تفسير سورة البقرة

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية وآياتها ست وثمانون ومئتان

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الم ﴾ [ راجع المسألة الرابعة من المقدمة ص٨ ]
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ ذلك الكتاب الكامل، وهو القرآن العظيم. و الكتاب : مصدر كَتَبَ كالكَتْب. و أصل الكتب ضَمُّ أديم إلى أديم بالخياطة، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط. وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط، تسمية للشيء باسم ما يئول إليه.
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي ليس هذا الكتاب محلا لأن يرتاب عاقل منصف في أنه منزل من عند الله، أو في هدايته للبشر، لأن معه من الدلائل ما لو تأمله لم يتطرق إلى نفسه أدنى شك في ذلك. والريب : الشك والظنة والتهمة. مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وقال ابن الأثير : هو الشك مع التهمة.
﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ هو هداية وإرشاد لهم. مصدر هداه هُدًى وهِدايةً وهِدية-بكسرهما- فُهدِىَ. ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال. والمتقون : هم الذين يجتنبون كل ما يُؤَثِّم من قول أو فعل، أو يمتثلون ما أمر الله به ويجتنبون ما نهى عنه، وقاية لأنفسهم من عذاب الله وسخطه. جمع مُتَّقِ، اسم فاعل من اتقى وأصله او اتقى-بوزن افتعل- من وقَّى الشيء وقاية، أي صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه. فإذا بنيت منه افتعل قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء الأخرى فصارت اتقى. وخص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون به.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وما فيه من البعث والحساب والجزاء. والإيمان لغة : التصديق والإذعان، وهو إفعال من الأمن، كأن حقيقة قولهم : آمن به، آمنة التكذيب والمخالفة. وشرعا : التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، كالتوحيد والنبوة والمعاد والجزاء. والغيب : مصدر غاب، أقيم مقام اسم الفاعل هو غائب مبالغة يجعله كأنه هو. وهو الخفي الذي لا يدركه الحس، ولا يقتضيه بديهة العقل، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام، ومنه ما لم ينصب عليه دليل، وهو الذي استأثر الله تعالى بعلمه كالقدر. ومنه ما نصبت عليه الدلائل كوجود الصانع وصفاته. والباء صلة للإيمان لتضمينه معنى الاعتراف.
﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ يعدلون اركانها، ويوفون شرائطها، ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها. من اقام العود إقامة إذا أزال عوجه، كقومه.
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في سبل الخير تطوعا أو فرضا. من الإنفاق، وهو إخراج المال وإنفاده وصرفه. يقال : نِفَقَ-كفرِح ونصر- نَفِد وفنِىَ أو قلَّ. وانفق ماله أنفده، والهمزة للتعدية. وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه : نافق فلان، والنافقاء، والنفق.
﴿ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ وبالنشأة الآخرة هم يعلمون علما قطعيا، لا أثر فيه للإدعاءات الكاذبة والأوهام. من الإيقان، وهو التحقق، يقال : يقن الماء، إذا سكن وظهر ما تحته. وهو اليقين : العلم وزوال الشك، يقال : يقنت –بالكسر- يقناً، وأيقنتُ وتيقّنت وأستيقنت بمعنى واحد. وهو درجة من العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتهما، يصحبها ثبات الحكم وسكون النفس وطمأنينتها.
﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ الفائزون بما طلبوا، الناجون مما منه هربوا.. من الفلاح، وهو الفوز والظفر بدرك البغية. وأصله من الفلح –بسكون اللام- وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث، واستعمل منه الفلاح في الفوز، كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى البغية. أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ جحدوا الرسالة. والمراد بهم هنا المشركون، لذكرهم بعد المؤمنين، وذكر المنافقين بعدهم بقوله تعالى :﴿ ومِنَ الناسِ مَن يَقُول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾. والكُفر-بالضم- ضد الإيمان. وأصله المأخوذ منه : الكفر-بالفتح- وهو ستر الشئ وتغطيته، ومنه قيل : كافر للسحاب، لستره ضوء الشمس، ولليل لستره الأشياء بظلمته، وللزارع لستره البذر في الأرض. والكافر عند الإطلاق ينصرف إلى من يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، أو يجحدها كلها، فهو أعم من المشرك. وقد يطلق على جاحد النعمة، وعلى الفاسق عن أمر ربه، ويتبين المراد بالقرائن.
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي مستو عندهم إنذارك وعدمه، فهم لا يصدقون في أي حال. والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار، لا إنذار. وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله تعالى.
والآية فيمن شافههم النبي صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهم مصرون على الكفر والجحود، وقد حقت عليهم كلمة العذاب لسبق علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون، لسوء استعدادهم وفساد فطرهم.
وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء خبر " إنّ " والجملة الاستفهامية بعده مرفوعة به على الفاعلية لتأويلها بمفرد.
﴿ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ ﴾ طبع عليها، فلا يصل إليها الحق ولا ينفذ فيها، كما سبق في علمه تعالى أزلا أنهم لا يؤمنون. من الختم، هو وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه، لكيلا يخرج منه ما حصل فيه، ولا يدخله ما خرج منه. وفيه –كما قال الراغب- : " إشارة إلى ما أجرى الله به العادة أن الإنسان إذا تناهى في اعتقاد الباطل أو ارتكاب المحظور، دون تلفت بوجه إلى الحق يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي، وكأنما يختم بذلك على قلبه " وإنما خص القلب بالختم لأنه محل الفهم والعلم.
﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ غطاء. والغشاوة : ما يغطى به الشيء، من غشاه إذا غطاه يقال : غشية غشاوة-مثلثة-وغشاية، سترة وغطاء. وهو هنا غطاء التعامي عن آيات الله ودلائل توحيده.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ أصل العذاب : المنع. يقال : عذب الفرس-كضرب-امتنع عن العلف. وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب. ثم أطلق على الإيجاع الشديد : لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب. والعظيم : الكبير، من عظم الشيء، وأصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير، محسوسا كان أو معقولا، عينا كان أو معنى.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ ﴾ هذه الآية إلى قوله تعالى :﴿ يَأيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُم ﴾ في وصف المنافقين بعد وصف المؤمنين والمشركين.
﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ ﴾ يخادعون رسول الله بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، ليدفعوا عن أنفسهم القتل والأسر والجزية، ويفوزوا بسهم من الغنائم، وليعلموا أسرار المؤمنين ثم يفشوها لأعدائهم نكاية بهم. يقال خدعه –كمنعه- خدعا، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم، كاختدعه، والاسم منه الخديعة. ونسب ذلك إلى الله تعالى للتنبيه إلى علو منزلته –صلى الله عليه وسلم- حيث جعل خداعه خداعا له تعالى. وصيغة المفاعلة تقع كثيرا لغير اثنين، نحو عافاك الله، وعاقبت اللص. وقرئ " يخدعون الله ".
أو المراد أن صورة صنيعهم مع الله حيث أظهروا وأخفوا الكفر، وصورة صنيع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا وأخر عقابهم إلى الآخرة-تشبه صورة المخادعة، وهو كقوله تعالى :﴿ إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم ﴾١
﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي يفطنون إلى أن وبال خداعهم عائد عليهم بالشقاء الأبدي. يقال : شعر بالشئ –كنصر وكرم- أي فطن له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقيقها.
١ آية ١٤٢ النساء.
﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ هو النفاق والكفر. وسمي مرضا لكونه مانعا من إدراك الفضائل، كالمرض المانع للبدن من التصرف الكامل. أو لكونه مانعا من تحصيل السعادة الأخروية. أو لميل النفس به إلى الإعتقادات الفاسدة ميل المريض إلى الأشياء المضرة.
﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ مؤلم، أي موجع وجعا شديدا. من الم –كفرح- فهو ألم. وآلمه يؤلمه إيلاما، أوجعه إيجاعا شديدا.
﴿ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ أي لا تفسدوا في جنس الأرض، أو أرض المدينة، بالكفر وموالاة أهله، وتعويق الناس عن الإيمان بالرسول والقرآن. والفساد : خروج الشيء عن حالة الاعتدال والاستقامة. وضده الصلاح. يقال منه : فسد الشيء فسادا، و أفسده إفسادا.
﴿ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ﴾ أي الجهال الخرقي. وكان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم. واصل السفه : الخفة والرقة والتحرك والاضطراب. يقال : ثوب سفيه، إذا كان رديء النسج خفيفة، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر : مالت به. وزمام سفيه : كثير الاضطراب، لمنازعة الناقة إياه. وشاع في خفة العقل وضعف الرأي.
﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ انفردوا مع رؤسائهم و قادتهم المشبهين للشياطين في تمردهم وعتوهم، وهم اليهود. يقال : خلا به وإليه ومعه، خلوا وخلاء وخلوة، سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل، وأخلاه معه. أو مضوا وذهبوا له إلى شياطينهم. يقال خلا بمعنى مضى وذهب. ومنه ﴿ قَد خَلَت مِن قَبلِكُم سُنَنٌ ﴾ ١
﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئونَ ﴾ ساخرون مستخفون بالمؤمنين. والاستهزاء : السخرية والاستخفاف، يقال : هزأ منه وبه –كمنع وسمع-واستهزأ به، أي سخر، كعجب واستعجب.
١ آية ١٣٧ آل عمران.
﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ ﴾ يحقرهم تحقيرا يتعجب منه. أو يجازيهم بالعذاب على استهزائهم بالمؤمنين، وسمي ذلك استهزاء مشكلة، كما في قوله تعالى ﴿ وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا ﴾١
﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ يمهلهم ويملى لهم، ليزدادوا إثما. من المد بمعنى الإمهال، يقال : مده في غيه-من باب رد- أمهله وطول له. أو يزيدهم ويقويهم على وجه الإملاء والإرخاء، يقال : مد الجيش وأمده، إذا ألحق به ما يقويه ويكثره. وقيل : أكثر ما يستعمل المد في المكروه. والإمداد في المحبوب.
﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ في ضلالهم وكفرهم. والطغيان : مجاوزة الحد. ومنه طغا الماء : أي ارتفع.
﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ يعمون عن الرشد. أو يتحيرون ويترددون بين الإظهار والإخفاء، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإيمان. يقال : عَمِهَ-كفرح ومنع- عَمَهًا، إذا تردد وتحير، فهو عَمِهٌ وعامِهٌ، وهم عَمِِهُونَ وعُمّه، كركع. والعَمَه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير في الأمر. والجملة حال من الضمير في " يمدهم "
١ آية ٤٠ الشورى.
﴿ مَثَلُهُمْ ﴾ أي صفة المنافقين. والمثل : الصفة، ومنه :﴿ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأعلى ﴾١. أي الصفات العلا. واصل المثل بمعنى المثل. والمثل : النظير والشبيه، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه وهو الذي يضرب فيه، لمورده الذي ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة، إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة.
﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ أي أوقد نارا عظيمة. والسين والتاء مزيدتان وليستا للطلب، كاستجاب وأجاب. وتنكير " نارا " للتفخيم. والإضاءة : فرط الإنارة. شبهت حيرة المنافقين في ضلالهم وشدة الأمر عليهم، بما يكابده من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. أو شبه المنافق بموقد النار، وإظهاره الإيمان لاجتناء ثمراته بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بإهلاكه، وإفشاء حاله بانطفاء النار وذهاب نورها.
١ آية ٦٠ النحل.
﴿ بُكمٌ ﴾ خرس عن الهدى والحق فلا ينطقون بهما. جمع أبكم وبكم، وهو الذي يولد أخرس. أو من به داء في اللسان يمنع من الكلام.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ﴾ الصيب-كسيد- : المطر، من الصوب وهو النزول. يقال : صاب صوبا، إذا نزل وانحدر، سمي به المطر لنزوله، أي كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء، وهي جهة العلو والمراد السحاب. وهو مثل آخر للمنافقين يصف حيرتهم وشدة الأمر عليهم.
﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ تصحب الأمطار الشديدة التي تحدث عند تكاثف السحب في السماء وحجبها ضوء الشمس عن الأرض-ظلمات كأنها سواد الليل، ورعد يصم الآذان، وبرق يخطف الأبصار، وصواعق تحرق ما تصيبه. و هذه ظواهر مدركة بالحواس، واقعة في كل زمان، تحدث عند حدوث أسبابها التي أوجدها مقدر الأسباب والمسببات، ومودع الخواص في المخلوقات، تعالى شأنه وعظمت قدرته.
و قد بينت العلوم الكونية أسباب حدوثها، فليراجعها من أراد الوقوف عليها فيما ألف في الكهرباء التي أودعها الله تعالى في الأجسام وفي آثارها وتفاعلها. ففيها البيان الشافي.
﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ يذهب بها ويستلبها. من الخطف بمعنى السلب. وفعله من باب تعب.
﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾ وإذا اختفى عنهم وقفوا عن المشي في أماكنهم، متحيرين مترصدين ومضة أخرى ليصلوا إلى مقاصدهم. يقال : قامت الدابة إذا وقفت. وقام الماء إذا جمد
﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ﴾ صيرها لأجلكم مهادا، كالبساط المفروش. فذلها لكم، ولم يجعلها حزنة غليظة، لإمكان الاستقرار عليها. ويقال للمفروش : فرش وفراش. وهذا لا ينافي كرويتها في الجملة، لأن الكرة إذا عظمت كانت كل قطعة منها كالسطح في افتراشه. ذكره النيسابوري والآلوسي.
﴿ أَندَاداً ﴾ امثالا ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة، وتعتقدون فيها النفع والضر، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده، فأشبهت حالكم حال من يعتقد أنها آلهة حقيقة، قادرة على أن تدفع عنكم عذاب الله وتمنحكم ما لم يرد الله بكم من خير. جمع ندن وهو مثل الشيء الذي يضاده و ينافره ويتباعد عنه. وأصله من : ند البعير يند ندا وندادا وندودا، نفر وذهب على وجهه شاردا.
﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ أي ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريج، وظننتم أن تنزله كذلك دليل على أنه ليس وحيا من عند الله تعالى، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة، وعلو الطبقة في النظم البديع، والأسلوب البليغ.
﴿ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم ﴾ أي ادعوا إلى المعارضة من يحضركم، أو من ينصركم-تزعمكم- من دون الله، أو من يشهد لكم أنكم أتيتم بما يماثله. جمع شهيد، بمعنى حاضر أو ناصر، أو قائم بالشهادة.
﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ الوقود : ما توقد به النار وترفع. والمراد بالحجارة : الأصنام التي اتخذوها آلهة وقرنت بهم في العذاب في الآخرة كما اقترنوا بها في الدنيا. وهو نظير وله تعالى :﴿ إِنَّكُم وَمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنّم ﴾١ أي حطبها ووقودها
١ آية ٧٨ الأنبياء.
﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾ جمع جنة، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره. من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة. وهي سبع درجات : جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون. وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة.
﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ يشبه بعضه بعضا في الصورة والرائحة، ويختلف في اللذة والطعم، أو في الشرف والمزية والحسن. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما- : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامى، وفي الصحيحين :( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين لرأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلي بشر )
﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ نساء مختصات بهم، مطهرات غاية التطهر من كل دنس وقذر، حسي ومعنوي، لا كنساء الدنيا. جمع زوج، ويطلق على الذكر والأنثى، قال تعالى :﴿ أسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ الجَنَّة ﴾١
١ آية ٣٥ من هذه السورة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا ﴾ أي ليس الحياء بمانع لله تعالى من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة الصغيرة في نظركم، كالبعوض والذباب والعنكبوت، فإن فيها من دلائل القدرة وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول، ويشهد بحكمة الخالق. وقد جعلوا ضرب المثل بها ذريعة إلى إنكار كون القرآن من عند الله تعالى. وفي الآية إشعار بصحة نسبة الحياء إليه تعالى. ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد، وتفويض علم كنهه وكيفيته على الله تعالىن مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات، واختاره الآلوسي. وذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمه وهو ترك ضرب الأمثال بها، لأن الاسحياء من الحياء، وهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب ويذم به. أو هو انقباض النفس عن القبائح. وهذا المعنى محال في حقه تعالى، فيصرف اللفظ إلى لازم معناه وهو الترك.
﴿ ب َعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ البعوض : ضرب من الذباب، ويطلق على البق المعروف وعلى الناموس. " فما فوقها " أي في الحجم. او في المعنى الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ الفسق : الخروج عن الطاعة، من قولهم : فسق الرطب فسوقا- من باب قعد- إذا خرج عن قشره. ويقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان كثيرا. وهو أعم من الكفر، فيقال للعاصي : فاسق، لخروجه عما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. والمراد بالفاسقين هنا : الكفار جميعا، أو المنافقون، أو أحبار اليهود المتعنتون، بدليل الأوصاف الآتية. والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد، كما أن الهداية خلق الاهتداء فيه.
﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ صفة للفاسقين. والعهد : اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه. يقال : عهد إليه في كذا، إذا أوصله به ووثقه عليه. وعهد الله : تارة يكون بما ركز في العقول من الحجة على التوحيد. وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله، صلوات الله وسلامه عليهم. وتارة بما يلتزمه المؤمن وليس بلازم له في أصل الشرع مما ليس بمعصية، كالنذور وما يجري مجراها. ونقضه : فسخه وإبطاله.
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ﴾ علا إليها وارتفع، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات. و قد سئل مالك- رضى الله عنه- عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول، والكثيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. أو المعنى : أقبل وعمد إلى خلقها بإرادته. والمراد بالسماء : الأجرام العلوية، أو جهة العلو.
﴿ لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ هم جند من خلق الله. ركز الله فيهم العقل والفهم، وفطرهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة، منها أنهم :﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيلَ والنَهَارَ لاَ يَفتَرُونَ ﴾١ و ﴿ لاَ يَعصَونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ ﴾٢
ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره، ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة، قال تعالى :﴿ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾٣، وقال تعالى :﴿ اللهُ يَصطَفِي منَ المَلاَئِكةِ رُسُلاً ومِنَ النَّاسِ ﴾٤، ﴿ يُنَزِّلُ المَلاَئِكةَ بالرُّوحِ مِن أَمرِهِ عَلَى مَن يَشَاء من عبَلدِه ﴾٥
جمع ملك، والتاء لتأنيث الجمع، واصله ملاك، من ملك، نحو شمال من شمل، والهمزة زائدة، وهو مقلوب مألك، ثم سهلوه فقالوا : ملك. وقيل : إن ملأك من لأك إذا أرشل، ومنه : الألوكة، أي الرسالة.
