلوا أبواب الجنة خالدين، أي: ماكثين أبداً لا انتقال لكم عنها.
ويروى أن حشر المتقين في الآخرة يكون على نجائب من نجائب الجنة.
وحشر الكفار يكون بالدفع والعنف. قاله ابن زيد وغيره.
وقرأ ابن زيد في الكفار: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾ [الطور: ١٣]. وقرأ في المتقين ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾ [مريم: ٨٥]. ويروى عن علي رضي الله عنهـ أنه قال في المتقين: يساقون إلى الجنة فيجدون عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان تجريان، فيعمدون إلى إحداهما فيغتسلون فيها، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبداً، ولن تغير جلودهم بعدها أبداً كأنما دهنوا بالدهان.
ويعمدون إلى الأخرى فيشربون منها فيذهب ما في بطونهم من قذى وأدى، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون فيفتح لهم فتتلقاهم خزنة الجنة فتقول: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
قال: وتتلقاهم الولدان المخلدون يطوفون بهم كما يطوف ولدان أهل الدنيا
6391
بالحميم إذا جاء من الغيبة، أبشر، أعد الله لك كذا وأعدلك كذا. فينطلق أحدهم إلى زوجته فيبشرها به، فيقول قدم فلان - باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا - قال: فَيَسْتَحِفُّها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، فتقول: أنت رأيته، (أنت رأيته) قال: فيقول: نعم، فيجيء حتى يأتي منزله. قال: أصوله من جندل اللؤلؤ بين أصفر وأخضر وأحمر... قال الله جل ذكره: ﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية: ١٤ - ١٦]. قال: ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين، فلولا أن الله أعدّها له لا ليمتع بصره من نورها وحسنها. فاتكأ عبد الله ويقول: ﴿الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا﴾ [الأعراف: ٤٣]. فتنازيهم الملائكة أن تلكم الجنة وأورثتموها بعلمكم.
وقال السدي: لهو أهدى إلى منزلة في الجنة منه إلى منزله في الدنيا. ثم قرأ السدي: ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: ٦].
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾، أي: له الحمد خالصاً إذ صدقنا ما كان وعدنا في الدنيا على طاعته. ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض﴾، أي: أرض الجنة.
6392
وقيل: أورثوا الأرض التي لأهل النار لو كانوا مؤمنين.
وقوله: ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾، أي: نسكن منها حيث نحب. فنعم أجر العملين، أي فنعم ثواب المطيعين العاملين له في الدنيا: الجنة في الآخرة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾، أي: وترى يا محمد يوم القيامة الملائكة محدقين من حول العرش.
والعرش: السرير. وواحد حافين: حاف، قاله الأخفش.
وقال الفراء: لا يفرد.
ودخلت " من " في قوله: ﴿مِنْ حَوْلِ العرش﴾ لأنه ظرف، والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. ومثله قوله: ﴿وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ [الزمر: ٦٥، والشورى: ٣].
وقال بعض البصريين: دخلت " من " في الموضعين توكيداً.
ثم قال: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾، أي: يصلون حول عرش ربهم شكراً لَهُ.
6393
والعرب تدخل الباء مع التسبيح وتحذفها. تقول: سبح بحمد ربك وسبح حمد ربك. كما قال: ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى﴾ [الأعلى: ١] وقال: ﴿فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم﴾ [الواقعة: ٧٤ و ٩٦].
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾، أي: وقضى الله بين النبيين والأمم والشهداء بالعدل.
﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾، أي: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر الذي ابتدأ خلقهم ووفقهم للعمل بطاعته.
قال قتادة: فتح أول الخلق بالحمد لله فقال: ﴿الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ [الأنعام: ١] وختم بالحمد فقال: ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾.
6394
Icon