﴿ خَلِيفَةً ﴾ هو من يخلف غيره و ينوب منابه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والتاء فيه للمبالغة. والمراد يه آدم عليه السلام، لأنه كان خليفة الله في الأرض. وكذلك سائر الأنبياء، استخلفهم الله تعالى في عمارة الأرض وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراء أحكامه عليهم، وتنفيذ أوامره فيهم. وقيل : آدم وذريته، لأنه يخلف بعضهم بعضا في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكره ذريته لكونه الأصل.
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة، ويضاده الصلاح. يقال : فسد الشئ فسادا وفسودا، وأفسده غيره. وقد عزف الملائكة وقوع ذلك من الإنسان بإخبار من الله تعالى أو إلهام، ولم يقص علينا فيما حكى الله عنهم للإيجاز على عادة القرآن. والاستفهام : استكشاف عن الحكمة الخفية في هذا الاستخلاف، مع ما سيترتب عليه من الإفساد وسفك الدماء.
﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ﴾ السفك : الصب و الإهراق، يقال : سفكت الدم والدمع سفكا – من باب ضرب- صببته، والفاعل سافك وسفاك. والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإنسان ظلما وعدوانا.
﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ ننزهك عما يليق بعظمتك، تنزيها متلبسا بحمدك والثناء عليك. من التسبيح، وهو تنزيه الله من السوء على وجه التعظيم، وهو مشتق من السبح، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء.
﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ نطهر ذكرك عما لا يليق بك، تعظيما لك وتمجيدا. من التقديس بمعنى التطهير، ومنه : الأرض المقدسة، وروح القدس. واسمه تعالى القدوس، أي الطاهر. واللام في " لك " زائدة لتأكيد التخصيص.
١ آية ٢٠ الأنبياء.
٢ ية ٦ التحريم.
٣ آية ١ فاطر.
٤ آية ٧٥ الحج.
٥ آية ٢ النحل.
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ ألهمه معرفة ذوات الأشياء التي خلقها الله تعالى في الجنة، ومعرفة أسمائها
و منافعها. أو ألهمه اجناس الأشياء وانواعها، ومعرفة أسمائها وخواصها، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة فقال لهم على سبيل التعجيز :﴿ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقا إلا انتم أعلم منه وأفضل. فلما اعترفوا بعجزهم وقالوا :﴿ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ﴾ وليس ذلك منه. أمر آدم أن ينبئهم بها، فأنبأهم بها إظهارا لأحقيته في الاستخلاف في الأرض التي من شانها أن توجد فيها هذه المسميات.
﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ ﴾ تنزيها لك عن أن يكون فعلك لغير حكمة، أو عن عدم قرتك على خلق من هو أعلم وأفضل منا. وهو مصدر منصوب بفعل محذوف وجوبا، وهو سبح-مخففا- بمعنى نزه. أو معناه : إسراعا إليك، وخفة في طاعتك، والرضا بفعلك، كما يفعل السابح في الماء.
﴿ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ السجود لغة : التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره. وخص في الشرع بوضع الجبهة في الأرض على قصد العبادة. والأظهر أن المأمور به : السجود بالمعنى اللغوي، وهو التواضع والخضوع لآدم تحية وتعظيما، وإقرارا له بالفضل دون وضع الجباه، كسجود إخوة يوسف له، وهو إنما كان بالانحناء، وقد أبطل الإسلام ذلك، وجعل التحية السلام والمصافحة. وهذا الأمر ابتلاء واختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب وينفذ ما سبق به العلم، واقتضته المشيئة والحكمة.
﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ هو أبو الجن، مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس. وفعله أبلس، ولم ينصرف لأنه معرفة، ولا نظير له في الأسماء فأشبه الأعجمية. وقيل : هو أعجمي لا اشتقاق له، فلم ينصرف للعلمية والعجمة. والاستثناء منقطع، وقيل متصل، وأن إبليس كان من الملائكة، ورجحه الطبري
﴿ وَزَوْجُكَ ﴾ تقول العرب للمرأة : زوج، ولا تكاد تقول زوجة.
﴿ الْجَنَّةَ ﴾ جمهور أهل السنة على أنها جنة المأوى، وهي دار الثواب والخلود للمؤمنين في الآخرة. وذهب آخرون منهم أبو مسلم الأصفهاني : إلى أنها بستان في الأرض خلقه الله امتحانا لآدم وزوجه. وساق أدلة الفريقين الإمام ابن القيم ولم يرجح شيئا منها. والأحوط الأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به، وإليه مال أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات
﴿ رَغَداً ﴾ أي أكلاً كثيرا واسعا بلا عناء، يقال : رغد عيشه-كسمع وكرم- رغدا ورغدا، اتسع وطلب. وارغد القوم : اخصبوا وصاروا في رغد من العيش.
﴿ هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ أبهم القرآن تعيينها ولم يقم دليل عليه، فالأولى عدم القطع به. والتاء فيها للوحدة الشخصية، ولذلك ظن آدم أنه إنما نهى عن عينها فأكل غيرها من جنسها. وقيل : للوحدة النوعية، وإنما أكل منها ناسيا أو متأولا أن النهي نهى إرشاد فقط.
﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ أذهبهما وأبعدهما عن الجنة بكذبه عليهما، ومقاسمته أنه من الناصحين من الإزلال وهو الإزلاق، يقال : زل يزل زلا وزللا، زلق في طين أو منطق، والاسم الزلة. وأزله غيره واستزله : أزلقه فيه، أطلق وأريد به لازمة وهو الإذهاب. وقرئ " فأزالهما " أي نحاهما، من الإزالة، تقول : أزلت الشيء عن مكانه إزالة، نحيته وأذهبته عنه.
الهبوط : النزول من أعلى إلى أسفل، ضد الصعود. يقال : هبط يهبط و يهبط، أي نزل من علو إلى أسفل. والخطاب لآدم وزوجه، كما قال تعالى ﴿ قَالَ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾١ وهما المقصودان بالخطاب في قوله تعالى :﴿ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾٢ والقصة واحدة.
﴿ وَمَتَاعٌ ﴾ المتاع : اسم لما يستمتع به من أكل وشرب ولبس وحياة وأنس وغير ذلك، من متع النهار متوعا إذا ارتقع. ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت.
١ آية ٢٣ طه.
٢ ية ٢٤ الأعراف.
﴿ كَلِمَاتٍ ﴾ هي كلمات التوبة والاستغفار. والمأثور أنها ﴿ رَبَّنَا ظَلَمَنَا أَنفُسَنَا وإِن لَم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ ١ وعن ابن مسعود أنها : سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت.
﴿ التَّوَّابُ ﴾ الرجاع على عباده بقبول توبتهم. أو بإعانتهم وتوفيقهم إليها. ويقال للعبد : تواب، بمعنى كثير التوبة والندم والاستغفار من الذنوب. من التوب وهو الرجوع، لرجوعه إلى ربه في ذلك ويلزمه ترك الذنب. والتوبة في الشرع : ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزم على ترك معاودته، وتدارك ما فات من حقوق العباد بقدر الإمكان.
١ ٣ الأعراف.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. ومعناه بالعبرية : عبد الله، أو صفوة الله. وقد عدد الله في هذه السورة على بني إسرائيل من هذه الآية إلى آية ١٤٢ نعما عشرة، حباهم بها رحمة وفضلا. وقبائح عشرة، ارتكبوها جحودا وإثما. وانتقامات عشرة، أنزلها الله بهم جزاءا وفاقا.
﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ﴾ أدوا ما عاهدتموني عليه من الإيمان والتزام الطاعة، وأتموه واحفظوه. يقال أوفى بعهده ووفى –مشددا ومخففا، إذا أتمه ولم ينقض حفظه، والوفاء ضد الغدر.
﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ فخافوني في نقض العهد، أو في جميع ما تأتون وتذرون. من الرهبة، وهي الخوف مطلقا، أو خوف معه تحرز. وفعله كعلم.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ ﴾ ولا تخلطوا. يقال : لبس عليه الأمر-كضرب- خلطه، ومنه التلبيس بمعنى التخليط والتدليس. وتلبس الأمر : اختلط. ولا بسه : خالطه.
﴿ بِالْبِرِّ ﴾ هو التوسع في الخير، مأخوذ من البر-بالفتح- وهو الفضاء الواسع. واصل كل بر الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أحبار اليهود يأمرون الناس بالطاعة والكف عن المعصية ولا يفعلون ذلك.
﴿ بِالْبِرِّ ﴾ هو التوسع في الخير، مأخوذ من البر-بالفتح- وهو الفضاء الواسع. واصل كل بر الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكان أحبار اليهود يأمرون الناس بالطاعة والكف عن المعصية ولا يفعلون ذلك.
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ أي وإن الصلاة لثقيلة شاقة، كما قال تعالى :﴿ وإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَة قَامُوا كُسَالَى ﴾١. يقال : كبر –ككرم- كبرا وكبرا أي عظم. ﴿ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ أي المتضرعين المحبين للطاعة، الذين اطمأنت قلوبهم إليها، وفي الحديث ( وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة ).
من الخشوع وهو الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يظهر على الجوارح، قال تعالى :﴿ الذِينَ هُم فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ ﴾٢
١ ية ١٤٢ النساء.
٢ ية ٢ المؤمنون.
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ المراد بالظن هنا اليقين، كما في قوله تعالى :﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَه ﴾١
١ ية ٢٠ الحاقة.
﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ أي على الموجودين في زمانهم بالفعل، فلا يتناول اللفظ من مضى ولا من يوجد بعدهم.
﴿ لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ أي لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا مما وجب عليها ولا تنوب عنها فيه. من الجزاء، يقال : جزى عنه، أي قضى. و " شيئا " مفعول به. وقرئ " تجزى " – بضم التاء من أجزأ عنه، أي أغنى عنه أي لا تغنى نفس عن نفس شيئا- من الإغناء-، ولا تجديها نفعا. و " شيئا " مفعول مطلق.
﴿ عَدْلٌ ﴾ فدية وبدل. و أصل العدل-بالفتح- : ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه. و العدل-بالكسر- : المساوي من الجنس، ومن العرب من يكسر العين من معنى الفدية. و قيل للفدية : عدل لما فيها من معنى المساواة والمماثلة والمعادلة.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ يعانون، من النصر وهو العون. والمراد أنهم لا يمنعون من عذاب الله.
﴿ فِرْعَوْنَ ﴾ لقب لكل من ملك مصر في ذلك العهد. وفرعون الذي ولد موسى في زمنه، وربى في بيته، وكان يسومهم سوء العذاب، هو رعمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة. أما فرعون الذي اغرق فهو ابنه منفتاح، على ما نقله صاحب الأنبياء١ عن علماء الآثار.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ ﴾ يبغون لكم أشد العذاب وأفظعه. من السوم، وهو مطلق الذهاب أو الذهاب في ابتغاء الشيء. يقال : سامت الإبل فهي سائمة، أي ذهبت إلى المراعى. وسام السلعة : إذا طلبها وابتغاها. والسوء-بالضم- كل ما يغم الإنسان من أمر دنيوي أو أخروي. وهو في الأصل مصدر، ويؤنث بالألف فيقال : السوءى.
﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ يستبقون بناتكم ولا يقتلون ليستخدموهن. يقال : استحياه، أي استبقاه. وأصله : طلب له الحياة والبقاء.
﴿ لاء ﴾ اختبار وامتحان بالمحن المقتضية للصبر، أو المنح المقتضية للشكر، أولهما للترغيب والترهيب يقال : بلونه بلوا وبلاء، اختبرته وامتحنته. والاسم البلوي والبلية والبلوة.
١ هو الأستاذ العلامة الشيخ عبد الوهاب النجار رحمه الله.
﴿ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ الفرق : الفصل والتمييز يقال : فرقت بين الشيئين فرقا-من قتل- فصلت بينهما، ومنه الفرقان، وقوله تعالى :﴿ وقرآناً فَرَقنَاهُ ﴾١ فصلناه وميزناه بالبيان، أي فصلنا لأجلكم البحر بعضه عن بعض. والباء بمنزلة لام التعليل. والبحر : بحر القلزم، وهو البحر الأحمر. وكان عبورهم من مكان شمالي المكان المعروف ب " عيون موسى " في البر الأسيوي، وهي لا تبعد عن السويس كثيرا، كما في قصص الأنبياء. و هذا الفرق إحدى معجزات موسى عليه السلام.
١ ية ١٠٦ الإسراء.
﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾ أي اتخذتم العجل الذي صنعه السامري إلها معبودا. والمراد : أنهم اتخذوا ما يشبه العجل في الصورة والشكل. ونسبة الحوار إليه في قوله تعالى :﴿ عِجلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ﴾ مجاز، وهو الذي ذهب إليه الجمهور، كما ذكره الآلوسي.
﴿ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾ الكتاب : هو التوراة. والفرقان : هو التوراة أيضا، لفرقها بين الحق والباطل، والعطف من قبيل عطف الصفات. وقيل : هو المعجزات الفارقة بين دعوى الصادق والكاذب، كالعصا واليد وغيرهما. أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، والعطف من قبيل عطف الخاص على العام.
﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ خالقكم من العدم على أبدع صورة. يقال : برأ الله الخلق-كجعل-خلقهم من العدم، واصل مادة " برأ " يدل على انفصال شئ عن شئ، يقال : برأ المريض يبرأ ويبرؤ برأ وبروأ، إذا نقه وزال عنه المرض وانفصل. وبرئ من الدين-كسلم- يبرأ، إذا زال عنه الدين وسقط، ومنه البرية للخليفة، لانفصالهم من العدم إلى الوجود.
﴿ جَهْرَةً ﴾ جهارا عيانا بحاسة البصر. يقال : جهر البئر –كمنع- واجتهرها، إذا اظهر ماءها. وجهر الشيء : كشفه. وجهر الرجل : رآه بلا حجاب.
﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ فاحاطت بكم نار من السماء أحرقتكم، عقابا لكم لفرط عنادكم، أو لظلمكم بطلب رؤية الحق في الدنيا. ونزول الصواعق المهلكة من السماء واقع مشاهد.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ الجمهور على أن الموت هنا هو مفارقة الروح للجسد. والبعث : إحياؤه بإعادة الروح إليه.
ومن المفسرين من حمل الموت على الغشيان والهمود، كما في قوله تعالى :﴿ ويَأتِيهِ المَوتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾١، والبعث على الإفاقة. ومنهم من حمل الموت على الجهل، كما في قوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيتاً فَأَحيينَاهُ ﴾٢ و البعث على التعليم.
١ ية ١٧ إبراهيم.
٢ ية ١٢٢ الأنعام.
﴿ الْغَمَامَ ﴾ سحابا أبيض، ظلموا به في التيه-بشبه جزيرة سيناء- من حر الشمس، واحده غمامة، كسحابة. واصل الغم : ستر الشيء، وسمي السحاب غماما لستره ضوء الشمس.
﴿ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ " المن " : مادة حلوة لزجة تشبه العسل-كالطل- تسقط على الشجر من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. " والسلوى " : طائر معروف بالسماني، أو طير يشبهه، أطعموا بهما في التيه. وقيل : هما كناية عما أنعم الله به عليهم، وهما شئ واحد، سمي منا لامتنان الله به عليهم، وسلوى لتسليهم به.
﴿ رَغَداً ﴾ كثيرا واسعا بلا عناء١
﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ﴾ خضعا متواضعين خاشعين، شأن التائب من ذنوبه.
﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ أي شأنك يا ربنا حطة، أي لن تحط عنا ذنوبنا وتغفرها. والحطة-كجلسة- اسم للهيئة، من الحط بمعنى الوضع والإنزال، وأصله إنزال الشيء من علو. يقال : استحطه وزره، سأله أن يحطه عنه وينزله. أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة وإظهار الندم، فخافوا وجهروا بما يدل على الكفر والعصيان.
١ اجع آية ٣٥ من هذه السورة ص ٢٥.
﴿ رِجْزاً ﴾ عذابا، قيل هو الطاعون. وأصل الرجز الاضطراب، ومنه : ناقة رجزاء، إذ تقارب خطوها واضطربت لضعف فيها. وسمي العذاب رجزا لما يلازمه من الفزع والاضطراب.
﴿ يَفْسُقُونَ ﴾ يخرجون عن الطاعة. يقال : فسق فلان عن أمر ربه-كنصر وضرب وكرم- فسقا وفسوقا، إذا خرج عن حجر الشرع١
١ اجع آية ٢٦ من هذه السورة ص٢٢..
﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾ انبجست وانشقت وسالت. يقال : فجر الماء فانفجر، أي يجسه فانبجس، وبابه نصر. وفجر القناة : شقها. وفجر الماء : فتح له طريقا فجرى وسال.
﴿ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾ لكل سبط عين تجرى بالماء يشرب منها، حتى لا تقع بينهم شحناء وكانوا متضاغنين. وكانت العيون بالبر الشرقي من مصر، قرب مدينة السويس.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ أي لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض. والمقصود النهي عما كانوا من التمادي في الفساد. مأخوذ من العيث وهو اشد الفساد، يقال : عثي-كرضى-عثوا إذا افسد أشد الإفساد
﴿ وَفُومِهَا ﴾ الفوم : الحنطة، أو جميع ما يخبز من الحبوب، أو هم الثوم.
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ جعلتا محيطتين بهم، إحاطة القبة بمن ضربت عليه، مجازاة لهم على كفرانهم. وجملتهم في غالب الأمر في ذلة ومسكنة. أو هم مستحقون للذلة والهوان، بسبب ارتكاب المعاصي والاعتداء على حدود الله في كل شئ، والإفساد في الأرض وجحود الحق عنادا، وقتل الأنبياء ظلما، وبما طبعوا عليه من الكذب والنفاق، والمكر السيئ، والخداع، وعبادة المال وشدة الحرص على جمعه والشح به.
وأما إحاطة المسكنة بهم فلما يبدو علليهم من الاستكانة والخضوع عند الضعف، والخوف من القهر. والمسكنة : الخضوع-مفعلة من السكون-لأن صاحبها قليل الحركة والنهوض، لما به من الحاجة والذلة وشدة المحنة.
﴿ هَادُواْ ﴾ صاروا يهودا. يقال : هاد وتهود، أي دخل في اليهودية. و سموا يهودا نسبة إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، بقلب الذال دالا في التعريب. أولما تابوا من عبادة العجل، من هاد يهود هودا بمعنى تاب، ومنه :﴿ إناَّ هُدنَا إِلَيكَ ﴾١ أي تبنا.
﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ جمع نصران بمعنى نصراني، كندامى وندمان، والياء في نصراني للمبالغة، كما في أحمري. سموا بذلك في الأصل لأنهم نصروا المسيح.
﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ جمع صابئ، وهو الخارج من دين إلى دين يقال : صبأ الظلف والناب والنجم-كمنع وكرم-إذا طلع. والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل. وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.
١ آية ١٥٦ الأعراف.
﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ الطور : الجبل المعروف بسيناء، وهو جبل المناجاة الذي أنزلت فيه التوراة على موسى. ورفعه : إعلاؤه عن مقره، هو نتقه المذكور في قوله تعالى :﴿ وَإذ نَتَقَنَا الجَبَلَ فَوقَهُم كَأنَهُ ظُلَّةُ و ظنُّوا أنه واقعٌ بِهِم ﴾١ وهذا من الآيات التي رأوها بعد أخذ الميثاق عليهم تقوية لإيمانهم.
١ ية ١٧١ الأعراف.
﴿ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ تجاوزوا الحد بصيد الحيتان فيه وقد نهوا عنه، وأمروا بتعظيم السبت والتجرد للعبادة فيه، قال تعالى :﴿ واسألهُم عن القَريَة التِي كَانت حاضِرَةَ البَحرِ إِذ يَعدُونَ فِي السَّبت إِذ تَأتِيهِم حِيتَانُهُم يَومَ سَبتِهِم شُرّعاً وَيَومَ لاَ يَسبِتُونَ لا تَأتِيهِم كّذلكَ نبلُوهُم يِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ ﴾١ والاعتداء : مجاوزة الحد، يقال : اعتدى وتعدى إذا ظلم. والظالم : مجاوز للحد وللحق.
﴿ خَاسِئِينَ ﴾ مبعدين عن رحمة الله، مطرودين كما يخسأ الكلب. و الخسوء : الطرد والإبعاد. يقال خسأت الكلب خسأ وخسوءا –من باب منع- طردته و زجرته، وذلك إذا قلت له اخسأ. وخسأ الكلب –كخضع- بعد والجمهور على انهم مسخوا حقيقة. وعن مجاهد : لم تمسخ صورهم، ولكن مسخت قوبهم، فلم تقبل وعظا ولم تع زجرا. فمثلوا هنا بالقردة، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التورَاةَ ثُمّ لَم َيحمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحمِلُ أَسفَاراً ﴾٢ والقردة من أخس الحيوان وأدنئه.
١ ية ١٦٣ الأعراف.
٢ اية ٥ الجمعة.
﴿ نَكَالاً ﴾ عقوبة. يقال : نكل به تنكيلا إذا صنع به صنيعا يحذر غيره، والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك. وأصله من النكل-بالكسر- وهو القيد الشديد، وحديدة اللجام، لكونهما ما تعين، وجمعه أنكال. وسميت العقوبة نكالا لأنها تحذر غير من نزلت به ارتكاب ما أوجبها.
﴿ لاَّ فَارِضٌ ﴾ لا كبيرة هرمة، ولا فتية صغيرة لم يلحقها الفحل، بل نصف بين السنين. يقال : فرضت البقرة- كجلس وظرف- فروضا و فراضة، طعنت في السن. والعوان من البقر : التي نتجت بعد بطنها البكر، وجمعها عون.
﴿ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾ صادق الصفرة. يقال : أصفر فاقع، وابيض ناصع. وفقع لونه يفقع ويفقع فقعا و فقوعا : اشتدت صفرته أو خلصت.
﴿ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ لم تذلل بالعمل. يقال : بقرة ذلول بينة الذل-بالكسر- أي هينة سهلة الانقياد.
﴿ الْحَرْثَ ﴾ هي الأرض المهيأة للزرع، أو نفس الزرع. ويطلق الحرث على إلقاء البذر في الأرض، وعلى إعدادها للزراعة.
﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ بريئة من العيوب. من السلامة، وهي التعري من الآفات.
﴿ لاَّشِيَة فِيهَا ﴾ لا لون فيها يخالف لون سائر جلدها. واصلها " وَشيٌ " لحقها من النقص ما لحق رنة وعدة. يقال : وشيت الثوب أشيه وشيا وشية، إذا جعلت فيه أثرا يخالف معظم لونه.
﴿ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ تخاصمتم أو تدافعتم في شأن هذه النفس التي قتلت، فألقى كل منكم تهمة القتل على الآخر. وأصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع، لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا ويدفعه. يقال : درأت عنه، دفعت عن جانبه، فقبلت التاء دار لتقارب مخرجهما، وسكنت للإدغام فاجتلبت الهمزة للنطق بالساكن.
﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ أي اضربوا القتيل ببعض البقرة المذبوحة، فضربوه بها، فأحياه وأخبر عن قاتله ثم سقط ميتا. وهذه معجزة أجراها الله تعالى على يد موسى عليه السلام في هذه الحادثة، للدلالة على صدق رسالته ووجوب اتباعه، كما أجرى على يد عيسى عليه السلام إحياء الموتى.
﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ أتخبرون المؤمنين بما بين الله لكم في التوراة من نعت محمد وصفته من قولهم : فتح الله على فلان علم كذا، أي رزقه ذلك وسهله له. أو أتخبرونهم بما حكم الله به عليكم في التوراة من أخذ الميثاق على أنبيائكم بالإيمان بمحمد ونصرته. من الفتح بمعنى الحكم والقضاء، ومنه ﴿ رَبَّنَا افتَح بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بالحَقِّ ﴾١ أي احكم بيننا وبينهم بالحق.
١ آية ٨٩ الأعراف.
﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ﴾ أي جهال بالتوراة. جمع أمي، وهو الذي لا يقرا ولا يكتب، نسبة إلى الأم، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسي من لا يكتب ولا يقرأ من الرجال إلى أمه في جهله بهما دون أبيه
﴿ أَمَانِيَّ ﴾ أي لكن يعتقدون أكاذيب وأباطيل افتعلها أحبارهم، فأخذوها عنهم تقليدا لهم لفرط جهلهم. جمع أمنية، وهي الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء وتقديره. من منى الشيء، قدره وأكثر ما يكون التمني في تصور الشيء عن ظن وتخمين، فصار الكذب له املك، و ساغ أن يعبر عن الكذب بالتمني، وعن الأكاذيب بالأماني، كما فسره مجاهد. والاستثناء منقطع.
﴿ فَوَيْلٌ ﴾ أي عذاب أليم، أو فضيحة أو حسرة أو هلكة، أو واد في جهنم. وهو في الأصل مصدر لا فعل له من لفظه، مثل : ويح، ولا يثنى ولا يجمع.
﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ أي أربعين يوما، كما يزعمون. وهي مدة عبادتهم العجل.
﴿ بَلَى ﴾ تمسكم النار مخلدين فيها. وهي حرف جواب كنعم وأجل، إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم، إبطالا ونقضا وإيجابا له، سواء دخله استفهام أم لا. ففي نحو : ما قام زيد. تقول بلى، أي قد قام. وفي نحو : أليس زيد قائما ؟ تقول بلى، أي هو قائم. ومنه :﴿ أَلَستُ بِرَيِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾١ أي أنت ربنا ولو قالوا نعم، لكفروا.
١ آية ١٧٢ الأعراف.
﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم ﴾ تتظاهرون عليهم بحلفائكم من العرب. من التظاهر، وهو التعاون. و أصله من الظهر، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر.
﴿ بِالإِثْمِ ﴾ هو اسم للفعل المبطئ عن الثواب، وجمعه آثام. ولذا يطلق على الذنب والمعصية، يقال أثم يأثم إثما ومأثما، فهو آثيم وأثيم. وقيل : اسم للفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم. أو ما تنفر منه النفس، ولا يطمئن إليه القلب.
﴿ أُسَارَى ﴾ جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر والغلبة فيشد بالإسار، وهو القد. والقد : سير يقد من جلد غير مدبوغ.
﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾ تنقذوهم من الأسر بالفداء. يقال : فاداه وفداه، أعطى فداءه فأنقذه.
﴿ خِزْيٌ ﴾ بلاء وفضيحة. مصدر خزى الرجل يخزي خزيا وخزى : وقع في بلية فذل بذلك، وهو خزيان، وهن خزايا. وأخزاه الله فضحه.
﴿ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ أرسلنا على أثره الرسل متتابعين. يقال : قفا أثره يقفوه قفوا وقفوا، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان، إذا أتبعه إياه. وقفيته زيدا وبه : أتبعته إياه. واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه. والقفا : كمؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه.
﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ هو جبريل عليه السلام، قال تعالى ﴿ قُل نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ ﴾١ والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الروح المقدس، ووصف بالقدس لطهارته عن مخالفة ربه في شئ وسمي روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.
١ ية ١٠٢ النحل.
﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ مغشاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. جمع أغلف، وهو الذي جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذي لا يعي ولا يفهم : قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.
﴿ يَسْتَفْتِحُونَ ﴾ يطلبون من الله النصر على المشركين بالنبي العربي المبعوث في آخر الزمان، الذي يجدون صفته في التوراة. والاستفتاح : الاستنصار، من الفتح وهو النصر، كالفتاحة.
﴿ بَغْياً ﴾ حسدا لأجل تنزيل الله الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم. وأصل البغي : الظلم، وأطلق على الحسد، لأن الحاسد يظلم المحسود جهده بتمني زوال نعمة الله عنه. وهو منصوب على أنه مفعول له ل " يكفروا "
﴿ فَبَآءواْ بِغَضَبٍ ﴾ رجعوا بغضب فوق غضب. يقال : باء بإثمه يبوء رجع، وهما كفرهم بعيسى عليه السلام، و كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾ الذي صنعه لكم السامري إلها تعبدونه.
﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ﴾ أي داخل قلوبهم وخالطهم حب عبادته، كما يداخل الصبغ الثوب. وأصل الإشراب : مخالطة المائع للجامد، ثم اتسع فيه حتى قيل في الألوان، نحو أشرب بياضه حمرة. وحذف المضافان للعلم بهما، وفي ذلك مبالغة لا تخفى.
﴿ خَالِصَةً ﴾ أي مخصوصة بكم كما تزعمون. يقال : هذا الشيء خالصة لك، أي خالص لك خاصة.
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ أي وأحرص على الحياة من المشركين الذين لا يرجون بعثا بعد الموت، فهم يحبون طول الحياة. واليهود أحرص على الحياة منهم، لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع ذلك كان أحرص الناس على أسباب التباعد منه.
﴿ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ ﴾ عادى اليهود جبريل لزعمهم أنه أمر أن يجعل النبوة فيهم فجعلها في غيرهم. أو لأنه لا يأتي إلا بالشدة والحرب والقتال. أو لنزوله بالقرآن على محمد مصدقا لكتابهم وهم كارهون للقرآن، ولذلك حرفوا التوراة. فأخبر تعالى أن من كان عدوا لحبريل فلا حق له في عداوته، لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه، وإنما جاء بأمره تعالى مصدقا لما سبقه من الكتب، وهاديا ومبشرا للمؤمنين. فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا، ومن حيث إتيانه بالهداية والبشارة وجب أن يكون مشكورا، وعداوة من هذا سبيله عداوة لله تعالى.
﴿ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ أي نزله عليك وذكر القلب لأنه هو القابل الأول للوحي، ومحل الحفظ والفهم.
﴿ أَو َكُلَّمَا ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على محذوف، أي أكفروا بالآيات البينات ؟ وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم. أي طرحوه ونقضوه. من النبذ، وهو إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به وفعله من باب ضرب.
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ﴾ أقبل اليهود لما نبذوا التوراة على كتب السحرة من أهل بابل، التي كانت تخبرها الشياطين الكهنة في عهد سليمان، وزعموا أنها علم سليمان، وأنه كان ساحرا ولم يتم له الملك والسلطان على الإنس والجن والطير والريح إلا به، فأكذبهم بهذه الآية. فالتلاوة بمعنى الإخبار والتحديث. ولتضمن الفعل معنى الكذب عدى بعلى.
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ الضمير للشياطين أو لليهود. وقد ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته : أن السحر والطلمسات علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثير في عالم العناصر بغير آلة ولا معين. أو بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد وبعض الموجودات. فالنفوس الساحرة تؤثر بالهمة والتوجه في الأشياء فإن كان بغير معين وآلة فهو السحر، وإن كان بمعين فهو الطلسم. وأن هذه العلوم كانت شائعة في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم قبل بعثة موسى عليه السلام. وكان لها في زمن بعثته أسواق نافقة، ولهذا كانت معجزته من جنس ما يدعون ويتنازعون فيه.
وهناك نوع ثالث من التاثير، وهو تأثير النفوس في القوى المتخيلة بإلقاء أنواع من الخيالات والمحاكاة والصور فيها، حتى ترى كأنها واقعية وليست إلا خيالا، وهو المسمى بالشعوذة. وأن خلاف العلماء في أن السحر حقيقة أو تخييل خلاف لفظي. فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى النوعين الأولين، والقائلون بأنه تخييل نظروا إلى النوع الثالث. والشريعة لم تفرق بين السحر والطلمسات وحرمتها جميعا لما فيها من الضرر.
وأما النوع الثالث فقد قال ابن خلدون : إنه ملحق بهذه ين النوعين في التحريم، لما فيه من الضرر والحق أن لا يحرم منه إلا ما فيه مضرة، وأما ما ليس فيه مضرة فلا بحرم، وإنما ينبغي تركه لأنه لا يعني الجادين، و ( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ). وما جاء في الحديث من عد السحر من الكبائر وعده كفرا، إذا كان الساحر يتجه في رياضته بالتعظيم والعبادة والخضوع والتذلل لغير الله تعالى، فهو محمول على النوعين الأولين.
ثم ذكر الفرق بين المعجزة والسحر بأنه راجع إلى التحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما ادعاه، وأن الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي، فلا يصح منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، فراجعه. وفي الآية إشارة إلى أن السحر موجب للكفر.
﴿ وما أنزل على الملكين ببابل ﴾ أي ويعلمون ما أنزل على المالكين : هاروت وماروت، ببابل، أي ما ألهماه وعلماه من السحر. وعطفه على ما قبله لتنزيل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات، وكان نزولهما لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى
وامتحانا للناس. فمن تعلمه وعمل به كفر، من تعلمه وتوقي العمل به ثبت على الإيمان، والله تعالى وامتحانا للناس، كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وكانا يحذران الناس أشد التحذير من العمل به، فلا بصفاته لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال فيه حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له :﴿ إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾.
وكذلك كان للتمييز بين السحر والمعجزة، حيث كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة من الشبه، ويميطا الأذى عن الطريق.
والطاهر أنهما نزلا بصورة آدمية، ولا بعد في ذلك، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بصورة دحية الكلبي وغيرة.
وما يروه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا أصل له، وهومن أكاذيب الإسرائيليين فلا يعول عليه.
وقد أنكره من الأئمة : القاضي عياض والإمام الرازي والشهاب العراقي وابن كثير والآلوسي.
﴿ إنما نحن فتنة ﴾ ابتلاء من الله، واختبار للناس، أيتبعون النصح ولا يعملون السحر، أم يخالفونه ويعملون السحر. من الفتن، إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته. ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد، وبالمنح واللطائف، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة. وأكثر ما تستعمل في الفتنة : الامتحان بالمحن. وعليه يحمل تفسير بعضهم الفتنة بالمحنة.
وابتلاء الله العباد، ليس ليعلم أحوالهم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لانهاية له على سبيل التفصيل من الأزل، ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة، وهي الأحوال التي يعلمها الله تعالى أزلا.
﴿ خلاق ﴾ نصيب من الخير، هو ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة وتخلق به. وفسر الخلاق : بالقوام وبالقدر، والمعاني متقاربة.
﴿ لمثوبة ﴾ لأجر وجزاء. وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه ويرجع.
﴿ لا تقولوا راعنا ﴾ كان المؤمنون إذا حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له :﴿ راعنا ﴾ من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي، وهو حفظ الغير وتدبير أموره، وتدارك مصالحه. يريدون : راقبنا وتأن بنا، حتى نفهم كلامك
ونحفظه.
وكانت هذه اللفظة بلغة اليهود سبا قبيحا، أو بمعنى : اسمع لا سمعت. أويا أحمق، من الرعونة، وهي الحماقة والخفة. فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين، كما قال تعالى :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلام عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ ١. فنبهي المؤمنون عن مخاطبته بهذه اللفظة، قطعا لألسنة اليهود حتى لا يتخذوها ذريعة إلى سبه صلى الله عليه وسلم، وأمروا بأن يقولوا ما في معناها، مما لا يمكن التذرع به إلى ذلك، وهو انظرنا، أي انتظرنا وتأن، أو انظر إلينا. وهذه الآية أصل في سد الذرائع.
١ ( ) : آية ٤٦ النساء..
﴿ ما ننسخ من آية ﴾ لما قال الكافرون : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا
ويرجع عنه غدا، وأنه ما يقول إلا من تلقاء نفسه-أنزل الله هذه الآية بيانا لوجه حكمة النسخ، وأنها رعاية مصالح العباد، وأن النسخ من عند الله لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
والنسخ : الرفع والإزالة، يقال : نسخت الشمس الظل، إذا أذهبته وأبطلته، ونسخ الآية تارة برفع حكمها مع بقاء تلاوتها، وتارة برفع تلاوتها مع بقاء حكمها، وتارة برفعهما معا. وتارة يكون النسخ يبدل، وتارة بغير بدل، كما تقرر في الأصول. والمراد به في الآية نسخ الحكم ببدل.
وإنساء الآية – من النسيان- إذهابها من القلوب حتى لا تذكرها، وهو النوع الثالث من النسخ والمعنى : ما ننسخ من آية فنرفع حكمها، أو نمحو من القلوب، نأت بدلها بما هو أنفع لكم وأسهل، وأكثر لأجركم. أو بمثلها في المنفعة والثواب. فما نسخ بالأخف فهو في العمل أيسر، وما نسخ بالأشد فهو في الثواب أكثر، وقرئ " ننسأها "، من النسئ بمعنى التأخير، أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ.
﴿ فاعفوا واصفحوا ﴾ فتجاوزوا عما كان منهم من عداوة وحسد. والعفو : ترك العقوبة على الذنب.
والصفح : ترك اللوم والعقاب عليه، وهوأبلغ من العفو، إذ قد يعفوالإنسان ولا يصفح.
﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ أي بأمره بقتالهم. أوبالجزاء يوم القيامة. والأمر على الأول واحد الأوامر، وعلى الثاني واحد الأمور.
﴿ تلك أمانيهم ﴾ أي دعوى اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. ودعوى النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، وزعمهم جميعا حرمان المسلمين منها أماني باطلة، تمنوها على الله بغير حق.
﴿ قل هاتوا برهانكم ﴾ أي أحضروا حجتكم على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة. و " هاتوا " فعل أمر، وهاؤه أصلية. والبرهان على صحة الدعوى، مصدر بره يبره إذا أبيض، سميت به الحجة لنصوع دلالتها على المطلوب،
ومنه : أبره إذا أتي بالبرهان. أومن البره، وهو القطع، ومنه : البرهة وهي القطعة من الزمان، وسميت به الحجة لأن بها قطع دعوى الخصم. أومن البرهنة بمعنى البيان.
﴿ بلى من أسلم ﴾ أي ليس الأمر كما زعمتم، وإنما يدخل الجنة من اخلص دينه وعبادته لله وحده، وهو متبع في أمر ربه، محسن عمله.
﴿ يتلون الكتاب ﴾ أي جنس الكتاب، فيصدق على التوراة والإنجيل وليس فيهما شيء مما يزعمون.
﴿ قال الذين لا يعلمون ﴾ قال مشركو العرب الذين لا كتاب لهم يتعلمون منه في محمد وأصحابه :
إنهم ليسوا على شيء من الدين. كما قال أهل الكتاب فيمن خالفهم : لستم على شيء من الدين، فتشابهت قلوبهم.
﴿ ومن أظلم ممن منع.. ﴾ هم المشركون الذين حاولوا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين المسجد الحرام يوم الحديبية. وقيل : هم النصارى الذين كانوا يمنعون الناس من الصلاة في بيت المقدس، ويظاهرون بختنصر على خرابه. والتعبير بصيغة الجمع لأن كل موضع منه مسجد.
﴿ ما كان لهم... ﴾ أي ما صح لهم دخولها إلا خائفين من الله تعالى، لمكانها من الشرف والكرامة بإضافة إليه تعالى. أومن المؤمنين أن يبطئوا بهم، فضلا عن أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين.
﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ ففي أي مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة، التي أمركم الله بها ورضيها لكم، فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها.
﴿ وقالوا اتخذ الله ولدا ﴾ زعم بعض اليهود أن عزيرا ابن الله. وزعم نصارى نجران أن المسيح ابن الله. وزعم بعض مشركي العرب أن الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ! وكيف ذلك وله تعالى جميع ما في السموات
والأرض عبيدا وملكا وخلقا، وتدبيرا وتسخيرا وتصريفا، وكلها مربوبة له تعالى، فكيف ينسب إليه منها ولد.
﴿ سبحانه ﴾ تنزيها له عما هو نقص في حقه، ومحال عليه من اتخاذ الولد، لاقتضاء الوالدية النوعية، والجنسية
والتناسل والافتقار، والتشبيه والحدوث. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويكافئهم ".
﴿ كل له قانتون ﴾ مطيعون طاعة تسخير وانقياد، خاضعون، لا يستعصى منهم شيء على مشيئته وتكوينه. شاهدون بلسان الحال والمقال بوحدانيته. من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا
وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }١.
١ آية ١٥ الرعد.
﴿ بديع السماوات... ﴾ مبدعها ومنشئها بلا احتذاء ولا إقتداء، وبلا آلة ولا مادة.
صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعها من غير أصل ولا مثال هو الله تعالى، الذي ابتدع المسيح عليه السلام من غير أب بقدرته سبحانه، وابتدع عزيرا والملائكة، فكيف يضيفون إليه تعالى بنوة شيء من هذه المخلوقات.
﴿ وإذا قضى أمرا... ﴾ أي إذا أراد سبحانه إحداث أمر من الأمور حدث فورا، قال تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾١ وهو ما ذهب من أهل السنة تمثيل لحدوث ما تتعلق به إرادته تعالى بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
لحدوث ما تتعلق به إرادته تعالى بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
وذهب آخرون إلى أن الأمر ب " كن " محمول على حقيقته، وأنه تعالى أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بكلمة " كن " أزلا.. ومن ذلك عيسى عليه السلام خلق بكلمة " كن " فكان.
١ آية ٨٢ يس.
﴿ وقال الذين لا يعلمون ﴾ هم مشركو العرب. ( آية ١١٣ من هذه السورة ص٣٤ ).
﴿ الذين من قبلهم ﴾ هم أهل الكتاب.
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، المقصود منه أمته.
﴿ الذين آتيناهم الكتاب ﴾هم مؤمنو أهل الكتاب. والكتاب : التوراة أو الإنجيل أوهم أصحابه ٍ صلى الله عليه وسلم. والكتاب : القرآن.
﴿ لا تجزي نفس... ﴾( آية ٤٨ من هذه السورة ص... )
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم... ﴾اختبره ربه تعالى بما كلفه من الأوامر والنواهي. ومعنى اختبار الله تعالى العبد معاملته إياه معاملة المختبر مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى، لعلمه المحيط بالأشياء.
أو الاختبار لإظهار ما في المبتلى من جودة ورداءة، وطاعة وعصيان، دون التعرف لحاله والوقوف على حقيقة أمره. وهو تعالى يختبر عباده تارة بالمضار ليصبروا، وأخرى بالمسار لشكروا، وفي كلا الحالين تبدو النفس على حقيقتها.
﴿ فأتمهن ﴾ أتى بهن على الوجه الأكمل، وأداهن كما يليق به عليه السلام، قال تعالى :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾١.
١ آية ٢٧ النجم..
﴿ مثابة الناس ﴾ مرجعا للناس يرجعون إليه من كل جانب ويحجون. مصدر ميمي، من نائب القوم إلى المكان رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه ثوبا وثؤوبا. أومعاذا لهم يلجؤون إليه. أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره.
﴿ مقام إبراهيم ﴾ هو الحجر الذي قام إبراهيم علي السلام عند بناء البيت. وهو على المشهور تحت المصلى المعروف الآن.
﴿ مسلمين لك ﴾ مخلصين موحدين لك. من أسلم وجهه : إذا أخلص نفسه أو قصده.
أ ومنقادين لك، قائمين بشرائع الإسلام. من استسلم : إذا انقاد.
﴿ وأرنا مناسكنا ﴾ علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا : كالطواف والسعي والوقوف.
أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعه،
كمنى وعرفات ونحوهما. جمع منسك – بفتح السين وكسرها – بمعنى الفعل، وبمعنى الموضع. من النسك – مثلثة النون، وبضمها وضم السين – وهو غاية العبادة، وشاع في الحج، لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العبادة.
﴿ وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ وابعث في الأمة المسلمة. أوفي ذريتنا - وهم العرب- رسولا منهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يبعث في ذريتنا غيره.
﴿ ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴾ أي يعلمهم معاني الكتاب وحقائقه، وهو القرآن. ويعلمهم الحكمة، وهي في الأصل إصابة الحق في القول والعمل. والمراد بها هنا : الفقه في الدين ومعرفة أسراره، وحكمه ومقاصده التي يكمل بها العلم بالكتاب.
﴿ ويزكيهم ﴾ يطهرهم من أرجاس الشرك وأدران المعاصي. يقال : زكاه الله أي طهره وأصلحه. ومنه زكاة المال، لتطهره بها وطهارة النفس بإخراجها. وأصل الزكاء – بالمد - : النماء والزيادة، ومنه :
زكا الزرع والأرض زكاء وزكوا، أي نما ونمت.
﴿ سفه نفسه ﴾ خسر نفسه، أوجهلها أوأمتهنها وأذلها واستخف بها. والسفه : خفة في النفس لنقصان العقل في أمور الدنيا أوالدين. و " سفه " متعد بنفسه. و " نفسه " مفعول به.
﴿ اصطفى لكم الدين ﴾ اختار لكم دين التوحيد، وهو دين الإخلاص لله في العبادة والطاعة والانقياد لحكمه، فليس عند الله دين مرضى سواه، وهو دين الإسلام.
﴿ حنيفا ﴾ مائلا عن الضلال والباطل إلى الهدى والحق. جمعه حنفاء، وأصله من الحنف، وهو ميل في إبهام القدمين من كل واحدة إلى صاحبتها، يقال : حنف يحنف مال. وتحنف إليه : مال.
وتحنف : تحرى طريق الاستقامة. والحنيف : المسلم. و﴿ حنيفا ﴾ حال من إبراهيم.
﴿ والأسباط ﴾ هم أولاد يعقوب الإثنا عشر، جمع سبط وهو ولد الولد، وسموا أسباطا بالنسبة لإسحاق وإبراهيم عليهما السلام. وقيل هم أحفاد يعقوب، وهم أولاد أولاده، وكانوا كثيرين. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من ولد إسماعيل، وسموا أسباطا من السبط، وهو الشجرة ذات الأغصان الكثيرة، لأنهم في الكثرة بمنزلتها.
﴿ في شقاق ﴾ في مخالفة الله تعالى ومعاداة. من الشق وهو الجانب، لأن كل واحد من الفريقين يكون في شق غيرشق صاحبه. أومن قولهم : شق العصا، إذا أظهر العداوة.
﴿ صبغة الله ﴾ دين الله، أو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي الإيمان.
و الصبغة – كجلسة – من صبغ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر، لظهور أثره عليهم، كظهور أثر الصبغ على المصبوغ،
ولتداخله في قلوبهم تداخله وصيرورته حلية لهم. و " صبغة الله " مصدر مؤكد
ل " آمنا "، منصوب بفعل مقدر، أي صبغنا الله صبغته.
﴿ والذين يتوفون منكم ﴾أي يجب على الزوج حين مشارفة الموت أن يوصى لزوجته بالنفقة والسكنى حولا، ويجب عليها الاعتداد حولا. وهي مخيرة بين السكنى في بيته حولا ولها النفقة، وبين أن تخرج منه ولا نفقة لها، ولم يكن لها ميراث من زوجها. وقد نسخ وجوب الوصية بالنفقة والسكنى بآية المواريث، وبحديث :" ألا لا وصية لوارث " . ووجوب العدة حولا بقوله تعالى :﴿ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ﴾ المتأخر نزولا والمتقدم تلاوة.
واختار الفخر ما ذهب إليه أبو مسلم من أن المعنى : والذين يتوفون منكم وقد أوصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولا، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الشارع لهن، وهي أربعة أشهر وعشر فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف، أي الزواج الصحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة.
﴿ سيقول السفهاء من الناس ﴾ جمع سفيه، من السفه وهو الخفة الناشئة من نقصان العقل. أي سيقول الخفاف الإحلام، الطاعنون في تحويل القبلة إلى الكعبة، وهم اليهود والمنافقون والمشركون : أي شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا يصلون إليها، وهي بيت المقدس ؟   ! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى إليها منذ قدم المدينة، وبعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا - على الأرجح – أمر بالصلاة إلى الكعبة، فأخبره الله تعالى بما سيقولونه قبل أن يقولوه، ليوطن نفسه عليه، وأعلمه الجواب عنه، وهو من أعلام النبوة. وقيل : إنه أخبره به بعد ما وقع، وأتى بالسين مع مضى القول لاستمرارهم عليه.
﴿ وكذلك جعلنا كم أمة وسطا ﴾ أي كم هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل جعلناكم أمة وسطا. أو مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا. أي عدولا خيارا. أو متوسطين، أي معتدلين في الدين غير مفرطين ولا مفرطين فيه، كاليهود والمشركين، وكالنصارى والصائبين. و وسط الشيء في الأصل : ما له طرفان متساويا القدر. استعير للخصال الحميدة، لكونها أوساطا لطرفي الخصال الذميمة، ثم أطلق على المتصف بها، من إطلاق اسم الحال على المحل، لاعتداله وبعده عن طرفي الإفراط والتفريط الذميمين. وخير الأمور، الوسط.
﴿ وماجعلنا القبلة ﴾بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة له ثم صرفه عنها إلى الكعبة. أي أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك لبيت المقدس هذه المدة ثم صرفك عنه، إنما كان ليظهر حال من يتبعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه مرتدا عن دينه، فنجازي كلا بعمله. وعبر عن ذلك بالعلم لترتبه عليه.
﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ يرتد عن دين الإسلام، ويرجع إلى ما كان عليه، إلفا لقبلة آبائه
وهو كقوله تعالى :﴿ نكص على عقبيه ﴾١، ﴿ فارتدا على آثارهما قصصا ﴾٢، وقولهم : رجعت على حافرتي، أي طريق الذي أصعدت فيه. والحافرة : العود في الشيء حتى يرد آخره على أوله.
( وإن كانت لكبيرة ) أي وإن كانت هذه التولية لشاقة ثقيلة على النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم إلى إتباعك، والإيمان بك، والعلم بأن الله تعالى أن يكلف عباده بما يشاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته إلى الكعبة قالوا :
يا رسول الله، كيف بالذين ماتوا منا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فنزلت. أي وما كان الله مريدا لإضاعة إيمانكم، أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة. فالإيمان مجاز عن الصلاة، من إطلاق اللازم على ملزومة بقرينة المقام. أو لإضاعة ثباتكم على الإيمان بالرسول، بل يجازيكم عليه بالحسنى.
١ آية ٤٨ الـأنفال آية ٦٤ الكهف.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟؟.
﴿ قد نرى تقلب وجهك... ﴾ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه نحو السماء في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة، قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام. فاستجاب الله له وحوله إليها.
﴿ ترضاها ﴾تحبها وتهواها، لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين، وأدعى للعرب إلى الإيمان، فوافقت أغراضه الشريفة - صلى الله عليه وسلم- مشيئة الله وحكمته.
﴿ شطر المسجد الحرام ﴾ نحوه وجهته وتلقاءه، منصوب على الظرفية. والمراد من المسجد الحرام : الكعبة، كما في الصحيحين. أي فول وجهك في الصلاة جهتها، وحيثما كنتم من بر أو بحر، شرق أو غرب فولوا وجوهكم في الصلاة جهتها.
وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة التي هي القبلة إيذان بكفاية محاذاة الجهة للبعيد، لأن في وجوب محاذاة عينها على البعيد حرجا عظيما دون القريب. وروى عن ابن عباس : أن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. وإليه ذهب مالك.
﴿ يعرفونه ﴾ أي يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بالنعوت المسطورة عي التوراة، التي من جملتها أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين.
﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم مع العلم به. من الامتراء في الشيء، وهو الشك فيه. والشاك في الشيء يتردد فيه، ويدافع اليقين ويجادل فيه، ليستخرج ما عند خصمه من القول والحجة. من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها لتدر. ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره. والخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، كما في نظائره.
﴿ التابوت ﴾صندوق التوراة. من التوب وهو الرجوع، لأنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه. وتاؤه من يدة لغير التأنيث، كجبروت.
﴿ فيه سكينة ﴾أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة. أو في التابوث ما تسكنون إليه وتطمئنون
وهو التوراة. والسكينة : من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن –بالتحريك- : وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
﴿ ومن حيث خرجت فول ﴾ أعاد سبحانه هذا الأمر ثلاث مرات، وفي كل مرة فائدة زائدة. فعلل الأمر الأول بإكرامه تعالى لرسوله والمؤمنين بالقبلة التي يحبونها ويرضونها، وهي قبلة أبيهم إبراهيم.
وعلل الثاني بما جرت به العادة الإلهية من أن يؤتى أهل كل ملة قبلة، وقد شرع للمؤمنين أشرف الجهات التي يعلم أنها حق، وهي بيته المعظم قبلة لهم.
وعلل الثالث بدفع شبه الطاعنين الجاحدين. كأنه تعالى يقول : الزم هذه القبلة، فإنها التي كنت تهواها. ثم يقول : الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهدى. ثم يقول : الزم هذه القبلة، فإن في ذلك انقطاع حجج الطاعنين.
﴿ لئلا يكون الناس ﴾ أي لينتفى احتجاج اليهود بقولهم : يجحد ديننا ويتبع قبلتنا. والمشركين بقولهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، ويتبعهم المنافقون في كل باطل من القول. فلما حولتم إلى الكعبة انتفى احتجاجهم جميعا. وسمى قولهم حجة لأنهم يسوقونه مساق الحجة وإن كان في نفسه باطلا.
﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ أي لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبه ويجادلونكم بالباطل، فيقول اليهود : ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبا لبلده. و يقول المشركون : بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
﴿ ويزكيكم ﴾ يطهركم من الشرك والذنوب، ومن رذائل الأخلاق وأعمال الجاهلية.
﴿ فاذكروني أذكركم ﴾ فاذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي. و في الحديث الصحيح :( يقول الله تعالى : ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ).
﴿ ولا تقولوا لمن يقتل... ﴾ إخبار بأن الشهادة في سبيل الله حياة أبدية خالدة، بعد بيان أن أقوى ما يستعان به على تحمل المصائب والشدائد : الصبر والصلاة، كما قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾١.
﴿ بل أحياء... ﴾ أي بل هم أحياء يرزقون، حياة برزخية خاصة، لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، تمتاز عن حياة سائر المؤمنين في البرزخ.
وقال الآلوسى : إن الروح تتعلق بعد الموت ببدن برزخي، مغاير لهذا البدن الكثيف، وأرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق، على وجه يمتازون فيه عمن عداهم من المؤمنين، إما في نفس التعلق أوفي نفس الحياة، أوفي نفس المتعلق به، مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والنعيم اللائقين بهم، ولهذه الأبدان البرزخية شبه صوري بالأبدان الدنيوية، والله اعلم. وقد أسهب القول في ذلك والدنا – رحمه الله – في كتابه " المطالب القدسية، في أحكام الروح وأثارها الكونية ".
١ : آية ٤٥ البقرة ص ٢٧.
﴿ ولنبلونكم ﴾ والله لنختبرنكم، من الابتلاء بمعنى الاختبار. أي لنعاملكم بقليل من المحن. والبلايا معاملة المختبر لأحوالكم، ليظهر : هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أولا تصبرون. وقد أخبرهم الله تعالى بذلك قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له، وليعلموا أنه شيء يسير هين، له عاقبة حميدة.
﴿ من شعائر الله ﴾ أي من أعلام دينه ومتعبداته. تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة.
وشعائر الحج : معامله الظاهرة للحواس، التي جعلها الله أعلاما لطاعته ومواضع نسكه وعبادته، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر. جمع شعيرة وهي العلامة. وقيل للبدنة المهداة إلى البيت المعظم : شعيرة : لأنها تشعر، أي تعلم. ويقال لمواضع النسك : مشاعر، جمع مشعر وهو المعلم والمتعبد من متعبداته، من الإشعار وهو الإعلام. ومنه المشعر الحرام للمزدلفة، لأنها معلم للعبادة وموضع لها. وتطلق الشعائر على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع، لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله تعالى.
﴿ اعتمر ﴾زار. والعمرة : زيارة البيت المعظم على وجه مخصوص، أخذا من العمارة، كأن الزائر يعمر البيت بزيارته، وجمعهاعمر وعمرات، كغرف وغرفات، في جمع غرفة.
﴿ فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ أي فلا إثم عليه في التطوف بهما. من جنح، أي مال عن القصد، وسمي الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل.
وقد كان على الصفا صنم يسمى " إسافا " وعلى المروة صنم يسمى " نائلة "، وكانوا في الجاهلية يستلمونهما ويتمسحون بهما، فتحرجوا بعد الإسلام وتكسير الأصنام من السعي بين الصفا والمروة. فنزلت هذه الآية، وأخبر الله أنه من شعائر الله ولا جناح فيه.
}يلعنهم الله } يصردهم ويبعدهم من رحمته. يقال : لعنه، أي طرده وأبعده ساخطا عليه، فهو لعين وملعون، وجمعه ملاعين. واللاعنون هم الملائكة والمؤمنون. والمراد دوام اللعن واستمراره.
﴿ ولا هم ينظرون ﴾ أي لا يمهلون ويؤخرون عن العذاب ساعة. من الانظار بمعنى التأخير والإمهال. أومن النظر بمعنى الانتظار. يقال : نظرته وانتظرته وأنظرته، أخرته وأمهلته، ومنه :﴿ فنظرة إلى ميسرة ﴾١. أومن النظر بمعنى الرؤية، أي لا ينظر الله إليهم نظر رحمة ورضا.
١ : آية ٢٨٠ البقرة.
﴿ وتصريف الرياح ﴾ تقليبها جنوبا وشمالا ودبورا، حارة وباردة، عاصفة ولينة، عقيما ولواقح، بالرحمة تارة وبالعذاب أخرى. و " تصريف " مصدر مضاف للمفعول، والفاعل هو الله، أي وتصريف الله الرياح أو مضاف للفاعل، والمفعول السحاب، أي وتصريف الرياح السحاب.
﴿ أندادا ﴾ أمثالا ونظراء. جمع ند١. والمراد بها الأصنام والأوثان التي اتخذوها آلهة، ورجوا منها النفع وخافوا الضر وقربوا لها القربان. وقيل : الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب. وقيل الأعم مما ذكر.
﴿ ولو يرى الذين ظلموا ﴾ أي ولو يعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك شدة عذاب الله وعقوبته حين يعاينون العذاب المعد لهم يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف.
١ : راجع آية ٢٢ من هذه السورة ص ٢٠.
﴿ وتقطعت بهم الأسباب ﴾ الأسباب : جمع سبب. وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه، ثم سمي به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى، والمراد بها هنا : الوشائج التي كانت بين الأتباع والمتبوعين عي الدنيا، من القرابات والمودات والاتفاق على الدين والاتباع. وتقطيعها : فصلها فصلا شديدا. والباء في " بهم " للسببية، أي وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون بها النجاة.
﴿ لو أن لنا كرة ﴾وثبت أن لنا عودة ورجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم كما تبرءوا منها. والكرة : العودة والرجوع. يقال : كر يكر كرا، رجع.
﴿ حسرات ﴾ جمع حسرة، وهي أعلى درجات الندم والغم على ما فات. يقال : حسر يحسر حسرا وحسرة، فهو حسير، إذا اشتدت ندامته على أمر فاته، وأصله من الحسر بمعنى الكشف أو الإعياء، كأنه انحسرت قواه من فرط الغم، أو أدركه الإعياء عن تدارك ما فرط منه. يرى الله المشركين أعمالهم السيئة يوم القيامة في الصحائف، ويتيقنون الجزاء عليها فيتحسرون ويندمون.
﴿ حلالا طيبا ﴾ الحلال : المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه. من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب : المستلذ، أو المباح الذي لا يتعلق به حق الغير، أو كما قال الإمام مالك : ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه، أوتراه عينه طاهرا من دنس الشبهة.
نزلت في الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة ونحوهما.
﴿ خطوات الشيطان ﴾آثاره وزلاته وطرقه التي يحرم بها الحلال ويحلل الحرام. جمع خطوة كغرفة، وأصلها ما بين القدمين، ثم استعيرت لما ذكر، وقرئ بسكون الطاء.
﴿ بالسوء والفحشاء ﴾ السوء : ما يكره من الأمور والأحوال. وهو في الأصل مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءا إذا أحزنه. والمراد به هنا كل ما يغضب الله تعالى من المعاصي، لأنه يسوء صاحبه. والفحشاء والفاحشة والفحش : ما عظم قبحه – شرعا- من الأفعال والأقوال.
﴿ كمثل الذي ينعق ﴾ النعيق : دعاء الراعي الشاء. يقال : نعق الراعي بالغنم ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا، صاح بها وزجرها. أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الناعق بغنمه، في كون الكافر لا يفهم مما يخاطبه به داعيه إلا دوى الصوت دون إلقاء فكر وذهن، كما أن البهيمة كذلك. فالكلام على حذف مضاف من الأول.
﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ أي من مستلذات ما أحللناه لكم.
﴿ والدم ﴾أي المسفوح المهراق، الآية :﴿ أو دما مسفوحا ﴾١. وهي خاصة، والآية هنا عامة، والخاص مقدم على العام.
﴿ ولحم الخنزير ﴾ المراد به جميع أجزائه. وعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه والمقصود بالأكل.
﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ الإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا ومنه : إهلال الصبي، والإهلال بالحج. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها – كاللات والعزى- ورفعوا بها أصواتهم، وسمي ذلك إهلالا. ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل، سمى أو لم يسم، جهر بالتسمية أولم يجهر. والمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام ونحوها، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار. ومنه عند الجمهور : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكروا عليها اسم عزير أو عيسى عليهما السلام، لأنها مما أهل به لغير الله. وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقا، لعموم قوله تعالى في سورة المائدة وهي آخر السور نزولا :﴿ وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ﴾٢ أي ذبائحهم، وهو سبحانه يعلم ما يقولون. وروى الحسن عن علي رضي الله عنه : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. ذكره الرازي والنيسابوري والآلوسي وغيرهم. وظاهر الآية يقتضي ألا يحرم من المعلومات سوى هذه الأربعة، لكنا نعلم أن في الشرع مطعومات أخرى محرمة كلحوم الحمر الأهلية، فتصير كلمة " إنما " متروكة الظاهر في العمل، كما قاله الرازي.
﴿ فمن اضطر ﴾ أي فمن ألجئ بإكراه أوجوع مهلك – مع فقد الحلال – إلى أكل شيء من هذه المحرمات الأربع، التي كانوا في الجاهلية يستحلونها، أو التي اعتقد المؤمنون حرمتها ولوفي حالة الاضطرار فلا إثم عليه في أكلها. من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء. يقال : اضطره إليه أحوجه وألجأه فاضطر. مأخوذ من الاضرار، وهو حمل الإنسان على أمر يكرهه، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك. والآية استثناء لحالة الضرورة الملجئة.
﴿ غير باغ ولا عاد ﴾ " غير باغ " في أكله، أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره. أو غير طالب له للذته، أو على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر. من البغاء، وهو الطلب تقول : بغيته بغاء وبغي بغية وبغية، طلبته. " ولا عاد " فيه، أي متجاوز سد الجوعة.
اسم فاعل بمعنى متعد، تقول : عدا طوره، إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره، فهو عاد. ومنه :﴿ بل أنتم قوم عادون ﴾ ٣ و " غير " منصوب على الحال من الضمير المستتر في " اضطر ".
﴿ فلا إثم عليه ﴾ أي في أكله، فسقطت الحرمة للاضطرار. وقيل : سقط الإثم مع بقاء الحرمة للاضطرار. روى عن مسروق : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار. فجعل الأكل عزيمة لا رخصة.
١ : آية ١٤٥ الأنعام.
٢ : آية ٥.
٣ : آية ١٦٦ الشعراء..
﴿ ولا يزكيهم ﴾ ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة. من التزكية بمعنى التطهير. ( آية ١٢٩ من هذه السورة ).
﴿ فما أصبرهم على النار ﴾ فما أدومهم على عمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار. والمراد بالتعجب في هذه الآية ونظائرها : الإعلام بحالهم، وأنه ينبغي أن يتعجب منها كل أحد.
﴿ ولكن البر بر من آمن ﴾ البر : اسم جامع لكل خير، ولكل طاعة وقربة إلى الله تعالى.
أي ولكن البر بر من آمن، وحذف المضاف على حد : الجود حاتم، أي الجود جود حاتم. أو ولكن البر – أي البار- من آمن، على أنه اسم فاعل من بر يبر فهو بر، وأصله برر، فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى ما قبلها بعد سلب حركتها.
وقد اشتملت الآية على خمسة عشر نوعا من أنواع البر. وهي رد لما زعمته اليهود من أن البر هو مجرد التوجه إلى جهة المغرب، وما زعمته النصارى من أنه مجرد التوجه إلى جهة المشرق. أي ليس البر كله فيما زعموا، وإنما فيما بينته هذه الآية.
﴿ وابن السبيل ﴾ هو المسافر المنقطع عن أهله ووطنه، الذي قد فرغت نفقته. وسمي ابن سبيل لملازمته السبيل، أي الطريق في سفره.
﴿ وفي الرقاب ﴾ أي في فك الرقاب وتخليصها من الاسترقاق أوالأسر. أوشراء رقاب وعنقها.
﴿ والصابرين في البأساء والضراء ﴾ البأساء : ما يصيب الناس في الأموال، كالفقر. والضراء : ما يصيبهم في الأنفس، كالمرض. مشتقان من البؤس والضر، وألفهما للتأنيث. يقال : بئس يبأس بؤسا وبأسا، اشتدت حاجته.
وضره وأضره وضاره ضرا وضرا، ضد نفع. " والصابرين " منصوب على المدح بتقدير أخص، وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال، حتى كأنه ليس من جنس ما قبله. وهذا الضرب من الأسلوب يسمى القطع، وهو أبلغ من الإتباع.
﴿ وحين البأس ﴾ أي ووقت القتال في سبيل الله. يقال : بؤس يبؤس بأسا فهو بئيس، أي شديد شجاع. وهو ظرف منصوب بالصابرين.
﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ أي فرض عليكم. من الكتب، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط، ومنه الكتابة. ويطلق الكتب والكتاب والكتابة على الإيجاب والفرض، لأن الشأن فيما يوجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب، ومنه ﴿ كتب عليكم الصيام ﴾١، ﴿ كتب الله عليهم الجلاء ﴾٢.
" والقصاص " : تتبع الدم بالقود. وأصله من القص، وهو تتبع الأثر. يقال : قص أثره أي تتبعه.
ومنه : القصة والقصص، لما فيهما من التتبع.
﴿ فمن عفي له... ﴾أي فالقاتل عمدا إذا عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، بأن صفح عنه من القصاص الواجب عليه، ورضي منه بالدية بدل الدم، فالواجب إتباع ولي الدم له بالمعروف بألا يأخذ منه أكثر من حقه ولا يرهقه، وأداء القاتل إليه الدية أداء حسنا لا مطل فيه ولا بخس.
﴿ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ ففي شرع العفو تسهيل على القاتل، وفي شرع الدية نفع لأولياء المقتول. وقد كتب على اليهود : القصاص وحده، وحرم عليهم أخذ الدية والعفو. وكتب على النصارى : العفو، وحرم عليهم الدية والقصاص. فخير الله هذه الأمة بين القصاص والعفو وأخذ الدية، توسعة عليهم، وتيسيرا وتفضيلا لهم على غيرهم.
١ : آية ١٨٣ البقرة.
٢ : آية ٣ الحشر.
﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ أي لكم في تشريع القصاص في القتل العمد بقاء، فإن من هم بالقتل إذا علم أنه قتل اقتص منه ارتدع وانكف، فسلم هو وسلم صاحبه من القتل. ومن قتل إنسانا واقتص منه، ارتدع غيره ممن كان يهم بالقتل فسلم من يده. ولولا هذا التشريع الحكيم العادل لفشا القتل بين الناس فشو صغائر الذنوب، وهان أمر الدماء على الناس.
﴿ إن ترك خيرا ﴾ أي مالا يعد كثيرا في العرف.
﴿ الوصية للوالدين والأقربين ﴾ فرض الإيصاء في بدء الإسلام للوالدين والأقربين - وارثين أو غير وارثين – على من حضره الموت وله مال. ثم نسخ بآية المواريث، وبحديث :( لا وصية لوارث ) وهو مذهب جمهور الأئمة. وذهب ابن عباس إلى أن المنسوخ وجوب الوصية للوارثين منهم، وبقى الوجوب في حق من لا يرث منهم. وهو قول الحسن ومسروق وطاووس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد.
﴿ جفنا أو إثما ﴾ الجنف : الميل والجور. يقال : جنف في وصيته وأجنف، مال وجار، فهو جنف وأجنف. وقيل : أجنف مختص بالوصية، وجنف في مطلق الميل عن الحق. ويقال : جنف وجنف عن طريقه جنفا وجنوفا.
والإثم : عمل مالا يحل. يقال : أثم يأثم فهوآثم وأثيم. والمراد بالجنف هنا : الميل عن الحق في الوصية خطأ، بقرينه مقابلته بالإثم وهو الميل عن الحق فيها عمدا.
﴿ من قبلكم... ﴾ من لدن آدم إلى عهدكم. والمماثلة في أصل الوجوب، فما أخلى الله أمة من فرضه عليها.
﴿ وعلى الذين يطيقونه فدية ﴾ ذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن هذه الآية منسوخة، ففى الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾أي أنها نسخت هذا التخيير. وذهب ابن عباس إلى محكمة غير منسوخة – كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما – وأنها نزلت في الشيخ الكبير الهرم والعجوز الكبيرة الهرمة، اللذين لا يستطيعان الصوم، فعليهما إطعام مسكين عن كل يوم. وذهب آخرون إلى أنها غير منسوخة، وأن المعنى : وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة إذا أفطروا فدية، فتشمل الآية من ذكر، والمرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أولديهما، ومن في حكمهما. بناء على أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة، وعلى أنه من أطاق الفعل إذا بلغ غاية طوقه أوفرغ طوقه فيه. ولا تقول العرب : أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في غاية الضعف بحيث يتحمل به مشقة شديدة قال الرغب : " الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، ومنه :﴿ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾١ أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه : لا تحملنا مالا قدرة لنا به ". وفي اللغة : الطاقة أقصى الغاية، وهي اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله الإنسان بمشقة. والطاقة اسم يوضع موضع المصدر، وهو الإطاقة، كالطاعة.
وقيل : يجوز أن تكون الهمزة في أطاق للسلب، كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود، فسلب طاقته وقدرته عند تمامه.
١ : آخر سورة البقرة..
﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ أي ابتدئ فيه إنزاله – قاله ابن اسحق – وكان ذلك ليلة القدر، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ وهي الليلة المباركة، كما قال الله تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾. وقيل : أنزل في فضله أوفي إيجاب صومه القرآن.
﴿ أجيب دعوة الداعي... ﴾ أقبل عبادة من عبدني. فالدعاء : العبادة، والإجابة : القبول.
وقيل : الدعاء الابتهال إليه تعالى، وفي الحديث :( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يكف عنه من السوء مثلها ).
﴿ لعلهم يرشدون ﴾ ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه. يقال رشد ورشد، يرشد ويرشد رشدا ورشدا، اهتدى.
﴿ الرفث إلى نسائكم ﴾ الإفضاء إليهين، أي مباشرتهن. والرفث في الأصل : الفحش من القول، وكلام النساء حين الجماع. كنى به عن المباشرة للزومه لها غالبا. يقال : رفث في كلامه - كنصر وفرح وكرم – وأرفث، إذا أفحش فيه. وقيل : أفحش في شأن النساء. وحل الرفث في ليالي الصيام رخصة ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الطعام والشراب والنساء إلى أن يصلي العشاء أو ينام قبلها، فإذا صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه ذلك إلى الليلة القابلة، فوجدوا في ذلك مشقة عظيمة فنزلت هذه الآية.
﴿ وكلوا واشربوا ﴾ أباح الله الأكل والشرب مع ما سلف من إباحة الجماع في الليل في أي وقت فيه، إلى أن يتبين بياض النهار من سواد الليل.
﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ﴾ أي محارمه ومناهيه، فلا تقربوها. أو أحكامه المتضمنة لما نهاكم عنه، فلا تقربوا ما نهيتم عنه.
﴿ بالباطل ﴾ الباطل : الذاهب الزائل. يقال : بطل بطلا وبطلانا وبطولا، ذهب ضياعا وخسرا.
والمراد به هنا : كل ما لم يبح الشرع أخده من المال وإن طابت به النفس، كالربا والميسر، وثمن الخمر والرشوة وشهادة الزور واليمين الكاذبة، والغش والخيانة، والسرقة والغصب، ونحو ذلك، والباء للسببية. والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله، أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بالسبب الباطل.
﴿ وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ أي تلقوا. يقال : أدليت دلوى في البئر، إذا أرسلتها للاستقاء. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء، ومنه أدلى بحجته. والمعنى : ولا تلقوا بأمور تلك الأموال التي فيها بالخصومة إلى الحكام. أي لا تسرعوا الخصومة في الأموال إلى الحكام ليعينوكم على إبطال حق أو تحقيق باطل.
﴿ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ﴾كانوا في الجاهلية إذ أحرموا أتوا البيت من ظهره، وكانوا يتحرجون من الدخول من الباب، فأنزل الله هذه الآية مبينا لهم أن ذلك ليس ببر، ولكن البر بر من أتقى المحارم والشهوات.
﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. روي عن ابن عباس : أن المشركين لما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع عامه المقبل للعمرة، تجهز - صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لعمرة القضاء في ذي القعدة من السنة السابعة، ولكن أصحابه خافوا ألا تفي لهم قريش بالعهد وتقاتلهم. وكره المسلمون قتالهم في الحرم وفي الشهر الحرام، فأنزل الله هذه الآية بيانا لكيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها. أي قاتلوا في طاعة الله تعالى الذين يناجزونكم فيهما القتال بالفعل، ولا تعتدوا بالبدء به، وكان هذا في الابتداء، ثم أمر بقتال المشركين كافة بدءوا أولم يبدءوا. أوقاتلوا في سبيل الله الذين أعدوا أنفسهم للقتال فيهما وتهيئوا له، ولا تعتدوا بقتال من لم يعد نفسه له، كالصبيان والنساء والعجزة، ونحوهم. أولا يكن منكم اعتداء بالقتال بوجه من الوجوه.
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾أي اقتلوا هؤلاء الذين أذنتم بقتالهم دون اعتداء منكم، حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، في حل أو حرم، أو شهر حلال أو حرم، وبالغوا في تخويفهم، وتشديد الأمر عليهم، حتى يضطروا إلى الخروج من مكة، كما فعلوا معكم مثل ذلك. يقال : ثقف الرجل – كسمع – ظفر به. وثقفته : صادفته.
﴿ والفتنة أشد من القتل ﴾ أي ولا تستعظموا قتالهم في الحرم والأشهر الحرم إذا بدءوا به، أو إذا تهيئوا له، فإن شركهم في الحرم أشد قبحا من القتل. أو فإن فتنتهم للمؤمنين بالتخويف و الإيذاء والإلجاء إلى مفارقة الأهل والوطن أصعب من القتل.
وأصل الفتنة : عرض الذهب على النار، لاستخلاصه من الغش، ثم استعملت في الشرك وفي الابتلاء فيما ذكر. وروى أن بعض الصحابة قتل في سرية رجلا من المشركين في شهر حرام، فعابه المؤمنون، وقيل عابه المشركون، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم سؤال تبكيت، فنزلت الآية.
﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾أي الحرم. نهى المؤمنون عن القتال في هذا الموطن الشريف إلا إذا بدأ هم المشركون به، وهتكوا حرمته، فيكون قتالهم فيه
عندئذ اضطراريا. والآية محكمة غير منسوخة، وهي تخصيص لقوله تعالى :
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ بالنسبة للمكان.
﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ أي وقاتلوا المشركين قاصدين إزالة الفتنة وإعلاء
الإسلام، حتى يضمحل الشرك، ويكون الدين لله خالصا.
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام ﴾بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم. وقد وقع من المشركين يوم الحديبية قتال خفيف بالرمي بالسهام والحجارة. أي هذا الشهر الحرام الذي تؤدون فيه عمرة القضاء بذلك الشهر الذي قوتلتم فيه قتالا خفيفا، فإذا بدءوا بانتهاك حرمته بالقتال فيه، فلا تبالوا أن تقاتلوهم فيه لابتدائهم بهتك حرمته. أو فلما لم تمنع حرمته المشركين من الشرك والأفعال القبيحة، فكيف تمنع المؤمنين من قتالهم، دفعا لشرورهم، وإصلاحا لفسادهم.
﴿ والحرمات قصاص ﴾ جمع حرمة، وهي ما منع من انتهاكه. والقصاص : المساواة. أي وكل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن
تهتك له حرمته.
والمراد : أنهم إذا أقدموا على مقاتلتكم في الحرم والشهر الحرام والإحرام، فقاتلوهم أنتم أيضا على سبيل القصاص. ثم أكد ذلك بقوله :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾.
﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾التهلكة : الهلاك والموت. أو كل شيء تصير عاقبته إليه. مصدر هلك يهلك هلكا وهلاكا وتهلكة. والأيدي : كناية عن الأنفس، أي ولا تلقوا أنفسكم فيما فيه هلاككم، في دين أو دنيا، بترك الجهاد والإمساك عن الإنفاق فيه. مع القدرة على ذلك.
﴿ أحصرتم ﴾منعتم بعد الاحرام من الوصول إلى البيت، أو نحوهما. أو بسبب العدو فقط. من الاحصار، وهو الحبس والتضييق.
﴿ فما استيسر من الهدى ﴾ أي فعليكم إذا أردتم التحلل من الاحرام ذبح ما تيسر لكم من الهدى، وهو ما يهدى إلى البيت، من بدنة أو بقرة أو شاة. مصدر بمعنى المفعول، أي الهدى.
﴿ ولاتحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ﴾ أي ولا تتحللوا بالحلق حتى تعلموا أن الهدي المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم، لقوله تعالى :﴿ ثم محلها على البيت العتيق ﴾١، وقوله :﴿ هديا بالغ الكعبة ﴾. ٢ وإليه ذهب أبو حنيفة. أو لا تحلوا حتى يبلغ الهدي محله، أي يذبح في موضع الاحصار، حلا كان أو حرما، وإليه ذهب جمهور الأئمة. ويستفاد حكم غير المحصر من الآية بدلالة النص، كما ذكره الآلوسي.
﴿ نسك ﴾ ذبيحة، وأقلها شاة. وأصل النسك : سبائك الفضة التي خلصت من الخبث،
وكل سبيكة منها نسيكة. ومنه قيل للمتعبد : ناسك، لأنه خلص نفسه لله تعالى من دنس الآثام، كالسبيكة المخلصة من الخبث. ثم قيل للذبيحة : نسك ونسيكة، لأنها من أشرف العبادات والقربات.
﴿ فما استيسر من الهدي ﴾ أي فعليه ما تيسر له من الهدى بسبب التمتع.
( ١ ) آية ٣٣ الحج. ( ٢ ) آية ٩٥
﴿ ذلك ﴾ أي التمتع أو الحكم المذكور. أي لزوم الهدي أو بدله على المتمتع.
﴿ حاضري المسجد الحرام ﴾ حاضرو المسجد الحرام : هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت. أوهم أهل مكة خاصة. أوهم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، وإلى الأول ذهب الحنفية، وإلى الثاني المالكية، وإلى الثالث أحمد والشافعي رحمهما الله وتفصيل الأدلة في الفروع.
﴿ فلا رفث ﴾ الرفث : الجماع. أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره، من ذكر الجماع ودواعيه. أو هو الفحش والخنا والقول القبيح. أوهو التعريض للنساء بالفحش من الكلام.
﴿ ولا فسوق ﴾ لا خروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب المعاصي، ومنها السباب، وفعل محظورات الإجرام.
﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ تزودوا ما تبلغون به في سفركم، وتكفون به وجوهكم عن الناس. أو تزودوا لمعادكم بالتقوى، فإنها خير زاد في الآخرة.
﴿ ليس عليكم جناح ﴾ كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا فيها في الموسم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. أي ليس عليكم حرج أن تبتغوا رزقا من ربكم بالتجارة في مواسم الحج.
وسئل عمر – رضي الله عنه - : هل كنتم تتجرون في الحج ؟ فقال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج.
﴿ أفضتم من عرفات ﴾ دفعتم أنفسكم بكثرة للخروج منها إلى مزدلفة. من الإفاضة، وهي دفع بكثرة، تشبها بفيض الماء الكثير. يقال : أفضت الماء إذا صببته بكثرة. وعرفات : جمع، سميت به البقعة المعروفة، كأذرعات.
﴿ المشعر الحرام ﴾ هو مزدلفة. أو جبل قزح. وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه من معالم الحج. ووصف بالحرام لحرمته. وقال ابن كثير : وإنما سميت المزدلفة بالمشعر الحرام لأنها داخل الحرم.
﴿ من خلاق ﴾ من نصيب وحظ من الخير. بوزن سحاب.
﴿ في أيام معدودات ﴾ هي أيام التشريق الثلاثة التالية ليوم النحر.
﴿ ألد الخصام ﴾ شديد الخصومة في الباطل. صفة مشبهة كأحمر، وتجمع على لد. وأصل الألد : الشديد اللديد – أي الشديد صفحة العنق – وهو الذي لا يمكن صرفه عما يريد، واستعمل في الخصم الشديد التأبى.
والخصام : مصدر خاصم. أو جمع خصم، أي أشد الخصوم خصومة.
﴿ أخذته العزة بالإثم ﴾ العزة في الأصل خلاف الذل، وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. أي حملته الأنفة وحمية الجاهلية على فعل الإثم الذي أمر باجتنابه. وتقول : أخذته بكذا، إذا حملته عليه وألزمته إياه. والباء للتعدية.
﴿ فحسبه جهنم ولبئس المهاد ﴾ كافية جهنم جزاء. والمهاد : الفراش. وأصله ما يوطأ للصبي لينام عليه. والآية نزلت في الأخنس بن شريق، وكان منافقا. وعن ابن مسعود : أن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد اتق الله، فيقول : عليك بنفسك ؟ وروى أنه قيل لعمر : اتق الله، فوضع خده على الأرض، تواضعا لله عز وجل.
﴿ يشري نفسه... ﴾ أي يبيعها ويبذلها لمرضاة الله تعالى، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿ ادخلوا في السلم كافة ﴾ أمر الله المؤمنين أن يعملوا بجميع أحكام الإسلام وشرائعه، ويحافظوا على فرائضه وإقامة حدوده. والسلم – بكسر السين وفتحها وسكون اللام - : الإسلام، لما فيه من الاستسلام والانقياد لله تعالى. و " كافة " أي جميعا حال من " السلم ". من الكف بمعنى المنع. واستعمل بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة للأجزاء من التفرق.
﴿ خطوات الشيطان ﴾ آثاره وطرائقه التي يزين لكم بها المعاصي. جمع خطوة - بالضم – وأصلها ما بين قدمي الماشي.
﴿ عزيز حكيم ﴾ عزيز في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب. حكيم في أحكامه.
ونقضه وإبرامه.
﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ﴾ أي ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإسلام من بعد ما جاءتهم البينات، إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة في ظلل من الغمام للحساب والجزاء. وإتيانه تعالى إنما هو بالمعنى اللائق به سبحانه مع تنزيهه عن مشابهة المحدثات، وتفويض علم كيفيته إليه تعالى، كما ذهب إليه السلف في آيات الصفات وأحاديثها. وقد بيناه في المسألة الرابعة من المقدمة، وفي التفسير قوله تعالى :﴿ إن لله لا يستحي أن يضرب مثلا ما ﴾١ وقوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾٢. ومذهب جمهور المتكلمين أن ظواهر هذه الآيات غير مرادة بالإجماع، لاستحالتها عليه تعالى، إذا صفاته مغايرة لصفات خلقه،
أكمان ذاته مغايرة لذواتهم، فوجب تأويلها على التفصيل، فيحمل الإتيان بأمره أو بأسه، كما قال تعالى :﴿ أويأتي أمر ربك ﴾٣، ﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا ﴾٤.
﴿ في ظلل من الغمام ﴾ جمع ظلة - كغرفة – وهي ما يظلك. والغمام : السحاب الأبيض الرقيق، جمع غمامة. ولا يكون ظلة إلا حيث يكون متراكبا. أي يأتيهم الله في ظلل كائنة من الغمام، أي في قطع متفرقة منه، كل قطعة منها في غاية الكثافة والعظم. وقيل : إن " في " بمعنى الباء، أي يأتيهم الله بظلل من الغمام، أي بالعذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة.
١ آية ٢٦ البقرة.
٢ : آية ٣٩ البقرة.
٣ : آية ٣٣ النحل.
٤ : آية ٤٣ الأنعام.
﴿ سل بني إسرائيل ﴾ سؤال تقريع وتوبيخ. وهو تهديد لليهود بالعقاب الشديد إذا سلكوا مسلك أسلافهم في جحود الآيات البينات.
﴿ يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ أي بغير حساب من المرزوق. أو بلا حصر وعد لما يعطيه.
أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها. أو يعطي للمتقين في الآخرة ما يشاء بغير حساب منه لهم على ما من به عليهم.
﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ كان الناس جميعا على شريعة من الحق ثم اختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب بشرائعه ليحكم بين الناس بالحق فيما اختلفوا فيه. ولم يختلف أهل التوراة والإنجيل إلا من بعد ما جاءتهم البينات، فكان اختلافهم ضلالا وبغيا وحسدا، ولكن الله تعالى هدى الذين آمنوا للحق بإرادته. فكانت هذه الأمة خير الأمم.
﴿ بغيا بينهم ﴾حسدا وحرصا على الدنيا، أو ظلما ومجاوزة للحد. يقال : بغى عليه استطال، وبابه رمى. وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء : بغي.
﴿ مستهم البأساء والضراء ﴾ ( آية ١٧٧ من هذه السورة ) والجملة بيان للمثل.
﴿ يسألونك ماذا ينفقون ﴾ نزلت في عمرو بن الجموح، وكان كثير المال فقال : يا رسول الله، بماذا تتصدق ؟ وعلى من ننفق ؟ فبين الله فيها من ينفق عليه.
﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدى في سرية لاستطلاع أخبار قريش ولم يأمرهم بقتال، فقتلوا أحد المشركين، وقد أهل رجب وكانوا لا يعملون بإهلاله، فتحدث المسلمون في ذلك، وسألوا الرسول صلى الله عليه
و سلم : هل يحل لهم القتال فيه ؟ فنزلت.
وقيل : السائلون هم المشركون، وقد قالوا : إن محمدا وأصحابه استحلوا الدماء في الشهر الحرام.
﴿ قل قتال فيه كبير ﴾أي عظيم مستنكر. وفي تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام.
والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ، وأنه لا حرج في قتالهم في الأشهر الحرم، قاتلوا أو لم يقاتلوا-بقوله تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾١ فإن المراد بالأشهر الحرم هنا :
هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة، فالتقييد بها يفيد أن قبلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة.
و ذهب عطاء بن أبي رباح إلى أنه لا يحل القتال في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أني يقاتلهم المشركون فيها، فلم يجز القتال فيهما إلا دفاعا. قال الآلوسي : والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار.
﴿ وصد عن سبيل الله وكفر به ﴾أي وصرفهم المسلمين عن كل ما يوصل إلى طاعة الله تعالى وعن المسجد الحرام، وشركهم بالله في بيته وحرمه، وإخراجهم أهله منه، أعظم وزرا عند الله تعالى من القتال في الشهر الحرام، فإن كنتم قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد انتهكوا حرمة أعظم وأفظع.
﴿ و الفتنة أكبر من القتل ﴾أي والشرك. أو امتحان المسلمين بأنواع التعذيب والأذى والبلايا لصرفهم عن دينهم، أعظم وزرا من القتل، لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة.
﴿ حبطت أعماله ﴾بطلت أعمالهم. من قولهم : حبطت الدابة تحبط حبطا وحبوطا، إذا أصابت مرعا طيبا، فأفرطت في الأكل حتى انتفخت فماتت.
١ آية ٥ التوبة..
﴿ يسألونك عن الخمر ﴾سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر
والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت هذه الآية، فتركها قوم وشربها آخرون. ثم صلى أحد الصحابة المغرب إماما، فلم يحسن القراءة لسكره، فنزل :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾١. فرحمت تحريما في الصلاة. ثم اجتمع بعض الصحابة يوما في دار عتبان ابن مالك : فلما سكروا افتخروا وتناشدوا أشعار الهجاء وتضاربوا، فشكا بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزل :﴿ إنما الخمر والميسر –إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون ﴾٢ فقال عمر : انتهينا، انتهينا. وحرمت الخمر بهذه الآية تحريما مؤبدا. وللتدرج في التحريم حكمة بالغة، فإنهم وقد ألفوا الخمر لو منعوا منها دفعة واحدة لشق الأمر عليهم. فكان في التدريج في التحريم رفق عظيم.
والخمر : اسم لكل ما خامر العقل، أي خالطه، أو ستره وغطاه، سواء اتخذ من العنب أومن غيره، وفي الحديث الصحيحة ( كل مسكر خمر، وما أسكر منه الفرق٣ فملء الكف منه حرام ). ولعن رسول الله عليه وسلم عاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها والمبتاعة إليه، وواهبها وآكل ثمنها }. أخرجه الترمذي. والخمر : يؤنث ويذكر.
﴿ والميسر ﴾القمار، مصدر ميمي من يسر، كالموعد من وعد. مشتق من اليسر، لأنه كسب المال بسهولة. وأصله : قمار العرب بالأزلام والأقلام، وفي حكمه كل شيء فيه خطر، أي رهان.
﴿ ويسألونكم ماذا ينفقون ﴾سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين حثهم على الصدقة ماذا ينفقون ؟ فقال تعالى :﴿ قل العفو ﴾أي أنفقوا العفو، وهو ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة. وهذا القدر هو الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يجهد صاحبه، وقد يبين بآية الزكاة. وأصل العفو : نقيض الجهد، ولذا يقال للأرض الممهدة السهلة الوطء : عفو.
١ : آية ٤٣ النساء.
٢ آية ٩٠ المائدة.
٣ : آية ١٥٢ الأنعام.
﴿ و يسألونك عن اليتامى ﴾ لما نزل قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ ١
و قوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما... ﴾٢ انطلق من كان عنده مال ليتيم يعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، ويحبس له ما يفضل من طعامه، حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
﴿ إصلاح لهم خير ﴾أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم في أنفسهم بتقويمهم وتهذيبهم، وفي أموالهم بالرعاية والاستثمار- خير لهم وللقائمين بأمورهم من مجانبتهم.
﴿ وإن تخالطوهم فإخوانك ﴾أي وإن تخالطوهم في المعيشة والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم، لأنهم إخوانك في الدين، وقد تكون لهم مع ذلك أخوة في النسب، أو قرابة في العشيرة.
﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾العنات : الشدة والمشقة. يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه. أي ولو شاء الله لضيق عليكم، وأحرجكم بتحريم المخالطة لهم، ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم، فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن.
١ : الفرق –بالتحريك-.
٢ : آية ١٠ النساء..
﴿ ولا تنكحوا المشركات ﴾حرم الله في هذه الآية نكاح المشركات، وهن الوثنيات والمجوسيات. وأحل نكاح الكتابيات بقوله تعالى في آية المائدة :﴿ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ﴾١. وقيل : المراد بالمشركات غير المؤمنات، فيحرم نكاحهن ولو كن كتابيات.
وقد نسخ الحكم أو خصص في حق الكتابيات خاصة، فأجيز نكاحهن وإن كان مع الكراهة.
و حرم الله زواج الكفار مطلقا بالمؤمنات ولو كانوا كتابيين.
١ آية ٥. .
﴿ ويسألونك عن المحيض ﴾المحيض : الحيض. مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا
ومحاضا : وأصله السيلان. يقال : حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه. وقيل : المحيض هنا اسم مكان.
﴿ هو أذى ﴾أي قذر، أو موضع قذر. يقال : أذي الشيء يأذى أذى، أي قذر. ويطلق الأذى على الضرر. والحيض : ضرر شرعا وطبا.
﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾أي في زمن الحيض. أو في كمانه، وهو الفرج، فلا تواقعهن فيه. ﴿ فأتوهن من حيث... ﴾أي في المكان الذي أمركم الله باجتنابه لعارض الأذى، وهو الفرج، ولا تعدوه إلى غيره. و( من ) بمعنى في.
﴿ نساؤكم حرث... ﴾الحرث في الأصل : إلقاء البذر في الأرض، أو هو الزرع. والمراد : أنهن موضع حرث، أي هن مزرع لكم ومنبت للولد، أعدهن الله لذلك، فاتوهن إذا تطهرن من الحيض في موضع الحرث كيف شئتم : قائمات قاعدات مستلقيات، ما دام ذلك في صمام واحد وهو الفرج. وفي الآية دليل على تحريم إتيانهم في أدبارهن.
﴿ ولا تجعلوا الله عرضة.. ﴾لا تجعلوا الله حاجزا- لأجل حلفكم به- عن البر والتقوى والإصلاح بين الناس. وكان أحدهم يدعى إلى بر فيقول : حلفت ألا أفعله، فيعتل بيمينه في تركه. والعرضة : كل ما يعترض الشيء فيمنع منه. يقال : عرض العود على الإناء إذا كان معترضا دونه، وحاجزا ومانعا منه. وفلان عرضة دون الخير، أي حاجز عنه. واللام في( لأيمانكم ) للتعليل. و( أن تبروا ) أي عرضة لأن تبروا، بمعنى مانع من البر.
﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو ﴾لغو اليمين : أن يحلف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك. أي لا يعاقبكم بلغو اليمين في الدنيا بالكفارة ولا في الآخرة بالعقوبة. وقيل : هو الذي يجرى على اللسان بلا قصد، كقولك : لا والله، وبلى والله، ولا كفارة فيه.
﴿ ولكن يؤاخذكم... ﴾أي ولكن يؤاخذكم بالعقوبة في الآخرة بما تعمدتم فيه الكذب، وهو أن يحلف أحدكم على شيء ماض كذبا، ويسمى اليمين الغموس، ولا كفارة فيه. أو لكن يؤاخذكم بوجوب الكفارة فيها، والأول مذهب جمهور الأئمة، والثاني مذهب الشافعية.
﴿ للذين يؤلون.. ﴾الإيلاء : الحلف على ترك مباشرة الزوجة. يقال : آلى إيلاء، وائتلى ائتلاء، حلف. وكانوا في الجاهلية يحلفون ألا يقربوا نساءهم السنة والأكثر إضرارا بهن، فنهوا عن ذلك وحدد للايلاء مدة أربعة أشهر فقط، رحمة بالنساء. والتربص : انتظار هذه المدة.
﴿ فإن فاءوا ﴾رجعوا في هذه المدة عما حلفوا عليه. يقال : فاء يفيء فيئا وفيئة، إذا رجع. وأحكام الإيلاء مبينة في الفقه.
﴿ ثلاثة قروء ﴾جمع قرء-بالفتح والضم- وهو الحيض، أو الطهر الفاصل بين الحيضيتن. وإلى الأول ذهب أبو حنيفة وأحمد، وإلى الثاني ذهب مالك والشافعي.
﴿ وبعولتهن أحق ﴾أي أزواجهن أولى برجعتهن إليهم في حال العدة. جمع بعل، وهو الذكر من الزوجين. يقال : بعل الرجل يبعل بعولة، إذا صار زوجا.
﴿ عليهن درجة ﴾زيادة في الحق. أو فضيلة بالقيام بأمرهن والحماية لهن. والدرجة في الأصل : ما يرتقى عليه، واستعملت في المنزلة الرفيعة وفيما ذكرنا مجازا.
﴿ الطلاق مرتان ﴾أي التطليق الشرعي : تطليقة بعد تطليقة على التفريق. أو الطلاق الرجعي : مرتان. وأما الثالثة فلا رجعة بعدها.
﴿ أو تسريح بإحسان ﴾أي طلاق مصاحب لجبر الخاطر وأداء الحقوق، وعدم المضارة.
﴿ فإن طلقها فلا تحل ﴾أي فإن طلقها الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجا آخر. والمراد بالنكاح هنا : الوط، فلا تحل بمجرد العقد.
﴿ والحكمة ﴾هي السنة، وهي وحي غير متلو. أو هي إصابة الحق في القول والعمل. وإنزالها عليم : إنزال ما يرشدهم إليها، وهي في الأصل مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في علم أو قول أو عمل، أو فيها كلها.
﴿ فلا تعضلوهن ﴾فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن تضييقا عليهن. والعضل : التضييق والمنع الشديد. يقال : عضلت الناقة بولدها، إذا نشب في بطنها، وتعسر عليه الخروج. ومنه : أعضل به الأمر إذا اشتد. والخطاب للناس كافة، فيشمل عضل الأزواج والأولياء لهن.
﴿ وسعها ﴾طاقتها وقدرتها، لا ما يشق عليها وتعجز عنه.
﴿ لا تضار والدة ﴾نهى عن أن يلحق أحدهما بالآخر ضررا بسبب الولد، فلا ينزعه الزوج منها إذا أرادت إرضاعه، ولا يكرهها عليه إذا أبته، ولا يمنعها شيئا مما وجب لها عليه. وكذلك لا تدفعه هي إليه لتضره بتربيته، ولا تطلب منه ما ليس حقا لها، ولا تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد.
﴿ وتشاور ﴾أي وتداول في الرأي بينهما، أو مع أهل الخبرة في أمر الفطام قبل الحولين. والمشاورة : استخراج الرأي بما فيه المصلحة، من الشور وهو اجتناء العسل. يقال : شرت العسل إذا استخرجه من مواضعه.
﴿ فلاجناج عليهما ﴾فلا حرج ولا إثم عليهما في ذلك، من الجنوح، وهو الميل، لميل الآثم عن الحق.
﴿ تسترضعوا أولادكم ﴾أي تسترضعوا المراضع أولادكم. يقال : أرضعت المرأة الطفل، واسترضعتها إياه. أو استرضعوا المراضع لأولادكم. وحذف حرف الجر من المفعول الثاني، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا كالوهم ﴾١
١ : آية ٣ المطففين.
﴿ فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم ﴾أي فلا حرج ولا إثم عليكم أيها القادرون عليهن، فيما فعلن بأنفسهن بعد انقضاء العدة، مما كان محرما عليهن أثناءها بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره.
﴿ عرضتم به ﴾لو حتم وأشترتم به. من التعريض، وهو إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب. وضده : التصريح والإفصاح.
﴿ لا تواعدوهن سرا ﴾السر ضد الجهر، أريد منه هنا الوطء، لأنه لا يكون إلا سرا. ثم العقد لأنه سببه، فهو مجاز على...... لا تأخذوا عليهن وهن في العدة عهدا ألا يتزوجن غيركم بعد انقضاءها. أولا يقل الرجل للمعتدة : تزوجني، بل يعرض لها تعريضا غير مفصح.
﴿ لا جناج عليكم ﴾ أي تبعة عليكم من مهر إذا طلقتم النساء ولم تكونوا دخلتم بهن ولم تفرضوا لهن مهرا، بل عليكم لهن متعة بقدر وسعكم وطاقتكم. والمتعة : اسم لما يتمتع به من الماء والكسوة.
وتقدر باجتهاد الحاكم كالنفقة. والموسع : ذو السعة والغنى. يقال : أوسع الرجال، اتسعت حاله. والمقتر : ضيق الحال. يقال : أفتقر الرجل، افتقر وقل ما في يده. ولا تجب المتعة لغيرهن من المطلقات، وإنما تستحب لهن.
﴿ وإن طلقتموهن ﴾أي وإن طلقتموهن قبل الدخول وقد سميتم لهن مهرا، فلهن نصف المهر ولا متعة لهن.
أما المطلقات بعد الدخول ولهن مهر مسمى، فيجب لهن المهر كاملا، وإن لم يسم لهن مهر وجب لهن مهر المثل، ولا متعة لهن في الحالتين. وقيل : تجب فيهما مع المهر.
﴿ إلا أن يعفون ﴾أي إلا أن تترك المطلقات نصيبهن من الصداق للأزواج. أو يترك الأزواج ما يعود إليهم من نصف المهر الذي ساقوه كاملا إلى زوجاتهم.
﴿ والصلاة الوسطى ﴾هي صلاة العصر على الراجح، لتوسطها بين الصلوات الخمس. أو لأنها الفضلى، وفي الحديث، ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )أي نقص وسلب أهله وماله فيبقى فردا.
والوسطى : مؤنث الأوسط، يقال : وسطت القوم أوسطهم، إذا صرت في وسطهم. وأوسط الشيء ووسطه : خياره.
﴿ قانتين ﴾مطيعين لله خاضعين. من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع.
﴿ فإن خفتم فرجالا ﴾فإن خفتم العدو في حال المقاتلة في الحرب، فصلوا مشاة أو راكبين على ركائبكم بإيماء، سواء وليتم شطر القبلة أولا. ورجالا : جمع راجل، وهو القوي على المشي برجليه. ويلحق بما ذكر : الخوف بسبب آخر، كالهارب من العدو، أومن قصده سبع هائج، أو غشيه سيل جازف.
وسيأتي حكم خوف العدو في غير حال المقاتلة في قوله تعالى :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ﴾١.
١ : آية ١٠٢ النساء..
﴿ وللمطلقات متاع ﴾ أي نفقة. والنفقة : تسمى متاعا. أو لهن متعة والمراد بها ما يشمل الواجبة والمستحبة.
﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا ﴾ كان المشركون يستفتون اليهود في كثير من الأمور. وكانت هذه القصة معلومة لليهود في أسفارهم وتواريخهم، فنزل القرآن بالإشارة إليها، ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث. ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه. وفي ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة، وتمهيد لما بعد هذه الآية. ومعنى ( ألم تر ) : ألم تعلم. وتستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به. وفيما لم يعلم به من قبل. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته. والمقصود : حثهم على العلم بها، والاعتبار بشأنها.
﴿ يقرض الله ﴾القرض الحسن : الإنفاق في سبيل الله. أم مطلق العمل الصالح.
﴿ يقبض ويبسط ﴾يسلب تارة ويعطى أخرى. أو يسلب قوما ويعطى آخرين. أو يضيق على بعض ويوسع على بعض، حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة. أي فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تبدل أحوالكم. والقبض : ضد البسط. يقال : قبضه بيده يقبضه، تناوله. وقبض عليه بيده، أمسكه. وبسط يده : مدها. وبسط المكان القوم : وسعهم. والآية تحريض على الإقراض الحسن، وزجر عن تركه.
﴿ الملأ ﴾أشراف القوم ووجوهم، سموا ملأ لأنهم مليئون بما يحتاج إليه منهم. أو لأن هيبتهم تملأ الصدور. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط.
﴿ هل عسيتم ﴾هل الأمر كما أتوقعه منكم أنكم تجبنون عن القتال معه ؟ والاستفهام لتقرير أن التوقع كائن.
﴿ التابوت ﴾صندوق التوراة. من التوب وهو الرجوع، لأنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه. وتاؤه من يدة لغير التأنيث، كجبروت.
﴿ فيه سكينة ﴾أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة. أو في التابوت ما تسكنون إليه وتطمئنون
وهو التوراة. والسكينة : من السكون، وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو من السكن –بالتحريك- : وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
﴿ فلما فصل طالوت ﴾خرج بجنوده من بيت المقدس لمحاربة العمالقة قوم جالوت.
﴿ ومن لم يطعمه ﴾من لم يذقه أصلا، لا قليلا ولا كثيرا. من طعم الشيء يطعمه، إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا. واستعمال طعم الماء بمعنى الماء ذاق طعمه مستفيض.
﴿ غرفة بيده ﴾الغرفة : اسم للشيء المغترف، وجمعه غراف. وأما الغرفة فهي اسم للمرة الواحدة من الغرف. وقيل : هما لغتان بمعنى واحد. رخص لهم في الأخذ باليد دون الكرع.
﴿ وقتل داوود ﴾وكان داوود في عسكر طالوت.
﴿ والحكمة ﴾هي النبوة. ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل، وورثه فيهما ابنه سليمان عليهما السلام.
﴿ بروح القدس ﴾جبريل عليه السلام ( آية ٨٧ من هذه السورة ص٣٢ ).
﴿ ولا خلة ﴾بضم الخاء. ولا خالص مودة وصداقة. أي لا يمكن في هذا اليوم استجلاب حسنة بمودة وصداقة، وسميت المودة خلة لتخلها النفس، وجمعها خلال.
﴿ ولا شفاعة ﴾أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. فالإطلاق هنا مقيد بآية
﴿ إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا ﴾ ١والنبي مأذون له، أو يستأذن فيؤذن له.
١ : آية ١٠٩ طه.
﴿ الحي ﴾أي الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها. لم تحدث له الحياة بعد موت، ولا يعتريه الموت بعد الحياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء.
﴿ القيوم ﴾الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطي لهم ما به قوامهم. وهو مبالغة في القيام، وأصله قيووم –وزن فيعول- من قام بالأمر إذا حفظه وبره.
﴿ لا تأخذه سنة ﴾أي نعاس، وهو الفتور أول النوم مع بقاء الشعور والإدراك، ويقال له غفوة.
مصدر وسن الرجل يوسن وسنا وسنة، فهو وسن ووسنان، إذا نعس. والمراد أنه تعالى لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبدا.
﴿ وسع كرسيه ﴾الكرسي غير العرش، وهما مخلوقان لله تعالى، كالسموات والأرض. ومن المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، فنفوض علم حقيقتهما إليه تعالى، مع كمال تنزيهه عن الجسمية، وعن مشابهة المحدثات، ﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾ ١. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير الكرسي بالعلم، وهو قول مجاهد. وفسر بالملك والسلطان والقدرة، وهي معان مجازية.
﴿ ولا يئوده حفظهما ﴾لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما. يقال : آده الأمر أوالحمل-من باب قال- أثقله فهو مئود، كمقول.
١ : آية ١١ الشورى..
﴿ لا إكراه في الدين ﴾معناه على ما ذكر أبو مسلم والقفال : ليس في الدين – وهو عقد في
القلب وإذعان في النفس- إكراه وإجبار من الله تعالى، بل مبناه على التمكين والاختيار، وهو مناط الثواب والعقاب، ولولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار، ولبطل الامتحان، وهو كقوله تعالى :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾١. وقيل : معناه إن من حق العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإيمان بالله وطاعته رشد، والكفر به ومعصيته غي-ألا يحتاج إلى الإكراه على التدين بالاسلام الحنيف، بل يختاره من غير تردد. والجملة على المعنيين خبرية. وقيل : خبر في معنى النهى، أي لا تكرهوا في الدين ولا تجبروا عليه أحدا، فإنه بين واضح الدلائل والبراهين. فمن هداه الله له، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أضله الله وأعمى قلبه لا يفيده الإكراه على الدخول فيه.
وهو عام منسوخ بقوله تعالى :﴿ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾٢. أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية. وعن ابن عباس : أنها نزلت في أولاد الأنصار الذين تهودوا قبل الاسلام، وأراد أهلوهم من الأنصار استردادهم حين أجليت بنو النضير في السنة الرابعة، فقال الرسول صلى عليه وسلم إثر نزول الآية :( قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم ).
أما الجهاد الذي فرضه الله على المؤمنين فليس للإكراه على الاسلام والعقيدة، وإنما هو من أجل بقاء الكفار على جحود حق الله وعصيانهم أمره ومحادته، بعد وضوح الحجج وظهور الدلائل والإعذار إليهم، ولحملهم على العمل بشريعته والانقياد لأحكامه، ولحماية الدعوة والحق الذي جاءت به من عدوانهم، وليكون الدين كله لله وحده، قال تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾٣.
﴿ تبين الرشد ﴾تميز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، بوضوح الدلائل. والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، مصدر رشد يرشد ويرشد، أي اهتدى. والمراد هنا : الحق والهدى.
والغي : الضلال، مصدر غوى يغوي أي ضل، والاسم الغواية.
﴿ بالطاغوت ﴾اسم لكل ما يطغى الإنسان، كالأصنام والأوثان والشيطان والكاهن والساحر، وكل رأس في الضلال، وكل ما عبد من دون الله تعالى. من طغا يطغو طغوا وطغوانا. أو طغى-كرضي وسعي- طغيا وطغيانا، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر، وأسرف في المعاصي والظلم.
﴿ استمسك بالعروة ﴾ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى، وهي الإيمان أو القرآن أو الاعتقاد
الحق، أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى. والعروة من الدلو والكوز : مقبضه. ومن الثوب : مدخل زره. استعملت في المعاني المذكورة على سبيل التجوز. والوثقي : تأنيث الأوثق، من وثق-بالضم-وثاقة، قوي وثبت فهو وثيق، أي ثابت محكم.
١ آية ٢٩ الكهف..
٢ : آية ٧٣ التوبة..
٣ آية ١٩٣ من هذه السورة..
﴿ الذي حاجَّ إبراهيم ﴾هو نمرود بن كنعان، وهو أول من ادعى الربوبية، فهو رأس الطواغيث.
أي ألم ينته علمك إلى قصة هذا الكافر الذي ليت له بولى، كيف تصدى لمحاجة من تكلفت بنصرته وأخبرت أني ولي له، هذا الكافر الذي لست له بولي، كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت أتى ولي له، وكيف خذلته ونصرت عليه خليلي الذي اصطفيته وواليته.
﴿ فبهت الذي كفر ﴾غلب وقهر وتحير وانقطع في حجاجه، وهو فعل جاء على صورة المبنى للمفعول كزهي وزكم، والمعنى فيه على البناء للفاعل. و( الذي كفر )فاعله. والبهت : الانقطاع والحيرة. وقرئ أيضا بوزن علم ونصر وكرم.
﴿ أو كالذي مر ﴾أي أو رأيت مثل الذي مر على قرية –وهو عند أكثر المفسرين عزير-أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة، كما طلب ذلك ابراهيم عليه السلام ليطمئن قلبه.
﴿ وهي خاوية ﴾ساقطة حيطانها على سقوفها التي سقطت. يقال : خوي البيت، سقط. أو خالية من الناس ثابتة على عروشها. يقال : خوت الدار تخوي خويا وخواء، أقوت وخلت.
والعروش : جمع عرش، وهو سقف البيت، ويسمى العريش. وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش وعرش.
﴿ لم يتسنه ﴾لم يتغير بمر السنين الطويلة عليه، ولم تذهب طرواته، فكأنه لم تمر عليه السنون.
مشتق من السنة، والهاء فيه أصلية إذا قدرلام سنة هاء، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة، وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة. أو الهاء فيه للوقف نحو كتابيه. وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا، وأصلها سنوة لتصغيرها
على سنية وجمعها على سنوات، وقولهم : سانيته وتسنيت عنده، أقمت سنين.
﴿ ولنجعلك آية ﴾أي وفعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء لنجعلك آية للناس وعبرة، ودلالة على البعث بعد الموت.
﴿ كيف ننشزها ﴾كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسم، ونؤلف بينها، من الانشاز وهو الرفع. يقال : أنشز الشيء رفعه من مكانه. وأصله النشز-بفتحتين وبالسكون-وهو المكان المرتفع. وقرئ( ننشرها )بضم النون والراء، أي نحييها، من أنشر الله الموتى أي أحياهم.
﴿ أرني كيف تحيي ﴾بصرني كيفية إحيائك للموتى. وسؤاله عليه السلام ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين. أو من مرتبة العلم الاستدلالي إلى مرتبة العلم الضروري الناشئ عن الحس.
﴿ فصرهن إليك ﴾فأملهن واضممهن إليك، لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن، كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء. ثم جزئهن أجزاء، أو فقطعهن. قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. يقال : صاره يصوره ويصيره، أماله. وصار الشيء : قطعه وفصله. و( إليك )متعلق ب( صرهن )على الأول. وب( خذ ) على الثاني، باعتبار تضمينه بمعنى الضم.
﴿ الذين ينفقون أموالهم ﴾بيان لكيفية الإنفاق الذي بين فضله.
﴿ منا ولا أذى ﴾المن : إظهار الاصطناع، وأن يعتد الإنسان بإحسانه على من أحسن إليه يقال : من عليه يمن، أي امتن عليه، وهو من كبائر الذنوب. ويقال : المنة تهدم الصنيعة. والأذى : ما يصل إلى الحيوان من الضرر، يقال : آذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والمراد هنا : التطاول والتفاخر على المنعم عليه.
﴿ قول معروف ﴾كلام جميل يرد به السائل، وصفح وعفو عما يفرط منه عند الرد وعدم الإعطاء، خير وأفضل من صدقة عليه يتبعها أذى، لما فيها من المضرة له. وهو تقرير لقبح المن والأذى، ولم يذكر المن هنا لشمول الأذى له.
﴿ رئاء الناس ﴾مراءاة للناس وسمعة. أي لا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى، كإبطال المنافق المرائي عمله الذي لا يبغي به رضاء الله، ولا ثواب الآخرة.
﴿ فمثله كمثل صفوان ﴾أي فمثل المرائي في الإنفاق كمثل حجر كبير أملس صلب، من الصفاء وهو خلوص الشيء مما يشوبه. يقال : يوم صفوان، أي صافي الشمس. وقيل : هو جمع، واحده صفوانة.
﴿ فأصابه وابل ﴾أي مطر شديد عظيم القطر. يقال : وبلت السماء تبل وبلا ووبولا، اشتد مطرها.
﴿ فتركه صلدا ﴾أي أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه، ومنه رأس أصلد، إذا كان لا ينبت شعرا. وصلد الزند يصلد، لم يخرج نارا. والمقصود : أن أعمال هؤلاء المرائين بالإنفاق تبطل يوم القيامة وتضمحل، كما يذهب المطر ما على الصفوان من التراب.
﴿ وتثبيتا من أنفسهم ﴾أي كما أنفقوا أموالهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته أنفقوها توطينا لأنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها، و( من ) بمعنى اللام. أو تثبيتا للإسلام وتصديقا به، وتحقيقا للجزاء الموعود به من أصل أنفسهم، فهي الدافعة له وهي المنشأ والمبتدأ.
﴿ جنة ﴾ تطلق الجنة على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وهو الأنسب هنا. وعلى الأرض المشتملة عليها.
﴿ بربوة ﴾بمكان من الأرض مرتفع عن السبيل. والعادة في أشجار الربى أن تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا.
﴿ أكلها ﴾ثمرها. وكل مأكول : أكل.
﴿ فطل ﴾فمطر خفيف يكفيها لطيبها وكرم منبتها. والطل : أضعف المطر وهو الرذاذ، وجمعه طلال وطلل. والمراد : أن هذه الجنة تزكو وتثمر، كثر المطر أو قل، فكذلك نفقة هؤلاء ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم تزكو عند الله وتطيب، كثرت أو قلت.
﴿ إعصار ﴾ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء، مستديرة كعمود، وتسمى زوبعة، وسميت إعصارا لأنها تعصر ما تمر به من الأجسام، أو تلتف كما يلتف الثوب المعصور. والريح مؤنثة، وكذا سائر أسمائها إلا الإعصار، ولذا قيل :( فيه نار )أي سموم أو صواعق. وهو مثل لحبوط عمل المرائي يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
﴿ طيبات ما كسبتم ﴾أي حلال ما كسبتموه، أو كسبتم، أو جياده.
﴿ ولا تيمموا الخبيث ﴾ولا تقصدوا الردئ من أموالكم تنفقون منه. يقال : تيممت الشئ ويممته، إذا قصدته.
﴿ ولستم بآخذيه ﴾والحال أنكم لا تأخذونه لأنفسكم إلا بأن تتساهلوا فيه، وتغضوا الطرف عن رداءته، من الإغماض، وأصله غمض البصر وإطباق الجفن على الجفن، ثم استعير للتغافل والتساهل.
﴿ يعدكم الفقر ﴾يخوفكم سوء الحال والضعف بسبب قلة المال. وأصله كسر فقار الظهر، يقال : رجل فقر وفقير، إذا كان مكسور الفقار.
﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾يغريكم بالبخل. والفاحش عند العرب : البخيل. قيل : كل فحشاء في القرآن فهي الزنى إلا في هذه الآية. أو ويأمركم بالخصلة الفحشاء، وهي إنفاق الردئ من المال لا الجيد خشية الفقر.
﴿ الحكمة ﴾إصابة الحق في القول والعمل. أو العلم النافع.
﴿ من أنصار ﴾أي أعوان ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله. جمع نصيرأو ناصر وفيه وعيد عظيم لكل ظالم.
﴿ إن تبدوا الصدقات ﴾الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على جهة القربة، وتشمل الفرض والتطوع. وإبداؤها : علانيتها. وإخفاؤها : إسرارها. والجمهور على أن الآية في صدقة التطوع، وأن إخفاءها أفضل من إظهارها، لما فيه من شائبة الرياء، وهتك ستر الفقير. وفي الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظله :(.... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ).
وأما الصدقة المفروضة فالإظهار فيها أفضل، لأنها من شعائر الإسلام كالصلاة المكتوبة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
﴿ ليس عليك هداهم ﴾الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته. وقد كان لبعض الأنصار قرابة من اليهود، فلما أسلموا كرهوا أن يتصدقوا عليهم وراودوهم أن يسلموا، فنزلت الآية. أي ليس عليك هدى هؤلاء الكافرين فتمنعهم الصدقة، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام، ولكن الله تعالى هو الذي يهدي من يشاء إلى الاسلام فيوفقه له، فتصدق عليهم لوجه الله تعالى. والمراد صدقة التطوع، للإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم.
﴿ للفقراء الذين أحصروا ﴾بيان لمن أشد الناس حاجة إلى الصدقة، بعد بيان جواز التصدق على الفقراء عامة ولومن غير المسلمين، وهم فقراء المهاجرين أصحاب الصفة، وكانوا يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد، ويخرجون في كل سرية يبعثها صلى الله عليه وسلم. أذى ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء. أو اجعلوا ما تنفقون للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله.
﴿ لا يستطيعون ضربا ﴾سيرا في البلاد وتقلبا فيها، ابتغاء المكاسب والعيش، لاشتغالهم بالجهاد والتعلم. وسمي السير ضربا لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل.
﴿ من التعفف ﴾أي من أجل تعففهم عن السؤال. والتعفف : ترك الشيء والإعراض عنه، بقهر النفس وحملها عليه. يقال : عف عن الشيء يعف، إذا كف عنه. وتعفف : إذا تكلف الإمساك عنه.
﴿ تعرفهم بسماهم ﴾تعرف فقرهم بما يرى عليهم من الضعف والرثاثة. أن تعرفهم بما يبدو عليهم من الخشوع والتواضع. أوبما ألبسهم الله من الهيبة والوقار. والسيما –بالقصر وتمد- : أصلها من الوسم بمعنى العلامة.
﴿ إلحافا ﴾أي إلحاحا. يقال : ألحف عليه في المسألة، أي ألح فهو ملحف. والنفي منصب على القيد والمقيد معا بقرينة السياق، أي أنهم لا يسألون أصلا تعففا منهم.
﴿ يأكلون الربا ﴾يتعاملون به أخذا وإعطاء. وخصَّ الأكل بالذِّكر لأنه مُعظم المقصود من المال.
والربا : الزيادة. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر. وفي الشرع : فضل مال لايقابله عوض في معاوضة مال بمال، قلت الفائدة أوكثرت. وهو ربا نسيئة، وربا فضل، وكل منهما محرم شرعا. وسيأتي تتمة لهذا في آية ١٣٠ من آل عمران.
﴿ يتخبطه الشيطان ﴾يتخبله الشيطان ويصرعه بسبب مسه إياه. وأصل التخبط : الضرب على غير استواء واتساق، كخبط البعير الأرض بيديه. وفعله من باب ضرب. والمس : الخبل والجنون. يقال : مس الرجل فهو ممسوس، إذا ألم به ملم فجن. والمعنى : أن المتعاملين بالربا المستحلين له لا يقومون يوم البعث إلا كقيام المصروع الذي تخبله الشيطان وصرعه. وهو-كما اختاره الإمام القفال – تشبيه جاء على ما تعارفوه من إضافة الصرع وكل شيء قبيح إلى الشيطان، ونظيره قوله تعالى :﴿ طلعها كأنه رءوس الشياطين ﴾١. واختار الفخر أن المراد بمس الشيطان : دعاؤه إلى طلب الملذات والشهوات والاشتغال بغير الله، ومن استجاب له كان متخبطا في أمر الدنيا، فتارة يجره الشيطان إلى الهوى، وتارة يجره الملك إلى الهدى. وآكل الربا مفرط في حب الدنيا، فإذا مات على ذلك الحب. صار حجابا بينه وبين الله تعالى. فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه خبطا في الآخرة، أوقعه في ذل الحجاب.
﴿ إنما البيع مثل الربا ﴾زعموا أنه حيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حالا أو مؤجلا يحل بيع درهم بدرهمين. وجعلهم الربا أصلا وتشبيه البيع به مبالغة منهم في التماثل.
﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾إبطال من الله تعالى لقول الكفار :( إنما البيع مثل الربا ).
١ : آية ٦٥ الصافات.
﴿ يَمحقُ الله الربا ﴾المَحْق : النّقصان وذهاب البَركة. وتقول : محقه الله فامحق وامتحق، أي
ذهب خبرُه وبركتُه. ويقال : محقه محقا، أي أبطله ومحاه. ولما كان الباعث على الربا تحصيل المزيد من المال، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصانه، بين الله تعالى في هذه الآية : أن الربا وإن كان زيادة في الحال فهو نقصان في الحقيقة، لذهاب بركة الله به لا محالة. وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الحال للمال صورة فهي زيادة فيه معنى، وذلك في الدنيا والآخرة.
﴿ وذروا ما بقي ﴾دعوا واتركوا ما بقي مما شرطتم من الربا، ولا تطالبوا به بعد أن علمتم حرمته، فليس لكم إلا رؤوس أموالكم.
﴿ فآذنوا بجرب ﴾فكونوا على علم ويقين بها، من أذن بالشيء يأذن إذا علم. وقرئ( فآذنوا )من آذنه الأمر وآذنه به، أعلمه إياء، أي أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله. وهو وعيد وتهديد شديد المرابين.
﴿ فنَظِرَة ﴾فعليكم تأخيرُه وإمهالُه. والنَّظِرَة : اسم من الإنظار وهو الإمهال. يقال : نظره وانتظره وتنظره، تأنى عليه وأمهله. وهذا الحكم عامّ في كل دَيْن، على ما ذهب إليه الجمهور. وفي الحديث الصحيح :( مَنْ أنظرَ مُعسرا أو وَضَعَ عنه أظلّه الله عزّ وجلّ في ظلّه يومَ لا ظل إلا ظله ).
﴿ فاكتبوه ﴾ أمر استجاب. وقيل للوجوب. وعن ابن عباس : أن المراد بالدين في الآية السلم١.
﴿ وليملل ﴾وليكن المملي من عليه الحق، لأنه المقر المشهود عليه والإملال والإملاء لغتان بمعنى واحد. يقال : أمل وأملى.
﴿ ولا يبخس ﴾ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا في الإملاء. يقال : بخس زيد عمرا حقه يبخسه، نقصه. ومنه :﴿ وشروه بثمن بخس ﴾٢.
﴿ واستشهدوا ﴾الأمر للندب. وقيل للوجوب.
﴿ أن تضل إحداهما ﴾الضلال : ترك الطريق المستقيم، عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا. أي خشية أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى. وهو بيان لحكمة اشتراط العدد في شهادة النساء في الأموال.
﴿ ولا تسأموا ﴾أي ولا تضجروا ولا تملوا. يقال : سئمت الشيء أسأمه سأما وسآمة، ضجرته ومللته. ويقال : سئمت منه، ومنه :﴿ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ﴾٣.
﴿ أقسط ﴾أعدل وأحفظ. : أقسط الحاكم يقسط إقساطا وهو مقسط، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه، ومنه :( إن الله يحب المقسطين )٤.
﴿ تجارة ﴾التجارة : التصرف في رأس المال طلبا للربح. يقال : تجر يتجر وهو تاجر والجمع تجر وتجار وتجار. أي لكن تجارة الحاضرة يجوز عدم الإشهاد والكتب فيها.
١ السلم : السلف.
٢ آية ٢٠ يوسف.
٣ آبة ٤٩ فصلت.
٤ آية ٤٩ المائدة..
﴿ فرهان مقبوضةٍ ﴾جمع رهن بمعنى مرهون، وأصل الرهن الدوام. يقال : رهن الشيء إذا دام وثبت. ورهنه وعنده الشيء –كمنع- وأرهنه، جعله رهنا. ورهان خبر مبتدا محدوف، أي فعليكم رهان مقبوضة.
﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾وإن تظهروا ما استقر في أنفسكم مما عزمتم عليه من السوء أو تخفوه، يجازكم به الله. فالعزم على المعصية، والتصميم عليها مؤاخذ عليه. وأما حديث النفس بها، والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب دون أن يصحبها عزم وتصميم فمعفو عنها، إذ ليس في الوسع الخلو عنها. وفي الحديث :( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به ).
﴿ وملائكته ﴾الإيمان بالملائكة : هو التصديق بوجودهم، وبأنهم معصومون مطهرون، وبسائر صفاتهم التي جاء بها التنزيل.
﴿ غفرانك ﴾مصدر نائب عن فعله، أي اغفر غفرانك، على حد سقيا ورعيا. والمراد : نسألك غفران ذنوبنا.
﴿ وسعها ﴾طاقتها وقدرتها، فضلا منه ورحمة.
﴿ لا تحمل علينا إصرا ﴾الإصر : الثقل والعهد الثقيل. أي لا تكلفنا أمرا يثقل علينا. أو عهدا ثقيلا لا نفي به، كما كلفت بني إسرائيل من قبلنا، فلا تمتحنا بمثله، رأفة منك وفضلا. والله أعلم.
Icon